أحدث المقالات
خلاصة
يعتقد فقهاء الإسلام بأنّ الشريعة الإسلاميّة هي شريعة شاملة وثابتة, كما أنّ هناك العديد من الروايات الواردة عن المعصومين‡ تدلّ بدورها على شموليّة هذه الشريعة وثباتها. هذا ونتيجةً للتحوّل اللَّافت الذي طرأ على المجتمعات البشريّة، منذ زمن التشريع حتى عصرنا هذا ـ وخاصّة في القرنين الأخيرين ـ فقد طرح تساؤل دقيق عن كيفيّة التوفيق بين شموليّة الشريعة الإسلاميّة وثبـاتها وبين هذا التحوّل الكبير.
يطرح الشهيد الصدر، للإجابة عن هذا السؤال، نظريّته المسمّاة بـ «منطقة الفراغ». وستسعى هذه المقالة إلى عرض النظريّة البديلة, التي تشكلّ، في نظر الكاتب، إجابة واضحة عن هذا التساؤل, مدّعياً انسجامها كذلك مع الروايات التي تتعرّض لشموليّة الشريعة وثباتها, وذلك بعد توضيح نظريّة الشهيد الصدر وتسجيل بعض الانتقادات عليها. ويجدر بالذكر أنّ النظريّة البديلة إنّما تُبنى بشكل مختصر على المقدّمات الآتية:
إنّ العلم والتجربة البشريّة هما المسئولان ـ على مرّ الزمان ـ عن إحداث التغييرات الأساسيّة في الحياة البشرية, وذلك من خلال مستويين هما: علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالإنسان.
لا يخفى أنّ هذه التغييرات قابلة للتوجيه والإدارة.
إنّ مسألة شموليّة الشريعة وثباتها مرتبطة، بشكل مباشر ووثيق بالعناوين العامة للعلاقات, لا بمصاديقها.
يمكن تقسيم عناوين العلاقات إلى ثلاث مجموعات: عناوين أوليّة وعناوين ثانويّة وعناوين عامّة.
بيّنت الشريعة الإسلاميّة حكم كلّ عنوان على أساس المصالح والمفاسد, وذلك على نحو القضية الحقيقيّة, وليس هناك من عنوان إلاّ وقد بُيّن حُكمه؛ إمّا بصورة مباشرة أو غير مباشرة (من خلال العموميَّات).
يقوم الشارع الحكيم سبحانه وتعالى ـ من خلال تشريع الأحكام الثانويّة ـ بتوجيه التغييرات وإدارتها في سبيل تحقيق الأهداف المتوخّاة. وعلى هذا الأساس, يمكن استنباط حكم كلّ تغيير يستجدّ على مستوى العلاقات من خلال الجهاز التشريعيّ. ونستنتج من ذلك أنّ حُكم العناوين يكون ثابتاً؛ بينما يكون حُكم المصاديق قابلاً للتغيير.
مقدّمة
يرى المفكّرون والفقهاء المسلمون العظام أنّ الشريعة الإسلاميّة جامعة وثابتة. وفي هذا الصدد يقول الإمام الخمينيّ:
«يقدّم الفقه نظريّة واقعيّة ومتكاملة لإدارة شؤون الإنسان من المهد إلى اللحد(۱). ويُعدّ [الإسلام] مدرسةً مختلفة بشكل جذريّ عن بقيّة المدارس غير التوحيديّة, وذلك على مستوى مواكبتها ومتابعتها لجميع الشؤون الفرديّة والاجتماعيّة والمادّية والمعنويّة والثقافيّة والسياسيّة والعسكريّة والاقتصاديّة, كما أنّها لم تغفل عن أيّة نقطة لها دور في تربية الإنسان والمجتمع, وذات تأثير على تطوّرهما الماديّ والمعنويّ حتّى وإنْ كانت تافهة»(۲) .
وفي هذا الإطار, هناك روايات كثيرة تدلّ على شموليّة الشريعة. ومن باب المثال, نجد أنّ الإمام الصادق عليه السلام يصف الأشخاص الذين كانوا يقولون: نعمل برأينا في المسائل التي لا يوجد حُكمها في الكتاب والسنّة النبويّة:
«كَذَبُوا! لَيْسَ شَيْ‏ءٌ إِلاّ وَقَدْ جَاءَ [حُكمه] فِي الْكِتَابِ وَجَاءَتْ فِيهِ السُّنَّةُ»(۳).
كما أنّ هناك روايات كثيرة تدلّ على ثبـات الشريعة أيضاً؛ من جملتها قول الإمام الباقر%:
«قال جدّي رسول الله (صلى الله عليه وآله): أَيُّهَا النَّاسُ حَلالِي حَلالٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحَرَامِي حَرَامٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة»(۴).
هذا، وقد أثار التحوّل اللَّافِت الذي طرأ على المجتمعات البشريّة ـ منذ زمن التشريع حتى الآن، وخصوصاً في القرنين الأخيرين ـ تساؤلاً مهمّاً عن كيفيّة التوفيق بين شموليّة الشريعة الإسلاميّة وثباتها من جهة وهذا التحوّل من جهة أخرى.
فكيف يمكن للأحكام الثابتة أنْ تقود الناس، في تصرّفاتهم وعلاقاتهم باتجاه الأهداف التي يتطلّع إليها الإسلام، في جميع الميادين, وبالنسبة لجميع الناس وفي جميع الأزمنة؟
وأصل هذا السُّؤال إنّما يتوجّه إلى نصّ الشريعة التي شُرّعت من قِبَل الله تعالى, وبُلّغت بوساطة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) والأئمّة (عليهم السلام), وهو لا يتناول طريقة استكشاف تلك الشريعة في عصر الإجتهاد. وبعبارةٍ أخرى, فإنّ السؤال يتعلّق بدور الزمان والمكان في الشريعة, وليس بدورهما في عمليّة الاجتهاد والاستنباط؛ لكن، وفي الوقت نفسه, يرتبط هذان السؤالان أحدهما بالآخر، بحيث يكون للجواب عن الأوّل أثر في الجواب عن الثاني.
وفي السياق نفسه, يُطرح هذا البحث في مجال الأحكام الاقتصاديّة التي تكون منشأً لاكتشاف المذهب والنظام الاقتصاديّ في الإسلام. فمقتضى جامعيّة الشريعة الإسلاميّة وثباتها ألاّ يُغفل فيها عن بيان حُكمِ أيّ تصرّف أو علاقة في المجالات الثلاثة: الإنتاج والتوزيع والإستهلاك, فلا بدّ من أن تكون أحكامها ثابتة وعالميّة أيضاً. وبعبارة أخرى, يلزم من شموليّة الشريعة الإسلاميّة وثباتها أن يكون للإسلام نظام اقتصاديّ جامع وشامل, ثابت وعالميّ؛ وحينئذ يُطرح علينا هذا السؤال مرّة أخرى: كيف تتلاءم الشموليّة والثبات في هذا المجال مع التحوّلات السريعة واللافتة التي تطرأ على الأفعال والعلاقات.
في جوابه عن هذا السؤال, قام الشهيد الصدر، في كتابه: "إقتصادنا"، بطرح نظريّة تحت عنوان »منطقة الفراغ التشريعيّ« لتظهر بعد ذلك عدّة مقالات في صدد توضيحها ورفع الإشكالات المتوجّهة إليها, بل وتعديلها في بعض الأحيان؛ إلاّ أنّ بعض الإشكالات لم تعالَج حتّى الآن. ويبدو أنّ هذه النظريّة لم تكن موفّقة في الإجابة عن السؤال السالف.
بعد توضيح هذه النظريّة ونقدها, ستسعى هذه المقالة إلى عرض النظريّة البديلة التي تشكّل في نظر الكاتب إجابة واضحة عن هذا السؤال وتكون متلائمة أيضاً مع الروايات التي تتحدّث عن جامعيّة الشريعة وثباتها.
بيان الموضوع
يُطرح السؤال: «كيفيّة انسجام ثبات الشريعة مع تحوّل المجتمعات»، في شأن الأحكام التي تكون موضوعاتها عرضة للتحوّل والتغيير. ويرتبط موضوع الأحكام الشرعيّة بإحدى العلاقات الأربع الآتية:
علاقة الإنسان بنفسه.
علاقة الإنسان بالله.
علاقة الإنسان بالطبيعة.
علاقة الإنسان بالآخرين.
فقد شُرّعت، في الإسلام، أحكام متنوّعة لتنظيم هذه العلاقات, بما يضمن للإنسان والمجتمع سلامة السير على جادّة السعادة الدنيويّة والأخرويّة. ويتوجّه السؤال آنف الذكر بشكل أساسيّ إلى الأحكام التي شُرّعت لتنظيم العلاقات الإنسانيّة الإجتماعيّة, وكذلك علاقة الإنسان بالطبيعة؛ لأنّ هذه العلاقات تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان, وتتحوّل بتطوّر العلوم؛ فهي تغييرات تحصل على أثر تطوّر العلوم والفنون, وتقترن بتطوّر خلاقيّة الإنسان واهتدائه إلى أدوات ووسائل جديدة, تساعده على التحكّم في الطبيعة وتسهيل عمليّة خلق علاقات إجتماعيّة جديدة وتسريعها.
نظريّة منطقة الفراغ
بيّن الشهيد الصدر نظريّته في موضعين من كتاب "إقتصادنا"(۵)، وأوضح، بعض تلامذته نظريّة أستاذهم(۶). وسنسعى من جهتنا إلى بيان هذه النظريّة في ثلاثة محاور.
 مفهوم منطقة الفراغ
تشتمل الشريعة الإسلاميّة على قسمين: قسم يحتوي على تشريعات إلهيّة ثابتة »منجّزة« وغير قابلة للتغيير والتبديل. وقسم آخر أُوْكِل أمره إلى وليّ الأمر نفسه, بحيث لا يحتاج إلى أيّ تشريع إلهيّ ثابت غير قابل للتغيير, ما يفضي بوليّ الأمر إلى أنْ يحكم فيه على أساس الأهداف الكلّية للإسلام ومقتضياتها. ويُعدّ القسم الثاني هو منطقة الفراغ؛ يعني المنطقة الفارغة من التشريعات الثابتة وغير القابلة للتغيير.
 ضرورة وجود منطقة الفراغ
لا يخفى أنّ الشريعة الإسلاميّة ليست شريعة مؤقّتة؛ بل هي أبديّة وعالميّة. ونظراً إلى تطوّر المجتمعات لا بدّ من أن تشتمل على عنصر متغيّر يمكنها من خلاله أن تظهر بوصفها نظريّة ومشروعاً أبديّاً عالميّاً يسعى إلى إدارة المجتمعات وسَوقها نحو سعادة الدنيا والآخرة. وتوضيحاً لهذا الأمر, لا بدّ لنا من تعيين الجوانب المتغيّرة في حياة الإنسان, وتوضيح تأثيرها على البرنامج التشريعيّ الإسلاميّ الذي يُنظّم الحياة الإنسانيّة. فمن الواضح أنّ  هناك نوعين من العلاقات في دائرة الحياة الإنسانيّة: علاقة الإنسان بالطبيعة، وعلاقته بالآخرين. فالعلاقة الأولى ليست متوقّفة على وجود المجتمع؛ ولكنها متأثّرة به؛ حيث أنّ وجود المجتمع هو سبب في تراكم التجارب ونموّ رأس المال البشريّ المرتبط بمعرفة الطبيعة, ما يؤثّر في توسعة دائرة حاجات الإنسان ورغباته تبعاً لذلك, نعم لا يمكن لعلاقة الإنسان بالطبيعة أن تكون عاملاً مؤثّراً في تنظيم علاقته بالناس الآخرين.
وعلى أثر مواجهة الإنسان للمشاكل الجديدة وإيجاده للحلول المتنوّعة لها، ستتحوّل علاقته بالطبيعة، مع مرور الزمان، إلى عاملٍ يسلّحه بوسائل جديدة وطرائق ناجعة أقوى وأكثر كفاءة في تسخيرها والاستفادة منها. أمّا علاقة الإنسان بأفراد نوعه, فهي بطبيعتها ليست متحوّلة ولا متغيّرة؛ لأنّ الهدف منها هو حلّ المشاكل الثابتة؛ ولهذا السبب تكون هذه العلاقات مبنيّة على قواعد ثابتة؛ وإن كان من المحتمل أن يتغيّر شكلها الظاهري؛ فمن باب المثال: إنّ كل شعب يحصل على ثروةٍ ما من خلال ارتباطه بالطبيعة هو محتاج إلى قاعدة للتوزيع, ولا يتأثّر ذلك بآليّات الإنتاج وتغيّر وسائلها وطرقها، سواء كانت بسيطة أم معقّدة متطوّرة. وبناءً على ذلك, فالتشريعات التي تُنظّم هكذا علاقات استناداً إلى الرؤية الإسلاميّة إلى العدالة, يمكن نظرياً أن تكون ثابتة؛ بوصفها ناظرة إلى حلّ المشاكل الثابتة. لذلك كان من الطبيعي جدّاً أن يعرض الإسلام أصوله النظريّة والتشريعيّة في قالب أصول ثابتة, تستطيع أن تُؤطّر علاقات الناس بعضهم ببعض عبر العصور المختلفة؛ لكنّ هذا لا يعني أنّ الإسلام أهمل الجهات المتحوّلة في حياة الإنسان, أي علاقته بالطبيعة؛ لأنّ تحوّل هذه العلاقة وتطوّر الإنسان في استفادته من الطبيعة, يهدّدان البرنامج الذي تُبنى عليه العدالة الإجتماعيّة. فلا يمكن في العصر الذي أصبحت فيه الوسائل الزراعيّة آليّة أن يقال: كلّ من يحيي أرضاً فهو مالك لها! لأنّه في هذه الصورة, سيتحوّل أفراد قليلون ممّن يستطيعون أن يحيوا أراضٍ كثيرة إلى ملاّك كبار, وهو ما يعرّض التوزيع العادل للخطر, والحال أنّ ذلك هو من أهمّ الأهداف الإسلاميّة. فللوقوف أمام هذا التهديد, لا بدّ من أن يؤخذ بعين الإعتبار في البرنامج التشريعيّ منطقة خالية يحكم فيها الوليّ الفقيه على أساس مقتضيات الزمان, ذلك كلّه مقدّمة لتحقيق الأهداف الإسلاميّة.
 حدود منطقة الفراغ
تشمل منطقة الفراغ الأفعال التي لم يُشرّع لها حُكمٌ إلهيّ إلزاميّ من وجوب أو حرمة؛ لذلك فهي تختصّ بالمواضيع التي يكون حكمها الشرعي الأوليّ هو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة. ففي هذه الموارد, يستطيع الوليّ الفقيه أن يحكم بالوجوب أو الحرمة على أساس مصالح الإسلام وأهدافه, وذلك من خلال الاستناد إلى الأصول اللازمة التي حصل عليها من المنطقة المملوءة في الشريعة؛ نعم في موارد الحكم الإلزاميّ التي يُشخّص فيها حصول تزاحم بين الأحكام, يستطيع الفقيه أيضاً أن يحكم بتقديم الأهمّ على المهمّ؛ غير أنّ هذا الفرع خارج عن بحثنا.
نقد نظريّة الشهيد الصدر
 يُفهم من كلمات الشهيد الصدر أنّ تغيّر علاقة الإنسان بالطبيعة يعدّ أمراً طبيعياً وناشئاً من طبيعة الإنسان؛ فالإنسان موجود مفكّر ومبدع، ولا يمكن الوقوف أمام تطوّره في هذا المجال؛ لأنّ جموده حينئذ سيكون بمنزلة السجن الفكريّ البشري. وبناءً عليه, فإنّ الإسلام لا يعيّن برنامجاً ثابتاً في سبيل تنظيم هذه العلاقة؛ أمّا في ما يخصّ علاقة الإنسان بأفراد نوعه, فالأمر مختلف تماماً؛ إذ إنّ هذه العلاقة تكون ثابتةً في حلّها للمشاكل؛ ولهذا لا شيء يمنع الإسلام من امتلاك برنامج تشريعيّ ثابت يُؤطّر هذه العلاقة. ويمكننا أن نستنبط من هذا الكلام قضيّتين كلّيتين:
الأولى: إنّ هدف العلاقة القائمة بين أبناء البشر هو تأمين حاجاتهم الثابتة.
الثانية: إنّ علاقة البشر بالطبيعة في تغيّر دائم وتحوّل مستمر.
بيد أنّ الشهيد الصدر لم يتمكّن من إقامة دليل جامع ومانع على هذين الإدّعاءين الكليّين؛ ففي الواقع, يمتلك كلا القسمين أموراً ثابتة وأموراً متغيّرة, كما أنّ الذهن الإنسانيّ المبدع هو في سعي دائم للظفر في كلا المجالين بوسائل ومناهج وعلاقات جديدة.
ولهذا نجد أنّ الإنسان، ومن خلال سيطرته على الطبيعة، يسعى إلى إنتاج المواد الأوليّة والسِّلع الزراعيّة وبعض المعدّات الضروريّة. ومع تطوّر العلوم والفنون وتنامي التجارب، يتمكّن من الاهتداء إلى اكتشافات واختراعات جديدة يوماً بعد يوم. وبوساطة الوسائل والمناهج الجديدة التي حصل عليها, يكتسب الإنسان القدرة على تسخيرٍ أكبر للطبيعة وإنتاجٍ أحدث للبضائع والخدمات. تبرز على السطح ـ بالموازاة مع الحاجات الثابتة (الأساسيّة) من قبيل الحاجة إلى الغذاء واللباس والمسكن ـ حاجاتٌ جديدة نظير الحاجة إلى الثلّاجة, جهاز التلفزة, السيّارة والحاسوب، والتي هي نتيجة للاكتشافات والاختراعات الجديدة.
وعلى هذا المنوال نفسه, تكتنف العلاقات السائدة بين أفراد الإنسان حالة من التغيير والتكامل؛ فالظفر بالمعدّات والآلات الحديثة, إضافةً إلى أنّه يؤدّي إلى تسهيل العلاقات السابقة وتسريعها وتعميمها, فإنّه يفضي إلى ظهور حاجات جديدة وعلاقات مستحدثة؛ ما يؤدّي في النهاية إلى ولادة قوانين حقوقيّة, وبروز أحكام قضائيّة وجزائيّة جديدة. وتنبع هذه التغييرات من التغيّر والتكامل الطارئين على علاقة الإنسان بالطبيعة؛ ومثالاً على ذلك نلاحظ أنّه بانتقالنا من عصر الثورة الزراعيّة إلى عصر الثورة الصناعيّة, تمّ اختراع وسائل النقل الجديدة (نظير السيارة, القطار والطائرة), وكذلك أجهزة الطباعة, التصوير, المذياع, التلفاز والهاتف وبقية وسائل الاتصال العامّة, وفي نهاية المطاف كان اختراع الحاسوب, الإنترنت والأجهزة الذكيّة…
وقد أدّى ذلك إلى إيجاد تحوّلات جذريّة في العلاقات الإنسانيّة وإلى نشأة حقوق فرديّة جديدة, ما استدعى وضع قوانين تكون قادرة على تأطير هذه العلاقات والتنسيق بينها في سبيل الوصول إلى الأهداف المرجوّة منها في عصرَي الحداثة وما بعد الحداثة. كما أنّ الإنسان، وفي سبيل تسريع العلاقات الاجتماعيّة وتسهيلها, قام عبر التاريخ باختراع بعض المعدّات التي أحدثت في بعض الأحيان تحوّلات جذريّة في العلاقات المذكورة, فكان يقتضي ذلك إعادة تنظيم هذه العلاقات من خلال وضع قوانين جديدة.
وأبرز مثال على هذه المسألة إنّما يتجلّى في اختراع النقود المعدنيّة والورقيّة والائتمانيّة وابتكار البنوك والأوراق الماليّة, نظير سندات القروض والأسهم والشركات, وتأسيس الأسواق الماليّة الثانويّة (أي أسواق التداول).
وبالإضافة إلى ذلك, قد يتوصّل الفكر البشريّ الخلاّق ـ بصورة مباشرة أيضاً ـ إلى بعض الابتكارات الجديدة في مجال العلاقات الاجتماعيّة. ومثالاً على ذلك, يمكننا أن نذكر عقد التأمين الذي كان سبباً في انبثاق قطاع التأمين بأقسامه وأنواعه المختلفة. وبناءً عليه، يمكننا أن نستنتج وجود حاجات ثابتة في كلا المجالين المرتبطين بعلاقة الإنسان بالآخرين, وسوف يسعى الفكر الإنساني المبدع إلى الاهتمام بكلا هذين المجالين, ومع هذه الاكتشافات والاختراعات الجديدة تغدو الوسائل والمناهج السابقة عرضة للتّغيير, وذلك في الوقت نفسه الذي تظهر فيه حاجات جديدة على السطح.
2. ويعتقد الشهيد الصدر (ره) بأنّ التغيير والتكامل اللّذَين يطالان علاقة الإنسان بالطبيعة, إنّما يهدِّدان في بعض الموارد، البرنامج الموضوع من قِبَل الشريعة الإسلاميّة لتنظيم العلاقات الاجتماعيّة؛ ولهذا السبب تمّ الأخذ بنظر الاعتبار في هذا البرنامج وجود منطقة للفراغ, وذلك للوقوف بوجه مثل هذه التهديدات؛ حيث يقوم الوليّ الفقيه في سبيل ذلك بإعمال حُكمه الولائيّ في هذه المنطقة الخالية من أيّ نوع من الأحكام التشريعيّة الثابتة. ومن جهة أخرى قام الشهيد (ره) بتطبيق منطقة الفراغ على الأحكام المُباحة والمكروهة والمستحبّة؛ وأمّا الأحكام الواجبة والمحرّمة, فجعلها ضمن المنطقة المملوءة في الشريعة, والتي يقصر الوليّ الفقيه عن الوصول إليها.
بدايةً, يبرز الإشكال في شأن تحديد المنطقة التي يمكننا أن نجعل فيها الأحكام الوضعيّة, بمعنى: هل يستطيع الولي الفقيه رعايةً للمصلحة أن يفتي بصحّة العقد الذي حكم الشارع ببطلانه؟
لا نعثر، في نظريّة الشهيد الصدر، على جواب واضح عن هذا السؤال.
والإشكال الآخر الذي يمكن توجيهه لهذه النظريّة، أنّه عندما نقارن بين كلام الشهيد الصدر على ضرورة وجود منطقة الفراغ وبين رأيه الذي تعرّض فيه لبيان حدود هذه المنطقة، سنستنتج بشكل تلقائي أنَّ تطوّر علاقة الإنسان مع الطبيعة لن يشكّل تهديداً للبرنامج التشريعي الإسلاميّ على صعيد العلاقات التي حكم فيها الشارع حكماً إلزاميّاً. وبعبارة أخرى، لن يعدّ التطوّر المشهود في علاقة الإنسان مع الطبيعة سبباً تاماً يضطر معه الولي الفقيه إلى القيام بتغييرات ـ بحسب ما تقتضيه المصلحة ـ على مستوى أحكام العلاقات التي كان موضوعها الوجوب أو الحرمة. وكما لا يخفى, فإنّه لم تتمّ إقامة أي دليل أو برهان على هذه المسألة.
3. يعتقد الشهيد الصدر (ره) أنّ بإمكان الوليّ الفقيه أن يفتيَ بالوجوب أو الحرمة في العلاقات التي يكون حكمها الأوّلي هو الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة، وذلك اعتماداً على الأهداف الإسلاميّة والقواعد اللازمة المستفادة من المنطقة المملوءة في الشريعة؛ أمّا الموارد التي يكون الحكم الشرعيّ فيها إلزامياً، فيمكنه أن يحكم فيها في حالة وقوع التزاحم فقط, وذلك بتقديمه الأهمّ على المهمّ.
يتحصّل ممّا تقدّم، أنّ حكم الوليّ الفقيه، في كلا الموردين، ليس حكماً تشريعيّاً، بل الأمر كذلك أيضاً حينما يحكم في موارد الاستحباب أو الكراهة أو الإباحة؛ فإن أقصى ما يقوم به هو تقديم الأهمّ بسبب وجود التزاحم. ولتوضيح وافٍ للمسألة لا بدّ من ذكر بعض المقدّمات:
المقدّمة الأولى: لقد تقدّم أنّ العديد من الأحاديث قد دلَّ على أنّ الشريعة الإسلاميّة هي شريعة جامعة وشاملة وأبديّة، فقد استوعبت هذه الشريعة كلّ مجالات الحياة، وبيّنت أحكام جميع الأفعال البشريّة. وكما لا يخفى، فإنّ الشهيد الصدر (ره) يسلّم بالمقدّمة القائلة: إنّ لكلّ فعل حُكماً خاصّاً في الشريعة الإسلاميّة، ولكنّه يعتقد بالمقابل أنّ الأحكام غير الإلزاميّة في الإسلام قابلة للتغيير.
المقدّمة الثانية: يتّفق علماء الشيعة على أنّ إنشاء الأحكام الشرعيّة إنّما تمّ على أساس المصالح، وكما أنّ هذه القاعدة شاملة للوجوب والحرمة؛ فإنّها تنطبق أيضاً على الأحكام الشرعيّة الشاملة للكراهة والاستحباب والإباحة أيضاً. فمثلاً: إذا حكم الشارع على فعل خاصّ بأنّه مستحبّ، فمفهومه يستبطن وجود مصلحة كامنة وراء ذلك الفعل، غير أنّ هذه المصلحة لمْ تصل إلى حدّ الإلزام.
 وهنا لا بدّ من طرح سؤال عن المجوّز الذي يُسمح على أساسه للولي الفقيه بأنْ يغيّر حكم الاستحباب ـ والذي أُنشئ على أساس وجود مصلحة في الفعل ـ ويستبدله بالحرمة. ولا يخفى، أنّه لا يمكن أن يتصوّر وجود أيّ مجوّز لهذا العمل سوى تزاحم هذه المصلحة مع مفسدة أخرى يلزم اجتنابها. وفي هذه الحالة, لن يوجد أيّ فرق بين الأحكام الإلزاميّة وغير الإلزاميّة؛ حيث أنّ الولي الفقيه سيقدّم الأهمّ على المهمّ في كلا الموردين, وذلك من باب التزاحم(۷).
النظريّة المختارة
تُعدّ الشريعة الإسلاميّة شريعة جامعة و أبديّة، وفي الوقت نفسه فإنّ التشريع فيها هو بنحو لا يشكّل مانعاً يقف في وجه ابتكارات الإنسان وإبداعاته وتقدّمه على صعيد علاقته مع الطبيعة ومع الناس الآخرين، كما أنّه لا يسمح من جهة أخرى بتوظيف هذه الإبداعات في طريق معاكس ومخالف لأهداف الإسلام المرسومة. وبعبارة أخرى, فإنّ الشريعة لن تقف مانعاً وحائلاً دون التغيير والرقيّ والتقدّم، بل هي تسوق التطوّرات والإبداعات باتّجاه الأهداف التي تسعى إليها. وتوضيحاً للنظريّة المختارة نذكر بعض المقدّمات:
المقدّمة الأولى: وضمن سعينا في إيجاد حلّ لإشكاليّة ثبات الشريعة ليس المهمّ هو تحديد نطاق التحوّلات والحدّ الذي بلغته، وإنّما تكمن الأهميّة في علمنا بأنّ حصول هذه التغييرات والتطوّرات يتمّ على يد الإنسان وبتصميم منه، ولهذا فهي قابلة للتّوجيه والإدارة. وبناءً عليه، فإنّ تقدّم العلوم والفنون وتطوّر المناهج والاختراعات والاكتشافات ـ التي تُعدّ المنشأ الأساس لتغيير العلاقات وتطويرها ـ هي خطوات إراديّة, يُقدم عليها الإنسان بمحض اختياره؛ ولذا فمن الممكن منطقيّاً، ومن خلال التربية، أن تسير أفكار الناس تلقائياً في الاتجاه الموافق لأهداف الشريعة, وأن تنصبّ إبداعاتهم وابتكاراتهم في الصراط المستقيم. هذا من جهة, ومن جهة أخرى يمكن الحيلولة دون وقوع التغيّرات والتطوّرات التي لا تنسجم مع أهداف الشريعة, من خلال سَنّ القوانين المناسبة.
المقدّمة الثانية: تقوم المناهج والاتجاهات الفكريّة، البشريّة منها والإلهيّة، بتنظيم السلوكيّات والعلاقات الاجتماعيّة بما يتناسب مع أهدافها، كما أنّ المنطق العقلانيّ يقتضي الردع عن التغيّرات والتحوّلات التي تقود باتّجاه معاكس ومخالف لهذه الأهداف. وهو ما نشهده في الشريعة الإسلاميّة؛ فالله سبحانه وتعالى قد نظّم الأفعال والعلاقات الاجتماعيّة في جميع ميادين الحياة وساحاتها، على نحو يستطيع جميع البشر من خلاله أن يرتقوا في سلّم التكامل ويصلوا إلى ذروة الكمال البشريّ، وذلك بما يتناسب مع استعداداتهم وقابليّاتهم. ومن البديهيّ بمقتضى هذا الطرح أن يتمّ الردع عن العقائد والأفكار والسلوكيّات والعلاقات التي يعقبها سقوط الإنسان وتردّيه، وإلاّ سيكون ذلك مخالفاً للحكمة الإلهيّة. وفي الوقت نفسه, يجب أن يُفتح الباب أمام توظيف الأفكار والابتكارات والابداعات بما يتناسب مع الأهداف المرسومة؛ وفي غير هذه الصورة، فإنّ تكامل الإنسان الماديّ والمعنوي سيتوقّف, وهو ممّا لا يتوافق مع أهداف الإسلام أيضاً.
وعلى هذا الأساس, فإنّ الشريعة الإسلاميّة لا تمنع من التقدّم العلميّ والصناعي بشكل مطلق؛ لأنّ نتيجة ذلك انسداد باب التغيير والتطوّر بوجه المجتمعات البشريّة، كما أنّها لا تفتح الطريق في المقابل بشكل مطلق، بحيث يكون مسموحاً للإنسان أن يوظّف استعداداته في أيّ ميدان كان وأن يتقدّم في أيّ اتجاه؛ وذلك لأنّ النتيجة التي ستحصل إثر ذلك هي السماح بوقوع تغييرات وتحوّلات تخالف أهداف الشريعة وتناقض غرضها؛ بل إنّ الشريعة تقوم بتوجيه التغيرات والتطورات بشكل دائم، وهو المقصود من "إدارة التغيّرات والتطوّرات"، فهو يعني توجيه التغيّرات والتبدّلات وتنقيتها.
المقدّمة الثالثة: ليس المقصود من شموليّة الشريعة الإسلاميّة وثباتها، أنّ لكلّ مصداق من مصاديق العلاقات حُكماً ثابتاً في الشريعة، وأنّ الشريعة الإسلاميّة لمْ تهمل أو تغفل حتّى عن حكم أيّ مصداق؛ بل المقصود هو أنّ الشريعة المقدّسة لم تهمل حكم أيّ عنوان من العناوين التي تنطبق على الأفعال والعلاقات، وأنّها وضعت أحكاماً ثابتة وعالميّة لجميع العناوين.
وليس المقصود أيضاً من شموليّة الشريعة وثباتها على مستوى العناوين، أنْ يشكّل كلّ عنوان منطبقٍ على فعل ما موضوعاً مستقلاًّ لحكم ثابت في الشريعة؛ بل المراد هو أن يكون هذا العنوان نفسه موضوعاً أو مندرجاً تحت عنوان عام يشكّل موضوعاً؛ ومثالاً على ذلك الإجارة التي تُعدّ عنواناً يدلّ على نوع من العلاقات الخاصّة في مجال المعاملات, وهو يشكّل موضوعاً للحكم الشرعي بالجواز. وكذا عنوان الربا؛ فإنّ حكمه في الشريعة الإسلاميّة الحرمة؛ أمّا التأمين, فبناءً على قول بعض الفقهاء، يكون عنواناً دالّاً على نوع من العقود الجديدة في المعاملات، فلا يقع هذا العنوان موضوعاً لأيّ حكم آخر.
غير أنّنا إذا نظرنا لعنوان العقد الذي يعدّ عنواناً عامّاً وشاملاً للتأمين أيضاً؛ فإنّه يقع موضوعاً للحكم بوجوب الوفاء. ولهذا فإنّه بإمكاننا من خلال إجراء عمليّة خاصّة ـ سيأتي الحديث عنها في طيّات الكلام ـ أن نستنبط حكم التأمين من خلال أحكام بعض العناوين الأخرى. وعلى أيّ حال، لا يمكننا تصوّر شموليّة الشريعة وثباتها على مستوى المصاديق، ولا يمكن القبول برحابة الصدر بمثل هكذا إدعاء؛ وأمّا في ما يتعلّق بالعناوين, فيمكننا القبول بذلك على النحو الذي تقدّم.
وبناءً على ذلك, يبقى التساؤل مطروحاً عن الشكل الذي ستتّخذه عمليّة الإدارة والتوجيه، وكيف سيسوق هذا البرنامج التشريعيّ الثابت والجامع هذه التغييرات والتطوّرات باتجاه أهدافه المرسومة؟ إنّ الجواب عن هذا التساؤل يوجد ضمن العمليّة التشريعيّة للأحكام ولكن بصورة مضمرة؛ حيث أنّ هذه العمليّة تجري بشكل يقتضي ذلك.
المقدّمة الرابعة: يتّضح منهج عمليّة تشريع الأحكام المرتبطة بالأفعال والعلاقات الإجتماعيّة في الشريعة الإسلاميّة من خلال بيان المسائل الثلاث الآتية(۸):
أولاً: لقد شُرّعت الأحكام في الشريعة بشكل قضايا حقيقيّة.
والقضيّة الحقيقيّة هي القضيّة الكلّية التي يصدق موضوعها على المصاديق المتحقّقة فعلاً، وعلى ما من شأنه أن يتحقّق في المستقبل(۹)، فمثلاً في آية ﴿أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا﴾(۱۰) تمّ تشريع حكم الحلّيّة والحرمة لعنوان البيع وعنوان الربا بصورة مطلقة؛ ولهذا فإنّ كلّ مصداق يصدق في كلّ زمان على عنوان البيع (البيع والشراء) سوف يعدّ حلالاً، وهذا الحُكم غير مختصّ بالمصاديق التي تحقّقت في زمان الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، والكلام نفسه يصدق في مورد الربا أيضاً.
وتشكّل هذه الخاصّية التي يتّصف بها التشريع حلاًّ لمشكلة "المصاديق المستحدثة". وبناءً عليه, فإنّ المصاديق المستحدثة التي يصدق عليها عنوان البيع ستكون مشمولةً لحُكم الحلّيّة.
ثانياً: تُقسم عناوين الأفعال والعلاقات إلى ثلاثة أقسام؛ فالعناوين التي تقع موضوعاً للأحكام الشرعيّة ثلاثة أنواع, تتفاوت في ما بينها بحسب السعة والضِّيق, وهي بالترتيب: العناوين الأوّلية، العناوين الثانويّة، والعناوين العامّة.
فالعناوين الأوّلية: هي العناوين التي ترتبط ذاتاً بأفعال المكلّفين (السلوكيّات والعلاقات) وبشكل مباشر، حيث أنّ لكلّ فعل عنواناً ذاتيّاً يصدق عليه في جميع الحالات؛ وعلى سبيل المثال, يكون كلّ من: الأكل، الشرب، الوضوء، الغسل، البيع والشراء، الإجارة، والإقراض عنواناً أوليّاً لفعل خاصّ.
والعناوين الثانويّة: هي عناوين عرضيّة لا تصدق على الأفعال إلاّ حينما تطرأ عليها حالة خاصّة؛ من قبيل عنوان الإسراف الذي يصدق على الأفعال الخارجة عن حدّ الاعتدال؛ ولذلك يُطلق على كلّ من الأكل والشرب واللِّباس والإنفاق الخارج عن حدّ الاعتدال عنوان الإسراف. كذلك يُعدّ عنوانا الضرر والحرج من العناوين الثانويّة؛ أي أنّ كلّ فعل تعرضه بعض الحالات الثانويّة بحيث تؤدّي إلى أنْ يتّصف بالحرج أو الضرر سوف يكون مشمولاً لحكمهما؛ ففي مثال الوضوء الذي يشكّل ضرراً على المريض، أو الرجل الطاعن في السنّ الذي يحتاج إلى قطع مسافة طويلة في جوّ بارد من أجل تحصيل الماء, يُعدّ الوضوء بالنسبة له أمراً محرجاً. وكذلك في المعاملات، يكون كلّ من الغبن والضرر عنواناً ثانويّاً؛ إذ إنّ مقتضى المعاملة في حالة اختلاف القيمة المتّفق عليها عن القيمة السوقيّة اختلافاً فاحشاً أن تكون غبنيّة، كما أنّ مقتضاها في حالة وجود الجهل أو الخطر في ما يخصّ العوض والمعوّض أو شرائط المعاملة هو أن تُعدّ معاملة غرريّة. ويمكن أن يكون العنوان الأوليّ للمعاملة الغبنيّة أو الغرريّة بيعاً أو إجارة أو  مُزارعة أو مُساقاة أو ما شابه ذلك.
وتُطلق العناوين الثانويّة كذلك على تلك العناوين التي تصدق على الحالات الخاصّة العارضة على المكلّف، فالإنسان الذي يُعدّ موضوعاً للأحكام الشرعيّة يُشترط أن تتوافر فيه صفة البلوغ والعقل والقدرة، كما أنّ الأحكام الشرعيّة لا تكون منجزةً إلاّ في حالة علم الإنسان العاقل البالغ القادر واختياره؛ أمّا إذا عرضت عليه حالات من قبيل الجهل, النسيان, الاضطرار والإكراه وأمثال ذلك، فإنّ الحكم الشرعي سيسقط حينئذ ولن يُعدّ منجزاً، وكذلك إذا عرضت عناوين من قبيل: الجنون والعجز؛ فهي وأمثالها من شأنها أن ترفع الحكم الشرعي.
أمّا العناوين العامّة, فهي العناوين التي تُعدّ ـ بالقياس إلى العناوين الأوليّة ـ بمنزلة الجنس بالنسبة للنّوع، فتكون بذلك شاملة لعدد كبير من العناوين الأوليّة. وتفترق العناوين العامّة عن العناوين الثانويّة في كونها تصدق على العناوين الأوليّة للأفعال في جميع الحالات في الوقت الذي تصدق فيه العناوين الثانويّة على الأوليّة في حالات خاصّة فقط؛ فمثلاً: يُعدّ عنوان العقد عنواناً عاماً يشمل جميع المعاملات التي يُعدّ فيها الإيجاب والقبول، ويصدق عليها دائماً. نعم، من الممكن أيضاً أن تكون للعناوين العامّة مراتب متُعدّدة من حيث الشموليّة, وذلك في ما لو قايسنا بعضها إلى بعض, بحيث تكون ـ بحسب الاصطلاح الفنّي ـ كليّاً إضافيّاً.
ثالثاً: يكون موضوع الأحكام الشرعيّة في الشريعة الإسلاميّة من العناوين الأوّلية, الثانويّة والعامّة. والله سبحانه وتعالى قد شرّع بعلمه اللامتناهي وحكمته المتعالية الأحكام المذكورة لكي يظفر الإنسان والمجتمع الإنسانيّ بسعادة الدنيا والآخرة، وذلك فيما إذا جعل أعماله متوافقةً مع هذه الأحكام. وبناءً عليه, فلا يمكننا تصوّر وجود منطقة خالية من التشريع على صعيد العناوين. وبعبارة أخرى، لا تشمل منطقة الفراغ، في التشريع الإسلامي، مجال العناوين أبداً، وهذا هو المقصود من جامعيّة الشريعة وشموليّتها. كما أنّ أحكام العناوين المذكورة تُعدّ أبديّة وغير قابلة للتَّغيير، رغم تغيّر أحكام المصاديق في مقام التطبيق.
رابعاً: تُقدّم أحكام العناوين الثانويّة على أحكام العناوين الأوليّة والعناوين العامّة، كما أنّ أحكام العناوين الأوّلية تُعدّ مخصّصةً لأحكام العناوين العامّة. وقد تمّ بحث مسألة تقدّم أحكام العناوين الثانويّة على أحكام العناوين الأخرى أصوليّاً في باب الحكومة أو الورود. كما بُحثت مسألة تقدّم أحكام العناوين الأوليّة على العناوين العامّة تحت عنوان التخصيص. وفي الواقع نحن لا نبغي فتح أبواب هذا البحث على مصراعيه، وإنّما نريد فقط أن نشير إلى أنّ أحكام العناوين الثانويّة تؤدِّي دوراً مهمّاً في العمليّة التشريعيّة ومدى تأثيرها وتأثّرها بالتغييرات الطارئة. وبعبارة أخرى، فإنّ حكم المصاديق الجديدة للعلاقات سيعدّ مقبولاً إذا أجيز وصُدّق عليه من قبل أحكام العناوين الثانويّة، فمثلاً: يُعدّ عقد التأمين ـ بناءً على بعض الأقوال ـ عقداً جديداً، ويحكم عليه بالصحّة استناداً إلى الآية المباركة ﴿أوفوا بالعقود﴾، وذلك في حالة عدم وجود الغرر أو الغبن أو الضرر، أو أيّ عنوان من العناوين الثانويّة التي يمكن أن تنطبق عليه، وإذا لم تتحقّق هذه الشروط فسيجري عليه حكم أحد العناوين الثانويّة التي انطبقت عليه. ولهذا، فإنّ الشرع الإسلاميّ المقدّس, قد سمح عن طريق بيان الأحكام الثانويّة بحصول بعض التغييرات على مستوى حركة الأحكام التي تتوافق مع أهداف البرنامج التشريعي. أما لو لم تكن مندرجة تحت دائرة الأحكام الثانويّة فسوف تكون غير ممضاة حينئذ. وبعبارة أخرى، إنّ تقدّم العلوم والفنون وتفاعل الأفكار البشريّة وتنازعها وتلاقحها على مرّ الزمن، من شأنه أن يكشف عن مصاديق جديدة في علاقة الإنسان مع الطبيعة، أو في علاقة الناس، بعضهم مع بعض، في ميادين متنوّعة وساحات متُعدّدة في الحياة.
ولا تخرج المصاديق الجديدة للعلاقات، في أيّ مجالٍ كانت، عن حالتين:
أ- الحالة الأولى: أن يصدق عليها أحد العناوين الأولية ـ والذي اتخذ موضوعاً للحكم الشرعيّ ـ وذلك بمعنى أن يكون الجديد هو المصداق من دون العنوان، وفي هذه الحالة، يأخذ المصداق الجديد حكم ذلك العنوان، ومثالاً على ذلك: يمكننا عدّ المصاديق الجديدة للبيع والشراء في زماننا الحاضر من هذا القسم؛ فالبيع والشراء عبر الإنترنت أو عبر البطاقات الائتمانية وأمثال ذلك لم يكن موجوداً في الزمن السابق، وقد ظهر في العصر الحاضر نتيجةً لحصول الإنسان على وسائل وأجهزة حديثة.
ب- الحالة الثانية: أن لا يصدق أيّ من العناوين الأوّلية المأخوذة في موضوع الحكم الشرعي على هذا المصداق؛ ما يعني نشوء مصداق جديد بعنوان أوّلي جديد.
يعتقد الكثير من الفقهاء بأنَّ التأمين هو من هذا القبيل؛ يعني هو عقد جديد لا يمكن أن ندخله تحت العقود المعاملاتيّة المعهودة في الشريعة. وعلى هذا الأساس, يمكن أن نعدّ التأمين مثالاً ومصداقاً لهذا القسم؛ لذا فإنّ هذا المصداق سيدخل تلقائيّاً من خلال عنوانه الأوّلي الجديد تحت أحد العناوين العامّة التي بيّن الشارع من جهته حكمها.
وبناءً عليه, يدخل عقد التأمين ـ فيما لو عددناه عقداً جديداً ـ في قول الله سبحانه وتعالى "أوفوا بالعقود"، وبهذه الطريقة سنتوصّل لمعرفة أحكام هذا النوع من المصاديق. وعلى كلا التقديرين، لا بدّ من أن نجري على مصاديق العلاقات الجديدة حكم العنوان الأوّلي أو العنوان العام، وذلك إذا لم تندرج تحت عنوان من العناوين الثانويّة من قبيل: الغرر والغبن والضرر والحرج وأمثال ذلك؛ وإلاّ فإنّ حكم العناوين الثانويّة سوف يسري إليها. وعلى هذا الأساس, فإنّ أحكام العناوين الثانويّة تمثّل الإطار العامّ لانتخاب التغييرات الموافقة لأهداف الشريعة والحكم بجوازها.
تبيّن، ممّا تقدّم، أنّ الشريعة الإسلاميّة مع جامعيّتها وثباتها، لا ترفض التغييرات التي تتلاءم مع أهدافها ومشروعها، وذلك من خلال وضع الأحكام على طبق العناوين العامّة. هذا من جهة, ومن جهة أخرى فإنّها تقف بوجه التغييرات والتحوّلات التي لا تتناسب مع أهدافها المذكورة، وذلك من طريق وضع الأحكام على طبق العناوين الثانويّة.
وفي الختام, يجدر التنبيه إلى أنّ المصاديق هي محلّ لتزاحم العناوين؛ فقد تقع إحدى العلاقات مصداقاً لعنوانين أوّليين ذوَي حُكمين مختلفين، وفي هذه الحالة تجرى قاعدة التزاحم, ويُقدّم حينها الأهمّ على المهمّ.
خلاصة البحث و نتيجته
إنّ تقدّم العلوم والتجارب البشريّة، على مرّ الزمن، من شأنه أن يولّد تغييرات وتطوّرات على مستوى علاقة الإنسان بالطبيعة وعلاقاته بالآخرين، ولا يخفى أنّ هذه التغيّرات ناشئة من إرادة الإنسان واختياره؛ لذلك فهي قابلة للتوجيه والإدارة. وتُعدُّ الشريعة الإسلاميّة شريعة شاملة وأبديّة، إلاّ أنّ هذه الشموليّة والأبديّة تتجلّيان على مستوى عناوين العلاقات لا مصاديقها. كما أنّ الشارع المقدّس، ومن خلال تقسيمه لعناوين الأحكام إلى ثلاثة أقسام: العناوين الأوليّة, الثانويّة والعامّة, وبيانه لحُكم كلّ عنوان على أساس المصلحة والمفسدة, يكون قد أوجد شريعةً شاملة وأبديّة لا تتنافى من جهة مع التغييرات المتناغمة مع أهداف الشريعة، كما أنّها سوف تقف من جهة أخرى سدَّاً منيعاً في مقابل التحوّلات المخالفة لهذه الأهداف.

الهوامش:

(*) عضو الهيئة‌ العلميَّة‌ ومدير قسم الاقتصاد في المعهد العالي لأبحاث الثقافة‌ والفكر الإسلامي.

(۱) روح‌ الله الموسوي‌ الخميني‌: صحيفة‌ النور، مؤ‌سّسة‌ تنظيم‌ ونشر آثار الإمام‌ الخميني، الأولى، 1378، ج‌ 21، ص‌ 289.
(۲) المصدر نفسه: الوصيّة الإلهيّة‌ ـ السياسيّة، ص‌ 402.
(۳) راجع: جامع‌ الأحاديث، ج‌ 1، المقدمة، ص‌ 275؛ بحار الأنوار، ج‌ 26، كتاب ‌الإمامة، أبواب‌ علومهم: باب‌ 1, ص‌ 33, ح‌ 52 و ج‌ 2، ص‌ 169، ح‌ 2 و3 و ص‌ 170، ح‌ 8، ص‌ 305، باب‌ 34، ح‌ 49.
(۴) راجع: بحار الأنوار، ج‌ 2، ص‌ 260، ح‌ 17؛ ‌وراجع أيضاً: ج‌ 2، ص‌ 172، ح‌ 13؛ ج‌ 6، ص‌ 93، ح‌ 1؛ ج‌ 11، ص‌ 56، ح‌ 55؛ ج‌ 12، ص‌ 7، ح‌ 15 و ج‌ 36، ص‌ 132، ح‌ 85.
(۵) راجع: السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، تحقيق‌ مكتب ‌الإ‌علام‌ الإسلامي، فرع‌ خراسان‌ (لجنة‌ الإقتصاد)، مركز النشر التابع‌ لمكتب‌ الإ‌علام‌ الإسلامي، الطبعة‌ الأولى، 1417 ق، 1375، ص‌ 380 – 382 وص‌ 686 – 691.
(۶) من باب المثال, راجع: أحمد علي‌ اليوسفي: ماهيت وساختار اقتصاد اسلامي [ماهية الإقتصاد الإسلامي وبنيته]، مركز نشر آثار المعهد العالي لأبحاث الثقافة والفكر‌ الإسلامي، الأولى، 1379، ص‌ 75 و83 و84 و انديشه ماندگار [الفكر الخالد]، خاصّ بالمؤتمر الدولي لآية الله العظمى‌ الشهيد السيد محمد باقر الصدر، العدد‌ 1، تشرين الأول 1379 ﻫ.ش، ص‌ 16 و17.
(۷) سيتّضح هذا المطلب عند بيان النظريّة المختارة بشكل أكثر وضوحاً وجلاءً.
(۸) ومن الجدير بالذكر، أنّ أغلب التطبيقات والأمثلة التي عُرضت كانت مختصّة بباب المعاملات، وذلك لضلوع الكاتب بفقه المعاملات بشكل أكبر؛ إلاّ أنّ القضايا المطروحة كليّة وقابلة للتعميم.
(۹) راجع: روح‌ الله الموسوي‌ [الإمام] الخميني: منهاج ‌الوصول‌ إلى‌ علم الأصول، تحقيق‌ و نشر مؤسّسة‌ تنظيم‌ و نشر آثار الإمام‌ الخميني، الأولى، 1373، ج‌ 2، ص‌ 285 – 287.
(۱۰) البقرة‌ (2): 275.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً