أحدث المقالات

 تذهب وجهة نظر فاحصة سجّلها بعض الباحثين الغربيين، وهي تجيب عن السؤال: لماذا تقدّمت أوروبا في عصور الظلام فيما تراجع المسلمون الذين كانوا سابقين لأوروبا بقرون عديدة؟ ولماذا حمل الأوروبيون لواء العلم والمعرفة وهم في وضع ثقافي حرج فيما وضع المسلمون هذا اللواء وبين يديهم نتاج هائل راكموه خلال سبعة أو ثمانية قرون ذهبية؟

 تذهب وجهة النظر هذه إلى تحميل نظام التعليم في العصر العباسي مسؤولية ما حصل، ذلك النظام الذي ظلّ بعد انهيار الدولة العباسية مهيمناً على المدارس المسلمة في مختلف فروع العلم تقريباً.
 ليس من المستبعد أن يكون لنظام التعليم دور كبير في تراجع الحضارة الإسلامية، ولا نقصد بهذا النظام المواد أو الشكل الظاهري لنظم التربية والتعليم، بل تدخل القضية ما هو أعمق من ذلك، وأحبّ هنا أن أسلّط الضوء على علاقة المعلم بالمتعلّم، وهي إحدى أهم أضلاع نظام التعليم في العصر العباسي. وقد كتب العلماء المسلمون ـ لا سيما الأخلاقيون منهم ـ في الآداب التي تحكم علاقة المعلّم بالمتعلّم، واشتهر بين هذه الكتب والأعمال كتاب الشهيد الثاني (965هـ) «منية المريد في آداب المفيد والمستفيد» وقدّموا في هذه الأعمال الكثير من الأدب الرفيع الذي ما زلنا نحتاجه اليوم أعظم الحاجة، رغم أن روح العقلية التي تحكم بعض هذه الكتب لا تبعد كثيراً عن النقد والملاحظة.
 1 ـ المشكلة الأساسية هنا هي محورية الأستاذ والمعلّم، ففي نظام التعليم الذي ورثناه عن العصر العباسي، وتأثرت به الكتب الأخلاقية، كان المهيمن هو أسلوب الحلقات التي كانت تعقد في المساجد ونحوها، فيتحلّق الطلاب حول الأستاذ ويلقي عليهم العلم ويكتبون، كان يملي عليهم الأحاديث وغيرها وكانوا يكتبون من حوله، وبهذه الطريقة أنتج نظام التلقين أو محورية الأستاذ أو نظام الحلقات، ويعاني هذا النظام من عدّة مشاكل، ونحن هنا لا ندرسه بوصفه ظاهرة طبيعية مادية يجلس فيها رجلٌ في الوسط ويتحلّقون حوله ليقدّم المعلومات التي توصّل إليها لهم، وإنّما نرصد هنا الصورة الذهنية والنفسية التي يتركها هذا الشكل المادي الظاهري حتى لو تغيّر، فليس المهم أن أجلس اليوم على كراسي أو طبقات أو أستخدم الشاشات التعليمية، إنّما المهم أن لا تلاحقنا دوماً الصورة الذهنية ونظام التفكير والتعلّم الذي تركت الحلقات الدراسية أثرها فيه.
 من هنا يعاب على بعض محاولات تطوير المدارس الدينية أنها ركّزت بشكل أكبر على الجانب الصوري من تحديث نظام التعليم؛ فاهتمّت بالكراسي وطاولات الدرس واللوح والشاشات التعليمية، وتصوير الدروس، وتسهيل نقلها على شبكة المعلوماتية أو الأقراص المدمجة وغير ذلك من الأمور التي لا نرتاب في أنها تطوّر تلقائي طبيعي يفترض حصوله بعد دراسته ودراسة جدوائيته في هذه المؤسّسة التعليمية أو تلك .. فيما ظلّت العقلية هي العقلية السابقة على مستوى نظم التعليم مما سنشير إلى بعض سلبياته وتأثيراته هنا.
 ومن أبرز مشاكل هذا النظام ما يلي:ـ
 أـ اعتماد المعيار الكمي في العلم دون الكيفي، أي أن هذا النظام وبعد فترة من الزمن سوف يساعد على زيادة كمية المعلومات التي أملكها، لأن المعلّم يلقي عليّ يومياً حمولات من الأفكار والمعلومات فيضاعف من الكم المعلوماتي الذي أملكه، لكن هذا لوحده لن يمنحني القدرة على تمثل شخصية الأستاذ، أي أنه لن يعلمني كيف أنتج الأفكار كما ينتجها هذا الذي أتشرف بالحضور بين يديه، من هنا، أحتاج إلى نظام معين يقوم بتمريني على هذه العملية، مثل نظام المباحثة الذي يستخدم في المدارس الدينية، وهو نظام رائع ومتميّز في سدّ بعض النقص الذي سأواجهه بسبب المنهج التلقيني.
 

أما لو اعتمدت منهجاً آخر يجمع بين أن يلقنني الأستاذ وأمارس بنفسي أمامه عملية إنتاج المعرفة، فسوف أكسب خبرتين معاً: العنصر الكمي الذي يقدمه لي الأستاذ، والعنصر الكيفي الذي أقدمه أمام الأستاذ كي يصوّب منهجي في الطرح ويمنحني قدرة الممارسة على فعل المعرفة وليس فقط على أخذها من الغير، من هنا الحاجة ـ إلى جانب نظام التلقين ـ إلى جلسات إنتاج المعرفة أمام الأستاذ، بهذه الطريقة نجمع بين الفعل والإنفعال، بين الأخذ والعطاء، بين الإيجابية والسلبية بهذا المعنى، فلا أخسر العنصر الكمي ولا يفوتني العنصر الكيفي.

 ب ـ كسر حواجز الرهبة والهيبة، فنحن نعرف أن سلوك الإنسان لا يقوم فقط على العلم وإنّما على الإرادة أيضاً، فقد يظهر الأستاذ أمامي لعشر سنوات متواصلة يقوم فيها بممارسة فعل إنتاج المعرفة، وأجيد ملاحظة المنهج والأسلوب، وأتعرف كيف ينتج الأفكار، لكن هذا لا يكفي؛ لأن ظهور الأستاذ أمام ناظريَّ لا يعطيني سوى العلم بمنهج الإنتاج، لكنه لا يخلق في داخلي الإرادة القوية لتمثل شخصيته، لأن الإرادة هذه ليست قراراً فحسب وإنّما هي كسر لحواجز الرهبة وجدران الخوف والهيبة؛ فإذا لم أمارس هذا الفعل أمام أستاذ وأنظر الرضا في عينيه قد يصعب عليَّ الوثوق بنفسي بالقدرة على فعل شيء، ما لم أكن قويّ الإرادة جداً عصامياً ذا ثقة بالغة بالنفس.
 من هنا، الحاجة الماسّة لنظام الفعل الإنتاجي للمعرفة تحت نظر الأستاذ؛ لأن الاعتياد على هذا الفعل سيخلق الثقة بالنفس وليس المهم مجرّد المباحثة فقط بين الطلاب أنفسهم يتدارسون ما درسوه، وإنّما صناعة المعرفة أمام الأستاذ أيضاً، ليكتسبوا الإرادة والرغبة ويكسروا المعوقات الحائلة دون الثقة بالنفس.
 2 ـ وإذا تخطينا نظام التلقين بهذه الصورة، نجد أنفسنا نواجه العلاقة التربوية بين الأستاذ والتلميذ، فالذي نلاحظه في كثير من مراكزنا التعليمية في الحوزات والجامعات، أن الأستاذ يضع لنفسه هالة وهيبة في نفوس طلابه فيتربى الطالب على الخوف والرهبة من الأستاذ كأنه فزاعة، هذه هي بعض أساليبنا في المدارس الابتدائية والثانوية، وفي الجامعات والحوزات، فالأستاذ له هالة مقدّسة حتى أن بعض نظمنا الأخلاقية حوّلته إلى شيء مقدّس يُخاف منه، وقد صدّق هو نفسه أنه فوق الآخرين فيتعامل مع تلامذته كزعيم سياسي أو قائد عسكري … هنا نجد كاريزما الأساتذة التي تفرض هيمنتها على الطلاب فتحطّم فيهم الإرادة والاندفاع والثقة، وتخلق الحواجز بين الطرفين.
 والذي نلاحظه على هذا الصعيد الذي يقتل حسّ الفعل في التلميذ:
 أـ يعتمد بعض الأساتذة وبعض أدبياتنا الأخلاقية على أسلوب تخويف العقل الباطن للتلميذ، فعندما يناقش يشعره الأستاذ بأنه ما زال أمامه طريق طويل للنقد، وأن المطلوب منه أن يفهم فقط، وإذا فهم ما يقول فقد حظي بخير الدنيا والآخرة، وقد رأينا وسمعنا عن بعض الأساتذة الجامعيين ينهر طلاب ما قبل الدكتوراه عن فعل ذلك، أي عن فعل التفكير والنقد، كأنه بذلك يخلق حاجزاً حامياً له عن ملاحظاتهم، لأن نفسه عصية عن القبول بنقد أصاغر التلامذة الذين تفصلهم عنه مسافات من الدراسة والتعلّم، ولقد تحوّل بعض أساتذة الجامعات في بلداننا الإسلامية إلى ما يشبه جنرالات الحرب الذين يخشى منهم الآخرون؛ فأي قيمة لنقل المعلومات دون حماية تربوية؟! وما معنى فصل التربية عن التعليم؟! وحتى لو دخلنا المدارس الدينية سنجد الأمر نفسه لكن ضمن صيغ وأساليب أخرى من التخويف والترهيب، فبعض الأساتذة ـ ومنهم كبار الأساتذة ـ لا ينفك يدمر شخصية طلابه، ويطيل أمامهم مسافات الوصول إلى إنتاج المعرفة، ظناً منه أنه يقدس العلم ويحول دون التطاول عليه، ناسياً أو متناسياً أن هذا النوع من النظم التربوية في التعليم يقتل حسّ الإبداع ويخلق مركّبات النقص في النفوس، فالقاعدة هنا تقول: دعه يخطأ حتى يصل إلى الصواب.
 ب ـ وينتهج بعض الأساتذة أسلوب تعقيد الأفكار بدل تبسيطها، أو يقدّم لطلاب مرحلة معيّنة معلومات تفوق مرحلتهم، وهو بذلك أحياناً يعوّض لنفسه شيئاً ما عندما يرغب بالظهور أمامهم بمظهر القوي العزيز فيستعين بالتعقيد كسياج يحمي من مداخلات طلابه، أو يعزّز صورته أمامهم، فيغرقون في فهم كلامه، ويعقدون المباحثات والمدارسات بينهم كي يعيدوا مطالعة درسه والتفكير به حتى يفهموه.
 هذا النوع من تقديم المعلومات يساعد أيضاً على إعاقة الفعل الإنتاجي في المعرفة؛ لأنّه سيشغل الأجيال الجديدة في فهم ما قاله غيرهم، بدل أن يفسح لهم في الوقت والمجال كي ينتجوا ما عندهم، ولو أننا في معاهدنا وجامعاتنا الدينية وغيرها نحمل روحاً أبوية وتربوية لاختصرنا الوقت على الجيل الجديد، ومكّناه من أن ينشغل بالإبداع وخلق الأفكار بدل أن نغرقه ونستنزف طاقاته في مجرّد فهم ما أبدعه أو ما قاله فقط السابقون عليه.
 ج ـ قلما نجد في أوساطنا التعليميّة علاقات شخصية حميمة بين الأستاذ وتلميذه، فخارج قاعات الدرس وغرفه لا نجد علاقةً تربط الطرفين إلا قليلاً، أو اهتماماً من أحد الطرفين بالآخر، لا سيما الأستاذ بطلابه، مع أننا بحاجة ـ من وجهة نظر تربوية ودينية ـ إلى فتح علاقات صداقة، فلماذا يخشى بعض الأساتذة أن يصبح صديقاً لطلابه خارج قاعات الدراسة؟ هل يمكن تفسير ذلك في بعض الأحيان بأنه رغبة في خلق الهالة المقدّسة حوله كي يحافظ على الوضع الطبقي الذي يرضي الكبرياء عند العقل الباطن للإنسان؟
 إنّنا بحاجة إلى أساتذة يصادقون تلاميذهم ولا يحسّسونهم بالفارق الطبقي، وطبعاً قدر المكنة؛ لأن هذا يساعد على ثقتهم بأنفسهم، فنحن نتفهم الظروف أحياناً لكثرة الطلاب أو الوضع الأمني أو الانشغالات أو ما شابه ذلك، ولا أقلّ من عدم الحيلولة دون خلق هذا النوع من العلاقة، وهذا هو معنى التواضع في الآداب الإسلامية، فليس التواضع إسدالاً للكتفين وطأطأة للرأس وانحناء للظهر وتسبيلاً للأهداب وتلفظاً بالكلمات المتواضعة التي تجامل هنا وهناك، بل التواضع مواقف جادة تكلّف الإنسان الكثير من موقعه ومكانته وهيبته ولو للوهلة الأولى، لكن الله يعوّض عمن يتواضع بالرفعة عنده، فهذا هو الأدب الإسلامي الرفيع الذي لا نريد له أن يتحوّل إلى بروتوكولات ومجاملات ظاهرية يظهر زيفها في اللحظات الحرجة، بل هو تربية نفسية صعبة، إنه مواجهة مع الذات في رغبتها بالتفوّق السلبي على الآخرين.
 نحن لا ننكر أن بعض أشكال التواضع التي يذكرها بعض الأخلاقيين تهدر كرامة الإنسان وعزّته، وهو ما لا يرضاه الله تعالى للمؤمن، لكنّ هذا لا يعني التذرع لتكريس مقولات طبقية لا تمثل سوى أسماء سميناها نحن وآباؤنا من قبل، نعم، التواضع مواقف جادّة تكلّف الإنسان أحياناً، فقد يخسر بعض الهيبة على المستوى الاجتماعي، لأن الناس اعتادت ـ سيما في بلداننا ـ على احترام من يقمعها حتى بهذه الطريقة الطبقية، وعدم الازدراء بمن يحترمها ويتودّد إليها؛ نتيجة واقعنا المنهزم نفسياً على غير صعيد في أمتنا الإسلامية، فيقنع الإنسان نفسه بأن تواضعي أو ركوبي سيارة غير استثنائية أو عيشي في بيت عادي غير مرفّه أو ابتسامتي للآخرين أو زيارتهم في بيوتهم أو السماح لهم بنقدي أو العيش معهم كواحد منهم أو … هذا كلّه إهانة لكرامتي ومكانتي وموقعي، كيف كان النبي وأهل البيت مصداقاً لعنوان «كان والله فينا كأحدنا»؟ (أُنظر: أمالي الصدوق: 724؛ وخصائص الأئمة: 71؛ وشرح الأخبار 2: 391 ـ 392؛ وذخائر العقبى: 100؛ والاستيعاب 3: 1107 ـ 1108؛ وشرح ابن أبي الحديد 1: 25، و 18: 225؛ وتاريخ ابن عساكر 24: 402 و …)، هل كانوا يميزون أنفسهم بالعبوس أو بعض الحركات الهادئة المصطنعة أو قمع الآخرين عن السؤال أو النقد؟ ولا نعرف بحقّ كيف وصل أولئك الأخلاقيون والعرفاء إلى منزلة تساوي المدح والذم؟ وهل استخدموا هذه الطرق أم غيرها؟
 إن تخفيف هذا التمايز الطبقي بين الأساتذة والتلامذة في مدارسنا وجامعاتنا وفي معاهدنا الدينية سيساعد على خلق الثقة بنفس التلميذ وعدم تهيّب المستقبل، وهو ما سيعزّز أيضاً فرص الإبداع والفعل عنده.
 د ـ وفي سياق العلاقة التربوية يأتي دور المدح والذم الذي يقدّمه الأستاذ للطالب؛ حيث يتحرّج العديد من الأساتذة من مدح بعض تلامذتهم المميّزين، وهذا الحرج له تبريراته في الكثير من الأحيان، سيما إذا كان الوسط موبوءاً؛ حيث يذهب الطالب لاستغلال المدح الذي كتبه الأساتذة له أو قالوه في حقّه، وبطريقة تبتعد عن الأخلاقية والأدب؛ مما يدفع العديد من الأساتذة للإحجام عن مدح طلابهم حذراً من حالات من هذا النوع، وهذا هاجس مقبول يتفهمه الإنسان السويّ؛ لكن لا يفترض أن يهيمن على حياة الأستاذ فيذهب الصالح بجريرة السيء من التلامذة، ويخسر الجوّ العلمي المدح المشجّع الذي يخلق في نفسية الطالب طاقة كهربائية هائلة تدفعه نحو الأمام وتوفّر عليه مسافات طويلة في بعض الأحيان.
 في المقابل، وعند الذم ـ وهو مطلوب لتأديب الطالب أو توجيهه أو إرشاده ـ لا يفترض القسوة في الذم حدّ تدمير روحية الطالب وثقته؛ حيث تجد بعض الأساتذة الذين يلقون محاضراتهم على المئات من الطلاب، يوحون لهم بأن أحداً منهم لا يفهم ما يقول الأستاذ، وأنّه إنّما يخاطب عدداً بسيطاً من الحاضرين!! أيّ أسلوبٍ مدمّر هذا بعيد عن القيم الأخلاقية والآداب الإسلامية حيث يهين الأستاذ مئات الطلاب بهذه الطريقة القاسية؟! ونحن لا نضرب الأمثلة الفرضية هنا بل نقدّم أمثلة واقعية لمسناها في حياتنا وحياة من نعرف.
 لا قيمة للعلم بلا تربية، ولا أثر للمعرفة بلا تزكية.
 هـ ـ وفي سياق منطق مدح الطالب وذمّه تأتي قضية منحه ما يدلّ على موقعه العلمي، فنحن نجد هنا مشكلةً على الصعيدين: الجامعي؛ والديني.
 أما مشكلة الوضع الجامعي فهي السياسات التي تضعها الكثير من دولنا المسلمة للحدّ من منح الشهادات العليا؛ خوفاً من مسألة تأمين فرص العمل، بل إنّ الوصول إلى المراحل الدراسية العليا في العديد من بلداننا الإسلامية لا يُشرط ـ إما إطلاقاً أو فقط ـ بالمؤهل العلمي للطالب، بل لابد من (واسطة) سياسية أو ذات نفوذ اجتماعي أو مالي، لكي يتأمن دخولـه إلى الموقع الذي يفترض أن تُدْخله إليه مؤهلاته العلمية، وعبر هذا الطريق يدخل الغني ـ ولو لم يكن مؤهلاً ـ إلى الجامعة ومراحلها العليا دونالفقير ولو كان مؤهلاً، ويدخل صاحب النفوذ والعلاقات دون المؤهل الذي لا يملك نفوذاً من هذا النوع.
 ويعمّ منطق: «الولاءات قبل الكفاءات»، ويصبح الولاء السياسي مقدّماً على المؤهلات العلمية في دخول الجامعات والتخرّج منها، وتأمين فرص العمل و..، وهذه المشكلة عندما تعمّ تفقد البلدان نخبها وتخسر طاقاتها، وتضيع جهود أبنائها، وهذا ما يحصل ـ ومع كامل الحزن والأسف ـ في أكثر من موقع في بلداننا الإسلامية.
 وأما مشكلة الوضع الديني، وفي المعاهد والحوزات الدينية، فنجد في بعض مواقعها بعض مظاهر المنطق السالف الذكر، فإذا لم تنتمِ إلى تيار معيّن يضيّق عليك في هذه الحوزة أو ذاك المعهد الديني، حتى لو كنت مؤهلاً علمياً، ولا نقاش في ذلك عند أحد، وفي بعض الحوزات إذا تسرّب أنك لا تقلّد فلاناً أو تقلِّد فلاناً، خسرتَ بعض المواقع والمصالح، ولو كنت موالياً هنا أو هناك نلت درجةً أعلى وأرفع، ولم تقف عند حدٍّ لا تتجاوزه.
 هذه المشكلة الموجودة تقف إلى جانبها مشكلة أخرى، وهي مشكلة الشهادات، فحديثاً ـ في الوسط الشيعي ـ بدأ مشروع تسليم شهادات تدلّل على موقع الطالب العلمي ـ ولو دلالة إشارية ـ ومقدار ما قضاه في دراساته الدينية، وهذا عمل مشكور بدأ من مشروع كلية الفقه في النجف، لكنه شهد نهضة اليوم في مركز الحوزة العلمية في مدينة قم في إيران، وبالتحديد (جامعة المصطفى|)، لكن الوضع ما زال يسوده في مناطق أخرى نهجٌ لا يعتمد على وثيقة، ولا يدلّل على معرفة؛ فإن عدمها ليس دليلاً حاسماً أيضاً، بل يفتح المجال للمزيد من الفوضى، علماً أن من الضروري تحديد وضع الطالب؛ لأن ذلك يعطيه الفرصة لتحمّل مسؤولياته.
 وفي هذا الإطار قضية شهادات الاجتهاد؛ فهناك مزاجان عامان في الحوزات العلمية ومنذ قديم الأيام: مزاج بالغ التشدّد، حتى لا يعطي الأستاذ لآلاف من طلابه عبر الزمن أية شهادة اجتهاد رغم تدريسه عشرات السنين، إلا نادراً؛ ومزاج أقلّ تشدّداً يفسح المجال أكثر للثقة بالمستويات العلمية للطلاب.
 نحن نعتقد أنه يجب وضع ضابط موضوعي يعطي شهادات الاجتهاد، لا بطريقة متساهلة مفرطة، ولا بطريقة متشدّدة محتاطة، كأنّ شهادة الاجتهاد اعترافٌ بالنبوّة، ومن وجهة نظر شخصية نجزم بأن هناك المئات ممن يستحقون شهادات الاجتهاد لا تمنح لهم؛ إما عدم ثقة؛ أو عدم علاقة؛ أو تحسباً لمحذور؛ أو…
 فالاجتهاد المتجزئ ليس أعلميةً، ولا تصدّياً، بل هو شهادة بالعلم والمعرفة، ومشكلة مشاكلنا أننا ما زلنا نعتقد أن كل مجتهد هو نائب الإمام المعصوم، وحجة الله على الأرض، وأهلٌ للمرجعية الدينية، فيما من يملك منصباً من هذا النوع يشترط فيه سلسلة شروط تليق بهذا المنصب، أحدها فقط الاجتهاد في الفقه والأصول، فهذا الاختزال أضرّ بعدّة جهات، وإن أفاد من جهات أخرى أقلّ أهمية.
 لا ينبغي الاستخفاف بجهود الطلاب المتميزين ـ وهم كُثُر ـ ، ولا يجدر تحطيم عنفوانهم وحدّة ذكائهم، فنحن نملك الكثير الكثير من هذه الطاقات في حوزاتنا العلمية والحمد لله، وتغييبها وانعدام الثقة بها في أوساطنا؛ سعياً وراء نهج الاحتياط، ومنهاج تقديم دفع المفسدة المحتملة على جلب المصلحة المحتملة.. خسّرنا الكثير من الإمكانات والفرص.
 نحن ندعو إلى نهج متوازن في هذا الموضوع؛ ذلك أننا لا نقبل بتسهيل الأمور العلمية وتبسيطها كما يفعل بعض، أو جعلها في موقعٍ متأخّرٍ جداً لحساب مواقع أخرى، لكن هذا لا يعني الإسراف في التشدّد مما يفقدنا حضور طاقات هادرة وواعدة.
 ومما يتصل بهذا الموضوع مسألة احترام جهود التلامذة، والآخرين عموماً، في ما يقدّمونه من مساعدات علمية للأستاذ أو لمؤسسة علمية، فقد وجدنا ظاهرة واسعة الانتشار في بعض الأوساط، وهي أن بعض الطلاب قد يساعدون أستاذهم في إعداد بحث ما، ويكون لهم دور فاعل في هذا الأمر، لكن عندما يراد طبع هذا العمل وإخراجه للناس نلاحظ غياب أسماء الذين شاركوا فيه وحضور اسم الأستاذ فقط، وهذا ظلم كبير رضي به التلميذ أو لم يرض؛ فالمطلوب تشجيعه وعدم مصادرة جهوده، والإعلان عن خدماته التي قدّمها؛ فإنّ هذا هو مقتضى الأمانة والصدق، لا أن يسهم العشرات في تأليف كتاب ثم يصادر الأستاذ هذا الجهد ويُصدر الكتاب باسمه، ليبقى الكتاب لـه عبر التاريخ؛ ويقنع التلميذ بالكلام المعسول أو بالبدل المادي، فهذا ظلم كبير، بل لقد وجدنا بعض من يكتب لغيره ويتقاضى أجراً، ثم تصدر الكتب بأسماء ليست لأصحابها، ولا أدري كيف ينسجم هذا الوضع مع القيم الرفيعة للدين، ومع قيم: عدم بخس الناس أشياءهم، ومع قيم احترام الغير في نفسه وماله وعرضه وما يصدر منه، ومع قيم الصدق والوفاء؟!
 وـ ومن منطلق أن التعليم مسؤولية، وليس منصباً فحسب، أحببت في هذا الإطار أن أستشهد ببعض النصوص الدينية، ففي رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين جاء: «وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله عز وجل إنما جعلك قيماً لهم في ما آتاك من العلم، وفتح لك من خزانة الحكمة، فإن أحسنت في تعليم الناس، ولم تخرق بهم، ولم تضجر عليهم، زادك الله من فضله، وإن أنت منعت الناس علمك، أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك، كان حقاً على الله عز وجل أن يسلبك العلم وبهاءه، ويسقط من القلوب محلّك» (انظر: الصدوق، الأمالي: 453؛ والخصال: 567؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 621:2 و…).
 هذا النص الدالّ يقدّم لنا عدّه مفاهيم:
 المفهوم الأوّل: مفهوم إعطاء العلم، وهو مفهوم زكاة العلم الذي ورد في الروايات الحث عليه، ففي خبرٍ عن الإمام علي×: «وما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا» (نهج البلاغة 4: 110؛ وخصائص الأئمة: 125 و…)؛ فالتعليم فريضة، وهذا ما يناقض احتكار العلم، أو الزعم بأنه لابد أن يُبخل به، فالبخل بالعلم غير صحيح، إلا مع وجود المانع عن إعطاء العلم، لا أنه المبدأ في ذلك.
 وفي الخبر عن علي× قال: «..والمال تنقصه النفقة والعلم يزكو على الإنفاق» (الخصال: 186؛ وخصائص الأئمة: 105؛ والإرشاد 1: 227؛ وجامع بيان العلم وفضله 1: 57؛ وتاريخ بغداد 6: 376 و..).
 فما نجده عند بعضٍ من الاستخفاف بالعقول، ولهذا يضنّ بالعلم، ولا يكشف عنه، بحجّة أن المطلوب هو الطاعة، وليست المعرفة إلا لأهلها؛ كلامٌ لا نجده ينطبق تماماً ـ إلا في حالات استثنائية ـ على الثقافة الدينية، وهي ثقافة بث المعرفة ونشر العلم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} ]البقرة: 159[، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ]البقرة:174[، وقال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ…} ]المائدة: من الآية 15[.
 فالبخل على الناس بالحق والعلم؛ بحجة احترام الحق وهيبة العلم، بدل مساعدة الناس في فهم الحق وإدراك العلم، مبدأٌ غير أصيل في الثقافة الإسلامية، وأعتقد أن ظروف القمع التي مرّت على الفلاسفة والمتصوّفة لعبت دوراً تاريخياً في نشر مثل هذه الثقافة على أنها مبدأ، وليست استثناءً.
 المفهوم الثاني: الرفق والصبر على من نعلّمه، مقابل الخرق والضجر والحماقة وعدم الإحسان في ممارسة التعليم، وهذا ما يلاحظ كثيراً من قلّة صبر بعض المعلّمين، ومنهم شخصيات كبيرة في هذا المضمار، وفي هذا الإطار يقول سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}]آل عمران: 159[.
 فالرحمة والرأفة في التربية والتعليم مبدأ أصيل، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} ]التوبة:128[.
 أما منطق القسوة وانعدام الصبر والحلم من النفوس، وعدم مراعاة أواسط الطلبة، فهو خلاف العدل والإنصاف.
 3ـ تحدّثنا سابقاً عن ضرورة الربط والدمج بين التربية والتعليم، وأن أيّ فصل بينهما يؤدي إلى الإضرار حتى بإنتاجية التعليم نفسه، فالتعليم ليس علاقة معرفية فقط، في اتصال عقلين ببعضهما، بل هو علاقة تستمرّ لتربط القلوب أيضاً، من حيث نشعر أو لا نشعر.
 ولهذا نختم بالحديث عن صفة الأستاذ في نفسه، وخارج إطار قاعات الدراسة وصفوف التعليم، وهي صفة لابد أن يتصف بها الداعية إلى الله أيضاً، أن يتناسب القول والفعل، وليس هذا وظيفة علماء الأخلاق فقط، بل وظيفة مدرسي العلوم كافة في دائرة ما يوجّهون به طلابهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} ]الصف:2ـ3[، وقال سبحانه: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} ]البقرة:44[.
 وقد توصّلنا في أبحاثنا الفقهية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أنه لا يبعد ثبوت حكم إلزامي آخر بأن لا يتصف الإنسان بأنه ممن يقول ما لا يفعل أو يأمر بما لا يأتي وينهى عن ما لا يترك، فالتعنون بهذا العنوان محّرم، دون أن يعني ذلك اشتراط العدالة في الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وتفصيله موكول إلى محلّه.
 وفي مقابل صفة الأستاذ تقع صفة الطالب، وأهمها الصبر؛ فإن طريق العلم والمعرفة عسير وطويل وشاق، فعليه أن يقصد التقرّب إلى الله تعالى بذلك، لا أن يقصد أن يصبح كذا وكذا في العلم ليصفي حساباً مع فلان وفلان..، قال تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا}

]الكهف: 66 ـ 69[.

 إن الحديث عن هموم التربية والتعليم لا يكاد ينتهي؛ فالمشكلات كثيرة والواقع مرير، لكننا نسأل الله تعالى أن يوفق الصالحين من عباده لتحقيق المزيد من معاني الخير والعطاء في حياة الإنسان والعالم.
 {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} ]الرحمن: 1 ـ 4[.
 
 ________________________________________
 * نشر هذا المقال على قسمين في الأعداد: 12 ـ 14، من مجلّة نصوص معاصرة، خريف ـ ربيع، 2007 ـ 2008م.
 




Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً