قراءةٌ حقوقية وأخلاقية في آية الضرب
أ. عماد الدين الباقي(*)
مدخلٌ إلى البحث وضرورته
في ما يتعلَّق بالتجديد الفكري بشأن المرأة وحقوق الإنسان هناك الكثير من المسائل والموضوعات العامة والخاصّة. وهناك من المسائل الخاصّة والجزئية بضع آيات تتناول: تعدُّد الزوجات، والضرب (العقوبة الجسدية للزوجة)، والإرث، والحجاب، والبلوغ والتكليف، والقوامة، وعدم المساواة بين المرأة والرجل في الدية، وما إلى ذلك.
وقد اختَرْتُ في هذه المناسبة التي جمعتنا أن أتناول بالبحث الآية 34 من سورة النساء المتعلِّقة بضرب الزوجة، بوصفه مسألةً خاصّة وبارزة؛ لكونها قد اعتبرت من المصادق الواضحة لنقض حقوق الإنسان والمرأة.
وقد عملت في الفقرة العاشرة تحت عنوان (نتائج البحث) على إظهار التطبيقات والثمار العملية لهذا البحث.
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن ثلث جرائم القتل المرتكبة في إيران تحصل داخل الأُسَر، وهي في الغالب تتمثَّل بقتل الزوج أو الزوجة، ممّا يثبت وجود معضلةٍ وأزمة حادّة، والتي تعود في بعض أسبابها وجذورها إلى عدم المساواة في الحقوق.
وتتمثَّل الصيغة المتطرِّفة للدفاع عن حقوق المرأة في انتهاك حقوق الرجل، وهناك من أصحاب الفكر السطحي مَنْ يرى أنّه كلما تمّ اتّخاذ مواقف أكثر امتهاناً وتشدُّداً من الرجل كان ذلك أدعى إلى ترسيخ حقوق المرأة.
إن تحويل الواقعية العادية المتمثِّلة في خلق الكائن الحيّ ـ ومنه: الإنسان ـ من ذكرٍ وأنثى إلى واقعية غير عادية، وإعطاء دور السيادة للمرأة بَدَلاً من إعطاء هذا الدور للرجل، يعتبر من الأشكال المختلفة لنقض حقوق الإنسان.
إن الموجود في قاموس حقوق الإنسان هو سيادة الإنسان بما هو إنسان، والفضيلة ثابتة للإنسانية والتقوى، بعيداً عن تصنيف الإنسان وتقسيمه إلى ذكر وأنثى. ومن هذه الناحية لا بُدَّ من إعادة قراءة ونقد المسائل المتقدِّمة.
إن البحث بشأن آية الضرب بحثٌ خاصّ وجزئي، وأما تظهيره وإبرازه فيأتي من منطلق أن هذه الآية تعتبر من أكثر الآيات إثارةً للجدل. وقد تمّ الاستناد إليها من قبل الناقدين. وهناك الكثير من المقالات والمسائل المتعدِّدة التي تحتجّ لموقفها بهذه الآية؛ لتبرير موقفها المناوئ للقرآن.
وبطبيعة الحال عندما نروم الحديث في موضوع الدين وحقوق الإنسان وحقوق المرأة يعتبر هذا الموضوع من أحدث المسائل المطروحة في العالم المعاصر. وقد كثر النزاع والكلام بشأنها حتّى في العالم العربي. وبطبيعة الحال فإنّهم أكثر تقدُّماً وأكثر تحرُّراً في تناول هذه المسألة. وقد شاهدت في بعض المواقع على اليوتيوب مناظرة تلفزيونية بين عدد من المفكِّرين حول هذه الآية([1])، الأمر الذي يُثبت أن هذه المسألة تعتبر تحدِّياً لكافّة المسلمين بمَنْ فيهم المجتمعات العربيّة أيضاً.
وقد تعرَّضت بدوري إلى السؤال من جهتين:
الجهة الدينية الممثّلة بالمتديِّنين أو المنتقدين للدين.
والجهة التي تمثِّل حقوق الإنسان، والتي ترى أن هذه الآية مخالفة لمتبنياتهم المتعلِّقة بحقوق الإنسان. وحيث إن حقوق الإنسان تمثِّل بديهة أو أصلاً متعارفاً في منظومتي الفكرية كان يتعيَّن عليَّ أن أبيِّن موقفي في هذا الشأن.
أنا أعتبر نفسي منخرطاً في سلك المتديِّنين، ولكنْ طبقاً لتعريفي الخاصّ للدين، وهو تعريفٌ تغلب فيه المعنويات والأخلاق على الجوانب الأخرى. وفي الوقت نفسه فإن الاختلاف بين رؤيتي ورؤية المجدِّد الديني يكمن في أن منطلق المجدِّد الديني في هذا البحث يتمّ عبر إعادة تفسيره؛ إذ يكون أسلوبه أقرب إلى المتكلِّمين، في حين أن نقطة انطلاقي في هذا البحث تبدأ من حقوق الإنسان، ومقارنة المفاهيم والنظريات الدينية بحقوق الإنسان بنظرةٍ توفيقية جامعة.
ومن هنا تكون المحورية للبحث الرابع والسادس، وأما سائر البحوث الأخرى فتأتي في خدمة هذين البحثين، ولا سيَّما البحث الرابع منهما، الخاصّ بنفي العنف ضدّ المرأة بوصفه الفلسفة الرئيسة لهذا الحكم.
هناك طيفٌ من الناقدين يرى أن هذه الآية تمثِّل واحدةً من نقاط الضعف الكبيرة التي يعاني منها القرآن. والذي نريد الوصول إليه هنا هو: هل يمكن الالتزام بهذا الادّعاء لو قمنا بشيءٍ من التدقيق الفكري والنقد العلمي أيضاً؟
إنّ رؤيتي ـ كما سوف أبيِّنها ـ تقوم على أن تسمية هذه الآية بـ «آية الوَعْظ» أصحّ وأدقّ من تسميتها بـ «آية الضَّرْب».
أروم بحث هذه الآية ـ بوصفها نصّاً ـ بقطع النظر عما لو كان القرآن كتاباً مقدَّساً أم لا، وبغضّ النظر عمّا لو كان وحياً سماوياً أو بشرياً. كما أريد أن أثبت أنّ هذه الآية عبارةٌ عن قضيّةٍ ذات حدَّين: حدٍّ حقوقي؛ وحدٍّ أخلاقي، وأنّ حدّها الأخلاقي لم يَحْظَ إلاّ بالقليل من الاهتمام.
وبطبيعة الحال هناك بعض المؤلَّفات المنشورة باللغة الفارسية في هذا الشأن. ومن أحدث الإصدارات في هذا المجال: كتاب «نوانديشي ديني ومسأله زنان»([2])، وكذلك «شخصيت وحقوق زن در إسلام»([3])، بقلم: المحقِّق الفاضل مهدي مهريزي؛ وكتاب «زن در كشاكش سنَّت وتجدُّد»([4])، بقلم: السيد محمد حكيم پور، والتي تناولت في بعض عناوينها شأن نزول الآية؛ وسابقة هذه الأبحاث في القرن الأخير، وآراء المفكِّرين الإسلاميين. ولكنَّنا نسعى هنا إلى الاقتصار على الأقلّ من التكرار، بالإضافة إلى بيان بعض المسائل الجديدة والمبتكرة.
الآية مورد البحث
قوله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ (النساء: 34).
لقد نزلت هذه الآية في المدينة المنوَّرة. وسوف أترك الجزء الأول من هذه الآية المتعلِّق بالقوامة والفضيلة إلى مجالٍ آخر، وأركِّز البحث هنا على القسم الثاني منها. والذي يهمُّنا منه هو عبارة: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ﴾.
1ـ افتراضٌ باطل
هناك مَنْ يسعى إلى إعادة جذور العنف الموجود ضدّ المرأة في إيران وسائر المجتمعات الإسلامية الأخرى، مثل: أفغانستان والحجاز وغيرهما من الأقطار الأخرى، إلى هذا النوع من الآيات.
إلاّ أن هذا الافتراض باطلٌ وغير علمي، ويمكن القول: إنه نوع من السفسطة؛ إذ إن الدراسات تؤكِّد على أن العنف ضدّ المرأة ظاهرةٌ ثقافية واجتماعية تعود بجذورها إلى أسباب وعوامل أجنبية عن الدِّين. فهي موجودةٌ في المجتمع المسلم، كما هي موجودة في المجتمعات المسيحية واليهودية والبوذية، والبدوية والمتحضِّرة، بل وحتّى الماركسية والعلمانية واللادينية والليبرالية أيضاً، حيث كان العنف ضدّ المرأة في هذه المجتمعات قائماً، ولا يزال. وفي الوقت نفسه إنَّما نتحدَّث من باب وجود بعض الانتقادات التي تحتِّم علينا أن نبيِّن موقفنا الواضح في هذا الشأن، من منطلق الدفاع عن حقوق الإنسان.
إن جذور المشكلة تعود إلى أمرٍ آخر. ولكي نعالج هذه المشكلة لا بُدَّ من العمل على معالجة الضمير والأخلاق، وتَبَعاً لذلك سوف يتغيَّر فهمنا للنصّ ـ سواء أكان ذلك النصّ هو المرأة أو المجتمع أو الكتاب المقدَّس ـ أيضاً.
يبدو أن هذه الآراء قبل أن تكون متأثِّرة بالدين الذي يعتنقه الفرد تتأثَّر بالتجارب الشخصية للأفراد في الحياة، بمعنى أن رؤية الرجل إلى المرأة تتأثَّر إلى حدٍّ كبير بعلاقته بزوجته، كما أن الرؤية الإيجابية أو السلبية للنساء تجاه الرجال تتأثَّر بأخلاق أزواجهنَّ.
2ـ الوضع المثالي والواقعي
إن من أسوأ الأفعال هو ضرب كلّ إنسان. إن العقوبة الجسدية بحقِّ الإنسان قبيحةٌ، وبحقّ المرأة أشدُّ قبحاً. وهذا حكمٌ وجدانيّ وفطري.
إن للمرأة على الرجل درجةً من بعض الجهات الوجودية، كما أن للرجل على المرأة درجةً من بعض الجهات الوجودية الأخرى: ﴿وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ﴾ (البقرة: 228).
وأما من الناحية المثالية فإنّ حقوق وشخصيّة المرأة مساويةٌ للرجل. وإن الرؤية المثالية قد لا تتطابق مع الرؤية الواقعية بالضرورة. ففي الأسرة المتكافئة والسالمة لا توجد هناك مشكلةٌ في الأساس، وفي الوقت نفسه فإن حدوث المشاكل في عالم الواقع وظهور الخلاف والأزمة في الأسرة أمرٌ كثير الحصول، وإن سنّ القانون إنّما يأتي لعلاج وحلّ هذه الأمور المتوقَّعة والطبيعية.
فعلى سبيل المثال: عندما يتمّ إقرار أنواع العقوبات في القوانين الوضعية بحقّ القاتل والسارق والراشي وغيرهم من المجرمين، أو عندما يتمّ بيان بعض الأحكام في الفقه بشأن كيفية تنفيذ العقوبات على مختلف الجرائم، فهذا لا يعني تسويغ تلك الجرائم، وإنّما المراد منها أن تلك الجرائم لو تحقَّقَتْ لا يمكن حلُّها وعلاجها من خلال إرجاعها إلى الأحكام المثالية، وإنّما لا بُدَّ من وضع ضوابط وقرارات لحلّ المشكلة، وتقويم العوج، وإعادة الأفراد أو المجتمع من الوضع القائم إلى الوضع المطلوب والشروط المثالية.
وآيةُ الضرب لا تمثِّل وضعاً مثالياً، وإنّما تبيِّن وضعاً قائماً وغير مطلوب.
3ـ الحركة النَّسَوية وتأثير الأوضاع الاجتماعية في الحكم
إن هذه الآية والأبحاث التفسيرية والروائية المحيطة بها تثبت حدوث شيءٍ يشبه الحركة النسوية في المدينة المنوَّرة، وفي عصر النبيّ الأكرم| أيضاً. ففي رواية عن عمر بن الخطاب قال فيها: كنّا رجال قريش قبل المجيء إلى المدينة أولياء نسائنا، وأما في المدينة فأصبحت النساء يمتلكن أمر الرجال؛ لأنهنَّ أخذْنَ يجالسْنَ نساء المدينة، وبدأْنَ يتمرَّدْنَ على رجالهنَّ. فبدأ الرجال يشكون ذلك إلى رسول الله، وكان النبيّ يعطي بعض الإرشادات والأوامر؛ كي لا ينفرط عقد الأسرة، ويحول دون تفاقم الخلافات الناتجة بفعل الاختلاط الثقافي المتنافر؛ فأساء الرجال استخدام هذا الحقّ؛ الأمر الذي دعا النساء إلى الخروج في لمّةٍ منهنَّ وقد بلغ عددهنَّ ـ كما تقول الرواية ـ سبعين امرأة، وشكَوْنَ سوء معاملة أزواجهنَّ إلى النبيّ؛ فانتقد النبيُّ تصرُّف الرجال.
وإليك نصّ الرواية: عن إياس بن عبد الله بن أبي ذئاب قال: قال رسول الله| «لا تضربوا إماء الله، فقال عمر: ذئرن النساء ـ أي: نشزن ـ على أزواجهنَّ، فرخَّص في ضربهنَّ، فأطاف بآل رسول الله| نساءٌ كثير يشكين أزواجهنَّ، فقال رسول الله|: ليس أولئك خيارُكم»([5]).
وفي روايةٍ أخرى: عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد، ثمّ يجامعها في آخر اليوم؟!»([6]).
إن هذه الحادثة تثبت أن نساء المدينة كنَّ أكثر تحضُّراً، وبذلك كان لهنَّ تأثير على البدويات القادمات من مكّة. وقد تمّ بيان مسألة التفاوت (وليس الكفاءة بالضرورة) بين المدنيات وغير المدنيات في نظرية التراكم الأخلاقي لـ (إيميل دوركايم)([7])، والارتباط الميكانيكي والقوّة في الوجدان الجمعي في المجتمعات التقليدية، واضمحلالها في المجتمعات المدنية الأكثر تطوُّراً وتحضُّراً بشكلٍ جيِّد([8]).
كما تثبت رواية عمر أن النساء شكَّلْنَ قوّة ضغط، وأن مطالبهنَّ وتفاوضهنَّ قد أثَّر حتى على رسول الله| أيضاً. كما تثبت هذه الحكاية أن الظروف والشرائط الاجتماعية كان لها تأثيرٌ أيضاً، وأن النبيّ قد أعطى وصفةً مؤقَّتة؛ لأن الحلّ الجوهري والجذري للمشكلة بحاجةٍ إلى عمل ثقافي طويل الأمد؛ لكي يمكن تغيير التقاليد والأعراف المجحفة بحقّ المرأة، وهو ما قام به النبيّ الأكرم| بشكلٍ تدريجي.
وممّا قيل في بيان شأن نزول هذه الآية أن رجلاً أخذ بيد ابنته إلى رسول الله، وشكا إليه زوجها، الذي كان يضربها، رغم أنها قد زُفَّتْ إليه حديثاً، فقال النبيّ الأكرم|: إنّ لها أن تقتصّ من زوجها، فأخذ الرجل بيد ابنته لتقتصّ من زوجها لنفسها.
إلى هنا يتَّضح أن النبيّ الأكرم| كان مخالفاً لممارسة العنف ضدّ النساء، وكيف كان يتصرَّف في مجتمعٍ يرى العنف والقسوة ضدّ النساء أمراً طبيعياً. ولكنّه بعد ذلك أرسل إلى البنت أن تكفَّ يداً، ولا تقتصّ. وكان سبب إيقاف الحكم أن الدولة الفتية للنبيّ كانت على أعتاب معركة أحد، وكان هناك خوفٌ من أن يفتّ هذا الحكم في عزيمة الرجال، بعد أن تتشجَّع النساء في مواجهة رجالهنَّ، والجرأة على عدم تمكينهم، فيؤدِّي بهم ذلك إلى إيثار عدم المشاركة في الحرب؛ مخافة أن يفقدوا زوجاتهم. وحيث كان النبيّ قائداً براغماتياً في تحقيق القِيَم فقد عمد في رفع هذه المشكلة إلى إبلاغ الآية 34 من سورة النساء، وعمد فيها إلى ظاهرة الضَّرب ـ التي كانت أمراً مألوفاً ومتعارفاً، وأوّل ما يقوم به الرجال ـ، وجعلها خياراً أخيراً بعد استنفاد جميع الوسائل الرادعة والشرائط المتعدِّدة التي تلغي الضرب من الناحية العملية، وبذلك عمل من جهةٍ أخرى على تمهيد الطريق إلى حضور الرجال في الحرب، وهي حربٌ انتهَتْ لغير صالح المسلمين، وكما سنرى فإن النبيّ صار بعد ذلك إلى حلٍّ أكثر جوهريّة للمشكلة.
ولأجل شأن النزول هذا ذهب البعض إلى القول: إن هذه الآية تتعلَّق بظروف خاصّة بالحرب ومعركة أحد، ولا يمكن أن يُستفاد منها حكماً أبدياً.
4ـ فقه المقاصد
إن الذي نعنيه بفقه المقاصد في هذا المقال هو ذاته الذي يُعبَّر عنه في علم الحقوق الحديث بـ «فلسفة الحكم»، ويُصطلح عليه أحياناً بـ «غَرَض المقنِّن»، بمعنى أنه كلَّما كان هناك غموض وإبهام في المراد من القانون يتمّ الرجوع إلى غرض المقنِّن أو قصد المشرِّع، وإنّ كلَّ تفسيرٍ لقانون إنّما يكون معتبراً إذا وافق غرض المقنِّن. وإن ما قيل في البحث الثالث يعكس مسار التقنين والتشريع أيضاً. فقد عمد النبيّ أولاً إلى منع الضرب، فعندما رأى تَبِعات المنع السلبيّة صار إلى إلغائه عبر آليّةٍ تدريجية، فقام أوّلاً بتعديل ذلك، حيث جعل الضرب ـ الذي كان أوّل الخيارات ـ آخر الخيارات، ومع ذلك نصح بترك الضرب، وهناك الكثير من الروايات المأثورة عنه في المنع من الضرب. وهذا المسار شائعٌ في حقل التقنين، حيث يتمّ تشريع قانونٍ مناسب، ثمّ يُصار إلى إلغائه أو إيقافه بسبب التَّبِعات المترتِّبة عليه. والأمثلة على ذلك من الكثرة بحيث لا نرى حاجةً إلى ذكرها.
وقال ابن عاشور: إن هذا الحكم خاصٌّ بالمجتمع الذي يعتبر فيه ضرب المرأة أمراً عاديّاً، ولا يرى فيه الرجال ولا النساء ما يُشين([9]).
في فقه المقاصد ـ الذي يستند إلى الكثير من الأدلّة الشرعية والآيات والروايات ـ يتمّ التعرّف على كُنْه الكلام وتحديد ملاك الحكم أو فلسفته، بدلاً من الجمود على ظاهر الألفاظ. في الموارد التي يتمّ فيها التصريح بفلسفة الحكم يكون الأصل على فلسفة الحكم، وليس ذات الحكم. وفي هذه الآية هناك موردان (مضموني وتصريحي) بشأن ملاك الحكم. إن سياق العبارات وشأن النزول والظروف التاريخية والاجتماعية تثبت أن هذا الحكم يأتي في الحقيقة في سياق تقييد العقوبة الجسدية للمرأة الذي كان شائعاً، وفي فترة هذا الحكم كانت الغاية الرئيسة هي المنع من ممارسة العنف ضدَّ المرأة.
وعليه فإن واحداً من المقاصد والملاكات الكامنة في هذا الحكم هو الحيلولة دن العنف ضدَّ المرأة. والملاك أو الهدف التصريحي الآخر هو إصلاح العلاقة بين الزوجة وزوجها، وإعادة الأمور إلى حالتها الطبيعية من الاعتدال والمودّة (وهذا ما سوف نعمل على إيضاحه بتفصيلٍ أكبر في السطور القادمة إن شاء الله).
وعليه إذا كان هناك اليوم أسلوبٌ أفضل للتأديب والإصلاح، وتمتين الحياة والعلاقات الزوجيّة، كان ذلك الأسلوب هو الأَوْلى بالاتِّباع([10]).
5ـ احتمال النَّسخ
هناك مَنْ قال في الأساس بالنسخ التمهيدي لهذه الآية، ومال إلى الاعتقاد بأن العقوبة الجسدية تمّ نسخها من قبل النبيّ بشكلٍ تدريجي، والنسخ التمهيدي هو النسخ الذي يوفِّر الأرضية لزوال الحكم في عصر النبيّ. وقد ذكروا لهذا المدَّعى أدلة تفصيلية([11]).
فإذا صحّت فرضية النسخ لم تَعُدْ هناك حاجةٌ إلى هذا البحث، وتكون هذه الآية مجرّد قضية تاريخية ورواية خبرية تهدف إلى التعريف بواقع المرأة في فترة من التاريخ، ولا تعود مسألة تصلح لزماننا. ومن الناحية المضمونية تعتبر هذه الآية متقدِّمةً على زمانها. ولكنْ حيث إن الكثير يرى أن هذه الآية محكمة وغير منسوخة فإننا سوف نبني على فرضية عدم نسخها؛ لنرى ما هي النتائج التي سيتمخَّض عنها البحث على أساس هذه الفرضية.
6ـ بشأن الأصل
المسألة الهامّة الأخرى بحث استخراج «الأصل». ففي ما يتعلَّق ببيان الحكم علينا أن نرى على ماذا يقوم الأصل؟ فإن المعتبر في علم الحقوق وفي الشريعة هو «الأصل»، كالأصل القائم في جميع الأنظمة الحقوقية في العالم، ولا يشذّ عنه حتى أقدم الأنظمة الحقوقية ـ الأعمّ من الوضعية والسماوية ـ، على أن المتَّهم بريءٌ حتّى تثبت إدانته.
إن دراسة النصّ الديني والعرفي، ومنه القرآن الكريم، يجب أن يقوم على أصول عقلائية وشرعية. وهناك مَنْ يطلق الكلام وكأنّ الأصل في الآية قائم على الضرب، فإذا كان من الناقدين جعل ذلك برهاناً ودليلاً قاطعاً على إنكار ونفي إنسانية القرآن، وإذا كان من المؤمنين فإمّا أن يقول بأن كلام الله حجّة، وأن للرجل الحقّ في ضرب زوجته؛ أو يسعى إلى تبرير الضرب، ويقول مثلاً: إن المراد من الضرب هو الخروج من المنزل، أو الإخراج من البيت إلى سفر، أو إن الآية بقرينة بحث القوامة والنفقة الوارد في بداية هذه الآية ترتبط بالمسائل الاقتصادية، وما إلى ذلك من التوجيهات الأخرى؛ لأنهم قالوا بأصالة الضرب في هذه الآية.
هذا، وقد ذهب أبو الحسن بني صدر إلى توجيه الآية بالقول: «عندما يحصل الاطمئنان، بعد اجتياز مرحلة الوعظ والهجران، إلى أن النشوز ناشئٌ عن المازوخية، يكون معنى الضرب في مثل هذه الحالة أبلغ وأصرح في معنى إثارة الشهوة. وبذلك يكون الضرب في مورد النشوز بمعنى الإثارة الجنسية. وعليه لكي تتخلَّص المرأة من الرغبة إلى العنف، وتطلب حالة الوَجْد والرغبة إلى الاتصال الجنسي، يجب على الرجل أن يهجرها؛ بسبب رغبتها في العنف. وبناءً على هذه الآية فإن الأسلوب الذي يتَّبعه الرجل يجب أن يكون بالمقدار الذي تستعيد فيه المرأة شَوْقها إلى الجنس»([12]).
والكلام هو أنهم في البداية قالوا خطأً بأصل الضرب، ثمّ أتعبوا أنفسهم في العثور على توجيه لذلك؛ في حين أوّلاً: إن الأصل ـ طبقاً لنصّ الآية ـ على عدم الضرب؛ لأن حكم الإباحة وحصر الضرب على حالة النشوز يعني تحريم الضرب في غير النشوز، وهذا يعني أن الأصل على عدم الضرب؛ وثانياً: إن الجواز ـ كما هو واضحٌ ـ لا يعني الوجوب، وعندما ينفي العقل العمل بالجواز تكون الحرمة العقلية هي الثابتة؛ وثالثاً: إن أصل عدم الضرب قد تمّ تعزيزه وضمانه بالكثير من الآيات والروايات، وهي الآيات والروايات الدالّة على أصل الألفة والمحبّة والمعاشرة بالمعروف في العلاقات القائمة بين الزوج والزوجة. ولكثرة هذه الآيات والروايات سنكتفي بذكر بعض الأمثلة منها:
بعض الأمثلة من الآيات
نستعرض في ما يلي ستَّ آياتٍ على سبيل المثال، لا الحصر:
نفي الضرب مطلقاً
1ـ يحرم ضرب كلِّ شخصٍ، كما قال ابن جرير الطبري في معرض شرحه للحديث 692 من تهذيب الآثار: «الصواب من القول في ذلك عندنا أنه غير جائز لأحد ضرب أحدٍ من الناس، ولا أذاه، إلاّ بالحقّ؛ لقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾ (الأحزاب: 58). ثم استطرد ابن جرير قائلاً: القول الصحيح عندي بشأن ضرب المرأة هو القول بعدم الفرق، «سواء كان المضروب امرأة وضاربها زوجها، أو كان مملوكاً ـ أو مملوكة ـ وضاربه مولاه، أو كان صغيراً وضاربه والده، أو وصيّ والده وصّاه عليه»([13])؛ لأن مطلق الضرب حرام([14]).
2ـ قال تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ (البقرة: 231).
وعليه فقد تمَّ نهيُ الرجل في هذه الآية عن الإضرار بالمطلَّقة، فضلاً عن الزوجة التي لا تزال في عصمته.
3ـ قال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ (النساء: 19).
قال ابنُ كثير في تفسير هذه الآية: «أَي: طيِّبُوا أَقْوَالَكُم لَهُنَّ، وحَسِّنُوا أَفْعَالَكُمْ وَهَيْئَاتِكُمْ بِحَسَبِ قُدْرَتِكُمْ، كَمَا تُحِبُّ ذَلِكَ مِنْهَا، فَافْعَل أَنْتَ بِهَا مِثْلَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾»([15]).
وقال الذهبي بعد بيان تفصيلي لوظائف الزوجة تجاه زوجها: «وإذا كانت المرأة مأمورةً بطاعة زوجها وبطلب رضاه، فالزوج أيضاً مأمورٌ بالإحسان إليها، واللطف بها، والصبر على ما يبدو منها من سُوء الخُلُق وغيره، وإيصالها إلى حقِّها من النفقة والكسوة والعشرة الجميلة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾»([16]).
4ـ قال الله تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَينِ إِحْسَاناً وَبِذِي القُرْبَى﴾ (النساء: 36).
5ـ قال الله تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ (البقرة: 228).
أساسُ الزواج وسرُّ بقائه ودوامه
6ـ قال الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (الروم: 21).
إن هذه الآية من أشهر الآيات التي لا يخلو منها مجلس عقد بين زوجين، كما أنها تزيِّن صدر عقود الزواج أيضاً. وهي من الآيات البديعة والرائعة، والتي تبيِّن «أصلاً» وهو أصل (المودّة والرحمة)، وهما من ذاتيّات الزواج، وهذا يعني أن هذا الأصل من الأصول الجوهرية.
فالآية كما تبيِّن فلسفة الزواج المتمثِّلة بالحصول على السكينة ترى في الزواج آيةً من الآيات الإلهية التي تشتمل على الكثير من الحقائق الكامنة التي لا يدركها غير المفكِّرين من أولي الألباب. وفي الحقيقة فإن الزواج يقلب حياة الإنسان تماماً. ويمكن القول: إن الزواج يمثِّل ولادةً ثانية للأفراد، فهو يُغيِّر من رؤية الإنسان إلى الخلق والكون، ويبدأ بالنظر إلى حياة البشر بوصفها قائمةً على الزوجية. بَيْدَ أنّ الأمر الهامّ الذي تمَّ التصريح به في هذه الآية هو أن هذا الحدث من الأهمِّية في حياة الإنسان بحيث إن الله سبحانه وتعالى يُرتِّب عليه أمرين، وهما: المودّة؛ والرحمة. فإن الفتاة والفتى اللذين لم تكن هناك أدنى معرفةٍ بينهما قبل العقد، واللذين لا يبديان أيّ شعورٍ خاصّ تجاه بعضهما فيما لو التقيا صدفة، أو إذا كان هناك بينهما معرفة لا يشعران برباطٍ مصيري يربط ما بينهما، وإذا بهما بمجرَّد العقد يشعران فجأةً وكأنَّهما دخلا في عالم من الصلة والتعلُّق وارتباط المصير والتحمُّس لبعضهما. إن «المودّة» في هذه الآية تمثِّل جزءاً من الأصول والأسس الهامّة في الحياة، وإنها من الأهمِّية بحيث إن الله هو الذي يتدخَّل في جعلها، ولا يكتفي بهذه المودَّة، حتّى يضيف إليها متمِّماً ومكمِّلاً، وهي «الرحمة»؛ لتكون توأماً لها، بمعنى أن لازم الحفاظ على المودّة يكمن في وجود الرحمة والتسامح بين الزوج والزوجة. وإن حضور عنصرَيْ المودّة والرحمة محسوسٌ في الآية 34 من سورة النساء للغاية.
بعض الأمثلة من الروايات
1ـ الروايات في المنع من العقوبة الجَسَدية، والأمر بالإحسان إلى النساء
من الضروري التنويه والتأكيد على هذه المسالة الهامّة، وهي أن الأصل والمستند الرئيس لنا في هذه الدراسة هو القرآن، وأما الروايات فإنَّما نستند إليها ونستشهد بها إذا وافقت القرآن.
فعلى سبيل المثال: وردت روايات في باب جواز أن ينظر الرجل إلى امرأةٍ بقصد الزواج منها، بل يحقّ للرجل إذا تمّ إحراز قصده للزواج أن ينظر إليها من وراء ثوبٍ خفيف، ليتمكَّن من النظر إلى جسدها وبشرتها([17])؛ كي يضمن عدم وجود عيب في جسمها. وبعبارةٍ أخرى: يتمّ التعامل مع المرأة وكأنَّها بضاعةٌ، يجوز للرجل أن يفحصها ويجرِّبها ويختبرها قبل شرائها، بَيْدَ أن ثقافة تسويد الرجل ومحاباته أدَّتْ في المقابل إلى حرمان المرأة من مثل هذا الحقّ. وبشكلٍ رئيس يتمّ الحديث عن حقوق الرجل، بحيث يعتبر هو وحده الذي له الحقّ في الاختيار والانتخاب، وأنّه هو المحور والفعّال في النظام الحقوقي. وقد كان هذا الأمر متأثِّراً بثقافة العصر. والنماذج الأخرى من الروايات ترتبط بكراهة سماع صوت المرأة الأجنبية، وباب وجوب اتِّصاف الرجل بالغيرة، وعدم جواز ذلك للمرأة([18]). وهناك أيضاً بابٌ في كراهة استشارة المرأة، إلاّ إذا كان بقصد الخلاف([19]). وقد تمَّ توجيه روايات نقصان عقل المرأة بأدلّةٍ من قبيل: إن المراد منها النساء اللاتي لم يمنحْنَ فرصة الحضور في المجتمع والانفتاح والازدهار الفكري، ولكنْ ما الذي يمكن صنعه بشأن القيد الوارد في بعضها والمتمثِّل باستثناء الاستشارة بقصد الخلاف من الكراهة.
كما أنه طبقاً لما يقتضيه الاتِّجاه الذي اخترناه لهذا البحث، وبحكم العبارة القائلة: «انظروا إلى ما قال، ولا تنظروا إلى مَنْ قال»([20])، فإننا ننظر إلى الروايات لا بوصفها كلاماً مقدَّساً، بل بوصفها نُقُولٌ وروايات تاريخية، لا تختلف عن الرواية التاريخية لهيرودوتس، التي يمكن نقدُها وجرحها وتعديلها. وفي ما يتعلَّق بالبحث الراهن تنقسم الروايات إلى قسمين: قسمٍ يؤيِّد العقوبة الجسدية؛ وقسمٍ ينكرها.
أما الروايات التي تؤيِّد العقوبة الجسدية للمرأة فقد تمَّ تضعيفها من قبل المحدِّثين والمختصِّين في الحقوق الإسلامية. كما ذهب نايف بن أحمد الحمد، القاضي في المحكمة العامة، إلى تضعيف الحديث المشهور المنقول عن عمر بن الخطاب، والذي يقول: «لا يُسأل الرجل فيمَ ضرب امرأته»، واعتبار سنده مجهولاً([21]).
وهناك مَنْ يعمل على تأويل معنى الضرب، مثل: عبد الحميد أحمد أبو سليمان، رئيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي، حيث ساق في مقالةٍ له سبعة أدلّة من القرآن والروايات والعقل على أن المراد من الضرب هو ترك الرجل لبيته حتّى ترعوي المرأة عن مشاكستها، وتعود إلى رشدها([22]). وإنّ انتقاد النبي للرجال الذين أساؤوا استغلال هذه الآية يؤيِّد هذا الرأي. وقد عاتب النبيُّ الرجال الذين ضربوا نساءهم بعد نزول الآية 34 من سورة النساء، قائلاً لهم [ما معناه]: إنّ خياركم لا يضربون نساءهم.
1ـ رُوي عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله|: «خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي»([23]).
قال ابن كثير: «وكان من أخلاقه| أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطَّف بهم، ويوسعهم نفقته. ويضاحك نساءه، حتّى إنه كان يسابق عائشة أمّ المؤمنين يتودَّد إليها بذلك. قالت: سابقني رسول الله| فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثمّ سابقته بعدما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك. ويجتمع نساؤه كلّ ليلةٍ في بيت التي يبيت عندها رسول الله|، فيأكل معهنَّ العشاء في بعض الأحيان، ثمّ تنصرف كلّ واحدةٍ إلى منزلها. وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعارٍ واحد، يضع عن كتفَيْه الرداء وينام بالإزار. وكان إذا صلّى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك|، وقد قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21)»([24]).
يتَّضح من تضاعيف الروايات المأثورة عن عائشة أن حبَّها الجمّ له، وشغفها بالنبيّ الأكرم|، كان بسبب سلوكه ومحبَّته لنسائه.
ورُوي عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله|: «لا يفرك([25]) مؤمنٌ مؤمنة، إنْ كره منها خلقاً رضي منها آخر»([26]). قال الحافظ النووي: أي ينبغي أن لا يبغضها؛ لأنه إنْ وجد فيها خلقاً يُكْرَه وجد فيها خلقاً مرضيّاً، كأن تكون شرسة الخلق، لكنَّها ديِّنة أو جميلة أو عفيفة أو رفيقة به أو نحو ذلك([27]).
وقد روى عبد الله بن زمعة عن النبيّ الأكرم| أيضاً، أنه قال: «لاَ يَجلِدُ أَحَدُكُمُ امرَأَتَهُ جَلْدَ العَبدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ اليَومِ»([28]). إن هذا الحديث يُثبت أن مثل هذا العمل القبيح كان سائداً في ذلك العصر، وأن النبي الأكرم| قد نهى عنه.
وقال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث: «وفي سياقه استبعاد وُقُوع الأَمرينِ من العَاقِل: أَن يُبَالغ فِي ضرب امرَأَته، ثمَّ يُجَامِعهَا فِي بَقِيَّة يَومه أَو ليلته، والمجامعة أو المضاجعة إِنَّمَا تستحسن مَعَ مَيْل النَّفس وَالرَّغبَة في العشرة، والمجلود غَالِباً ينفر ممَّنْ جلده، فوقعت الإشارة إلى ذمّ ذلك، وأنه إنْ كان ولا بُدَّ فليكن التأديب بالضَّرْب اليَسِير، بِحَيثُ لا يحصل مِنهُ النفور التَّام، فَلا يفرط فِي الضَّرب، وَلا يفرط فِي التَّأدِيب… ولأن ضرب المرأة إنما أُبيح من أجل عصيانها زوجها في ما يجب من حقِّه عليها»([29]).
وقال المتَّقي الهندي: «إن الله تعالى يوصيكم بالنساء خيراً؛ فإنَّهن أمهاتكم وبناتكم وخالاتكم. إن الرجل من أهل الكتاب يتزوَّج المرأة وما يعلق على يديها الخيط، فما يرغب واحدٌ منهما عن صاحبه حتّى يموتا هَرَماً»([30]).
وعن أبي سعيد: «إن من شرّ الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثمّ ينشر سرّها»([31]).
إنْ صحّت هذه الرواية عن النبيّ الأكرم|، فإنه يُشبِّه المرأة بالشيء الهشّ والقابل للكسر بسهولةٍ، ومن الحكمة أن لا يزاد الضغط عليه فيكسر: «إنما المرأة كالضلع، إنْ أقَمْتَها كسرتَها، فذَرْها تعِشْ بها»([32]).
وعن ابن سعد، عن أبي أيوب: «يظلّ أحدكم يضرب امرأته ضرب العبد، ثم يعانقها ولا يستحي»([33])، أو قوله: «أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد! يضربها أوّل النهار، ثمّ يُضاجعها آخره. أما يستحي؟!»([34]).
رُوي عن عائشة أنها قالت: «لقد طاف بآل محمد الليلة سبعون امرأةً كلّهن قد ضربت [فقال رسول الله|]: ما أحبّ أن أرى الرجل ثائراً فريص عصب رقبته على مريئته يقاتلها»([35]).
وفي حديثٍ مشابه للحديث المتقدِّم: عن أسماء بنت أبي بكر يقول: «إنّي لأكره أن أرى الرجل ثائراً فرائص رقبته قائماً على مريئته يضربها»([36]).
وعن الحسن بن سفيان والديلمي، عن أمّ كلثوم بنت أبي بكر: «إني لأبغض الرجل قائماً على امرأته ثائراً فرائص رقبته يضربها»([37]).
وفي روايةٍ أخرى في هذا السياق: عن إياس الدوسي: «لقد طاف الليلة بآل محمد نساءٌ كثير، كلهنَّ تشكو زوجها من الضرب، [فقال رسول الله|]: وأَيْمُ الله، لا تجدون أولئك خياركم»([38]).
ورُوي عن رسول الله| أنه قال: «إنّ النساء عقد الرجال، لا يملكْنَ لأنفسهنَّ ضرّاً ولا نفعاً، وإنّهنَّ أمانة الله عندكم، فلا تضاروهُنَّ ولا تعضلوهُنَّ»([39]).
ونقل أيضاً أن رسول الله| قال: «أيُّها الناس، إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهنَّ حقٌّ، ولهنَّ عليكم حقٌّ. ومن حقِّكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً، ولا يعصينكم في معروف، فإذا فعلْنَ ذلك فلهنَّ رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف»([40]).
وفي روايةٍ أخرى عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسول الله|، قال: «حرثك فَأْتِ حرثك أنّى شئت، غير أن لا تضرب الوجه، ولا تقبح ولا تهجر، إلا في البيت. وأطعم إذا طعمت، واكْسُ إذا اكتسيت، كيف ﴿وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً﴾ (النساء: 21)»([41]).
وعن بهز بن حكيم، عن أبيه عن جدِّه قال: قلتُ: يا رسول الله، ما تقول في نسائنا؟ قال: «أطعموهنَّ مما تأكلون، واكسوهنَّ مما تكسون، ولا تضربوهنَّ، ولا تقبحوهنَّ»([42]).
عن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه قال: قلتُ: يا رسول الله، ما حقُّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: «أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلاّ في البيت»([43]).
وفي رواية أخرى: عن ابن عمر، أن النبيّ الأكرم| قد «نهى عن الوَشْم في الوجه، والضَّرْب في الوجه»([44]).
7ـ بعض المفاهيم والعناصر الرئيسة
إن صيغة الآية 34 من سورة النساء ـ ولا سيَّما الجزء مورد البحث منها ـ شبيه بصيغة العبارات القانونية في العالم المعاصر. فهي عباراتٌ مقتضبة وموجزة، يستنبط منها الحقوقيون والمفسِّرون للقانون الكثير من الأدلّة والإيضاحات، ويبحثون بشأن آحاد الدلالات القانونية لمفرداتها. يقوم منهجنا على تجنُّب التأويل، وتحميل النظريات على النصّ من خارجه، بمعنى أننا نبحث عن المعنى المتطابق مع منطوق الكلام. من هنا يكتسب هذا البحث أهمِّية خاصّة؛ إذ أوّلاً: يثبت أن هذه الأجزاء تجري في عموم الحكم، ويعمل على تنظيم صيغة الحكم؛ وثانياً: يبيِّن كيفية استنباط الأحكام الأخرى ـ التي لا تبدو من ظاهر الآية ـ من صُلْب الآية.
فعلى سبيل المثال: عندما يُحدِّد النبيّ الأكرم| مدّة للهجران فإنّ لهذا التعيين جذوراً في ذات الآية. إن المفاهيم والعناصر الأصلية والرئيسة في هذه الآية عبارة عن: الخوف، والنشوز، والوعظ، والهجران، والمضجع، والضرب، وعدم العدوان، والإصلاح.
النشوز والفحشاء: يُطلق النشوز بشكلٍ عامّ على كلّ سلوكٍ أو شيء خارج عن العادات والضوابط. فحتّى ثغاء الخراف إذا لم يكن طبيعياً يطلق عليه أنه ناشز. والنشوز في العلاقة الزوجية يعني الخروج عن الاعتدال. فإذا كانت الكراهية من طرفٍ واحد، وفي الطرف الآخر رغبةٌ في مواصلة الحياة، يكون في الأمر نشوزاً؛ وأما إذا كانت الكراهية من الطرفين فيكون الأمر شقاقاً([45]).
وفي ما يتعلَّق بالآية مورد البحث غالباً ما يُفسَّر النشوز بتمرُّد المرأة وعدم تمكين زوجها في ما يتعلَّق بالعلاقات الزوجية، بَيْدَ أن عبارة ﴿حَافِظَاتٌ لِلغَيْبِ﴾ في هذه الآية تعني أن من واجب المرأة أن تحفظ زوجها في غَيْبته، ولا سيَّما عند ذهابه إلى الحرب ـ لأنّ الآية قد نزلت في واقعة أحد ـ، بمعنى عدم إفشاء أسرارهنَّ، وكشف عرضهنَّ، وعدم الحفاظ على عفتهنَّ. وبقرينة هذه العبارة يكون المراد من النشوز ليس مجرد التمرُّد، بل هو ارتكاب الفاحشة.
وطبقاً للحديث المرويّ عن الإمام عليّ× في وصف القرآن: «ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض»([46])، والمبيِّن لأسلوب من أساليب تفسير القرآن الكريم، والذي اختاره العلامة الطباطبائي منهجاً له في تفسير الميزان، فإن من الآيات التي تدلّ على أن النشوز في هذه الآية هي الفحشاء الواضحة الآية 19 من سورة النساء، وهي في خصوص التعامل مع النساء أيضاً، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً﴾ (النساء: 19).
وفي روايةٍ عن النبيّ الأكرم| ـ رواها عمرو بن الأحوص ـ أنّه قال في حجّة الوداع (الأيام الأخيرة من عمره الشريف): «ألا واستوصوا بالنساء خيراً؛ فإنما هنَّ عوان عندكم، ليس تملكون منهنَّ شيئاً غير ذلك، إلاّ أن يأتين بفاحشةٍ مبينة، فإنْ فعلن فاهجروهنَّ في المضاجع واضربوهنَّ ضرباً غير مبرح، ﴿فَإِنْ أَطَعنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء: 23). ألا وإنّ لكم على نسائكم حقّاً، ولنسائكم عليكم حقّاً. فأمّا حقكم على نسائكم فلا يوطئنَ فرشكم مَنْ تكرهون، ولا يأذنَّ في بيوتكم لمَنْ تكرهون، وإنّ حقَّهنَّ عليكم أن تحسنوا إليهنَّ في كسوتهن وطعامهنَّ»([47]). بمعنى أنه حتّى إذا كانت هناك فاحشةٌ ولم تكن مبيّنة فإن الآية المذكورة ـ الواردة ضمن كلمة لرسول الله| في حجّة الوداع أيضاً ـ لا تشمل هذا الصنف من النساء أيضاً.
كما رُوي عن رسول الله| أنه قال: «لا تضربوا النساء إلاّ عن فاحشةٍ مبيّنة».
وفي روايةٍ أخرى: «ولكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإنْ فعلْنَ ذلك فاضربوهنَّ ضرباً غير مبرِّح»([48]).
إن هذه الروايات ليست وليدة اليوم، حتّى يُقال: إنّها تأتي في سياق التأويل والتبرير في مواجهة النزعة والحركة النسوية المعاصرة. إنما هي في الحقيقة كلمات من نفس القرآن الكريم، وعلى لسان النبيّ الأكرم|. وعليه يمكن القول: إن النشوز يشمل طَيْفاً من المعاني والمفاهيم، يبدأ من التمرُّد وعدم التمكين (النشوز في حدّه الأدنى)، إلى ارتكاب الفاحشة المبيّنة (النشوز في حدِّه الأقصى)، بَيْدَ أنه بقرينة العبارة القرآنية القائلة: ﴿حَافِظَاتٌ لِلغَيْبِ﴾ في ذات الآية، وبقرينة الآية 19 من سورة النساء، والروايات المأثورة عن النبي الأكرم| بشأن الضرب، فإنّ النشوز المعني في ما نحن فيه هو النشوز في حدِّه الأقصى، المنحصر بارتكاب الفاحشة المبينة.
الخوف: إن هذا القَيْد ينطوي على شيءٍ من الإجمال، فما الذي تعنيه العبارة القرآنية القائلة: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ﴾؟
ممّا قيل بشأن قيد الخوف: إن مراد الآية إذا خفتم أن يحصل نشوز قوموا بالتدابير اللازمة والإجراءات الوقائية، بمعنى أنه قبل حصول النشوز ومن باب الوقاية قوموا بنصح المرأة، فإنْ لم ينفع فاهجروها، فإنْ لم ينفع فاضربوها.
إلاّ أن هذا الفهم مخالف للظاهر؛ لأن ترتيب المراحل يقول: إذا لم ينفع الوعظ والنصح فاهجروهنَّ. وعليه يتَّضح أنه كان هناك نشوز، وحيث يتواصل النشوز ويشتدّ، فإنْ لم ينفع الهجران، واستمرّ النشوز، تصل المرحلة في الردع إلى «الضَّرْب». وعليه فهذا يعني أن النشوز كان ثابتاً ومحرزاً، وقد تواصل، وإنّ بحث الضرب قبل ارتكاب النشوز يكون منتفياً.
وفي الحقيقة فإن هذه المراحل تتوقَّف على شرطين، وهما: «النشوز»، و«الخوف»، بمعنى أنه إذا كان هناك نشوز، ولم يكن هناك خوفٌ من ترتُّب تبعات خطيرة عليه، لا تكون هناك ضرورة إلى الضرب وغيره من الأمور الرادعة المتقدِّمة، إلاّ إذا تجاوز النشوز الحدود، وحصل الخوف من استمراره وبلوغه مرحلة الخطر، ومن هنا جاء التعبير بـ «فاحشة مبيّنة»؛ إذ في هذه الحالة يكون الأمر قد بلغ مرحلة الخطر والفضيحة وهَتْك العِرْض، وما إلى ذلك من التَّبِعات والأعراض المضرَّة الأخرى.
الوعظ: يعني النصح بالرفق واللين. فإنْ تحقَّق هذان الشرطان (النشوز والخوف)، وكانت المرأة معتادةً على النشوز، واستمرّت على عادتها، لا ينبغي أن تفقدوا السيطرة على اتِّزانكم وهدوئكم، وتلجأوا إلى العنف مباشرةً، بل لا بُدَّ من التحدُّث إلى المرأة ووعظها ونصحها بالرفق واللين؛ لردعها عن غيّها. وطبقاً للآيات والروايات المتقدِّمة فإنّ حسن المعاشرة واجبٌ على كلٍّ من الرجل والمرأة.
الهجران: إنْ تمّ سلوك جميع المراحل المتقدِّمة، ولم تُجْدِ نفعاً، يمكن اللجوء إلى مرحلة الهجران. وقد فهم الهجران؛ بقرينة ظاهر الكلام، بأنه ترك المرأة في الفراش وعدم مضاجعتها، أو إيلائها الظَّهْر في المضجع([49])، حاملين ذلك على محامل جنسية بحتة؛ في حين أن هذا أدنى ما يُفْهَم من ظاهر الكلام. فالهجر يعني الابتعاد وترك الكلام وإظهار الاستياء وعدم الرضا أيضاً. إن هذا السلوك وإنْ كان مطروحاً بوصفه ممثِّلاً للمرحلة الثانية من التعاطي مع النشوز، وعلى حدِّ زعم البعض يمثِّل نوعاً من العقوبة، إلاّ أنه في عالم الواقع ـ ودون أن يُذكر في القرآن بوصفه أجراءً عقابياً ـ يمثِّل الحالة الأكثر شيوعاً بين الأسر. لا ينبغي التعاطي والتعامل مع قضيّة المرأة بشكلٍ خيالي، بعيداً عن الواقع. ليست هناك أسرةٌ أو بيت يخلو من النزاع والخلاف. فالجدل والنزاع يحتدم حتّى بين أكثر الأزواج محبّةً لبعضهما. ولا يُستثنى من ذلك حتّى أولياء الله. وهناك رواياتٌ تتحدَّث عن حصول الخلاف والنزاع بين النبيّ وأزواجه، إنَّما الخلاف في الشدّة والضعف، وفي أسلوب التعاطي مع هذه الخلافات ومعالجتها، حيث كان النبيّ الأكرم| ينتهج عند حصول الخلاف بينه وبين بعض زوجاته سلوكاً أخلاقيّاً رفيعاً، وكان يعمد لحسم النزاع إلى الخروج من البيت، أو يتحوَّل إلى زاويةٍ أخرى من البيت؛ ليجلس فيها.
وبالالتفات إلى أن الشِّجار في البيت والاستياء أمرٌ شائع لم تكن هناك من ضرورة إلى ذكرها في القرآن الكريم بوصفها أسلوباً عقابياً، إلاّ أن هذا الإجراء ينطوي على التفاتةٍ أخلاقية ظريفة ودقيقة، وهي أن الرجل يجب أن يكون في الحالة الطبيعية من الحبّ والعطف والحنوّ على أسرته وزوجته وأولاده والابتعاد عن سوء الخلق في التعامل معهم (أصل المودّة والرحمة)، بحيث يعتبر ترك الحديث معهم وإبداء الاستياء منهم وهجرهم بوصفه أسوأ عقاب يمكن أن تتلقّاه الزوجة والأولاد من ربّ الأسرة في حال حصوله.
المضجع: إن من المسائل الأخلاقية والحقوقية الهامّة التي يمكن مشاهدتها في هذه الكلمة بوضوحٍ ـ ولكنْ قلَّما يتمّ الالتفات إليها ـ هي أن الآية لم تبيِّن الهجران وإعلان الاستياء على نحوٍ عامّ، ولذلك لا يكون هناك إطلاقٌ فيها، بمعنى أن الرجل لا يحقّ له الهجران بشكلٍ عامّ، وفي كلّ مكانٍ، وإنّما هو مقيَّد بقيد «في المضاجع»، الذي يُفهم منه أن الهجران يجب أن يكون داخل نطاق البيت فقط، وأما خارج البيت فلا يحقّ للرجل أن يهجر أو يبدي امتعاضه واستياءه من زوجته، بحيث يفهم الآخرون منه ذلك. ومن هنا روي عن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه قال: قُلتُ يَا رَسُولَ اللهِ، مَا حَقُّ زَوجَةِ أَحَدِنَا عَلَيهِ؟ قَالَ|: «أَن تُطعِمَهَا إِذَا طَعِمت، وَتَكسُوَهَا إِذَا اكتَسَيتَ ـ أَوِ اكتَسَبتَ ـ، وَلاَ تَضرِبِ الوَجهَ، وَلاَ تُقَبِّح، وَلاَ تَهجُر إِلاَّ فِي البَيتِ»([50]).
بل ذهب القرآن الكريم إلى تحديد مكان الهجران على نحوٍ أضيق، حيث لا يشمل جميع مواضع البيت، بل يقتصر الهجران على المضجع ومكان النوم فقط، بمعنى أن عدم التعرّف على ما يجري بين الرجل وزوجته من الخلافات يجب أن لا يقتصر على الغرباء في خارج البيت، بل يجب أن لا يطَّلع عليه حتّى من كان في البيت من الأولاد أيضاً؛ لما في ذلك من التأثير السلبي عليهم، وسوف ينعكس ذلك على تربية الوالدين لهم، وهذا يتنافى مع مقاصد الحكم وفلسفته التي تعود إلى المودّة وتعزيز مكانة الأسرة. من هنا فإن الروايات التي تقول: «لا تهجروا النساء إلاّ في المضاجع»([51]) تعود بجذورها إلى ذات هذه الآية.
مدّة الهجران: رُوي عن النبي الأكرم| أن الهجران والخصومة، حتّى بين الشخص وأخته أو أخيه، يجب أن لا تزيد على ثلاثة أيام. فعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله|: «لا يحلّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام»([52]).
وهذا ما ذهب إليه علماء الشيعة أيضاً، حيث استندوا إلى هذه الروايات في تحديد مدّة الهجران بثلاثة أيام فقط([53]).
كما يوجد بابٌ في صحيح مسلم تحت عنوان «تحريم الهجر فوق ثلاث بلا عذر شرعي».
ودليلُ ذلك واضحٌ؛ لأن الخلاف فوق ثلاثة أيام يفاقم المشكلة، ويجعل الأمر مزمناً، ولا يخفى ما في ذلك من نقض الغرض؛ لأن الغاية من الهجران هو إعادة المودّة. وهذا بطبيعة الحال في غير الموارد الحادّة، من قبيل: النشوز؛ حيث يجب أن لا يطول الهجران لأكثر من يومٍ واحد، وعلى الرجل أن يضع حدّاً للهجران والامتعاض قبل انقضاء ذلك اليوم. كما يجب التأكيد على أن الذي يبدو من ظاهر الكلام أن على الرجل أن يكون هو الذي يأخذ بزمام المبادرة؛ إذ حتّى في أشدّ حالات المسألة التي هي النشوز نجد الخطاب في الآية في ما يتعلَّق بالهجر والمودّة وعدم العدوان والعودة إلى المودّة موجَّهاً إلى الرجل، دون المرأة، ولذلك على الرجل أن يأخذ هو زمام المبادرة لمصالحة الزوجة.
التهديد: لم تَرِدْ كلمة التهديد في الآية، بَيْدَ أن الحافظ ابن حجر يقول؛ استناداً إلى سائر الأدلّة الشرعية: «في قوله: لن يضرب خياركم دلالةٌ على أن ضربهنَّ مباحٌ في الجملة، ومحلّ ذلك أن يضربها تأديباً إذا رأى منها ما يكره في ما يجب عليها فيه طاعته، فإنْ اكتفى بالتهديد ونحوه كان أفضل. ومهما أمكن الوصول إلى الغرض بالإيهام لا يعدل إلى الفعل؛ لما في وقوع ذلك من النفرة المضادّة لحسن المعاشرة المطلوبة في الزوجية، إلاّ إذا كان في أمرٍ يتعلَّق بمعصية الله»([54]).
الضرب: تقول الآية الكريمة: إذا استنفدْتُم جميع المراحل، ولم يُجْدِ أيٌّ منها نفعاً، ولم يكن هناك بُدٌّ من الضرب فـ ﴿اضْرِبُوهُنَّ﴾. وقبل الاستمرار في البحث لا بُدَّ من التنويه إلى أننا لسنا في مقام القول بالضرب، أو توجيه الضرب تحت أيِّ عنوان من العناوين، وإنّما نروم تقرير رواية نظرية القائلين بجواز الضرب فقط، وأنهم لم يقولوا بجواز الضرب مطلقاً. وهذا ما تمّ التصريح به من قبل الحافظ ابن حجر في فتح الباري([55]). وإن الضرب في هذه الآية يمثِّل العبارة المعروفة القائلة: «آخر العلاج الكَيّ». وفي الحقيقة والواقع فإن الضرب في صدر الإسلام كان يمثِّل الخيار وردّ الفعل الأوّل من قبل الرجال تجاه نشوز النساء، وقد عمد النبيّ الأكرم| إلى تحويله وجعله آخر الخيارات، وقد وضع عليه من الشروط والقواعد ما يجعله منتفياً من الناحية العملية.
هذا، وقد رُوي في حديث جابر أنّ النبيّ الأكرم| قال في حجّة الوداع: «أيُّها الناس، اتَّقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهنَّ أن لا يوطئْنَ فرشكم أحداً تكرهونه، فإذا فعلْنَ ذلك فاضربوهنَّ ضرباً غير مبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف»([56]).
في تلك البيئة لم تكن هناك عقوبةٌ أفضل على هذا التمرّد والنشوز، وكانت العقوبة موكولةً إلى العُرْف، واليوم صادقوا على عقوبة الطلاق، والتي هي ـ بطبيعة الحال ـ أسوأ من الضرب غير المبرِّح.
كيفية وشرائط الضرب
الشروط الخمسة للضرب غير المبرِّح: ارتكاب الفاحشة المبينة والعلنية، ورعاية الترتّب في ردود الأفعال، والضرب برفق، والقصد إلى الإصلاح، والاكتفاء بالحدّ الأدنى من التأديب. وعلى حدّ تعبير ابن عاشور: يجب أن لا يعدّه العُرْف ظلماً وإسرافاً في الضرب. كما يُجْمِع الفقهاء من الفريقين على ضرورة أن يكون الضرب غير مبرّح.
الضرب غير المبرّح: كيف يمكن للضرب أن يكون غير مبرّح؟ فما هو معنى التعبير بـ «غير المبرّح»، الذي تكرَّر ذكره في كلام النبيّ الأكرم| وأقوال المحدِّثين؟ إن غير المبرّح يعني الذي لا يؤدّي إلى الشعور بالألم، أو يخلِّف جراحة. وعلى حدّ تعبير الشيخ الطوسي: لا يترك ألماً، ولا يُسيل دماً، ولا يُبقي أثراً.
أداة الضرب: قال صاحب الكشّاف: «فإنْ لم ينفع ذلك معها جاز له ضربها ضرباً غير مبرّح بسواك أو بمنديل ملفوف، لا بسوط ولا بعصا أو نحوه. والسواك ـ كما لا يخفى ـ دقيقٌ وقصير، طوله غالباً طول القلم»([57]).
وعن عطاء قال: «قلتُ لابن عبّاس: ما الضرب غير المبرّح؟ قال: السواك وشبهه يضربها به»([58]).
وهناك روايةٌ عن أمّ سَلَمة تدلّ على أن مراد النبي الأكرم| من الضرب غير المبرّح هو الضرب بالسواك. وإليك نصّ هذه الرواية: عن أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: كان رسول الله| في بيتي، وكان بيده سواكٌ، فدعا وصيفةً له ـ أو لها ـ، حتّى استبان الغضب في وجهه، وخرجَتْ أمّ سلمة إلى الحجرات، فوجدت الوصيفة وهي تلعب ببُهْمةٍ، فقال: ألا أراك تلعبين بهذه البُهْمة ورسول الله| يدعوك! فقالت: لا والذي بعثك بالحقّ، ما سمعتُك، فقال رسول الله|: لولا خشية القَوَد لأوجعتك بهذا السواك»؛ وفي روايةٍ ثانية: «لولا القصاص لضربتُك بهذا السواك؛ وفي روايةٍ أخرى: «لولا مخافة القصاص لأوجعتك بهذا السوط»([59]).
مكان الضرب: وحتّى الضرب بهذا المقدار من الأعواد والخيوط الرقيقة الموجود في السواك لا يجوز استعمالها في جميع مواضع الجسد. فهناك بابٌ في صحيح مسلم تحت عنوان: «النهي عن الضرب في الوجه»، وذكر تحت هذا العنوان مجموعة من الروايات. وقد تمّ النهي العام عن ضرب وجه مطلق الكائن الحيّ، ومن ذلك ما رواه النووي: «وَأَمَّا الضَّربُ فِي الوَجْهِ، فَمَنهِيٌّ عَنهُ فِي كُلِّ الحَيَوَانِ المُحتَرَم، مِنَ الآدَمِيِّ وَالحَمِيرِ وَالخَيلِ وَالإِبِلِ وَالبِغَالِ وَالغَنَمِ وَغَيرِهَا، لَكِنَّهُ فِي الآدَمِيِّ أَشَدُّ؛ لأَنَّهُ مَجمَعُ المَحَاسِنِ، مَعَ أَنَّهُ لَطِيفٌ لأَنَّهُ يَظهَرُ فِيهِ أَثَرُ الضَّربِ، وَرُبَمَا شَانَهُ، وَرُبَمَا آذَى بَعضَ الحَوَاسِّ»([60]).
كما لا يجوز ـ في بعض الموارد ـ تركيز الضرب على بعض المواضح، ولا بُدَّ من تفريق الضرب([61]).
ورُوي عن جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبي نهى عن ضرب المرأة على وجهها([62]).
قصاص الضرب المبرّح: لقد استند ابنُ كثير في القول بحرمة ضرب الوجه بذات الآية، وذلك حيث يقول: وَقَولُهُ: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً﴾ أي: فَإِذَا أَطَاعَتِ المَرأَةُ زَوجَهَا فِي جَمِيعِ مَا يُرِيدُ مِنهَا، مِمَّا أَبَاحَهُ اللهُ لَهُ مِنهَا، فَلا سَبِيلَ لَهُ عَلَيهَا بَعدَ ذَلِكَ، وَلَيسَ لَهُ ضربها ولا هجرانها»، ثمَّ استطرد قائلاً: «وَقَولُهُ: ﴿إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً﴾ تَهدِيدٌ لِلرِّجَالِ إِذَا بَغَوْا عَلَى النِّسَاءِ مِن غَيرِ سَبَبٍ، فَإِنَّ اللهَ العَلِيَّ الكَبِيرَ وَلِيُّهُنَّ، وَهُوَ مُنتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُنَّ، وَبَغَى عَلَيهِنَّ»([63]).
هذا، وإنْ أدى ضرب الرجل إلى تلف المرأة كان ضامناً، وقيل في ذلك: «إنْ تلف من الزوجة شيءٌ بسبب الضرب ضمن ما وقع منه؛ لتبيُّن أنه إتلافٌ، لا إصلاح»([64]).
بعيداً عن رؤية الأولاد: يجب أن يقوم الرجل بتأديب زوجته ـ على نحو ما تقدَّم ـ بعيداً عن مرأى ومسمع الأولاد؛ لما في ذلك من التأثيرات السلبية على أجواء الأسرة.
عدم الضرب حال الغضب: يجب أن يتورَّع الرجل بالمطلق عن ضرب الزوجة في حالة الغضب؛ لأنه سيتجاوز الحدود المفروضة عليه في مثل هذه الحالة. وقال القاري في هذا الشأن: «وَإِنْ جَازَ [الضرب] بِشَرطِهِ فَالأَوْلَى تَركُهُ. قَالُوا: بِخِلافِ الوَلَدِ، فَإِنَّ الأَوْلَى تَأدِيبُهُ، وَيُوَجَّهُ بِأَنَّ ضَربَهُ لِمَصلَحَةٍ تَعُودُ إِلَيهِ، فَلَم يُندَبِ العَفْوُ، بِخِلافِ ضَربِ هَذَينِ، فَإِنَّهُ لِحَظِّ النَّفسِ غَالِباً، فَنُدِبَ العَفْوُ عَنهُمَا؛ مُخَالَفَةً لِهَوَاهَا، وَكَظْماً لِغَيْظِهَا».
كما ذهب الشيخ محمد هادي معرفت ـ وهو من علماء الشيعة المعاصرين ـ إلى الاعتقاد بأن الأَوْلى أن يكون التأديب من طريق التضييق في النَّفَقة، وليس الضرب باليد أو العصا، وذلك تأسِّياً بالنبيّ الأكرم| والأئمّة الأطهار^ (الذين لم يُؤْثَر عنهم الإساءة إلى نسائهم أبداً)، وطبقاً لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21)، فإنّ الأَوْلى هو ترك الضرب([65]).
مقدار الضرب: كما لا يجوز الضرب فوق العشرة، فإنْ زاد على ذلك كان في الزائد قصاصٌ. فقد روى أبو بُرْدة الأنصاري عن رسول الله| أنه قال: «لا تجلدوا فوق عشرة أسواط، إلاّ في حدٍّ من حدود الله»([66]).
وعن أبي هريرة قوله: قال رسول الله|: «مَنْ ضرب ظلماً اقتصّ منه يوم القيامة»([67]). وعلى الرغم من النشوز جاء في المستدرك أن الرجل الذي يضرب زوجته فوق الثلاث (على الكيفية المتقدّمة)، جاء مفضوحاً يوم القيامة([68]).
القصد من الضرب أو فلسفة الحكم
إن التأديب إنما يجوز إذا كان في دائرة الشرع، فإنْ تجاوزها كان حراماً ومصداقاً للعنف الأسري، ولذلك تمّ التصريح به في الآية الشريفة.
جاء في الآية 21 من سورة الروم قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾، بمعنى أن الأصل والأساس في الحياة الأسرية يقوم على المودّة والتراحم. من هنا فإنّ الهدف من كل تدبيرٍ أو عقوبة يجب أن يكون هو الوصول إلى المودّة، فإنْ أدّى الضرب إلى زوال المودة كان في ذلك نقضٌ للغرض. من هنا عندما يتحدّث القرآن الكريم عن بلوغ الغاية التي هي التمكين والطاعة يستعمل لفظ «أطَعْنَكم»، وهو من الطَّوْع والرغبة. وفي ما يتعلَّق بالعقوبة ـ التي هي أشبه بالمزاح بالسواك ـ في ما يتعلَّق بتمرُّد الزوجة على زوجها أو ارتكاب الفاحشة المبينة لا ينبغي أن تأتي هذه العقوبة في إطار التشفِّي والانتقام، وإنما يجب أن تبقى العقوبة في إطار الإصلاح والتأديب، وتشجيع المرأة على مواصلة الحياة الأسرية بشكلٍ طبيعي، وهو ما تمَّ التصريح به في الآية، حيث تقول: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُوا عَلَيهِنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء: 34)؛ إذ ورد في الآية 20 من ذات السورة قوله تعالى: ﴿وَإِنْ أَرَدْتُم استِبدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾. إن هذه الآية تثبت أن بعض الرجال كانوا يتَّهمون نساءهم؛ بغية ممارسة الابتزاز بحقِّهنَّ واسترجاع المهر أو أخذ أموالهنَّ؛ الأمر الذي كان يضطر النساء إلى التمكين؛ كي لا تبقى لدى الرجال من ذريعةٍ عليهنَّ، إلاّ أنّهم كانوا يبحثون عن ذرائع جديدة.
إن هذا البحث من المباحث الجوهرية؛ إذ تم بيان غرض الشارع والقصد والغاية في هذه الآية من ناحية المقاصد. وعليه إذا كان هناك اليوم من أسلوب أفضل للتأديب والإصلاح، وتمتين الحياة والعلاقات الزوجية، كان ذلك الأسلوب هو الأَوْلى بالاتِّباع. لم يكن هناك في ذلك العصر نظامٌ حقوقي متكامل، وكان الناس في الكثير من الأحيان يلجؤون إلى تطبيق العقوبة وإحقاق الحقّ بأنفسهم، وإذا قُتل واحدٌ من أفراد القبيلة تصدَّتْ القبيلة للاقتصاص لقتيلهم بقتل أفراد من قبيلة القاتل. وفي ظلّ هذه الظروف عمد النبيّ الأكرم| إلى وضع القوانين المتقدِّمة؛ للسيطرة على الأوضاع بشكلٍ معقول، ولو تمَّتْ متابعة هذه الجرائم ومعالجتها في الوقت الراهن، حيث النظام الجزائي الشامل والمتكامل، لن يكون هناك أيّ مانعٍ، بل إن الأَوْلى من ناحية المقاصد هو اتِّباع الأسلوب الذي يوصلنا إلى مقاصد الحكم بشكلٍ أفضل.
إن تأثير هذا القصد في الحكم من الأهمِّية بحيث عمد النبيّ الأكرم| إلى تحديد مدّة الهجران بثلاثة أيام كحدٍّ أقصى؛ إذ لو زاد على ذلك فإنه سيُعطي نتائج معكوسة. وهذا بطبيعة الحال سيُخِلّ في الغاية المتمثِّلة بالإصلاح، ويؤدِّي إلى استفحال الخلاف والجفوة بين الزوجَيْن، وتأزيم الموقف بينهما على نحوٍ أشدّ.
ترجيح ترك الضرب غير المبرّح: وهناك إلى ذلك رواياتٌ كثيرة تدلّ على أرجحية ترك حتّى هذا المقدار من الضرب غير المبرّح، والاكتفاء بإظهار الاستياء وعدم الرضا، وأن يتوقَّف مفهوم الهجران على هذا المقدار. فقد رُوي عن أمّ المؤمنين عائشة أنها قالت: «ما ضرب رسول الله| شيئاً قطّ بيده، ولا امرأة، ولا خادماً، إلاّ أن يجاهد في سبيل الله، وما نيل منه شيءٌ قطّ فينتقم من صاحبه، إلاّ أن ينتهك شيءٌ من محارم الله؛ فينتقم لله عزَّ وجلَّ»([69]).
وقال النووي فيه: «إن ضرب الزوجة والخادم والدابّة وإنْ كان مباحاً؛ للأدب، فتركه أفضل»([70]).
وفي رواية عائشة حيث قالت: إن النبيّ لم يضرب أحداً، وعندما أرادت الاستثناء، كان الاستثناء لا يشمل النساء أيضاً، وإنَّما يتعلق بأحداث الحرب والقتال. ولا يخفى أن العنف في الحروب الدفاعية أمرٌ لا محيص عنه.
وقال القاري أيضاً: «وَضَربُهُمَا وَإِنْ جَازَ بِشَرطِهِ فَالأَوْلَى تَرْكُهُ»([71]).
وهناك في المستدرك باب تحت عنوان: «استحباب إكرام الزوجة وترك ضربها»([72]).
إذن اتَّضح حتّى الآن أن الأسرة السالمة والطبيعية هي التي يعمرها التفاهم والاحترام المتبادل والحقوق المتساوية. ولو أن اعتدال الأسرة تعرَّض لنكسةٍ فذلك يعود إمّا لتعنُّت الرجل أو المرأة؛ فإنْ كان التعنُّت من جانب الرجل فله حكمٌ سنأتي على ذكره لاحقاً؛ وإنْ كان التعنُّت من قبل المرأة فقد تقدَّم بيان حكمه الإرشادي بالضرب على نحو ما ذكر. فإذا أردْتَ الإصرار على التعاطي مع القضية من الجانب الحقوقي الجافّ والبحت فقد تقدَّم بيان الحكم في شرحنا لأبعاد آية الضرب، مع ما اشتملت عليه من المسائل والموازين الأخلاقية؛ وأما إذا أردت التعاطي معها من زاوية الإنسان المترفِّع والحليم وصاحب الأخلاق العالية والسامية فهي أن تغضّ الطرف وتترك العقوبة، رغم وجود الخوف من خطر النشوز، وقامت الأدلّة والدوافع بأجمعها على استيفاء شرائط الضرب على نحو ما تقدَّم، ولم ينفع الوعظ ورغم النشوز.
لو ألقيتم نظرةً على المحاكم لوجدتم الرجال يحتجّون على زوجاتهم بالنشوز، وفي البلدان الأخرى يتَّهم الرجال زوجاتهم بالخيانة الزوجية، وبذلك يدعمون موقفهم، وينجحون في الحصول على أحكام لصالحهم. فقد يقول أحدكم: ربما كان الحقّ في ذلك مع الرجل، فكيف يكون الشأن في مثل هذه الحالة؟ الجواب: إن الرواية المتقدمة تنصح بالتحلّي بالصبر وسعة الصدر.
روى أبو هريرة عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَلاَ يُؤذِي جَارَهُ، وَاستَوصُوا بِالنِّسَاءِ خَيراً؛ فَإِنَّهُنَّ خُلِقنَ مِن ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعوَجَ شَيءٍ فِي الضِّلَعِ أَعلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبتَ تُقِيمُهُ كَسَرتَهُ، وَإِنْ تَرَكتَهُ لَم يَزَل أَعوَجَ، فَاستَوصُوا بِالنِّسَاءِ خَيراً»([73]).
وقال النووي في معرض شرحه لهذه الرواية: «فِيهِ الحَثُّ عَلَى الرِّفقِ بِالنِّسَاءِ وَالإِحسَانِ إِلَيهِنَّ، وَالصَّبرِ عَلَى عِوَجِ أَخلاقِهِنَّ، وَاحتِمَالِ ضَعفِ عُقُولِهِنَّ، وَكَرَاهَةِ طَلاقِهِنَّ بِلا سَبَبٍ، وَأَنَّهُ لا مَطمَعَ فِي استِقَامَتِهِنَّ»([74]).
وقال المناوي: «وفيه ندب المداراة؛ لاستمالة النفوس وتألُّف القلوب، وسياسة النساء بأخذ العفو عنهنَّ والصبر عليهنَّ، وأنّ مَنْ رام تقويمهنَّ فاته النفع بهنَّ، مع أنه لا غنى له عن امرأةٍ يسكن إليها»([75]).
وهناك في كتاب «وسائل الشيعة» بابٌ بعنوان: استحباب الإحسان إلى الزوجة والصفح عن ذنبها. وقد اشتمل على عدد من الروايات في هذا الشأن. وبعد ذلك ورد بابٌ بعنوان: استحباب مداراة الزوجة([76]). رُوي عن أبي عبد الله أنه قال: ملعونٌ ملعونٌ مَنْ آذى زوجته، وسعيدٌ سعيدٌ مَنْ أكرم زوجته ولم يُؤْذِها([77]).
من هنا ذهب الكثير من العلماء إلى الاعتقاد بأن الانصراف عن الضرب أفضل وأكمل لبناء المودّة، حيث قال: إن الترفُّع عن الضرب أفضل وأكمل؛ إبقاءً للمودّة([78]).
ورُوي عن أم المؤمنين عائشة أنها قالت: كان النبيّ يتورَّع عن ضرب خادمٍ، حتّى مع وجود الداعي إلى ذلك.
8ـ المعنى الأدقّ والأكثر إنصافاً للآية
بعد هذا الإيضاحات المقتبسة من القرآن الكريم، والمدعومة بالروايات، يمكن بيان معنى الآية على النحو التالي: لو نشزت المرأة، وارتكبت فاحشة مبينة (لا فاحشة غير معلنة)، وكان هناك خوفٌ على بقاء كيان الأسرة وتماسكها، فيجب في المرحلة الأولى أن نبادر إلى النصح بالكلمة الطيبة، فإنْ لم يُجْدِ ذلك نفعاً يكون الانتقال إلى مرحلة الامتعاض وإبداء الاستياء، على أن يكون ذلك محصوراً ضمن إطار البيت، بمعنى أن لا تظهر علامات استياء الرجل من زوجته لمَنْ هو خارج البيت، وعلى أن لا يستمرّ الامتعاض لأكثر من ثلاثة أيام، فإنْ لم يُجْدِ ذلك نفعاً أيضاً انتقل إلى المرحلة الثالثة والأخيرة، وهي الضَّرْب بما يُشبه المزاح بالمنديل أو بعيدان السواك، بحيث لا يترك أثراً، فلو ترك أثراً وجب عليه القصاص والدية أيضاً. كما يجب الاكتفاء من الضرب بالحدّ الأدنى، وأن لا يتعدّى مقدار الضرب غير المبرّح عشر ضربات([79]). على أن لا يتمّ هذا الأمر بمرأى من الآخرين، بما في ذلك الأولاد داخل البيت. مضافاً إلى أن هذا النوع من العقاب يجب أن لا يكون عن غضبٍ، وأن يكون الهدف منه هو الإصلاح، دون الانتقام والتشفِّي. وحيث يقوم أساس الحياة على المودة وكانت العقوبة على هذا النحو تقتصر على ارتكاب الفاحشة المبيّنة، وفي غيرها تكون العقوبة والإساءة إلى المرأة عملاً محرَّماً، وفي حال التمكين وترك الخلاف لا يحقّ للرجل أن يسيء معاملتها، وأن يختلق الأعذار والحجج لذلك.
وهنا يمكن لكم مقارنة هذا المعنى بالمعنى الذي يصوِّره رشيد رضا في تفسير المنار، حيث تكون هناك في ناحية امرأةٌ ضعيفة ونحيفة وطاهرة ولبيبة، وفي الناحية الأخرى رجلٌ جلف ممسك بالسوط واقف على رأسها، ويلهب لحمها بالسوط دون أن يصدر عنها ما يستوجب ذلك، ومع ذلك نقول بأن الله قد أمضى هذا العمل الشنيع. ويتمّ بيانه وكأنّ ضرب المرأة ـ على كلّ حال ـ حقٌّ من الحقوق البديهية والثابتة للرجل.
وهناك تقريرٌ آخر للآية مفاده: إن للضرب في اللغة العربية معانٍ مختلفة، من قبيل: المكث، والإعراض، والسير في الأرض، والإحجام والامتناع، والجلوس في البيت، والتحوُّل، والمقاربة والمضاجعة، وما إلى ذلك. كما استعمل الضرب في القرآن بمعانٍ مختلفة([80]). وطبقاً للقرائن المختلفة الموجودة في هذه الآية وغيرها من الآيات الأخرى فإن الضرب في هذه الآية لا يعني الضرب المعهود، بل يعني المداعبة والملاطفة([81]).
لقد ذكر الدكتور عبد الحميد أحمد أبو سليمان رئيس المؤسَّسة العالمية للفكر الإسلامي، في كتاب له تحت عنوان: «ضرب المرأة وسيلة لحل الخلافات الزوجية»، ستّ عشرة آية في مختلف معاني الضرب، ومن بينها: المفارقة والانفصال بشكلٍ محدَّد، وقال: إن المراد من الضرب في هذه الآية هو الابتعاد والانفصال الكامل عن المرأة وترك البيت، خلافاً للهجران المذكور في ذات الآية، الذي يعني المفارقة داخل البيت وترك المضاجعة. فالمرحلة التالية ـ وهي الأشدّ ـ أن يترك البيت. فليس المراد من الضرب هنا هو المعنى العُرْفي للضرب؛ لأن عضوية المرأة في الأسرة إنما هي عضوية اختيارية، وفي الأمور الاختيارية لا توجد أرضية للإكراه والعنف والقسوة([82]). كما قال أبو سليمان في هامش له في الصفحة 49 من هذا الكتاب: هناك فرقٌ بين الضرب والجلد. وإنّ القرآن الكريم لا يستعمل مفردة الضرب عندما يريد معنى العقوبة والتأديب، وإنَّما يستعمل كلمة الجلد في مثل هذه الحالة. وهذا أمرٌ جدير بالملاحظة.
أما الباحث السوري الدكتور محمد أبو الخير فقد ذهب إلى القول بعدم ضرورة تغيير معنى الضرب بسبب المتغيِّرات الحضارية الجديدة، وقال في معرض نقده لنظرية الدكتور عبد الحميد أحمد أبو سليمان: هناك فرقٌ كبير بين النشوز والاختلافات الزوجية، من حيث الماهية، ومن حيث الحلول. فأمّا من ناحية الحلّ فإن الخلافات الزوجية ـ كما يذهب الأكثر ـ لا تُحلّ بالضرب، وإنَّما بطرق وأساليب أخرى، من قبيل: التعليم والنصيحة والمشورة أو الحكم القضائي إذا بلغ الأمر إلى الاختلاف والانفصال من الطرفين (كما صرَّح القرآن الكريم بذلك)؛ أما بشأن النشوز على ما مرّ بيانه فهو عبارةٌ عن التقصير وتضييع مال الزوج، أو هتك عرضه وسمعته عن قصدٍ وإصرار، وفي مثل هذه الحالة يكون الضرب واحداً من الحلول، ولكنّه آخر الحلول، لا أوَّلها. وقال الدكتور محمد أبو الخير في بيان الفرق بين الضرب والجلد: إن بين الضرب والجلد عموماً وخصوصاً (فالجلد نوعٌ من الضرب)، والجلد أشدّ من الضرب، فهو عبارةٌ عن ضربٍ خاصّ، بَيْدَ أن القرآن الكريم قد ذكر معنى التأديب والعقوبة الجسدية والنفسية بقصد العقوبة والتأديب بلفظ الضرب، لا بلفظ الجلد المخصوص، بمعنى أن القرآن الكريم عندما يستعمل كلمة الضرب فإنه يعني أن يكون التأديب دون الجلد، الذي يعني الضرب الشديد([83]).
ولكنْ مع وجود احتمال صحّة أفهام الآخرين بشأن كلمة الضرب، من قبيل: الملاطفة، والافتراق وغيرهما، لا نروم أن نتعاطى مع المسألة من خلال التأويل، أو أن نتَّخذ من هذا النوع من التفاسير مبنىً لكلامنا واستنتاجاتنا.
9ـ المنهج التضييقي والبنائي لحلّ المشكلة
إن إصلاح القِيَم الثقافية المترسِّبة والسقيمة عمليةٌ شاقّة، وتأخذ الكثير من الوقت، ولا يمكن أن تقوم على الشعارات وممارسة الضغوط، بل يجب أن تقوم على آليّةٍ تدريجية مدروسة. وإنّ ما قيل من أن الضرب في صدر الإسلام كان يمثِّل ردّة الفعل الأولى التي يقوم بها الرجال تجاه الناشزات من النساء، وما قام به النبيّ الأكرم من تبديل ما عليه العرف، وجعل الضرب آخر الخيارات، وبتلك الشروط والمواصفات، بحيث يبطله على المستوى العملي، دون أن يصرِّح بذلك، يمثِّل في واقع الأمر معالجة حكيمة للمشكلة، من خلال الإبقاء عليها بحَسَب الظاهر، مع تفريغها من المحتوى في الباطن. وقد كان هذا الأسلوب في تلك المرحلة يمثِّل منهجاً دبلوماسياً لرفع الضيم والظلم عن المرأة، دون أن يؤدِّي إلى تداعيات اجتماعية لا طاقة للناس بها في تلك الأزمنة. كما اشتملت هذه الآية في الوقت نفسه على بيان مسائل حقوقية وأخلاقية بارزة أيضاً. فمن ناحيةٍ، وبالتوازي مع هذه الأساليب والحلول، ووضع الضوابط والكوابح التي تقيِّد اندفاعة الرجال في انتهاك حقوق النساء، يسعى النبيُّ جاهداً إلى رفع القوانين المجحفة بحقّ المرأة، والعمل على حلِّ مشكلة عدم المساواة، من خلال تغيير الأفكار، والقيام برفع منزلة المرأة البدوية المُحْتَقَرة. وهذا ما سيتكفَّل بإيضاحه البحث التفصيلي حول الموضوعات التالية:
1ـ نزول سورة الكوثر الذي رفع من شأن المرأة ومكانتها.
2ـ توجيه الخطاب القرآني إلى كلٍّ من الذكر والأنثى، والرجل والمرأة، على السواء.
3ـ معاملة النبي لنسائه النموذجية والفريدة للغاية، بحيث يمكن التأسِّي والاقتداء بها في التعامل مع النساء.
4ـ سماح النبيّ الأكرم| للمرأة بأن يكون لها حضورٌ في التجمُّعات الدينية العامة؛ أسوةً بالرجل.
10ـ نتائج البحث
إن هذا ليس مجرَّد بحثٍ حوزوي وعلمي وحقوقي؛ كي يقال: إن هذا البحث لا يحلّ عقدةً من المشاكل القائمة في ما يتعلق بالمرأة. وبطبيعة الحال فإنّ هذا البحث ناظرٌ إلى مسألةٍ محدَّدة، وليس من اللازم أن تبحث في جميع شؤون المرأة، ولكنها حتّى بهذا المقدار تشتمل على نتائج وثمار واقعية هامّة، ومن بينها ـ على سبيل المثال ـ:
1ـ تمَّتْ المصادقة على معاهدة رفع كافّة أشكال الظلم والحيف بحقِّ المرأة، بتاريخ: 18 / ديسمبر / 1979م، في الجمعية العمومية لمنظمة الأمم المتحدة. وقد وقعت على هذه المعاهدة 196 دولة، ليلتحق بها بعد ذلك 86 دولة أخرى. وحتّى عام 2003م التحق ما يقرب من 27 دولة إسلامية بهذه المعاهدة، ومن هذه الدول: 14 دولة من 17 دولة أفريقية، و5 دول من 12 دولة آسيوية، و8 دول من 21 دولة عربية. وعلى الرغم من انضمام دول إسلامية، من قبيل: الجزائر وبنغلادش ومصر وأندونيسيا والعراق وجامايكا والأردن والكويت وليبيا وسنغافورة وتايلند وتونس وفنزويلا، وحتّى السعودية واليمن([84])، إلى هذه المعاهدة بشكلٍ مشروط لا تزال الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترفض الانضمام إليها، وهناك مَنْ يقول: ليست هناك أيّ مصلحة في الانضمام إلى هذه المعاهدة؛ إذ إنه لن يحلّ أيّ مشكلةٍ من المشاكل التي تعاني منها نساؤنا، بل قد يؤدِّي ذلك إلى مزيدٍ من المشاكل لهنَّ([85]). ويبدو أن من أسباب ذلك هو ظاهر هذه الآية والآيات المماثلة في القرآن الكريم. في حين لو تمَّ فهم الآية بالشكل الصحيح لكان على البلدان الإسلامية أن تكون أول المنضمِّين إلى هذه المعاهدة. ولذلك علينا أن نتعامل مع معايير حقوق الإنسان بمرونةٍ، من خلال تقديم فهم جديد ومنطقي للمفاهيم والتعاليم الدينية.
2ـ إن من مشاكلنا ظاهرة القتل في الفراش. فطبقاً للقوانين الإيرانية، والفقه الراهن الذي يتَّخذ مصدراً لتشريع القوانين والأحكام القضائية، لو وجد الزوج رجلاً أجنبيّاً يطأ([86]) زوجته جاز له قتلهما، ولا قصاص عليه. لا شَكَّ في شناعة الخيانة الجنسية، سواء صدرَتْ من المرأة أو الرجل، إلاّ أنّه لا يسوِّغ القتل. وقد شرَحْتُ في كتاب «حقّ حيات» أنّ القرآن لم يُجِزْ القتل إلاّ في قصاص النفس، وهو أيضاً قابلٌ لأن يكون مع وقف التنفيذ. فلو كان القرآن هو المبنى فلا يوجد دليلٌ وآية لتسويغ القتل بوصفه عقوبة على سائر الموارد. كما لا يوجد دليلٌ من القرآن على جواز القتل على الخيانة الجنسية، بل الحكم بالقتل في مثل هذه الحالة مخالفٌ للقرآن، وآية الضرب الخاصّة بهذا المورد (الخيانة الزوجية) لا تفيد أكثر من الضرب غير المبرّح، والذي يمكن الصفح عنه أيضاً.
3ـ إن هذه الأبحاث، ضمن مساعدتها على إصلاح رؤية شطر من المجتمع المتأثِّر بالتعاليم الدينية الخاطئة، تؤدِّي إلى لفت انتباه الجهاز التشريعي إلى هذا الفهم المختلف أيضاً.
4ـ وأما بشأن العالم المعاصر فهل الأمر كذلك حقّاً؟ تثبت التجارب أن الضرب والعقوبة الجسدية لا تزال هي السائدة إلى اليوم في المجتمعات المتحضِّرة وغير المتحضِّرة، حتّى من دون تلك المقدّمات والمراحل المذكورة في الآية. وقد تحوَّل العنف ضدّ المرأة إلى معضلةٍ عالمية، وتمّ؛ لأجل مواجهة هذه الظاهرة والقضاء عليها، المصادقة على معاهدة رفع كافّة أنواع العنف والظلم ضدّ المرأة. وطبقاً لتقرير منظمة العفو الدولية فإنّ العنف الأسري يؤدّي إلى حالات وفيات وإعاقة جسدية بالنسبة إلى النساء الأوروبيات اللاتي تتراوح أعمارهنَّ ما بين 16 إلى 44 سنة، بشكلٍ أكثر من حالات الوفيات والإعاقة التي تتسبَّب بها أمراض السرطان وحوادث السير. كما يتعرّض 30% إلى 35% من الأمريكيّات إلى العنف الجسدي من قبل أزواجهنَّ، وإن 15% إلى 20% منهنَّ يتعرَّضْنَ للضرب في أثناء فترة الحمل، وإنّ ثلاثة من كلّ عشر حالات وفاة يكون فيها قاتل المرأة هو زوجها، أو سائر الرجال الآخرين.
وفي إنجلترا تتعرَّض سبع فتيات من كلّ عشرة إلى التحرُّش الجنسي أثناء عملهنَّ([87]). كما أن نسبة العنف [ضدّ المرأة] في المجتمعات الأخرى، مثل: إيران وأفغانستان، مرتفعةٌ جدّاً([88]).
إن الذين يعملون في المحاماة يعلمون أن من أبرز المسائل الشائعة في المحاكم الإيرانية، التي تعالج آلاف الملفات في خصوص موضوع العنف الأسري، هي طرح مسألة النشوز، حيث يعمد الكثير من الرجال إلى استخدام هذه الورقة للاحتيال على القانون، وربما يكون ذلك بتلقينٍ من محاميهم؛ لتبرير العنف والضرب الذي مارسوه بحقِّ زوجاتهم. كما نجد هذه الظاهرة سائدةً في الغرب أيضاً، ولكنْ من خلال استبدال مصطلح النشوز بالخيانة الزوجية، أو سوء خُلُق الزوجة؛ ليحوزوا الحكم لصالحهم. وأنا بطيعة الحال لا أرى لظاهرة العنف ضدَّ المرأة جذوراً في التعاليم الدينية، بل إنها تعود إلى ضعفٍ أخلاقي وثقافي، وأنّه لذلك لا بُدَّ من تغيير الآراء، ولكنّ الأحكام أو الفهم الديني الخاطئ يُتَّخذ ذريعةً ومستمسكاً لتبرير العنف الأسري، من هنا يجب قطع جميع مصادر هذه الذرائع والتبريرات؛ لنثبت أن للنشوز تعريفاً وضوابط وشرائط واضحة ومحدَّدة ودقيقة.
5ـ تتمّ اليوم مواجهة هذا العمل الصادر عن النساء من خلال العنف، وحتّى قتل النساء على يد الرجال في المجتمعات المتخلِّفة، والتي ينعدم فيها عنصر الأخلاق. كما يعالج الأمر في أكثر البلدان تحضُّراً من خلال الطلاق، كما هو الحال بالنسبة إلى النظام الحقوقي في الغرب، وإن نشوز المرأة ـ سواء أكان بمعنى المعصية وعدم التمكين أو ارتكاب الفاحشة ـ يمنح الزوج حقّ الطلاق. وأمّا في النظام الحقوقي للقرآن، حيث تحظى الأسرة بأهمِّية كبيرة، فيتمّ التأكيد على قيمة المرأة، وضرورة الحفاظ عليها من السقوط فريسةً للآفات الروحية والنفسية والاجتماعية الناشئة عن الطلاق. من هنا يسعى القانون القرآني ما أمكنه إلى عدم وصول الأمر إلى الطلاق. ومع ذلك فإنّ الضرب من القبح والشناعة بحيث ورد في روايةٍ مأثورة عن النبيّ الأكرم| أن الأمر لو دار بين الضرب بمعناه المتعارف (دون المعنى الفقهي) وبين الطلاق كان الطلاق هو المرجَّح([89]).
11ـ عنف المرأة ونشوز الرجل
إن ظاهرة العنف الأسري لا تقتصر على العنف الذي يمارسه الرجال ضدّ النساء، بل قد تنعكس الآية، حيث نجد هناك حالاتٍ من العنف الذي تمارسه النساء ضدَّ الرجال. غاية ما هنالك أن عنف الرجال ضدَّ النساء أكثر من عنف النساء ضدَّ الرجال. وهذا الأمر يبدو طبيعياً إذا أخذنا القوَّة الجسدية للرجال بالقياس إلى ضعف بنية النساء الغالب بنظر الاعتبار. ولو كانت النساء بشكلٍ عامّ أقوى جسدياً من الرجال لشهدنا الأمر معكوساً، حيث ستكثر ظاهرة عنف النساء ضدَّ الرجال تَبَعاً لذلك. إذن فإنّ ظاهر العنف الأسري مسألةٌ اجتماعية واقتصادية وثقافية.
وفي الوقت نفسه ـ وبسبب التصوُّر الذي كان قائماً بوصفه نتيجةً لفهم آية الضرب ـ كان هذا الإشكال مطروحاً على الدوام، حيث يقال: لماذا يفرِّق القرآن بين نشوز الرجل ونشوز المرأة، بمعنى أن النشوز إذا كان من جانب الرجل نجد فيه دعوة صريحة من القرآن إلى الصلح، بينما عندما يتمّ الحديث عن نشوز المرأة يتمّ تسويغ الضرب والعقوبة الجسدية بوصفها واحدةً من الخيارات؟!
فقد ورد في الآية المتعلِّقة بنشوز الرجل قوله تعالى: ﴿وَإِنْ امرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتْ الأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيراً﴾ (النساء: 128).
توجد هنا عدّة ملاحظات:
إذا كان النشوز من جانب الرجل، وكان عدم تمكينه ناشئاً من المرض والأسباب الطبيعية، فلا شَكَّ في أن الصفح والمدارة والصلح من جهة المرأة هو الأفضل في مثل هذه الحالة؛ وأما إذا كان ناشئاً عن الخيانة فيصل الأمر إلى الاختلاف. وإذا كان النشوز من الطرفين، وهو الذي يصطلح عليه بـ (الشِّقاق)، فيتمّ إرجاع الحالة إلى المحاكم، وسيكون دعامةً قويّة لصالح المرأة.
قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُم شِقَاقَ بَينِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقْ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً﴾ (النساء: 35).
هناك الكثير من المسائل الحقوقية والأخلاقية في هذه الآية، إلاّ أننا نعرض عنها مخافة الخروج والابتعاد عن موضوع بحثنا.
لو فرضنا أن تلك الآية التي تبين معالجة للأمر عبر ثلاث مراحل لا تقتصر على نشوز النساء فقط، وقيل بأن هذه المراحل تجري فيما لو كان النشوز من المرأة أو من الرجل، فيتمّ العمل على طبق ما ورد في الآية 34 من سورة النساء.
لو نخرج إلى حدٍّ ما من العوالم العاطفية، وننظر إلى الأمور بواقعية، فما الذي سيحدث؟ إنّ مثل هذه الآية ترصد ـ بحَسَب الظاهر ـ حقّاً مساوياً للرجل والمرأة، ولكنَّها في الحقيقة تأذن بممارسة العنف ضدَّ المرأة؛ إذ في ظلّ فقدان توازن القوى، وحيث لا تكون لدى المرأة قوّة عضلية وجسدية، لو صدر الأمر لها ـ على غرار الرجل ـ بالامتعاض والضرب لكانت مغلوبةً، وفي الوقت نفسه يصدر الإذن للرجل بضرب المرأة، فسيغدو بإمكان الرجل أن يستعمل هذا الأمر لمصلحته بأن يقول: إن لكلٍّ منا حقّاً متساوياً، وعليه فالمنافسة بيننا ستكون شريفةً، وأيٌّ منّا أمكنه الاستفادة من حقِّه على نحو أفضل كان هو الفائز!
وأمّا في الآية 35 من سورة النساء (في خصوص نشوز الرجال)، التي يبدو ظاهرها لمصلحة الرجل، يتمّ في الحقيقة نفي الإذن بممارسة العنف ضدَّ المرأة. واليوم تمّ اعتبار المحكمة دعامةً وسنداً للمرأة، ومع ذلك فإن حالات العنف ضدَّ المرأة أكثر من أن تحصى. فلو أُعطي الأمر إلى الرجل والمرأة، بَدَلاً من المحكمة، ما هي الكارثة التي ستحلّ بالمجتمع؟!
في المجتمعات النامية، على الرغم من تشريع القوانين الصارمة في حماية المرأة، نجد العنف ضدَّ النساء لا يزال منتشراً على نطاقٍ واسع؛ إذ عندما يعطى الحقّ للمرأة بالمواجهة يكون للرجال اليد الطولى في هذه المواجهة، وستخرج النساء خاسراتٍ من ساحة المعركة. وأما في النظام الحقوقي مورد البحث فإننا نفتح المجال أمام المجتمع والخيِّرين من أفراده؛ ليحولوا دون العنف ضدّ المرأة. واليوم فإن المظهر الكامل للخيِّرين في المجتمع، وطريق ضمان المقصود، يكمن في إرجاع المشاكل بين الزوجين إلى محكمةٍ صالحة وسلطةٍ قضائيّة مستقلّة وعادلة.
في العصر الذي كان يشهد غياباً للنظام القضائي عمد القرآن إلى إحالة المتخاصمين على هيئة تحكيم تمثِّل الطرفين. وفي القرون اللاحقة، حيث قامت الدولة المتكاملة الأركان، بما في ذلك ركن النظام القضائي، ولا سيَّما منذ العصر الصفوي فما بعد، تمَّ الحديث في النصوص الفقهية عن حاكم الشرع. إنّ إدخال مسألة الحكمية والتحكيم يُعَدُّ دعامةً قويّة للمرأة في مواجهة نشوز الرجل.
إن الإشكال الذي تمّ طرحه حتّى الآن هو أنّه إذا كان النشوز بمعنى ارتكاب الفاحشة فلماذا عندما يكون مرتكب النشوز والفحشاء هو الرجل لا تعطى المرأة الحقَّ في إبداء الاستياء وضرب الرجل الناشز، ويتمّ النظر إلى المسألة من زاوية سيادة الرجل ومحاباته ضدَّ المرأة، حيث يكتفى بإيثار الصلح فقط؟! بَيْدَ أنه بالالتفات إلى ما قلناه بشأن آية الضرب يَرِدُ هنا إشكالٌ آخر، وهو: كيف يكون الحال بالنسبة إلى عقوبة ارتكاب الفاحشة؟
في الحقيقة إنّ حقّ إدارة وملكية الفرد على جسمه حقٌّ بشريّ ذاتي، ولا يمكن إلغاؤه حتّى بالزواج. وبعبارةٍ أخرى: إن كلاًّ من المرأة والرجل لا يمتلكان بعضهما بالزواج، وإنما يتمّ تحديد حقّ كلٍّ منهما وملكيته لجسمه، ويتعهَّد الفرد بأن لا يضع هذه الملكية تحت تصرُّف شخصٍ آخر غير الزوج القانوني. وإنّ ميثاق الزواج يتمّ إبرامه على أساس المودّة والرحمة، ولو عمل أحدهما على خلاف ميثاق عقد الزوجية يتمّ فسخ هذا العقد. إن أساس الحياة الزوجية يقوم على الحبّ، أو على المودّة، كما في تعبير القرآن الأدقّ والأقرب إلى الواقعية. إن الحُبّ والعِشْق على نوعين؛ فمنه المسموح؛ ومنه الممنوع أيضاً، وقد يطغى الحُبّ أحياناً، ويتجاوز المساحة المسموح بها من قبل المجتمع. إن الحُبَّ هو حصيلة الفراق، وينتهي بالوصال، أما المودّة فهي حصية الوَصْل والوصال، وتزدهر وتنمو في أحضان الوصال. ولذلك تعتبر المودّة أساساً في عقد الزواج، ويجب أن تكون المداراة من الطرفين.
هناك في بعض الموسوعات والمصادر الروائية بابٌ بعنوان: «حرمة إيذاء كلٍّ من الزوج والزوجة أحدهما الآخر»([90]). لو صدر النشوز عن المرأة أو الرجل، وتمّت خيانة ميثاق الزوجية، لا يمكن إعادة الحبّ والمودّة من طريق استخدام العنف والضرب. وإذا لم يكن بالإمكان إيجاد المودّة بأيّ حال من الأحوال، ولم يمكن مواصلة الحياة من طريق العنف والتباغض، لا يكون هناك من دليلٍ على جواز قتل الزوج أو الزوجة. إن من الموارد التي أُعطي فيها للمرأة حقّ الطلاق من طرفٍ واحد هو الطلاق الخلعي، الذي يحدث في مثل هذه الموارد. قال الشيخ الطوسي في النهاية: «يجب الخلع إذا قالت المرأة لزوجها: إنّي لا أطيع لك أمراً، ولا أقيم لك حدّاً، ولا أغتسل لك من جنابةٍ، ولأوطئنَّ فراشك مَنْ تكرهه إنْ لم تطلِّقني. فمتى سمع منها هذا القول، أو علم من حالها عصيانه في شيءٍ من ذلك ـ وإنْ لم تنطق به ـ وجب عليه خلعها»([91])، ولم يقُلْ: يجب عليه ضربها أو قتلها.
إذن فطريقة الحلّ الأخرى هي الطلاق، ولكنْ حيث تحدَّث القرآن عن «المودّة والرحمة» فإنّه يريد من الرجل أن يعمل ـ قبل أن يبادر إلى الطلاق ـ على استخدام أسلوب الوعظ، وإبداء الامتعاض والاستياء، والضرب غير المبرّح؛ لإعادة المرأة إلى الحياة الزوجية. وإن الأسلوب المطروح في الآية 34 من سورة النساء هو أسلوبُ المودّة والرحمة، بمعنى أن الرجل بعفوه وصفحه عن المرأة يسعى إلى الحفاظ على كيان الأسرة. وتمَّ إقرار حقّ الطلاق في آياتٍ أخرى. وفي المقابل تمَّتْ دعوة المرأة في الآية 35 من سورة النساء إلى العفو عن الزوج، وسلوك طريق المصالحة.
قد يُقال: وكيف يكون الأمر بشأن عقوبة الرجم؟
وبالمناسبة فإن هذا الأمر بدوره من الثمار الأخرى المترتِّبة على بحثنا؛ إذ من النتائج التي نحصل عليها من آية الضرب هو تحقُّق التنازل والعفو عن الرجم الذي أوردنا في فصل من كتابنا «حقّ الحياة»؛ إذ أثبتنا هناك الطرق المعقَّدة والصعبة لإثبات تحقُّق الزنا، بحيث يقول البعض: إنها مستحيلة التحقُّق، وبالتالي إذا تمّ إثبات الزنا، رغم كل الصعوبات الماثلة دون إثباته، ولا يثبت إلاّ بالإقرار والإصرار على الإقرار، ويكون مصداقاً للفاحشة المبيّنة والخيانة الزوجية، لم يحقّ إلاّ للزوج أن يقوم بتعزير زوجته مئة جلدةٍ، وليس القتل. وأما في غير الزوج فيكتفى بتقبيح العمل([92]).
حصيلة البحث
1ـ تختلف رؤيتي عن رؤية المجدِّد الديني في أن نقطة انطلاقة المجدِّد الديني في دفاعه عن الدين تكمن في إعادة تفسير النصوص الدينية، ويكون أسلوبه في هذا الشأن أقرب إلى أسلوب المتكلِّمين، أما نقطة انطلاقي في هذا البحث فتكمن في حقوق الإنسان، ومقارنة المفاهيم والنظريات الدينية بحقوق الإنسان، ومن خلال رؤية توفيقية. ومن هنا تأتي محورية البحث الرابع والسادس.
2ـ إن الأصل يقوم على فلسفة الحكم، دون ذات الحكم وسياق عباراته. وإنّ شأن نزول هذا الحكم والظروف التاريخية والاجتماعية يُشير إلى أن هذا الحكم إنما جاء في الحقيقة لتحجيم أصلٍ ما كان سائداً من معاقبة المرأة جسدياً. وإنّه في فترة بيان هذا الحكم كان الهدف الرئيس هو الحيلولة دون العنف المعمول والسائد ضدّ المرأة.
3ـ طبقاً لنصّ الآية يقوم الأصل على عدم الضرب؛ لأن الحكم بالإباحة وحصر الضرب على حالة النشوز يعني تحريم الضرب في غير هذه الحالة، ممّا يعني أن الأصل على عدم الضرب.
4ـ إن الأصل والمستند الرئيس لنا في هذا البحث هو القرآن الكريم فقط، أما الروايات فإنَّما نستند إليها إذا كانت توافق القرآن، لا غير. ولا ننظر إلى الروايات بوصفها نصوصاً مقدَّسة، بل نتعامل معها بوصفها حقائق ونُقُولاً تاريخية، يمكن نقدها وجرحها وتعديلها.
5ـ بالإضافة إلى المسائل الحقوقية البارزة، تشتمل الآية على الكثير من المسائل الأخلاقية الهامّة، والتي تناولناها بالبحث في هذه الدراسة.
6ـ إن آية الضرب تتحدَّث عن نشوز الزوجة، بمعنى المرأة التي ترتكب الفاحشة المبيّنة. إن هذا النوع من النساء كنَّ يتعرَّضْنَ في الماضي ـ وحتّى في الوقت الراهن ـ للعنف الجسدي، بَيْدَ أن حقّ ملكيّة الفرد على جسده في حدِّ ذاته من الحقوق الإنسانية الذاتية، التي لا تبطل حتّى بالزواج. وبعبارةٍ أخرى: إن الزوج والزوجة لا يمتلكان بعضهما، إنما الذي يحصل بالزواج هو محدودية حقّ كلٍّ منهما في التصرّف بجسده. وفي الزواج تتعهَّد الزوجة بأن لا تبيح جسدها لغير زوجها القانوني. وإن ميثاق الزواج يقوم على المودّة والرحمة، وهذا الأمر هو الذي يضمن بقاءه واستمراره. ولو أن شخصاً عمل على خلاف هذا الميثاق فإن العقد سينفسخ. والآية تقول: لو نشزت المرأة وارتكبت فاحشة مبيّنة، وكان هناك خوفٌ وخشية من تقويض كيان الأسرة وانهيارها، وجب العمل قبل كلّ شيء على انتهاج سبيل النصيحة، فإنْ لم يكن النصح مجدياً يتمّ الانتقال إلى إبداء الاستياء والامتعاض، على أن يبقى هذا ضمن إطار البيت، فلا يعلم أحدٌ من خارج البيت بهذا الاستياء والامتعاض، على أن لا تتجاوز مدّة الإعراض وإبداء الاستياء ثلاثة أيام، فإنْ لم يُجْدِ ذلك نفعاً يُصار إلى عقوبتها بضربها بمنديلٍ أو بعود سواك، بحيث لا يترك أيَّ أثرٍ على جسدها، فإنْ ترك أثراً لزمه القصاص والدية. هذا ويجب أن لا يتجاوز عدد الضربات على العشرة. ويجب أن يتمّ ذلك بعيداً عن أنظار الآخرين، بما في ذلك الأولاد الذين يعيشون تحت سقف البيت أيضاً. يُضاف إلى ذلك أن هذا النوع من العقوبة يجب أن يخلو من شوائب الغضب، وأن يكون الداعي له هو مجرَّد الإصلاح، دون الانتقام والتشفّي. ولأن أساس الحياة يقوم على المودّة، وإن العقوبة على هذا النحو تنحصر بارتكاب الفاحشة ـ وفي غير ذلك تكون العقوبة وإساءة التصرّف مع المرأة محرّمة ـ، لا يحقّ للرجل أن يسيء معاملة زوجته إذا مكَّنَتْه وتخلَّتْ عن معصيته ومخالفة أمره.
وفي الحقيقة فإن الضرب في صدر الإسلام كان هو الخطوة الأولى التي يقوم بها الرجل ضدّ المرأة الناشزة، فجاء النبيّ الأكرم ليجعلها الخطوة الأخيرة، ويضع لها من الآليّات والشروط بحيث يجعلها لاغيةً من الناحية العملية. ثمّ قال رسول الله بشأن بيان هذه الآية: اتَّقوا الله في النساء، فإنّكم أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله، ولكم عليهنَّ أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإذا فعلن ذلك [واضطررتُمْ إلى ضربهنَّ] فاضربوهنَّ ضرباً غير مبرّح، [وفي الوقت نفسه لا تتجاوزوا في العقوبة عن هذا الحدّ]، ولهنَّ عليكم رزقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف.
في تلك المرحلة لم يكن هناك ما هو أفضل من هذه العقوبة على هذا النوع من الخلاف وعدم الطاعة، وكان الحكم فيه متروكاً إلى العُرْف. أما اليوم فتمّ تشريع قانون الطلاق. والحلّ بأن يتمّ التخلي عن اللجوء إلى العنف ضدّ المرأة التي ترتكب الفاحشة وتنقض ميثاق الزواج، وتحال القضية إلى محكمةٍ صالحة وسلطة قضائية مستقلّة وعادلة. فحيث لم يكن هناك نظام قضائي عمد القرآن إلى إحالة الأمر إلى التحكيم من الطرفين، وفي القرون التالية، حيث تمّ بناء السلطة القضائية والنظام القضائي بوصفه ركناً من أركان الدولة الرئيسة، تطوَّر مفهوم الحكمية ليتَّخذ شكلاً أكثر رقيّاً وتقدُّماً.
7ـ حتّى في العالم المتطوِّر لا يتمتَّع الرجال بمثل هذه الظرفية، فحيث ترتكب زوجاتهم فاحشة مبيّنة ستكون أوّل ردّة فعلٍ تصدر عنهم هي الانهيال عليهنَّ بالضرب المبرّح، دون اللجوء إلى الوعظ أو إبداء الاستياء. إن الإحصائيات تشير إلى ارتفاع نسبة العنف ضدّ المرأة في الغرب، وفي أحسن الحالات يتمّ اللجوء إلى الطلاق. وفي المقال تعكس بعض النساء حالاتٍ مماثلة فيما لو صدر عن الزوج نقضاً لميثاق الزواج.
8ـ إن رؤية هذا البحث عن النشوز هو أنه من الأدلة القرآنية القاطعة على نفي حكم الرجم والقتل في الفراش، ومخالفة ذلك للقرآن.
9ـ هناك احتمال أن يتمّ تفسير الكلام الوارد في معرض الإجابة عن الناقدين لآية الضرب على أنها تأتي في سياق التبرير والفرار من انتقادات الحركة النَّسَوية. إلاّ أنّني، وبغض النظر عن الأبحاث التي أبديتها بشأن موقع الحركة النَّسَوية ومسائلها، أودّ التنويه إلى أن الكلام المنقول بشأن القيود والشروط والضوابط والحدود الواردة بشأن العقوبة في النصوص الفقهية تعود إلى ما قبل ظهور الحركة النَّسَوية وحقوق المرأة بقرون.
جغرافيا البحث: لو أننا قمنا بدراسة هذه الآية في إطارها الجغرافي والزمني سندرك كم كانت هذه الآية سامية ومتقدِّمة على زمانها! فقد نزلت هذه الآية في الوقت الذي كان الناس يدفنون البنات وهنَّ على قيد الحياة، وحيث كان يُنْظَر إلى المرأة ـ كما هو الحال في العصر الراهن ـ بوصفها مجرَّد بضاعةٍ للاستمتاع التجاري والجنسي، وبذلك تمّ اعتبار هذه الآية ثورةً بوجه ثقافة العصر المناهضة للمرأة آنذاك. بل قيل في بيان شأن نزول هذه الآية: إن رجلاً كان يضرب زوجته، فجاء بها أبوها إلى رسول الله، وشكا إليه ما فعله الزوج بابنته، فحكم النبيّ بوجوب أن يُقتصّ لها منه، وعندما كان الرجل في الطريق أرسل النبيّ إليه بالرجوع، قائلاً: إن جبريل قد نزل عليه بحكمٍ آخر. وفي الواقع فإن ذلك الرجل كان يضرب زوجته بسبب نشوزها، وكان النبيّ يريد أن يقتصّ منه، إلاّ أن الآية تقول: إن الرجل لم يكن له الحقّ بضرب زوجته؛ بسبب نشوزها، وإنَّما كان عليه أن يسلك المراحل بجميع شروطها وضوابطها على نحو ما تقدَّم ذكره في معرض شرحنا للآية. ولهذا السبب كان عمر بن الخطاب يقول: كنّا رجال قريش قبل المجيء إلى المدينة أولياء نسائنا، وأمّا في المدينة فأصبحت النساء يمتلكْنَ أمر الرجال.
قد يُقال: إن هذه الآية إنما كانت متقدِّمة على عصرها. إلاّ أنّني أرى أن هذه الآية لا زالت متقدِّمة حتّى بعد مضيّ أكثر من أربعة عشر قرناً على نزولها؛ إذ كانت النساء حتّى القرن التاسع عشر والقرن العشرين للميلاد يجاهدْنَ من أجل الحصول على أبسط حقوقهنَّ.
لكنْ قد يُقال: إن تأثير هذه الآية قد انتهى، حيث نعيش اليوم مرحلة الحركة النَّسَوية التي تجعل التعاليم الواردة في هذه الآية متأخِّرة عن هذا العصر. ولكنَّني أرى:
أـ أن هذه الآية لا تزال متربِّعة على قمّة التاريخ. فقد سبق لي أن ذكرت الإحصاءات التي تشير إلى ارتفاع نسبة العنف في العالم المعاصر ضدَّ المرأة، حتّى في المجتمعات الديمقراطية والمتحضِّرة. في حين أن الآية المذكورة، بالالتفات إلى التوضيحات المتقدّمة، تعارض ممارسة العنف ضدّ المرأة.
ب ـ على فرض القول بأن حكم الآية 34 من سورة النساء لم يَعُدْ له اليوم من موضوع في الوقت الراهن، إلاّ أن هذا مع ذلك لا يضرّ باعتبار القرآن، ولا يقلِّل من قيمته التقدُّمية على مرِّ قرونٍ من ممارسة العنف ضدّ المرأة. كما هو الحال بالنسبة إلى نظرية الجاذبية وسرعة الضوء. فلو تمّ إبطال هذه النظريّات بنظريةٍ جديدة لن ينقص ذلك قيمتهما في إحداث الثورة العلمية للبشر في مرحلةٍ هامّة من مراحل التاريخ. غاية ما هنالك أنه مع تقدُّم المجتمع يسقط بعض أحكامه عن الموضوعية، وإنّ خلوّ حكمٍ من الموضوع من الأمور التي تحصل كثيراً في ما يتعلَّق بالأحكام الاجتماعية، ولا دخل لهذه الظاهرة بالأصول الاعتقادية.
ج ـ أمّا الأهمّ من كلّ ذلك فهو فلسفة الحكم، والتي هي عبارة عن موضوعين، وهما: «إلغاء العنف ضدّ المرأة»؛ و«تعزيز المودّة في العلاقة بين الزوجين». وبهذا الاعتبار تبقى آية الضَّرْب ـ والتي هي من وجهة نظري: آية الوَعْظ ـ ملهمةً إلى الآن.
وبغضّ النظر عن إجماع كافة المحدِّثين والمؤرِّخين والمفسِّرين على شأن نزول الآية، وإمكان القول: إن هذه الآية قد نزلت لحلّ مشكلة أُثيرت على أعتاب اندلاع حرب أُحُد، أو أمكن تأويلها بأن المراد من الضرب فيها ليس هو الضرب المصطلح وما إلى ذلك، وبالالتفات إلى أصل المنع من الضرب، والمعنى الذي ذكرناه للآية، وبالالتفات إلى احتمال النسخ، وبالالتفات إلى الآيات والروايات الأخرى في باب حرمة الضرب، وبالالتفات إلى أصالة كرامة الإنسان وما إلى ذلك، فإن الآية قد نزلت في عصرٍ لم يكن فيه النظام القضائي الحديث، كما هو قائمٌ في العصر الراهن، وكانت العقوبات تتمُّ على نحوٍ فردي أو قَبَلي. واليوم، حيث ظهر النظام القانوني، ويقوم المعيار والمطلوب للشارع وملاكات ومقاصد القرآن على ترجيح الأصلح، لا يعود تنفيذ العقوبة على النشوز من قبل الزوج معقولاً، ولا مقبولاً، ولا مشروعاً، وكلّ نزاع يجب إحالته إلى المحاكم، سواء من قبل المرأة أو الرجل. فاليوم هناك الكثير من النساء اللاتي يقبعن في السجون، أو ينتظرن تنفيذ حكم الإعدام بحقهنَّ؛ لقتلهنَّ أزواجهنَّ، أو الرجال الذين قتلوا زوجاتهم؛ بسبب سوء الظنّ والشكّ والاختلاف أو سوء النوايا والدوافع والأدلّة الأخرى. وإن ثلث حالات القتل في إيران تتعلَّق بقتل أحد الزوجين شريك حياته([93]). في حين كان بإمكانهم حلّ مشاكلهم من خلال الرجوع إلى المحاكم والمراجع القضائية. إن من أسباب انتشار العنف الأسري عدم جدوائية النظام القضائي، والتأخُّر والبُطْء في الإجراءات ومسار حسم الملفات وإحقاق الحقوق، وكذلك ضعف القوانين التي تجعل الأفراد يفضِّلون عدم التورُّط في متاهات القضاء المُكْلِفة والمُضْنِية.
تواردٌ غريب
في منتصف شهر تموز من عام 1392هـ.ش، حيث كنت في مكتب الدكتور علي رعيَّتي ـ وهو من المحقِّقين البارزين في حقل العلوم الدينية ـ، وقع بصري على كتابٍ كان على طاولته. وقد لفت انتباهي عنوانه بلمح البصر، حيث وجدت شبهاً عجيباً بينه وبين كتيِّبي «آية الضرب»، فتناولتُه بسرعةٍ، وبدأت أقلِّب صفحاته. كان اسم الكتاب «واضربوهنَّ»، لمؤلِّفه الشيخ صفاء أحمد الخطيب. وكان عدد صفحاته قريباً من عدد صفحات كتابي، حيث بلغ عدد صفحات كتابي 75 صفحة، وكان عدد صفحات كتابه 96 صفحة، ولكنْ حيث كان كتاب الخطيب مجلَّداً فقد بدا أكبر بكثيرٍ من كتابي. رجَوْتُ الدكتور رعيَّتي أن يعيرني الكتاب. وبعد بضعة أيام بدأتُ بقراءته في أوقات فراغي، وحيث كان مكتوباً باللغة العربية فقد أخذ منّي بعض الوقت، حتّى وصلت في قراءتي إلى الصفحة رقم 55، فقرَّرْتُ عدم مواصلة القراءة؛ لأنه كان إلى تلك الصفحة مجرَّد تكرار لتلك الآراء التقليدية حول آية الضرب، والتي تفسِّر النشوز بخروج المرأة عن طاعة زوجها، وعدم تمكينه من الاستمتاع الجنسي، وأن المرأة كائنٌ ضعيف وعاطفي، بينما الرجل قويٌّ وأعقل منها، وأن هذا هو الذي يجعله أحقّ بالقوامة منها؛ فوجدته لذلك لا ينطوي على غير الاجترار والخطأ. وفي عصر يوم الخميس في العشرين من شهر تموز، ذهبتُ إلى فراشي؛ لأنال قسطاً من الراحة، فتناولت الكتاب الذي كان ملقىً على السرير، وأخذْتُ بتوريقه عابثاً، ثمّ واصلت قراءته من حيث وصلت؛ لعلَّ ذلك يساعدني على الاستغراق في النوم أثناء قراءته، ولكنَّني فوجئتُ في الصفحة رقم 60 بوجود رأيٍ شبيه بالرأي الذي أذهب إليه بشأن النشوز، مع فارق أنّني قد استندتُ في رأيي إلى الآيات، بينما كان مستنده روايةً واحدة، بالإضافة إلى تفسيره الخاص؛ والأمر الآخر أنه رأى في مرحلة الوعظ والهجران والضرب ثلاثة مراحل للنشوز، فإنْ لم ينفع الضرب أيضاً آل الأمر إلى الطلاق. وقد بدا لي هذا التوارد في الخواطر عجيباً. فعلى الرغم من الاختلاف بين البحثين والدراستين أسلوباً ولغة، إلاّ أن جوهر الآراء كان متشابهاً. وقد سبق لي أن ذكرتُ هذه النظرية في محاضرةٍ ألقيْتُها بتاريخ: 26 / 10 / من العام 1392هـ.ش ـ وقد سبق لي بطبيعة الحال أن توصَّلْتُ إلى هذه النظرية قبل أن أطرحها في تلك المحاضرة ـ، وبعد بضعة أشهر رأيت كتاباً يعود تاريخه إلى عام 2011م (الموافق لعام 1432هـ)، أي قبل ما يقلّ عن سنتين، في بيروت، عن دار العلوم.
كلام صفاء أحمد الخطيب هو: إن الذي يبدو من الروايات وآراء المفسِّرين والفقهاء أن هناك معنيين للنشوز، وهما:
الأوّل: هو أن نفسِّر النشوز بالمعنى الخاصّ، أي بمعنى أن تكون الزوجة في طاعة الزوج، ولا تدخل فراشها شخصاً آخر، وأن لا تخرج من البيت دون إذنه.
الثاني: هو أن نفسِّر النشوز بالمعنى العامّ، أي عموم معصية المرأة لزوجها، بحيث يشمل جميع أنواع العصيان من قبل المرأة ممّا تكون معه مستحقّةً للتأديب.
وبالالتفات إلى الروايات الواردة، ودعوة القرآن إلى طيّ ثلاثة مراحل، وهي: الوعظ والهجران والضرب، نذهب إلى معنىً آخر مغاير للمعنى المتَّفق عليه أوّلاً، ويبدو معنى ثالثاً، هو المراد من الآية، وليس هو المتَّفق عليه من قبل الفقهاء والمفسِّرين.
النشوز طبقاً لرواية تحف العقول: روى الحسن بن شعبة في كتابه ـ تحف العقول ـ روايةً عن رسول الله | تقول: «أيُّها الناس، إن لنسائكم عليكم حقّاً، ولكم عليهنَّ حقّاً. حقكم عليهنَّ أن لا يوطئْنَ أحداً فرشكم، ولا يدخلْنَ أحداً تكرهونه بيوتكم إلاّ بإذنكم، وأن لا يأتينَ بفاحشةٍ، فإنْ فعلْنَ فإنّ الله قد أذن لكم أن تعضلوهنَّ وتهجروهنَّ في المضاجع وتضربوهنَّ ضرباً غير مبرح، فإذا انتهيْنَ وأطعْنَكم فعليكم رزقهنَّ وكسوتهنَّ»([94]).
طبقاً لهذه الرواية يبدو أن انتهاك حقِّ الزوج يتمّ عبر الترتيب التالي:
في المرحلة الأولى: يتمّ هتك الحجاب وستر البيت، حيث تنتهك سمعة الأسرة، وتظهر الزوجة حاسرةً، وتترك باب البيت مشرَّعاً على الدوام، وتطلق ضحكات مجلجلة، بحيث يذهب الظنّ بالسامع والرائي إلى أن نساء هذا البيت في متناول الجميع، وأنّهنَّ لا يدفَعْنَ يد لامسٍ.
والمرحلة الثانية لنقض حقّ الزوج: أن تسمح المرأة للفاسقات والعاهرات، والرجال الفاجرين والمنحطّين والصعاليك، أو الذين يكتسبون الجرأة على انتهاك حرمة البيت؛ بسبب تكرُّر دخولهم، دون أن يعبأوا بصاحب البيت الذي لم يسمح لهم بدخول بيته.
والمرحلة الثالثة لنقض حق الزوج، وهي المرحلة الأخطر: هي ارتكاب الفاحشة من قبل الزوجة، وممارسة الزنا، وتحويل البيت إلى ماخور للدعارة.
وفي النقض الأول لحقّ الزوج عليه أن يمنعها من خلال إبداء الاعتراض والاستياء وعدم الرضا بما تقوم به الزوجة؛ فإنْ انتقلت إلى المرحلة الثانية ينتقل أسلوب الردع من قبل الزوج إلى الإعراض، فإنْ لم يُجْدِ ذلك نفعاً أيضاً، وانتقل الأمر بالزوجة إلى المرحلة الثالثة، صار إلى خيار الضَّرْب غير المبرّح؛ فإنْ لم ينفع كلّ ذلك لا يبقى أمام الرجل غير الطلاق؛ إذ لا يليق بالمؤمن مواصلة العيش مع الزانية.
كما أن رواية الترمذي وابن ماجة بشأن كلام النبيّ في حجّة الوداع ـ والتي يستوصي فيه بالنساء خيراً، ويأمرهنَّ بعدم ارتكاب الفاحشة المبينة، والتي يقول فيها بعد ذلك: فإنْ فعلْنَ ذلك فاعضلوهنَّ، واهجروهنَّ في المضاجع، واضربوهنَّ ضرباً غير مبرّح، فإنْ أطعْنَكم فلا تبغوا عليهنَّ سبيلاً ـ شبيهةٌ برواية تحف العقول، باستثناء أنها تحصر الفاحشة بخصوص الفاحشة المبينة.
وقال العلامة المدرسي في تفسيره: إن معنى «حافظات للغيب» في الآية أنهنَّ يحافظْنَ على أنفسهنَّ من ممارسة الزنا في غياب أزواجهنَّ([95]).
الهوامش
(*) باحثٌ في الحوزة والجامعة. ناشطٌ حقوقي. ومتخصِّصٌ في علم الاجتماع. له كتاباتٌ عدّة في مجال تاريخ إيران المعاصر.
http://www.youtube.com/watch?v=QaKchsjp4y1
http://www.youtube.com/watch?v=hZxPmIwo4DQ
([2]) التجديد الديني ومشكلة المرأة. المعرِّب.
([3]) شخصية المرأة وحقوقها في الإسلام. المعرِّب.
([4]) المرأة في تجاذبات التقليد والتجديد. المعرِّب.
([5]) السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور 2: 523.
([6]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 20: 167، باب استحباب إكرام الزوجة وترك ضربها، ح25323.
([7]) إميل دوركايم(1858 ـ 1917م): فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي من أصل يهودي. أحد مؤسِّسي علم الاجتماع الحديث. وقد وضع لهذا العلم منهجية مستقلّة تقوم على النظرية والتجريب في آنٍ ما. وإن من أبرز آثاره: (في تقسيم العمل الاجتماعي)، و(قواعد المنهج السوسيولوجي). المعرِّب.
([8]) انظر: إميل دوركايم، تقسيم كار اجتماعي (في تقسيم العمل الاجتماعي)، ترجمه إلى الفارسية: باقر برهام، بابل، كتابسراي بابل، 1369هـ.ش.
([9]) انظر: إسماعيل الحسني، مقاصد شريعت أز ديدگاه ابن عاشور: 270، ترجمه إلى الفارسية: مهدي مهريزي.
([10]) لمزيدٍ من التفصيل في هذا البحث، انظر: عماد الدين باقي، حقّ حيات (مصدر فارسي) 1: 69 ـ 70، 91 ـ 104، ط3، طهران، 1390هـ.ش.
([11]) انظر: محمد هادي معرفت، شبهات وردود حول القرآن الكريم: 157 ـ 158، مؤسّسة التمهيد، قم، 1424هـ ـ 2003م.
([12]) لقد ذكر بني صدر هذه النظرية قبل عقود من الزمن، وعاد إلى تكرارها بعد ثلاثين سنة ببيان آخر، حيث جاء في سؤالٍ وجواب متبادل في إحدى المحاضرات: إن من بين الأساليب المتَّبعة لدى المنافقين أنهم يستقطعون جزءاً من مجموع الكلام، فيقال مثلاً: ما هي القيمة التي يوليها الإسلام للمرأة؟ يُقال للرجل وللمرأة: إن الإسلام يحتوي على زواج المتعة. ولكنّ هذا إنما يكون مفهوماً في النظام الإسلامي، وليس في النظام الملكي. وفي هذا النظام يمكن أن يكون هناك حريمٌ للسلطان، ولكنْ لا ربط لذلك بالإسلام. وهذه الآية بدورها لها معنى في نظام الإسلام، وإذا قصدتم طبيباً نفسياً سوف يبيِّن لكم فلسفتها. فعلى سبيل المثال: إن بعض النساء يستسغْنَ العنف في الفراش؛ لأن المرأة عاشَتْ في موضع الدونية عبر القرون، فكانت على الدوام تتلقّى الاحتقار والامتهان، فصارت تعاني من الخوف والفَزَع، وهذه الحالة تشتدُّ لدى بعض النساء، وتميل إلى البحث عن حمايةٍ، وإن هذه الحماية تتجلّى على شكل استدعاء العنف والمطالبة به. وهذه الآية تتحدَّث عن النشوز، والنشوز يعني التمرُّد، ولكنْ لا على نحوٍ مطلق. فالمراد من النشوز ـ كما فسَّره الإمام الخميني ـ هو النشوز والتمرّد الجنسي (وعدم الاستجابة للرجل في الفراش)، وربما حصل ذلك مرّةً واحدة في جميع العمر، وهذه المرّة الواحدة تحتاج في علاجها إلى شيءٍ من العنف، فإذا لم تكْفِ كانت هناك حاجةٌ إلى عُنْفٍ، وإنّ حلّ هذا المورد سيكون على عاتق الطبيب النفساني أو الحاكم الشرعي، أو يجب على الطبيب أن يحدِّدها. إن هذا التمرُّد إنما يقتصر على هذا المورد، وليس على كلّ مورد. فمثلاً: لو أمر الرجل زوجته بعدم الصلاة، حتّى إذا صلَّت المرأة فإنها ستُضْرَب. إنّ الله عندما يُثبت لنفسه حقّاً، ويعطيك حقّاً وحدّاً، فإنه لا يعطي الزوجة أو الزوج زيادة على ذلك الحقّ. أرجو أن نكون قد توصلنا إلى حل المسألة. (أبو الحسن بني صدر، نفاق در قرآن (مصدر فارسي/سلسلة محاضرات أبو الحسن بني صدر التي ألقاها في شهر رمضان من عام 1399هـ) 1: 334 ـ 336، سازمان انتشارات وآموزش انقلاب إسلامي، طهران، 1359هـ.ش).
([13]) ابن جرير الطبري، تهذيب الآثار (مسند عمر بن الخطاب) 1: 418، السفر الأول، خرَّجه: محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، القاهرة، 1952م.
([14]) الصحيح في بيان رأي ابن جرير الطبري في هذا الشأن ـ كما وجدناه عند الرجوع إلى المصدر المذكور ـ هو عدم القول بحرمة مطلق الضرب، وإنما جواز ما كان منه بحقٍّ، كما هو الحال في مورد الآية. فيجوز للزوج ضرب زوجته للتأديب، كما يجوز ذلك ـ من وجهة نظره ـ للمولى في حقّ عبده وأمته، والوالد بالنسبة إلى ولده، والوصيّ بالنسبة إلى الموصى عليه أيضاً، فراجع. المعرِّب.
([15]) ابن كثير(701 ـ 774هـ)، تفسير القرآن العظيم 1: 401، دار القلم، ط2، بيروت.
([16]) الذهبي(673 ـ 748هـ)، كتاب الكبائر: 194، دار تمل للنشر، إسطنبول.
([17]) انظر: علي المشكيني، ازدواج در إسلام: 44 ـ 45، ترجمه إلى الفارسية: أحمد جنتي، انتشارات ياسر، قم، 1359هـ.ش.
([18]) انظر: حسين النوري الطبرسي، مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 14: 234 ـ 237، مؤسسة آل البيت، قم، 1407هـ؛ المشكيني، ازدواج در إسلام: 99 ـ 103.
([19]) انظر: مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 14: 264.
([20]) الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم 3: 442، ح5048، شرح: جمال الدين محمد الخونساري، تقديم وتصحيح وتعليق: مير جلال الدين حسين الأرموي، انتشارات دانشگاه طهران، ط3، 1366هـ.ش.
([21]) فإنْ امتثل الزوج ذلك فإنه لا يسأل عن ضربه زوجته، ويحمل عليه حديث عمر ـ إنْ صحّ ـ عن النبيّ| قال: (لا يُسأل الرجل فيمَ ضرب امرأته)، رواه أبو داوود سليمان السجستاني في السنن 1: 476، ح2147). وهو حديث ضعيف. قال ابن المديني&: فإنّ إسناده مجهول، رواه رجلٌ من أهل الكوفة يُقال له: داوود بن عبد الله الأودي، لا أعلم أحداً روى عنه شيئاً غير عبد الرحمن المسلمي، وهو عندي أبو وبرة المسلي (ا.هـ). (ابن المديني، العلل 1: 93)؛ أما إذا تعسّف الزوج وتجاوز حدَّه في التأديب فإنه يقتصّ منه لزوجته، بلا خلاف أعلمه.
http://www.saaid. net/Doat/naif/4.htm
([22]) انظر: مهدي مهريزي، نوانديشي ديني ومسأله زنان (مصدر فارسي): 241 ـ 243، صحيفة خرد، قم، 1387هـ.ش، نقلاً عن شهرية (پيام زن)، العدد 135 ـ 136.
([23]) سنن ابن ماجة: 636، كتاب النكاح، باب حسن معاشرة النساء، ح1977؛ الذهبي، كتاب الكبائر: 195.
([25]) قال أهل اللغة: فركه يفركه، إذا أبغضه. والفرك: البغض.
([26]) صحيح مسلم: 669، كتاب الرضاع، باب الوصية بالنساء، ح3633.
([27]) صحيح مسلم بشرح النووي 10: 58، باب النكاح، الوصية بالنساء.
([28]) صحيح البخاري: 1339، كتاب النكاح، باب ما يُكره من ضرب النساء، ح5204؛ عمدة القارئ 20: 272؛ الدرّ المنثور 2: 523.
([29]) العيني، عُمدة القاري (شرح صحيح البخاري) 20: 273، صحَّحه: عبد الله محمود محمد عمر، دار الكتب العلمية، بيروت، 1421هـ؛ فتح الباري (في شرح صحيح البخاري) 9: 249.
([30]) المتقي الهندي، كنـز العمال 16: 374، ح44963.
([31]) كتاب النكاح، رقم: 123، عن أبي سعيد، كنـز العمال: 376، ح44973؛ صحيح مسلم: 651، باب تحريم إفشاء سرّ المرأة، ح3527 و3528.
([32]) المتقي الهندي، كنـز العمال 16: 377، ح44978.
([35]) المصدر السابق: 378، ح44984.
([36]) المصدر السابق: 377، ح44981.
([39]) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 14: 251.
([40]) كنـز العمال 16: 377، ح44986؛ سنن أبي داوود السجستاني، كتاب المناسك، باب صفة حجّة النبي، ح1631؛ البيهقي، السنن الكبرى 7: 295، كتاب الوصايا، جماع أبواب إتيان المرأة، باب الأيمن فالأيمن في الشرب، ح13641.
([41]) كنـز العمال 16: 377، ح44988.
([44]) المصدر السابق 16: 390، ح45053. بَيْدَ أن هذا الحديث ـ بقرينة الوشم ـ أجنبيٌّ عن موضوع المقال. المعرِّب.
([45]) انظر: الشيخ الطوسي، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى 2: 543، إعداد: محمد تقي دانش پژوه، جامعة طهران، طهران، 1343هـ.ش.
([46]) نهج البلاغة، الخطبة رقم 133.
([47]) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2: 523.
([48]) تفسير ابن كثير 1: 257؛ كنـز العمال، ح44986؛ سنن أبي داوود السجستاني، ح1631؛ الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2: 523.
([49]) انظر: الشيخ الطوسي، المبسوط 4: 338، صحَّحه وعلق عليه: محمد باقر البهبودي، مؤسسة الغري للمطبوعات، دار الكتب الإسلامية، بيروت.
([50]) سنن أبي داوود السجستاني 1: 475، ح2144.
([51]) انظر: ابن جرير، عن الحجّاج مرسلاً (كنـز العمال، ح44985).
([52]) صحيح البخاري (ومعه شرح غريب صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني)، ح5718؛ صحيح مسلم، ح2559.
([53]) الشيخ الطوسي، المبسوط 4: 338.
([54]) الحافظ ابن حجر، فتح الباري 9: 249.
([55]) انظر: المصدر السابق 9: 248.
([56]) تفسير ابن كثير 1: 257؛ كنـز العمال 16: 377، ح44986؛ سنن أبي داوود السجستاني، كتاب المناسك، باب صفة حجة النبي، ح1631؛ البيهقي، السنن الكبرى 7: 295، كتاب الوصايا، أبواب إتيان المرأة، باب الأيمن فالأيمن في الشرب، ح13641.
([58]) الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2: 523؛ تهذيب الآثار (مسند عمر بن الخطاب) 5: 68.
([59]) الهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 10: 353، بيروت، 1998م.
([60]) شرح النووي على صحيح مسلم 14: 97.
([61]) انظر: الشيخ الطوسي، المبسوط 4: 338.
([64]) غاية البيان شرح زُبد ابن رسلان 1: 259.
([65]) محمد هادي معرفت، شبهات وردود حول القرآن الكريم: 157.
([66]) صحيح مسلم: 809، كتاب الحدود، باب قدر أسواط التعزير، ح4435؛ صحيح البخاري: 1668، كتاب المحاربين من أهل الكفر والردّة…، باب كم التعزير والأدب، ح6848 ـ 6850.
([67]) رواه البزّار والطبراني في الأوسط، وإسنادهما حسنٌ (انظر: الهيثمي، مجمع الزوائد 10: 353).
([68]) انظر: مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل 14: 250.
([69]) صحيح مسلم: 1081، كتاب الفضائل، باب مباعدته للآثام، ح6004.
([70]) ابن ماجة، شرح صحيح مسلم: 638، كتاب النكاح، باب ضرب النساء، ح1984؛ صحيح مسلم، ح 6004؛ النووي، شرح صحيح مسلم 15: 84.
([71]) القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 10: 488؛ كشف القناع 5: 209.
([72]) مستدرك الوسائل 14: 249 ـ 251.
([73]) صحيح البخاري: 849، كتاب أحاديث الأنبياء، باب خلق آدم صلوات الله عليه، ح3331؛ 1332، باب المداراة مع النساء، ح5184؛ 1332، باب الوصية بالنساء، ح5185؛ صحيح مسلم: 669، كتاب الرضاع، باب الوصيّة بالنساء، ح3632.
([74]) القاري، مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 6: 356.
([75]) المناوي، فيض القدير 2: 388.
([76]) انظر: مستدرك الوسائل 14: 252 ـ 255.
([77]) انظر: مستدرك الوسائل 14: 247. لم نعثر على هذا المضمون في المصدر، المعرِّب.
([78]) انظر: الفروع 5: 258؛ المبدع 7: 215؛ كشّاف القناع 5: 210.
([79]) انظر: الشيخ يوسف البحراني ـ من علماء القرن الحادي عشر (1107 ـ 1186هـ) ـ في كتاب الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة 24: 618، وهو موسوعة في الفقه الشيعي ضمن 25 مجلداً مطبوعاً، حيث استعمل تعبير المزاح في حقبةٍ لم تطرح فيها مسألة حقوق المرأة كما هي مطروحة في المرحلة المعاصرة.
([80]) هناك أربعة عشر معنى للضرب في القرآن الكريم، وقعت مورداً لاستناد أبي الحسن بني صدر، وهي عبارة عن:
1ـ الضرب بمعنى الإتيان بالمثل، من قبيل: قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً﴾. (انظر: النحل والروم ويس وغيرها).
2ـ الضرب بمعنى العمل والسعي في سبيل الله، قال تعالى: ﴿إِذَا ضَرَبْتُمْ في سَبِيلِ اللهِ﴾ (النساء: 94).
3ـ الضرب بمعنى السَّفَر للعمل والتجارة، قال تعالى: ﴿إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ في الأَرْضِ﴾ (المائدة: 106؛ وغيرها).
4ـ الضرب بمعنى السَّلْب والأخذ، قال تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً﴾ (الكهف: 11)، بمعنى أخذنا منهم سمعهم.
5ـ الضرب بمعنى المقارنة أو السؤال على سبيل الجَدَل، قال تعالى: ﴿وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً﴾ (الزخرف: 58).
6ـ الضرب بمعنى الامتناع، قال تعالى: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُم قَوماً مُسْرِفِينَ﴾ (الزخرف: 5).
7ـ الضرب بمعنى الإخفاء والستر، قال تعالى: ﴿وَليَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ (النور: 31).
8ـ الضرب بقصد التأديب، قال تعالى: ﴿إِذ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا المَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (الأنفال: 50).
9ـ الضرب بمعنى الوجدان والعثور على الشيء، قال تعالى: ﴿فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً﴾ (طه: 77).
10ـ الضرب بمعنى القطع، قال تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ (الأنفال: 12).
11ـ الضرب بمعنى البعث أو الضرب بقصد البعث، قال تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحيِي اللهُ المَوْتَى﴾ (البقرة: 72). وقوله تعالى: ﴿وَاهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُم فَلاَ تَبْغُوا عَلَيهِنَّ سَبِيلاً﴾ (النساء: 34).
12ـ الضرب بمعنى البناء والإقامة، قال تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَينَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ﴾ (الحديد: 13).
13ـ الضرب بمعنى التحطيم، قال تعالى: ﴿فَرَاغَ عَلَيهِمْ ضَرْباً بِاليَمِينِ﴾ (الصافّات: 93).
14ـ الضرب بمعنى تحريك الأرجل أثناء المشي بقصد إظهار الزينة، قال تعالى: ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ (النور: 31).
هذا وقد ذكر عبد الحميد أحمد أبو سليمان ستّة عشر معنى للضرب في الآيات التالية، وقال في بيان معنى الضرب في الآية مورد البحث (آية النشوز): إنه يعني ترك البيت. وإليك سائر المعاني التي يذكرها على النحو التالي:
1ـ ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً﴾ (النمل: 76). وقد تعدَّد هذا التعبير في أماكن كثيرة في القرآن الكريم.
2ـ قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاَةِ﴾ (النساء: 101).
3ـ قوله تعالى: ﴿فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا﴾ (الكهف: 11).
4ـ قوله تعالى: ﴿أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ﴾ (الزخرف: 5).
5ـ قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ وَالْبَاطِلَ﴾ (الرعد: 17).
6ـ قوله تعالى: ﴿وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ﴾ (النور: 31).
7ـ قوله تعالى: ﴿أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي البَحْرِ يَبَساً﴾ (طه: 77).
8ـ قوله تعالى: ﴿وَضُرِبَتْ عَلَيهِمْ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ﴾ (البقرة: 61).
9ـ قوله تعالى: ﴿فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ (الأنفال: 12).
10ـ قوله تعالى: ﴿وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلاَ تَحْنَثْ﴾ (ص: 44).
11ـ قوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ (محمد: 4).
12ـ قوله تعالى: ﴿فَضُرِبَ بَينَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ العَذَابُ﴾ (الحديد: 13).
13ـ قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ﴾ (النور: 31).
14ـ قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ المَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ (محمد: 27).
15ـ قوله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الحَجَرَ﴾ (البقرة: 60).
16ـ قوله تعالى: ﴿فَرَاغَ عَلَيْهِم ضَرْباً بِاليَمِينِ﴾ (الصافات: 93).
([82]) انظر: عبد الحميد أحمد أبو سليمان، ضرب المرأة وسيلة لحلّ الخلافات الزوجية، رؤية منهجية: 48، 51 ـ 52، دار السلام، القاهرة، 2003م؛ مجلة المعرفة الإسلامية، العدد 24: 68 ـ 86، بتاريخ: 2008م.
([83]) انظر: محمد أبو الخير، هل تستوجب المسايرة الحضارية تغيير المعاني القرآنية: ضرب المرأة عندما يغدو التأويل ضرورة حضارية. انظر:
http://www.onislam.net/arabic/madarik/society-women/128416-feminism.html
([84]) لا يخفى أن بعض البلدان والدول المذكورة ليست إسلامية، من قبيل: جامايكا وسنغافورا وتايلاند وفنـزويلا. المعرِّب.
([85]) انظر: مسعود راعي، إلحاق به كنوانسيون أز منظر موافقان ومخالفان:
http://www.hawzah.net/fa/articaleview/65736
([86]) يأتي قيد الوَطْء من أنهما إذا اقتصرا على العناق والتقبيل لا يقتلان، وإنَّما يعزَّران فقط، وفي بعض روايات الشيعة تمَّ تحديد التعزير هنا بمئةٍ جلدة، وبعضها اقتصر على خمسين جلدة، وأما إذا كان هناك وطءٌ أيضاً جاز القتل. (انظر: الشيخ الطوسي، المبسوط 6: 47).
([87]) http://vista.ir/article/306115
([88]) صحيفة آسمان (الإيرانية)، العدد 8: 66.
([89]) انظر: مسند أحمد بن حنبل 4: 33.
([90]) انظر: مستدرك وسائل الشيعة 14: 247 ـ 248.
([91]) الشيخ الطوسي، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى 2: 541.
([92]) انظر: عماد الدين باقي، حقّ حيات (مصدر فارسي)، ج1، الفصل الثاني.
([93]) انظر: صحيفة بامداد خبر، بتاريخ: 13 / تير / 1391هـ.ش.
([94]) الحسن بن علي بن شعبة الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول: 30، ذوي القربى، ط3، قم، 1429هـ.