تجلّيات الفهم المأزوم
د. حسن رضائي(*)
ترجمة: حسن مطر
1ـ مدخل ــــــ
يقوم تصوري على أنّ من بين المتنوّرين الناشطين في تلك البحوث [المناظرات في بداية الثورة] هناك شخصان لكلّ منهما خصائصه الفكرية والعملية الخاصة، ويمكن لكلّ واحد منهما أن يكون له سهم كبير في إعادة هذا الحوار، وهما: السيد أبو الحسن بني صدر، والدكتور عبد الكريم سروش. وقد كانا من بين طلائع تلك المناظرات، ولا تزال آراؤهم تتردد بشأن السؤال عن الإسلام وإيران وعلاقتهما ببعضهما. من هنا، ومن أجل البدء بهذا الحوار طلبت من السيد بني صدر أن ينتقد المقال الأخير للسيد سروش في ما يتعلق بالتشيع والمهدوية والولاية، فاستجاب لذلك. وبعد أخذ وردّ بعث بانتقاداته في هذا الشأن. وعلى الرغم من أن مقال السيد سروش هو إجابة عن نقد من قبل السيد بهمن پور، ولكن النقد كان يصبح أكثر شمولية لو تم ضمّ كلا المقالين إلى بعضهما، بجميع ما فيهما من الإثارات التاريخية والكلامية. ولكن بالالتفات إلى تنوّع المسائل المذكورة فإنّ نقدها بشكل جامع يحتاج إلى بحث تفصيلي، لا يسع المجال للتطرّق إليه في هذا المختصر. إنّ المطالب التالية عبارة عن أسئلة حول الدين والديمقراطية. وقد تمّ تدوينها بالتنسيق مع السيد بني صدر؛ لتعميم الفائدة، على أمل أن يفتح هذا النهج أفقاً جديداً في مناخ التنوير الإيراني.
2ـ فقه سيادة القانون ودولة الحقوق ــــــ
لم يفصل السيد سروش في مقاله بين سيادة القانون ومحورية الحقوق. ومن هذه الزاوية هناك تناقض في كلامه حول الفقه الراهن؛ فهو من جهة يقول بأنه يرى الفقه ينزع إلى التكليف؛ ومن جهة أخرى يقول بأنّ الفقه يقوم على نظام يتمحور حول القانون، ويعوّد المسلمين على سيادة القانون. وحيث إنه يعتبر لبّ الديمقراطية متمثلاً في سيادة القانون فإنه لا يرى الشرخ بين سيادة الفقه والديمقراطية واسعاً جداً. إلا أنّ المشكلة الأساسية تكمن في أنّ الفقه إذا كان يدور حول محورية التكليف، وهو كذلك، فإنّ القانون الذي عوّد الناس أو سيعوّدهم عليه قانون مشتمل على التكليف، ومجرّد عن أيّ حقّ من الحقوق. ومن جهة أخرى فإن سيادة القانون ليست هي لبّ الديمقراطية دائماً؛ لأنّ الدكتاتورية قد تكون نمطاً من أنماط سيادة القانون([1]). إنّ الدولة الديمقراطية الحقيقية هي الدولة التي تدور حول محور الحقوق. إنّ القانون وسيلة لبيان الحق، وتبعاً للحق المشتمل عليه ينشد السيادة، ولكن يمكنه أن يكون وسيلة لبيان الباطل أيضاً. ولما كان أشخاص من قبيل: السيد عبدي قد وقعوا فريسة توهُّم أنّ سيادة القانون هي الحل، ويذهب السيد خاتمي إلى التأكيد كثيراً على (وجوب مأسسة القانون)، نجد الوقت مؤاتياً للدعوة إلى التحرر من المنطق الصوري في الفكر والبيان، والخوض في الحديث عن التناقض والإبهام. ولو أنّ المجتمعات الإسلامية تعمل على إعادة صياغة الاستبداد في ممارستها للديمقراطية فإن السبب في ذلك يعود إلى أنّ الدين قد أصبح غريباً عن نفسه؛ بفعل التغيير الحاصل في بيان الحرية، وتحوّله إلى بيان القدرة. وقد اكتملت هذه الغربة في الفقه المتأنين. من هنا، وطبقاً لأصل الثنوية، الذي يعتبر من موروثات السلطة الفلسفية القديمة للقدرة الغربية على التفكير الفقهي، فقد عمد الفقهاء إلى فصل التكليف عن الحق، وجعل التكليف مظروفاً للقانون، وأخذ بتعويد المجتمعات المسلمة على قانون أجنبيّ عن الحقوق، ولا يحتوي إلا على التكاليف والواجبات.
وعليه إنما نتمكن من تقريب الفقه إلى الديمقراطية إذا استطعنا أن نجعل الفقه ينزع إلى الحقوق، وأن نجعل محورية الحقوق لبّ الديمقراطية، وأن نعتبر القانون بياناً للحق، شريطة أن نتحرر من ثنائية التكليف والحق، الذي يحاول السيد سروش إيجاد التوازن بينهما من خلال تزريق دواء الحق في جسد الفقه المعتلّ؛ لأنّ هذه الازدواجية، التي تعبر عن الثنائية بوصفها الأصل في الهداية، تكون هي السبب في بقاء بيان الهداية على ما هو عليه بياناً للقدرة. وكلما كان بيان الهداية بياناً للقدرة فإنّ الضرورة ستقضي بتقديم التكليف على الحق، وتجعله حاكماً عليها. وبالتالي يكون الفقه هو القانون الذي يدور حول محور التكليف، ويؤدي إلى ظهور التطرف في استعمال العنف. وهنا أودّ التذكير بأن أحد الأسباب التي أدت إلى فساد الديمقراطية في المجتمعات الغربية حالياً هو أنها جعلت التكليف بديلاً عن الحق، واعتبرته بمنزلة مضمون التقنين الجديد، وخاصة في ما يتعلق بالقوانين الأمنية أو القرارات الخاصّة بالأجانب، وعلى الخصوص بعد تعزيز الميول المتطرفة في السنوات الأخيرة في العالم الغربي، ووضعها للقوانين التي تعرّض الحريات للخطر؛ بحجّة توفير الأمن، ومكافحة الإرهاب، وهي قوانين تدور بأجمعها حول محور التكليف([2]). إنّ التحرُّر من ربقة ثنائية الحق والتكليف أضحى أكثر ضرورة على المستوى العلمي والعملي من أيّ وقت مضى. ومن البديهي أنه لا يمكن الخروج من هذه الثنائية من خلال العمل بوصفة الثنوية. إنّ الحل بالنسبة لنا نحن المسلمون في الأقلّ واضح. فعلينا العودة إلى التوحيد؛ لندرك أن التكليف خارج نطاق الحق يعني الباطل وسيادة منطق القوّة. إنّ كلّ كائن يتمتع بحقوق ذاتية، وإنّ تكليفه هو العمل بحقوقه، ورعاية حقوق الآخرين.
3ـ إدراك الإمامة ــــــ
إنّ كلاًّ من السيد سروش ومنتقده السيد بهمن پور عندما يتعرضان لموضوع الإمامة والولاية يغفلان عن المحتوى. إنّ قولنا: «ما هي الإمامة؟» عبارة استفهامية، وإنّ قولنا: «من هم المثال الكامل في الإمامة؟» عبارة استفهامية أخرى. إذا أصبح الغلو في إيران عادة، وغدا أمراً طبيعياً في الحاضر والماضي، وإذا كان الإمام الصادق× قلقاً من انتقال عدوى عبادة الأشخاص من المسيحية إلى الإسلام، فكان لذلك يصرّ على تشجيع الناس على ممارسة انتقاد الأئمة، فما ذلك إلا لأنه كان يدرك الخطورة العقلية التي يشيعها المنطق الصوري، وكان يعلم أنّ سيادة هذا النهج ستؤدي إلى الغفلة عن الإمامة الحقيقية، وبذلك تضمحلّ الإمامة في دين الشخصية. فإذا عدنا إلى القرآن الكريم، وطلبنا جواب سؤالنا منه، فإننا سنجد الإمامة منسجمة كلّ الانسجام مع الديمقراطية القائمة على أصل المشاركة، وعندها سنصاب بالذهول من شدّة غرابتها عن حقيقتها، وحصرها في عبادة الأشخاص عند الشيعة، ومحورية السلطان عند أهل السنة، الذي يعدّ ظلماً كبيراً حاق بالنماذج الكاملة للإمامة. إننا لو فكرنا قرآنياً، وبعقل سليم، سندرك أنّ كل إنسان له قابلية القيادة. وكلما قام الناس بتطبيق هذه القابليات، وفقاً للحقوق، ستكون لكلّ واحد منهم ولاية على بعضهم البعض، على أساس من أصل العدل والمحبّة، وبذلك تتحقق ولاية (جمهور الناس). وعليه كلما كانت الولاية تعني سيادة القوة على الآخرين كان مفهومها مخالفاً للإمامة والولاية في المصطلح القرآني. إذاً في كل دولة شيعية تتلخص فيها الإمامة في منح السلطة المطلقة لشخص واحد على جميع الشعب، وأنّ هذا الشخص سيملك الحق في تحديد مصير مستقبل الأجيال، فإننا سنشهد حينها أمراً مخالفاً للإمامة. ولا يمكن إلا للعقل الواقع في أسر المنطق الصوري أن يضحي بالمعنى من أجل الشكل والصورة، ويذهب به الظنّ ـ كما حصل بالنسبة للسيد بهمن پور ـ إلى أنه مادامت هذه الدولة قد منحت نفسها صفة التشيّع فعلينا أن ندعمها وندافع عنها.
4ـ الإيمان والتقليد ــــــ
قال السيد سروش: «أنا لا أعارض الإيمان التقليدي». إذا كان الاعتراض في مثل هذه الموارد عملاً صحيحاً، ولا يؤدي بالإنسان ـ كما أسلفت ـ إلى الفصل بين الحقوق والواجبات، فعليه الاعتراض على مثل هذا الإيمان. ولكن ينبغي القول بأن الظرف ليس ظرف المعارضة، وإنما هو ظرف التحذير لكل من المقلِّد (بالكسر) والمقلَّد (بالفتح). فينبغي تحذير المقلَّد (بالفتح) بأنّ الوقت يستدعي العودة إلى التوحيد، وأن يضع حداً للفصل بين الفقه وحقوق الإنسان، وأن يضع نهاية لثنائية الحقوق والواجبات. وهو ما لم يتنبّه له في الآونة الأخيرة من بين فقهاء الشيعة إلا الشيخ المنتظري في الجملة. وينبغي تحذير المقلِّد (بالكسر) بأن يحرِّر عقله، وأن يتعرف إلى حقوقه، وأنه بعد التعرّف إلى حقوقه، التي هي من ذاتياته، لا يعود بحاجة إلى التقليد. وعليه أن يرى التكليف في العمل بحقوقه.
5ـ إطلاق مصطلح العلمانية ــــــ
يذهب الكاتب إلى أنّ إسرائيل لم تعد تأخذ النزعة إلى الموعود بجدية، ولا تسعى إلى تحقيقها، ولا تتراجع عن حفظ ودعم الحكومة العلمانية قيد أنملة. إلا أنّ السؤال هو: كيف يمكن اعتبار دولة إسرائيل علمانية، وهي تدعو إلى تهويد المجتمع والدولة؟ كيف يمكن القول بعلمانيتها، وهي تنظر إلى عرب إسرائيل بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية؟ كيف تكون علمانية، وهي تفرط في الغلو واعتبار اليهود (شعب الله المختار)، وتبلغ بذلك حداً يدعو (ديغول) إلى الاعتراض؟ وكيف يمكن القول بعلمانيتها عندما تجد العنصرية قائمة حتى بين اليهود القادمين من الغرب واليهود القادمين من الشرق؟ وإلى غير ذلك من أنواع التمييز العرقي والفصل العنصري.
وعليه فإنّ رفع الإبهام عن العلمانية في الوقت الراهن وشرحها بوضوح أمر ضروري؛ لأنه يطمئن المسلمين من ناحية المخاطر التالية:
أـ خطورة (خداع العامة)، وهو ما يقوم به أمثال الشيخ مصباح اليزدي؛ لأنّ هؤلاء قد اتخذوا ممّا يجهلونه وسيلة لإخافة الناس، ويستعملون المغالطات لتحذير الناس من عودة استبداد باسم العلمانية المتجدِّدة، المتمثِّلة بـ (سلالة البهلوي).
ب ـ خطر قيام الاستبداد تحت غطاء العلمانية، الذي يحذر منه علماء الاجتماع، من أمثال: (ألان تورن)، بشكل مستمر. وعليه؛ بغية الحيلولة دون الخطر الكبير، المتمثل باستخدام الدولة للعلمانية، واتخاذها ذريعة لتغيير الإنسان، وإبقائه في العبودية، يجدر بنا تجنُّب الإبهام عند الحديث عن العلمانية.
وأما المسألة الأخيرة فهي أن السيد سروش عندما قال: «إنّ المحافظين الجدد في الولايات المتحدة يذهبون أيضاً إلى انتظار ملكوت المسيح» قد خانه التعبير، فاستعمل عبارة المحافظين الجدد بدلاً من الأصوليين الأمريكيين.
الهوامش:
(*) باحث في المجال الفكري والسياسي.
([1]) لابدّ من الالتفات إلى أنّ الدراسات المقارنة بين الأنظمة السياسية المعاصرة من ناحية سيادة القانون تثبت وجود فرق بين الدكتاتورية والاستبداد. ففي الدكتاتورية، خلافاً للاستبداد، هناك سيادة للقانون. ومن باب المثال: يمكن الإشارة إلى الفرق بين دكتاتورية الأحزاب الشيوعية في الصين وبلدان أوروبا الشرقية السابقة وبين استبداد الحكومات الدكتاتورية في إيران والسعودية.
([2]) يتمّ تعريف هذا النوع من التشريعات ضمن أحدث الأدبيات الحقوقية المطروحة في الغرب على هامش الحقوق الجزائية في ما يتعلق بمواجهة الأعداء.