لم يبلغ روجيه غارودي القرن الذي بلغه كلود ليفي ستروس بل رحل دونه بعامين، فأمس أذيع نبأ وفاته رغم أنه توفي الأربعاء. هكذا يغادر غارودي العالم بهدوء لم تتسع له حياته التي كانت مهب تبدلات مثيرة وحراك صاخب. فالرجل الذي وُلد عام 1913 من أب ملحد وأم كاثوليكية لم يجتذبه الإلحاد فالتزم بالبروتستانتية. كانت هذه خطوة أولى إذ انضم إلى الحزب الشيوعي 1933، ورغم ما قيل من إنه لم يكن في يوم
ملحداً وأنه انضم إلى الشيوعية محافظاً على إيمانه، إذ كان في العام نفسه أي 1933 رئيساً لمنظمة الشبيبة البروتستانتية. إلا أن الشاب المفرط في الذكاء ما لبث أن غدا الفيلسوف الرسمي للحزب وأحد قادته، فأطروحته «النظرية المادية في المعرفة»، التي ترجمت بجهود الحزب الشيوعي اللبناني إلى العربية، غدت واحداً من أناجيل الشيوعية الرسمية، حينذاك لم يكن يخطر لأحد أن روجيه غارودي سيتنكر لها ويندم على كتابتها. صمت روجيه غارودي على معسكرات العمل السوفياتية وعلى غزو الاتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا وعلى تدخله في هنغاريا. فقد كان يومذاك قائداً شيوعياً ممتثلاً. إلا أنه بدأ منذ عام 1968 خلافاته مع الحزب الشيوعي وإدانته لدغمائية الماركسية السوفياتية. خلافات انتهت به 1970 مطروداً من الحزب الشيوعي. كان قبل ذلك أصدر «واقعية بلا ضفاف» الذي تمرد فيه على الواقعية الاشتراكية وحاول أن يخرجها من حبس البطل الإيجابي والتفاؤل الثوري، وأن يتوسع في مفهوم الواقعية بحيث تقبل كل الابتكارات الفنية وتتطابق مع كل تجديد أو إضافة.
كان تمرد روجيه غارودي على حزبه مثار تعجب، إذ لم يكن متوقعاً، وشكك الذين ارتابوا دائماً في موقعه كمنظّر رسمي للحزب في هذه الخطوة. والحقيقة أن روجيه غارودي لم يصل إلى القيادة إلا بثمن حقيقي، فقد اعتقلته حكومة فيشي في الجزائر وأمضى في سجنه أكثر من عامين. لم تكن نضاليته لذلك موضع شك. إلا أن غارودي انتقل من الماركسية إلى الكاثوليكية. كانت هذه خطوته الثالثة لكنها لم تكن الأخيرة، فقد أخذ الماركسي يقترب من الإسلام. كان كتاباه «وعود الإسلام» و«الإسلام دين المستقبل» من ثمرات هذا الاقتراب. لكن الكتاب الذي عرّضه للنقمة والتشهير بل والمحاكمة كان كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة اليهودية». في هذا الكتاب يفكك روجيه غارودي بناءً من الخرافات التي يرى أن عليها قام البناء الصهيوني، وهي الخرافة اللاهوتية الممثلة بالوعد الإلهي بأرض الميعاد، الخرافة العرفية التي تحرم الزواج بغير يهودية، خرافة معاداة النازية التي كشف فيها تعاوناً تمّ بين هتلر وبين قادة إسرائيليين، منهم إسحق شامير الذي تولى قيادة «شتيرن» المنظمة الإرهابية الصهيونية بعد مقتل مؤسسها. لكن ما أثار النقمة على روجيه غارودي هو شكه بالمحرقة واتهامه للصهيونية باستغلالها والمبالغة فيها واختراعها في الأساس. هذا الشك جعله بين منكري المحرقة «Negotionstes» وهؤلاء يتهمون عادة بمعاداة السامية. ولما كان القانون الفرنسي يحرّم التعرض للمحرقة وإعادة النظر فيها فقد حوكم روجيه غارودي وحُكم عليه بغرامة 20 ألف دولار.
اقترب روجيه غارودي من الإسلام واعتنقه 1982 وتزوج من مسلمة، لأن الإسلام كما يراه لا يعني الاستسلام والجبرية بل يعني الاستجابة لنداء الله، استجابة حرة نشطة ومسؤولة، كما أن الإسلام في نظره يقدم تصوراً معقولاً ومتكاملاً للكون والإنسان والحياة والله، كما أن تشريعات الإسلام تلائم طبيعة الإنسان والحياة ملاءمة تامة، فضلاً عن انفتاح الإسلام للعقائد التي سبقته وانفتاحه على الثقافات الأخرى والعلم والفلسفة. مع ذلك انتقد روجيه غارودي الأصولية الإسلامية واعتبرها كالأصولية الرومانية والأصولية الإسرائيلية آفة. أفكار روجيه غارودي تجاه الإسلام جعلت كثيرين يتهمونه بالردة أو الضلال، ويمكن أن نستشهد في هذا المجال بالدكتور محمد سعيد البوطي وخلاصة رأيه أن ليس من المعقول أن ننتظر من منظّر ماركسي كبير أن يتحوّل إلى منظّر إسلامي كبير. لكن إسلام روجيه غارودي ليس فاسداً رغم أنه في فهمه للإسلام يخطئ وتعوزه أحياناً المعرفة الكافية. لا بد من قبوله كمسلم ومؤاخذته على أخطائه ونقدها حين يخطئ.
هكذا يرحل الحاج محمد رجا جارودي، وهذا هو الاسم الذي اتخذه بعد إسلامه بعد أن عارك تقريباً على كل جبهات قرن كامل. إن حياته هي تقريباً هذا العراك، فالرجل الذي ظل ماركسياً دغمائياً حتى المؤتمر العشرين الذي تمرد على الستالينية، لم يجدد في الماركسية ولم يضف إليها سوى أنه امتنع عن إعادة طبع أطروحته فيها. كذلك إذا أخذنا برأي الدكتور البوطي، لم يضف إلى الإسلام مع أن إسلامه كان حسناً، لكنه أخذ الإسلام إلى سجال أوروبي هو السجال حول المحرقة لا نعرف تماماً جدواه له. والأرجح أنه لا يعنيه ولا يخدمه. روجيه غارودي هو هذه الحياة التي لم تتسع فقط لـ98 عاماً بل اتسعت لقفزات من المادية إلى الدين ومن الغرب إلى الشرق ومن الكنيسة الرومانية إلى الإسلام. لقد جاب روجيه غارودي حقاً عصره
ملحداً وأنه انضم إلى الشيوعية محافظاً على إيمانه، إذ كان في العام نفسه أي 1933 رئيساً لمنظمة الشبيبة البروتستانتية. إلا أن الشاب المفرط في الذكاء ما لبث أن غدا الفيلسوف الرسمي للحزب وأحد قادته، فأطروحته «النظرية المادية في المعرفة»، التي ترجمت بجهود الحزب الشيوعي اللبناني إلى العربية، غدت واحداً من أناجيل الشيوعية الرسمية، حينذاك لم يكن يخطر لأحد أن روجيه غارودي سيتنكر لها ويندم على كتابتها. صمت روجيه غارودي على معسكرات العمل السوفياتية وعلى غزو الاتحاد السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا وعلى تدخله في هنغاريا. فقد كان يومذاك قائداً شيوعياً ممتثلاً. إلا أنه بدأ منذ عام 1968 خلافاته مع الحزب الشيوعي وإدانته لدغمائية الماركسية السوفياتية. خلافات انتهت به 1970 مطروداً من الحزب الشيوعي. كان قبل ذلك أصدر «واقعية بلا ضفاف» الذي تمرد فيه على الواقعية الاشتراكية وحاول أن يخرجها من حبس البطل الإيجابي والتفاؤل الثوري، وأن يتوسع في مفهوم الواقعية بحيث تقبل كل الابتكارات الفنية وتتطابق مع كل تجديد أو إضافة.
كان تمرد روجيه غارودي على حزبه مثار تعجب، إذ لم يكن متوقعاً، وشكك الذين ارتابوا دائماً في موقعه كمنظّر رسمي للحزب في هذه الخطوة. والحقيقة أن روجيه غارودي لم يصل إلى القيادة إلا بثمن حقيقي، فقد اعتقلته حكومة فيشي في الجزائر وأمضى في سجنه أكثر من عامين. لم تكن نضاليته لذلك موضع شك. إلا أن غارودي انتقل من الماركسية إلى الكاثوليكية. كانت هذه خطوته الثالثة لكنها لم تكن الأخيرة، فقد أخذ الماركسي يقترب من الإسلام. كان كتاباه «وعود الإسلام» و«الإسلام دين المستقبل» من ثمرات هذا الاقتراب. لكن الكتاب الذي عرّضه للنقمة والتشهير بل والمحاكمة كان كتابه «الأساطير المؤسسة للسياسة اليهودية». في هذا الكتاب يفكك روجيه غارودي بناءً من الخرافات التي يرى أن عليها قام البناء الصهيوني، وهي الخرافة اللاهوتية الممثلة بالوعد الإلهي بأرض الميعاد، الخرافة العرفية التي تحرم الزواج بغير يهودية، خرافة معاداة النازية التي كشف فيها تعاوناً تمّ بين هتلر وبين قادة إسرائيليين، منهم إسحق شامير الذي تولى قيادة «شتيرن» المنظمة الإرهابية الصهيونية بعد مقتل مؤسسها. لكن ما أثار النقمة على روجيه غارودي هو شكه بالمحرقة واتهامه للصهيونية باستغلالها والمبالغة فيها واختراعها في الأساس. هذا الشك جعله بين منكري المحرقة «Negotionstes» وهؤلاء يتهمون عادة بمعاداة السامية. ولما كان القانون الفرنسي يحرّم التعرض للمحرقة وإعادة النظر فيها فقد حوكم روجيه غارودي وحُكم عليه بغرامة 20 ألف دولار.
اقترب روجيه غارودي من الإسلام واعتنقه 1982 وتزوج من مسلمة، لأن الإسلام كما يراه لا يعني الاستسلام والجبرية بل يعني الاستجابة لنداء الله، استجابة حرة نشطة ومسؤولة، كما أن الإسلام في نظره يقدم تصوراً معقولاً ومتكاملاً للكون والإنسان والحياة والله، كما أن تشريعات الإسلام تلائم طبيعة الإنسان والحياة ملاءمة تامة، فضلاً عن انفتاح الإسلام للعقائد التي سبقته وانفتاحه على الثقافات الأخرى والعلم والفلسفة. مع ذلك انتقد روجيه غارودي الأصولية الإسلامية واعتبرها كالأصولية الرومانية والأصولية الإسرائيلية آفة. أفكار روجيه غارودي تجاه الإسلام جعلت كثيرين يتهمونه بالردة أو الضلال، ويمكن أن نستشهد في هذا المجال بالدكتور محمد سعيد البوطي وخلاصة رأيه أن ليس من المعقول أن ننتظر من منظّر ماركسي كبير أن يتحوّل إلى منظّر إسلامي كبير. لكن إسلام روجيه غارودي ليس فاسداً رغم أنه في فهمه للإسلام يخطئ وتعوزه أحياناً المعرفة الكافية. لا بد من قبوله كمسلم ومؤاخذته على أخطائه ونقدها حين يخطئ.
هكذا يرحل الحاج محمد رجا جارودي، وهذا هو الاسم الذي اتخذه بعد إسلامه بعد أن عارك تقريباً على كل جبهات قرن كامل. إن حياته هي تقريباً هذا العراك، فالرجل الذي ظل ماركسياً دغمائياً حتى المؤتمر العشرين الذي تمرد على الستالينية، لم يجدد في الماركسية ولم يضف إليها سوى أنه امتنع عن إعادة طبع أطروحته فيها. كذلك إذا أخذنا برأي الدكتور البوطي، لم يضف إلى الإسلام مع أن إسلامه كان حسناً، لكنه أخذ الإسلام إلى سجال أوروبي هو السجال حول المحرقة لا نعرف تماماً جدواه له. والأرجح أنه لا يعنيه ولا يخدمه. روجيه غارودي هو هذه الحياة التي لم تتسع فقط لـ98 عاماً بل اتسعت لقفزات من المادية إلى الدين ومن الغرب إلى الشرق ومن الكنيسة الرومانية إلى الإسلام. لقد جاب روجيه غارودي حقاً عصره