أحدث المقالات

علم الكلام الجديد

الشيخ عبد الجبار الرفاعي

 

تمهيد تاريخي

تبلورت النواة الأولى لعلم الكلام في فضاء بعض الاستفهامات، وما اكتنفها من جدل وتأملٍ في دلالات بعض الآيات القرآنية المتشابهة التي تتحدّث عن الذات والصفات، والقضاء والقدر، ثمّ اتسع بالتدريج إطار هذه الأسئلة والتأملات، فشملت مسائل أخرى تجاوزت قضية الألوهية والصفات إلى الإمامة، فور التحاق النبي الكريم (ص) بالرفيق الأعلى وما فتئت قضية الإمامة تستأثر باهتمام العقل الإسلامي وقتئذٍ، حتى أضحت من أهم مسائل التفكير العقائدي في حياة المسلمين.

وقد كان للحروب الداخلية في المجتمع الإسلامي أثر هامّ في تطوير النقاش في الموضوعات العقائدية، وتوالُدِ أسئلة جديدة تتمحوَرُ حول حكم مرتكب الكبيرة، وخلق أفعال العباد، وحرية  المكلّف واختياره وغير ذلك من المسائل.

كذلك عملت الفتوحات على إدخال شعوب عدَّةٍ في الإسلام، لبثت مدّة طويلة في نحلٍ كتابيَّةٍ أو وثنيَّةٍ، ولم تستطع حركة الدعوة العاجلة تحرير وعي هؤلاء المسلمين من ترسبات أديانهم ونِحَلِهم السَّابقة، فنجم عن ذلك شيوع مناخ فكريّ ٍمضطرب يموج برؤى متقاطعة، وسجالات صاخبة، غذّتها في فترة لاحقة أفكار المنطق والفلسفة ومقولاتهما، التي تدفقت من مراكز الترجمة وبخاصة في عصر المأمون العباسي.

في هذا الفضاء الثقافي تشكل علم الكلام، وصار واحداً من الإبداعات المعرفية للحضارة الإسلامية، وانخرط في دراسته وتدريسه والتأليف فيه قطاع كبير من العلماء المسلمين، منذ نهاية القرن الهجري الأول، وبلغ ذلك  ذروته في القرن الرابع، وصار تنوع الأقوال في علم الكلام، هو الأساس لوجود الفرق والاتجاهات المختلفة في الإسلام، فميلاد أية فرقة، ونموها، وتأثيرها في مسار الحياة الإسلامية، بات يتوقّف على بنائها لآراءُ وتصورات مستدلة في القضايا العقائدية؛ ولهذا عملت الفرق التي ظهرت، بدوافع سياسية على صياغة فهم عقائدي خاص بها، وشدّدت على أفكار محدّدة، استندت إليها بوصفها مرجعية في سلوكها السياسي. أما الجماعات التي أخفقت في تكوين منظومة عقيدية، تصدر عنها مواقفها السياسية، فإنها انطفأت باكراً، وإن خطف وهجها الأبصار عند ظهورها.

إن علم الكلام تحكّمت في نشأته وتطوره مجموعة ظواهر سياسية واجتماعية وثقافية، كانت سائدة في المجتمعات الإسلامية آنذاك، فأمدت عقل المتكلم بعناصر وأدوات خاصة، هي نتاج تلك  البيئة، ولذلك تجلّت البيئة التاريخية للمتكلم وأبعادها المعرفية في تراث الكلام الإسلامي. وظلّت البنية الأولى للفكر الإسلامي تموّن التفكير الكلامي، وتقوده في نسقها المحدّد، فتكرّرت في المؤلفات الكلامية منذ نضوج علم الكلام الأفكار ذاتها، وأنماط الاستدلال، والموضوعات، ودخل هذا العلم مساراً مسدوداً، دأب فيه على العودة إلى المشكلات والتحديات نفسها التي بحثها السلف، ومكث يتحرك في مداراتها، يبدأ دائماً من حيث انتهى، وينتهي من حيث بدأ، من دون أن يتقدّم في حركته خطوة إلى الأمام، ومع وفرة ما أُلِّف في هذه الحقبة، غير أنه لم يكن سوى شروح وهوامش على المتون التقليدية.

 

تسمية علم الكلام

تداول الباحثون مجموعة أسماء لدراسة العقيدة، اشتهر منها: "علم أصول الدين" وهو العلم الذي يدور حول بيان أصول الدين الإسلامي والاستدلال عليها والدفاع عنها. وقد عنون بعض المؤلّفين أعمالهم بهذا الاسم، مثل الرازي 606هـ في كتاب "المحصل في أصول الدين". وقبله الجويني 478هـ في كتاب "الشامل من أصول الدين".

كما سمي "الفقه الأكبر"، ونقلت هذه التسمية عن الفقيه أبي حنيفة؛ لأن النظر في أحكام الدين وعقائده كان يسمى فقهاً، ثمّ خصّت الاعتقادات باسم الفقه الأكبر، فيما خصّت الأحكام العملية بالفقه الأًصغر(1).

كذلك أطلقوا اسم "علم التوحيد"، بمعنى العلم الذي يجعل قضية التوحيد هي المحور ومنها تنبثق سائر المعتقدات، وهي تسمية للشيء بأشرف أجزائه، وقد جعل الشيخ محمد عبده (1323هـ) هذا الاسم عنواناً لكتابه في العقيدة "رسالة التوحيد". وقبل ذلك ألف المتكلم المعروف الماتريدي (333هـ) كتاباً في الكلام سمّاه "علم التوحيد".

وعبّر عنه بعض بـ "علم الذات والصفات"، حيث جعل الذات المقدّسة وصفاتها هي ركيزة هذا العلم، وكل مباحثه ترجع إليها، ويتحدّد في ضوء ذلك القول بالصفات، وهل هي عين الذات أم زائدة عليها.

وعبّر عنه آخرون بعلم "العقائد"، ووجه ذلك أنه العلم الذي يتكفّل بمعرفة العقائد الإسلامية، والبرهنة عليها. وهذا الاسم اتخذه جماعة عنواناً لمؤلفاتهم الكلامية، فأطلق الجويني على كتابه "العقائد النظامية" والنسفي (642هـ) "العقائد النسفية"، وعضد الدين الإيجي (657هـ) "العقائد العضدية"، وقبل هؤلاء، سمى الطحاوي (321هـ) كتابه الكلامي "العقيدة الطحاوية".

لكن أشهر الأسماء المعروفة لدراسة العقيدة ومسائلها هو "علم الكلام"، ويورد الدارسون اجتهادات شتّى في تحليل مدلول هذه التسمية وتاريخ استعمالها(2). وقد جمع صاحب "شرح العقائد النسفية"(3) أسباب تسمية هذا الفن بعلم الكلام، فذكرها وفق التسلسل الآتي:

 

1- لأن عنوان مباحثه كان قولهم: الكلام في كذا وكذا.

2- ولأن مسألة الكلام كانت أشهر مباحثه، وأكثر نزاعاً وجدالاً، حتى إن بعض المتغلبة قتل كثيراً من أهل الحق لعدم قولهم بخلق القرآن.

3- ولأنه يورث قدرة على الكلام من تحقيق الشرعيات وإلزام الخصوم، كالمنطق للفلسفة.

4- ولأنه أول ما يجب من العلوم التي تُعلم وتُتعَلَّم بالكلام، فأطلق عليه هذا الاسم لذلك، ثمّ خصّ به ولم يطلق على غيره تمييزاً له.

5- ولأنه إنما يتحقّق بالمباحثة وإدارة الكلام بين الجانبين، وغيره قد يتحقّق بالتأمل ومطالعة الكتب.

6- ولأنه أكثر العلوم خلافاً ونزاعاً، فيشتدّ افتقاره إلى الكلام مع المخالفين والردّ عليهم.

7- ولأنه لقوة أدلته صار كأنه هو الكلام دون ما عداه من العلوم، كما يقال للأقوى من الكلامين: هذا هو الكلام.

8 – لابتنائه على الأدلة القطعية المؤيد أكثرها بالأدلة السمعية، أشدّ العلوم تأثيراً في القلب وتغلغلاً فيه، فسمي بالكلام المشتقّ من الكلم وهو الجرح.

 

وأضاف الشيخ مصطفى عبد الرازق احتمالين إلى ما تقدّم، استظهرهما من الأحاديث والآثار، وذهب في الاحتمال الأول إلى أن تسمية الكلام جاءت من كون "الكلام ضد السكوت، والمتكلمون كانوا يقولون حيث ينبغي الصمت اقتداء بالصحابة والتابعين الذين سكتوا عن المسائل الاعتقادية لا يخوضون فيها"(4).

أما الاحتمال الآخر، فيُرجع منشأ التسمية إلى أن الكلام مقابل الفعل "كما يُقال: فلان قوّال لا فعّال. والمتكلمون قوم يقولون في أمور ليس تحتها عمل، فكلامهم نظري لفظي لا يتعلّق به فعل، بخلاف الفقهاء الباحثين في الأحكام الشرعية العملية"(5).

ويبدو أن الاحتمال الأخير الذي ذكره الشيخ عبد الرازق هو أقرب الوجوه إلى نشأة هذا العلم تأريخياً؛ لأن قضايا علم الكلام اكتسبت طابعاً نظرياً تجريدياً منذ ولادتها، وإن نشأ بعضها في أفق أسئلة أفرزتها التجربة العملية السياسية، كمسألة حكم مرتكب الكبيرة، وترسّخت النزعة التجريدية في علم الكلام بمرور الزمن، وظلت على الدوام أحد المنابع الأساسية لعجز علم الكلام وقصوره عن الالتحام بواقع المسلم.

إلاّ أن بعض الباحثين يميل إلى أن سبب التسمية نشأ من الاحتمال الثاني؛ أي (لأن مسألة الكلام كانت أشهر مباحثه وأكثر نزاعاً وجدلاً…) وأما سائر الاحتمالات المذكورة فلا تخرج عن كونها (مماحكات لفظية لا معنى لها)(6). ويبدو هذا القول وجيهاً، لولا أن مصطلح الكلام والمتكلمين ورد في بعض الآثار، قبل احتدام الجدل حول كلام الله، ومن ثمّ تطورت هذه المسألة إلى ما عرف بخلق القرآن فيما بعد.

فقد أشارت نصوص تنتمي إلى ما يقرب من منتصف القرن الثاني الهجري إلى هذه التسمية، منها ما ورد في قصة تردّد ابن أبي العوجاء عن مناظرة الإمام الصادق (عليه السلام) لمّا جاء لمناظرته، فقال له الإمام: لماذا لا تتكلّم؟ فأجاب بقوله: "إني شاهدت العلماء، وناظرت المتكلمين، فما تداخلني هيبة قطّ مثلما تداخلني من هيبتك"(7).

وهذا يدعونا لاستبعاد ما ذكره أحمد أمين(8) أيضاً تبعاً لصاحب الملل والنحل(9)، من أن تسمية الكلام تأخرت عن نقل التراث الفلسفي اليوناني إلى العربية أيام المأمون؛ لأن هذه التسمية شاعت في الحياة العلمية وأصبحت علماً على طائفة من الدارسين المهتمين بالشأن العقائدي، مثلما يحكي لنا النصّ المتقدّم وغيره من النصوص، قبل أن تترجم الفلسفة اليونانية.

 

مناهضة علم الكلام

منذ الأيام الأولى لولادة التفكير الكلامي انبرى لمناهضته مجموعة من رجال الحديث، الذين قاوموا أية محاولة لتدبر النصوص المتشابهة وتأويلها، وأسرفوا في إلصاق شتّى التهم بمن يحاول ممارسة هذا اللون من التفكير، بقطع النظر عن النتائج التي ينتهي إليها، حتى أمسى شعارهم "فرّ من الكلام، في أي صورة يكون، كما تفرّ من الأسد"(10). بل نقل عن الإمام مالك بن أنس (179هـ ) حظر السؤال في بعض المسائل، واعتبار مثل هذا السؤال بدعة، فحين سُئِل عن كيفية الاستواء على العرش؟ أجاب: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإي-مان به واجب، والسؤال عنه بدعة"(11)؛ ولهذا وسم مالك بن أنس جميع الذين يتعاطون التفكير والحديث في ذات الباري وصفاته بالمبتدعين، وكان يحذر من هذه البدع ويقول: "إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته، ولا يسكتون عمّا سكت عنه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وكان يقول: من طلب الدين بالكلام، فقد تزندق"(12).

وعقيب مالك، ناهض الإمام الشافعي (204هـ) أيضاً المنحى الكلاميَّ في التفكير، فشنّ حملة عنيفة على المتكلمين، وبالغ في التشنيع على هذا اللون من التفكير، فنقل عنه قولـه بعد مناظرته مع أحد هؤلاء: "لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما توهمته قط، ولأن يبتلى المرء بجميع ما نهى الله عنه، سوى الشرك، خير من أن يبتلى بالكلام"(13). كما نقل عنه قولـه: "ولو يعلم الناس ما في علم الكلام من الأهواء، لفرّوا منه فرارهم من الأسد، وقوله أيضاً: "حكمي في أهل الكلام، أن يضربوا بالجريد، ويُطاف بهم في العشائر والقبائل، ويُقال: هذا جزاء من ترك السنة وأخذ في الكلام"(14).

 

وينسب للشافعي قول حانق يحذر فيه أبا إبراهيم المزني لما سأله بمسائل نهج فيها منهج أهل الكلام، فقال له الشافعي: "يابني! هذا علم إن أنت أصبت فيه لم تُؤجر، وإن أنت أخطأت فيه كفرت…"(15).

ثمّ جاء من بعده أحمد بن حنبل (142هـ) فاقتفى السبيل نفسه، وأسرف في مقارعة التفكير الكلامي، حتى زجّ نفسه بسجالات ومماحكات صاخبة مع المتكلمين، قادته في خاتمة المطاف إلى أن يُضرب بالسوط في مناظرته مع ابن أبي داود حول مسألة خلق القرآن(16). ونقلت عن ابن حنبل أقوال تكفيرية قاسية في ذم الكلام والمتكلمين، منها قوله: "لا يفلح صاحب كلام أبداً، ولا ترى أحداً ينظر في الكلام إلاّ وفي قلبه مرض"(17). وقوله: "علماء الكلام زنادقة"(18).

وواصل الحنابلة مناهضة علم الكلام تبعاً لنهج شيخهم، فخاضوا صراعات حادّة مع أصحاب الكلام، وتوكأوا على سلاح التكفير في هذا الصراع، وبات تراثهم رافداً تُستقى منه فتاوى تكفير فرق المسلمين، تلك الفتاوى التي عملت على تعميق انقسامات الأمة، وظلّت إلى الآن تجهض مساعي الحوار الإسلامي.

وقد تغلغلت أفكار التيار المناهض للكلام في وعي عامة المسلمين، فبدا الكثير منهم ينظر بارتياب، بل تنامت هذه الحالة، وصارت العلوم العقلية برمتها ينظر إليها إلى الفكر الكلامي بتوجّس وريبة، وأشيع حول هذه العلوم مناخ مشبع بالتهمة، حتى اضطر ذلك بعض المهتمين بها للتمسك بالتقية والتكتم على معارفه، خشية إثارة حنق العامة، خاصة وأن بعض خصوم الكلام عمدوا إلى صياغة خطاب تحريضي ضد علم الكلام ومن يتعاطاه، وهذا ما ظهر في أسماء كتبهم، مثلاً: كتب أبو إسماعيل عبد الله بن محمد الأنصاري الهروي (481هـ) كتاباً بعنوان "ذم الكلام وأهله"، وكتب الغزالي (505هـ) كتاب "إلجام العوام عن علم الكلام"، وكتب موفق الدين بن قدامة المقدسي (ت620هـ) كتاب "تحريم النظر في كتب أهل الكلام".

 

ركود علم الكلام

تأثر علم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية، في نشأته ومساره بمجمل الأحوال السياسية والاجتماعية في الحياة الإسلامية، فعندما تكون الأمة في حالة نهوض، وفي ظل تشكل الإطار الاجتماعي الملائم لنمو المعرفة وتطور العلوم، ينمو ويتكامل التفكير الكلامي كما غيره من أبعاد التفكير الإسلامي الأخرى، أما إذا دخلت الأمة في مسار الانحطاط، فسوف يتداعى الإطار الاجتماعي لنمو المعرفة، وتسود حالة من تشتت العقل وتشوه رؤاه، تدخل معها معارف الأمة وعلومها مسار الانحطاط، تبعاً لما عليه أحوال الأمة، فيتراجع دور العقل، ويضمحل التفكير الكلامي، وتغدو المحاولات الجديدة استئنافاً للمحاولات الماضية، لا تتخطّى إشكالياتها ومسائلها، بل وبيانها وأساليب تعبيرها.

وإن مراجعة سريعة لمسار التفكير الكلامي عبر أربعة عشر قرناً، تدعونا للوقوف عند مراحل عدَّة مرّ من خلالها هذا التفكير، ففي المرحلة الأولى التي امتدت من القرن الهجري الأول إلى القرن الثالث، كان الفكر الكلامي يتحرك في مدارات ما يستجد من استفهامات، ويسعى لصياغة المفاهيم واستنباط قواعد ومرتكزات أساسية للاعتقاد. ومنذ القرن الثالث انتهج المتكلمون منهجاً آخر، توغل معه الفكر الكلامي في أفق جديد، ودشّنت فيه مرحلة تالية، اشتغل فيها المتكلمون ببناء علم الكلام، وتأسيس مدارسه واتجاهاته المعروفة في التاريخ الإسلامي.

وتمخّضت جهود علماء الكلام عن تبلور المدارس الثلاث الكبرى في الكلام، المعتزلة والشيعة والأشاعرة.

لكن ازدهار التفكير الكلامي لم يمضِ في درب لاحب، من دون أن يدخل في متاهات من الجدل والسجالات، التي أسهم فيها مناوئو علم الكلام بدور تحريضي واسع، مضافاً إلى تسييس المواقف الكلاميَّة، وانتقال المناظرات من دور العلم وهي المساجد وقتئذ إلى قصور السَّلاطين، مثلما جرى في مسألة خلق القرآن وغيرها، حتى انتهى ذلك إلى تصفية مدرسة الاعتزال والقضاء عليها قضاءً تاماً بقرار سياسي في فترة لاحقة.

غير أنَّ هذا المخاض الذي التهم التفكيرَ الكلاميَّ، واستنزف الطاقة العقلية لعلمائه سنوات طوال، لم يعطل هذا التفكير، وإنما استطاع التفكير الكلامي أن يجتاز هذا المخاض بمعاناة بالغة وجهود شاقة، وظهرت في القرون: الرابع والخامس والسادس والسابع أهم المدونات الكلامية مثل "المغني" للقاضي عبد الجبار الهمداني (ت415هـ)، وأخيراً "التجريد" لنصير الدين الطوسي (ت672هـ)، الذي كان خاتمة للمرحلة الثانية في مسار التفكير الكلامي، ولعب دوراً بارزاً ومدهشاً في تأسيس الفلسفة الكلامية التي تبدو كأنها الخالية من شوائب وزيادات وإضافات المتكلمين المصطرعة مع تيار الفلسفة، حتى امتد تأثيره إلى زمان يتاخم عصرنا الحديث، ولقد صار كتاب "التجريد" منذ الربع الأخير للقرن السابع نموذجاً يترسمه المؤلفون في كتاباتهم الكلامية، ككتاب "المواقف" لعضد الدين الإيجي (ت756هـ) ، وكتاب "المقاصد" لسعد الدين التفتازاني (ت792هـ) ، وكتاب "المجلي" لابن أبي جمهور الاحسائي (ت901هـ)(19).

ولم يشهد التأليف في علم الكلام أعمالاً إبداعيةً بعد ظهور كتاب الطوسي "التجريد"، وظلت سائر المؤلفات المتأخرة عنه، إما شروحاً له ولمتون الكلام السابقة، وإما مدوَّنات ومتوناً جديدة، غير أنها ما فتئت تستعيد آراء تلك المدونات ومسائلها.

وكان ذلك إيذاناً بانتقال علم الكلام إلى مرحلة ثالثة، بدأت بركود التفكير الكلامي واستئنافه للتراث الكلاسيكي، وتواصلت مدة طويلة تناهز خمسة قرون من القرن التاسع إلى نهاية الثالث عشر الهجري، تجمد فيها التفكير الكلامي، ولم تتجاوز اهتمامات الدارسين ألفاظ التراث الكلامي ومُعمَّياته وألغازه، فأسرفوا في تدوين الهوامش والشروح التوضيحية، وبهرتهم براعة القدماء في اختزال الأفكار وتكثيف النصوص، فشاع لديهم شعور موهوم بأن الآراء التي تحكيها تلك النصوص هي آراء أبديَّة، يجب تعميمها لكل زمان، ولا يجوز أبداً التفكير خارج مداليلها وفحواها، واستحالت مهمة المهتمين بهذا العلم إلى حراسة متونه، والمبالغة في إطرائها وتهويل مضمونها، ومقاومة أية محاولة للتفكير خارج مداراتها.

لكن التفكير الكلامي استيقظ في نهاية القرن الثالث عشر، ودبّت الحياة من جديد في علم الكلام، فغادر حالة السكون التي لبث فيها عدّة قرون، واستهلّ المهتمون بدراسة هذا العلم عهداً جديداً بدأ بإحياء علم الكلام واستدعائه إلى العصر الحديث، ثمّ تلا ذلك، العمل على إعادة بنائه وتجديده.

 

عجز الكلام التقليدي

قبل أن نمضي في الحديث إلى المرحلة الجديدة "مرحلة الإحياء والتجديد" التي انتقل إليها التفكير الكلامي، نود أن نلمح بإيجاز إلى شيء من مناشئ عجز علم الكلام التقليدي عن الوفاء بالمتطلبات العقيدية للمسلم المعاصر.

وهنا ينبغي التذكير بما وردت الإشارة إليه في فقرة سابقة، وهو أن علم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية تحكّمت في مساره وتحديد وجهته مجموعةٌ المكونات والعناصر التي واكبت نشأته، وتلك العناصر كما هو معلوم تنتمي إلى عصر مضى وانقضى، ولم يبقَ منه سوى ما حفظه لنا التاريخ، ولم يكن الفكر الكلامي الذي ولد في ذلك العصر إلاّ مرآة ارتسمت فيها الأسئلة والتحديات والهموم المتداولة آنذاك، فلماذا نسعى لتعميم الآراء والمفاهيم الكلامية التي تبلورت في فضاء تلك الأسئلة والتحديات، لأسئلة تطرحها حياتنا الراهنة، وتنبثق من تحديات تختلف عن التحديات الماضية اختلافاً تاماً؟!.

في ضوء ذلك ينبغي أن نشير إلى أبرز أبعاد القصور في التراث الكلامي، بغية اكتشاف البواعث الموضوعية للدعوة لتجاوز الكلام التقليدي، وإعادة بناء التفكير الكلامي في إطار استفهامات العصر ومعارفه. وهو ما نسعى لإيجازه فيما يلي:

1- هيمنة المنطق الأرسطي:

بالرغم من رفض المتكلمين الفلسفة وطرائق تفكير الفلاسفة، لكنهم قبلوا قضايا المنطق الأرسطي، وتعاملوا معها بوصفها مسلماتٍ أساسية في البحث الكلامي، واستندوا إلى المنطق في بناء علم الكلام، وركزوا على القياس الأرسطي وأشكاله، كقوالب أساسية في الاستدلال على المسائل والآراء، بحيث أضحى الخصمان يحاول كل منهما نقض حجّة الآخر بالتوكؤ على أساليب المحاججة الأرسطية ذاتها، فقاد ذلك إلى خطأ المتكلمين في استعمال هذا المنطق "فجعلوا حكم الحدود الحقيقية وأجزائها مطرداً في المفاهيم الاعتبارية، واستعملوا البرهان في القضايا الاعتبارية التي لا مجرى فيها إلاّ القياس الجدلي، فتراهم يتكلمون في الموضوعات الكلامية كالحسن والقبح، والثواب والعقاب، والحبط والفضل، في أجناسها وفصولها وحدودها، وأين هي من الحد؟! ويستدلون في المسائل الأصولية والمسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة والامتناع. وذلك من استخدام الحقائق في الأمور الاعتبارية، ويبرهنون في أمور ترجع إلى الواجب تعالى، بأنه يجب عليه كذا، ويقبح منه كذا، فيُحكِّمون الاعتبارات على الحقائق، ويعدُّونه برهاناً، وليس هو بحسب الحقيقة إلاّ من القياس الشعري"(20).

ولبث المتكلم منذ ترجمة المنطق الأرسطى حتى اليوم يعتبر مقولات هذا المنطق ومناهجه في الاستدلال حقائق نهائية، يرقى بعضها إلى البديهيات التي لا نقاش فيها. ومع تجدّد الحياة وتوالد مشكلات معرفية وعملية متنوعة كل يوم في وعي الناس، إلاّ أنَّ بنية علم الكلام ظلت تترسخ باستمرار في إطار ذلك المنطق وأدواته وأساليبه، وكأنَّ كلَّ شيء يتغير ما خلا آراء أرسطو، فإنها أفكار أبدية لا تقبل المراجعة والتقويم.

ولقد اتسعت مآسي الإنسان المسلم، واضطربت حياته، وتشوه وعيه، واهتزت منظومة معارفه، فلم يعد المنطق الأرسطي يفي بمقتضيات حياته المتجدّدة، خاصة إذا لاحظنا أنَّ هذا المنطق لا يهتم بالواقع، وإنَّما ترتبط الحقيقة لديه بتناسق المعطيات والمفاهيم في ما بينها في الذهن، وإن كانت لا علاقة لها بالواقع، بل ولو كانت مخالفة للواقع(21).

 

2- النزعة التجريدية أو الفصام بين النظر والعمل:

تقدّمت الإشارة إلى أنَّ موضوعات الكلام الأولى تبلورت في سياق أسئلة انبثقت إثر الصراعات السياسية في العهد الإسلامي الأول، غير أنَّ إسراف المتكلمين في استعارة منهج المنطق الأرسطي، وتوظيف مفاهيمه في صياغة علم الكلام فيما بعد، نجم عنه تشرّب التفكير الكلامي بمنهج هذا المنطق، فانحرفت وجهته، وراح يفتِّش عن عوالم ذهنيةٍ مجردةٍ، بعيدةٍ عن الواقع وتداعياته ومشكلاته، فتغلَّبت بالتدريج النزعة التجريدية الذهنية على المنحى الواقعي في التفكير الكلامي، وتحول علم الكلام إلى مشاغل عقلية تتوغّل في صناعة آراء ومفاهيم لا علاقة لها بحركة الحياة وشجونها، وأمست مهمة المتكلم التفتيش في عوالم أخرى غير الحياة البشرية وعالمها، والتدقيق في مسائل افتراضية ترتكز على محاججات منطقية، من دون أن يكون لها ارتباط بالواقع.

 

ولم يقتصر أثر العقلية التجريدية على التفكير الكلامي فحسب، وإنما امتدّ أثرها إلى المشاغل الأخرى للعقل الإسلامي، فتجلّى بوضوح في العلوم الإسلامية، وما برح الفكر الإسلامي ينوء بعبء هذه النزعة إلى اليوم، فلا يكاد يتخطى عوالم الذهن، ويطلُّ على الواقع، ويواكب التجربة البشرية وما تزخر به من رؤى وآفاق.

بل كان إيغال العقل الإسلامي في التجريد منشأً لتغليب النظر على العمل، واعتبار العلوم النظرية أرفع من المعارف العملية، والحطّ من شأن الطبيعيات بالمقارنة مع علوم الحكمة الأخرى، وبالرغم من أنَّ الطبيعيات أُدرجت في أقسام الحكمة النظرية، لكنَّ الاهتمام بها ودراستها كان مدعاة لأسف بعض الفلاسفة. فكان ملا صدرا الشيرازي مثلاً، يعيب على الشيخ الرئيس ابن سينا استنزاف جهوده في مثل هذه العلوم، حتى أنَّه أرجع ما تبدّى له من أخطاء ابن سينا في الإلهيات إلى صرف وقته في هذه العلوم الثانوية غير الضرورية. كتب ملا صدرا: "فهذه وأمثالها من الزلات والقصورات، إنَّما نشأت من الذهول عن حقيقة الوجود، وأحكام الهويَّات الوجوديَّة، وصرف الوقت في علوم غير ضروريَّة، كاللغة، ودقائق الحساب، وفن أرثماطيقي، وموسيقى، وتفاصيل المعالجات في الطب، وذكر الأدوية المفردة، والمعاجين، وأحوال الدرياقات، والسموم، والمراهم، والمسهلات، ومعالجة القروح والجراحات، وغير ذلك من العلوم الجزوية، التي خلق الله لكل منها أهلاً، وليس للرجل الإلهي أن يخوض في غمرتها"(22).

إنَّ هذا اللون من التفكير ظلّ أحد القيم السائدة لدينا قروناً طويلة، ولمَّا تزلْ آثاره تطبع حياتنا الثقافية، فنبجّل رجل التأمل على رجل التجربة والعمل، من دون أن نتدبّر عطاء كلِّ واحد منهما ودوره في خدمة الناس وتنمية حياة المجتمع، خلافاً لمنظور القرآن الكريم الذي يعلي من شأن العمل، ويجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الأعلون.

 

3- تفريغ علم الكلام من محتواه الاجتماعي:

أراد القرآن للتوحيد أن يكون صبغة لسائر مرافق حياة الإنسان "صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة"(23)، أي أنَّ  تفكير الإنسان، وفعالياته، وسلوكه اليومي يجب أن يصطبغ ويتلون بالتوحيد، حتى تصير "كل قضية علمية كانت أو عملية، هي التوحيد قد تلبس بلباسها وتظهر في زيّها، وتنزل في منزلها، فبالتحليل ترجع كل مسألة وقضية إلى التوحيد، وبالتركيب يصيران شيئاً واحداً، لا مجال للتجزئة ولا للتفريق بينهما"(24).

ولقد كانت العقيدة التي يستوحيها المسلم من القرآن طاقة تنتج الإيمان، وتوجه السلوك؛ لأنها تجعل الإيمان معطىً عملياً ناجزاً، مفعماً بالحيوية، عبر دمج النظر بالعمل، وعدم الفصل بين الإيمان بوصفه حالة وجدانية وبين السلوك الإنساني، الذي يتجلّى من خلاله المحتوى الإجتماعى للتوحيد. غير أنَّ علم الكلام الذي تمت صياغته لاحقاً بالاستناد إلى أدوات المنطق الأرسطي لم يقتصر على تعميق البعد النظري في العقيدة، بل تجاوزه إلى تفريغ التوحيد من مضمونه العملي، والتعامل مع المعتقدات بوصفها مفاهيم ذهنيَّة مجرَّدة لا صلة لها بالواقع(25). ولم تعد مظاهر السلوك المختلفة تندفع في تلقائية ووضوح من مرجعيتها العقيدية، وغدت حقائق العقيدة تشبه أن تكون تصديقات ذهنية، غايتها في ذاتها، وضَعُف الشعور بغاياتها السلوكية. وأنَّ حقيقة التوحيد التي كانت في عهود الازدهار الإسلامي تطبع حياة المسلمين كلها تشريعاً، وآداباً، وفنوناً، وعمارة، أصبحت بعد ذلك منحسرة في أذهان المسلمين إلى بعد واحد تجريدي، هو وحدانية الله، وتقلص أثرها في مناحي الحياة العملية(26).

ومع أن المسلم أصرّ على التمسك بالإيمان بالله وبوحدانيته، ولم يتخلَّ عن إيمانه، غير أنَّ هذا الإيمان فقد إشعاعه الاجتماعي، وتجرّد من فاعليته، فلم يتجسّد في نزوع للوحدة والمؤاخاة في حياة المجتمع المسلم، باعتبار أنَّ عقيدة التوحيد توحّد المجتمع، في التصورات، والغايات، والشعور، وأنماط السلوك. وإَّنما تعرض المجتمع إلى انقسامات شتى، وأمسى جماعات وفرقاً متعددة، أهدرت الكثير من قدرات الأمة في سجالات أفضت إلى مواقف عدائية، وأقحمت الأمة في حروب أهلية في بعض الفترات. وهكذا يضمحل دور العقيدة، فلا تحول دون اقتتال الأمة الواحدة، ولا تكون منبعاً للوحدة، حين تفرغ من محتواها الاجتماعي.

 

4- تراجع دور العقل وشيوع التقليد في علم الكلام:

مع أنَّ الكلام والفلسفة كليهما يصنف في خانة المعارف العقلية، إلاّ أنَّ هناك فرقاً شاسعاً في نوع المنهج الذي يتعاطاه المتكلم والمنهج الذي يتعاطاه الفيلسوف، فالثاني ينتهج البرهان الذي يرتكز على مسائل مسلمة تستند إلى مقدّمات يقينية، ويرى أنَّ الحقيقة هي ما ينتهي إليه البرهان، بمعنى أنَّه ليس هناك حقائق قبلية خارج إطار البحث والبرهان. بينما يتعاطى المتكلم منهجاً مختلفاً يبتني على الإيمان بمسلمات قبلية، ثمّ يستدل عليها بمقدّمات، قد تكون يقينية وقد تكون غير ذلك، لذلك يكون القياس المستعمل في البحث الكلامي جدلياً؛ أي يعتمد على مقدّمات تتألف من المشهورات والمسلمات، بغية إثبات ما هو مسلم الثبوت قبلاً، أما القياس المستعمل في البحث الفلسفي، فيكون قياساً برهانياً يعتمد على مقدمات يقينية، بغية إثبات الحقيقة، والتي هي ما ينتهي إليه الدليل، لا ما هو مسلم قبل الدليل.

إنَّ انتهاج هذا المنهج في الأبحاث الكلامية أدّى إلى تراجع دور العقل بالتدريج في علم الكلام، وترسُّخ نزعة تقليد أعلام المتكلمين في كل مذهب، ومع أنَّ المعروف هو عدم جواز التقليد في أصول الدين، غير أنَّ التمسك بآراء الأشعري في أصول الدين مثلاً، شاع بنحو أضحى الدفاع عنها دفاعاً عن الدين، والتفكير خارجها تفكيراً خارج الدين، فجنَّد طائفة واسعة من دارسي الكلام أنفسهم لمحاربة أيَّة محاولة للخروج على فكر الأشعري، ووصموا مثل هذه المحاولات بالابتداع والمروق من الدين.

وهكذا الحال مع غير الأشعري، من أعلام المتكلمين الذين أضحى تقليدهم واقتفاء أثرهم أحد الأعراف المتوارثة في القرون المتأخرة، وأفضى ذلك إلى تعطيل العقل الكلامي، وتوقف الإبداع والاجتهاد في علم الكلام.

وهذه هي النتيجة الطبيعية للنهج الذي اختطه التفكير الكلامي والذي قاد إلى تقليد رجال المذهب. وحسب تعبير العلامة الطباطبائي: "سيكون الاعتقاد بأصل المسألة متكئاً على تقليد رجال المذهب، أما البحث والاستدلال الكلامي، فلا يعدو في نطاق هذا المنهج إلاّ أن يكون ضرباً من ضروب اللهو، أو الرياضة الفكرية، أو اللعب. وسر ذلك أن المنهج البحثي الذي يقوم على افتراض ثبات المدلول أولاً، ثم يبحث ثانياً عن الدليل الذي يدل على المدلول المفترض، لا يستحق أن يوصف بأكثر من كونه لهواً أو رياضة فكرية أو تلاعباً بالحقائق. إنَّ اعتماد هذا المنهج في البحوث العلمية يشبه من الزاوية العرفية، أن يتخذ المرء قراراً إزاء عمل معين، ثمّ يبادر بعد ذلك لطلب المشورة"(27).

ثمّ يمضي الطباطبائي في بيان أثر منهج المتكلمين في استبعاد العقل واستبداله بإجماع أتباع المذهب، فيقول: "كان فيما ترتّب من آثار هذا المنهج، أن اتخذ أتباع كل مذهب من المذاهب الإسلامية، إجماع أهل ذلك المذهب على ما هو متداول بينهم من عقائد، حجّة تكون رديفة للكتاب والسنّة. وبهذا الترتيب سقطت حجية العقل حتى لو كان بديهياً كلياً عن الاستقلال، ولم تعد له قدرة على الفعل والحركة"(28).

أما النتائج السلبية التي خلّفها منهج المتكلمين في الحياة الإسلامية، فتتلخص باشتمال المؤلفات الكلامية على "نظريات وأقوال يأسف العقل السليم لوجودها"(29) مضافاً إلى "افتراض أهل كل مذهب إجماعات ومسلمات مذهبهم من الضرورات، وعليه عدّوا كل من لم يذعن من المسلمين لنظرياتهم ومسلماتهم منكراً للضروري ومن المبتدعين"(30).

وبذلك دخل علم الكلام مرحلة السبات، وحيل بين العقل المسلم وبين ممارسة النقد، وانطفأ النقاش الحرّ الذي ساد الحياة العقلية عند المسلمين، في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية. ولما يزل الفكر الإسلامي ينوء بتركة تلك المرحلة، ولمَّا تزلْ سلطة السلف تقمع المبادرات الجادة في تقويم مسار التفكير الإسلامي، والتعرّف على العناصر المعيقة للعقل المسلم.

 

ومما ينبغي التذكير به هنا، أنَّ قصور علم الكلام التقليدي، وعجزه عن الوفاء بالمقتضيات العقيدية للمسلم، لا يعود فقط إلى ما مرّ من مشكلات، وإنما يضاف إلى ذلك مشكلات أخرى، غير أنَّ جلّ هذه المشكلات تتفرع من تلك، وإن كانت ربما تبدو للوهلة الأولى مستقلة عنها في أثرها.

ومن هذه المشكلات، اعتماد الكلام القديم على الطبيعيات الكلاسيكية، والاستناد إلى معطياتها بوصفها حقائق نهائية، بينما نسخت العلوم الطبيعية الحديثة معظم الأفكار والقوانين التي قامت عليها الطبيعيات بالأمس، وبرهنت الاكتشافات الحديثة لقوانين الطبيعة على أنَّ الكثير من قوانين تلك الطبيعيات وأفكارها أوهام محضة.

كما أنَّ الكلام التقليدي اقتصرت أبحاثه على مجموعة مسائل، ولبث الخلف يكرّر هذه المسائل ذاتها، ويفكر في داخلها، حتى تكونت لها حدود صارمة، لم يجرؤ أحد على تخطّيها، وصار مدلول العقيدة هو تلك المسائل خاصة، واتخذ المتكلمون نسقاً محدداً في ترتيبها، وظل هذا النسق هو هو في المدونات الكلامية.

وقد أدّى ذلك إلى حجب مباحث هامة في علم الكلام، لعلّ من أبرزها مبحث الإنسان، فلم يدرج في مؤلفات المتكلمين مبحث خاص بالإنسان، يتناول تأصيل موقف نظري يحدّد موقع الإنسان في سلم المخلوقات أي منزلة الإنسان وقيمته بالنسبة إلى غيره من المخلوقات، كالملائكة والجنّ وغير ذلك، والهدف من وجوده، وطبيعة وظيفته، وأنماط حياته، وثقافته، وعيشه، وعلاقتها بما يتشكل لديه من رؤية كونية، وما يرتبط بذلك من مسائل، بينما نجد قضية الإنسان تتصدّر القضايا التي يعالجها القرآن.

على أنَّ أهمية هذه القضية تتنامى مع تطوّر الحياة الاجتماعية، وشيوع ألوان القهر والاستبداد، وامتهان الإنسان، وإهدار كرامته، وتدجينه على المفاهيم والقيم الرديئة، فما لم نتوفر على صياغة رؤية كونية تفصح لنا عن مكانة الإنسان، وتحدّد نوع علاقته بالدين، وتؤكد أنَّ الدين جاء لتكريم الإنسان، وترشيده، وخدمته، تغدو دعواتنا لتحريره مجرّد شعارات لا مضمون لها(31).

 

عصر إحياء علم الكلام

في نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، حدث أول لقاء مباشر بين المسلمين في الشرق والأوربيين، لما غزا نابليون مصر سنة 1798م، وجلب معه المطبعة، وبعض مقتنيات الحضارة الأوربية الحديثة، فضلاً عن مجموعة من الخبراء والأكاديميين، ثمّ تلا ذلك بعثُ محمد علي باشا لجماعة من الطلاب المصريين إلى فرنسا في سنة 1826م، وكانت البعثة تضم في البداية اثنين وأربعين دارساً، ثمّ تكامل عددها فبلغ 114، بعد أن التحق بهم آخرون، فكانت أكبر بعثة دراسيَّة توفدها مصر إلى أوروبا حينذاك، وقد لعب أفرادها بعد تأهيلهم العلمي دوراً رائداً في بناء الدولة المصرية، غير أنَّ الدور الأهم، هو الذي لعبه أحد الأفراد، والذي لم يكن أول الأمر طالبا في البعثة. وإنما كان مرشداً أو إماماً دينياً للبعثة، وهو الشيخ رفاعة الطهطاوي، لكنه شرع بالدراسة فور وصوله، وتعلم اللغة الفرنسية، وكان يهدف إلى ترجمة العلوم إلى العربية، وبعد عودته إلى مصر سنة 1831، بادر إلى ترجمة الكثير من الكتب، وبموازاتها كتب رحلته وانطباعاته ووعيه للحضارة الغربية، في كتابه الذائع الصيت "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" ومؤلفات غيرها.

لقد كان لترجمات الطهطاوي ومؤلفاته، وجهود آخرين تالية لجهوده، أثر حاسم في تدشين عهد جديد للفكر في مصر وما حواليها من البلاد العربية، وهو العهد الذي تعرّف فيه المسلمون على شيء من معارف أوروبا وعلومها الجديدة.

وما حدث في مصر سيقه التقاء المسلمين الأتراك بالفكر الأوربي، وقارنه في النصف الأول من القرن التاسع عشر تعرّف المسلمين في شبه القارة الهندية على أوربا وبعض معارفها، وتلاه اتصال الدولة القاجارية في إيران بها أيضاً.

ولقد اتسم تعرّف النخبة في العالم الإسلامي على أوربا آنذاك بالانبهار والذهول، فمثلاً كان السير سيد أحمد خان يدعو المسلمين في الهند للانخراط في الحضارة الغربية، وبغية تحقيق ذلك أصدر مجلة "تهذيب الأخلاق" وهي مجلة تهتم بالتبشير بدعوته، كما أنشأ مجمعاً علمياً للترجمة والتأليف والنشر، ومؤسسة تعليمية هامة سنة 1875م. هي "جامعة عليكره الإسلامية"، كذلك ألّف عدة كتب، من أشهرها تفسيره للقرآن، الذي نحا فيه منحى تأويلياً، واهتم فيه بالتلفيق بين مداليل القرآن والعلوم الحديثة، فقدم في هدى هذا المنهج فهماً بديلاً لبعض العقائد، واقترح في كتابه "تبيان الكلام" نظرية جديدة اصطلح عليها بإنسانية الأديان(32).

لقد أشاعت آراء أحمد خان، ونظراته التأويلية للمفاهيم العقائدية، ودعوته للمذهب الطبيعي، عاصفة من الجدل والمناظرات، أيقظت التفكير الكلامي الساكن، وأقحمت العقل الكلامي في فضاء قلق مضطرب يموج بإشكالات واستفهامات مختلفة، لم يألفها هذا العقل في متون الكلام الكلاسيكية، فانبرى للردّ على آرائه السيد أكبر حسين الإله آبادي، والسيد جمال الدين الأفغاني، وغيرهم(33).

إن آراء أحمد خان وآراء مفكرين آخرين ظهروا فى تركيا وإيران ومصر والمشرق العربي، عملت على تأجيج قلق عقائدي، مهّد السبيل لبعث الروح في علم الكلام وإحيائه من جديد، فدبّت الحياة من جديد في التفكير الكلامي، وبدأ وعي المتكلم يتحرّر من الحواشي والشروح، التي لبث محتجباً في مداراتها عن العالم مدّة طويلة.

 

مفهوم تجديد علم الكلام

ماذا يعني مصطلح علم الكلام الجديد؟ ومن هو مجدّد علم الكلام في هذا العصر؟

حتى هذه اللحظة ما زال هناك نقاش بين المهتمين حول هاتين المسألتين، فقد ذهب بعض إلى أن تجديد علم الكلام لا يعني سوى إلحاق المسائل الجديدة واستيعابها في إطار المنظومة الموروثة لعلم الكلام(34)، فمتى ما انضمت مسائل أخرى لعلم الكلام تجدّد هذا العلم. فيما ذهب آخرون إلى أن مفهوم تجديد علم الكلام لا يقتصر على ضمّ مسائل جديدة فحسب، وإنما يتسع ليشمل التجديد في: المسائل، والهدف، والمناهج، والموضوع، واللغة، والمباني، والهندسة المعرفية(35).

فالتجديد في المسائل يعني توالد مسائل جديدة، نتيجة للشبهات المستحدثة، ينجم عنها نمو وتطور علم الكلام نفسه.

أما التجديد في الهدف، فيعني تجاوز الغايات المعروفة لهذا العلم، التي تتلخّص في الدفاع عن المعتقدات، إلى تحليل حقيقة الإيمان ومجمل التجربة الدينية.

كما أنَّ التجديد في المناهج يعني التحرّر من المنهج الأحادي، والانفتاح على مناهج متعدّدة في البحث الكلامي، تشمل المناهج الهرمنيوطيقية علم تفسير النصوص، والسيميائية علم الدلالة، والتجريبية، والبرهانية، مضافاً إلى ظواهر النصوص، والحقائق التاريخية(36).

بينما يعني التحوّل في الموضوع، الخروج من الاهتمام بقضايا وجود الباري وصفاته، والنبوة العامة والخاصة، والمعاد، إلى نطاق واسع يستوعب كافة القضايا الموجودة في النصوص المقدسة، سواء منها الناظرة إلى الواقع أم الناظرة إلى الأخلاق والقيم(37).

أما التجديد في اللغة، فيتحقّق بالانتقال من لغة المتكلمين القديمة، ومعمياتها وألغازها، إلى لغة حديثة تعبّر بيسر، وسهولة عن المداليل، ويفهمها المخاطب من دون عناء؛ لأنها لغة معاملاته وحياته اليومية.

وبموازاة ذلك لابدّ من التجديد في المباني، فالمتكلم اهتمّ سابقاً بترسيم مبانٍ خاصة في المعرفة، تستند إلى المنطق الأرسطي، وشيء من ميراث الفلسفة اليونانية، وجعلها ممهّدة للمباحث الكلامية، بينما انهارت بعض تلك المباني، حين افتتحت الفلسفة الأوروبية الحديثة ثغرات اخترقت جدار الواقعية الأرسطية، وتزايد الحديث عن واقعيات معقّدة، كالواقعية التخمينية، وتعرّض المفهوم التقليدي للعقل إلى عاصفة نقدية، استهلَّها الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط"، واكتست من بعده صياغات متنوعة، مستندة في ذلك إلى معطيات فلسفة العلم والفيزياء الجديدة. ذلك كله يدعو إلى استئناف النظر في المباني الماضية لعلم الكلام؛ لأن التجديد في المسائل، والموضوع، والهدف، والمناهج، واللغة يتطلّب تجديداً في المباني.

فإذا طال التجديد جميع الأبعاد السابقة، فإن الهندسة المعرفية لعلم الكلام ستشهد تحديثاً، لأن أبعاد كل علم تشكّل نسيجاً متكاملاً فيما بينها، ويوحّدها التأثير المتبادل؛ أي أن أي تحوّل في أحدها يستتبعه تحوّل في سائر الأبعاد، وهذا يعني تخلخل المنظومة السابقة للعلم، وحدوث منظومة بديلة، يأخذ فيها كل بعد من أبعاد العلم موقعه الملائم، ويُعاد نظم المسائل في إطار يتسق مع التحولات الجديدة في: المسائل، والغايات، والموضوع، والمناهج واللغة، والمباني، ومعنى ذلك تجديد الهندسة المعرفية لعلم الكلام(38).

غير أنَّ هذا التصور لتجديد علم الكلام لا يتضمّن رسم حدود دقيقة بين علم الكلام وفلسفة الدين، مضافاً إلى أنه يخلط بين الكلام الجديد، والإلهيات المسيحية الحديثة(39). علاوة على أنه لما يزل في طور البناء؛ ولذا تنوّعت الاجتهادات، في بيان هويته، والكشف عن أسسه ومرتكزاته.

ومع ذلك كله يبدو هذا التصور أجلى من تصورات أخرى، تسعى إلى إيضاح مفهوم تجديد علم الكلام، لكنها تختصر التجديد في بُعد واحد، أو تتخبّط، فلا نكاد نستخلص منها مفهوماً متميزاً للتجديد.

 

وهم التأسيس

من هو مؤسس علم الكلام الجديد؟

في ضوء المعطيات المذكورة آنفاً لمفهوم التجديد، يغدو القول بوجود فرد واحد مؤسس لهذا العلم، قولاً يقفز على حقائق التاريخ، ويجهل المدلول الحقيقي لتجديد الكلام؛ ذلك أن حركة التجديد مخاض عسير، وولادة شاقة، لم تبلغ غاياتها بقرار تصدره مؤسسة أو فرد، أو خطبة حماسية، تصدر من مرجع علمي، أو مقال، بل ولا كتاب ينشر، وإنما هي مجموعة جهود معرفية، وعلمية، وعملية جريئة، تنطلق في بيئة تتوفّر على العناصر والمقومات الضرورية لاستنبات الفكرة ونموها.

وليس تجديد علم الكلام بدعاً من ذلك، وإنما هو مشروع تظافرت في احتضانه وتطويره مبادرات، وجهود أسهم فيها كثيرون من أعلام المسلمين في العصر الحديث، وإن كان دور الريادة يبقى نصيب عدد محدود منهم.

أما نشأة مصطلح علم الكلام الجديد، فيبدو أن هذا المصطلح ظهر للمرّة الأولى كعنوان لكتاب العالم الهندي المسلم شبلي النعماني (المتوفى سنة 1332هـ)، ثمّ نقله إلى الفارسية محمد تقي فخر داعي كيلاني، وطبعه في طهران (سنة 1329ش/1950م) بالعنوان نفسه .

إلاّ أننا لا نستطيع أن نجزم بأن شبلي النعماني هو أول من نحت هذا المصطلح، الذي أضحى عنواناً للاتجاه الحديث في إعادة بناء علم أصول الدين. لكنه كان من أوائل الداعين إلى تجديد علم الكلام، بغية الردّ على الشبهات الحديثة، والدفاع عن الشريعة، فقد ذكر شبلي النعماني في مطلع كتابه هذا "إن علم الكلام القديم يُعنى ببحث العقائد الإسلامية؛ لأن شبهات الخصوم كانت ترتكز على العقائد فقط، بينما يجري التأكيد هذا اليوم على الأبعاد الأخلاقية والتاريخية والاجتماعية في الدين، وتتمحور الشبهات حول المسائل الأخلاقية والقانونية من الدين، وليس حول العقائد، فإن الباحثين الأوربيين يعتبرون الدليل الأقوى على بطلان الدين هي مسائل تعدّد الزوجات، والطلاق، والأسرى، والجهاد. وبناء على ذلك سيدور البحث في علم الكلام الجديد حول مسائل من هذا القبيل، حيث تعتبر هذه المسائل من اختصاص علم الكلام الجديد"(40). ولذا أدرج النعماني في هذا الكتاب مسائل جديدة مثل: حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، والإرث، والحقوق العامة للشعب، بجوار مباحث وجود الباري، والنبوة، والمعاد، والتأويل، وغير المحسوسات، كالملائكة والوحي وغيرها، والعلاقة بين الدين والدنيا.

ثمّ صدر في طهران عام 6591م كتاب بعنوان "جهار مقالة: فلسفه يا كلام جديد" (أربع مقالات: الفلسفة أو الكلام الجديد) تأليف جواد تارا، غير أن مباحث هذا الكتاب لا علاقة لها بعلم الكلام الجديد، وإنما يحتوي الكتاب على أربع مقالات، بحث المؤلف في الأولى منها مفهوم الوجود، فيما تحدّث في الثانية عن وحدة الوجود وعلاقة الوجود بالماهية، وفي الثالثة حول الحق والحكم، وفي الأخيرة استعرض الأدلة على عودة الأرواح.

وفي عام 1946م أوضح العالم الهندي المسلم وحيد الدين خان في مقدمة كتابه "الإسلام يتحدّى" المبررات التي دعته لتأليف كتابه هذا، فشدّد على ضرورة التحرّر من منهج علم الكلام القديم؛ لأن "طريقة الكلام وأسلوبه قد تغيرا بتغير الزمن، ولذلك علينا أن نأتي بعلم كلام جديد لمواجهة تحدّي العصر الحديث"(41). وقد استطاع وحيد الدين خان وصل ما بدأه المفكر المسلم محمد إقبال من قبل في "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، فكان كتابه "الإسلام يتحدّى" إنجازاً رائداً في تشييد الكلام الجديد، إلاّ أنه ظلّ مهملاً في المشرق الإسلامي، فلم يهتم به الباحثون، مع أنه تُرجم إلى العربية ونشر قبل ثلاثين عاماً.

وبعد ذلك بسبعة أعوام أصدر وحيد الدين خان كتابه الكلامي الثاني "الدين في مواجهة العلم"(42)، وأردفه بعد فترة بدراسة أعدّها بعنوان: "نحو علم كلام جديد"، ألقاها في ندوة "تجديد الفكر الإسلامي"، التي عقدتها الجامعة الملية الإسلامية بدلهي في 27 ديسمبر1976م(43).

أما لدى الباحثين العرب، فقد ذكر مصطلح "علم كلام جديد" الدكتور فهمي جدعان سنة 1976م، في كتابه "أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث" في الفصل الرابع الذي عقده للحديث عن "التوحيد المتحرر"، وبواعث التفكير الكلامي الجديد لدى بعض المفكرين المسلمين المحدثين، الذين "راحوا يبحثون عن علم كلام جديد -إن أمكن القول- علم للكلام يكون للتوحيد فيه وظائف جديدة، ويكون علماً "محرراً" للإنسان، وعلماً صافياً من الشوائب والأكدار"(44).

ويعود استخدام مصطلح "التوحيد المتحرر" إلى المستشرق البريطاني "جيب"، الذي أشار إلى "اللاهوت المتحرّر" ونسبه إلى أحد اللاهوتيين الكبار، في سياق حديثه عن الاتجاهات الحديثة في الإسلام، في المحاضرات التي ألقاها في "مؤسسة هاسكل لدراسة الأديان المقارنة" في مطلع هذا القرن. ونشرها فيما بعد في كتاب "الاتجاهات الحديثة في الإسلام"(45).

وفي إيران ظهر مصطلح "علم الكلام الجديد" مع ترجمة كتاب شبلي النعماني المذكور ونَشْرِه

سنة 1950م، لكن تبلور اتجاه جديد في التفكير الكلامي تجلّى بوضوح في آثار العلامة محمد حسين الطباطبائي، وتلميذه الشهيد الشيخ مرتضى المطهري، فقد سعى الأخير سعياً حثيثاً لإرساء أسس منهجية لتجديد علم الكلام، وكتب تصورات أولية بشأن تلك الأسس، كما اهتم بترسيم مفهوم علم الكلام الجديد، ويتعاطى مع المصطلح في آثاره، ففي سياق بحثه لوظيفة علم الكلام، يحدّد له المطهري وظيفتين، تتمثل الأولى في دحض الشبهات الواردة على أصول الدين وفروعه، والثانية في بيان الأدلة على الأصول، ثمّ يشير إلى أن اقتصار الكلام القديم على هاتين الوظيفتين يعني غيابه عن الشبهات المستجدة في عصرنا، فضلاً عن أن الشبهات الماضية أمست بلا موضوع في هذا العصر. كذلك وفّر التقدّم العلمي الكثير من الأدلّة والبراهين الجديدة التي لم يعهدها العقل سابقاً. أضف إلى ذلك أن الكثير من الأدلة المتداولة بالأمس فقدت قيمتها، من هنا يشدّد المطهري على لزوم (تأسيس كلام جديد)(46).

في هذا الضوء لا ينبغي أن تُمنح "براءة" تحديث علم الكلام لرجل واحد؛ لأن رواد الإصلاح أسهموا جميعاً في إعادة بناء هذا العلم، فمنهم من عمل على تحديث المسائل، وآخر عمل على تحديث المباني، وثالث عمل على تحديث اللغة، ورابع أسهم في كل منها بنصيب.

 

أزمنة علم الكلام الجديد:

سنشير باختصار إلى الأزمنة التي تكشفت لنا بعد استقراء آثار الكلام الجديد:

أما ما نعنيه بالزمن هنا، فهو تلك الفترة التي تتسم الآثار الكلامية فيها بسمات مشتركة، تتميز بها عن الأعمال السابقة واللاحقة. وفيما يلي بيان هذه الأزمنة:

1- إحياء علم الكلام أو تأسيس المعتقد على العقل والعلم:

يمكن أن نؤرخ لهذه الفترة بالنصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي حتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين. ومما تميزت به هذه الفترة الدعوة لإحياء علم الكلام، ببعث شعاب الإيمان الساكنة في النفوس، عبر التذكير بأصول الدين والموعظة بوازعه ودافعه، وإيقاظ الفكر من حالة السبات، وإثارة طاقات الحركة، والدعوة لاصلاح الأفكار الفاسدة(47). وتطهير وجدان الأمة من الخرافات، وتأكيد دور العقل والعلم بوصفهما رافدين رئيسيين لتغذية المعتقد.

أما أبرز أعلام هذه الفترة فهم السيد جمال الدين الأفغاني، وتلميذه محمد عبده، وعبد الرحمن الكواكبي، وشبلي النعماني، ومحمد الطاهر بن عاشور، وهبة الدين الشهرستاني، وحسين الجسر، ومحمد جواد البلاغي، ومحمد حسين كاشف الغطاء،… وغيرهم.

 

2- تجديد علم الكلام أو التأسيس الفلسفي لعلم الكلام:

تبدأ هذه الفترة بجهود المفكر الهندي المسلم محمد إقبال، خاصة محاضراته الست التي ألقاها في مدراس بالهند عام 8291م، ثمّ أتمها بعد ذلك في الله آباد في عليكره، وصدرت فيما بعد في كتابه الشهير "تجديد التفكير الديني في الإسلام"، وتمتد هذه الفترة التي اشتهر فيها كتاب "الظاهرة القرآنية" لمالك بن نبي، الذي صدر للمرة الأولى باللغة الفرنسية في باريس سنة 1946م، ودرس مالك فيه التجربة الدينية، وظاهرة الوحي، والمعجزة، دراسة مبتكرة معمّقة. وكتاب "الدين: بحوث ممهّدة لدراسة تاريخ الأديان" لمحمد عبد الله درّاز، الذي كتبه سنة 1952م، وعالج فيه معالجة تحليلية دقيقة الفكرة الدينية من الوجهتين الموضوعية والنفسية، والعلاقة بين الدين، والأخلاق، والفلسفة وسائر العلوم، ونزعة التدين وأصالتها في الفطرة، ونشأة العقيدة الدينية. وبعبارة أخرى تناول الكثير من مباحث ما يعرف بفلسفة الدين بأسلوب منهجي تحليلي.

ومن الكتب التي اشتهرت في هذه الفترة كتاب "أصول الفلسفة والمنهج الواقعي" للعلامة محمد حسين الطباطبائي والتعليقات عليه لتلميذه الشيخ مرتضى المطهري، فقد صدر الجزء الأول سنة 1953م، وهذا الكتاب، وإن كان كتاباً فلسفياً، انصبّ البحث فيه على بيان مسألة المعرفة والإدراك، وتفسير حقيقة المعرفة البشرية، ومصادرها، وحدودها، لكنه جاء ليقرر جملة من القواعد والمرتكزات الأساسية في الفلسفة الإسلامية، وينطلق منها لمحاكمة الاتجاه التجريبي في الفلسفة الأوربية، والفلسفة المادية، والمادية الديالكتيكية منها بالذات، التي وفدت إلى العالم الإسلامي ساعتئذ.

وفي سنة 1959م صدر كتاب "فلسفتنا" للمفكر الشهيد محمد باقر الصدر، وهذا الكتاب كسابقه "أصول الفلسفة" يمثل محاولة جادة للتأسيس الفلسفي لعلم الكلام، فإنه يعالج قضية المعرفة أولاً، ثمّ ينطلق منها لتحديد الرؤية الكونية للإسلام.

شهدت هذه الفترة  انتقال علم الكلام من طور الإحياء إلى طور التجديد، فالإحياء كما مرّ آنفاً يعني البعث والإيقاظ والإثارة، فيما يعني التجديد إعادة بناء علم الكلام، وتطويره؛ أي تكييفه لطور جديد من أطوار التاريخ، يستجيب فيه لمتطلبات الحياة المتجدّدة(48).

 

3- التأسيس المنهجي لعلم الكلام:

تبدأ الفترة الثالثة من تطور علم الكلام الجديد بصدور كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء" سنة 1917م، وتستمر حتى اليوم. والسمة المميزة لهذه الفترة من عمر التفكير الكلامي، هي حدوث منعطف منهجي في مسار حركة علم الكلام.

فللمرّة الأولى يتحرّر التفكير الإسلامي من قوالب المنطق الأرسطي، ويستند إلى منهج الاستقراء القائم على حساب الاحتمالات، بعد أن اكتشف الشهيد الصدر مذهباً جديداً في تفسير نمو المعرفة وتوالدها، غير ما كان معروفاً في المذهبين التجريبي والعقلي، وأسماه "المذهب الذاتي للمعرفة". وتوكأ عليه في تدوين "موجز في أصول الدين" الذي جعله مدخلا لرسالته العملية "الفتاوى الواضحة"(49).

كما حصل انفتاح في مرحلة لاحقة على مناهج متنوعة في البحث الكلامي، فاستعان بعض الباحثين بفلسفة العلم المعاصر في أوروبا، وعمل على توظيف معطياتها في تحليل المعرفة الدينية، وتأكيد تاريخية هذه المعرفة(50)، فيما استعان آخرون بالهرمنيوطيقيا "تفسير النصوص" والسيمياء "علم الدلالة" في تفسير النصوص وتأويل مدلولاتها(51). واستعار فريق ثالث مناهج ومعطيات متنوعة من العلوم الإنسانية الغربية، والإلهيات المسيحية ودشّنها بمجموعها في تفسير النصوص، وتحليل التجربة الإيمانية، والمعرفة الدينية، حتى قاد ذلك إلى ما يشبه الفوضى المنهجية التي أفضت إلى نتائج متناقضة في تقرير أية قضية.

 

الهوامش

(1) دي بور. ت. ج.، تاريخ الفلسفة في الإسلام، نقله إلى العربية: د.محمد عبدالهادي أبو ريدة، بيروت، دار النهضة العربية، ص48 (الهامش).

(2)حول "علم الكلام" راجع:

– المصدر السابق، ص48(الهامش).

– التهانوي، محمدعلي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، ط1 تحقيق: علي دحروج، بيروت، مكتبة لبنان ناشرون، 1996م، ج1، ص29.

– الأحمدنكري، عبدالنبي بن عبدالرسول، جامع العلوم في اصطلاحات الفنون( المعروف بدستور العلماء)، ط3ط3، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، 1975م، ج 3، ص133.

– التفتازاني، سعد الدين، شرح العقائد النسفية، طبعة حجرية، 1304هـ، ص 5 – 7.

(3) التفتازاني، شرح العقائد النسفية، مصدر سابق، ص 5 – 7.

(4)عبد الرازق، مصطفى، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، القاهرة، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص 267.

(5)  المصدر نفسه، ص 268.

(6)  بدوي، د. عبد الرحمن، مذاهب الإسلاميين، ط3، بيروت، دار العلم للملايين، 1983م، ج1، ص23.

(7)  الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، ج1، ص59-606 (كتاب التوحيد).

(8) أمين، أحمد، ضحى الإسلام، بيروت، دار الكتاب العربي، ج 3، ص10.

(9) الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، ص23.

(10)  جولد تسيهر، أجناس، العقيدة والشريعة في الإسلام، ترجمة: محمد يوسف موسى وصاحبيه، القاهرة، دار الكتاب المصري، 1946م، ص 114.

(11)  السبكي، عبد الوهاب بن تقي الدين، طبقات الشافعية الكبرى، القاهرة، 1909م، ج 3، ص126.

(12) السيوطي، جلال الدين، صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام، ص 96.

(13) الرازي، فخر الدين، مناقب الإمام الشافعي، مخطوطة الأزهر بالقاهرة، برقم خاص 3936 وعام 1617، صفحة 65- 66.

(14) طاشكبرى زاده، أحمد، مفتاح السعادة، طبعة حيدرآباد، ج 2، ص26.

(15)  السبكي، طبقات الشافعية، مصدر سابق، ج 1، ص241.

(16)  المرتضى، أحمد بن يحيى، طبقات المعتزلة، تحقيق، سوسنة ديفلد – فلزر، بيروت، دارالمنتظر، ط2، 1988م، ص124- 125.

(17)  كبرى زاده، مفتاح السعادة، مصدر سابق، ج 2، ص26.

(18)  الغزالي، أبو حامد، قواعد العقائد، ص87.

(19)  الأعسم، د. عبد الأمير، الفيلسوف نصير الدين الطوسي مؤسس المنهج الفلسفي في علم الكلام الإسلامي، ط2، بيروت، دار الأندلس، 1980م، ص149- 154.

(20)  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، موسسة الأعلمي للمطبوعات، 1991م، ج 5، ص 286.

(21)  النجار، د. عبد المجيد، واقعية المنهج الكلامي ودورها في مواجهة التحديات الفلسفية المعاصرة، مجلة المسلم المعاصر، ع 60 (شوال 1411هـ- مايو 1991م) ص162.

(22)الشيرازي، صدر الدين، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، قم، مكتبة المصطفوي، 1368ش، ج 9، ص 199.

(23) البقرة/138.

(24) الطباطبائي، محمد حسين، علي والفلسفة الإلهية، طهران، مؤسسة البعثة، 1402، ص19.

(25) الصدر، الشهيد محمد باقر، موجز في أصول الدين، تحقيق: عبد الجبار الرفاعي، قم، مكتبة سعيد بن جبير، 1417هـ، ص12 (مقدمة المحقق).

(26) النجار، واقعية المنهج الكلامي ودورها في مواجهة التحديات الفلسفية المعاصرة، مصدر سابق، ص161.

(27) الطباطبائي، محمد حسين، الشيعة. نص الحوار مع المستشرق كوربان، قم، مؤسسة أُم القرى للتحقيق والنشر، 1416هـ، ص 82-83.

(28) م.ن.

(29) م.ن.

(30) م.ن.

(31) الصدر، موجز في أصول الدين، مصدر سابق، ص21-25 (مقدمة المحقق).

(32) الرفاعي، عبد الجبار، المقدمات التأسيسية للتغريب في المجتمعات الإسلامية: مثال الهند، التوحيد ع60 (محرم 1413هـ – تموز 1992م) ص90-96.

(33) المصدر نفسه، ص 94-95.

(34) السبحاني، الشيخ جعفر، مدخل مسائل جديد در علم كلام، قم، مؤسسة الإمام الصادق، 1375ش،

ص 6-8.

(35)  فرامرز قراملكي، د. أحد، تحليل مفهوم التجدد في الكلام الجديد، ترجمة: حبيب فياض، مجلة المنطلق ع119(خريف وشتاء 1997-1998) ص 18-23.

(36) المصدر نفسه، ص 17-22.

(37) ملكيان، مصطفى، دفاع عقلاني از دين (الدفاع العقلائي عن الدين)، مجلة نقد ونظر، ع 2(ربيع 1374.ش) ص 36.

(38) فرامرز قراملكي، د. أحد، تحليل مفهوم التجدد في الكلام الجديد، مصدر سابق، ص 22- 23.

(39) المصدر نفسه، ص 10-12.

(40) النعماني، شبلي، علم كلام جديد، ترجمه للفارسية: سيد محمد تقي فخر داعي كيلاني، طهران 1329ش، ص 42.

(41) خان، وحيد الدين، الإسلام يتحدّى: مدخل علمي للإيمان، تعريب: ظفر الإسلام خان، مراجعة وتحقيق: د. عبدالصبور شاهين، الكويت، دار البحوث العلمية، ط 6، 1981م، ص 42.

(42) نقل هذا الكتاب إلى العربية نجل المؤلف: ظفر الإسلام خان، ونشرته دار الاعتصام بالقاهرة سنة 1972م.

(43) نقل هذه الدراسة إلى العربية نجل المؤلف: ظفر الإسلام خان، ونشرتها دار النفائس في بيروت، في كتاب يضمّ دراسات أخرى للمؤلف بعنوان "الإسلام والعصر الحديث" سنة 1983م.

(44) جدعان، د. فهمي، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط3، عمان الأردن، دار الشروق، 1988م، ص 195.

(45) جيب، ه-.أ.ر.، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت، دار مكتبة الحياة، ص411، ولاحظ أيضاً حول ولادة المصطلح، الصفحات 89، 102، 110، 113.

(46) مطهري،الشهيد مرتضى، وظايف اصلى ووظايف فعلي حوزه هاى علميه، (الوظائف الأساسية والوظائف الفعلية للحوزات العلمية) ، ص 49.

(47) الترابي، د. حسن عبد الله، قضايا التجديد، نحو منهج أصولي، الخرطوم، معهد البحوث والدراسات الاجتماعية، ط 2، 1995م، ص 19.

(48) المصدر نفسه، ص 20.

(49) الصدر، موجز في أصول الدين، مصدر سابق، ص 45-47.

(50) سروش، عبدالكريم، قبض وبسط تئوريك شريعت، طهران، صراط، 1372ش.

(51) شبستري، محمد مجتهد، هرمنوتيك كتاب وسنت (هرمنيوطيقا الكتاب والسنة)، طرح نو، 1375ش.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً