تمهيد
لا يختلف اثنان من دارسي الحديث النبوي وغيره في وجود ظاهرة الوضع في الحديث، وأنّ هناك في التاريخ من مارس هذا الكذب والدسّ في أحاديث النبي والصحابة وأهل البيت.
بل إنّ الحديث النبوي المتواتر، كما عدّوه، يصرّح ـ برأي البعض على الأقلّ ـ بأنّ الكذب على الرسول قد شهد بداياته في زمن النبي|، وأنّ النبي كان يحذّر دائماً من الكذب على لسانه، في إشارة منه وتوجّس لما سيؤول إليه الحال بعد وفاته.
ومن الواضح عند باحثي السنّة والحديث أنه من الضروري دراسة هذه الظاهرة التي تفشّت في كتب المسلمين، بهدف تمييز الأحاديث وردّ الموضوع والأخذ بما سواه، ومن هنا تماماً جاءت هذه الوريقات.
1ـ تعريف الحديث الموضوع
أ ـ يأتي الوضع في اللغة على معاني متعدّدة:
منها: الإسقاط، يقال: وضع الجناية بمعنى أسقطها، ويقال: وضع هذا الأمر عن كاهله بمعنى أسقطه.
ومنها: الترك، يقال: إبل موضوعة، أي متروكة في المرعى.
ومنها: الاختلاق والكذب، يقال: وضع فلان هذه القصّة، بمعنى اختلقها وافتراها.
ومنها: الخسارة، يقال: وضع فلانٌ في تجارته، أي خسر، ومنه بيع المواضعة.
ومنها: الدناءة، يقال: فلانٌ وضيع أي دنيء.
والأصل في ذلك كلّه يرجع إلى الخفض والحطّ(1).
ب ـ أما في الاصطلاح الحديثي، فيعني الكذب والدسّ والاختلاق والنسبة إلى رسول الله| أو من نزّل بمنزلته، بغير حقّ. من هنا عرّفوا الحديث الموضوع بأنّه المختلق المصنوع كذباً على النبي في قوله أو فعله أو تقريره(2).
وبهذا يظهر الفرق بين الحديث الموضوع والحديث الضعيف؛ فإنّ ضعف الحديث قد يكون ناشئاً من عدم ثبوت اتصال السلسلة السندية أو وجود اضطراب حقيقي ما في السند أو في المتن، لكنّ هذا لا يعني أنه موضوع؛ لاحتمال أن يكون مطابقاً للواقع وأن يكون الرواة صادقين في النقل، كلّ ما في الأمر أننا لم نطّلع على حالهم في الصدق والكذب، وهذا على خلاف الحديث الموضوع فإنه الذي نراه مكذوباً على النبي| بحيث تقوم لدينا الحجّة على عدم صدوره، سواء كانت هذه الحجّة قطعيةً أم معتبرة ظنية.
وقد وقع بعض العلماء والباحثين في حالة خلط بين الحديث الضعيف والحديث الموضوع، بمن فيهم بعض كبار المؤلّفين في الموضوعات كابن الجوزي (597هـ)؛ حيث نجدهم يذكرون حديثاً في الموضوعات، ثم عندما يريدون إبداء وجه الوضع فيه لا نجدهم يذكرون سوى ضعف السند، اللهم إلا إذا أرادوا بذلك اصطلاحاً خاصّاً بهم.
وقد تنطلق حالة الخلط بين الحديث الضعيف والموضوع، من تشخيص حالة الراوي، فيتصوّر أنّ كل راوٍ شهدوا عليه بالوضع وأنّه كذاب وضّاع، فإن كل روايةٍ يرويها ستكون من الموضوعات، وهذا ما وقع فيه أيضاً جماعة من أمثال ابن الجوزي، مع أنه لا تلازم بين كون الراوي وضّاعاً وبين كون هذا الحديث الذي يرويه موضوعاً؛ لأنّ الكاذب قد يصدق والثقة قد يكذب أحياناً، وليس الوضّاع بالذي لا يذكر أيّ رواية صادقة، بل على العكس ـ كما سوف نرى ـ قد يتعمّد رواية الصدق أحياناً تمهيداً لكذبه.
وعليه، لا تلازم بين الحديث الموضوع والحديث الضعيف، ولا ترابط بين الحديث الموضوع والحديث الذي يكون أحد رواته مضعّفاً.
ومن الوضع والحديث الموضوع، نعرف المراد من الواضع، فإنّه الراوي الكاذب لا مطلق الراوي الذي لم تثبت وثاقته، فبعض الرواة لم تثبت عدالتهم ولا حُسن حالهم ولا وثاقتهم فكانوا مجاهيل أو مهملين، لكنّ هذا لا يعني أنّهم وضاعون؛ إذ اتهامهم بالوضع يحتاج إلى دليل؛ كأن يشهد علماء الرجال والجرح والتعديل بأنهم كذابون يضعون الأحاديث، كما جاء في حقّ جعفر بن محمد بن مالك في مصادر الرجال الشيعية(3)، وفي حقّ سليمان بن عمرو أبي داود النخعي في مصادر الرجال السنية(4). أو ترد رواية عن أحد المعصومين تشهد بكذب فلان، كما ورد في حق أبي الخطاب حيث جاءت رواية بكذبه على لسان الإمام الصادق% نقلها لنا يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا×(5)، شرط أن تكون الرواية معتبرة.
وكما لا يصحّ في تشخيص الحديث الموضوع أن يكون أحد رواته من الوضّاعين، كذلك لا يصحّ القول بأنّ فلاناً وضاع أو يضع الحديث لمجرّد وقوعه في سند حديث ثبت لنا وضعه؛ لاحتمال أنّ الواضع شخص آخر في السند كذب على لسانه.
وبهذا يمتاز في ذهننا الحديث الموضوع عن الضعيف، وعن الواضع، فلا نقع في الالتباس الذي وقع فيه بعض العلماء.
2ـ الآثار السلبية لحركة الوضع
تتعدّد الآثار السلبية لحركة الوضع في الحديث، ويمكن ذكر بعضها كما يلي:
أـ التشويش على مرجعيّة السنّة
من الطبيعي أنه عندما يكثر الوضع في الحديث تصاب السنّة ـ بوصفها مصدراً معرفياً دينياً ـ باضطراب؛ إذ تظهر حالة فقدان الثقة بالأحاديث المنقولة، فلا تعود هناك مصداقية للروايات، الأمر الذي يضعف عملياً من مكانة السنّة الشريفة.
وهذا بالفعل ما قد حصل في بعض الأوساط المسلمة منذ القرن الثاني الهجري، فكثرة الكذب في الحديث ـ إلى جانب عوامل أخرى ـ دعت أمثال الإمام أبي حنيفة النعمان (150هـ) إلى الشك في الروايات، حتى عُرف مذهبه بقلّة الاعتماد نسبياً على الحديث الشريف، وقد ساعد هذا الأمر ـ فيما يبدو ـ على شيوع نظرية القياس في المذهب الحنفي، تعويضاً عن خسارة مصدر معرفي ديني هام كالسنّة الشريفة.
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحدّ، بل قد عرف عن المعتزلة الذين هيمنوا على الثقافة الإسلامية فترةً من الزمن، أنهم كانا شديدي التحفّظ من المرويات، ولهذا قلّما نجد عندهم حضوراً للحديث النبوي، وليس هذا إنكاراً منهم لحجية السنّة كما تصوّره بعض الباحثين، بقدر ما هو انعدام لحالة الوثوق بالروايات، نظراً لشيوع ظاهرة الكذب والتقوّل.
وحتى لو لم يتخذ الفقيه أو المحدّث أو العالم المسلم موقفاً متشدّداً من الحديث كحال بعض المعتزلة، إلا أنّ حركة الوضع والدس لا شك فرضت على العلماء المسلمين بمذاهبهم أن يضاعفوا الجهود النقدية لتصفية الأحاديث من المكذوبات، والمعايير التي وضعها العلماء ـ مهما كانت قوية ـ لا تستطيع أن تطيح بالأحاديث الضعيفة فقط وتحتفظ بالأحاديث التي صدرت حقّاً عن النبي|؛ لكثرة الملابسات، وهنا من الطبيعي أن تطيح جهود العلماء ببعض الروايات الصحيحة، فإنّ عدم صحّة المتن عندك لا يعني بالضرورة عدم صحته واقعاً، وعدم صحّة السند للإرسال أو جهالة أحد الرواة مثلاً لا يعني كذب رواة السند وعدم صدور الرواية، وهذا معناه أنّ حركة الوضع فرضت جملة معايير نقدية أطاحت ببعض نصوص السنّة الواقعية، وربما حلّ محلّها نصوص اعتبرت حجّةً لكنها لم تصدر واقعاً، الأمر الذي يضعف السنّة الشريفة ويفقدها قدرة الحضور المناسب في المجتمع الإسلامي.
ب ـ خلق مفاهيم دينية هجينة
عندما توضع الأحاديث وتنتشر بين الناس ويجهد العلماء لتصفية الحديث النبوي من الدسائس، من الطبيعي أن تبقى بعض الأحاديث في كتب المرويات عند المسلمين، لتتحوّل إلى مرجعٍ يستخرج من خلاله الفقهاء والمفسّرون وعلماء الكلام والعقيدة وعلماء أصول الفقه والأخلاق، والمؤرّخون و.. يستخرجون منها فتاوى أو نظريات أو عقائد أو فهماً للقرآن أو قناعةً بحدثٍ تاريخي هنا وآخر هناك… إنّ هذه النصوص الموضوعة سوف تتحوّل تلقائياً، بعد استقرارها في بطون الكتب ـ المرجع، إلى مفاهيم ومقولات وعقائد، ثم ستصبح في المرحلة اللاحقة قناعات اجتماعية وممارسات عملية يسير عليها ملايين المسلمين في العالم.
وهكذا تترك الأحاديث الموضوعة ثقافة هجينة غريبة عن الإسلام الحقيقي داخل ثقافتنا الإسلامية، تتسرّب إلى وعينا الديني لتلعب به، ونحن نحسبها قيماً وأحكاماً ومفاهيم دينية، ليس تقصيراً منّا بالضرورة، بل قصوراً أحياناً، وقدراً يصعب الخروج من تحت سلطان أحكامه.
إنّ حجم خطورة الأحاديث الموضوعة أكبر مما نتصوّر، فقد يضع شخص حديثاً في علاقة المسلم بجاره النصراني، ثم يتسرّب الحديث إلى الكتب الكبرى، ويصبح مرجعاً لاجتهاد فقيه هنا وآخر هنا، ليتحول إلى فتوى سرعان ما تترك أثرها على علاقات ملايين المسلمين بجيرانهم النصارى، فتتشكّل علاقات ما كان يريدها الإسلام أساساً، لكنها صارت راسخةً في وعينا الإسلامي رسوخ المفاهيم الإسلامية الحقيقية.
ج ـ الإطاحة بمفاهيم دينية أصيلة
هناك مهمتان مقدّستان لا تقلّ إحداهما قداسةً عن الأخرى:
الأولى: الدفاع عن الدين من أن يطيح فكرٌ هنا وآخر هناك بحقائقه ويضحّي بمفاهيمه.
الثانية: الدفاع عن الدين من أن يضيف فكرٌ هنا وآخر هناك عليه مفهوماً غريباً لا علاقة له به.
إنّ وظائف العلماء السعي على الجبهتين معاً، فلا يصحّ تصوّر أن الدفاع عن الدين ضدّ الراغبين في الإطاحة ببعض مفاهيمه، أقدس من الدفاع عنه ضدّ بعض المتحمّسين له الذين يضيفون إليه الزيادة بحجّة الغيرة عليه أو الاندفاع له، فالزيادة في الدين خطرها كالنقيصة فيه تماماً، والأحاديث الموضوعة زيادةٌ في الدين أحياناً عندما تثبت مفهوماً ليس موجوداً في الدين، وإنقاصٌ منه أحياناً أخرى عندما تنفي مفهوماً موجوداً فيه واقعاً.
من هنا نعرف أن الوضع في الحديث لا يقف عند حدود إضافة مفهوم هجين إلى الدين، بل إنه يدفعنا إلى خسارة بعض المفاهيم، وهذه الخسارة تكون على نحوين:
الأول: إنّ جهود العلماء لتنقية الحديث والتثبت فيه قد توقعهم في تضعيف رواية صدرت واقعاً، الأمر الذي يفقدنا المفهوم الذي تريد هذه الرواية أن تخبرنا عنه، فالعلماء هنا كانوا مضطرّين لممارسة هذا النقد والتثبت لعلمهم بوجود الأحاديث الموضوعة، فهذه الأحاديث كانت أحد الأسباب الأساسية لانتهاج العلماء منهج النقد والتمحيص، وها هي اليوم تدفعنا لإلقاء أحاديث صحيحة لنخسر مضمونها، ولا ندري هل سيكون مضمون هذا الحديث متوفراً في مكانٍ آخر أم لا؟!
الثاني: أن لا يطرح العلماء الحديث الصادر واقعاً، لكنهم يثبتون الحديث غير الصادر والذي يكون موضوعاً، وفي هذه الحال قد يكون الحديث الموضوع ذا لسانٍ نافٍ، أي إنه ينفي مفهوماً دينياً أصيلاً، وهنا عندما يأخذ العلماء به فسوف ينفون هذا المفهوم الديني اعتماداً على الحجّة التي وصلتهم، بل قد يعارض الخبر الموضوع(6) واقعاً (الحجة ظاهراً) خبراً قد صدر واقعاً (وكان حجّة ظاهراً)، ونتيجة التعارض قد يتساقطان، فنخسر المفهوم الذي أراد الخبر الصادر واقعاً إيصاله إلينا، أو قد تكون المرجّحات في حال التعارض لصالح الخبر غير الصادر واقعاً، أو قد يقول الأصولي بالتخيير في حال التعارض ويختار الخبر غير الصادر واقعاً، وفي هذه الحالات كلّها نحن نفقد المفهوم الإسلامي الأصيل الذي كان الخبر الصادر واقعاً يهدف إيصاله إلينا.
دـ خلق الفرقة بين المسلمين
من المعروف أنّ إحدى المساحات الهامة التي اشتغل عليها الوضّاعون كانت الانحيازات القبلية والعشائرية والقومية والمناطقية والمذهبية والفرقية وقضايا المثالب والمناقب، ولهذا تكثر الأحاديث الموضوعة في هذه الدائرة، حتى ذهب السيد حسين البروجردي (1380هـ) إلى إسقاط حجية الخبر في هذه الأمور ما لم تحشد له القرائن لتحصيل الوثوق به، كما ينقل عنه ذلك السيد جلال الدين الآشتياني(7).
وقد ترك وضع الحديث في هذه الأمور أثراً سلبياً:
1ـ كانت روايات ذمّ مقدّسات الآخرين وما يتصل بهم ذات أثر سلبي على علاقات المسلمين بعضهم ببعض، فعندما يضع الراوي حديثاً في ذمّ الفرس أو ذمّ العرب أو ذم الأكراد أو ذم الديلم، ثم يتداول هذا الحديث فإنه يترك ردّة فعل سلبية في المجتمع من حيث علاقات الناس بعضهم ببعض.
وهكذا الحال في ذمّ المقدّسات المذهبية، حيث وضع المتطرّفون من أنصار المذاهب روايات قاسية في حقّ مقدّسات ورموز المذاهب الأخرى، وهو الأمر الذي ترك أثراً عظيماً في تمزيق المسلمين وشدّة الخلاف بينهم، وخروجه من حالة الخلاف الفكري إلى حالة النزاع الانتقامي.
2ـ ساعدت بعض النصوص الموضوعة على إيجاد حالة طبقية في المجتمع الإسلامي، فكان العرب يضعون بعض الروايات في تفضيلهم وتفوّقهم ونجابتهم بما كوّن في الوعي الإسلامي عند الكثيرين حالة تقدّم العرب على غيرهم في الفضيلة. ووضعت نصوص في تفضيل بعض العشائر والقبائل، بحيث كانت تتقدّم على غيرها كقريش، مع أنّ القرآن جعل معيار الفضيلة العلم والتقوى، لا الأنساب ولا الأعراق ولا القبيلة.
هـ ـ ظهور الوعي السطحي وغير العقلاني
ساعدت بعض أشكال حركة الوضع في الحديث على تبلور نوعٍ من الوعي السطحي عند المسلمين، وهنا يمكن التركيز على القصّاصين الذين أغرقوا سوق الحديث بمرويات القصص المثيرة للأنبياء والأئمة والصالحين والأولياء، وكذلك قصص الحروب والمغازي.
فقد بالغ هؤلاء في هذه الروايات التي أتوا ببعضها من كتب اليهود والنصارى وغيرهم، وصار همّ الناس وفهمها للدين قائماً على حال قصصية سردية خيالية؛ لكثرة هذه الروايات التي ألقيت بينهم، فظهر التديّن القصصي الذي يمتاز بالسطحية المفرطة، وصار الدين عبارة عن قصص وحكايا يتناقلها الناس، بدل أن يكون حكماً وقيماً ومواعظ.
ونتيجة هذا الوضع انخفض معدّل الوعي العقلاني، وصارت صورة الأشخاص والتاريخ عبارة عن أحداث كلّها خيالية سوريالية ما فوق طبيعية، كالبطولات وألوان الفداء والكرم والقوّة والشجاعة وغير ذلك.
لقد ساعد ذلك على وعي بسيط وساذج وغير مفهوم للأمور، وقد ابتعد المسلمون بسبب ذلك عن تعاليم الدين الجوهرية وعن التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد والأخلاق وأحكام الشريعة.
وـ التعطيل والتخدير والتجهيل
لعبت حركة الوضع في الحديث دوراً كبيراً في تعطيل نشاط المسلمين، وكبح جماح قوّتهم وعنفوانهم، فقد سعى الوضّاعون الموالون للسلطة ـ أيّ سلطة ـ لوضع الأحاديث التي تمنع المسلمين من الثورة والنهوض والنقد وإبداء الرأي، وصوّروا الحاكم ظلاً لله على الأرض، لا يجوز التعرّض له إلا إذا صدر منه الكفر البواح. ولم يكن الحاكم بالأحمق الذي يكفر أمام آحاد المجتمع الإسلامي وهو يحكم باسم الدين، فغطّ المسلمون في سبات سياسي ولم يعرفوا تداولاً للسلطة وحراكيةً في العمل السياسي، لهذا لم يكن سوى سبيل الخنوع أمامهم أو القيام بثورات موت.
كما أفرط الوضّاعون في مساعدتهم للسلطات حين وضعوا أحاديث القضاء والقدر التي تعطّل إرادة الإنسان وتخبر عن الجبر واللابدية في الفعل الإنساني، وساعدتهم في ذلك فئات أخر من الوضّاعين كانت تشتغل على إفراز مفهوم خاطئ للتوكّل على الله، وذلك عبر التسليم بالواقع وعدم السعي لتغييره، وجعل الفشل والتراجع ـ مع الحاكم ـ قدراً إلهياً لا مفرّ منه.
وهكذا خُدّر بعض المسلمين وتعطّلت الكثير من طاقاتهم على الفعل والتغيير، وجاء فريق ثالث من الوضاعين ليضع نصوصاً في العزلة وترك الناس وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والانكفاء عن الحياة الاجتماعية والسياسية، بل جاءت نصوص تعطيل الجهاد إلى أجلٍ غير مسمّى، ليساعد ذلك كلّه على تثبيط عزائم المسلمين ودورانهم حول أمور تافهة أفضت بهم إلى انهيار دولتهم الكبرى في القرن السابع الميلادي، وهم ممزقون يتناقشون في ما لا يهمّ النقاش فيه.
ليست حركة الوضع في الحديث هي المسؤولة عن ذلك كلّه، بل كانت مساهمةً فيه ومساعدةً عليه، نتيجة له وسبباً معاً.
كانت هذه البعض الآثار السلبية لحركة الوضع، نكتفي بها، وسيظهر أمرها أكثر فأكثر في الأبحاث القادمة بعون الله تعالى.
3ـ حكم وضع الحديث ورواية الحديث الموضوع
يعدّ هذا البحث من الأبحاث الهامة في دراسة مسألة الوضع في الحديث، وسوف ندرس أولاً حكم وضع الحديث، فيما نتعرّض فيما بعد لحكم رواية الحديث الموضوع، فالبحث في مرحلتين:
أولاً: حكم وضع الحديث شرعاً
المعروف بين علماء الشيعة والسنّة هو القول بحرمة وضع الحديث عن علم وعمد على لسان المعصوم ـ النبي والإمام ـ بل عدّ ذلك أمراً إجماعياً(8).
والمستند في ذلك واضحٌ؛ لأن وضع الحديث شكلٌ من أشكال الكذب والافتراء، وحرمة الكذب من الواضحات في الفقه الإسلامي، وتشتدّ الحرمة عندما يكون كذباً على المعصوم، مع الأخذ بعين الاعتبار الآثار السلبية الكثيرة الناتجة عن هذا الكذب كما ألمحنا إلى بعضه في البحث السابق. بل قد ذهب بعض الفقهاء إلى الحكم ببطلان الصوم بالكذب على الله تعالى ورسوله والمعصومين، فجعلوه من المفطرات، كما يظهر بمراجعة أبحاثهم الفقهية، لاسيما الفقه الإمامي.
وتخطّى بعض العلماء القول بكون الكذب والوضع من كبائر الذنوب إلى القول بكون الواضع كافراً، وقد نسب ذلك إلى كلٍّ من الشيخ أبي محمد الجويني، والقاضي أبي بكر بن العربي(9).
وفي مقابل هذا القول المشهور، نسب إلى بعضهم القول بجواز وضع الحديث، وأشهر الجماعات التي نسب إليها ذلك:
1ـ الكرامية، المنسوبون إلى محمد بن كرام بن عراق السجستاني (255هـ).
2ـ بعض المتصوّفة والزهاد.
3ـ بعض أهل الرأي(10).
وبصرف النظر عن مدى دقّة هذه النسبة، وهل هي صحيحة أم غير صحيحة، وإن كانت الشواهد المتفرّقة تدفعنا إلى ترقّب دقّة هذه النسبة؛ فإنّ الكرامية نسبوا إلى الزهد والتقوى تماماً كالزهاد والمتصوّفة، وسوف نلاحظ ـ وهو أمر مترقب ـ كيف أن الخوف على القيم الدينية وانشغال الناس بأمور أخرى كان سبباً في وضع بعض الأحاديث لتصويب الوجهة.
والذي يهمّنا هنا هو النظر في المعطيات التي يُستند إليها في تجويز الوضع، حيث من الواضح وجود حركة تجويز في الجملة، وأنّ هذه الحركة انطلقت من دوافع الحرص على الدين أيضاً.
ومن الجليّ أنّ المجوّزين لا يقصدون مطلق الرخصة في الكذب على لسان النبي|، وإنما كذب خاص أو نوع ومقدار محدّد من الكذب يخدم الأهداف النبيلة التي وضعوها، وهذا يعني أن نظرية جواز الوضع:
1 ـ محدودة وغير مطلقة حتى عند أصحابها.
2 ـ ذات غايات ومقاصد نبيلة من وجهة نظر القائلين بها.
وعلى أية حال، فأهم الأدلّة التي ذكرت لتجويز الوضع ما يلي:
الدليل الأول: وهو يقوم على إنكار كبرى إطلاق حرمة الكذب، وذلك على أساس أنّ الكذب إنما تثبت حرمته إذا كان مضرّاً لا مطلقاً(11)، وهذا ما يعني أنّ الكذب لا يحوي في ذاته العلّية التامة للقبح والحرمة، لا على مستوى معطيات العقل العملي ولا على مستوى معطيات النصوص الشرعية، على خلاف الظلم فإنه قبيح بذاته، أما الكذب ففيه اقتضاء القبح أو إنه متساوي الطرفين إلى القبح وعدمه، وإنما يكون قبيحاً بلحاظ النتائج المترتبة عليه.
ويمكن تعزيز هذا التقييد في حرمة الكذب بأنّ الشريعة جوّزت الكذب لمصلحة أو للإصلاح بين المؤمنين أو لدفع الضرر عن النفس ونحو ذلك، وهذا دليل واضح على أنّ الكذب لا يحوي قبحاً ذاتياً، وأنّ حرمته إنما كانت بملاحظة الآثار الضررية التي تترتب عليه.
ومن محاسن الصدف أنّ النصوص الناهية عن الكذب على رسول الله| تحتوي إشارةً إلى خصوصية الضرر اللاحق، فإنّ الحديث المتواتر المعروف في تحريم الكذب على النبي قد جاءت في بعض صيغه عبارة إضافية، فصار على الشكل التالي: μمن كذب عليّ متعمداً ليضلّ به الناس فليتبوء مقعده من النار(12)، وهذه الصيغة وصف الهيثمي حالها تارةً بأنّ رجالها رجال الصحيح، وأخرى بأنّ إسنادها حسن، وإن كانت بعض الطرق عنده ضعيفة(13).
وجاءت صيغة أكثر تأييداً، وهي التي تقول: μمن كذب عليّ متعمداً؛ ليحلّ حراماً أو يحرّم حلالاً أو يضلّ الناس بغير علم فليتبوأ مقعده من النار(14)، فهذه الصيغة تحدّد المسار الذي يتحرّك فيه الكذب، ولا تطلق الحرمة أو الوعيد بالنار إلا ضمن هذا المسار من الغايات والأهداف.
هذا كلّه يعني أن كبرى حرمة الكذب ودليل خصوص الكذب على النبي ليس فيهما إطلاق لحالة الكذب غير المضرّ على النبي، من هنا يمكن الكذب لغاية نبيلة كترقيق قلوب الناس ودفعهم نحو فعل الخير، لاسيما في قضايا الفضائل من الأعمال والمستحبات والمكروهات والأخلاق والآداب، أو تعريف الناس بمقام النبي والصحابة وأهل البيت، فتوضع روايات المناقب، وأيّ ضررٍ فيها؟!
هذا الدليل يمكن التعليق عليه من جهات:
أولاً: إنه وإن أمكن النقاش في إطلاقية حكم العقل العملي بقبح الكذب، من حيث عدم وجود دليل على وجود حكم إطلاقي كذلك، وفاقاً لغير واحدٍ من المحقّقين(15)، إلا أنّ النصوص الشرعية مطلقة في النهي عن الكذب عامّة، لا تقييد فيها بحالة وقوع الضرر، لا أقلّ ما جاء في موقع النسبة إلى الله تعالى وإلى الدين.
ثانياً: بصرف النظر عن الكبرى العامة، فإنّ حديث تحريم الكذب على لسان النبي| والمحكوم بتواتره، كافٍ في إطلاق الحرمة، وأما إشكالية القيد الإضافي، فهذا القيد وارد في طريقين أو ثلاثة من عشرات طرق هذا الحديث، وعلى فرض صحّته ـ وبعضُ طرقه ضعيفة ـ لا يقيّد النصوص المطلقة الأخرى؛ لأنّ هذا الحديث لا يحرز صدوره من النبي مرةً واحدة، بل الأرجح أنّه صدر عدّة مرات للتأكيد على هذا الأمر، فأيّ مانع من صدوره مطلقاً في أغلب الموارد، وصدوره بهذا القيد في موارد قليلة أخرى. وهذا الأمر لا يوجب تقييد النص المطلق؛ لأنّ الدليلين مثبتان، ولا مجال لإيقاع التعارض بين الدليلين المثبتين إلا في حالة إحراز وحدة الملاك، وإلا فالبيانات الشرعية تارةً تبيّن مساحةً وأخرى أوسع منها، وهذا موجود وبكثرة في الكتاب والسنّة، قال تعالى: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ (الأنعام: 144).
نعم، لو ورد القيد ـ الضلال ـ مورد العلّة التي يدور مدارها الحكم وجوداً وعدماً، كانت العلّة مقيّدةً للأدلة المطلقة، كما لو قال: يحرم الكذب؛ لأنه مضرّ، فإنّ ظهور الخطاب في التعليل يمكنه ـ لو تحقّقت سائر الشروط ـ أن يقيّد إطلاقات حرمة الكذب، وهذا غير متحقّق هنا.
ثالثاً: قد يقال بأنّنا لو غضضنا الطرف عن ذلك كلّه، والتزمنا باختصاص حرمة الكذب ولو على النبي بحال لزوم الضرر، إلا أننا ندّعي تحقق الصغرى هنا؛ لأنّ الواضع عندما يضع الحديث لا يلتفت إلى الآثار الأخرى، ويظنّ أن الحديث سوف يترك أثراً إيجابياً فقط، لكنه لا يلتفت إلى أنّ بعض قيود الحديث أو طريقة بيانه أو لحن خطابه سوف يواجه فقيهاً هنا أو مفسّراً هناك، وقد يقيّد به مطلقاً هنا ويخصّص به عاماً هناك، أو قد يشكّل أساساً لولادة مفهوم فيما بعد لم يلتفت إليه حتى الواضع نفسه، إنّ النص النبوي حيث إنّه نصّ مقدّس سوف يكون مرجعاً لآلاف المفسّرين له عبر القرون اللاحقة، وما دام بالإمكان جداً أن لا يلتفت الواضع إلى تمام ظهورات وتجلّيات هذا النص في عناصر الثقافة الأخرى، فإنه سيترك أثراً هنا أو هناك، وخصوصيّة مقام النبوة ستجعل النص عرضةً لأن يستفاد منه في مواضع متعددة بغير المفهوم الذي أراده حتى الواضع، وهذا معناه أنّ الوضع فيه آثار سلبية كبيرة جداً على أجيال المسلمين وثقافاتهم ووعيهم وطريقة تفكيرهم.
وبهذا يظهر أنّ الدليل الأول غير تام على الترخيص.
الدليل الثاني: إنّ الأدلّة الدالّة على حرمة الكذب على رسول الله| لا إطلاق فيها يشمل حالة الكذب على لسانه بدافعٍ شريف، كحثّ الناس على فضائل الأعمال وترغيبهم في السنن والمندوبات وما شابه ذلك، وذلك أنّ الحديث المعروف: μمن كذب عليّ متعمّداً..ν إمّا خاص بمن كذب على النبي بمعنى اتهمه بالجنون أو السحر كما هي حال غير المسلمين، دون كذب المسلمين عليه بداعي الترغيب بدينه، أو أنه ظاهر في الكذب الذي يرجع بالضرر على النبي ويكون ضدّه ومخالفاً لمصالح دينه، دون الكذب الذي يرجع بالخير عليه وعلى دينه، فإن كلمة (عليَّ) تختلف عن كلمة (لي) والكذب عليه غير الكذب له، ووضع الحديث في الفضائل وما شابهها كذب له لا عليه(16).
إلا أنّ هذا الدليل باطل أيضاً؛ لأنّ كلمة (عليّ) لا تعني (ضدّي) في مقابل كلمة (لي) التي تعني (معي ولصالحي)؛ وإنما تفيد في اللغة العربية مطلق نسبة الشيء إلى الآخر، دون أن يكون الآخر قد قاله، ومثال ذلك أن يقال: كذبت على لسانك، بمعنى أنني نقلت شيئاً غير صحيحٍ عنك، ولا يفهم العربي من هذا الكلام عنصر الكذب لمصلحة أو لضرر، وسبب استخدام النبي| كلمة (عليّ) هنا إنّما هو توضيح جهة الكذب والمكذوب عن لسانه، فلو قال: من كذب، ثم سكت عن تحديد المكذوب عن لسانه لما حصلت الفائدة، ولهذا ربط الكذب به فقال: μكذب عليّν، من هنا اعتبر ابن حجر العسقلاني من فسّر هذا الحديث بهذه الطريقة الواردة في الاستدلال جاهلاً باللغة العربية(17).
وبهذا يظهر أنّ وضع الحديث على لسان المعصوم حرام حتى لو كان لغايةٍ شريفة، فما يفعله عددٌ قليل من المسلمين أو الخطباء أو الوعّاظ من ابتكار قصص أو حكايات أو بطولات أو أحداث بداعي الخير ورغبةً في ربط الناس بالدين أو القيم أو الأخلاق أو النبي أو أهل البيت أو الصحابة أو غير ذلك، غير جائز شرعاً.
بل قد ذكر الخطيب البغدادي عن غير واحدٍ من أهل العلم أنّ الكذب على لسان النبي يوجب ردّ الحديث أبداً حتى لو تاب فاعله واعتبر ذلك من عقوبة الكذاب(18).
وهذا الكلام جيد لو لم يحصل الوثوق بخبره حتى بعد توبته، وإلا فلا موجب له إذا استطعنا تمييز الروايات في مرحلة كذبه عنها في مرحلة صدقه. ودعوى العقوبة تحتاج إلى دليل، ولم يرد في الكتاب والسنّة أن هذه عقوبة الكذاب على النبي|.
ثانياً: رواية الحديث الموضوع
بعد الفراغ عن حرمة وضع الحديث على المعصوم×، وقع البحث في جواز رواية الحديث الموضوع، وقد ذهب العديد من العلماء إلى القول بحرمة رواية الحديث الموضوع لمن يعلم بأنه موضوع أو قامت عنده الحجّة على كونه كذلك(19)، حتى لو كان هذا الحديث في الفضائل والخيرات(20).
والذي يبدو منهم تقييد ذلك بما إذا لم يوضح الراوي كون هذا الحديث موضوعاً(21)، وإلا فمجرّد ذكر السند لا يكفي عندهم؛ إذ لا يتميز الحديث الموضوع عن غيره بمجرّد ذكر السند، ولا تحفظ السنّة إلا بالكشف عن الموضوعات(22). نعم ذهب العلامة المامقاني إلى كفاية ذكر السند دون الجزم بالصدور؛ لأنه أتى به عند أهل الاعتبار، والجاهل غير معذور في تقليد ظاهره، بل مقصّر في ترك التثبت(23).
لكن السؤال: ما هو الدليل على حرمة رواية الحديث الموضوع؟
لا شك أنه لو ذكر الناقل الحديثَ الموضوع بصيغة الجزم بصدوره مثل: μقال رسول اللهν، فإنه يحرم من باب الكذب؛ لأنه يذكر أنّ الرسول| قد قال ذلك وهو يعلم أنه لم يقله، وهذا واضح، إلا أنّ الكلام في ذكره السند، أو قوله: روي عن رسول الله|، فإنّ ذلك لا يحوي كذباً حتى يكون حراماً، فما هو الموجب للحكم بالحرمة حينئذٍ؟!
استدلّ على ذلك أو قد يستدلّ بما يلي:
أولاً: إنّ في ذلك إعانةً على الإثم، فإنّ وضع الحديث إثمٌ، ونحن بترويج الأحاديث الموضوعة نساعد الوضّاعين على وضعهم ونعينهم في كذبهم، كما أنّ في رواية الحديث الموضوع ترويجاً للقبيح وتضليلاً للمسلمين، فلا يجوز(24).
وهذا الاستدلال إنما يتمّ ـ في مطلعه ـ بناءً على ثبوت كبرى حرمة الإعانة على الإثم، فلو أنكرت هذه القاعدة كما ذهب إليه بعض كبار الفقهاء المتأخرين(25)، لم يعد هناك مجال لتوظيف هذه القاعدة فيما نحن فيه. هذا، مضافاً على أنّ الاستناد إلى كبرى حرمة الإعانة لا يتصوّر هنا مع وفاة الوضّاعين للأحاديث منذ مئات السنين، فلا يصدق عرفاً أننا نعينهم ونساعدهم وهم عند ربهم إلا بضرب من المجاز؛ لأنّ المفروض أن الفعل قد صدر قبل مجيئنا نحن إلى الدنيا، عنيت فعل الكذب، فما معنى الإعانة عليه هنا؟! نعم، نحن نعين سبيل الكذب على النبي، وهذا شيء آخر، فالاستدلال بحرمة الإعانة على الإثم يعاني من مشاكل هنا، اللهم إلا إذا وضع الحديث الآن بتعاون عدّة أطراف.
وأما أن في رواية الحديث الموضوع ترويجاً للباطل وتضليلاً للمسلمين، فهو إنما يتم لو اعتقد الراوي للحديث بكون مضمون الحديث باطلاً، كما لو روى رواية موضوعة تجيز شرب الخمر، فهنا يتحقّق تضليل المسلمين أو إيقاعهم في الباطل وترويجه، وتغريرهم بالحرام، وقد تبنّى غير واحدٍ من الفقهاء قاعدة حرمة تغرير الجاهل وإيقاعه في الحرام الواقعي ولو لم يكن يدري وكان معذوراً فيما فعل، لكنّ هذه القاعدة ـ لو تمّت ـ لا إطلاق فيها ـ وفاقاً للمحقق الخوئي(26) ـ لعدم إحراز جريانها في غير حالات المحرّم الواقعي الذي يكون بحيث يهتم به الشارع على كلّ حال، كالدماء والفروج والأحكام، أما في غير ذلك كروايات خواصّ النباتات أو تاريخ الأنبياء أو أحداث عصر ظهور المهدي أو وقائع القيامة أو حياة القبر، فلا يعلم شمول هذه القاعدة له ما لم يمسّ الحديث الموضوع اعتقاداً دينياً بسوء.
هذا كلّه، فضلاً عن أنّ مضمون الحديث الموضوع قد يكون بنظر الراوي له حقاً وليس بباطل، فكيف نخاطبه بحرمة الترويج للباطل أو تضليل المسلمين؟!
وأما إذا قصد بتضليل المسلمين تضليلهم في تصوّرهم أنّ هذا الكلام قاله النبي، وهو لم يقله، بصرف النظر عن إشكالية المضمون، فهذا هو عين الكذب، فنرجع إلى حرمة الكذب، والحال أنّ الراوي لم يكذب، ولا دليل محرز بعدُ على حرمة تضليل المسلمين بهذا المعنى ما لم يتعنون بعنوان الكذب المحرّم، والمفروض لحوقه للواضع لا لراوي الحديث الموضوع.
فهذا الدليل بهذه الصيغة غير دقيق.
ثانياً: الاستناد إلى الحديث النبوي المعروف: μمن كذب عليّ متعمّداً فليتبوأ مقعده من النارν، فقد افترض محمد جمال الدين القاسمي أنّ في هذا الحديث إشارة إلى حرمة نقل الحديث مع العلم بكذبه وأنّ الناقل مستحقّ للنار، إلا أن يتوب(27).
وهذا الاستدلال غير واضح؛ وربما لعدم قوّته عبّر عنه القاسمي بالإشارة، لا بالظهور والدلالة، وإلا فالحديث ظاهرٌ في الكذب، ونقل الكذب ليس كذباً، لا عرفاً ولا عقلائياً، حتى مع العلم بأنّه كذب.
نعم، بعض صيغ الحديث قد تكون شاملةً لمقام نقل الكذب، وذلك مثل صيغة: μمن يقل عليّ ما لم أقلّ فليتبوأ مقعده من النار(28)، بدعوى أنّ القول عليه ما لم يقل يشمل الكاذب، ويشمل من ينقل عنه؛ إذ يصدق على الناقل أنه يقول على النبي ما لم يقل، ولو بالواسطة، اللهم إلا إذا استفيد من الرواية الكذب خاصّة، ولو من باب أن الناقل لا يقول عن النبي، بل يحدّث عن الراوي عن النبي.
وعليه، فالاستدلال بهذا الحديث مشكل.
ثالثاً: الاستناد إلى رواية خاصّة واردة في المقام وهي: μمن حدّث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين(29) فإنّ هذا الحديث واضح الدلالة على حرمة التحديث مع العلم بالكذب(30)، وتنزيله منزلة الكاذب الواقعي؛ لترتيب آثار الكاذب على هذا الناقل عن الراوي الكذاب فيما نقله كذباً.
وهذا الحديث منقول عن سمرة بن جندب الذي وقع فيه خلاف بين الشيعة والسنّة، فيراجع، وعلى تقديره فهو خبر آحادي لا وثوق بصدوره، والحجّة هو الخبر الموثوق بصدوره لا الثقة ولو بلا وثوق، كما حقّقناه في محلّه.
كما قد يقال بأنّ هذا الحديث خاصّ بالتحديث عن النبي، لا عن الراوي عن النبي، فلا يشمل ذكر السند وأمثال ذلك.
رابعاً: الاعتماد على دعوى الإجماع على حرمة التحديث بالموضوع دون بيان حاله، كما ذكر بعض الباحثين(31).
لكنّ الاعتماد على هذا الإجماع ـ لو تمّ صغروياً ـ ممنوع، بعد وضوح مدركيته من خلال سائر الأدلّة التي ذكروها، لاسيما الحديث الأخير الوارد في صحيح مسلم.
من هنا، لا نجد دليلاً مقنعاً على حرمة رواية الحديث الموضوع بعنوانه، فيتبع الأمر الآثار المترتبة عليه هنا أو هناك، فإن كان لرواية حديثٍ موضوع ضمن سياق ما أثر إيجابي أو لم يحرز أنّ له أثراً سلبياً مبغوضاً جداً، فلا دليل على تحريم روايته، ومن ذلك مقام المخاصمات فقد يحتجّ الباحث على خصمه بروايات خصمه مع اعتقاده بأنّ بعضها موضوع ولا يشير إلى الوضع، بل يظهر بقرينة السياق أنه لا يعتقد بها لا أنه يعتقد بكذبها، وأما إذا تمّ إحراز ضرر غير مشروع يلحق الرواية هنا أو هناك، حرم أو كره بمقدار الأثر السلبي اللاحق.
يشار إلى أنّ رواية الحديث الموضوع يكفي في رفع حالة التضليل فيها الإشارة إلى ضعفه، ولا يجب الإشارة إلى وضعه، فإنّ تضعيفه نحو توهين له كافٍ في رفع التضليل في بعض الموارد على الأقلّ. وهذا يعني أنّ المصنف أو الكاتب أو الخطيب أو الواعظ أو المدرّس، عليه أن يلتفت إلى حجم المفاسد المترتبة، تبعاً للمقام ولشخصه ولشخص مخاطبه ولمضمون الحديث وغير ذلك، لا القول مطلقاً بالحرمة ولا مطلقاً بالجواز.
4ـ أنواع الوضع وأشكاله وأساليبه
تتعدّد أشكال وضع الحديث وتختلف أنواعه، ومن الضروري التعرّف على أساليب الوضع، إذ غالباً ما يتصوّر للوضع أشكال مبسّطة فينطلي الأمر على الباحثين في حنكة الواضعين وذكائهم، الأمر الذي يفرض الاطّلاع على هذه الأساليب، تمهيداً للتمكّن من تمييز الأحاديث الصحيحة عن غيرها بطريقة جيّدة.
وأهم أشكال الوضع ما يلي:
4 ـ 1 ـ الوضع الكامل التام
وله عدة حالات:
4 ـ 1 ـ 1 ـ الوضع الكامل في السند والمتن
ذهب بعضهم إلى أنّ هذا الشكل من وضع الحديث أوضح الإشكال وأشهرها، حيث يقوم الواضع بافتراض مضمونٍ ما يعتقد صوابه، فيحوّله إلى متن حديث، ثم يخترع له سنداً افتراضياً متصلاً بالنبي|، أو يرسله بإحدى درجات الإرسال.
وتقع هذه العملية ابتكاريةً بالكامل، مثل أن يفكّر الراوي في موضوعٍ ما، فيصطنع له متناً، ثم يخترع له سنداً لم يسبق أن شاهده من قبل.
وقد اختلف في هذا المنهج والأسلوب، فذهب بعضهم ـ مثل الدكتور صلاح الدين الإدلبي ـ إلى أنّ هذا الكلام كلّه خياليّ صرف، اخترعه بعض الباحثين في الحديث، وأنّه لا وجود لوضع كهذا في كتب الحديث(32)، فيما ذهب آخرون كالدكتور صبحي الصالح إلى أنّ أكثر حالات وضع الحديث على هذا الشكل، لاسيما في أحاديث القصّاصين(33).
والحقّ أنّ تحقق هذا النوع من الوضع بمعنى اختراع تمام متن الرواية واختلاق رواة للسند كلهم لا وجود لهم مطلقاً أمرٌ بعيد جداً فيما بأيدينا من مرويات، إلا إذا كان الخبر مرسلاً لا سند له؛ لغلبة وجود ولو راوٍ واحد في السند يكون معروفاً ومتداولاً في أسانيد أخرى، علماً أن تحقّق ذلك خارجاً آنذاك معقول في بعض الدوائر الضيقة هنا وهناك. وأما بمعنى اختراع المتن والسند بحيث يكون تركيب السند اختراعياً لا أسماء الرواة، فهو أكثر إمكاناً حيث يقوم الواضع بضمّ اسم إلى آخر، ولو كان أحدهما معروفاً، فلا موجب لإنكار القضية بالمطلق.
4 ـ 1 ـ 2 ـ الوضع الكامل في المتن خاصة
تقوم هذه الحالة المشهورة جداً على أساس:
أ ـ اختراع الواضع لمتن من عنده لا يأخذه من أحد(34)، وإنما هو فكرة جاءته من بنات أفكاره، فيفتش له عن سند، فمثلاً قد يحيا الواضع في عصر الكليني ويسمع بالسند المتداول: علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، فيقوم بالقول: حدثني علي بن إبراهيم عن… ويستخدم السند عينه، دون أن يخترع سنداً من عنده؛ ليلصق هذا السند بالمتن الذي اخترعه. وهذا كثير الوقوع على المستوى الاحتمالي، لاسيما في الأسانيد المشهورة المعروفة، حيث يستغلّها الوضّاعون لتركيب متونهم عليها.
وأكثر ما يتوقع حصوله هنا هو أن يؤمن الواضع بفكرةٍ ما باجتهاد ذهني، أو تحيّز طائفي، أو لتفسير خاص له للقرآن، أو بتطبيق خاص له لآيات القرآن على مصاديق معيّنة مذهبية أو قومية، فيجعل فكرته متناً ويحوّلها إلى حديث يركّبه على السند أو يرسله ويرفعه.
ب ـ أن لا يكون المتن من اختراع الواضع، وإنما يأخذه من موضع قائم موجود(35)، وهذا أيضاً كثير التحقّق في فرصه الاحتمالية، وله عدّة مصاديق:
منها: أن يعمد الواضع إلى كتب أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والتلمود وسائر المصنفات الأخرى، ليأخذ منها قصّة أو حديثاً أو حكمةً أو موعظة أو حكماً فقهياً، ثم ليركّبه بعينه على سند موجود قائم، وهذا ما يعرف بالإسرائيليات التي غلب وجودها في مجال القصص وتاريخ الأنبياء ونحو ذلك.
من هنا، يحتاج ناقد الحديث لدراسة نصوص أهل الكتاب وثقافتهم، لاسيما في تلك الفترات بالتحديد؛ لأنّ ذلك يساعده على اكتشاف الموقف بطريقة أفضل.
نعم، ليس كلّ تشابه معناه الوضع، فقد يقول النبي قولاً يشبه قول نبي آخر، لكن مع ذلك تبقى هذه المسألة معيناً رئيساً في المقام.
ومنها: أن يعمد الواضع إلى كتب الحضارات والحكماء القدامى في الحضارات المختلفة وينظر في ثقافات الشعوب، فيرى حِكَماً معروفةً عندها، ثم يقوم بتركيب هذه الحكمة الآتية من بلاد الروم أو العرب أو فارس أو البربر أو الهند أو.. على أسانيد جاهزة. وهذه الحِكَم قد تكون أمثالاً شعبيةً مفيدة، وقد تكون كلاماً مكتوباً أو مأثوراً لحكماء تلك الشعوب والحضارات، وهو ما يفتح بدوره المجال على توسعة ثقافة الناقد للحديث على هذا الصعيد أيضاً.
ومنها: استقاء كلام لأحد الصحابة أو التابعين أو تابعيهم يقتنع به الواضع، فيقوم بتركيب المتن على السند ليحوّله إلى نصّ نبوي، بغية إعطائه نفوذاً اجتماعياً، إما لأنه يريد الانتصار لهذا الشخص أو ذاك، ويريد أن يعطي كلامه قوّة ونفوذاً، أو انحيازاً منه لمضمون الكلام.
من هنا، نجد بعض الروايات التي يطابق نصّها تقريباً نصّاً موجوداً في كتب أهل الكتاب، أو في ثقافة بعض الشعوب، أو فيما ينقل عن بعض الشخصيات الإسلامية القديمة.
ومنها: استقاء كلام الأطباء أو الشعراء لنسبته إلى نبي أو إمام، على نفس الطريقة المتقدّمة، وقد ذكر بعض نقاد الحديث أنهم لاحظوا كتب الطبّ القديمة ووجدوا تطابقاً بينها وبين بعض الروايات الطبية(36)، وهكذا في مجال الشعر.
وهذا الاختراع أو الاستقاء للمتون، وتركيبها على الأسانيد التي قد تكون صحيحةً، يسمّى في عرف الدراية بالوضع أو الدسّ على الثقات، وقد كانت مشكلةً عويصة، ويسمى الحديث بـ μالموضوع على الثقاتν، وقد أفرد البهبودي في كتابه μمعرفة الحديثν فصلاً تحت عنوان: μالموضوعات على الثقاتν عالج فيه بتفصيل نسبي هذه الظاهرة(37)، والتي لها مصاديق أخرى ستأتي بعون الله تعالى.
ويلاحظ على ظاهرة وضع المتون بالطرق غير الطريقة الأولى، أنّ أصحابها لم يكونوا مبتكرين لأفكار، فكان مستواهم أقلّ ـ فكرياً ـ من مستوى وضّاعي المتون بشكل ابتكاري(38).
هذا كلّه يعني أنّ ناقد الحديث عندما يلاحظ هذا التقارب أو التطابق، فإنه وإن احتمل صدق الراوي، لكنّ احتمال الوضع يكون حاضراً حينئذٍ، تفرضه المعطيات الاحتمالية العقلانية، بل قد يقوى الاحتمال إلى حدّ الاطمئنان في بعض الحالات.
ويجب أيضاً التنبّه للأحاديث المقطوعة والمرفوعة والتي لا سند لها؛ لاحتمال عدم خبرة الواضع بالحديث فيخترع المتن ويسنده إلى النبي أو الصحابي أو الإمام بطريقة الرفع والإرسال.
4 ـ 1 ـ 3 ـ الوضع الكامل في السند خاصّة
يقصد بهذه الحال أن يقوم الواضع بالعثور على حديث موجود، وله سند أو لا سند له، فيقوم لأجل تقوية هذا الحديث باختراع سندٍ له، إما رجاله معروفون أو غير معروفين، أو لا وجود لهم، كلاً أو بعضاً، وفي الغالب يقوم باختراع سند من شخصيات معروفة.
هذه الظاهرة بالغة الخطورة؛ لأنّ هذا معناه أنه من الممكن أن يقوم الوضّاعون ـ لأجل تقوية حديث ضعيف ـ بتركيب أسانيد كثيرة له، من شخصيات معروفة أو شبه معروفة، فهم قد سمعوا سابقاً بالحديث لكنهم يريدون تقويته، ولم يقوموا باختراعه أو اقتباسه من مكانٍ ما، وهذا يعني أنّ كثرة الأسانيد التي فيها أشخاص ضعاف يصعب تحصيل الوثوق منها؛ لاحتمال أنهم جميعاً اخترعوا الأسانيد لمتنٍ كان موجوداً بسند ضعيف، وهذا الأمر يزداد إشكالاً عندما يشترك الوضاعون لهذه الأسانيد في مذهب خاص أو اتجاه خاص فكري أو سياسي أو غير ذلك، فلا ينبغي الاغترار بكثرة الطرق قبل نقد هذا الجانب.
هذا، ويعبّر أحياناً عن الحديث الذي يجري تبديل بعض رواته أو كلّهم لمزيد ترويج أو غير ذلك بالحديث المقلوب(39).
4 ـ 2 ـ الوضع الجزئي
يختلف الوضع الجزئي عن الوضع التام، من حيث إنّ الواضع لا يقوم بابتكار سندٍ لمتن أو متنٍ لسند، أو سندٍ ومتنٍ معاً، وإنما يصادف حديثاً موجوداً له سنده ومتنه، ولم يقم هو بابتكار أيّ من الجزأين الرئيسين فيه، لكنه يقوم بإدخال بعض التعديلات على أحد هذين الجزأين، وبذلك يقع الوضع الجزئي، وله حالات:
4 ـ 2 ـ 1 ـ الوضع الجزئي في الأسانيد
ويحصل ذلك بأن يجد الوضاع حديثاً له سند مبتلى بحذف أحد رواته مثل: زيد، عن عمرو، عن رجل، عن النبي، وهنا يقوم بوضع اسم بدل كلمة (رجل)، كي يقوّي هذا السند، ويدعم هذا الحديث الذي يريد أن ينتصر له.
هذا معناه أننا إذا وجدنا حديثاً رواه الثقة عن ثقة عن رجل أو عمّن حدثه، ثم وجدنا الرجل الوضاع يرويه عن ثقة عن زيد الثقة، فمن غير المعلوم إمكان ردم هوّة الإرسال الموجود في السند الأول بالاسم الظاهر الذي أتانا به الضعيف في السند الثاني؛ لاحتمال أن الخبر وصله مرسلاً، لكنه أراد تقويته بإضافة هذا الاسم.
وهكذا الحال لو ورد في السند شخصٌ معروف بالكذب، فأراد الوضاع أن يلغي اسمه ويستبدله بشخص ثقة؛ كي لا يسقط الحديث، فهنا يقوم بحذف اسم الراوي الضعيف واستبداله براوٍ ثقة معروف. وهذا ما يدفع للتنبيه إلى أمرٍ هام، وهو أنّ الوضاعين كثيراً ما يستغلّون أسماء الرواة المشاهير كمحمد بن مسلم وأبي هريرة وعائشة وعبد الله بن مسعود وزرارة بن أعين، فيضعون أسماءهم في الأسانيد كي تأخذ الروايات حضورها.
هذا، والوضع الجزئي في الأسانيد قد يكون في أوّلها، وقد يكون في وسطها، وقد يكون في آخرها.
4 ـ 2 ـ 2 ـ الوضع الجزئي في المتون
تعدّ ظاهرة الوضع الجزئي في المتون من ظواهر الوضع الخطيرة جداً؛ لأنّ الواضع لا يتصرّف في الأسانيد، وإنما يتصرف في المتن تصرّفاً جزئياً يريد به حرف المعنى الأصلي، أو إضافة معنى جديد، أو حذف معنى محدّد كان دالّه موجوداً في المتن.
والوضع الجزئي في المتن يحصل من خلال حالات عديدة، أبرزها:
1 ـ إضافة كلامٍ ما في أوّل الحديث، فقد يأتي الحديث معبراً عن قاعدةٍ عامة، فيقوم الواضع بتطبيق هذه القاعدة على موردٍ ما، ثم يقوم بذكر المورد معلّلاً بالقاعدة، فمثلاً قد تأتي رواية تقول: إن قطع الرحم منقصة في الرزق، فيقوم الواضع بإضافة مصداق حقيقي أو جعلي في مقدمة الحديث، كأن يقول: إمام المسلمين من رحمكم وقطع الرحم منقصة للرزق، أو يقول: صل أباك فقطع الرحم منقصة للرزق.
2 ـ إضافة كلامٍ في وسط الحديث، والمثال الذي يذكره العلامة التستري هنا جيد، فقد جاء في أحد الأحاديث عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله| أنّه قال: μلو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطوّل الله تعالى ذلك اليوم حتى يبعث رجلاً منّي يواطؤ اسمه اسمي، واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً(40). إنّ هذا الخبر الذي ينقله حتى الشيخ الطوسي مخالفٌ لكل صيغ هذا الحديث الواردة عند المسلمين، وهذا ما يضاعف من احتمال زيادة جملة: μواسم أبيه اسم أبيν. وقد احتمل العلامة التستري أنّ سبب وضع هذه الجملة يرجع إلى إرادة الواضع تطبيق عنوان (المهدي) على المهدي بن المنصور الدوانيقي(41).
لكن ثمة احتمال آخر يشرحه لنا خبر يزيد بن حازم الوارد في كتاب الغيبة للنعماني، في أن تكون هذه الإضافة من صنع جماعة المغيرة بن سعيد من غلاة الشيعة، للترويج لمحمد بن عبد الله بن الحسن، وهو من أهل البيت وقد ادّعى أنه القائم(42). وهناك احتمالات أخرى تبحث في محلّها.
3 ـ إضافة كلام في آخر الحديث، وهذا أيضاً أمر معقول جداً، حيث ينهي الراوي الحديثَ، فيضيف إليه مصداقاً أو يطبّقه على مصداق خارجي، أو يرفقه باستثناء أو تخصيص أو ما شابه ذلك.
وهذه الحالات الثلاث تعرف باسم: الإدراج المتعمّد في الحديث؛ فإنّ الحديث المدرج هو الحديث الذي يدرج الراوي فيه كلاماً كالذي قلناه.
4 ـ تغيير ألفاظ الحديث، وهنا لا يزيد الواضع شيئاً، إنما يستبدل كلمةً بأخرى تخدمه أو تنفعه، فبدل μيحرمν يقول: لا ينبغي، وبدل μلا تفعلν، يقول: لا يصح، وهكذا مما يسبب اختلالاً وقلقاً وتحريفاً في المعنى.
لكن يجب أن نشير إلى أمرٍ مهم جداً في موضوع الإدراج في الأحاديث أو تغيير ألفاظها، فليس كلّ إدراج أو تغيير معناه الوضع، بل هناك أسباب عديدة لهاتين الظاهرتين، فقد عُرف عن الشيخ الصدوق الإدراج في الأحاديث ـ وإن كان هناك نقاش في صحّة هذه الدعوى ـ ليس بنيّة الوضع، وإنما أحياناً بنية التوضيح، فيختلط المتن بالحاشية، ويظنّ الآخرون أنّ هذه الإضافة جزءٌ من متن الحديث.
نعم، ينبغي أن يتنبّه المحدّث لهذا الأمر، فلا يفعل ما يوجب اختلاط كلامه بكلام المعصوم، وهذا معناه أن كثرة إدراج المحدّث أو الراوي دون تمييز منه بين كلامه وكلام المعصوم نقطة ضعف في روايته، بل قد تكون حراماً في بعض الأحيان، كما لو كانت متعمّدة بهدف الوضع.
كذلك الحال على خطّ تغيير الألفاظ، فليس كل تغيير معناه الوضع؛ لأنّ الكثير مما بأيدينا من روايات هو نقلٌ بالمعنى، وقد أجاز العلماء ذلك على أبحاث وشروط ذكروها في محلّها وحقّقناها في أبحاثنا في حجية الخبر، وعندما يكون النقل بالمعنى فإنّ هذا النقل يتبع فهم الناقل للكلام، فقد يعبّر عنه بطريقة فصيحة كاملة، وقد يستخدم عبارات تختلف عن العبارات التي استخدمها الرواة الآخرون الذين سمعوا الخبر أيضاً، وقد ينتقي تعبيراً يظنه دالاً فيما لا يكون كذلك بالمستوى المطلوب وهكذا، وهذا كلّه يعني أن اختلاف الصيغ اختلافاً بسيطاً قد ينشأ من النقل بالمعنى أو من النسّاخ، وليس من الضروري أن نفسّره بالوضع والتزوير.
5 ـ الإنقاص من المتن، وهذا أيضاً كثير الحصول، بحيث يحذف مقطعاً في أوّل المتن أو في آخره أو في وسطه لا يكون مناسباً له، ولعلّ هذه الطريقة أسهل من غيرها؛ لأنّ الواضع هنا لا يزيد شيئاً حتى يُطالَب به، بل هو يقوم فقط بحذف شيء ما، لاسيما إذا كان في الأول أو الوسط. ويجب أن نعرف أنه ليس كل حذف وضعاً، بل قد اشتهر بين العلماء التقطيع في الأحاديث، لاسيما في الكتب الحديثية الموسوعية كالصحاح الستة والكتب الأربعة، واشتهر بذلك جداً الحر العاملي (1104هـ) في موسوعته الحديثية: تفصيل وسائل الشيعة، ولهذا الأمر أسباب كثيرة ومبرّرات عديدة، وإن كانت وجهة نظر بعض العلماء أنّ ذلك خطأ، ولذا ذكر السيد البروجردي في موسوعة: جامع أحاديث الشيعة، كلَّ المتن، ولو لزم التكرار؛ لانحفاظ القرائن وعدم ضياعها بالتقطيع، بل التقطيع كان سبباً في الوقوع في أحاديث كثيرة مضمرة، كما يقال فيما حصل مع تقطيع كتاب مسائل علي بن جعفر. ومعه، فينبغي التمييز في هذا الأمر بين الوضع وغيره.
أسلوب الدسّ في الكتب والمصنفات
ما تقدّم كان الخارطة التي يتحرّك وفقها الوضع من قبل الواضع، لكن من الضروري أن نعرف أن الواضع قد لا يقوم برواية حديث أو يكتبه في كتابه، وإنما يقوم بدسّ حديثٍ في كتاب شخصٍ آخر معروف في الثقات، وهذا من أخطر مصاديق الدسّ على الثقات والمشاهير.
وطريقة ذلك مثلاً أن يحصل الواضع على كتاب شخص ثقةٍ جليل مثل محمد بن مسلم أو زرارة بن أعين أو جابر بن عبد الله الأنصاري، ثم يقوم بإعادة استنساخه مضيفاً بعض الأحاديث التي لم تكن موجودةً فيه أو منقصاً أو مغيّراً، أو ما شابه ذلك، ثم يقوم بنقل النسخة المحرّفة من الكتاب بوصفها كتاب محمد بن مسلم أو زرارة بن أعين، وقد يكثر عدد النسخ فتنتشر بين الأيدي، وتروج النسخة الباطلة.
من هنا، تشدّد العلماء في إثبات صحّة نسبة نسخ الكتب إلى أصحابها، فقالوا بأنه لابدّ من طرق تثبت لنا أنّ النسخة الموجودة بين أيدينا لهذا الكتاب أو ذاك أو هذا الأصل أو ذاك هي بعينها النسخة التي كانت عند المؤلف أو صورة مطابقة لها، وعلى هذا الأساس أنكروا العديد من الكتب التي بين أيدينا مع اعتقادهم أصل انتساب الكتب إلى أصحابها، مثل ما حصل مع كتاب سليم بن قيس الهلالي ـ بحسب رأي السيد الخوئي ـ حيث أثبت الكتاب له، لكن لم تحرز صحّة النسخة التي بين أيدينا اليوم، لوجود بعض الضعاف في السند عنده.
وهكذا الحال عند بعض العلماء المتأخرين والمعاصرين، حيث أثبتوا وجود تفسير لعلي بن إبراهيم القمي، لكنّهم شكّكوا في أن يكون هذا التفسير هو بعينه النسخة الموجودة له بين أيدينا اليوم؛ لعدم صحّة الطريق مضافاً لقرائن أخر.
وهذه الظاهرة ـ أي الدسّ في نسخ الكتب ـ خطيرة جداً، وقد نبّه أهل البيت^ عليها، وذكروا أنّ بعض غلاة الشيعة قد فعلوا ذلك في كتب كبار أصحاب الأئمة^، فقد ورد في خبر محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن عبد الرحمن ـ وهو خبر صحيح السند على المشهور ـ أنّ بعض أصحابنا سأله وأنا حاضر، فقال له: يا أبا محمد، ما أشدّك في الحديث، وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟ فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله× يقول: μلا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنّة، أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدّمة؛ فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدّث بها أبي… وقال ـ الإمام الرضا× ـ لي (ليونس): μإنّ أبا الخطاب كذب على أبي عبد الله×، لعن الله أبا الخطاب، وكذلك أصحاب أبي الخطاب، يدسّون هذه الأحاديث إلى يومنا في كتب أصحاب أبي عبد الله×..(43).
وثمة رواية أكثر دلالةً من بعض النواحي، بالسند نفسه للرواية المتقدمة عن هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله× يقول: μكان المغيرة بن سعيد يتعمّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه، وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة، فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي، ثم يدفعها إلى أصحابه ويأمرهم أن يبثوها في الشيعة، فكلّ ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك ما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم(44).
إنّ هذه الصورة التي تقدّمها مثل هذه الروايات تستدعي حالة طوارئ في الروايات العقائدية على الأقلّ، وهي تشير في تكملتها إلى مشروع نقد المتن، وأنّ العرض على الكتاب وعلى واضح السنّة الشريفة معيار هام، وليس فقط صحّة السند.
وامتداداً لظاهرة الدسّ على الثقات في كتبهم، تبدو أمامنا ظاهرة أخرى، وهي أنّ بعض الوضاعين قد يؤلّف كتاباً كاملاً ثم ينسبه إلى شخص كذباً وزوراً، وهذا ما يسمّى بالنسخ الموضوعة أو الأجزاء الموضوعة.
ومثال ذلك ما ذكره الخطيب البغدادي في ترجمة أبي بشر الكندي أحمد بن محمد بن عمرو بن مصعب، حيث قال: μوكان أبو بشر من أهل المعرفة والفهم، غير أنّه لم يكن ثقة، وله من النسخ الموضوعة شيء كثير، ورواياته منتشرة عند الخراسانيين(45).
وقد ذكر العلامة الأميني العديد من الوضاعين كان هذا حالهم(46). وهذا ما يضاعف الحاجة للبحث في النسخ والمخطوطات.
ما تقدّم بأجمعه يكشف عن حجم خطورة ظاهرة الوضع، وهذا الذي ذكرناه سابقاً من الأمثلة، حتى لو لم يثبت عليه أيّ دليل تاريخي حاسم، إلا أنه معقول عقلاً وعرفاً، إمكاناً ووقوعاً، وتقتضيه طبيعة الأشياء، ويكفي هذا النوع من الإمكان والمعقولية للتحذّر من خطورة الوضع ومنافذه والتحسب له.
5 ـ ظاهرة الوضع، نشوؤها وتاريخها
لا يرتاب باحث في التراث الإسلامي، والديني عموماً، في وجود ظاهرة الوضع على لسان أهل الشرع وأئمة الدين، إلا أنه مع ذلك وقع بحث في نشوء هذه الظاهرة وتاريخها وأسبابها في التراث الإسلامي، وهو ما سنحاول أن نطلّ عليه في هذه المرحلة.
ولا نقاش في أنّ ظاهرة الوضع في الحديث عُرفت منذ القرن الهجري الأول، ثم شهدت ازدهاراً عظيماً في القرون: الثاني والثالث والرابع.
لكن وقع بعض الخلاف في وجود ظاهرة الكذب هذه في عصر النبي∃ تارةً، وفي عصر الخلفاء الأربعة الأوائل تارةً أخرى، أو لا أقلّ قبل مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
نظرية تأخّر حدوث الوضع في الحديث، شواهد ومناقشات
يظهر من بعض الباحثين أنّ الحديث النبوي بقي μصافياً لا يعتريه الكذب، ولا يتناوله التحريف والتلفيق طوال اجتماع الأمّة على الخلفاء الأربعة الراشدين، قبل أن تنقسم إلى شيع وأحزاب، وقبل أن يندسّ في صفوفها أهل المصالح والأهواء..(47).
من هنا يرى هؤلاء أن الخلاف الذي وقع في عصر خلافة الإمام علي× كان سبباً لظهور انحيازات واصطفافات وتعصّبات دفعت الفرقاء المتناحرين لتوظيف الحديث النبويّ لأوّل مرةّ في مصالحهم وانتماءاتهم بتفسيره تفاسير مغلوطةً تارةً، واختلاقه من العدم تارةً أخرى.
ويسعى هذا الفريق من الباحثين لتحييد الصحابة وكبار التابعين وعلمائهم عن هذا الوضع، من هنا يستبعدون حصول الوضع في الحديث قبل أحداث الفتنة، بعد كلّ ما عرفناه عن مآثر الصحابة ومناقبيّتهم ودينهم وأخلاقهم(48). لهذا نرى أنهم يعتبرون عهد التابعين أيضاً عهداً لبداية الوضع الخفيف والبسيط، متمسّكين بورع التابعين ودينهم ونزاهتهم كذلك(49).
ورغم أنّ التيار السائد في الوسط السنّي يميل إلى وجهة النظر هذه، إلا أنّ بعض الشخصيات لم تستبعد حصول الكذب على لسان النبي قبل ذلك، بل في العهد النبويّ نفسه، فالدكتور أحمد أمين يذهب إلى أنّ الوضع قد حدث في عهد رسول الله|، إذ يعتقد بأنّ حديث: μمن كذب عليّ متعمداً…ν يغلب على الظنّ أنه صدر في سياق حادثة وقعت، وتمّ فيها التكذيب على لسان رسول الله|(50).
ونتيجة بعض الأدلّة القادمة ذهب الدكتور صلاح الدين الإدلبي إلى إمكانية حدوث الوضع في العصر النبوي، لكن لا من جانب الصحابة بما يشكّك في صدقهم وعدالتهم، وإنما من جانب من كان معهم من المنافقين(51).
ولنصرة هذه النظرية، لابدّ من التأسيس لنظرية عدالة الصحابة وأمثالها؛ لأنّ الإطاحة بعدالتهم أجمعين سوف يزعزع البنيان الذي تقوم عليه السياقات العامة لمقولةٍ من هذا النوع، هذا يعني أنّ الخلاف حول عدالة الصحابة سيترك أثراً هنا على ذهنية الباحث، وحيث إننا لا نعتقد بعدالة الصحابة أجمعين بالمعنى الحديثي للصحابة، إذاً فهذا يعني أنّ في وسط الصحابة من لم يكن عادلاً، بل تصدر عنه بعض المحرّمات أو الهفوات أو غير ذلك.
ولنتخطّ نظرية عدالة الصحابة، فقد يبدو المشهد مؤيّداً لفكرة تأخر ظهور الوضع عن العصر النبوي خاصّة، انطلاقاً من عنصرين:
الأول: احترام الصحابة لرسول الله| وقوّة تأثير شخصيته والروح الدينية عليهم في فترة حياته، فنحن حتى لو لم نفترض عدالة شخصٍ ما، إلا أنّ هذا لا يعني بالضرورة صدور جميع المنكرات منه، بل يعني الإمكان العام في هذا الموضوع، إذاً يمكن أن يكون بعضهم قد كذب، لكن المناخ الديني واحترام النبي يبعّد هذا الاحتمال.
الثاني: إنّ النبي بين أظهر المسلمين، وأيّ كذبٍ عليه سوف يفضح صاحبه، فحتى من الناحية الشخصية يظلّ الكذب عليه| محفوفاً بالمخاطر، وهو سياق يبعّد من احتمال قيام شخص بالكذب على النبي في حياته(52).
ويهمّنا هنا التعليق على النظرية التي ذهب إليها كلّ من: صبحي الصالح ومحمد عجاج الخطيب ومصطفى السباعي وغيرهم، ممّن قال بعدم ظهور الوضع إلا بعد عام 40هـ، والنظرية التي ذهب إليها الدكتور أكرم العمري وآخرون من أنّ الوضع بدأ في النصف الثاني من خلافة عثمان بن عفان و… وكذا النظرية التي ذهب إليها الدكتور فلاته من أنّ الوضع بدأ في الثلث الأخير من القرن الهجري الأوّل.
وذلك وفقاً للنقاط التالية:
أولاً: من الواضح قيام هذه النظريات على تنزيه الصحابة والتابعين، لكن بصرف النظر عن إشكالية نظرية عدالة الصحابة بالمطلق، لا يبدو أنّ هناك شواهد علمية أو دينية على عدالة التابعين، فهناك أشخاص كُثر جدّاً أسلموا بعد وفاة الرسول| ولم يروه أو يراهم، ودخلت شعوب وأمم في الإسلام في عهدي أبي بكر وعمر بن الخطاب، فكيف ندّعي عدالة هؤلاء جميعاً دون دليل؟!(53)، وحتى استبعاد كذبهم لا نجد له مبرّراً واضحاً سوى الحالة العاطفية التي تجذبنا إلى مسلمي صدر الإسلام ومنجزاتهم، لكن هذا لا يعني عدم وجود كذب من بعضهم، ولو كان هو الواحد في الألف، إنّ الاستبعاد نفسه مستبعد هنا.
ثانياً: إنّ الاعتقاد بحصول الكذب على النبي| في حياته أو بُعيد وفاته لا يعني ـ بالضرورة ـ هدماً لنظرية عدالة الصحابة بالمعنى الذي يطرحه أهل السنّة، فإنّ المسلمين السنّة يعتقدون بأنّ المنافقين كانوا موجودين في العصر النبوي، غاية الأمر أنهم يرون أنّ ظاهرة المنافقين كانت مكشوفة غير متخفّية أو مستترة بين الصحابة، ولهذا لم يجدوا ـ من وجهة نظرهم ـ أيّ مشكلة في الجمع بين نظرية عدالة الصحابة ومقولة وجود منافقين في المدينة وأطرافها، وعليه فإذا قلنا بوجود الكذب على النبي| فلا يعني ذلك أو يساوق بالضرورة فسق بعض الصحابة؛ لإمكان كذب المنافق المعلن إسلامه.
ثالثاً: إنّ احترام الصحابة لرسول الله| لا يعني احترام المنافقين له، كما أنّ الاحترام يجب أن يبلغ حدّاً بحيث ينتفي احتمال الكذب عليه|، وليس كلّ الصحابة في كمال الإيمان وقمّة الدين وعظيم الاحترام، حتى من رآه مرةً واحدة، وعاد إلى بلده في اليمن أو البحرين أو غيرهما، فكيف أحرزنا قوّة الاحترام في جميعهم بحيث لا يمكن نتيجة ذلك أن يكذبوا عليه لمرّة أو لمرّات ولو تابوا بعدها عوداً إلى ضمائرهم؟!
رابعاً: إنّ مسألة احتمال انكشاف أمر الكذاب في حياة النبي يمكن تصوّرها في حقّ شخص يعيش في المدينة وينسب إلى النبي كذباً، فإنّ هذا قد يفضح أمره؛ نظراً للقرب المكاني والجغرافي من النبي بحيث قد يسأل الناسُ النبيَّ عن ذلك، لكن ليس كلّ الصحابة أو المسلمين عصر النبي كانوا في المدينة، بل كان كثير منهم خارجها، وبعضهم كان من أعراب البادية، وإمكانية الكذب المحدود ـ ما دام السامع والمتكلّم بعيدين عن المدينة واحتمال سفرهما إليها أو سفر السامع ليس قوياً ـ تظلّ إمكانيةً معقولة، فلماذا نحذف مثل هذه الاحتمالات؟!
إنّ مشكلة القول بالكذب في حياة النبي أنه قد يخدش في الصحابة من جهة، وقد يهدم الأسانيد التي بين أيدينا من جهة أخرى، مع أنّه ليس كلّ ما حصل من كذب زمن النبي معناه أنه وصلنا بروايةٍ أو أخرى اليوم، وليس القول بالكذب خدشاً في نظرية عدالة الصحابة، لاسيما إذا أخذنا بالمعنى الأصولي لمفهوم الصحبة، وهو الملازمة، فلا يشمل هذا العنوان الذي ثبتنا له العدالة حينئذٍ جميع من رأى النبي|، فليلاحظ جيداً.
هل وقع الكذب في العصر النبوي وبُعيده؟
لكنّ هذا كلّه، لا يثبت حصول الكذب في عصر النبي، وإنّما يخرجه من حدّ الاستحالة العقلية أو العاديّة إلى حدّ الإمكان الوقوعي الحقيقي، ومن حدّ الاستبعاد إلى حدّ المعقولية والقرب، فهل هناك دليل على حصول الكذب زمن النبي| أو عهد الصدر الإسلامي الأول؟!
قد تطرح هنا بعض الأدلّة:
الأول: الاستناد إلى حديث: μمن كذب عليّ متعمداً…ν، حيث قد يفهم منه أنّ حادثةً ما حصلت، كذب فيها على لسان النبي|، فجاء صدور هذا الكلام من النبي تعليقاً على هذه الحادثة، كما أسلفنا احتمال أحمد أمين لذلك.
لكن لا يعدو هذا الكلام في الحقيقة أن يكون مجرّد احتمال، حيث لا شاهد عليه، بل الشاهد العقلاني على عكسه، فهذا الحديث متواتر تواتراً كبيراً ـ كما قالوا ـ الأمر الذي يعزز أنه صدر مرّات عديدة، لأنّ هذا الحجم من التواتر يحتاج إما إلى جمعٍ كبير ألقى النبي في وسطهم الكلمة، كما فعل في خطبته في حجة الوداع، أو إلى تكرّر الصدور منه مرّاتٍ ومرات، بحيث تسمعه جماعات متعدّدة، فيروي من كل جماعة طائفةٌ هذا الحديث، وينتشر.
إنّ حجم تواتر هذا الحديث ـ مع عدم الإشارة إلى صدوره في مثل حجة الوداع إلا في روايات ضعيفة المستند (وحجة الوداع تبرّر تأسيس مبادئ وليس بالضرورة ردّ موقف ما( ـ يعزز افتراض أنّ النبيّ كان يكرّره، تحذيراً من خطر يراه قادماً ولو بعد وفاته على الأقلّ، الأمر الذي يبعّد احتمال حاجة النبي إلى حادثة كذب قد وقعت، كي يقوم بالتعليق عليها، فهذا الاستدلال لا يقوم سوى على محض احتمال.
الثاني الروايات الخاصة، وهي:
1 ـ ما ورد عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر×، أنه قال: μ…لست بمنكر فضل أبي بكر، ولكن يجب على صاحب هذا الخبر أن يأخذ مثال الخبر الذي قاله رسول الله| في حجّة الوداع: قد كثرت عليّ الكذابة وستكثر بعدي، فمن كذب عليّ متعمّداً…(54).
فهذا الخبر صريح، ليس في حصول الكذب على النبي في حياته فحسب، بل في كثرة الكذب عليه أيضاً. لكنّه ضعيفٌ بالإرسال؛ حيث لا سند له.
2 ـ ما ورد عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال: μوقد كذب على رسول الله| على عهده حتى قام خطيباً، فقال: أيها الناس قد كثرت عليّ الكذابة، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار. ثم كذب عليه من بعده…(55).
فهذا نصّ واضح وصريح أيضاً في كثرة الكذب عليه حال حياته، لكنّ في سنده رجلاً ضعيفاً، وهو أبان بن أبي عياش الذي ضعّفه الفريقان. علماً أنّ الخبر ورد مرسلاً في نهج البلاغة(56)، دون أن يرد فيه تعبير μكثرت عليّ الكذابةν، وإنما جاء إخبار الإمام عليّ بالكذب على الرسول فقط.
3 ـ خبر المقنع التميمي أنه قال: أتيت النبي بصدقة إبلنا فأمر بها فقبضت، فقلت: إنّ فيها ناقتين هدية لك، فأمر بعزل الهدية من الصدقة، فمكثت أياماً، وخاض الناس أن رسول الله| باعثٌ خالدَ بن الوليد إلى رفيق مصر، أو قال مضر (مصر) (شك أبو غسان) يصدقهم، فقلت: والله إنّ لنا، وما عند أهلنا من مال ولا صدقتهم ههنا، فأتيت النبي| وهو على ناقة له، ومعه أسود قد حاذى رأسه برأس النبي|، ما رأيت أحداً من الناس أطول منه، فلما دنوت كأنه أهوى إليّ، فكفّه النبي|، فقلت: إنّ الناس خاضوا في كذا وكذا، فرفع النبي| يديه حتى نظرت إلى بياض إبطيه، وقال: μاللهم إنّي لا أحلّ لهم أن يكذبوا عليّ(57).
إنّ هذه الرواية واضحة في حصول الكذب على لسان النبي|، لكنّ سندها ضعيف بسيف بن هارون البرجمي، الذي وصف بأنه متروك(58).
4 ـ خبر بريدة أنه قال: جاء رجل إلى قوم في جانب المدينة، فقال: إنّ رسول الله| قد أمرني أن أحكم برأيي فيكم في كذا وكذا ـ وكان قد خطب امرأةً منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوّجوه ـ ثم ذهب حتى نزل على أهل المرأة، فبعث القوم إلى النبي| يسألونه (يعلمون ما عنده)، فقال: μكذب عدوّ اللهν، ثم أرسل رجلاً، فقال: μإن أنت وجدته حياً فاضرب عنقه (وما أراك تجده)، وإن وجدته ميتاً فأحرقه (فحرّقه) (فانطلق الرجل)، فوجده قد لدغ فمات، فعند ذلك قال النبي|: μمن كذب عليّ متعمّداً، فليتبوأ مقعده من النار(59).
وهذا الحديث دالّ بوضوح على وقوع الكذب عليه|؛ بل هو يؤكّد الاحتمال الذي طرحه أحمد أمين في مناسبة صدور حديث: μمن كذب عليّ..ν، لكنّه مشكل من حيث السند، فإنّ فيه صالح بن حيان، وهو مجهول عند الشيعة، ومضعّف عند أهل السنّة(60)، بل متنه منكر من حيث الأمر بإحراقه لو وجده ميتاً.
وبناءً عليه، فإنّ الأدلة الروائية الخاصّة التي تثبت الكذب على لسان النبي في حياته ليست صحيحة؛ فإنّ فيها ضعافاً أو هي مبتلاة بإرسال شديد، فمع قلّة عددها لا يصحّ الاستناد إليها لتحصيل الوثوق بالكذب في زمنه|.
الثالث: الشواهد التاريخية المتفرّقة، حيث تؤكّد وقوع الكذب على لسان النبي| أيام حياته وقبل وفاة عثمان، فمن جملة ذلك شخصية الراوية أبي هريرة الدوسي الذي عاش مع النبي مدّة بسيطة، لكنه روى الكثير من الروايات، حتى زجره عمر بن الخطاب وطعنت فيه عائشة زوج النبي(61).
هذا الدليل جيّد عندما يثبت الإنسان مفرداته بدقة، لكن تظلّ فيه مسألة مهمة، وهي أننا نتحدّث عن الكذب في العصر النبوي أو قبل الفتنة، ولا نتحدّث في الكذابين الذين عاشوا حظاً من حياتهم في هذا العصر؛ لأنّ هذا لا يثبت وقوع الكذب في هذا العصر، فلعلّ الحالة الصادقة ظلّت مستقرّة؛ لعدم وجود دوافع لخرقها، إلا عقب أحداث الفتنة التي سقط فيها كثيرون وسلم منها كثيرون، فهذا الدليل يحتاج إلى مزيد تعميق لكي يعطي نتائجه، وكذلك إلى مزيد تثبت في مفرداته.
الرابع: برهان طبيعة الأشياء، وهو ما نعتقده الدليل الأفضل، وأنّ سائر الأدلّة المتقدمة تصلح بوصفها مؤيّدات له، فعندما يأتي شخص يدور حوله لغطٌ كبير جداً، ويهزّ مجتمعاً بحجم المجتمع العربي من أقصاه إلى أقصاه، ويظهر له خصوم كثيرون بعيدون عنه، بل وقريبون منه جغرافياً، ويعرف ظاهرة المنافقين وضعيفي الإيمان المحيطة به.. ويهدّد وجودُه مصالحَ كثيرين من الكافرين وأهل الكتاب والمنافقين النفعيين الوصوليين.. إنّ منطق الأشياء يقول بأنّ بعض الأشخاص من الطبيعي أن يكذبوا على لسانه أو ينقلوا حدثاً حصل معه بطريقة كاذبة، حسداً أو بغضاً أو ضغينة أو مكيدةً أو جهلاً، هذا هو المنطق الطبيعي الذي لا يخدش بالضرورة بعدالة الصحابة، لاسيما بالمعنى الأصولي للصحبة الذي هو المعنى الصحيح، كما حقّقناه في محلّه.
أما الحديث عن شخص كان هذا وضعه وهؤلاء خصومه دون أن يكون بين الناس ـ لاسيما المنافقين ـ من يخطّط له ويكيد ويكذب عليه ويشوّه بطريقة أو بأخرى صورته… إنّ هذا الحديث ينافي قواعد الأشياء في الاجتماع البشري والصيرورة التاريخية للأمور، فلسنا بحاجة إلى براهين تاريخية جزئية، لاسيما عندما ندخل في الحسبان الملايين التي دخلت في الإسلام قبل أحداث الفتنة، واحتمال كذب البعض على الصحابة في نقلهم عن النبي في هذه الفترة، فإنّ هذا هو الآخر كذبٌ على النبي ولو بتوسّط الكذب على من يدّعى أنه ينقل عنه.
هذا هو المنطق العقلاني للأمور، أما غيره فهو خلاف السيرورة البشرية في الاجتماع والتاريخ، وهو الذي يحتاج إلى دليل، ونظرية عدالة الصحابة حتى لو تمّت لا تخرق ما قلناه كما صار واضحاً، كما أننا لسنا بصدد التعرّض لما وصلنا من مرويات، وإنما بصدد الحديث عن ظاهرة تاريخية وقعت في موقعها الزمني فلا يصحّ خلط الأوراق، أو استخدام منهج تهويلي خطابي في هذا المجال.
فالصحيح فيما يبدو لنا أنّ الكذب كان موجوداً منذ الزمن النبوي، نعم عرف واشتدّ في عصر الفتنة وبدأ رواجه الأول في العصر الأموي.
6 ـ ظاهرة الوضع: أسبابها ومبررات ظهورها التاريخي
ثمة أسباب عديدة لعبت دوراً في ظهور الوضع وتناميه بشكل واسع في العصرين: الأموي والعباسي، وسوف نشير إلى هذه الأسباب التي تطلّ بنا ـ إن شاء الله ـ على طبيعة مشهد حركة الوضع في هذين العصرين بالخصوص.
ونظراً لتعدّد الأسباب يمكن أخذ محاور أساسية لها، وذلك على الشكل التالي(62):
أ ـ الأسباب السياسية لظاهرة الوضع
يعدّ الملف السياسي أحد أهم الملفات التي تدور في فلكها ظاهرة الوضع، فانقسام المسلمين إلى شيع وأحزاب عقب وفاة الرسول، وتجلّي ذلك بشكل ظاهر وعلني وواضح في أحداث الفتنة التي أدت إلى مقتل الخليفة الثالث، وما بعد ذلك من حروب في عصر الإمام علي بن أبي طالب، ثم ظهور السلطات الكبرى في العصر الإسلامي.. ذلك كلّه لعب دوراً هاماً في استغلال الحديث للانتصار السياسي(63).
ويمكن شرح هذا السبب من خلال ثنائي: السلطة والمعارضة:
1 ـ فالسلطة وأنصارها بما يملكون من إمكانات بشرية ومادية في العادة، سعوا لوضع الأحاديث التي تكرّس قوّة السلطة وتضعضع وضع المعارضين لها، وفي هذا السياق نجد الأحاديث الموضوعة التي تنتصر لخلافة بني أمية وبني العباس، أو تحرّم الخروج على الخليفة فاعلاً ما فعل، ونجد سعياً حثيثاً لتشويه صورة المعارضة باختلاق أحاديث نبوية في مواجهتهم، فالحاجة التي كانت عند السلطة لوضع الحديث تتمثل:
أ ـ تارةً في الضرورة القاهرة للنص ديني كي يضفي شرعيةً على هذه السلطة أو تلك لتحكم باسم الله على الأرض، ومنطق الأشياء الطبيعي يقول ذلك أيضاً مع حكومات ثيوقراطية تأخذ شرعيتها في الثقافة العامة من النص الديني بوصفه المصدر الأساس.
ب ـ وأخرى في حاجتها لنصوص تكسر الخصوم، ليكون ذلك مساعداً على استقرار السلطة لها، إنّ تشويه صورة الخصوم بوصفهم تيارات أو أشخاصاً يظلّ أمراً متوقعاً جداً في سياق ممارسة طبيعية للسلطة غير النزيهة، وهذا ما حصل في بعض الروايات الهادفة لتشويه صورة العلويين والمعتزلة والخوارج وغيرهم.
ج ـ وثالثة في التأسيس لمنطق التعطيل في مواجهة الفساد السياسي والإداري في ممالك الدولة؛ وهذا ما ظهر عبر اختراع روايات الجبر التي تعطّل قدرة النهوض في الأمّة، وكذا بعض روايات التوكّل على الله، وروايات الطاعة المطلقة للحاكم وتحريم الخروج عليه مهما كان الأمر إلا في حالات يندر تحقّقها جداً، وفي روايات صلاحيات الحاكم التي تفقد الشعب حقه، وهذا النوع من النصوص يلغي ثقافة الرفض في الأمة تماماً.
2 ـ والمعارضة بأطيافها تقوم ـ على المقلب الآخر ـ بجهود ضافية لتكريس قوّتها وتعظيمها، وهي من جهة تسعى لوضع الأحاديث التي تحطّم كلّ الجهود التي قامت بها السلطة وتفسّرها تفسيراً سلبياً على الدوام، كما تشوّه صورة رموز السلطة دائماً ومن يتقرّب منها، كما أنها تغالي في وضع الحديث لمصلحة رموزها؛ لتؤمّن في النص الديني هدماً للوضع القائم وبناءً بديلاً متوفراً عندها. بل نجد عند المعارضة روايات تسعى لرفض أيّ منطق تفاوضي في الداخل الإسلامي، وأنه لابد دائماً من السيف والدم، الأمر المعاكس تماماً لثقافة السلطة.
ملاحظات حول مساهمة بعض الباحثين في قراءته للأسباب السياسية
إنّ السلطة والمعارضة معاً متورّطتان ـ في الجملة ـ في وضع الأحاديث التي تنتصر لهما وتقع ضدّ الطرف الآخر، لهذا نلاحظ على بعض الذين كتبوا في الأسباب السياسية للوضع ملاحظتين:
الأولى: إنهم نظروا إلى أحد الطرفين دون الآخر، فوجدنا من حمّل السلطة المسؤولية، غاضّاً الطرف عن مسؤولية المعارضة أو مبسّطاً من تأثيرها في هذا المجال، فيما وجدنا على الطرف الآخر من حمّل المعارضة فقط، والشيعة بالخصوص، أسبابَ الوضع وحالاته. وكلا هذين الأمرين غير صحيح؛ لأنّ المنطق الطبيعي للأشياء يضع الفريقين في عرض واحد، قد يزيد هذا قليلاً وقد ينقص، مع الأخذ بعين الاعتبار مجموع القرون الأربعة الهجرية الأولى.
الثانية: إنّ بعض من أقرّ بوضع السلطة اعتبر أنّ مبدأ الوضع كان المعارضة، والشيعة بالخصوص، وهذا أمرٌ لا دليل عليه حتى نقول: إن وضع السلطة جاء بوصفه ردّ فعل على وضع المعارضة، فلا يصحّ كلام ابن أبي الحديد (656هـ) في أنّ أصل الوضع هم الشيعة وأنّ البكرية كانت وضعت كردّ فعل(64)؛ لعدم وجود أيّ معطى تاريخي في هذا الإطار، ولا في الإطار المعاكس، بل لعلّ الطرف الآخر يقول: إنّ معارضي الإمام علي أثناء حكومته هم من وضع أحاديث الفضائل للشيخين تعريضاً بعليّ فجاء ردّ الفعل الشيعي.. إنّ هذا الكلام كلّه لا توجد عليه أدلّة تاريخية حاسمة.
ب ـ الأسباب الفكرية والانتمائية لظاهرة الوضع
وإلى جانب الأسباب السياسية، كانت الأسباب الفكرية والانتمائية تساعد بقوّة على وضع الحديث، ويمكن بيان ذلك من خلال أنّ أهل كل فرقةٍ كانوا يضعون الأحاديث لنصرة فرقتهم، فالقدرية والمرجئة والبكرية والشيعة وأهل الرأي وغيرهم كانوا يتحمّسون للانتصار لمذاهبهم، فكان بعضهم هنا وهناك يضع الحديث بدافع تقوية مذهبه(65)، فقد نقل الرازي بسنده إلى محرز أبي رجاء ـ وكان يرى رأي القدر فتاب منه ـ أنّه قال: μلا ترووا عن أحد من أهل القدر شيئاً، فوالله كنا نضع الأحاديث ندخل بها الناس في القدر نحتسب بها..(66).
إن جملة: μنحتسب بهاν تظلّ الأخطر في مسلسل الوضع المذهبي للأحاديث؛ لأنها لا تنافي ظاهر العدالة وحسن الحال في الراوي؛ حيث إنّ المفروض أنه إنما وضع الحديث بمنطلق ديني انتصاراً لما رآه الحقيقة، فعندما يطبّق الرواة المتديّنون الأحكام الثانوية هنا يظهر الخطر الأكبر؛ لأنهم يتصوّرون أن الكذب سوف يكون داعماً للحقّ، وهذا ما يؤدي إلى التباس الأمور التباساً كبيراً.
ولم يقتصر وضع الحديث للانتصار للانتماء العقائدي، بل تعدّاه للانتصار للانتماء الفقهي، فقد وضعت أحاديث في مدح أئمة المذاهب الفقهية، مثل الشافعي وأبي حنيفة.. ووضعت أحاديث في ذمّهم، حتى أنّ الرسول| كان يسمّيهم بأسمائهم!!
ومن أخطر حركات الوضع الانتمائي، كانت حركة الغلوّ التي ظهرت بين الشيعة، والتي كانت تذهب مذاهب متعدّدة في غلوّها من الاعتقاد بألوهية بعض الأئمة، أو نبوّتهم، أو بالحلول، أو بالتفويض المطلق، أو تحرير الدين من الفقه بإسقاط الأحكام الشرعية أو غير ذلك، والمصادر الشيعية زاخرة بنصوص أهل البيت التي انتقدت هؤلاء المغالين الذين أفرطوا فيما أسمَوه حبّاً لأهل البيت، وقد لعنوهم وطردوهم ونبذوهم مثل المغيرة بن سعيد وأبي الخطاب، وقد ورد أمر بعض الأئمة بقتل بعضهم مثل: علي بن حسكة، وفارس بن حاتم القزويني… وقد سعى هؤلاء لإدخال مرويّاتهم ـ كما رأينا سابقاً ـ في كتب أصحاب الأئمة انتصاراً لمذاهبهم الغالية.
ويبدو من مثل الغضائري والنجاشي والمفيد والمرتضى أنهم كانوا يواجهون بقوّة حركة الغلو، حتى إنك لا تكاد تعثر عند النجاشي على شخص ذكر عنه أنه مغالٍ ثم وثقه، وكأن الغلوّ علامة الكذب وقد اشتهروا بها.
وثمّة رواية تشير إلى ظاهرة خطيرة جداً نراها محتملة في نفسها؛ وهي خبر إبراهيم بن أبي محمود، عن الإمام الرضا×، ومما جاء فيه: μ… يا ابن أبي محمود، إنّ مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام: أحدها الغلو. وثانيها التقصير في أمرنا. وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا، فإذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا… (67).
إنّ هذا النص معناه أن روايات الغلوّ والتقصير والتنقيص قد وُضع قسمٌ منها من طرف المخالفين لأهل البيت، وليس فقط المغالين من المغيرة بن سعيد وأبي الخطاب، وهذا ما يرشد إلى أنّ النصوص التي من هذا النوع ـ وقد تكون موجودةً عند غير الشيعة ـ ربما تكون نتاج وضع استهدف إسقاط مدرسة أهل البيت.
ونتيجة الكلام أنّ الخلافات المذهبية والفرقية والفقهية لعبت دوراً في حركة الوضع بين المسلمين.
ج ـ الأسباب العدائية لظاهرة الوضع
نقصد بالأسباب العدائية تلك المحاولات التي قام بها الملاحدة والزنادقة وأهل الكتاب وأمثالهم للدسّ في الحديث النبوي بما يخدم أغراضهم في إيصال أفكارهم إلى المسلمين وإنفاذها بينهم، لقد كان الهدف من ذلك ـ فيما يبدو ـ تضليل المسلمين وتسريب معتقدات خاطئة إليهم، وتشويه صورة الإسلام بينهم وأمثال ذلك(68).
لقد عرفت القرون الهجرية الأولى حركة نشاط مميّز لتيارات دهرية وإلحادية، كما كان لبعض اليهود والنصارى حضور حتى في مراكز الدولة الكبرى، وهنا مكمن الخطر؛ إذ أدى ذلك إلى تسريب ما جاء في كتب أهل الكتاب إلى الحديث النبوي وتسرّبت مع ذلك الكثير من الأفكار اليهودية والمسيحية إلى وعي المسلمين، لنأخذ مثالاً: ما رواه الحاكم النيسابوري من الرواية عن حميد، عن أنس، عن رسول الله| أنه قال: μأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، إلا أن يشاء اللهν. إنّ إضافة التعليق على المشيئة الإلهية يراد منه ـ كما يراه بعضهم(69) ـ إفساح المجال للدعوة للنبوة التي كانت تظهر هنا وهناك، فهذه الإضافة ـ إذا صحّ هذا التحليل ـ في غاية الذكاء.
دـ الأسباب الدينية والأهداف النبيلة لظاهرة الوضع
يقصد بهذا النوع من الأسباب تلك الدوافع الدينية والإيمانية الصادقة التي تعتقد بأنّ وضع الحديث أحياناً لغايات نبيلة يحقّق خدمةً للدين، وهذا النوع من الوضع والوضّاعين هو من أخطر أنواع الوضع، كما ذكر علماء الحديث والدراية(70).
يعتقد هؤلاء أنّ وضع الأحاديث في القضايا الأخلاقية والروحية يرقّق قلوب العامّة، كما نسب إلى أحدهم، وكان من عظماء الزهد والأخلاق(71).
والمتوقع منهم أن يفعلوا ذلك ـ بصرف النظر عن بعض الشواهد التاريخية عن شخصٍ هنا وآخر هناك ـ هم أهل الزهد والإيمان الذين يملكون نزعات روحية عميقة، فإنّ هؤلاء قد يضعون الكثير من الروايات الأخلاقية والروحية، ومن روايات الآداب وفضائل الأعمال، ومن روايات القصص الوعظية ذات العبر، دفعاً للناس لليقظة والخروج من الارتهان لحطام الدنيا وزخرفها، وقد نجد في مرويّات هؤلاء تسفيهاً للفقهاء ومسلكهم؛ نظراً للخلاف التاريخي بين الطرفين، كما نلحظ في رواياتهم ظهوراً واضحاً لنزعة التأويل والأسطرة، ومن هذا القبيل رغبتهم في نقل الأفعال الخارقة والكرامات، كما يشير إلى ذلك الشهيد الثاني(72).
وفي إطار ثقافة الترغيب، تأتي روايات الثواب والعقاب والمبالغة فيها، حتى أنّ لقمة بطّيخ واحدة قد تزيل سبعين ألف سيئة، وفعلٌ صغير قد يعطيك حسنات جميع الأنبياء. وقد اشتهرت في هذا المجال روايات فضائل السور القرآنية، ومن طبع هذا النوع من التفكير أنه يميل للعزلة وتعظيم الأعمال البسيطة كالمستحبات اليومية، ويزهّد في العمل الاجتماعي والسياسي، فلعلّهم وضعوا مرويات في ترك الجهاد أو العمل السياسي واجتناب السلاطين وعدم الخلطة وعدم التنعّم بالدنيا وترك طيب العيش واللجوء إلى الحياة الفردية.
خطورة هذه الظاهرة أننا لا نملك كشفاً دقيقاً برجالاتها؛ لأنّ المفروض صلاحهم وتديّنهم بحسب الظاهر، فما ذكره بعض العلماء من أنّ جهابذة أهل الحديث كشفوا هؤلاء جميعاً(73)، مجرّد ادّعاء لا يمكن بهذا اليسر إثباته، فكيف نعرف أنه لم يخف عليهم بعض الصالحين الواضعين الذين قد يكونون وضعوا بضع مئات أو آلاف من الأحاديث المبثوثة في كتب الروايات عند فرق المسلمين؟ شخصٌ واحد له بضعة مئات من الروايات كفيل بتحقيق ذلك، فالأولى الترفّع عن مثل هذه الادّعاءات، وستكون لنا وقفة لاحقاً مع هذا الموضوع إن شاء الله تعالى.
وثمة نصّ خطير يُنقل عن يحيى بن سعيد القطان، أحد أئمة الحديث والجرح والتعديل، حيث يقول: لم نرَ الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث، أو لم نر أهل الخير..(74). إنه نصّ يستحق الوقوف عنده ملياً؛ للتنبّه من دسّ زاهد هنا أو هناك لحديثٍ ما قد نقع فريسة له.
هـ ـ الأسباب الدنيوية لوضع الحديث
تتعدّد الأسباب الدنيوية لوضع الحديث، وقد تظهر في شخص تتضح معالم رغبته في منفعة دنيوية، وقد تظهر في آخر لا تبدو الأمور واضحة فيه.
ومن أبرز مظاهر هذا النوع من الأسباب دوافع التقرّب من السلاطين والملوك والأمراء والولاة، للحصول على منصبٍ هنا أو آخر هنا: أو لتحصيل بعض المال والأراضي والضياع، أو لإرضاء الحكّام لكفّ أذاهم(75).
ومن ذلك التقرّب إلى العوام، بجلب انتباههم لتحصيل مكانةٍ عندهم أو مال، وهذا ما عرف عن ظاهرة القصاصين الذين امتلكوا سلطة جماهيرية (سلطة العوام) حتى كان العلماء والفقهاء يخشونهم ويخشون ألسنتهم، وقصّة الإمام محمد بن جرير الطبري (310هـ) واضحةٌ معروفة.
وقد امتازت قصصهم بالخرافات والمعاجز والكرامات والتهويل والتعظيم وخوارق العادات وعظائم الأشياء حتى زرعوا صورةً غير واقعية عن أحداث التاريخ والماضي والآخرة والجنة والنار وعصر الظهور وما قبله وما بعده وأشراط الساعة، مما يعرف بالملاحم والفتن في آخر الزمان.
ومن ذلك أيضاً الوضاعون الذين يضعون لمصالح فئوية لا تنطلق من بُعد ديني أو مذهبي، فيضعون الروايات في فضل الأقوام التي ينتمون إليها، فإذا كان فارسياً وضع ما ينفعه وإذا كان عربياً فعل ذلك، وصارت لغة الجنة بلغته ولغة النار بلغة خصومه، وهكذا بدأ الانحياز للعرف واللغة واللون والقبلية والعشيرة والقومية والمنطقة، فصارت بعض المدن أفضل المدن، وبعض الأنهار خير الأنهار، وثمار هذه المنطقة خيرٌ من غيرها(76).
ومن هؤلاء وضّاعون صغار، قد يضعون حديثاً أو اثنين لنفع نفسه، كما لو كان يعمل في عملٍ ما فيضع الحديث لصالحه، ومن ذلك وضع الحديث أثناء مناظرةٍ ما؛ لتحقيق الغلبة على الخصم وتبكيته.
هذه هي أهم الأسباب المعروفة المشهورة للوضع، والتي حشد لها بعض العلماء بعضَ الوقائع هنا وهناك، إلا أننا لا نرى حاجةً لحشد شواهد على وقوع هذه الأمور؛ لأنّ المنطق الطبيعي للأشياء يتعقّل وجودها ويراها محتملة جداً في مدة زمنية تقارب وتزيد على أربعة قرون كاملة.
وليس المهم معرفة هذه الأسباب بقدر ما يهمّ استحضارها في عملية نقد الحديث لتحصيل الوثوق بالصدور بطريقة علمية رصينة.
7 ـ مواجهة ظاهرة الوضع، دراسة تاريخية وتحليلية
لم يقف العلماء المسلمون مكتوفي الأيدي إزاء ظاهرة الوضع، بل هبّوا لمواجهتها، وقد استخدموا وسائل متعدّدة في هذا المجال، وتركوا آثاراً قيمة تستحق الوقوف عندها، دون أن تزول الحاجة إلى مزيد من الجهود في هذا المضمار.
ويمكن مطالعة هذه الجهود ضمن العناوين التالية:
7 ـ 1 ـ أصول مواجهة الوضع في الحديث في التراث الإسلامي
اعتمد العلماء المسلمون أصولاً في مواجهة الوضع في الحديث أبرزها:
الأول: تشييد علوم النقد السندي
فقد سعى بعض العلماء المسلمين منذ القرن الهجري الثاني لإحياء ثقافة التثبت في الأسانيد وتقويمها والاحتياط فيها، وذلك عبر الطرق التالية:
1ـ تشييد علم الرجال والجرح والتعديل، حيث ألّفت عشرات الكتب والموسوعات في القرون الهجرية الستّة الأولى، تبحث في أحوال الرواة وأوضاعهم ومصنفاتهم، وعمّن رووا، وعمّن روى عنهم؛ لتصبح الأسماء منكشفةً أمام الباحثين في الحديث يعلم حال ولو شطر معتدّ به منها. وقد بذل نقاد الجرح والتعديل جهوداً مضنية في تتبع أحوال الرواة على أكثر من صعيد وتركوا لنا نتاجاً تراثياً هائلاً يستحقّ كل الشكر والتقدير.
2ـ كشف الكذبة والوضاعين، وذلك إما بكتب مستقلّة صنّفت في الضعفاء الذين يستوعبون الوضاعين تلقائياً، كما فعل العقيلي في كتاب الضعفاء، وابن الغضائري في كتاب الضعفاء، والبخاري في الضعفاء الصغير، والنسائي في كتاب الضعفاء والمتروكين، وابن داوود الحلي في القسم الثاني من كتاب الرجال، وابن حبان في كتاب المجروحين، وأبو نعيم الإصفهاني في كتاب الضعفاء، وابن حجر في كتاب طبقات المدلّسين، وغيرهم من العلماء الذين تفرّغوا للبحث في أحوال الضعاف ـ ومنهم الكذابون والوضاعون ـ مجوّزين فضحهم أمام المسلمين، تقديماً للمصالح الإسلامية الكبرى على حماية الحقوق الشخصية لهؤلاء.
وقبل عصر المصنفات الكبيرة هذه، كان أئمة أهل البيت ووجوه علماء أهل السنّة مثل عامر الشعبي وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي.. يبثون مواقف كثيرة جداً في كشف بعض الوضاعين والكذابين، ويحذّرون منهم بأسمائهم وأحوالهم، وقد أشرنا إلى بعض ذلك سابقاً.
3 ـ تأسيس علوم الحديث وما يرتبط بها، لمعرفة أنواع الأسانيد من الاتصال والانقطاع والإرسال والرفع والوقف والتدليس والعنعنة والإدراج والقلب وغير ذلك الكثير، وظلّ هذا العلم عظيماً نافعاً، يكشف أحوال الأسانيد بعد التئام رواة السند فيها، كما كان علم الرجال ينظر في أحوال رجال السند، لكن كلاً على حدة غير ملحوظين في هيئتهم الاتصالية التي جمعهم السند فيها.
وهكذا، ومن خلال هذه الخطوات الثلاث، تم اعتماد التثبت في الأسانيد والتزامها وعدم التساهل في أمرها تحسّباً لتزييف كذاب هنا أو اختلاق وضّاع هناك.
الثاني: تشييد علوم النقد المتني
فقد قام العلماء في علم الدراية وخارجه بوضع قواعد لنقد متن الحدث تسهّل اكتشاف الحديث الموضوع أو تجعل الناظر قريباً من ذلك، مثل قوانين العرض على الكتاب، أو العرض على روايات الثقات ومدى تشابه الحديث معها، وغير ذلك مما بحثوه في علم نقد المتن، وسوف يأتي بعض ذلك في الأبحاث القادمة، بعون الله تعالى.
الثالث: التصنيف في علم الموضوعات
صنّف العلماء المسلمون العديد من الكتب في موضوعات الحديث، ومنها:
1 ـ تذكرة الموضوعات، لمحمد بن ظاهر المقدسي (507هـ).
2 ـ كتاب الأباطيل، للحافظ الحسن بن إبراهيم الهمداني الجوزقي (543هـ).
3 ـ الموضوعات، لابن الجوزي (597هـ).
4 ـ الدر الملتقط في تبيين الغلط، للصاغاني (650هـ).
5 ـ الموضوعات، لابن تيمية الحراني (728هـ).
6 ـ المنار المنيف، لابن قيم الجوزية (751هـ).
7ـ اللئالي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، لجلال الدين السيوطي (911هـ).
8ـ تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأخبار الشنيعة الموضوعة، لابن عراق (963هـ).
9 ـ تذكرة الموضوعات، لجمال الدين الفتني (986هـ).
10ـ الموضوعات الكبير، للملا علي قاري (1014هـ).
11ـ المصنوع في معرفة الحديث الموضوع، للملا علي قاري (1014هـ).
12ـ الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة، لمحمد بن علي الشوكاني (1255هـ)، وله ـ كما ذكر الطهراني في الذريعة ـ كتاب التعقيبات على الموضوعات، والنكت البديعات على الموضوعات، كما نسب في الذريعة كتاباً باسم المجرّدات عن الموضوعات، للشيخ سراج الدين حسن المعروف بالشيخ فدا حسين، لكنّ عنوان الكتاب يظهر منه التنزيه عن الموضوع لا العكس(77).
13 ـ الموضوعات في الآثار والأخبار، لهاشم معروف الحسني (1403هـ).
14 ـ الأخبار الدخيلة، لمحمد تقي التستري (1405هـ).
15 ـ سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة، لمحمد ناصر الدين الألباني (1420هـ).
هذه الكتب وغيرها حاولت كشف الأحاديث الموضوعة في التراث الإسلامي، وساهمت ـ ولو أخفقت هنا وهناك ـ في تنشيط ثقافة نقد الحديث الموضوع.
7 ـ 2 ـ الشيعة في سياق حركة مواجهة الوضع
من الواضح أنّ الشيعة الإمامية يتقدّمهم أئمة أهل البيت^ قد سعوا لمواجهة الحديث الموضوع وحركة الوضع في الحديث، تارةً من خلال التحذير من الكذابين، وطوراً من خلال تأليف بعض الكتب المخصّصة لحال المتّهمين والضعفاء والكذابين، مثل ضعفاء ابن الغضائري، وقسم المتروكين من بعض الكتب الأخرى، وثالثة عبر الاهتمام في بعض الحقب والعصور بعلم الرجال والجرح والتعديل، إلى غير ذلك من طرق نقد المتن والسند التي استخدمها العلماء عبر التاريخ.
لكن الملاحظ هنا أنّ الإمامية لم يتركوا كتاباً في الأحاديث الموضوعة، ولعلّ أول كتاب ـ كما يرى بعض الباحثين المعاصرين(78) ـ هو كتاب μالأخبار الدخيلةν الذي أنهى مؤلّفه الشيخ محمد تقي التستري المجلّد الأول منه عام 1369هـ، فيما أنهى المجلّد الرابع والأخير منه عام 1401هـ.
يطرح هذا الأمر تساؤلاً: لماذا لم تشتغل الإمامية على التصنيف في الموضوعات كما اشتغل سائر المسلمين؟ هذا ما قد يثير تساؤلاً آخر: لماذا تُهمَل دراسات علم الحديث والدراية عند الشيعة، حتى أنّ أقدم مصنّف في ذلك يعود إلى القرن العاشر الهجري مع الشهيد الثاني وربما قبله بقليل؟(79)، حتى أنّ الإخباريين حاربوا بشدّة هذا العلم واعتبروه سنّياً، وقلّما وجدنا تهمة الوضع والكذب في حقّ شخص في مصادر الرجال الإمامية، نعم، الضعف موجود، لكنّ الوضع والكذب قليل، كما يذهب إلى ذلك الدكتور عبد الهادي الفضلي أيضاً(80).
هل هناك إشكالية ما في هذا الموضوع تستدعي اليوم نهضة حديثية شيعية تستعيض ما فات أم أنّ الوضع بشكله هذا صحّي لا إشكال فيه؟
ثمّة وجهات نظر في هذا الموضوع، وهي:
الأولى: ما يراه الدكتور عبد الهادي الفضلي، حيث يذهب إلى أنّ العامل السياسي الناتج عن دعم السلطة الأموية وغيرها للوضّاعين لم يكن موجوداً في الوسط الشيعي الإمامي، لهذا قلّ الحديث الموضوع عندهم جداً، الأمر الذي استتبع عدم وجود اهتمام عظيم بالموضوعات على غرار ما حصل عند الفرق الإسلامية الأخرى، وأنّ العنصر الأبرز للوضع عند الشيعة كان الغلوّ، من هنا حاربه أهل البيت وواجهوه وأضعفوه(81).
لكنّ هذا التفسير غير دقيق من وجهة نظرنا؛ فإنّ العامل السياسي لا ينحصر في السلطة، وإنما تعرفه المعارضة أيضاً، وكما تشوّه السلطة صورةَ معارضيها يشوّه المعارضون فيما بينهم صورة السلطة أيضاً، علماً أنّ فترات تدوين الحديث بشكل مركّز عرف عند الشيعة الإمامية في القرن الرابع الهجري، وهو القرن الذي كانت السلطة فيه بيد الشيعة مع الدولة البويهية التي حكمت منذ عام 321هـ إلى عام 447هـ، إلى جانب دول مثل الدولة الفاطمية التي ظهرت على يد أبي عبد الله المهدي عام 297هـ، ودولة الأدراسة منذ نهايات القرن الثاني الهجري على يد إدريس بن عبد الله بن الحسن، لتستمرّ قرنين من الزمان، والدول الزيدية المتعدّدة في اليمن منذ القرن الثالث الهجري، والحمدانيين (317 ـ 394هـ)، وحركة أبي الحسن المادرائي في طبرستان (مازندران)، وغيرها من الحركات والقوى التي دعمت الشيعة أو سهّلت أمرهم أو رفع الجور عنهم ليصبحوا على مسافة جيدة من السلطة.
لم تكن السلطة دائماً عدواً للشيعة، بل ظهرت الكثير من الدول والقوى المؤيّدة للعلويين أو المتعاطفة معهم، فلا يصحّ القول بأنّ العامل السياسي لم يعرفه الشيعة في شقّه السلطوي، فضلاً عن جانب المعارضة، إلا إذا أثبتنا عدم سعي كلّ هذه الدول للاستفادة من الحديث النبوي ونزهناها عن ذلك!!
من هنا، لابدّ من البحث عن سبب آخر، لاسيما وأنّ سائر العوامل المسبّبة للوضع ظلّت موجودة غير العامل السياسي.
الثانية: ما ذهب إليه الباحث المعاصر الشيخ رضا أستادي، من أنّ السبب في إحجام الشيعة عن مثل هذه التصنيفات يرجع إلى:
أولاً: إنّهم قاموا بتصفية كتبهم الحديثية مرّتين، مرّةً قبل عصر الكليني، حيث بالغوا في النقد والتمحيص، كما هي الحال مع مدرسة قم الشهيرة بمواقفها المتطرّفة والمتحفّظة من الرواة، وأخرى مع المحمّدين الثلاثة: الكليني، والصدوق، والطوسي، وهذا معناه أنّه لم تعد هناك حاجة لمزيدٍ من التصفية، من هنا يعتقد أستادي أنّ الشيعة وإن لم يؤلّفوا كتباً في الموضوعات، غير أنّهم سبقوا السنّة في هذا المجال، أي مجال نقد الحديث وتصفيته(82).
ثانياً: لم تكن عند الشيعة رغبة في التهاون، واتّهام الرواية بالكذب لمجرّد احتمال ذلك، فلذلك آثار خطيرة على مرجعية السنّة واعتبار الحديث(83).
وهذا الكلام من الشيخ أستادي فيه غمز بالجهود التي بذلها السنّة في الموضوعات؛ من حيث الاستعجال الذي فيها في الحكم على الحديث بالوضع والكذب.
الثالثة: ما رآه السيد هاشم معروف الحسني (1403هـ)، حيث ذهب إلى أنّ محدّثي أهل السنّة كانوا أكثر وعياً من الشيعة بالأخطار التي كانت تحدق بالسنّة النبويّة، فاهتمّوا بشكل أكبر بالنقد، وألّفوا في الموضوعات، أمّا الشيعة فقد تجاهلوا ـ بحسب رأي الحسني ـ المسألة، كأنّ الأمر لا يعنيهم، مع أنّ ما عندهم لا يقلّ خطراً عما هو مسطور في مصادر الحديث السنّية(84).
ويؤيّد معروفَ الحسني بعضُ حركات النقد الشيعي المعاصرة، مثل حركة التطهير العقدي، وحركة تهذيب الحديث و… كما يبدو أنّ التيار المدرسي في المؤسسّة الدينية الشيعية يميل إلى وجهة نظر الشيخ أستادي.
والحكم في هذا الموضوع يتبع ـ فيما أظن ـ طبيعة قراءة الباحث للموروث الشيعي الحديثي، فإنّ الباحثين الواثقين من هذا الموروث، والمنسجمين عقدياً وثقافياً وفقهياً معه كأغلب التيارات المدرسية، لا يجدون ـ بل لا يشعرون ـ بعدد هام من الأحاديث الموضوعة، حتّى يرموا باللائمة على محدّثي الإمامية السابقين كيف لم يصنّفوا في الموضوعات، أما أولئك الذين يملكون قراءة نقدية لمضمون الكثير من الروايات، لاسيما العقدية، فهم يقرؤون الموروث الشيعي حافلاً بالنصوص الحديثية الباطلة غير المقبولة، ممّا يثير فيهم إحساس ضرورة التصنيف في الموضوعات، وتصفية الأحاديث، كما يثير حفيظتهم لنقد تجربة علماء الحديث السابقين.
ولدينا بعض الوقفات مع الرأيين الأخيرين:
أولاً: إنّ الشواهد التاريخية المسجّلة تؤكّد أن فريقاً مهماً من الإمامية على الأقلّ قد ساهم بقوّة في القرون الخمسة الهجرية الأولى في نقد الحديث، برز فيهم رجال مدرسة قم المتشدّدين، وعلى رأسهم أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري، الذي طَرَدَ من مدينة قم بعضَ من وُصفوا بأنّهم من كبار رجال الحديث، لا لضعفهم، بل لروايتهم عن الضعفاء وإكثارهم من المراسيل، وكذلك تحفّظ هذه المدرسة مما كانت تعتبره غلواً في الدين، وعليه، فمن المؤكّد أن فريقاً نقّاداً في الوسط الشيعي ظهر قبل الكليني.
كما لا نشك في وجود ظاهرة متشدّدة عموماً من الحديث كانت موجودة في القرنين الرابع والخامس، أمّا القول بأنّ الشيعة صفّوا أحاديثهم من الموضوعات على دفعتين، فلم تعد هناك حاجة للتصفية، فهو قول يحتاج إلى مزيد من التأمّل، إذ هل لدينا اطّلاع على ما كان عند الشيعة من روايات حتى نعرف هل أحسن الكليني بشكل كامل في الانتخاب أم لم يحسن؟ كيف يمكن غضّ الطرف عن موقف مثل الشيخ المفيد من الشيخ الصدوق وفريق المحدّثين آنذاك وهو يحمل عليهم بعدم التمييز والنقد المضموني للأحاديث؟! هل شهادة المرتضى التي نقدت رجال الحديث ـ وقد ذكرنا هذه الكلمات في كتابنا μنظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعيν ـ هامشية لا ينبغي الوقوف عندها؟! ربما احتجنا إلى المزيد من البحث لنعرف هل أصاب المحدّثون آنذاك أم أخطأوا؟ وبأيّ مقدار؟
ولسنا نقصد بذلك إبطال ما بأيدينا قدر ما نقصد مجموع ما بأيدينا وما حذفوه ولم يصل إلينا، فلعلّنا لو اطلعنا على ما حذف ـ مع ما اُبقي ـ لآخذناهم واختلفنا معهم في موازينهم، فأبقينا بعض ما حذفوه وحذفنا بعض ما أبقوه.
ثانياً: إذا كان الشيعة قلقين على انهيار مكانة السنّة بفتح ملفّ الموضوعات فهم مخطئون، وشاهدُنا على هذا الخطأ رصد الموقف السنّي، فقد صنّف السنّة في الموضوعات الكثير، لكن اعتقادهم بمصادرهم الحديثية ظلّ أقوى من اعتقاد الشيعة بتلك المصادر، حيث نجدهم صحّحوا بعض الكتب بطريقة مبالغ بها جداً كصحيحي البخاري ومسلم، إنّ هذه تجربة تاريخية حيّة تؤكّد أن فتح باب الموضوعات قديماً لن يؤدي إلى ما توجّس منه الشيخ أستادي، بل لقد وجدنا الشيعة أكثر نقداً لمصادرهم الحديثية من السنّة!!(85).
ثالثاً: إنّ الشيخ أستادي نفسه يَحتَمل أن تكون خطوة الشيخ حسن صاحب المعالم (1011هـ) في كتاب μمنتقى الجمانν مشابهة في ذلك العصر لخطوة التستري في القرن الرابع عشر(86)، ونحن نسأل: إذا كان الشيعة أقفلوا باب الموضوعات قلقاً على مكانة السنّة، فكيف نفسّر الجهود النقدية اللاذعة التي قامت بها مدرسة العلامة الحلّي؟! وكيف نفسّر كتاب μمنتقى الجمانν والاتجاه الفكري الذي صاحبه مع المحقق الأردبيلي (993هـ) أو صاحب المدارك (1009هـ)؟! بل كيف نفسّر الموقف الأصولي المشكّك بالكتب الأربعة منذ عصر الوحيد البهبهاني، وقد رصدناه من قبل في كتابنا: μنظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعيν؟! إنّ الشيخ أستادي حفظه الله هو من يشعر بالقلق من خطوةٍ كهذه، لا أسلاف الشيعة وعلماء الإمامية.
رابعاً: لو سلّمنا أنّ الشيعة قد أخضعوا مصادرهم الحديثية لتصفيتين تاريخيتين، هل يعني ذلك عدم وجود أحاديث موضوعة؟ بل الصحيح أنّه إذا عنى شيئاً فإنه يعني قلّة هذه الأحاديث، ومن ثم فما المانع ـ مع قلّة الأحاديث ـ من فتح باب التصنيف في هذا المجال، ليكون الحسّ النقدي نشطاً دائماً إزاء دسّ الروايات واختلاق الأكاذيب؟!
خامساً: إنّ النزعة المفرطة للفريق المعتقد بوجود الموضوع في الحديث الشيعي، ونقصد بالموضوع المختلق من رأس، غير دقيقة، فقد أفرطت هذه الحركة في تضعيف الحديث على أساس فكرة الوضع، وقد كانت لنا وقفة مع هؤلاء في كتابنا: μنظرية السنة في الفكر الإمامي الشيعيν.
المهم أننا نميل إلى رأي السيد هاشم معروف الحسني، ونرى أنّه آن الأوان لعلماء الحديث الشيعة أن يفتحوا هذا البحث، ويضبطوا قواعده. ولا يكتفوا بجهود السلف، مهما كانت الموضوعات قليلة، شرط أن لا يفرطوا في ذلك خارج إطار الدليل والحجّة.
وبهذا يمكن الجمع بين الأمور، فنقول: إنّ عدم تصنيف الشيعة في الموضوعات كان لأنهم بذلوا جهوداً مشكورة في القرون الخمسة الهجرية الأولى لمواجهة حركة الوضع والوضاعين، فضعّفوا الكثير من الروايات الفاسدة، وكانوا مقتنعين بأنّ عدد الروايات الموضوعة لم يكن كبيراً في موسوعاتهم الحديثية الكبرى، لكنّ هذا لا يمنع اليوم ـ نتيجة تعدّد مصادر الإمامية الحديثية ـ من فتح باب نقد المتن بذهنية متحرّرة من التقديس هنا واستراتيجية البحث عن العفريت هناك؛ لأننا إذا أخذنا كلّ مصادر الحديث والتفسير و.. الإمامية فستظهر روايات موضوعة، حتى لو لم تكن بحجم كتب الموضوعات التي صنّفها أهل السنّة.
كما نوافق الشيخ أستادي في ضرورة التحفظ من الاستعجال بادّعاء وضع هذا الحديث أو ذاك، لهذا فإطلاق مشروع التأليف في الموضوعات عند الإمامية منذ التستري يجب أن يصاحبه وضع ضوابط حاسمة ومدروسة لتصنيف الموضوع وفرزه عن غيره، حذراً من الوقوع فيما وقع فيه بعض المصنّفين من أهل السنّة مثل ابن الجوزي.
وأشير أخيراً إلى نقطة مهمة، تعيق في بعض الأحيان عند الإمامية بالخصوص ادّعاء وضع الحديث، وهي وجود احتمال صدور الحديث بنحو التقية، فلا يطابق الواقع لكن لا يكون موضوعاً ومكذوباً على أهل البيت، ولعلّ مسألة التقية هي التي خفّفت أيضاً من حديث الشيعة عن وجود موضوع في كتبهم، وهذا ما يستدعي المزيد من الضوابط لتمييز الموضوع عن الصادر تقيةً، فلا يبالغ بادّعاء التقية في كل شيء، ولا ادّعاء الوضع في كل شيء كذلك.
8 ـ أمارات الوضع وعلائمه أو منهج معرفة الحديث الموضوع
تتعدّد المؤشرات التي تطلّ بالناقد على الحديث الموضوع لاكتشافه، فتارةً تأتي هذه المؤشرات من السند وأخرى من متن الحديث، ويجب أن نعرف أنّ الناقد الحصيف قد يكتشف الوضع في الحديث من مؤشر واحد أو قرينة واحدة، وقد لا يكفي الشاهد الواحد لذلك فيكون تعدّد الشواهد مفضياً إلى الاقتناع بالوضع.
على صعيدٍ آخر، من الضروري أن نعرف التمييز بين الوضع الذي يمارسه الراوي الكذاب، والخطأ الذي قد يقع فيه، فبعض هذه الشواهد قد تثبت الوضع، لكنها في بعض الأحيان لا تثبت سوى العنصر الأعم الشامل لاحتمال الوضع واحتمال الخطأ أو عدم الدقة، ولابدّ من عدم الاستعجال في توجيه تهمة الوضع للحديث ما دامت الاحتمالات متوفرة لا دافع لها بعدُ. وعلى أية حال، فنحن نذكر أمارات الوضع على الشكل التالي:
8 ـ 1 ـ العلامات السندية للوضع
تحدّث العلماء عن عدة علامات للوضع يمكن اكتشافها من خلال السند، وهي:
أ ـ ما يعدّ أشهر العلامات وأوضحها، وهو اعتراف الراوي بكذبه، فعندما يقوم راوٍ ـ مثل أبي عصمة نوع بن أبي مريم وعمر بن صبح ـ بالاعتراف قبيل إعدامه أو غير ذلك بأنه وضع الحديث الفلاني أو الأحاديث الفلانية، فإنّ ذلك أمارة واضحة على الجعل(87).
لكن يلاحظ على هذه الأمارة أنّ إقرار الواضع بالوضع قد يكون بنفسه إقراراً كاذباً يهدف من خلاله إلى تشويش الأمور على الناس، فكيف يمكن تصديق شخص بأنّه وضع الحديث، إذ لو صدّق لكان رجلاً كذاباً، ومع كونه كذلك كيف لا نحتمل أنه كذاب في نوعية الأحاديث التي زعم وضعها أو في عددها أو في موضوعها؟!(88). نعم، من الناحية الشرعية يؤخذ بإقرارّ المقرّ ويعاقب شرعاً؛ عملاً بموجب حجية الإقرار في باب القضاء.
مع ذلك يفيد الإقرار الظنّ القويّ بحصول الوضع ويشكّل أمارة على ذلك قد تضاف إلى غيرها في هذا المجال.
وليس من البعيد أن نفصّل في هذا الأمر؛ وذلك أنّ العاقل لا يجلب الضرر إلى نفسه، فلماذا يقف شخص ليقرّ بأنه كذاب ويفضح نفسه أمام الناس إذا لم يكن كذاباً واقعاً؟! من هنا يجب أن ندرس ـ إذا توفرت المعطيات السياقية التاريخية ـ ملابسات صدور هذا الإقرار من صاحبه؛ فقد يلقى القبض عليه ويحال للإعدام بتهمة الزندقة مثلاً ـ كما حصل مع بعضهم ـ ثم يقرّ وهو على المقصلة بوضع كذا وكذا، إنّ هذا النوع من الإقرار ضعيف الإضاءة؛ لأنّ الرجل يعرف بأنه ميت، وأن صورته عند الناس مشوّهة، فلعلّه أراد الانتقام منهم في تحويله إلى الموت، لاسيما إذا أكثرَ من الأرقام التي وضعها في الحديث، كأن يتحدّث عن آلاف الأحاديث أو عن الدسّ في الكتب بشكل كبير دون وجود اسمه في الأسانيد.
أما لو لم يكن الأمر كذلك، بل عرفنا من ملابسات الإقرار أنه رجلٌ تاب إلى الله وصار إنساناً صالحاً، ثم عرف بالصلاح فيما بعد، فإنّ هذا الإقرار تغدو إضاءته قوية جداً وفقاً للمنطق الاحتمالي العقلاني، إذ ما الداعي لإنسان صالح أن يفضح نفسه وتاريخه إلا أن يكون تقياً يخشى الله تعالى؟! إنّ رصد ملابسات صدور الإقرار يظلّ هو المعيار في حجم وثوقنا بمضمون هذا الإقرار.
يضاف إلى ما تقدّم، أنّ الإقرار لابدّ أن يثبت بطريق معتبر شرعاً وعقلائياً، فلا يكفي تداول إقرار شخص ما في كتب الحديث والدراية لترتيب النتائج على ذلك دون إثبات هذا الإقرار؛ إذ ثمة احتمال في أن يكون خصوم هذا الراوي قد نسبوا إليه هذا الإقرار ـ ولو بعد وفاته ـ لتشويه صورته أو إسقاط مروياته التي لا ينسجمون فكرياً وعقدياً معها.
إلى جانب ذلك، لا يهمّنا في الإقرار مجرّد صدوره، بل لابدّ من النظر في مضمونه والمساحة التي يقدّمها، فقد يقرّ بوضع حديث بعينه، كإقرار عمر بن صبح بأنه هو الذي وضع خطبة النبي(89)؛ وهذا القدر من الإقرار واضحٌ مفهوم، لكن المقرّ قد يقرّ بوضع مجموعة من الأحاديث دون أن ينصّ على مضمونها، كما ينقل عن محمد بن سعيد الدمشقي الذي صلب بتهمة الزندقة، حيث يقول: μإذا كان كلام حسن لم أر بأساً أن أجعل له إسناداً(90). وفي هذه الحال لا يستفاد وضع حديثٍ بعينه، بل يورث احتمال الوضع في كل حديث رواه هذا الراوي، وهكذا لو قال بأنّ مضمون أحاديثه الموضوعة كان في القدر أو الغلو أو قدم القرآن أو..
ب ـ ما هو في قوّة الإقرار من الراوي بحسب تعبيرهم، بأن يقوم شاهدٌ على أمر لا يفهم إلا في سياق الوضع، ومثال ذلك أن يروي الراوي عن شيخ نجزم أو يصرّح هو نفسه بأنّه لم يلقه، أو لم يعش في عصره أساساً، أو عن شيخ في بلدٍ نجزم بأنّ الراوي لم يرحل إليه قط(91).
ويمثلون لذلك بإدعاء أحمد بن سليمان القواريري الذي ولد عام 151هـ أنه سمع من ابن إسحاق الذي توفي عام 150هـ(92).
هنا لا يمكن الاستعجال بادّعاء الوضع إلا بعد التأمل في طبيعة السند، فإذا كان السند بين الشخصين عبارة عن كلمة (عن)، مثلاً: القواريري عن ابن إسحاق، فإنّ هذا لا يثبت الوضع أبداً، بل غايته إثبات التدليس؛ لأن كلمة (عن) وإن قبلنا ـ جدلاً ـ انصرافها عند الإطلاق إلى حالة اللقيا والسماع، إلا أنّها تحتمل حالة العدم أيضاً، فيحتمل أنه دلّس بما يوهم اللقيا، وهذا غير الوضع في الحديث.
أما لو عبّر بـ (حدّثنا) و(سمعت منه) و(لقيت فلاناً فقال لي) وما شابه ذلك، فإنّ احتمال الوضع يغدو قريباً جداً، شرط ثبوت السند إلى الراوي نفسه، بحيث يثبت أنه قال ذلك.
ومن موارد ما هو في قوّة الإقرار أن يدّعي الراوي روايةً إلا أننا لا نجدها عند أحد من الرواة ولا في أيّ مصدرٍ آخر ويكون الراوي معروفاً بالكذب، فإنه يحكم على روايته بالوضع(93).
وهذا في الحقيقة مؤشرٌ على الوضع وليس دليلاً مستقلاً بعينه، لكن كلّما كان الموضوع المتضمّن في الرواية مما تكثر الدواعي إلى تكرّر صدوره من النبي وتكرّر سماعه وتكرّر نقله كان ذلك مفيداً لكذب الراوي، إذ كيف لم ينقله أحد مع كثرة صدوره وكثرة تكرّر سماعه وكثرة الدواعي لنقله؟! كأن يقول بأنّ المعصوم قد كان يواظب في المسجد على قراءة هذا الدعاء أو هذا الذكر أو هذه الزيارة، ولا نسمع أحداً ينقل ذلك لنا إلا هذا الراوي المعروف بالكذب أو المضعّف، فإنّ ذلك يضاعف من احتمال وضع الرواية. أو يقول بأنه سمع هذه الخطبة من النبي في المسجد أمام الناس ولا ينقلها أحدٌ غيره، مع توفر الدواعي لنقلها وهكذا.
ومن قرائن الوضع ممّا جعل في قوّة الإقرار، أن يدّعي الراوي الرواية عن شخص لم يلقه، ولو كان معاصراً له أو يدّعي السماع منه، وعندما يُسأل عن أوصاف الشيخ الذي نقل عنه لا يعرفها. أو ينقل خبراً عن الشيخ وعندما يُسأل عنه الشيخُ ينكره، أو يذكر لقيا الشيخ في مكان لم يذهب إليه الشيخ قطّ، أو يذكر أخذه الحدث منه في مكان لم يكن قد أنشئ بعدُ في زمن الشيخ، أو ينسبه إلى كتاب الشيخ ولا يوجد في أيّ مصدر أو نسخةٍ مثل هذه النسبة، إنّ هذا كلّه من أمارات الوضع في الحديث(94).
ولا شك ـ بنظري المحدود ـ في إفادة ذلك الظنّ بالوضع في الجملة، لكنّ ذلك غير مطّرد ولا غالبي؛ إذ كيف نعرف أنّ زيداً لم يلقَ عمرواً، حتى نستفيد عدم اللقيا؟ فإذا كان ذلك بشهادة شخص من علماء الرجال جاء بعد قرون، فهذا لا ينفع؛ إذ تكون هذه الرواية نفسها شاهداً على اللقيا، وإذا كان من شخص معاصر، فكيف أحرز هذا المعاصر أن زيداً طيلة حياته لم يلق عمرواً ولو في سفر سريع، نعم يحتاج ذلك إلى أن يكون ملازماً له أو قريباً جداً منه بحيث يحرز أحواله وأسفاره في الغالب، أما في غير ذلك فيصعب دعوى الوضع.
وأما عدم الجواب عن أوصافه عندما يُسأل عنه، فهذا جيّد، لكنه نادر التحقّق في الروايات التي بيد المسلمين، علماً أنه يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ السؤال قد يكون بعد فاصل زمني طويل قد يوجب النسيان أحياناً.
وأما إنكار الشيخ أنّه قال ما نقل عن لسانه، فهذا لا يؤكّد الوضع، وإنما يوقع التعارض بين خبر الشيخ والراوي عنه؛ إذ ثمة احتمال في أن يكون الشيخ قد نسي روايته لهذا الحديث مع كونه رواه منذ عشرين سنة، حتى لو بدا قاطعاً بأنه لم يروه، وهذا يختلف باختلاف الشيوخ وحفظهم ومعرفتهم ووزنهم في عالم الحديث.
وأما ذكره لقيا الشيخ في مكان لم يذهب إليه الشيخ قطّ، فهذا كحال ادّعائه السفر للقيا الشيخ في أنه ينفع في بعض الموارد فقط؛ إذ كيف نعرف أنّ الشيخ لم يسافر إلى ذلك المكان؟ لاسيما في الشيوخ الصغار الذين لا نعرف الكثير من المعلومات عنهم وعن أسفارهم.
نعم، ادّعاؤه أنه أخذ منه في مكان لم يكن موجوداً في عصر وجود الشيخ، كمدينة حديثة الإنشاء مثل بغداد والكوفة، جيّد ومفيد.
وأما عدم وجدان الحديث في نسخة أخرى، فهذا كما يجامع الزيادة الجعلية من الراوي، يجامع أيضاً الإنقاص الجعلي في النسخة الثانية. نعم، لو تكرّرت النسخ وتعدّدت واختلفت مصادرها يزداد احتمال الوضع حينئذٍ.
ويجب أن نعلم أيضاً أنّ هذه القرائن المدّعاة تغدو أكثر دلالة واحتمالاً عندما نفرض سلفاً أنّ الراوي الذي وقع في السند ونحتمل وضعه للحديث معروف مسبقاً بالكذب ومتّهم عندهم بالوضع، فإنه كلّما كان حاله كذلك كان أقرب إلى احتمال الوضع بحشد هذه القرائن، وكلّما كان مجهولاً في حاله وعدالته أو كان قد شهد بوثاقته وعدالته، فإنّ القوة الاحتمالية للوضع من خلال هذه القرائن تبدو أضعف وهكذا.
ج ـ من هنا لا نوافق على ما اعتبره بعضهم(95) من علامات الوضع في الحديث، وهو أن يكون الراوي مضعّفاً متهماً في كتب الرجال والجرح والتعديل.
نعم، اشتهار الراوي بالكذب يضعّف الحديث سنداً، أما أنّه يثبت وضعه وجعله، فهذا أمرٌ آخر؛ إذ ليس كلّ حديث يرويه وضّاع أو كذاب فهو بالضرورة موضوع أو مكذوب، كما ذكرنا مطلع حديثنا عن الوضع وتعريفه.
لكن يجب أن نلتفت إلى أنّ اتهامه بالوضع يؤمّن بنيةً تحتيّة للحكم بوضع الحديث عندما تتوفر المعطيات الأخرى، لا أنّ اتهامه بالوضع كافٍ في اعتبار حديثه موضوعاً، وهذا ما وقع فيه غير واحدٍ من المصنّفين في الموضوعات حين جعل الراوي الوضّاع دليلاً على وضع الحديث، ثم إدراجه في قسم الموضوعات.
وفي هذا السياق، نقول فيما يخصّ انسجام الراوي مصلحياً مع طبيعة الحديث الذي يرويه من عوده بمصالح مذهبية أو سياسية أو شخصية له(96)، فهذا يهيئ الأرضية للحكم بالوضع عندما تأتي هذه الشواهد، لا أنه يوجب الحكم بالوضع، كيف وكلّ روايات المسلمين تنسجم مع مصالحهم بوصفهم مسلمين، فهل يحقّ لغير المسلم اعتبارها جميعها موضوعة؟!
نعم، توافق الحديث مع الاتجاه الفكري والسياسي للراوي يؤدّي إلى تحديد قوّة احتمال الصدق فيه، لا أنه يفيد وضعه بالضرورة، فهناك فرق بين أن نقول: هذه الخصوصية تبطئ حركة الوثوق بالحديث، وبين أن نقول: هذه الخصوصية تفيد وضعه، فهي لا تفيد لكنها تفسح المجال من جهة وتعيق من أخرى.
د ـ أن يكون السند في جملته مثيراً وملفتاً، كأن يشتمل على سلسلة من الكذابين أو يحوي سلسلة من الأشخاص المجهولين جهالةً تامة(97)، بحيث لا تعرف أسماؤهم ولا تتداول في كتب الحديث والرجال والجرح والتعديل.. إنّ هذا ما يثير حفيظة ناقد الحديث في الصدفة التي جمعت هذه الأسماء، لاسيما لو تكرّرت في أحاديث ترجع إلى موضوع واحد.
8 ـ 2 ـ العلامات المتنية للوضع
وكما تنوّعت العلامات السندية لوضع الحديث، كذلك الحال مع الأمارات المتنية، ونحن نذكر أهمّها مع التوضيح والتعليق، وهي:
1 ـ أن يكون متن الحديث ركيكاً في عبارته يحوي لحناً، إذ هذا يكشف عن وضعه؛ لأنّ أفصح من نطق بالضاد لا يمكن صدور مثل هذا الكلام عنه.
من هنا، يعتمد النقّاد على تركيبة الحديث وبلاغته وجودته وانسجام كلماته وفصاحتها؛ فإنّ هذا الأمر يقوّي الوثوق بصدوره أو يقرّب الناقد إلى الاقتناع بوضعه(98).
لكنّ الخبراء من علماء الحديث توقفوا هنا مليّاً، فذكروا أنّ ركاكة اللفظ إنما تضرّ عندما يظهر من الراوي أنه ينقل باللفظ بحيث يصرّح به أو يبيّنه بشكل من الأشكال، فهنا نتهمه بالكذب؛ لبُعد نطق النبي وأهل بيته بكلام ركيك متهافت نطقاً وفصاحة. أما لو لم يذكر الراوي أو يُفهم من تحليل السند أنه ينقل باللفظ، فإنّه يوجد احتمال في كونه ناقلاً بالمعنى، وعندها تكون الركاكة من الراوي نفسه دون أن يُتهم بالوضع(99).
ويمكننا هنا أن نلفت النظر إلى أنّ العصور المتأخرة عرفت ظاهرة الإملاء، فحول أئمة أهل البيت^ كان بعض التلامذة يتحلّقون ليكتبوا عنهم، وهذا ما كان نادر الحصول في القرن الهجري الأول، من هنا كلّما كانت الرواية عن أحد المعصومين في القرن الهجري الأول وكان فيها ركاكة لفظية كان احتمال النقل بالمعنى أكبر، ومن ثمّ لا تؤثر الركاكة اللفظية على صحّة الحديث، وكلّما كانت عن أحدهم في القرون اللاحقة كان احتمال النقل بالمعنى أقلّ نسبياً ومن ثم زاد احتمال الوضع.
2 ـ أن لا يكون في الحديث ركاكة أو نحو ذلك، وإنما يشتمل على نمط من التركيب أو استخدام بعض المفردات التي نجزم بعدم عودها إلى عصر صدور النص، فمثلاً لو جرى استخدام مصطلحات فلسفية أو منطقية أو أصولية عرفها المسلمون في القرن الهجري الثاني أو الثالث أو الرابع، جرى استخدامها في رواية عن الإمام علي أو النبي محمد، ففي هذه الحال يكون ذلك دليل الوضع؛ لعدم إمكان صدور هذه التعابير آنذاك، لاسيما وأنّ السامعين لم يسألوا عن معناها.
ومثال ذلك، التعبير الوارد في كلام الإمام علي× في رواية مرسلة عن المرأة بأنها: μريحانة وليست بقهرمانة(100)، فقد قيل بأنّ كلمة: μقهرمانةν كلمة تركية، واللغة التركية لم تغزُ اللغة العربية إلا في القرن الثاني الهجري، فكيف يقف الإمام علي قبل عام 40هـ لقول هذه الكلمة دون أن يسأله أحدٌ عنها؟!
ومن أمثلة ذلك عند بعضهم ما جاء في بعض خطب أمير المؤمنين أو الإمام الصادق أو الرضا، وفيها مصطلحات ذات طابع فلسفي، وهي روايات ذات أسانيد مناقش فيها، مثل: μوكيف أصفه بالكيف؟! وهو الذي كيّف الكيف حتى صار كيفاً، فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف. أم كيف أصفه بأين؟! وهو الذي أيّن الأين حتى صار أيناً فعرفت الأين بما أيّن لنا من الأين. أم كيف أصفه بحيث..ν، وقريب منه غيره(101).
وهذا النوع من أمارات الوضع يحتاج إلى تأمل كثير وخبرة طويلة وثقافة واسعة لاكتشافه وكشف مستوره.
3 ـ مخالفة مضمون الحديث لظاهر القرآن الكريم دون أن يقبل تأويلاً مستساغاً في العرف وعند العقلاء(102)، وذلك أنه إذا أمكن الخروج بتوفيق عرفي بين نصّي الكتاب والسنّة لم تكن هناك حاجة لطرح الحديث وادّعاء أنّه موضوع، كما في قواعد الجمع العرفي التي حقّقها الأصوليون، لكن إذا استحكم التعارض لم يكن هناك مفرّ من طرح الخبر.
والمستند في ذلك الروايات العديدة ـ التي بحثناها بالتفصيل في مناسبة أخرى ـ والدالّة على لزوم عرض الحديث على القرآن وطرح ما خالف الكتاب دون حاجة إلى افتراض وجود تعارض بين روايتين في المرحلة السابقة، وهذه غير روايات الترجيح بين المتعارضين بموافقة الكتاب التي تنفع أيضاً في موردها.
وقد ذهبت بعض الآراء في فكر أهل السنّة إلى القول بأنّ هذه الأحاديث هي بنفسها موضوعة أو لا يمكن الأخذ بها، لاسيما وأنه ليس هناك في القرآن ما يدلّ على لزوم عرض الأحاديث عليه، فتكون هذه الأحاديث غير موافقة للكتاب.
لكن يناقش في محلّه بما نوجزه هنا، وهو أنّ بعض هذه الأحاديث لا بأس به سنداً، إلى جانب تعدّدها، إضافةً إلى أنها منسجمة مع المنطق العقلاني، فإنّ المنقولات التي تأتيك من المولى من الطبيعي أن ترفض إذا عارضت نصاً قطعياً له من حيث الصدور، وحتى لو كان الكلامان ظنيّين من حيث الدلالة، فإنّ العقلاء يقدّمون حيثية السند على حيثية الدلالة ما دامت الدلالة واضحة ولو لم تبلغ مستوى النصية والصراحة المفيدة للقطع. من هنا، تأتي أهمية عرض الحديث على الكتاب، لاسيما وأنّ بعض روايات العرض على الكتاب في المصادر الشيعية ظاهرها نفي قول المعصوم ما خالف الكتاب، الظاهر في نفي حيثية الصدور لا الجهة، الأمر الذي يرفع من احتمال الوضع في الحديث المعارض للقرآن الكريم.
لكنّ القضية الأهم في موضوع معارضة الكتاب تظلّ في تحديد هويّة هذه المعارضة، وذلك أنّها تخضع عند كثير من العلماء لقانون النسب الأربع المنطقي، إذ يرى العلماء أنّ النسبة بين الحديث والقرآن لا تخرج عن حالات أربع هي:
أ ـ نسبة التساوي: فالنصّ القرآني يقول: تجب عمرة التمتع، والنص الحديثي يقول: عمرة التمتع واجبة، لا يزيدان عن ذلك ولا ينقصان بما يغيّر النتيجة، ومن الواضح هنا أنه لا يوجد اختلاف فيؤخذ بهما معاً دون أيّ محذور.
ب ـ نسبة العموم والخصوص المطلق: بأن يكون النص الكتابي أو الحديثي أوسع دائرةً من النص الآخر، وهنا يقدّم النص الأضيق دائرةً على ذلك الأوسع مع المخالفة، بلا فرق بين كون الأوسع قرآناً أو حديثاً، وذلك لقانون الجمع العرفي عبر نظريات التخصيص والتقييد و..
ج ـ نسبة العموم والخصوص من وجه: بمعنى أن يكون هناك نقطة يتحدّثان معاً عنها، فيما يختصّ الحديث بنقطة أخرى لا يتحدّث عنها القرآن، ويختصّ القرآن بالحديث عن نقطة لا يتطرّق إليها هذا الحديث.
وهنا إن كانا متوافقين في نقطة الاشتراك فالأمر واضح؛ إذ لا معارضة، أما إذا كانا مختلفين فقد يقال بسقوط حجية النص القرآني والحديثي في هذه النقطة بالخصوص، وبقاء الحجية لهما في نقاط الامتياز، أي أنّ هناك نوعاً ممّا يسمّى بالتبعيض في الحجية، فحديث واحد نصفه حجة ونصفه غير حجة، وقد يقال بجريان أخبار الطرح في مادّة الاجتماع، ولهذا الموضوع دراسات مطوّلة لا تعنينا هنا.
د ـ نسبة التباين التام: بأن تقول الآية مثلاً: تجب صلاة الظهر، ويقول الحديث: لا تجب صلاة الظهر، ويتعذر الجمع العرفي بينهما، فهنا تقع المعارضة، ويقول العلماء: إنّ المفروض طرح الرواية جانباً لمعارضتها للكتاب.
هذا المنهج القائم على مقولة النسب الأربع المنطقية يقلّل كثيراً من مخالفة الحديث الموجود بين أيدينا للكتاب الكريم، إذ قلّما تجد نصاً يباين مباينةً تامةً القرآن الكريم، بحيث تغدو المباينة صريحة وجريئة وواضحة لا مجال للتأويل العرفي فيها، خصوصاً في دائرة العمليات كالفقه والأخلاق، حيث يمنع الكثير من الأصولييّن عن مقولات اكتشاف الملاك و… فتبقى الأمور مفتوحة، كما أنّ الوضاعين لم يكونوا سذّجاً ليضعوا أحاديث تعارض القرآن بهذا الوضوح وبكثرة.
إلا أنّ السيد محمد باقر الصدر، وشاركه في الفكرة أمثال السيد محمد حسين فضل الله والسيد علي السيستاني و..(103)، ذهب إلى أنّ مخالفة الكتاب لا تعني ذلك، بل تعني مخالفة الروح العامة للقرآن الكريم، وما لا يكون له شبيه أو نظير في الكتاب.
ولأهمية هذه النظرية ننقل كلام السيد الصدر ـ بحسب تقريرات درسه ـ حين يقول: μلا يبعد أن يكون المراد من طرح ما خالف الكتاب الكريم، أو ما ليس عليه شاهد منه، طرح ما يخالف الروح العامة للقرآن الكريم، وما لا تكون نظائره وأشباهه موجودةً فيه، ويكون المعنى حينئذٍ أنّ الدليل الظني إذا لم يكن منسجماً مع طبيعة تشريعات القرآن ومزاج أحكامه العام لم يكن حجة، وليس المراد المخالفة والموافقة المضمونية الحدّية مع آياته، فمثلاً لو وردت رواية في ذمّ طائفة من الناس وبيان خسّتهم في الخلق أو أنهم قسم من الجن، قلنا: إنّ هذا مخالف مع الكتاب الكريم الصريح في وحدة البشرية جنساً وحسباً ومساواتهم في الإنسانية ومسؤولياتها مهما اختلفت أصنافهم وألوانهم، وأما مجيء رواية تدلّ على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلاً فهي ليست مخالفة مع القرآن الكريم، وما فيه من الحث على التوجه إلى الله، والتقرب منه عند كلّ مناسبة، وفي كل زمان ومكان، وهذا يعني أنّ الدلالة الظنية المتضمّنة للأحكام الفرعية فيما إذا لم تكن مخالفة لأصل الدلالة القرآنية الواضحة تكون ـ بشكل عام ـ موافقة مع الكتاب وروح تشريعاته العامة، خصوصاً إذا ثبتت حجيتها بالكتاب نفسه(104).
ولا يجدر الاستهانة بنظرية كهذه. إذ إنها ستفسح المجال للإطاحة بعدد أكبر من نصوص السنّة انطلاقاً من معارضتها للقرآن، فما يتحدّث عنه الصدر من الرواية التي تذمّ طائفةً من الناس ليس مثالاً افتراضياً بل هو مثال وقعي، إذ هناك رواية في الأكراد وأنهم قوم من الجن كشف عنهم الغطاء(105)، وقد أفتى بعض الفقهاء بكراهة التزويج منهم بل والتعامل معهم اقتصادياً(106)، ومن الواضح أنّ هذه الرواية لو أردنا أن نتعامل معها طبق منهج التعارض السائد لقلنا: إنها ـ على أبعد تقدير ـ تخصّص أو تقيّد ما دلّ على إكرام كلّ بني آدم.
ونحن نعتقد بأنّ بعض الآراء غير المألوفة التي طرحها على سبيل المثال كلّ من الشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله والشيخ يوسف صانعي والشيخ محمد إبراهيم الجنّاتي تعود إلى هذه النقطة بالذات لمن راجع مناهج بحثهم الفقهي وتطبيقاته، فالموضوع ليس موضوع جسم آية أو جسم رواية نتعامل حرفياً معهما، بل موضوع مضموني يعود لروح التشريع، فأنت تضع الرواية هنا أمام جماع معطيات النص القرآني، ولا تبحث عن آية خاصّة لتعطيك دلالة، فتقيس نسبتها إلى الرواية، وهذه النزعة المقاصدية والروحية في التشريع من شأنها أن تخلق ثورة في نهج التعامل مع السنّة، وإذا لم تكن فعلت ذلك مع الصدر، أو فعلته بشكل بسيط مع غيره، فإنّ ذلك ربما يعود لعدم الجرأة على تفعيل هذه المقولة، أو يعود لعدم وجود ضوابط محدّدة لها بعد، بصرف النظر عن أنّ هؤلاء العلماء قد أحسنوا الاستفادة من هذا الفهم الجديد الذي قدّمه السيد الصدر أم لم يحسنوا ذلك.
4 ـ مخالفة مضمون الحديث للسنّة القطعية الصدور بظاهرها أو نصّها وصريحها(107)، بما لا يقبل التأويل المستساغ، فلو وردت رواية تجيز الكذب على رسول الله| اعتبرت موضوعةً؛ لتواتر الحديث الناهي عن الكذب عليه| كما ذكروا، وهكذا ما جاء في مقابل كلّ حديث متواتر أو معلوم النسبة للمعصوم.
والمدرك في ذلك عدم مناهضة الآحاد للمتواتر وفقاً للأصول العقلائية؛ فإنّ العقلاء لو بلغهم خبر بطريق ظني يناقض خبراً قطعي الصدور، ولم يكن هناك مجال للتوفيق بين الخبرين لا يعيرون الخبر الظني أيّ اعتبار ما لم يكن وجوده موجباً لسريان الشك إلى أصل صدور الدليل القطعي الصدور في حدّ ذاته، دون أن ينظروا إلى عنصر الدلالة، بل المهم عندهم أن لا يكون الخبر القطعي الصدور مشتبه الدلالة مجملاً.
نعم، وفقاً لمبدأ التقية قد يقال بإمكان صدور خبرٍ مخالف للسنّة القطعية على نحو التقية، ومن ثم لا يحرز كونه موضوعاً حينئذٍ، فلابدّ من ملاحظة المعصوم الذي صدر الخبر منه في احتمال كون الخبر كان على نحو التقية أم لا، فلو نسب الخبر للنبي لم يكن معنى لاحتمال التقية وهكذا.. بناءً على جواز التقية في بيان الأحكام.
5 ـ مخالفة مضمون الحديث للإجماع(108)، حيث ذكر بعض الباحثين أنّ هذه المخالفة تسقط قيمة الخبر.
والذي يبدو لنا أنّ الإجماع ليس حجّةً في نفسه، كما حقّق في علم أصول الفقه، خلافاً لما اشتهر في أصول الفقه السني، لهذا لا تكون له حجية إلا من باب كشفه عن قول المعصوم وموقفه، وهنا نقول: إذا كان هذا الإجماع ظنياً في كشفه لم يكن حجةً في نفسه، فضلاً عن أن نسقط به اعتبار روايةٍ حجّة في نفسها أو الحكم عليها بأنها موضوعة.
وأما إذا كان قطعياً في كشفه ـ وتحقّقه نادرٌ جداً؛ لاحتمال المدركية في أكثر الإجماعات حتى لو تحقّقت صغرى الإجماع ـ أمكن الحكم بالوضع، ما لم يطرأ احتمال التقية بالمعنى الذي أسلفناه آنفاً، أو يمكن إيجاد توفيق عرفي.
6 ـ مخالفة مضمون الحديث لواضحات العقول والبديهيات التي لا تحتاج إلى نقاش(109). ومثلوا له بخبر عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في المصادر السنّية، حيث قيل له: حدّثك أبوك عن جدّك أنّ رسول الله| قال: μإنّ سفينة نوح طافت بالبيت وصلّت خلف المقام ركعتينν؟ قال: نعم(110). ونحو هذه الرواية خبر علي بن أبي حمزة في المصادر الشيعيّة قال: قال لي أبو الحسن×: μإنّ سفينة نوح× كانت مأمورة طافت بالبيت… ثم رجعت السفينة وكانت مأمورة، فطافت بالبيت طواف النساء(111).
وهذا المعيار واضح من حيث المبدأ، إلا أنّ الكلام في معنى العقل الذي إذا خالفته الرواية اعتبرت موضوعة، فمن الواضح أنّ البديهيات الواضحات التي لا يختلف فيها اثنان تعدّ مصداقاً أبرز وأوضح للعقل، وكذلك الأحكام الأولية للعقل العملي كحسن العدل وقبح الظلم. لكن متى يقوم الواضع بوضع حديث يعارض بكلّ بساطة بديهيات العقل بهذا المعنى؟!
من هنا، يحاول النقّاد أن يذهبوا إلى أنّ العقل هنا هو المنطق الطبيعي للأشياء، لا العقل النظري البديهي أو العملي الأولي فحسب. فهذه الرواية التي قرأناها قبل قليل ـ سواء بشكلها الوارد في المصادر السنية أم بطريقة بيانها الشيعي ـ لا تخالف العقل بهذا المعنى، لكن مع ذلك يقال بأنها تخالف العقل.
من هنا، يبدو أنّ المراد بالعقل كلّ عقل سليم يفهم منطق الأشياء ويحمل ذوقاً سليماً معتدلاً، مثلاً يمكن أن يكون النبي سليمان له ألف زوجة أو ألفين يجامعهنّ كل ليلة، فالعقل بالمعنى الأول لا يمانع ذلك، لكنّ العقل السليم الذي يملك ذوقاً لطبيعة الأشياء يرى ذلك غير صحيح، ما لم تأتِ الشواهد الداعمة على وجود إعجاز استثنائي في الأمر.
كذلك الحال على مستوى العقل العملي، فإذا جاءت رواية تجيز للأب معاقبة الابن بقضم لحمه بالمقاريض أو قطع إصبعه وهو لم يبلغ الحلم، فإنّ العقل هنا لا يقبل منطق هذا التشريع؛ لأنه يرى فيه ظلماً وجوراً، والله أجلّ من أن يظلم. وعلى هذا فقس، مثل ما جاء من أنّ بني إسرائيل كانوا يطهّرون لحومهم بالمقاريض عند إصابة البول، وأنّ الله وسّع على أمة محمد(112).
فالعقل هنا يؤخذ بمعناه الأعمّ من البديهيات الأولية، لكنّ خطورته أنه قد يلتبس أمر العقل الذوقي الفردي بالعقل السليم الموضوعّي الجمعي، فيسرع الإنسان إلى اتهام الحديث بالوضع لعدم مجيئه على ذوقه ومزاجه، إن في مضمونه الخبري أو في مضمونه التوجيهي؛ لهذا احتاج الأمر إلى صفاء ذهني وصناعةٍ للذوق السليم، وسعي للموضوعية والابتعاد عن التسرّع والابتسار والانحياز.
7 ـ مخالفة الحديث للمشاهدة والتجربة وحقائق العلم والحياة(113)، وهذا عنوان يتصل بعض الشيء بمخالفة العقل بالمعنى الذي طرحناه.
فمقتضى التجربة وسنّة الحياة أن يحصل الإنسان على الدفء من خلال الحرارة، فالحصول عليه من خلال الثلج يحتاج إلى عناية استثنائية. ومقتضى طبيعة الأمور وسنّة الحياة أن يولد الابن من الأم الأنثى، أما مجيء رواية في كتاب الهفت والأظلّة تفيد أنّ الأوصياء يولدون من أمهات ذكور، فهذا أمرٌ يستحقّ الاستنكار(114).
ومن هذا المنطلق، مواجهة الأحاديث للحقائق العلمية الثابتة، فإنه إذا تناقض حديث مع هذه الحقائق يطرح، فالحديث الذي يُرجع المدّ والجزر إلى ملاك يضع رجله في البحر أو يرفعها يناقض أصول العلم في تأثير القمر على ذلك، وكذلك الأحاديث التي تجعل الرياح مسجونةً تحت الركن الشامي أو اليماني للكعبة، فإذا أراد الله أرسلها للجنوب أو الشمال(115)، وكذلك تفسير الزلازل بأنّ الله خلق الأرض على حوت، فقالت الحوت: حملتها بقوّتي، فأرسل الله إليها حوتاً قَدْر فتر، فدخلت منخرها، فاضطربت أربعين صباحاً، فإذا أراد الله أن يزلزل أرضاً تراءت لها تلك الحوتة الصغيرة(116).
وما ورد أن في الصين شجرة تحمل كلّ سنة ورداً يتلوّن كل يوم مرتين، فإذا كان أوّل النهار نجد مكتوباً عليه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، وإذا كان آخر النهار فإنّا نجد مكتوباً عليه: لا إله إلا الله، علي خليفة رسول الله(117).
وعندما نقول بأنّ مخالفة الحقيقة العلمية أو المشاهدة والتجربة أو الحسّ والعيان وسنّة الحياة علامة الوضع، فهذا لا يعني الاستعجال بتهمة الوضع قبل التأكّد من الأمر، وأن تكون المعطيات العلمية حقائق وليست نظريات أو آراء أو وجهات نظر لم تبلغ مرتبة الحسم والقطع العلمي، وأن تكون نافيةً قطعاً لمدلول الرواية ولا يكفي أن يقول العلم أو المشاهدة أو التجربة: لم يثبت ذلك عندي؛ فإنّ عدم الثبوت لا يعني ثبوت العدم، فلعلّه أمرٌ واقع لم يبلغه العلم بعدُ، فلابدّ من التمييز بين هذه الأمور جيداً.
8 ـ مخالفة الحديث للحقائق التاريخية، فإنه إذا تحدّثت رواية عن أمرٍ يخالف الحقائق التاريخية كان ذلك دليل كذبها ولو في الجملة، وقد اعتمد العلامة التستري على هذه القرينة في العديد من المواضع، مثل ما جاء في أنّ البراء بن معرور قد أكل بعد معركة خيبر ذراعاً مسمومةً مشوية، حيث اعتبر التستري هذه الرواية موضوعةً؛ لأنّ البراء مات قبل الهجرة(118).
ومن أمثلة ذلك ما ذكره العلامة الطباطبائي من الردّ على الرواية الواردة عن عبد الله بن الزبير عن رسول الله| أنه قال: μإنّما سمّى الله البيت العتيق؛ لأنّ الله أعتقه من الجبابرة، فلم يظهر عليه جبار قط(119)، وقد علّق الطباطبائي بقوله: μأما هذه الرواية فالتاريخ لا يصدّقها، وقد خرّب البيت، ثم غيّره عبد الله بن الزبير نفسه، ثم الحصين بن نمر… ويمكن أن يكون مراده عما مضى على البيت (120).
ومن أمثلة ذلك رواية شهر بن حوشب الواردة في الكافي من أنّه سأله الحجاج عن خروج النبي إلى مشاهده؟ فقال: شهد رسول الله بدراً في ثلاثمائة، وشهد أحداً في سبعمائة، وشهد الخندق في تسعمائة، فقال: عمّن؟ قلت: عن جعفر بن محمد× فقال: ضلّ والله من سلك غير سبيله(121).
وقد علّق العلامة التستري بأنّ الحجّاج توفي عام 95هـ، وإمامة الصادق× كانت عام 114هـ؛ لهذا يبعد تصديق الخبر(123).
لكن توجد إشكالية مهمّة هنا وقع فيها غير واحد من ناقدي الحديث، وهي أنّ التاريخ الذي نعتمد عليه في نقد الحديث يجب أن يكون مؤكّداً، لا أن يكون ثابتاً بخبر آحادي مماثل للخبر الذي نريد توجيه النقد إليه؛ وإلا فكما يمكن كذب الخبر الأول كذلك الثاني وبالعكس، فلا يصحّ الاستعجال هنا أيضاً، بل لابدّ من التريث للترجيح.
9 ـ أن يكون مضمون الحديث بحيث تكثر الدواعي إلى نقله، ولو كان لبان، فإنّ عدم وروده إلا في رواية أو روايتين دليل كذبه(124)، وهذا منطق عقلائي يستخدمه العقلاء في حياتهم، فلو ادّعت رواية أن الإمام الحسين× ظلّ حياً إلى وصولهم إلى الشام وأن يزيد بن معاوية أعدمه في الشام، فلا يمكن تصديقها، بصرف النظر عن حقائق التاريخ الأخرى؛ لأنه لو كان هذا صحيحاً لنقل وعرف واشتهر لكثرة الدواعي لنقل أحداث الحسين× عند المسلمين، فكيف لم يروِ هذا الخبر غير واحد أو اثنين؟!
10 ـ أن يشتمل الحديث ثواباً عظيماً على أمرٍ بسيط، أو عقاباً هائلاً على معصية صغيرة(125)، فهنا تشمّ رائحة الوضع، كأن يقول: من رفع الأذى من الطريق ولو مرّة كان له ثواب جميع الأنبياء، فإنّ هذا الأمر لا يمكن تصديقه، أو يقول: من نظر نظرة حرام خلّد في جهنّم ولم يقبل الله له توبةً قط..
إنّ هذا النوع من الروايات كثيرٌ في الفضائل وعند القصّاصين أيضاً، ويحتاج إلى حذر شديد كي لا يقع الباحث في شرك وضّاع ذكي.
هذه هي أهمّ علامات الوضع في الحديث، وأما ما ذكر غيرها فهو راجع إليها لا حاجة إلى إفراده بعنوانه، بل لا خصوصية تقتضيه، مثل ما فعله الدكتور الفضلي من علامات إضافية، كاشتمال المتن على الإسرائيليات المخالفة للعقيدة الإسلامية، أو اشتماله على فكرة من أفكار الغلو، أو احتوائه منقبة أو مثلبة لمن ليس لها بأهل أو بمستحقّ، أو الإشارة إلى معجزة أو كرامة في موقف لا يتطلّبه(126)، وغيرها من الموارد(127).
فإنّ الأولى لا موضوعية لها؛ لرجوعها لمخالف العقل والكتاب والسنّة؛ لأن هذا هو معيار مخالفة العقيدة، والثانية لا موضوعية لها كالأولى؛ لأنّ هذه الثلاثة (فكرة غلوّ، منقبة، مثلبة) هي المعيار في تحديد الغلوّ أو التقصير، والثالثة تفترض علماً مسبقاً بعدم الأهلية أو الاستحقاق ولا يكون إلا بحسّ أو تجربة أو كتاب أو سنة أو تاريخ أو نحو ذلك، والرابعة محض تأوّل؛ فإنّ المعجزة غير مشروطة ـ عقلاً ولا شرعاً ـ بموارد الحاجة بحسب فهمنا نحن للحاجة، بل الكرامة في ذلك أوضح.
الخاتمة
ظهر من مطاوي ما أسلفناه أهمية دراسة الوضع والحديث الموضوع، ورأينا كيف أنّ هذا الأمر يكاد لا يخلو منه كتاب في الحديث، وأنّ الأهم من كل شيء أن يملك المشتغل بالحديث ثقافةً وخبرة وحسّاً تسمح له مع اجتماعها بالتقاط عناصر القوة والضعف في هذه الرواية أو تلك، كي لا يطيح بحديث قد صدر واقعاً، نتيجة استعجاله الأمور أو حرقه المراحل، ولا تنطلي عليه كذبة كاذب فيُدخل في الدين ما ليس منه.
_______________________________________________________________
(*) نشر هذا البحث في كتاب (دراسات في الفقه الإسلامي المعاصر) المجلّد الثالث، للمؤلّف.
(1) انظر: معجم مقاييس اللغة 6: 117 ـ 118؛ والقاموس المحيط 3: 94 ـ 95.
(2) انظر: النووي، شرح مسلم 1: 56؛ والمامقاني، مقباس الهداية 1: 399؛ ومقدمة ابن الصلاح: 77؛ والفضلي، أصول الحديث: 132؛ والقاسمي، قواعد التحديث: 150؛ والشهيد الثاني، الرعاية: 205؛ والسيوطي، تدريب الراوي: 231، 232؛ وابن جماعة، المنهل الرويّ في مختصر علوم الحديث النبوي: 53.
(3) انظر: رجال النجاشي: 122.
(4) راجع: تاريخ ابن معين الدوري 1: 401.
(5) انظر: اختيار معرفة الرجال 2: 490.
(6) أشار الملا صدرا إلى أنّ حركة الوضع كانت أحد أسباب وقوع التعارض، فانظر له: شرح أصول الكافي 1: 208.
(7) الآشتياني، مجلة كيهان انديشه (بالفارسية)، العدد 1: 18.
(8) انظر: مقباس الهداية 1: 406؛ ومحمد عجاج الخطيب، أصول الحديث: 427.
(9) انظر: تدريب الراوي 1: 240؛ والخطيب، أصول الحديث: 428؛ وقواعد التحديث: 173.
(10) انظر: شرح مسلم 1: 70؛ ومقباس الهداية 1: 415 ـ 416، وتدريب الراوي 1: 239 ـ 240؛ والحسين بن عبد الصمد الكركي، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار: 415 ـ 416؛ والميرداماد، الرواشح السماوية: 283؛ والمنهل الرويّ: 54؛ والرعاية: 208؛ والخطيب، أصول الحديث: 427 ـ 428.
(11) انظر: ابن حجر، فتح الباري 1: 95.
(12) الهيثمي، مجمع الزوائد 1: 144، 146.
(13) المصدر نفسه؛ وانظر: تدريب الراوي 1: 240.
(14) الطبراني، طرق حديث من كذب علي متعمداً: 233.
(15) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 592.
(16) انظر: ابن الجوزي، الموضوعات 1: 95؛ والرعاية: 208 ـ 209؛ والرواشح: 283؛ ومقباس الهداية 1: 415.
(17) فتح الباري 1: 178.
(18) الكفاية في علم الرواية: 145 ـ 147.
(19) ابن الصلاح، علوم الحديث 98 ـ 99؛ والرواشح: 277؛ ومقباس الهداية 1: 399، 417؛ وصبحي الصالح، علوم الحديث: 295؛ وتدريب الراوي 1: 232.
(20) مقباس الهداية 1: 399؛ وقواعد التحديث: 150؛ وتدريب الراوي 1: 232.
(21) الرعاية: 205؛ والخطيب، أصول الحديث: 428؛ ونور الدين عتر، منهج النقد في علوم الحديث: 301؛ وتدريب الراوي 1: 232؛ والمنهل الروي: 53.
(22) انظر: الخطيب، أصول الحديث: 428.
(23) مقباس الهداية 1: 418 ـ 419.
(24) مقباس الهداية 1: 417.
(25) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 285 ـ 300.
(26) المصدر نفسه 1: 199.
(27) القاسمي، قواعد التحديث: 173؛ وتدريب الراوي 1: 232.
(28) صحيح البخاري 1: 35؛ والعلامة المجلسي، بحار الأنوار 104: 200.
(29) صحيح مسلم 1: 7؛ وسنن ابن ماجة 1: 15.
(30) انظر: النووي، شرح مسلم 1: 71؛ وعجاج الخطيب، أصول الحديث : 428؛ وعتر، منهج النقد في علوم الحديث: 301؛ وصبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه: 295.
(31) راجع: عجاج الخطيب، أصول الحديث: 428؛ وعثر، منهج النقد في علوم الحديث: 301؛ وابن حجر، الإصابة 5: 512.
(32) الإدلبي، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي: 60.
(33) علوم الحديث ومصطلحه: 282.
(34) انظر: ابن الصلاح، علوم الحديث: 100؛ ومقباس الهداية 1: 416.
(35) ابن الصلاح، علوم الحديث: 100؛ وتدريب الراوي 1: 242 ـ 243؛ ومقباس الهداية: 1: 416.
(36) البهبودي، حوار صحيفة كيهان فرهنكي، ع31: 7.
(37) معرفة الحديث: 249 ـ 273.
(38) صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه: 283.
(39) انظر: البهائي، الوجيزة: 543، سلسلة رسائل في دراية الحديث ج1؛ والرواشح: 275 ـ 276.
(40) الطوسي، الغيبة: 181 ـ 182؛ وانظر: الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين 4: 464.
(41) الأخبار الدخيلة: 229 ـ 230.
(42) انظر: النعماني، الغيبة: 235.
(43) اختيار معرفة الرجال 2: 489 ـ 490.
(44) اختيار معرفة الرجال 2: 491.
(45) تاريخ بغداد 5: 278؛ والسمعاني، الأنساب 5: 312.
(46) الغدير 5: 290 ـ 291.
(47) محمد عجاج الخطيب، أصول الحديث، علومه ومصطلحه: 415.
(48) المصدر نفسه: 416 ـ 417.
(49) المصدر نفسه: 417، وانظر في هذا الرأي أيضاً: صبحي الصالح، علوم الحديث: 286.
(50) أحمد أمين، فجر الإسلام: 210 ـ 211؛ ومحمود أبو ريّة، أضواء على السنّة المحمدية: 65.
(51) الادلبي، منهج نقد المتن عند علماء الحديث النبوي: 41.
(52) انظر مقدمة مركز الغدير لكتاب الشيخ الأميني، الوضاعون وأحاديثهم: 12 ـ 13.
(53) حديث: μخير القرون قرنيν، ناقشناه في محلّه سنداً ودلالة.
(54) الطبرسي، الاحتجاج 2: 246.
(55) الكافي 1: 62؛ والخصال: 255 ـ 256؛ وكتاب سليم بن قيس الهلالي: 181؛ والنعماني، الغيبة: 81.
(56) نهج البلاغة 2: 188 ـ 189.
(57) مجمع الزوائد 1: 140 ـ 141؛ والضحاك، الآحاد والمثاني 5: 105 ـ 106؛ والمعجم الكبير 20: 300؛ والطبقات الكبرى 7: 63؛ والتاريخ الكبير 8: 53 و..
(58) انظر: الهيثمي، مجمع الزوائد 1: 141.
(59) الطحاوي، مشكل الآثار 1: 164 ـ 165؛ والعسكري، تصحيفات المحدثين 2: 464؛ وابن شاهين، ناسخ الحديث ومنسوخه: 526؛ وابن الجوزي، الموضوعات 1: 55.
(60) انظر: تهذيب الكمال 13: 33 ـ 35؛ ومعجم رجال الحديث 10: 65.
(61) انظر: ناصر رفيعي المحمدي، دروس في وضع الحديث: 29، ترجمة: قاسم البيضاني.
(62) تعرّض كلّ المشتغلين بالحديث وأصوله وعلومه إلى أسباب الوضع، واعتمدوا كثيراً على سرد الأمثلة، وممّن أطال ويمكن مراجعة ما كتب، هو العلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي في كتابه أصول الحديث: 174 ـ 205، نشر مركز الغدير، والدكتور ناصر رفيعي محمدي في كتابه: دروس في وضع الحديث: 41 ـ 123. نشر دار المصطفى| العالمية، إيران.
(63) انظر: أحمد أمين، فجر الإسلام: 212 ـ 213.
(64) شرح نهج البلاغة 11: 48 ـ 49.
(65) انظر: فجر الإسلام: 214.
(66) الجرح والتعديل 2: 32 ـ 33؛ ولسان الميزان 1: 11.
(67) الصدوق، عيون أخبار الرضا 2: 272.
(68) انظر: مقباس الهداية 1: 412 ـ 414؛ وعلي مطر، إثبات صدور الحديث بين منهجي نقد السند ونقد المتن: 35؛ والمنهل الروي: 54.
(69) المدخل إلى أصول الحديث: 160.
(70) انظر: ابن الصلاح، علوم الحديث: 99؛ وفجر الإسلام: 214 ـ 215؛ وتدريب الراوي 1: 238؛ ومقباس الهداية 1: 409 ـ 412؛ والكركي، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار: 415؛ والشهيد الثاني، الرعاية لحال البداية: 206؛ والمنهل الروي 54.
(71) انظر: الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد 5: 284؛ وابن الجوزي، الموضوعات 1: 40؛ والذهبي، ميزان الاعتدال 1: 141.
(72) الرعاية لحال البداية: 206.
(73) انظر: الرعاية: 208؛ والخطيب، أصول الحديث: 428 ـ 429.
(74) انظر: صحيح مسلم 1: 14 ـ 15؛ وتدريب الراوي 1: 238.
(75) انظر: تدريب الراوي 1: 241 ـ 242؛ ومقباس الهداية 1: 406 ـ 407؛ وفجر الإسلام: 214.
(76) انظر: أحمد أمين، فجر الإسلام: 213 ـ 214؛ وهذا النوع من دوافع الوضع يصلح وضعه هنا وفي الدوافع الانتمائية أيضاً كما تقدّم.
(77) انظر: الذريعة 2: 11، و20: 8، و24: 303، و26: 212.
(78) رضا أستادي، سخنى درباره الأخبار الدخيلة، مجلّة: آيينه بزوهش (الفارسية)، العدد 33: 16.
(79) انظر: حيدر حب الله، نظرية السنّة في الفكر الإمامي الشيعي: 200 ـ 202.
(80) انظر: الفضلي، أصول الحديث: 210 ـ 213.
(81) انظر: المصدر نفسه: 212 ـ 213.
(82) سخني درباره الأخبار الدخيلة، مجلّة آيينه بزوهش، العدد 33: 16.
(83) المصدر نفسه: 15.
(84) هاشم معروف الحسني، الموضوعات في الآثار والأخبار: 88 ـ 89.
(85) أقصد هنا الاتجاهات الكلاسيكية الممتدّة عبر الزمن، لا الحركة النقدية المتأخرة.
(86) المصدر نفسه: 18.
(87) انظر: محمد عجاج الخطيب، أصول الحديث: 432؛ والفضلي، أصول الحديث: 206 ـ 207؛ وصبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه: 283؛ ومقباس الهداية 1: 400 ـ 401؛ والمنهل الرويّ: 54.
(88) انظر: دروس في وضع الحديث: 154 ـ 155؛ وتدريب الراوي 1: 232.
(89) انظر: البخاري، التاريخ الصغير 2: 192؛ وابن عدي، الكامل 5: 24؛ وابن الجوزي، الموضوعات 3: 254 و…
(90) صحيح مسلم 1: 56؛ وانظر: الجرح والتعديل 7: 263؛ وتاريخ مدينة دمشق 53: 77 و..
(91) راجع: الخطيب، أصول الحديث: 432 ـ 433؛ والكفاية: 147 ـ 148 وتدريب الراوي: 232 ـ 233؛ ومقباس الهداية 1: 402.
(92) راجع: تاريخ بغداد 4: 397 ـ 398.
(93) محمد عجاج الخطيب، أصول الحديث: 433.
(94) انظر: دروس في وضع الحديث: 156 ـ 157؛ والكفاية في علم الرواية: 168 ـ 170.
(95) انظر: صبحي الصالح، علوم الحديث ومصطلحه: 285؛ والفضلي، أصول الحديث: 207.
(96) راجع: دروس في وضع الحديث: 157 ـ 158.
(97) انظر: الفضلي، أصول الحديث: 207.
(98) راجع: تدريب الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 402 ـ 403.
(99) راجع: الخطيب، أصول الحديث: 433؛ والصالح، علوم الحديث: 283 ـ 284؛ وتدريب الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 403 ـ 404.
(100) نهج البلاغة 3: 56؛ والكافي 5: 510؛ وكتاب من لا يحضره الفقيه 3: 556، و4: 392؛ وتحف العقول: 87؛ وخصائص الأئمة: 118.
(101) الكافي 1: 103 ـ 104، 138؛ والصدوق، التوحيد: 61، 115 و..
(102) تدريب الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 404؛ والفضلي، أصول الحديث: 207؛ والخطيب، أصول الحديث: 434.
(103) الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 333 ـ 335؛ ومباحث الأصول 5: 652 ـ 653؛ والسيستاني، الرافد في علم الأصول 1: 11 ـ 12؛ وانظر: هاشم معروف الحسني، دراسات في الحديث والمحدّثين: 314؛ ولاحظ ـ لمزيد من الاطلاع ـ كلام: حسين إمامي كاشاني، أصول الإمامية: 46 ـ 47.
(104) الصدر، بحوث في علم الأصول 7: 333 ـ 334.
(105) الكليني، الكافي 5: 352؛ وتفصيل وسائل الشيعة 20: 83 ـ 84.
(106) انظر على سبيل المثال: الحلي، الجامع للشرائع: 245؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 3: 186.
(107) انظر: الفضلي، أصول الحديث: 207؛ وتدري الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 404.
(108) تدريب الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 404؛ ومحمد عجاج الخطيب، أصول الحديث: 434، 435.
(109) انظر: الصالح، علوم الحديث: 284 ـ 285؛ والفضلي، أصول الحديث: 207؛ وتدريب الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 404.
(110) انظر: كنز العمال 5: 55؛ ومصنف الصنعاني 5: 94؛ وإرواء الغليل 5: 322؛ وابن الجوزي، الموضوعات 1: 100؛ وتهذيب التهذيب 6: 162.
(111) تفصيل وسائل الشيعة 13: 300.
(112) انظر: تفصيل وسائل الشيعة 1: 134.
(113) تدريب الراوي 1: 233؛ ومقباس الهداية 1: 404.
(114) راجع: الفضلي، أصول الحديث: 208 ـ 209.
(115) كتاب من لا يحضره الفقيه 2: 193.
(116) المصدر نفسه 1: 542 ـ 543.
(117) بحار الأنوار 42: 18.
(118) الأخبار الدخيلة: 163.
(119) النيسابوري، المستدرك 2: 389.
(120) الميزان 14: 379.
(121) الكافي 5: 46.
(122) الأخبار الدخيلة: 11.
(123) مقباس الهداية 1: 404.
(124) انظر: الخطيب، أصول الحديث: 436؛ والصالح، علوم الحديث: 285؛ ومقباس الهداية 1: 404.
(125) عبد الهادي الفضلي، أصول الحديث: 209.
(126) انظر: المامقاني، مقباس الهداية 1: 405 (الهامش).