أحدث المقالات

تحليل الأصول الاجتهادية لفتاوى السيد الخامنئي

ـ القسم الأوّل ـ

د. الشيخ محمد رحماني(*)

ترجمة: الشيخ كاظم خلف العزاوي

 

(a)      مدخل

أَوْلى الطبّ الحديث علم زراعة الأعضاء وتحصيله عناية فائقة. وقد منح هذا العلم حياة جديدة لكثير من الناس، وأسبغ على حياتهم الصحة والعافية. ومن المؤكَّد أن البشر منذ قديم الزمان، وعلى مر العصور، كانوا توّاقين إلى التوصُّل إلى كيفية زراعة الأعضاء. وقد توصَّل عالم الطبّ اليوم إلى هذا الاكتشاف، وبإمكانه أن يقوم بزراعة كثيرٍ من أعضاء البدن.

وللإنسان المتعلِّم تأثيرٌ كبير في هذا التقدم العجيب الحادث في عالم الطبّ، ومن ذلك الدور القيِّم الذي قام به جملة من العلماء المسلمين والذي لا يمكن إنكاره، والتاريخ يشهد لهم بذلك.

و ترتبط زراعة الأعضاء من جهات عدّة بعلوم مختلفة. وعلى ضوئها طرح الناس أسئلة كثيرة على علم الفقه حول هذا الموضوع. ولهذا كان من اللائق أن يحقِّق الخبراء والمجتهدين في هذا الموضوع، ويدلوا فيه بآرائهم.

و هذه المقالة تمثِّل ردّ السيد الخامنئي على أسئلة واستقراءات مجموعة من متخصِّصي زراعة الأعضاء، وقد أشار إلى جزءٍ من الأدلّة التي بإمكانها أن تكون دليلا بارزاً لهذه النظريات الفقهيّة.

 وقبل البدء بالبحث نذكر بعض النكات المفيدة:

1ـ هيِّئت هذه المقالة بناءً على رسالة السائلين (مجموعة من الأطبّاء الجرّاحين)، والمبتنية على تعريف المصادر التي تبحث الأسئلة المطروحة بتفصيل مسهب. وعلى هذا الأساس فإنهم امتنعوا عن طرح مسائل علمية معقَّدة.

2ـ الأسئلة الفقهية المتعلِّقة بزراعة الأعضاء كثيرة جدّاً، وهذه المقالة تبحث فقط في إطار أجوبة السيد الخامنئي.

3ـ انصبَّ بذل الجهد في نقد وبحث الأدلّة المخالفة والموافقة، ولتجنُّب إطالة المقال هناك مواضيع لم يتمّ طرحها.

4ـ تعتمد هذه المقالة توضيح المستندات الفقهية على ضوء أجوبة السيد الخامنئي حسب ما يراه الكاتب والبحوث التي قام بها، وبناءً على هذا يجب أن تُقيَّم الأدلّة والنتائج المتمحورة في هذه النظرة.

 وقبل البدء بهذا البحث الموسَّع نستعرض متن الأسئلة الفقهيّة وأجوبة السيد الخامنئي الحكيمة عليها؛ كي تصبح منطقة فضاء الكتابة واضحة أكثر.

(b)     الأسئلة والأجوبة

حضرة السيد القائد آية الله الخامنه إي ـ دامت بركاته العالية ـ.

بعد السلام وتمنّياتي لكم بالسلامة وطول العمر

حيث إن موضوع زراعة الأعضاء ترتبط من جهات مختلفة بالمسائل الفقهية فإني أرجو أن تفيدونا بأجوبتكم عن الأسئلة الشرعية؛ وذلك ليتَّضح التكليف الشرعيّ لكثيرٍ من الأطبّاء الملتزمين والمتدينين:

أـ ما هو حكم قطع الأعضاء الرئيسيّة (التي يؤدي قطعها إلى الوفاة) من شخصٍ سالم كالتالي:

1ـ برضا صاحب العضو المقطوع؟

الجواب: لا يجوز.

2 ـ مع عدم رضا وليّ صاحب العضو، ولكن لحفظ حياة إنسانٍ آخر؟

الجواب: لا يجوز.

ب ـ ما هو حكم قطع أعضاء غير رئيسية من شخصٍ حيٍّ؟

 الجواب: يجوز القطع إذا كان حفظ النفس المحترمة متوقِّف عليه.

ج ـ ما هو حكم قطع الأعضاء الرئيسية من شخصٍ مبتلى بغيبوبة تامّة (الموت الدماغي)، وذلك حسب النقاط التالية:

1ـ توقُّف الدماغ بالكامل، ولكن القلب ما زال يعمل، مما يعطيه حياة كالحياة النباتية.

2ـ القلب والدماغ قد توقَّفا بالكامل، ولكن ما زال المريض يعيش بمساعدة جهازٍ للتنفُّس، ممّا يعطيه حياة كالحياة النباتية.

الجواب: إذا لم يؤدِّ القطع إلى وفاته، وكان حفظ النفس المحترمة متوقِّفاً على هذا القطع، فلا مانع.

د ـ ما هو حكم قطع أعضاء الميت في الصور التالية؟

1ـ إذا أوصى المريض بعد وفاته أن تقطع أعضاؤه؛ لتستخدم في الزراعة.

الجواب: لا مانع إنْ أجاز ذلك وليُّ الميت.

2ـ إذا لم يوصِ الميت، ولكن يتوقَّف على ذلك حفظ حياة المسلمين.

الجواب: في هذه الحالة لا إشكال في قطعها.

3ـ في أيّة صورة كانت هل يلزم دفع الدية أم لا؟

الجواب: لا تسقط الدية، إلاّ في حال الرضا والتنازل.

4ـ إذا كان الجواب بوجوب دفع الدية، فما هي الوجوه التي تُصرَف فيها؟

الجواب: تصرف على هيئة خيرات تخرج للميت.

هـ ـ ما هو حكم الأموال المأخوذة مقابل الأعضاء المقطوعة؟

1ـ هل المتاجرة بالأعضاء جائزة أم لا؟

2ـ إذا كان الجواب بعدم جوازها فما هو الطريق الذي من خلاله يكون أخذ العوض جائزاً؟

الجواب: لا مانع، وبالإمكان أخذ تلك الأموال عن طريق تعلُّقها بحقّ الاختصاص، أو مقابل إعطاء حقّ التصرُّف.

و ـ بعد زراعة العضو ما هو حكم نجاسته؟

1ـ في بداية العملية الجراحية، بحيث إن الزراعة لم تتمّ مئة في المئة.

الجواب: إذا كان العضو ميتاً الآن فهو نجس.

2 ـ بعد مضيّ وقت على زراعة العضو، بحيث تمَّت زراعته مئة في المئة.

الجواب: في حالة عدم صدق الميتة عليه يكون طاهراً. والله العالم.

في الختام نرجو أن تزِّودونا بعناوين مصادر الأجوبة التي تفضِّلتم بها، مشفوعة بتفصيل أكثر.

و تقبَّلوا فائق شكر مجموعة من أطباء الجراحة.

 

(c)      سير البحث

مع ملاحظة فروع المسألة المختلفة؛ ومن أجل عدم تشعُّب الحديث وتكراره، من اللائق أن تصنَّف الأسئلة والأجوبة على الصورة التي جاءت بها الأسئلة الأصلية، متكوِّنة من ثلاث محاور أصليّة، بحيث توجه المباحث العلمية لكافّة الأسئلة طبق الشرح التالي الذي تمّ بحثه:

المحور الأول: الحكم الفقهي لقطع العضو:

المقام الأول: الحكم الفقهي لقطع العضو من جسم شخصٍ حيّ:

أـ ما هو حكم قطع العضو الرئيس؟

ب ـ ما هو حكم قطع العضو غير الرئيس؟

أدلّة الحرمة:

1ـ حرمة إيقاع الضرر بالنفس.

2ـ حرمة تغيير الخلقة الإلهية.

3ـ حرمة هتك وامتهان المؤمن.

4ـ حرمة المُثْلة.

5ـ حرمة إنزال الظلم.

المقام الثاني: الحكم الفقهي لقطع عضوٍ من جسمٍ مصاب بالسكتة الدماغية.

المقام الثالث: الحكم الفقهي لقطع عضوٍ من جسم شخصٍ ميت:

أـ ما هي أدلّة جواز قطع أعضاء الموتى؟

ب ـ مَنْ الذي له حقّ البتّ بقطع أعضاء الموتى؟

ج ـ هل أن قطع أعضاء الموتى يستوجب الدية؟

د ـ ما هي أوجه مصرف دية الأعضاء المقطوعة؟

المحور الثاني: حكم أخذ العوض:

أـ هل يجوز أخذ العوض عن الأعضاء المقطوعة بعناوين غير البيع؟

ب ـ ما هو حكم المتاجرة بالأعضاء؟

المحور الثالث: حكم زراعة الأعضاء:

أـ ما هو الحكم التكليفيّ لزراعة الأعضاء؟

ب ـ ما هو الحكم الوضعيّ من حيث النجاسة والطهارة؟

(d)     زراعة الأعضاء في مراحل تشريع القوانين

أصبح واضحاً أن المسائل والمباحث الحقوقية لزراعة الأعضاء تحتاج أيضاً إلى تحقيق واسع النطاق. والإسهاب في نقد ودراسة جميع أو أكثر المباحث الحقوقية المتعلقة بزراعة الأعضاء خارجٌ عن مجال هذه المقالة. وعليه نورد باختصار تقريراً عن مراحلها القانونية:

1ـ لم يتطرَّق المقنِّنون إلى وضع قانون زراعة الأعضاء، ولم يقدِّموا أي اقتراح إجراءات تشريعية تنمّ عن ذلك. بتاريخ  25/3/1375هـ ش قُدِّمت إلى المجلس لائحة، وهي عبارة عن مادّة واحدة بعنوان «لائحة بطلب ترخيص زراعة أعضاء تؤخذ من أجسام الموتى في موارد خاصّة». وقد جاء متن اللائحة على هذا النحو:

المادة 1: لا مانع من أخذ أعضاء بدن المتوفّى أو الذي قد أصيب بسكتة دماغية مسلَّمة؛ من أجل زراعتها في أجسام المرضى المحتاجين لذلك العضو، على أن تتوفَّر الشروط اللازمة لذلك.

ولكن إلى وقتنا الحاضر لم تحصل الموافقة على قانون زراعة الأعضاء.

2ـ في قانون العقوبات الإسلامي هناك أمورإذا تمّت طبق شروط خاصّة لا يعتبر فيها الطبيب الذي يبتر عضواً مجرماً وضامناً لذلك العضو، ومن جملتها المادة 59، البند الثاني: أيُّ نوع من العمليات الجراحية أو الطبّية المشروعة، والتي تتمّ الموافقة عليها من قبل نفس الشخص أو أوليائه أو أرباب الأسر أو وكلائهم القانونيين، ومع مراعاة الموازين الفنية والعلمية وأنظمة الدولة المطبقة، وعلى وجه السرعة اللازمة، ففي هذه الحالة سوف لن يكون من الضروريّ أخذ موافقة خطية([1]).

و بإمكاننا مراجعة المواد 60، 295، 319، 322، 216 في هذا الشأن.

3ـ وقد اعتبر مجلس الخبراء، بتاريخ 6/9/1379هـ ش، العرض المقدَّم لزراعة أعضاء لمرضى قد ماتوا بالسكتة الدماغية، وبعد الأخذ بوجهات نظر بعض المراجع وفتاوى السيد الخامنئي، مشكلاً، وفي الموارد التالية:

أـ بالنسبة للمرضى الذين توفوا عندما يؤدي قطع العضو إلى المثلة، أو إهانة ذلك المريض، أو هتك حرمته، يعدّ ذلك العمل مخالفاً للشرع.

ب ـ بالنسبة للذين يموتون دماغياً في حالة استئصال أحد أعضائهم عند الموت، أو يكون للاستئصال تأثيرٌ عليهم، يكون هذا العمل مخالفاً للشرع([2]).

(e)      المحور الأول: الحكم الفقهي لقطع العضو

الشخص الذي يُقطع منه عضوٌ إما أن يكون حيّاً؛ أو ميتاً دماغياً؛ أو قد توفّي. وكلّ حالة من هذه الحالات تحتاج إلى حكم فقهيّ مختلف عن الأخرى. وعليه نعرض البحث في ثلاثة مقامات:

(f)       أولاً: حكم قطع عضو من جسم شخصٍ حيّ

لقطع عضو من جسم شخص حيّ عدة صور؛ لأنه أحياناً تكون حياته متوقِّفة عليه، مثل: القلب وبقية الأعضاء الرئيسة؛ وأحيانا لا تتوقَّف حياته على ذلك العضو، مثل: الكلية واليد وأمثالها. وفي كلّ مورد من الموارد التي تمّ ذكرها فإن قطع العضو إما أن يكون مصاحباً لغرض عقلائي؛ أو لا. وفي كلٍّ من تلك الموارد الأربعة إما أن يكون قطع العضو من جسم الإنسان يتسبَّب بضررٍ له؛ أم لا.

و يختلف الحكم الفقهي في كلّ واحدة من الصور الأربعة، ولكن مراعاة للاختصار سوف نبحث  هذا القسم في صورتين:

(g)      أـ عضو رئيس

بدون أدنى شك إن كان قطع العضو الرئيس يؤدّي إلى الوفاة فحكمه الحرمة. وفي هذا الحكم لا يوجد فرق بين رضا صاحب العضو أو عدم رضاه، وأيضاً لا فرق بين ما إذا كان القطع مصاحباً لغرض عقلائي أم لا؛ لأن هذا الأمر يكون مصداقاً للانتحار وإلقاء النفس في التهلكة، وقد دلت الأدلة العقلية والنقلية أن الانتحار حرام، وهو من  الذنوب الكبيرة([3])، ويتبعه عذابٌ شديد، وتقول الآية: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة﴾ (البقرة: 195).

وتدل الآية على حرمة عموم الانتحار والقتل. وعليه فإن قطع العضو الذي يؤدي إلى الوفاة حرامٌ، على الشخص نفسه وعلى الآخرين. ويشهد على هذا المدّعى رواياتٌ عن وجوب الاجتناب عن الأعمال التي تؤدي إلى الهلاك والموت، وقد استدلوا وتمسكوا بهذه الآية. ومن هذه الروايات رواية عن الإمام الرضا× يقول: «اللهم إنك قد نهيتني عن الإلقاء بيدي إلى التهلكة، وقد اضطررتُ، كما أشرفتُ من قِبَلِ عبد الله المأمون على القتل إن لم أقبل ولاية العهد».

وقد وردت روايات كثير من طرق أهل السنّة بهذا المعنى، حيث استدلّوا([4]) على حرمة الانتحار وعمليات القتل الأخرى.

والآية الأخرى التي تدل على هذا المدَّعى أيضاً:

﴿وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً﴾(النساء: 29).

وهذه الآية تدلّ على إطلاق حرمة الانتحار والقتل وكلّ عمل يؤدي إلى وفاة الشخص. وهناك روايات تدلّ كذلك على هذا المدَّعى. ومنها صحيحة الحناط: سمعتُ الإمام الصادق× يقول: مَنْ قتل نفسه متعمِّداً فهو في نار جهنم خالداً فيها([5]).

وتدل هذه الرواية دلالة واضحة على تمام المطلوب. لذلك إذا أدى هذا القطع إلى وفاة الشخص، وإنْ كان يعلم أن سبب هذه الوفاة قاطع العضو، لكنّ عملية القطع تمّت بموافقة صاحب العضو نفسه، فإن إماتة نفسه سوف تلزمه، وفي النتيجة يدخل في مضمون الرواية. وسندُ الرواية صحيحٌ، لذلك لم يُشكل الشيخ الطوسي على الحسن بن محبوب.

وقد وردت حرمة الانتحار وقتل شخص آخر في الآيات والروايات في مواضع كثيرة، وهو عملٌ قبيحٌ وحرامٌ بنظر العقلاء، ويعتبر هذا القبح من الأمور التي يستقلّ بها العقل. وعلى هذا النحو فبمقتضى قاعدة الملازمة العقلية «ما حكم به العقل حكم به الشرع» فإن الحكم العقلي يتلقى تأييداً وإمضاءً من الشارع المقدس والآيات، والروايات التي تضمنت هذا الأمر إنّما هي إرشادية إلى هذا الحكم العقلي.

ومن الجائز أنه في بعض مصاديق قتل النفس يوجد هناك اختلافٌ بين عرف العقلاء والشارع المقدَّس في وجهات النظر، وسوف نتَّبع في هذه الحالة الدليل الشرعي.

وبناء على ما تقدَّم لا يجوز قطع الأعضاء الرئيسة التي تؤدي إلى وفاة الإنسان المفاجئة أو التدريجية. ولا يوجد فرقٌ بين أن يكون المتوفّى بالغاً أو غير بالغ، عاقلاً أو مجنوناً، وكذلك بين ما إذا كان حفظ حياة الآخرين متوقِّفاً عليه أم لا.

(h)     ب ـ العضو غير الرئيس

إذا كان قطع العضو لا يؤدّي إلى الوفاة، ويسبب فقط إضراراً بالنفس، فهل يحرم أيضاً قطع العضو في هذه الحالة؟

الذي قد يدلّ على الحرمة، أو من الجائز أن يستدلّ به، عبارة عن:

(i)        الدليل الأول: حرمة إلحاق الضرر بالنفس

  قطع العضو يؤدي إلى الإضرار بالنفس، والإضرار بالنفس حرامٌ، إذاً سوف يكون قطع العضو حراماً.

   في هذا الاستدلال الكبرى الكلّية لحرمة الإضرار بالنفس تحتاج إلى فحص وإثبات، ولكنّ المقدّمة الأولى للاستدلال وجدانية وواضحة. وبما أن عنوان الإضرار بالنفس في هذه المقالة له دورٌ أساسيٌّ ومحوريّ، ووجهات نظر الفقهاء ليست متوافقة، وليسوا على وتيرٍة واحدة، فسوف نتناول هذه العناوين الثلاثة بتفصيلٍ أكثر:

(j)        مفهوم «الضرر» في اللغة

  في معاجم اللغة ذُكرت لكلمة «ضرر» معانٍ كثيرة، ومن جملتها: النقص، الضيق، سوء الحال، العمى، المرض، الضعف، الحاجة، القحط، والعنت. وبدون شك فإن كثيراً من هذه الكلمات لا تعطي معنى الضرر، بل هي مصداق لمعنى الضرر. وقد خلطوا المصداق مع المفهوم، وذكروه على أنه المعنى، حيث إن خلط المصداق بالمفهوم من مشكلات الفهم اللغوي، وممّا يؤدي إلى زلاّت كثيرة في فهمها. والذي يسترعي الانتباه أن معنى الضرر هو النقص، والذي قد سبق ذكره هو مصداق لهذه الكلمة. ولكلمة النقص مفهوٌم واسع يشمل كلّ شيء له قابلية أن يكون كاملاً ولكنه غير كامل. وعلى سبيل المثال: النقص في الأعيان الخارجية المركَّبة من أجزاء، مثل: النقص في الجزء والعضو، والنقص في الأمور الاعتبارية، كعدم رعاية الحقوق الشخصية التي من شأنها أن ترعى.

يعرِّف علماء اللغة الضرر بأنه نقص، كأمثال: الخليل الفراهيدي، الذي يعد من أوائل المؤلِّفين في كتب معاجم اللغة، حيث إنه يعتقد أن ليس لمادة الضرر إلا مفهومٌ واحد، وهو عبارة عنالنقصان يدخل في الشيء، تقول: دخل عليه ضرر في ماله([6]).

وعبَّر ابن الأثير كذلك عن مادة ضرر بالنقص، حيث يقول: لا ضرر ولا ضرار في الإسلام: الضرر ضدّ النفع… فمعنى قوله: لا ضرر أي لا يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئاً من حقّه([7]).

وجعل الفيّومي بين «ضُرّ» و«ضَرَّ» اختلاف. فالأول بمعنى سوء الحال والحاجة، والثاني بمعنى النقص الذي هو ضدّ النفع، وكتب يقول: قال الأزهري: كل ما كان سوء حال وفقر وشدة في بدن فهو ضُرٌّ بالضم، وما كان ضد النفع فهو بفتحها… وقد أُطلق على نقصٍ يدخل الأعيان([8]).

وكذلك عبَّر ابن فارس عن هذه المادة أنها ضد النفع: الضرر: ضد النفع، ويقال: ضرّه يضرّه ضرّاً، ثم يحمل على هذا كلّ ما جانبه أو قاربه([9]).

و سار اللغويون الباقون على هذا الأسلوب.

وعلى أية حال فإن مفهوم الضرر هو نفسه النقص، وإن كان هناك مَنْ عبَّر بأن الضرر ضد النفع فمن جهة أن عدم وجود النفع في الأمور التي بها نفعٌ متَّسع يعدّ نقصاً.

(k)      وجهات نظر الفقهاء وأقوالهم

  لم يبحث الفقهاء الإضرار بالنفس كموضوعٍ منفصل، ولكن يُلتَمَس ذلك في كلماتهم التي أفضوا بها في الأبواب المختلفة.

ذكر الشيخ الطوسي في «البيان» أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغة، ويجوز أكله فقط في حال قلّة الحيلة والضرورة. يقول: حكم أكل الميتة خوفاً على الحياة بنظر البعض واجبٌ. وهذا الرأي صحيحٌ؛ وذلك أن دفع الضرر ومنعه واجبٌ بحكم العقل([10]).

ويرى ابن إدريس ـ كالشيخ الطوسي ـ أن أكل الميتة لدفع الضرر واجبٌ. قال: عندما يضطر الإنسان يجب عليه أكل الميتة، ولا يجوز له الامتناع عن أكلها، ودليلنا في الوجوب منع الضرر من وجهة نظر العقل([11]).

ويعتبر ابن البرّاج أكل المواد السامّة حراماً، ويقول: الأشياء المحرَّمة هي عبارة عن جميع السموم القاتلة([12]).

ويعتبر أبو الصلاح الحلبيّ السموم القاتلة والمضرّة من جملة المحرَّمات. وكتب يقول: ينقسم أكل الحرام إلى قسمين: في القسم الأول ترتبط الحرمة بأعيانها… ومن جملتها: السموم القاتلة([13]).

وعندما عدَّد المحقِّق الحلّي المحرَّمات قال: والقسم الخامس من المأكولات المحرَّمة: السموم القاتلة، قَلَّت أم كثرت([14]).

قال العلامة الحلّي في قواعده: الخامس من المحرَّمات: السموم القاتلة، قليلها وكثيرها…، والتي يخاف أن يكون بها ضررٌ([15]).

وصرَّح صاحب الجواهر بمثل ما صرح به الحلّي، حيث قال: كل شيء يحتمل أن يكون به ضررٌ حرامٌ. وأيّ شيء يعتقد ضررُه فهو حرامٌ، على أيّ نحوٍ كان، حصل له العلم أم الظنّ([16]).

هذه هي بعض أقوال الفقهاء حول حرمة الإضرار بالنفس. وقد استفدنا مما ذُكر أن من جملة المحرمات إيقاع الضرر بالنفس في الجملة، وأقوال الفقهاء تختلف من هذه الجهة.

فقد صرَّح البعض بهذا المدَّعى، مثل: العلاّمة الحلّي وصاحب الجواهر؛ وصرَّح البعض الآخر بوجوب منع الضرر، وهناك مَنْ صرَّح بأن أكل السمّ القاتل حرامٌ. ومن الواضح أن المقصود أعمّ من قتل النفس، لذلك صرحوا بأن أكل قليل من السمّ الذي يقتل كثيرُه حرامٌ أيضاً. وقد وردت هذه الكلمات في موضوع السمّ، ولكنّ المتعارف عليه عرفاً هو أن السمّ ليس له خصوصية، بل هو ملاكٌ لأيّ شيء ينزل الضرر بصاحبه، أعمّ من أن يؤدي إلى الهلاك أو يكون سبباً في إنزال ضررٍ عقلائيّ لا يمكن تحمُّله.

(l)        أدلة حرمة إلحاق الضرر بالنفس

البحث المهم هنا هو نقد وتحقيق أدلّة حرمة إيقاع الضرر بالنفس. وبعض هذه الأدلّة عبارة عن:

(m)   1ـ قاعدة لا ضرر

جاء في موثَّقة زرارة: كان سمرة بن جندب يضايق أحد الصحابة عند مروره متفقِّداً شجرته، حيث إن دخوله وخروجه من باب بيت الصحابي، ويقوم بهذا العمل بدون استئذان، شكا صاحبُ المنزل سمرة إلى رسول الله، فاقترح الرسول على سمرة بن جندب إما أن يستأذن عند دخوله إلى المنزل أو يبيع الشجرة لصاحب الدار بقيمة كبيرة، فلم يقبل سمرة بهذا الاقتراح، عندها أمر رسول الله| صاحب الدار أن يقلع الشجرة ويرميها إليه، وقال: فإنه لا ضرر ولا ضرار في الإسلام([17]).

وهذه الرواية من ناحية السند معتبرة، بل إن هناك روايات أخرى جاءت بنفس هذا المضمون، ولا يبعد أن يكون هذا المضمون مستفيضاً([18]). وعلى أية حال لا يوجد إشكالٌ في سندها. وأما من ناحية الدلالة فقد طرحت بحوثٌ كثيرة، وألَّف كثير من الفقهاء رسائل مستقلّة حول هذا الموضوع، واستفادوا منها في جميع أبواب الفقه.

 والبحث المهمّ هنا هو النظرة العابرة لآراء الفقهاء في هذا الحديث. وأهمّها ما يلي:

1ـ يعتقد الشيخ الأنصاري أن لحديث «لا ضرر» أحكامٌ، يمنع العمل بها الضرر، كقاعدة لا حرج، حيث إنها بنظره تمنع الحرج، ومدلول قاعدة لا ضرر نفي حكمٍ شرعيّ مضرّ. لذلك ففي الحديث بنفي المسبَّب (الضرر) ينتفي السبب، الذي هو (الحكم الضرريّ)([19]).

2ـ يعتقد الآخوند الخراساني أن مدلول حديث «لا ضرر» هو نفي الحكم الضرري على نحو نفي ادّعاء الموضوع، مثل: «لا شكّ لكثير الشك». وقد كتب يقول: مدلول الحديث نفي الأحكام الضررية هو نفي ادعاء الموضوعات الضررية([20]).

3ـ ويعتبر شيخ الشريعة الأصفهاني مدلول الحديث نهياً تحريمياً مولوياً في إيقاع الضرر. وإن جملة «لا ضرر» خبرية، ولكنْ لها دلالة على النهي، كجملة «يعيد الصلاة»، التي هي في مقام الإنشاء، وتدلّ على وجوب إعادة الصلاة. وقد كتب في هذا المقطع يقول: مدلول القاعدة نهيٌ تكليفيّ وحرمة إيقاع الضرر([21]).

4ـ ويعتبر الفاضل التوني أن حديث «لا ضرر» ينفي أيّ ضرر لم يتدارك شرعاً، حيث يقول: مدلول حديث «لا ضرر» هو نفي الضرر الذي بنظر الشارع لم يجبر ولم يتدارك([22]).

5ـ يعتقد الإمام الخميني أن «لا ضرر» حكمٌ حكوميّ، ويقول في هذا الموضوع: إن كلام رسول الله| الذي قال فيه: «لا ضرر ولا ضرار» من الأحكام السلطوية، حيث إنه بيَّن هذا الأمر بصفته حاكماً وقائداً([23]).

 إن نقد وبحث كلّ واحد من هذه المباني، وبحث نتائجها وآثارها، خارجٌ عن نطاق هذه المقالة. وفي خضم ملاحظة بعض المباني ـ كالمبنى الخامس ـ فإن قاعدة لا ضرر ليس لها أيّ ارتباط بحرمة الإضرار بالنفس؛ وعلى أساس بعض المباني ـ كالمبنى الثالث ـ فإن للرواية لها دلالة على المدّعى.

أما على أساس المباني الأخرى فإن القاعدة ليس لها دلالة مطابقية على حرمة إيقاع الضرر بالنفس، ولكن بالإمكان القول: إن لها دلالةً التزامية على هذا المدَّعى، لذلك لا يمكن الجمع عرفاً وعقلائياً بين نفي الضرر من الشارع وتجويزه الإضرار. ومع أن الشيخ الأنصاري يعتبر مدلول القاعدة نفي الحكم الضرري، إلا أنه كتب يقول: لم يفرق الفقهاء عند استدلالهم بقاعدة «لا ضرر» بين الإضرار بالنفس والإضرار بالغير([24]).

(n)     2ـ رواية عذافر

يقول الإمام موسى بن جعفر×، في جوابه عن سبب تحريم الله (عز وجل) للخمر والميتة ولحم الخنزير: إن الله ـ تبارك وتعالى ـ لم يحرِّم ذلك على عباده، وأحلّ لهم ما سواه، من رغبة منه فيما حرَّم عليهم، ولا زهد فيما أحلّ لهم، ولكنه خلق الخلق، فعلم ما تقوم به أبدانهم، وما يصلحهم، فأحله لهم وأباحه؛ تفضُّلاً عليهم لمصلحتهم، وعلم ما يضرّهم، فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم([25]).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن الإمام× اعتبر الضرر والأذى ملاكاً وعلّة للمحرَّمات. ويستفاد من جملة الإمام «وعلم ما يضرّهم، فنهاهم عنه وحرَّمه عليهم» الكبرى الكلّية، حيث إن كل ما يضرّ البدن فهو بنظر الشارع المقدس حرام. وعلى هذا فالنتيجة التي نحصل عليها هي أن إيقاع الضرر بالنفس منبوذ وحرام، لذلك إذا لم نقُلْ بأن المدلول المطابقي لهذا النوع من الروايات هو حرمة الإضرار بالنفس فإن مدلولها الالتزامي ـ على الأقل ـ سوف يكون حرمة إيقاع الضرر بها.

 

(o)     نقدٌ وتحقيق

إن الاستدلال بهذه الرواية غير صحيح؛ وذلك:

أولاً: إن سند هذه الرواية ضعيف؛ وذلك أن في سند الصدوق شخصاً باسم عذافر، وهو لم يوثَّق. وفي سند الكافي سهل بن زياد. وهي أيضاً مرسلة. وفي سند آخر للكافي يوجد المفضل بن عمر، وهو أيضاً لم يوثَّق.

ثانياً: يعتبر الإضرار بالبدن في هذه الرواية ملاكاً للمحرَّمات، ولكن مع هذا لا يمكن الاستفادة منه كقاعدة كلّية، وبهذا يكون مؤدّى القاعدة أنه إذا لم يؤدِّ القطع إلى ضرر فلا يحرم؛ حيث إن إعطاء مثل هذا النوع من التوسعة يستوجب أيضاً التضييق، ويقيناً لا يوجد فقيهٌ يلتزم بهذه المسألة، وهي أنه إذا لم توجد محرمات الضرر فلا يكون حراماً.

ثالثاً: ليس لبعض المحرمات المذكورة في الرواية ـ على الظاهر ـ ضررٌ بدنيّ، مثل: الحيوان الذي يذبح من دون أن يذكر اسم الله عليه.

رابعاً: هناك رواياتٌ تدلّ على أن أكل أو شرب جزء من بعض الأشياء يسبِّب ضرراً، مع أنها ليست من المحرِّمات. إذاً يصبح من المعلوم أن الحرمة لا تدور حول الضرر. كما قال الإمام الصادق×: أكل الحوت يورث السلّ([26])، وقد أصبح واضحاً جداً أن مرض السلّ يعتبر من الأضرار التي تلحق بجسم الإنسان، أما نفس أكل السمك فلا يعدّ من المحرَّمات.

خامساً: على فرض التنزُّل وغضّ النظر عن جميع الإشكالات الواردة في هذه الرواية لا يمكن اعتبار إطلاقها وشمولها لصورة القطع صحيحاً؛ إذ يلزم في هذه الحالة حرمة كثير من الأعمال اليومية والمتداولة في الحياة، مثل: الأكل الكثير أو القليل، أو أداء الأعمال التي تضعط على الأعصاب، و…

طبعاً من الممكن أن يكون لبعض هذه الإشكالات أجوبة؛ إلا أن مجموعها لا يعطينا أجوبة تامّة عند الاستدلال بهذه الرواية.

 

(p)     3ـ رواية تحف العقول

نقل عن الإمام الصادق×: وكل شيء يكون فيه المضرّة على الإنسان في بدنه وقوته فحرامٌ أكله، إلاّ في حال الضرورة… وما كان فيه المضرة على الإنسان في أكله فحرامٌ أكله…([27]).

وتقريب الاستدلال أنه طبق هذه الرواية يكون أيّ نوع من الطعام ينتج عنه الضرر حراماً، ونحصل على قاعدة كلّية، وهي أن إيقاع الضرر بالبدن حرام.

 ولكن هذا الاستدلال غير تامّ أيضاً؛ وذلك أن الرواية مرسلة، وينطبق عليها نفس الإشكالات التي سبق ذكرها في الرواية السابقة.

 

(q)     4ـ حديث الجار

هذه الرواية من جملة الروايات التي بإمكانها أن تدلّ على حرمة الإضرار بالنفس. والرواية معتبرة عن طلحة بن زيد، عن الإمام الصادق×. ونقل الشيخ الحُرّ العاملي هذه الرواية في ثلاثة مواضع: «باب وجوب كفّ الأذى عن الجار»([28])؛ «باب جواز إعطاء الأمان»([29])؛ «باب عدم جواز الإضرار بالمسلم»([30]).

والسند في الموارد الثلاثة واحد، ولكن يختلف متن الحديث فيما بينها. والعامل المشترك بينها هو عبارة عن: «إن الجار كالنفس، غير مضارّ ولا آثم».

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية أن تعبير الإمام× عن حرمة الإضرار بالنفس يفيد أنها قطعية ومن المسلَّمات، ومن هنا فإنه اعتبر الجار كالنفس، وأجرى عليه نفس الحكم الذي أجراه على الإضرار بالنفس. وعلى هذا الأساس عَنْوَنَ صاحب الوسائل الباب بـ «باب عدم جواز الإضرار بالمسلم».

وفي السند طلحة بن زيد ـ وهو سنّي المذهب ـ، إلا أن الشيخ الطوسي قد وثَّقه. ويصل سند الكليني والشيخ الصدوق إليه.

 

(r)      نقدٌ وتحقيق

بالإمكان الإشكال على الاستدلال بهذه الرواية لتحريم إيقاع الضرر بالنفس:

أولاً: إن الرواية في مقام توضيح مسألة أخلاقية نابعة من أمر غريزيّ. فحديث الإمام× يقول: كما أن الإنسان؛ بحكم غريزته الطبيعة، لا يقوم بإيقاع الضرر بنفسه كذلك يجب عليه أن لا يوقع الضرر بجاره. وفي النتيجة لا يكون الحديث دالاًّ على حرمة الإضرار بالنفس.

ثانياً: إن الاستدلال بالرواية على حرمة الإضرار بالنفس استدلالٌ غير صحيح؛ حيث إن حرمة إيقاعه بالنفس أوضح من حرمة الضرر الواقع على الجار؛ وذلك أن حكم المشبَّه به يجب أن يكون أوضح من حكم المشبَّه لكي لا يصبح التشبيه لغواً، وفي  هذا الحديث حكم المشبَّه به (حرمة الإضرار بالنفس) إذا لم نقل أنه مستتر أكثر من حكم المشبَّه (حرمة الإضرار بالجار) فعلى الأقل ليس أوضح منه.

ثالثاً: من الممكن أن تكون (غير مضارّ) حالاً (للجار)، لا أن تكون خبراً بعد الخبر. وبناء على هذا سوف لن تكون هناك أيّة دلالة على المدَّعى. لذلك فإن معنى الحديث سوف يكون على هذا النحو: يكون الجار مثل النفس، بشرط عدم وقوعه في الضرر. إذاً (غير مضارّ) شرط تشبيه (الجار) بـ (النفس).

 

(s)      5ـ روايات أبواب العبادات

هناك آيات وروايات تدل على أن العبادة أو مقدمتها إذا ألحقت ضرراً بالبدن ففي بعض الموارد يسقط التكليف عن المكلَّف، كالحاجّ الذي ينتج عن حضوره في مراسم الحجّ وأدائها ضررٌ (بشرط أن لا يكون الحجّ مستقرّاً عليه)؛ وفي بعض الموارد يكون حراماً.

أـ عن الرضا×: في الرجل تصيبه الجنابة، وبه قروحٌ أو جروحٌ، أو يكون يخاف على نفسه البرد؟ فقال: لا يغتسل، ويتيمَّم([31]).

وتقريب الاستدلال أنه في هذه الرواية نهيٌ للجنب عن الغسل، فإذا لم يكن الإضرار بالنفس حراماًفلماذا يكون التيمُّم واجباً والغسل حراماً؟

إذاً هذا النوع من الروايات له دلالة التزامية على أن الإضرار بالنفس حرام. والشاهد على هذا الادّعاء هو أن الفقهاء أفتوا ببطلان الغسل والوضوء اللذين يتضرَّر الإنسان منهما. وكذلك في مسألة الذي يضرّه الصوم فإنهم أفتوا ببطلان صومه. فإذا لم يكن الصوم أو الوضوء أو الغسل الضارّ بالإنسان مكروهاً أو حراماً فلماذا يعدّ باطلاً؟!

وقد يشكل بأنّ الشارع في هذه الموارد لا يرى الغسل والوضوء حراماً، ولا يوجد أمرٌ شرعيّ يفيد بأنهما حرام.

ويجاب بأن هذا النوع من الروايات في مقام الامتنان([32]). وبطلان الغسل والوضوء مع فرض عدم الكراهية والحرمة يعدّ خلاف الامتنان.

ب ـ في مسألة الجنب، وكان في بدنه جرحٌ، وقد قيل له: يجب عليه الغسل من أجل إزالة الجنابة، وعلى أثرها مات؟ قال الإمام×: لقد قتلوه([33]).

وفي رواية أخرى: قال رسول الله| للذين أمروه بالغسل: قتلوه، قتلهم الله([34]).

 

(t)       نقدٌ وتحقيق

إن الاستدلال بهذا النوع من الروايات على حرمة الإضرار بالنفس غير تامّ؛ وذلك أنه يحتمل أن الشارع لم يُرِدْ ولم يأمر ببطلان الغسل أو الوضوء أو الصوم الضرري. إذاً منهذه الجهة فإن هذه العبادة تعدّ باطلة لعدم وجود أمر بها، لا من ناحية أن ضررها استوجب نهي الشارع عنها، والنهي في العبادة يوجب فسادها. ولكن بإمكان رواية الشيخ الصدوق أن تدلّ على تمام المدَّعى؛ لذلك فإن مفادها يكون بهذا الشكل، وهو أنه في حالة وقوع الضرر يعدّ الصوم باطلاً، بل يعدّ الإفطار والأكل أيضاً واجباً. ويُفهم من هذه الرواية أن إيقاع الضرر حرام، ومن أجل منعه يكون الإفطار واجباً.

ولكن الإشكال يكمن في سند الرواية، حيث إنها مرسلة، ما لم يكن فرق في نقل الصدوق بين «قال الصادق» وبين «عن الصادق».

 

(u)     6ـ رواية محمد بن سنان

في بعض الروايات تم توضيح سبب حرمة أكل بعض الأشياء ـ مثل أكل الميتة ـ بأنه يسبب فساداً للبدن. لذلك بالإمكان القول: أيُّ شيء يوجب فساداً للبدن فهو حرامٌ. ومن جملة ذلك: ما جاء في رواية محمد بن سنان، عن الإمام الرضا×: حرمت الميتة لما فيها من فساد الأبدان والآفة([35]).

وقد ذكرت الرواية أن السبب في تحريم أكل الميتة هو فساد الأبدان. وعلى أساس القاعدة التي تقول: «العلة تعمِّم وتخصِّص» فإن أيّ شيء يوجب فساد الأبدان يكون حراماً، وقطع العضو يوجب فساد الأبدان فهو إذاً حرامٌ.

(v)      نقدٌ وتحقيق

الاستدلال بهذه الرواية غير تامّ أيضاً؛ وذلك:

أولاً: في سند الرواية محمد بن سنان. وقد تم تضعيفه في كتب الرجال، ما لم تؤخذ الرواية على بعض المباني الأخرى([36]).

ثانياً: بالإمكان القول: إن جملة «لما فيها من فساد الأبدان» حكمة، وليست علّة. بالإضافة إلى أنه لم يستفد من قاعدتها الكلية، ما لم تكن على مبنى الذي يقول: «الحكمة كالعلة، توجب تعميم الحكم، وعندما تكون مثل العلة لا توجب التخصيص»([37]). والشاهد على هذا الأمر ورود نفس هذا العنوان في بعض الروايات. على أنه من غير أدنى شكّ الحكمة غير العلة. ومن جملة ما قيل: إن الإمام الصادق× في جوابه لرجل كان يشْكو من ألم في بطنه، فقال له: تغدَّ، وتعشَّ، ولا تأكل بينهما شيئاً فإن فيه فساد البدن([38]).

وقد أصبح واضحاً أنه لا يحرم الأكل بين الغداء والعشاء، غير أن الرواية ذكرت أنه يؤدّي إلى فساد البدن.

(w)    7ـ حكم العقل

بدون أدنى شكّ إن العقل السليم لا يتقبل إقدام الإنسان على إيقاع الضرر بنفسه، ويعتبره أمراً مرفوضاً. وأيُّ شيء يراه العقل قبيحاً تنطبق عليه القاعدة التي تقول: «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع»، وسوف يكون بنظر الشارع قبيحاً أيضاً وحراماً.

وقد أصبح واضحاً جدّاً أن هذا الدليل صحيحٌ في الجملة، ولكن لا يمكن التمسُّك به على عمومه؛ لأن تحمل الأضرار البسيطة أو الكبيرة يكون بحافز عقلائي وإنساني، وعندها تكون ـ بنظر العقل ـ إما غير قبيحة، وإذا كانت قبيحة فإنها ـ بنظر الشارع ـ ليست حراماً.

(x)      خلاصة واستنتاج

يُستفاد من مجموع الأدلة التي أقيمت على عنوان حرمة الإضرار بالنفس ما يلي:

أـ مع أن المدلول المطابقي لبعض هذه الأدلة المتقدمة لا يدل على حرمة الإضرار بالنفس، ولكنّه يدل على الحرمة بالدلالة الالتزامية، أو الأولوية القطعية. لذا فإنه يستفاد من حرمة إيقاع الضرر بالنفس في الجملة في مجموع الأدلة حرمته في صورة القطع.

ب ـ ربما لا تكون بعض موارد الإضرار حراماً؛ لإمكان تحمُّلها. ومن ناحية أخرى هناك بعض الأضرار لا يستطيع البعض تحمُّلها، فتكون حراماً، وتكون للبعض الآخر بسيطة ويمكن تحمُّلها، وفي النتيجة لا تعتبر حراماً. لذلك فإن الذي يعيّن الحدود والمقدار العرف والعقل.

ج ـ مع ملاحظة المعاني التي عرضناها لكلمة الضرر فإذا كان في تحمل الضرر غرض عقلائي، بحيث يطغى على الضرر نفسه، ولا يُحتسب عرفاً ضرراً، فسوف لن يكون حراماً؛ أما إذا كان قطع العضو بغرض عقلائي، إما دنيوي أو أخروي، بالشكل الذي يغلب النفع على الضرر، فبدون شك مع ملاحظة ذلك الغرض العقلائي إما أن لا يكون الضرر صادقاً، وإن كان صادقاً فإن الشارع لا يعتبره حراماً. لذلك فمع ملاحظة الغرض العقلائي الأهمّ فإن هذا النقص يمكن جبره، وبالإمكان تحملُّه، ما لم يكن في موارد خاصّة من باب التعبد، ومتى كان هذا الضرر بغرضٍ عقلائيّ أهمّ فإنه يعتبر جائزاً. وفي هذه الحالة سوف يكون المرجع الدليل الخاصّ.

د ـ لقد أصبح شمول إطلاق أدلة حرمة الإضرار بالنفس لقطع عضو غير رئيس موضع مناقشة. لذلك مع ملاحظة الحوافز العقلائية يختلف الصدق الضرري، الذي هو مصداق الحرمة.

الهوامش

___________________

(*) أستاذٌ في الحوزة العلميّة، وعضو الهيئة العلميّة في جامعة طهران، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.

([1]) قانون العقوبات الإسلامي.

([2]) جريدة جام جم، تاريخ 7 / 9 / 1379هـ ش.

([3]) يختلف الفقهاء بتعريف الذنوب الكبيرة. فالبعض، مثل: الشيخ المفيد وابن الدراج وابن إدريس، قالوا: جميع الذنوب كبيرة، ما عدا بعض الذنوب إن قيست بالذنوب الأخرى تعدّ صغيرة، مثل: النظر إلى غير المحرم بالنسبة للزنا. والبعض الآخر صرف النظر عن المقايسة بينها، مثل: الشيخ في المبسوط 8: 217، وابن حمزة في الوسيلة 1: 230. وعلى المبنى الثاني بالنسبة لملاك الكبيرة والصغيرة حصل اختلاف. قال البعض: إن الملاك الوعيد بالعذاب..

([4]) راجع: التفسير المنير 5 ـ 6: 32.

([5]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 29: 55، باب 5 من أبواب قصاص النفس، ح1، مؤسسة آل البيت.

([6]) الخليل الفراهيدي، العين 7:  6، مادة ضرر.

([7]) ابن الأثير، النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 81، مؤسسة مطبوعات إسماعيليان.

([8]) الفيومي، مصباح اللغة.

([9]) ابن فارس، مقاييس اللغة 3: 36، مكتب الإعلام الإسلامي.

([10]) الطوسي، المبسوط  5 ـ 6: 285.

([11]) ابن إدريس، السرائر 3: 125، مؤسسة نشر الإسلام.

([12]) ابن البراج، الوسيلة: 429، مؤسسة نشر الإسلام.

([13]) ابن حمزة، الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 363، مكتبة آية الله المرعشي النجفي.

([14]) المحقق الحلي، الشرائع 3: 224، منشورات الأعلمي.

([15]) العلامة الحلي، قواعد الأحكام 2: 75، كتاب الأطعمة والأشربة.

([16]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 36: 370.

([17]) وسائل الشيعة 17: 341، باب 12 من أبواب إحياء الموات، ح1.

([18]) السيد الخوئي الذي لا يتساهل في مباني علم الرجال يقول في هذا الجزء: السند طبق بعض الطرق صحيح أو موثق. إذاً إذا لم نقُلْ بأن الرواية متواترة وقطعية الصدور فعلى الأقل عندنا ثقة بصدورها ( مصباح الأصول 2: 518).

([19]) الأنصاري، فرائد الأصول 2: 534، مؤسسة النشر الإسلامي.

([20]) الآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 382، مؤسسة آل البيت.

([21]) الأصفهاني، قاعدة لا ضرر ولا ضرار: 28، مؤسسة آل البيت.

([22]) فرائد الأصول: 532.

([23]) الإمام الخميني، الرسائل، 55، مؤسسة مطبوعات إسماعيليان.

([24]) رسائل فقهية: 115، لجنة تحقيق تراث الشيخ الأعظم.

([25]) وسائل الشيعة 16: 376، الباب 1، من أبواب الأطعمة المحرمة، ح1.

([26]) المصدر السابق 17: 56، باب 38 من أبواب الأطعمة المباحة، ح6.

([27]) المصدر السابق 17: 61، باب 42 من أبواب الأطعمة المباحة، ح1.

([28]) المصدر السابق 21: 126، باب 86 من أبواب أحكام العشرة، ح2.

([29]) المصدر السابق 15: 68، باب 20 من أبواب جهاد العدو، ح5.

([30]) المصدر السابق 25: 428، باب 12 من أبواب كتاب إحياء الموات، ح2.

([31]) المصدر السابق 2: 968، باب 5 من أبواب التيمم، ح7.

([32]) إذ مقتضى نفي الضرر على العباد في مقام الامتنان عدم الرضا بحكم يكون ضرره أكثر من ضرر الحكم الآخر (راجع: رسائل فقهية للشيخ الأنصاري: 125).

([33]) وسائل الشيعة 2: 967 باب 5 من أبواب التيمم، ح1، 2، 3.

([34]) المصدر السابق 2: 968، ح6.

([35]) المصدر السابق 24: 102، الباب 1 من أبواب تحريم الميتة والدم ولحم الخنـزير، ح3.

([36]) بعض الأساتذة، مثل: الشيخ وحيد الخراساني، والسيد شبيري الزنجاني، لم يضعفوا محمد بن سنان.

([37]) البعض من العلماء ينسب هذا المسألة إلى المحقق الداماد.

([38]) وسائل الشيعة 24: 328، باب 45 من أبواب كراهة ترك العشاء ولو بكعكة أو لقمة أو شربة ماء، ح1.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً