أحدث المقالات

دراسة فقهية مقارنة

 

د. محمّد رضا آيتي(*)

أ. عبدالجبار الزرگوشي(**)

 

مقدّمة

المدين إمّا معسرٌ؛ وإمّا موسرٌ. فالمعسر هو مَنْ ثبت إعساره بالبيِّنة أو بتصديق خصمه. وهذا بعد إثبات إعساره لا يحبس، بل يمهل حتّى يوسر؛ للآية الكريمة: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ (البقرة: 280)، إلاّ إذا كان منفقاً ما استدانه في الأعمال المحرَّمة والمعاصي، فحينئذ يسجن تعزيراً وتأديباً، ومدّة سجنه تفوَّض إلى القاضي، وتختلف باختلاف الناس، ومقدار الدين، قلّةً وكثرة.

والمدين الموسر هو مَنْ ثبت يساره بإقراره أو بالبيِّنة. وهذا يُسجَن إذا ماطل وامتنع عن وفاء الدين الحالّ؛ لظاهر الروايات التي أفتى الفقهاء حسب مفادها. فمَنْ ثبت عليه حقٌّ وامتنع عن أدائه، مع قدرته عليه، يُسجَن حتّى يؤدِّيه. وقد وقع الاختلاف حول سجن المدين المعسِر فيما لو ادَّعى الإعسار؛ فبعضٌ قال: تسمع بيِّنتُه على الإعسار؛ وبعضٌ رأى حبسه قبل استماع بيِّنته؛ بينما ذهب فريقٌ آخر إلى التفصيل بين أن يكون الدين بدل مال وأن يكون أصل الدعوى غير مال؛ ففي الأوّل يُحبَس حتّى يثبت إعساره؛ وفي الثاني لا يحبس؛ لأنّ الأصل عدم وجود المال، فيقبل قوله في الإعسار بيمينه.

وقد تناولت هذه الدراسة حبس المدين الموسِر الممتنع عن أداء دينه، وحبس المدين المعسر، ثم تطرَّقت إلى مدّة حبسه.

 

حبس المدين الموسِر الممتنع عن أداء دينه

أفتى فقهاء المذاهب الإسلاميّة بحبس المدين الموسِر القادر على الوفاء إذا ماطل وامتنع عن أداء دينه. وإليك عرضٌ وتحليل لموقف كلّ مذهب من المذاهب الإسلاميّة.

 

أوّلاً: المذهب الحنبليّ

يرى أكثر فقهاء هذا المذهب حبس المدين الموسِر إذا تقاعس عن أداء دينه. ويرى بعضهم جواز الإغلاظ عليه بالقول، فضلاً عن الحبس؛ مستدلّين بحديثٍ عن الرسول|: «ليَّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته»([1])، وقوله|: «مطل الغنيّ ظلم»([2]).

قال ابن المبارك: «يحلّ عرضه أي يغلظ عليه، وعقوبته حبسه»([3]).

وقال وكيع: «عرضه شكايته، وعقوبته حبسه»([4]).

قال ابن قدامة: «إذا امتنع الموسِر عن قضاء الدين فلغريمه ملازمته ومطالبته والإغلاظ له بالقول، فيقول: يا ظالم، يا معتدي، ونحو ذلك؛ لقول رسول الله| «ليَّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته»، فعقوبته حبسه، وعرضه أي يحلّ القول في عرضه بالإغلاظ. وقال النبيّ|: «مطل الغنيّ ظلم. وقال: إنّ لصاحب الحقّ مقالاً»([5]).

وقال ابن القيِّم الجوزيّة: «والذي يدلّ عليه الكتاب والسنّة وقواعد الشرع أنّه لا يحبس في شيء من ذلك، إلاّ أن يظهر بقرينة أنّه قادرٌ مماطِل، سواء أكان دينه عن عوض أو عن غير عوض، وسواء لزمه باختياره أو بغير اختياره؛ فإنّ الحبس عقوبة، والعقوبة إنّما تسوغ بعد تحقيق مسبِّبها. وهي من جنس الحدود، فلا يجوز إيقاعها بالشبهة، بل يتثبَّت الحاكم، ويتأمَّل حال الخصم، ويسأل عنه، فإنْ تبيَّن له مطله وظلمه ضربه إلى أن يوفّـي، أو يحبسه، ولو أنكر غريمه إعساره، فإنّ عقوبة المعذور شرعاً ظلم»([6]).

وإنكار بعض العلماء في فقه المذهب الحنبليّ مشروعيّة الحبس في الديون، معلِّلاً بأنه من الأمور المستحدثة([7])، في غير محلّه؛ لورود روايات متعدِّدة تنصّ على أنّ عليّاً وشريحاً كانا يحبسان في الدين. جاء في مسند زيد: «حدّثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ رضي الله عنهم، أنّه كان يحبس في النفقة، والدين، وفي القصاص، وفي الحدود، وفي جميع الحقوق»([8]).

وجاء في الكافي: «محمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن فضّال، عن عمّار، عن أبي عبد الله×، قال: كان أمير المؤمنين× يحبس الرجل إذا باعه، فيقسم»([9]).

وورد في مصنَّف ابن أبي شيبة: «حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا جرير، عن طلق بن معاوية، قال: كان لي على رجل ثلاثمائة درهم، فخاصمته إلى شريح، فقال الرجل: إنّهم وعدوني أن يحسنوا إليَّ، فقال شريح: إنّ الله يأمركم أنْ تؤدّوا الأمانات إلى أهلها، وأمر بحبسه»([10]).

وورد في المصنَّف أيضاً: «حدّثنا أبو بكر، قال: حدّثنا وكيع، عن عليّ بن صالح، عن عبد الأعلى، قال: شهدتُ شريحاً حبس رستم الضرير في دينٍ. قال وكيع: ما أدركنا أحداً من قضاتنا، ابن أبي ليلى وغيره، إلاّ وهو يحبس في الدين»([11]).

وجاء في مصنَّف عبد الرزّاق: «عن ابن سيرين قال: كان شريح إذا قضى على رجلٍ بحقٍّ يحبسه في المسجد إلى أن يقوم، فإنْ أعطاه حقّه، وإلا يأمر به إلى السجن»([12]). وغير ذلك من الروايات.

ثانياً: المذهب الحنفيّ

ذهب فقهاء المذهب الحنفيّ إلى حبس المدين إذا كان موسِراً قادِراً على الوفاء بدينه وتقاعس عن الدفع. ويكون الحبس بناءً على طلب الدائن.

قال الموصلي: «وإذا ثبت الحقّ للمدّعي، وسألهُ حبس غريمه، لم يحبسه، وأمره بدفع ما عليه، فإنْ امتنع حبسه، فإنْ أقرَّ أنّه معسِر خلّى سبيله»([13]).

وقال في كتاب الحجر: «ولا يحجر على الفاسق، ولا على المديون، فإنْ طلب غرماؤه حبسه حبسه حتّى يبيع ويوفّـي الدين»([14]).

وفي ذيل الحديث النبويّ الشريف: «ليَّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» قال بدر الدين العينيّ: «عقوبته أن يسجن، وقال إسحاق: فسَّر سفيان عرضه: أذاه بلسانه… واستدلّ على مشروعيّة حبس المديون إذا كان قادراً على الوفاء تأديباً له؛ لأنّه ظالم حينئذٍ، والظلم محرَّم وإنْ قلَّ»([15]).

و أجاز الإمام أبو حنيفة حبس المدين([16]).

 

ثالثاً: المذهب المالكيّ

الاتّجاه الغالب في الفقه المالكيّ جواز حبس المدين المماطِل إذا كان استيفاء الدين منه غير ممكن، أمّا لو كان له مالٌ، وأمكن للحاكم استيفاؤه منه، فلا يجوز حبسه. ولقد جاء في المدوَّنة الكبرى: «قلت: أرأيتَ الدَّيْن هل يحبس فيه مالكٌ؟ قال: قال مالك بن أنس: إذا تبيَّن للقاضي الإلداد من الغريم حبسه، قلتُ: فما قول مالك في الإلداد؟ قال: قال مالك: إذا كان له مالٌ فاتَّهمه السلطان أن يكون قد غيَّبه، قال مالك: أو مثال هؤلاء التجّار الذين يأخذون أموال الناس فيقعدون عليها، فيقولون قد ذهبت منّا، ولايعرف ذلك إلاّ بقولهم، وهم في مواضعهم، لا يعلم أنّه سرق مالهم، ولا احترق بيتهم، ولا مصيبة دخلت عليهم، ولكنَّهم يقعدون على أموال الناس، فهؤلاء يحبسون حتّى يوفّوا الناس حقوقهم، قلتُ: هل لحبس هؤلاء عند مالك حدّ؟ قال: لا، ليس لحبس هؤلاء عند مالك حدّ، ولكنّه يحبسهم أبداً حتّى يوفّوا الناس حقوقهم، أو يتبيَّن للقاضي أنّه لا مال لهم»([17]).

وجاء أيضاً: «فإنْ اتُّهم أنّه قد أخفى مالاً وغيَّبه حبسه»([18]).

وقال القرافي: «يحبس الممتنع عن دفع الحقّ؛ إلجاءً إليه»([19]).

وجاء في بداية المجتهد: «وهذا الخلاف ـ أي الحجر أو الحبس ـ بعينه يتصوَّر في مَنْ كان له مالٌ يفي دينه، فأبى أن ينصف غرماءه، هل يبيع عليه الحاكم فيقسِّمه عليهم أم يحبسه حتّى يعطيهم بيده ما عليه؟… وأمّا حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتّى يعطي ما عليه أو يموت محبوساً فيبيع القاضي حينئذٍ ماله ويقسِّمه على الغرماء… قالوا: يدلّ على حبسه قوله|: ليَّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته قالوا: العقوبة هي حبسه»([20]).

ويطرح هنا سؤالٌ، وهو: كيف يخلد في السجن بجنايةٍ حقيرةٍ، كدرهمٍ، حتّى يوفّيه، وقواعد الشرع تقتضي تقدير العقوبات بقدر الجنايات؟

ويُقال في الجواب: إن السجن عقوبة صغيرة بإزاء جناية صغيرة؛ لأنّه في كلّ لحظة يمتنع فيها المسجون عن دفع الدين يقابلها لحظة من السجن، والامتناع من أداء الحقّ ظلمٌ عقابه السجن، فهي جنايات وعقوبات متكرِّرة متقابلة، غير مخالفة لقواعد الشرع([21]).

 

رابعاً: المذهب الشافعيّ

يرى فقهاء المذهب الشافعيّ حبس المدين الملتوي والممتنع عن أداء دينه إذا كان معروفاً بالمال، بل يجب التضييق عليه، فضلاً عن الحبس. وقد جاء في كتاب الأمّ للإمام الشافعي: «إذا كان للرجل مالٌ يُرى في يديه ويظهر منه شيء، ثم قام أهل الدين عليه، فأثبتوا حقوقهم، فإنْ أخرج مالاً أو وُجد له مالٌ ظاهر يبلغ حقوقهم أُعطوا حقوقهم، ولم يحبس، فإنْ لم يظهر له مالٌ ولم يوجد له ما يبلغ حقوقهم حُبس، وبيع من ماله ما قدر عليه من شيء»([22]).

وقال الماوردي: «أمّا الممتنع من حقوق الآدميّين من ديون وغيرها فتؤخَذ جبْراً إذا أمكنت، ويحبس بها إذا تعذَّرت، إلاّ أن يكون بها معسراً»([23]).

وهناك فقهاء نسبوا القول بسجن المدين المماطل إلى المذاهب الأربعة. وفي هذا الصدد قال ابن تيميّة: «ومن كان قادراً على وفاء دينه وامتنع أُجبر على وفائه بالضرب والحبس، ونصّ على ذلك الأئمّة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم»([24]).

وقال الشوكاني: «وإلى جواز الحبس للواجد ذهبت الحنفيّة…»([25]).

 

خامساً: الظاهريّة

يرى فقهاء الظاهريّة عدم جواز حبس المدين إذا ظهر له مالٌ. ويرى ابن حزم الظاهريّ أن سجنه مع القدرة على إنصاف غرمائه ظلمٌ له. وزعم أنّ رسول الله| ما كان له سجنٌ قطّ، وأمّا إذا لم يكن للمدين مالٌ ظاهر، واشتبه أمره بين الإعسار والإيسار، فإنّه يرى حبسه حتّى إثبات إعساره. ويقول في هذا الصدد: «فإنْ لم يوجد له مالٌ فإنْ كانت الحقوق من بيع أو قرض ألزم الغرم، وسجن حتّى يثبت العدم، ولا يمنع من الخروج في طلب شهودٍ له بذلك، ولا يمنع خصمه من لزومه والمشي معه أو وكيله؛ فإنْ أثبت عدمه سُرّح بعد أن يحلف ما له مال باطن، ومنع خصمه من لزومه، وأوجر لخصومه؛ ومتى ظهر له مالٌ أنصف منه»([26]). ويقول أيضاً: «ومَنْ ثبت للناس عليه حقوقٌ من مال أو ممّا يوجب غرم مال ببيّنة عدل أو بإقرار منه صحيح بيع عليه كلّ ما يوجد له، وأنصف الغرماء، ولا يحلّ أن يسجن أصلاً، إلاّ أن يوجد له من نوع ما عليه، فينصف الناس منه بغير بيع، كمَنْ عليه دراهم ووجدت له دراهم، أو عليه طعام ووجد له طعام، وهكذا في كلّ شيء؛ لقوله تعالى: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ﴾…، ولقول الرسول|: «مطل الغنيّ ظلم». فسجنه مع القدرة على إنصاف غرمائه ظلمٌ له ولهم معاً، وحكم بما لم يوجبه الله تعالى قطّ ولا رسوله، وما كان لرسول الله سجن قطّ»([27]).

ويَرِدُ على زعمه هذا أنّ رسول الله| كان يأمر بالربط بالأعمدة، وأحياناً يأمر بالحبس في البيوت، وكان الربط بعمود أو بسارية هو السجن آنذاك؛ لعدم إعداد مكان خاصّ للسجناء. فمشروعية السجن في عهده| لا تشترط بأن يكون مكانٌ خاصٌّ للسجن في زمن الرسول|، فالمقصود هو حبس المجرم والمتخلِّف، بحيث يمنع من التصرُّف متى أراد، وهذا يتحقَّق بأيّ نحو من أنحاء الحبس، سواء كان بالربط إلى الأعمدة أو الحبس في المسجد والدهليز. ومن ثم اشترى عمر بن الخطاب دار صفوان بن أمية بمكّة بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجناً، وبنى عليّ بن أبي طالب سجناً سمّاه نافعاً. وعندما هرب منه بعض المسجونين بنى آخر من مَدَر سمّاه المخيس. جاء في مستدرك الحاكم: «إنّ النبيّ| حبس رجلاً في تهمة»([28]). وجاء في سنن أبي داوود: «بعث رسول الله| خيلاً من قبل نجد فجاءت برجلٍ من بني حنيفة، يقال له: ثمامة بن أثال، سيّد أهل اليمامة، فربطوه بساريةٍ من سواري المسجد»([29]).

وجاء في السيرة النبويّة: «فجُعلت بنت حاتم في حظيرة بباب المسجد، كانت السبايا يحبسنَ فيها»([30]).

وقال ابن الأثير: «في حديث عليّ أنّه بنى سجناً فسمّاه المخيس، وقال: بنيت بعد نافع مخيساً، باباً حصيناً، وأميناً كيساً. نافع: اسم حبس كان له من قَصَب، هرب منه طائفة المحبسين، فبنى هذا من مَدَر، وسمّاه المخيس»([31]).

وقال أبو إسحاق الشيرازيّ: «ويستحبّ أن يكون له ـ أي للقاضي ـ حبسٌ؛ لأنّ عمر اشترى داراً بمكّة بأربعة آلاف درهم، وجعلها سجناً، واتَّخذ عليٌّ سجناً»([32]).

سادساً: الزيديّة

يرى المذهب الزيديّ حبس المدين المماطِل. وقد جاء في مسند زيد: «حدّثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ رضي الله عنهم، أنّه كان يحبس في النفقة، والدين، وفي القصاص، وفي الحدود، وفي جميع الحقوق»([33]).

وذهب أحمد بن يحيى من فقهاء الزيديّة إلى حبس المدين([34]).

وفي نيل الأوطار نسب جواز حبس المدين الواجد إلى زيد بن عليّ([35]).

 

سابعاً: مذهب الشيعة الإماميّة

وردت روايات من طرق الإماميّة بحبس المدين الموسِر المماطِل. وأفتى الفقهاء الإماميّون على طبقها بالحبس. وننقل هنا بعض الروايات، ومن ثم فتاوى بعض فقهائهم:

جاء في الكافي: «كان أمير المؤمنين× يحبس الرجل إذا التوى على غرمائه، ثم يأمر فيقسَّم ماله بينهم بالحصص، فإنْ أبى باعه فيقسَّم»([36]).

ورواها الصدوق عن الأصبغ بن نباتة([37]). وكذلك رواها الشيخ الطوسيّ في التهذيب([38]).

وجاء في دعائم الإسلام: «عن جعفر بن محمّد× أنّه قال: مَنْ امتنع من دفع الحقّ، وكان موسِراً حاضراً عنده ما وجب عليه، فامتنع من أدائه، وأبى خصمه إلاّ أن يدفع إليه حقّه، فإنّه يُضرَب حتّى يقضيه، وإنْ كان الذي عليه لا يحضره إلاّ في عروض فإنّه يعطيه كفيلاً، أو يحبس له إنْ لم يجد الكفيل»([39]).

ونقل الطوسيّ في التهذيب «أنّ عليّاً× كان يحبس في الدين، فإذا تبيَّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله، حتى يستفيد مالاً»([40]).

وقال الشيخ المفيد: «إنْ اعترف المنكر بعد يمينه بالله بدعوى خصمه عليه، وندم على إنكاره، لزمه الحقّ والخروج منه إلى خصمه، فإن لم يخرج إليه منه كان له حبسه»([41]).

وقال الطوسيّ: «وإنْ توجَّه عليها ـ أي على المرأة ـ الحقّ ألزمها الخروج منه على ما يقتضيه شرع الإسلام، فإنْ امتنعت من ذلك كان له حبسها، كما أنّ له حبس الرجال»([42]).

وقال المحقِّق الحلّي: «لو امتنع المقرّ من التسليم أمر الحاكم خصمه بالملازمة، ولو التمس حبسه حبس»([43]).

كما أفتى سائر الفقهاء الإماميّة بحبسه([44]).

 

حبس المدين المعسِر

وقد يكون إعسار المدين لسوء تصرُّفه وإنفاق أمواله في الحرام والمعاصي؛ وقد يكون لغير ذلك.

وفي الصورة الثانية ـ أي عدم الإنفاق في الأعمال المحرَّمة ـ هل تسمع بيِّنة الإعسار التي يقيمها المدين قبل الحبس أم لابدّ أن يحبس أوّلاً ثم تسمع بيِّنته؟

وقع الخلاف بين العلماء في ذلك، ومن ثم هل يتنافى سجن المعسِر مع الإنظار، فيخالف ظاهر الآية: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ (البقرة: 280)؟ وهل هناك فرقٌ بين أن يكون الدَّيْن بدل مالٍ، كثمن المبيع والقرض، فيحبس، وأن يكون بدل جناية، كالدية وأرش الجنايات، فلا يحبس؟

البحث عن ذلك يكون في مسائل، وهي:

 

1ـ حبس المعسِر لو أنفق ماله في الحرام

إنّ المعسِر قد يكون احتال على الناس وخدعهم، بصفة كونه صاحب شركة تجاريّة أو مقاول، أو كان غير مؤهَّل لممارسة هذه الأعمال وتصدّى لها، فتسلَّط على أموال الناس أو الدولة، وأنفقها في أعمالٍ غير مشروعة، فإنّه حينئذٍ يصدق عليه الإعسار. والمعسر كهذا يُسجَن. وقد وردت رواية تنصّ على حبس المكري المفلِس الذي لا يملك مالاً، ويتصدّى لأعمال تجاريّة وما شابه ذلك، فيستغلّ الناس ويخدعهم بالعنوان الذي انتحله لنفسه، ويفشل في عمله؛ لعدم كونه مؤهَّلاً لذلك، فيفلس.

ونصّ الرواية هو: «روى الطوسيّ بإسناده عن الصفّار، عن عليّ بن إبراهيم، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفليّ، عن السكونيّ، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ× قال: يجب على الإمام أن يحبس الفسّاق من العلماء، والجهّال من الأطبّاء، والمفاليس من الأكرياء»([45]). والأكرياء جمع الكري، ويستعمل بمعنى المكاري والمكتري معاً، وهم المقاولون الذين يخدعون الناس، ولا يفون بالتزاماتهم. ولعله يشمل الدلاّلين ووسائط المعاملات([46]).

ولا خصوصيّة للعناوين والأصناف الواردة في الرواية، فيُستفاد منها؛ بإلغاء الخصوصية وتنقيح المناط، سجن غير المؤهَّلين من المتصدِّين للعمل الاجتماعيّ، الذين يخدعون الناس، ويستغلونهم. فالمتعامل من هذا النوع إذا أفلس، وطلب الغرماء حبسه، يحبس تعزيراً وتأديباً.

أفتى تقي الدين الحلبيّ ـ من فقهاء الإماميّة ـ بحبس المعسِر إذا أنفق أمواله في الأعمال المحرَّمة والمعاصي، وفي الأغراض السيّئة غير المشروعة. وقد قال: «ويكره للدائن المطالبة بالدين مع الغناء عنه، وظنّ حاجة الغريم إلى التوسُّع به، ولا يحلّ له ذلك مع العلم أو الظنّ بعجز الغريم عن أدائه، ويلزم النظرة إلى حين التمكُّن منه، وله الاحتساب به من الزكاة إذا كان الغريم من أهلها. وإنْ كان مخالِفاً للحقّ أو منفِقاً ما استدانه في حرامٍ فله حبسه»([47]).

ولكنْ مع ذلك فإنّ حبسه يتنافى مع الإنظار، فيخالف ظاهر الآية: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾؛ لأنّ الآية بعمومها تفيد أنّ كلّ معسِر ينظر إلى ميسرة.

ومن الممكن أن يُقال: إنّ الآية تفيد الإنظار لكلّ معسِر، ما عدا المعسِر الذي ينفق أمواله في الأعمال المحرَّمة والمعاصي. فبناءً على ذلك يُحبَس المدين المعسِر الذي أنفق الأموال التي استدانها في الحرام والمعاصي.

2ـ حبس المدين المدَّعي الإعسار إذا كان الدَّيْن بدل مالٍ

أفتى بعض الفقهاء بحبس المدين الذي يدَّعي الإعسار إذا كان أصل الدَّيْن مالاً، بأنْ كان بدل مالٍ، كالقرض وثمن المبيع؛ لأنّه إذا ثبت المال في يده ثبت غناه، وزوال غناه محتملٌ، فالأصل بقاء المال، والغالب إذا خرج من ملكه مال فقد دخل في ملكه مال يقابله. وكذلك يحبس بما لم يكن بدل مالٍ، لكنّه لزمه عن عقدٍ التزمه، كبدل الخلع والكفالة والمهر والحوالة؛ لأنّ إقدامه على ما يلزم ذلك المال دليل القدرة عليه. ولا يحبس فيما لو كان أصل الدين بغير مالٍ، بأنْ يكون بدل إتلاف وأرش الجنايات والدية؛ لأنّ الأصل عدم المال، فيقبل قوله مع اليمين.

قال الموصلي من فقهاء الأحناف: «…إنْ قال المدَّعي: هو موسِرٌ، وهو يقول: أنا معسِر، فإذا القاضي يعرف يساره، أو كان الدين بدل مالٍ، كالثمن والقرض، أو التزمه، كالمهر والكفالة وبدل الخلع ونحوه، حبسه، ولا يحبسه في ما سوى ذلك إذا ادَّعى الفقر، إلاّ أن تقوم البيِّنة أنّ له مالاً فيحبسه، فإذا حبسه مدّة يغلب على ظنّه أنّه لو كان له مالٌ أظهره، وسأل عن حاله، فلم يظهر له مالٌ، خلّى سبيله»([48]).

ويرى ذلك أيضاً كلٌّ من: الزيعلي([49])؛ وابن الهمام([50])؛ وابن عابدين([51])، من الحنفية.

وقال ابن قدامة من فقهاء الحنابلة: «…وإنْ لم يجد له مالاً ظاهراً فادَّعى الإعسار، فصدَّقه غريمه، لم يحبس؛ وإنْ كذَّبه غريمه فلا يخلو إما أنْ يكون عرف له مال؛ أو لم يعرف؛ فإنْ عُرف له مالٌ؛ لكون الدين ثبت عن معاوضة، كالقرض والبيع، أو عُرف له أصل مال سوى هذا، فالقول قول غريمه مع يمينه، فإذا حلف أنّه ذو مال حبس حتّى تشهد البيِّنة بإعساره»([52]).

وذهب أبو زكريّا يحيي النوويّ([53])، من فقهاء الشافعيّة، إلى أنّ المدين يسجن في كلّ دَيْن لزمه بدلاً عن مال حصل في يده، كالقرض وثمن المبيع، وكذلك إذا لم يكن بدل مال لكنّه لزمه عن عقد التزمه، كالحوالة وبدل الخلع، ولا يسجن في ما سوى ذلك؛ لأنّه منكر متمسِّك بالأصل، والأصل أنّ الإنسان يولد ولا مال له، وصاحب الدين يدَّعي أمراً عارضاً، فالقول قول المَدين مع يمينه، ما لم يكذِّبه الظاهر.

وقال ابن حزم الظاهريّ: «فإنْ لم يوجد له مالٌ فإنْ كانت الحقوق من بيع أو قرض ألزم الغرم، وسجن حتّى يثبت العدم، ولا يمنع من الخروج في طلب شهود له بذلك، ولا يمنع خصمه من لزومه والمشي معه أو وكيله، فإنْ أثبت عدمه سرّح بعد أن يحلف»([54]).

وذهب فقهاء الشيعة الإماميّة إلى سجن المَدين لو كان أصل الدعوى مالاً، وإلى عدم جواز سجنه فيما لو كان أصل الدعوى بغير مال.

فقال زين الدين العامليّ في هذا الصدد: «إنّما يحبس مع دعوى الإعسار قبل إثباته لو كان أصل الدين مالاً، كالقرض، أو عوضاً عن مالٍ، كثمن المبيع، فلو انتفى الأمران، كالجناية والإتلاف، قُبِل قوله في الإعسار بيمينه؛ لأصالة عدم المال»([55]).

وقال المحقِّق الحلّي: «وإنْ لم يكن له مالٌ ظاهرٌ، وادَّعى الإعسار، فإنْ وَجَد البيِّنة، قضي بها، وإن عدمها، وكان له أصل مال، أو كان أصل الدعوى مالاً، حبس حتّى يثبت إعساره»([56]).

وقال العلاّمة الحلّي: «وإنْ لم يظهر له مالٌ، ولا بيِّنة على دعوى الإعسار، حبس حتّى يظهر إعساره، إنْ عُرف له أصل مال، أو كان أصل الدعوى مالاً، وإلاّ قبل قوله»([57]).

وقال السيد محمد جواد العامليّ في هذا المجال: «حبس حتّى يثبت إعساره، وذلك يكون بالبيِّنة المطَّلعة على باطن أمره، فإنّ الأصل بقاء المال، والأصل عدم تلفه. والظاهر لا يقاوم الاستصحاب، وأصل العدم»([58]).

 

 3ـ اذا أقام المدين بيِّنة على إعساره فهل تقبل قبل السجن أم لا تقبل؟

اختلف الفقهاء في شأن وقت سماع بيِّنة الإعسار التي يُقيمها المَدين الذي يدَّعيه، هل تسمع قبل السجن أو بعده؟

يمكن حصر هذا الخلاف في ثلاثة آراء:

 

الرأي الأوّل: بيِّنة الإعسار تُسمَع بعد الحبس

ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ بيِّنة الإعسار تسمع بعد الحبس؛ لأنّ الأصل في المدين اليسار. فوفقاً لهذا الرأي يحبس المدين بمجرَّد ثبوت الدين، دون حاجة لإثبات يسار المدين.

جاء في المغني: «قال أبو حنيفة: لا تسمع ـ أي البيِّنة ـ في الحال، ويحبس شهراً، وروي: ثلاثة أشهر، وروي: أربعة أشهر، حتّى يغلب على ظنّ الحاكم أنّه لو كان له مال لأظهره»([59]).

وكذلك يرى الإمام مالك أنّ بيِّنة الإعسار تسمع بعد الحبس. وقد جاء في تبصرة الحكّام: «إذا زعم ـ أي المدين ـ أنّه أُصيب ماله، وشهد له شهود أنه ما عنده شيء، أرى أنْ يسجن، ولا يعجل سراحه من السجن. وقال ابن الماجشون: لابدّ من سجن الغريم، ولا يتمّ التفليس إلاّ به، وإنْ شهد أنّه لا شيء عنده»([60]).

لا يخفى أنّ هذا الرأي يتنافى مع آية الإنظار: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾.

فبمقتضى الآية لابدّ من استماع بيِّنة الإعسار، وإمهاله حتّى يوسِر، فلا يجوز حبسه.

الرأي الثاني: بيِّنة الإعسار تُسمَع قبل الحبس

ذهب أكثر الفقهاء إلى هذا الرأي، فيجب على القاضي أن لا يعجل في حبس المدين قبل أن يسمع ما لديه من أدلّة على عسرته؛ لأنّ حبسه بعد قيام بيِّنة الإعسار ظلم له.

قال ابن قدامة: «وتسمع البيِّنة في الحال، وبهذا قال الشافعيّ»([61]).

وقال بدر الدين العينيّ: «وإنْ ثبت إعساره وجب إنظاره، وحرم حبسه»([62]). ويرى ذلك الإمام أحمد بن حنبل([63])؛ والإمام الشافعي([64]).

وقال العلاّمة الحلّي، من فقهاء الإماميّة: «فإنْ ادَّعى الإعسار، وثبت صدقه، إمّا بالبيِّنة المطَّلعة على حاله، أو بتصديق الخصم، لم يحلّ حبسه، وأنظر إلى أن يوسِر»([65]). وقال أيضاً: «لا تُسمَع بيِّنة الإعسار في الحال، وبه قال الشافعيّ وأحمد؛ لأنّ كلّ بيِّنة جاز سماعها بعد مدّة جاز سماعها في الحال، كسائر البيِّنات»([66]).

وقال السيّد العامليّ: «فإن ثبت الإعسار لم يحلّ حبسه. قال: باتّفاق أصحابنا. وخالفت الحنفيّة؛ فقال بعضٌ يحبس بعد البيِّنة شهراً؛ وبعض شهرَيْن؛ وبعضٌ ثلاثة؛ وبعضٌ أربعة، حتّى يغلب على الظنّ أنّه لو كان له مالٌ لم يصبر على حبس تلك المدة»([67]).

وكذلك قال الشيخ المفيد([68])، وأبو الصلاح الحلبيّ([69])، وسلاّر([70])، وابن حمزة([71]).

وقد وردت روايات تدلّ على أنّ المدين يحبَس حتّى يثبت إفلاسه وإعساره، ومنها:

«عن عليّ×: إذا حبس القاضي رجلاً في دين، ثم تبيَّن له إفلاسه وحاجته، أخرجه حتّى يستفيد مالاً»([72]).

و«روى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين×: وقضى عليّ× في الدين أنّه يحبس صاحبه، فإذا تبيَّن إفلاسه والحاجة فيخلّى سبيله حتّى يستفيد مالاً»([73]).

وروى الطوسيّ «أنّ عليّاً× كان يحبس في الدين، فإذا تبيَّن له إفلاس وحاجة خلّى سبيله حتّى يستفيد مالاً»([74]).

وهنا يطرح سؤالٌ، وهو: هل أن حبس المدين حتّى إثبات إعساره ـ كما جاء في الروايات، وأفتى به بعض الفقهاء ـ يتنافى مع آية الإنظار؟

ويقال في الجواب: إن الآية الكريمة تدلّ على الإنظار وإمهال المدين بعد إثبات إعساره، وحبسُه قبل إثبات الإعسار لا ينافي مقتضى الآية.

 

الرأي الثالث

التفصيل بين أن يكون أصل الدعوى مالاً وبين أن يكون أصل الدعوى بغير مال. ففي الأول لا تُسمَع بيِّنة الإعسار من المدين قبل الحبس؛ وفي الثاني تُسمَع قبل الحبس، بل يُقبَل قوله في الإعسار مع يمينه. وقد تقدَّم بيان ذلك في المسألة الثانية، فلا نعيد.

وفي صدد حلّ التعارض بين آية الإنظار والأخبار الدالّة على الحبس قال السيد الخوانساري: «قد يُقال: مقتضى الآية الشريفة: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾ والأخبار الدالّة على الحبس أنّ الإعسار شرطٌ في وجوب الإنظار، لا أن يكون الإيسار شرطاً في جواز الإجبار والحبس، فإذا لم يتبيَّن كونه معسِراً يجوز إجباره وحبسه، وإن لم يثبت كونه موسِراً. ومع قطع النظر عن الآية الشريفة والأخبار نقول: إنّ العجز مانعٌ عن وجوب الأداء وجواز المطالبة، لا أن تكون القدرة شرطاً فيهما. ويمكن أن يقال: مقتضى الموثَّق المذكور (ليَّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته) ـ بعد تفسير العقوبة بالحبس ـ شرطيّة الإيسار في جواز الحبس، ومع التسليم ما الدليل على جواز الحبس مع عدم إحراز عدم المانع؟ إلاّ أن يتمسَّك بالعموم أو الإطلاق في الشبهة المصداقيّة، لكنْ يستفاد من بعض الأخبار جواز الحبس حتّى يتبيَّن الإعسار، ولعلّه للاحتياط في مال المسلم»([75]).

ويمكن أن يقال: لا فائدة لاستصحاب بقاء المال فيما لو كان أصل الدعوى مالاً؛ لأن هذا الاستصحاب لا يجعله ذا مالٍ واقعاً؛ كي يحلّ عقوبته. إلاّ أن يُقال: إنه واجدٌ تعبُّداً، والحبس عقوبة، فإذا لم يثبت كونه واجداً للمال لم يتحقَّق الموضوع للعقوبة. ثم إذا قيل: إنّ حبس شخص قبل موجبه غير معقول فإنّه يُقال: إنّ سجن المتَّهم باليسر قبل أن ينكشف حاله، من كونه معسِراً أم لا، من موارد السجن الاستبرائيّ، وهو جائز شرعاً، ووردت فيه روايات([76])، وأفتى به بعض الفقهاء([77]).

مدّة حبس المدين

أفتى فقهاء المذاهب الإسلاميّة بحبس المدين الموسِر المماطِل في أداء دينه إلى أن يقضيه ويدفعه. فلو امتنع وماطَل في الدفع يبقى في السجن ولا يُفرَج عنه. وفي المدوَّنة الكبرى نقل رأي مالك بن أنس بأنّه يرى حبس المدين حتّى يوفّـي دينه: «قلتُ: أرأيتَ الدين هل يحبس فيه مالك؟ قال: قال مالك بن أنس: إذا تبيَّن للقاضي الإلداد من الغريم حبسه، قلتُ: فما قول مالك في الإلداد؟ قال: قال مالك: إذا كان له مالٌ فاتَّهمه السلطان أن يكون قد غيَّبه، قال مالك: أو مثل هؤلاء التجّار الذين يأخذون أموال الناس فيقعدون عليها فيقولون قد ذهبت منّا، ولا يعرف ذلك إلاّ بقولهم، وهم في مواضعهم؛ لا يعلم أنه سرق مالهم، ولا احترق بيتهم، ولا مصيبة دخلت عليهم، ولكنّهم يقعدون على أموال الناس، فهؤلاء يحبسون حتّى يوفّوا الناس حقوقهم، قلتُ: هل لحبس هؤلاء عند مالك حدّ؟ قال: لا، ليس لحبس هؤلاء عند مالك حدّ، ولكنّه يحبسهم أبداً، حتّى يوفّوا الناس حقوقهم، أو يتبيّن للقاضي أنّه لا مال لهم، فاذا تبيَّن أنّه لا مال لهم أخرجهم ولم يحبسهم»([78]).

وجاء في الخلاف: «قال أبو حنيفة: لا يجوز له ـ أي للحاكم ـ الحجر عليه بحالٍ، بل يحبسه أبداً إلى أن يقضيه»([79]).

وقال ابن رشد: «…حجج الفريق الثاني الذين قالوا بالحبس حتّى يعطي ما عليه، أو يموت محبوساً فيبيع القاضي حينئذ ماله ويقسِّمه على الغرماء، قالوا: يدلّ على حبسه قوله|: ليَّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته، قالوا: العقوبة هي حبسه»([80]).

وقال الشهيد الأول، من فقهاء الإماميّة: «ضابط الحبس توقُّف استخراج الحقّ عليه. ويثبت في مواضع:…والممتنع من أداء الحقّ مع قدرته عليه. فإنْ قلتَ: القواعد تقتضي أن العقوبة بقدر الجناية، ومَنْ امتنع عن أداء درهم حبس حتّى يؤدّيه، فربما طال الحبس، وهذه عقوبةٌ عظيمة في مقابلة جناية حقيرة، قلتُ: لمّا استمر امتناعه قوبل بكلّ ساعة من ساعات الامتناع بساعةٍ من ساعات الحبس، فهي جنايات متكرِّرة، وعقوبات متكرِّرة»([81]).

وقال العلاّمة الحلّي: «وإنْ عرف كذبه حبس حتّى يخرج من الحقّ»([82]).

فوفقاً لذلك حبسه مغيّى ومقيَّد بدفع الدين، ولا يجوز حبسه أكثر من ذلك. وقد دلَّت الروايات([83]) على سجن مدَّعي الإعسار حتّى يثبت إعساره وإفلاسه. وعلى هذا الرأي أكثر الفقهاء. ولكن هناك فريقٌ من الفقهاء يرى حبسه حتّى لو أقام البيِّنة على إعساره، ويعتبر هذا الحبس تأديباً له. وقد قال أبو دقيقة في هذا المجال: «واختلفوا في مدّة الحبس: قيل: شهرين أو ثلاثة، وبعضهم قدَّره بشهر؛ وبعضهم بأربعة؛ وبعضهم بسنة. والصحيح ما ذكرتُ لك أوّلاً (أي يفوَّض إلى رأي القاضي)؛ لأنّ الناس يختلفون في احتمال الحبس، ويتفاوتون تفاوتاً كثيراً، فيفوَّض إلى رأي القاضي»([84]).

وفي الحديث عن سلمة بن سليمان: لا يحبس الإنسان في الدين أكثر من أربعين يوماً([85]).

وذهب جمهور العلماء إلى أن المرجع في تقدير المدّة القاضي؛ لأنّ الغرض من سجنه هو التضييق عليه، حتّى إذا كان له مالٌ قضى دينه منه. وهذا يختلف باختلاف الدين كثرةً وقلّة([86]).

وقد عرفتَ في ما تقدَّم أنّ حبس المدين المعسِر بعد إثبات إعساره منافٍ لآية الإنظار والروايات. ولذلك لايجوز حبسه بعد إقامة البيِّنة على إعساره. نعم، لو كان منفِقاً ما استدانه في حرامٍ ومعصية يُحبَس تعزيراً، والمرجع في تقدير مدّة حبسه القاضي.

 

نتائج البحث

بعد هذا الاستعراض لجوانب الموضوع يمكننا أن نشير إلى أهمّ النتائج المستخلصة من هذه الدراسة، وهي:

1ـ يرى معظم فقهاء المذهب الحنفيّ والشافعيّ والحنبليّ والزيديّ سجن المدين الموسِر القادر على الوفاء بدينه إذا ماطل وتقاعس عن الأداء. ويرى بعض فقهاء المذهب الحنبليّ وفقهاء الشافعيّة التضييق وجواز الإغلاظ عليه بالقول، فضلاً عن السجن.

2ـ الاتّجاه الغالب في الفقه المالكيّ جواز سجن المدين المماطِل إذا كان استيفاء الدين منه غير ممكنٍ، فيسجن حتّى يوفّـي الناس حقوقهم، أمّا إذا كان له مال وأمكن استيفاء الدين منه فلا يجوز حبسه.

3ـ يرى فقهاء الظاهريّة عدم جواز سجن المدين إذا ظهر له مالٌ، وإنّما يستوفي الدين من ماله. ولكن لو اشتبه أمره بين الإيسار والإعسار يسجن حتّى إثبات إعساره.

4ـ ذهب فقهاء الإماميّة إلى سجن المدين الموسِر المماطل. واستدلوا بروايات على ذلك. ويرون بقاءه في السجن إلى أن يؤدّي دينه. ويأمره القاضي ببيع أمواله لأداء حقوق غرمائه.

5ـ المدين المعسِر الذي أنفق أمواله التي استدانها في الأعمال المحرَّمة والمعاصي يسجن. ولا منافاة بين الحكم بحبسه وآية الإنظار: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ﴾؛ فالآية تفيد الإنظار وإمهال المعسِر إلا إذا أنفق أمواله في الحرام والمعصية، فحينئذ يُسجَن.

6ـ المدين الذي يدَّعي الإعسار يُسجَن إذا كان الدين بدل مالٍ؛ لأنّ الأصل بقاء المال، ولا يُطلَق سراحُه إلاّ إذا أثبت إعساره بالبيِّنة أو بتصديق خصمه له. وعلى خلاف ذلك إذا لم يكن الدين بدل مالٍ، كما لو كان عن جناية؛ فالأصل عدم المال، ويقبل قوله مع يمينه ما لم يكذِّبه ظاهر حاله.

7ـ اختلف الفقهاء حول سجن المدين إذا أقام البيِّنة على إعساره:

أـ يُحبَس أوّلاً، ثم تسمع بيِّنته على الإعسار.

وهذا الرأي يتنافى مع الإنظار في الآية. ولذلك تقدَّم الآية. ولابدّ من استماع بيِّنته قبل حبسه.

ب ـ تُسمَع بيِّنة الإعسار قبل الحبس.

وقد ذهب معظم الفقهاء إلى هذا الرأي، ووردت به روايات، كما تدل عليه آية الإنظار.

ج ـ التفصيل بين أن يكون أصل الدعوى مالاً فلا تسمع البيِّنة قبل الحبس، وبين أن يكون أصل الدعوى بغير مالٍ فتسمع قبل الحبس، ويقبل قوله في الإعسار.

8ـ يُطلَق سراح المَدين من السجن إذا توفَّر أحد الدواعي التالية:

أـ دفع الدَّيْن.

ب ـ رضا صاحب الدَّيْن.

ج ـ قيام البيِّنة على الإعسار، أو على تلف المال.

د ـ تصديق خصمه له على الإعسار.

هـ ـ حلف مدَّعي الإعسار فيما لو كان أصل الدعوى بغير مالٍ.

ي ـ عند الضرورة، كذهاب العقل والمرض المستعصي.

9ـ أنواع الحبس؛ بسبب الدَّيْن بصفةٍ عامّة، ثلاثة:

أـ حبس تعزير وتأديب في حقّ المَدين المعسِر الذي أنفق ما استدانه في الحرام والمعصية.

ب ـ حبس استبراء واختبار في حقّ المَدين المجهول الحال، الذي يدَّعي الإعسار، حتّى يكشف عن وضعه الماليّ.

ج ـ حبس تضييق في حقّ المَدين الموسِر الممتنِع عن أداء الدين. فإنّ كلّ مَنْ ثبت عليه حقّ وامتنع عن أدائه مع قدرته عليه يُسجَن حتّى يؤدّيه.

10ـ اختلف الفقهاء في مدّة حبس المدين؛ فقدَّرها بعضهم بشهرين؛ وبعضٌ بثلاثة أشهر؛ وبعض بأربعة؛ وآخرون بستّة أشهر؛ وقيل: يسجن نصف شهر؛ كما قيل: يسجن سنة؛ كما قيل: يؤبَّد حبسه حتّى يقضي دينه إذا عُلمت قدرته على الأداء.

ذهب فقهاء الإماميّة وجمهور العلماء إلى أن المرجع في تقدير المدّة القاضي، فيفوَّض أمره إلى القاضي.

والغاية من سجنه إلجاؤه إلى دفع حقوق الناس، وهذا يختلف باختلاف الناس، واختلاف الدين كثرةً وقلّة.

الهوامش:

(*) أستاذ مساعد في جامعة آزاد الإسلاميّة، فرع العلوم والتحقيقات، في طهران.

(**) طالب دكتوراه في جامعة آزاد الإسلاميّة، فرع العلوم والتحقيقات، في طهران.

([1]) سنن أبي داوود 3: 313؛ صحيح البخاري 2: 58، سنن ابن ماجة 2: 811؛ مسند أحمد 4: 222.

([2]) صحيح مسلم 5: 34؛ صحيح البخاري 12: 109.

([3]) صحيح البخاري 2: 58.

([4]) مصنَّف ابن أبي شيبة 7: 79.

([5]) ابن قدامة، المغني 4: 504 ـ 505.

([6]) ابن القيِّم الجوزيّة، الطرق الحکمية: 63.

([7]) ابن مفلح المقدسيّ، الفروع 2: 649.

([8]) البقّال، مسند زيد: 265.

([9]) الکليني، الکافي 5: 102؛ الطوسيّ، تهذيب الأحکام 6: 191.

([10]) مصنَّف ابن أبي شيبة 6: 248؛ مصنَّف عبد الرزّاق 8: 305.

([11]) مصنَّف ابن أبي شيبة 6: 250.

([12]) مصنَّف عبد الرزّاق 8: 306.

([13]) الموصلي، الاختيار 2: 89.

([14]) المصدر السابق: 98.

([15]) العيني، عمدة القارئ 12: 236.

([16]) البحر الرائق 8: 94؛ الهداية في شرح البداية 3: 208؛ البدائع 7: 173.

([17]) مالك بن أنس، المدوَّنة الکبرى 5: 205.

([18]) المصدر السابق 4: 105.

([19]) القرافي، الفروق 4: 79.

([20]) ابن رشد، بداية المجتهد 2: 285.

([21]) انظر: القرافي، الفروق 4: 69.

([22]) الشافعي، الأمّ 3: 189.

([23]) الماوردي، الأحکام السلطانيّة: 263.

([24]) ابن تيميّة، الفتاوى الکبرى 4: 480.

([25]) الشوکانيّ، نيل الأوطار 5: 241.

([26]) ابن حزم الظاهريّ، المحلّى 8: 172.

([27]) المصدر السابق 8: 168 ـ 169.

([28]) الحاکم النيسابوريّ، المستدرك 4: 102؛ سنن الترمذيّ 4: 28؛ سنن أبي داوود 3: 314؛ مصنَّف عبد الرزّاق 10: 216.

([29]) سنن أبي داوود 3: 57.

([30]) ابن هشام، السيرة النبويّة 4: 225.

([31]) ابن الأثير، النهاية 2: 92.

([32]) أبو إسحاق الشيرازيّ، المهذَّب 2: 294.

([33]) مسند زيد: 265.

([34]) المرتضى، عيون الأزهار: 459.

([35]) الشوکانيّ، نيل الأوطار 5: 245.

([36]) الکافي 5: 102.

([37]) الصدوق، من لا يحضره الفقيه 3: 19.

([38]) الطوسيّ، تهذيب الأحكام 6: 299.

([39]) التميمي المغربيّ، دعائم الإسلام 2: 540.

([40]) تهذيب الأحكام 6: 196.

([41]) المفيد، المقنعة: 114.

([42]) الطوسيّ، النهاية، 348.

([43]) المحقِّق الحلّي، المختصر النافع: 281.

([44]) انظر: أبو الصلاح الحلبيّ، الکافي في الفقه: 448؛ عليّ بن حمزة، الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 213؛ المحقِّق الحلّي، شرائع الإسلام 2: 95؛ يحيى بن سعيد، الجامع للشرائع: 525؛ العلاّمة الحلّي، تذکرة الفقهاء 2: 656؛ الشهيد الأوّل، القواعد والفوائد 2: 192؛ المحقِّق القمّيّ، غنائم الأيّام: 279؛ النراقيّ، مستند الشيعة 2: 547؛ اليزديّ، العروة الوثقى 3: 50؛ المحقِّق العراقيّ، شرح التبصرة: 76؛ الخوئيّ، مباني تکملة المنهاج 1: 24.

([45]) الحرّ العامليّ، وسائل الشيعة 18: 221.

([46]) انظر: دراسات في ولاية الفقيه 2: 483.

([47]) الکافي في الفقه: 331.

([48]) سورة البقرة، الآية 280.

([49]) انظر: تبيين الحقائق 4: 180.

([50]) انظر: شرح فتح القدير 7: 279.

([51]) انظر: ردّ المحتار على الدرّ المختار 5: 384.

([52]) انظر: المغني 4: 499.

([53]) انظر: روضة الطالبين 4: 137.

([54]) ابن حزم، المحلّى 8: 172.

([55]) الشهيد الثاني، الروضة البهيّة في شرح اللمعة الدمشقيّة 4: 40، تحقيق: السيّد محمد کلانتر.

([56]) شرائع الإسلام 2: 95.

([57]) العلاّمة الحلّي، قواعد الأحکام 1: 176.

([58]) محمدجواد العامليّ، مفتاح الکرامة 10: 74.

([59]) ابن قدامة، المغني 4: 500.

([60]) ابن فرحون، تبصرة الحکّام 21: 15.

([61]) المغني 4: 500.

([62]) عمدة القارئ 12: 236.

([63]) انظر: فتاوى ابن تيميّة 4: 105، مسألة 235.

([64]) انظر: الأمّ 3: 189.

([65]) قواعد الاحکام 2: 209.

([66]) تذکرة الفقهاء 2: 58.

([67]) مفتاح الکرامة 10: 72.

([68]) انظر: المقنعة: 111.

([69]) انظر: الکافي في الفقه: 341.

([70]) انظر: المراسم: 230.

([71]) انظر: الوسيلة إلى نيل الفضيلة: 274.

([72]) مسند زيد: 262.

([73]) من لا يحضره الفقيه 3: 19.

([74]) تهذيب الأحكام 6: 196.

([75]) الخوانساري، جامع المدارك 6: 25.

([76]) انظر: مسند زيد: 262.

([77]) انظر: الروضة البهيّة 4: 40.

([78]) المدوّنة الکبرى 5: 205.

([79]) الخلاف 1: 621.

([80]) بداية المجتهد 2: 285.

([81]) القواعد والفوائد 2: 192؛ انظر: القرافي، الفروق 4: 79.

([82]) قواعد الأحکام 2: 209.

([83]) انظر: تهذيب الأحكام 6: 300.

([84]) الاختيار 2: 90 (الهامش)؛ انظر: ردّ المحتار على الدر المختار (حاشية ابن عابدين) 5: 426؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للدردير 3: 280؛ حاشية الطرابلسيّ الحنفيّ: 174.

([85]) انظر: الذهبيّ، ميزان الاعتدال 4: 482.

([86]) انظر: تبصرة الحکّام 2: 326.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً