أحدث المقالات

حيدر حبّ الله

تمهيدٌ حول الأطعمة والأشربة في الديانات الإبراهيميّة

موضوع المأكول والمشروب أو الأطعمة والأشربة يمثِّل واحداً من أهمّ جوانب الحياة عند الإنسان على هذه البسيطة، فهو معنيٌّ بهذا الجانب، ويفتِّش عمّا يرضي رغبته وشهوته وحاجته من جهةٍ، وما لا يُلحق به أذىً أو ضرراً من جهةٍ ثانية.

وقد اهتمّت الشعوب المختلفة بقضايا الطعام والشراب، وكانت لها أنماطها وأعرافها وعاداتها. وفيما كانت هناك مأكولاتٌ تعتبر مشتركةً بين بني البشر تقريباً كانت لكلّ شعبٍ أو أمّة أو منطقة مأكولاتُها الخاصّة التي تكوَّنت عبر أوضاع مناخيّة أو بيئيّة أو غيرها فرضتها حاجة الجسم أو غير ذلك.

الأديان بدَوْرها كانت لها مساهمات في هذا الموضوع، وشكَّلت أعرافاً وعادات في ثقافة الشعوب التي انتمت إليها. ومن بين هذه الأديان يمكن التركيز على الديانتين: اليهوديّة؛ والإسلاميّة، فقد تدخَّلتا ـ في وجودهما التاريخي ـ بالكثير من الجوانب التي ترتبط بالأكل والشرب عند الإنسان، ومنها جوانب تتّصل بالمأكول والمشروب نفسه.

لا تعرف المسيحيّة نظاماً خاصّاً في المأكولات والمشروبات، فهي تعتبر ذلك أمراً مباحاً، لكنّها تركِّز على أن يأكل الإنسان ما ينتفع به، وهي بهذا تعلن أنّ مرحلة ما بعد المسيح والصليب تُنهي تلك المنظومات التشريعيّة التفصيليّة. وقد جاء في الرسالة إلى العبرانيّين ـ المنسوبة إلى بولس الرسول ـ النصّ التالي: «وَأَمَّا إِلَى الثَّانِي فَرَئِيسُ الْكَهَنَةِ فَقَطْ مَرَّةً فِي السَّنَةِ، لَيْسَ بِلاَ دَمٍ يُقَدِّمُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جَهَالاَتِ الشَّعْبِ، مُعْلِناً الرُّوحُ الْقُدُسُ بِهَذَا أَنَّ طَرِيقَ الأَقْدَاسِ لَمْ يُظْهَرْ بَعْدُ مَا دَامَ الْمَسْكَنُ الأَوَّلُ لَهُ إِقَامَةٌ، الَّذِي هُوَ رَمْزٌ لِلْوَقْتِ الْحَاضِرِ، الَّذِي فِيهِ تُقَدَّمُ قَرَابِينُ وَذَبَائِحُ لاَ يُمْكِنُ مِنْ جِهَةِ الضَّمِيرِ أَنْ تُكَمِّلَ الَّذِي يَخْدِمُ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بِأَطْعِمَةٍ وَأَشْرِبَةٍ وَغَسَلاَتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَفَرَائِضَ جَسَدِيَّةٍ فَقَطْ مَوْضُوعَةٍ إِلَى وَقْتِ الإِصْلاَحِ. وَأَمَّا الْمَسِيحُ وَهُوَ قَدْ جَاءَ رَئِيسَ كَهَنَةٍ لِلْخَيْرَاتِ الْعَتِيدَةِ، فَبِالْمَسْكَنِ الأَعْظَمِ وَالأَكْمَلِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِيَدٍ، أَيِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْخَلِيقَةِ، وَلَيْسَ بِدَمِ تُيُوسٍ وَعُجُولٍ، بَلْ بِدَمِ نَفْسِه، دَخَلَ مَرَّةً وَاحِدَةً إِلَى الأَقْدَاسِ، فَوَجَدَ فِدَاءً أَبَدِيّاً؛ لأَنَّهُ إِنْ كَانَ دَمُ ثِيرَانٍ وَتُيُوسٍ وَرَمَادُ عِجْلَةٍ مَرْشُوشٌ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ يُقَدِّسُ إِلَى طَهَارَةِ الْجَسَدِ، فَكَمْ بِالْحَرِيِّ يَكُونُ دَمُ الْمَسِيحِ، الَّذِي بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ قَدَّمَ نَفْسَهُ للهِ، بِلاَ عَيْبٍ، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَكُمْ مِنْ أَعْمَالٍ مَيِّتَةٍ؛ لِتَخْدِمُوا اللهَ الْحَيَّ»([1]).

بهذه الذهنيّة تبدأ مرحلة الإصلاح التي تتغيّر فيها قواعد الحياة، ولم يعُدْ للشريعة والناموس من ضرورةٍ بعد صلب المسيح، ولهذا لا نجد قوانين أطعمة أو أشربة تُذْكَر في المسيحيّة إلاّ بشكلٍ محدود، كالشكر على الطعام، والصيام، وما يُؤْكَل ويُشْرَب في العشاء الربّاني، والتحذير من السُّكْر، ونحو ذلك، باستثناء مثل كنيسة التوحيد الأرثوذكسيّة الأثيوبيّة، المعروفة بتشابهها الكبير مع اليهوديّة، وهي من الكنائس المشرقيّة التي تهتمّ كثيراً بالعهد القديم، وليس فقط بالعهد الجديد، ولهذا نجد لديها اهتماماً بجملةٍ من الأمور، من نوع الطهارات والنجاسات، وكذلك الأطعمة والأشربة، وكذلك تحريم لحم الخنزير (وهو موضوعٌ محلّ جدل بين الكنائس)، بما يقرِّبها نسبيّاً من التقليد اليهودي.

وكذلك الحال مع السبتيّين (Adventist) من البروتستانتيّة الأميركيّة، حيث يفرضون سلسلةً من القوانين المتّصلة بالطعام والشراب.

وثمّة تيارات محدودة أخرى هنا وهناك، لها مواقف من الخمر والتدخين والقهوة وغير ذلك، لكنّها على أيّ حالٍ أقلِّيات نادرة وقليلة في العالم المسيحي.

من هنا لو تخطَّينا المسيحيّة للرجوع خطوةً نحو اليهوديّة فسوف نجد المشهد مختلفاً تماماً؛ ففي اليهوديّة نظامٌ تفصيليّ للأكل والشرب والذبح وغير ذلك. وقد ركَّز سفر اللاويين، ومعه سفر التثنية من أسفار التوراة، على أحكامٍ تتّصل بالأطعمة والأشربة ونحوها، فيما حظيت التفاصيل باهتمام كتاب التلمود، الذي يمثِّل الصورة الواسعة لهذه المنظومة في التقليد اليهودي. ويُطلق اليهود على «الحلال» اسم: كوشر أو كوشير أو كشروت أو كشيروت. وقد تضمَّن الكتاب المهمّ «شولحان عاروخ/Shulchan Aruch /שולחן ערוך» سرداً منظَّماً للأحكام الشرعيّة في باب الأطعمة والأشربة والمائدة والطبخ والذباحة والذبائح وغير ذلك.

ويعتبر كتاب شولحان عاروخ أو المائدة (الجدول) المنضودة المعدّة مصنَّفاً فقهيّاً غير استدلالي منظّماً معتمداً إلى اليوم للمتشرِّعة اليهود، وهو أشبه برسالةٍ عمليّة فقهيّة للسلوك، حتى أنّ بعضهم عبَّر عنه بـ (التلمود الأصغر). وقد أعدّه جوزيف كارو (أو يوسف قارو المتوفّى عام 1575م)، ونشره عام 1564 أو 1565م، معتمداً فيه على عصارة التراث اليهودي من مصادره المتنوِّعة.

وبالانتقال إلى الفقه الإسلامي نحن نجد نصوصاً محدودة في القرآن الكريم تتكلَّم عن موضوع المأكول والمشروب، إلى جانب نصوصٍ كثيرة في السنّة الشريفة. وبهذا وجدنا أنّ الفقهاء المسلمين بمذاهبهم فصَّلوا كثيراً في كلّ ما يتعلَّق بالأكل والشرب والصيد والذباحة والكفّارات والذبائح والأطعمة والأشربة، واختلفت آراؤهم في هذه الموضوعات اختلافاً كبيراً. ولعلّه يمكن القول بأنّ أكثر المذاهب تشدُّداً في الأطعمة والأشربة هو المذهب الإمامي الجعفري؛ فيما أقلّها تشدُّداً هو المذهب المالكي؛ ويبقى لجماعاتٍ أو شخصيّات من الأحناف مواقفهم الترخيصيّة المعروفة عبر التاريخ.

1ـ هل المقارنات الأديانيّة في الأطعمة والأشربة مفيدةٌ أو خطرة؟!

يهمّني جدّاً هذا السؤال؛ وذلك أنّ هذه المقارنات رُبَما يُقال بأنّها ضروريّة على المستوى البحثي؛ إذ ثمّة دعوى يجب النظر من قِبَل العلماء والباحثين بجِدِّية في مَدَيات صدقها تقول بأنّ بعض فقهاء المسلمين من أهل السنّة ـ ورُبَما من الشيعة ـ كانوا يعتقدون بأنّه إذا لم نجِدْ حكماً لموضوعٍ ما في النصوص الدينيّة الإسلاميّة فإنّ علينا الرجوع إلى نصوص مَنْ قبلنا في ما لم يأتِ نصٌّ إسلاميّ على خلافه، بعد أن كان شرع مَنْ قبلنا حجّة علينا ما لم يثبت النسخ، كما يوحيه البحث الذي ما يزال موجوداً إلى اليوم في أصول الفقه الإسلامي، تحت عنوان: «شرع مَنْ قبلنا» تارةً، وعنوان: «استصحاب شرع مَنْ قبلنا» أخرى، بما يجعل القضيّة في ثبوت هذا الشرع، وإلاّ فهو يشملنا ما لم نجِدْ له ناسخاً في الإسلام.. وبهذا أدّى هذا الأمر إلى نفوذ الكثير من التشريعات اليهوديّة في التراث الفقهي الإسلامي.

وهذه دعوى كبيرةٌ جداً وخطيرةٌ للغاية في الوقت عينه، ترى أنّ التشابه الكبير بين الفقه الإسلامي والفقه اليهودي رُبَما يرجع لهذا الأمر، وأنّ الكثير من الأفكار اليهوديّة رُبَما دخلت الفقه الإسلامي عبر هذا الطريق خاصّة، بتوسُّط واضعي الحديث الذين لم يضعوا الحديث خُبْثاً هذه المرّة، بل لأجل إلحاق شرع مَنْ قبلنا بشريعتنا.

ولعلّ أصحاب هذا الاتجاه في الصدر الإسلامي والقرون الأولى كانوا ينطلقون من ثنائيّة أنّ القرآن مصدِّقُ الذي بين يديه من التوراة وفي الوقت عينه مهيمنٌ عليه، بما قد يُفهم منه بالنسبة إليهم أنّ كلّ ما لا يقدِّمه القرآن فهو نوعُ إحالةٍ على الكتب السماويّة السابقة التي يصدّقها.

كما قد يستوحي الإنسان ـ لو أراد الانتصار لفكرةٍ من هذا القبيل ـ أنّ بعض النصوص الحديثيّة دلَّتْ على نهي النبيّ المسلمين عن الرجوع للتوراة، ممّا يعني أنّ واضع هذا الحديث ـ لو فرض أنّ الحديث موضوعٌ ـ في القرنين الأوّل أو الثاني الهجريين كان يلاحظ ظاهرةً من هذا النوع في عصره، فجاء الحديث في مواجهتها.

وحتى مَنْ يُعتبرون من مسرِّبي الإسرائيليّات في الصدر الأوّل، مثل: كعب الأحبار وغيره، رُبَما تكون هذه نزعتهم التي انطلقوا منها لنشر ثقافة الكتب السماويّة السابقة في غير ما نصّ القرآن والنبيّ على عدم صحّته، لا أنّهم كانوا يريدون القيام بمؤامرةٍ ضدّ الإسلام متعمّدة مقصودة، بما يشبه بعض الروايات الإماميّة التي تدلّ على إمكان الرجوع لمصادر أهل السنّة الحديثيّة عند فقدان الرواية فيها في مصادر الإماميّة.

بل لعلّ الباحث قد يدّعي بأنّ الكتب الفقهيّة الأولى التي لا تحمل في داخلها نوعاً من الاستدلال قد يكون تسرّب إليها هذا التفكير دون أن نعرف، ولهذا لم نجِدْ لبعض الفتاوى رواياتٍ أو آياتٍ تسندها، غير أنّها تحوَّلت إلى شهرةٍ لاحقة فيما بعد، ومن الجدير أن نرصدها في تراث الأديان الإبراهيمية السابقة.

هذه الدعوى تحتاج لرصدٍ وتتبُّعٍ تاريخي كبيرين؛ لنعرف صحّتها من عدمها. لكنْ لو غضَضْنا الطرف عن هذه الدعوى، التي لا أتحمّس كثيراً لثبوتها تاريخيّاً؛ فإثباتها ليس سهلاً أبداً، وإنْ كنتُ متحمِّساً جدّاً لاهتمام الباحثين بها؛ فهي موضوعٌ بالفعل يحتاج لدراسةٍ معمّقة مستأنفة جادّة لو أخذناه على كلِّيّته، بعيداً عن خصوصيّة بحث الأطعمة والأشربة…، فإنّ التشابه بين الفقه اليهودي والإسلامي هل يمثِّل عنصر قوّة للأدلّة الشرعيّة في الفقه الإسلامي أو أنّه ـ كما قد يرى بعضٌ ـ يمثِّل عنصر ضعف؟ فالحديث الشريف مثلاً إذا دلّ على أحكام شرعيّة، ووجدناها بعينها في الموروث اليهودي، هل يعني ذلك نوعاً من ضعف الوثوق به؛ على أساس احتماليّة الاستعارة بشكلٍ من الأشكال والوضع من قبل الواضعين، أو لا؟ وهنا يأتي الموقف من الإسرائيليّات.

والأمر المهمّ الذي يجب أن ننتبه له هنا أيضاً هو أنّ الديانة اليهوديّة أقرب نظريّاً إلى الديانة الإسلاميّة، خاصّة على صعيد القضيّة الأكثر خطورة وهي قضيّة التوحيد، إلى جانب قضايا فقهيّة عديدة؛ بينما نجد أنّ النصّ القرآني يتعامل بلينٍ عجيب ومدحٍ مهمّ للمسيحيّين، بمَنْ فيهم رجال دين ومتعبِّدون، بعكس تعامله مع اليهود! وهذا يؤكِّد ـ رُبَما ـ أنّ شدّة القرآن مع فئةٍ دون فئة لم تكن راجعةً فقط إلى العناصر العقديّة والفكريّة بقدر رجوعها إلى نوع سلوك الآخرين تجاه الدعوة الإسلامية في العصر النبويّ؛ فالمسيحيّون لم يخوضوا حروباً تُذْكَر ضدّ النبيّ، بعكس اليهود الذي واجهوا النبيَّ في أكثر من موقعةٍ، وخطّطوا ضدّه وخانوه.

وهذا ما ينتج أنّ الموقف الشديد ضدّ عقيدةٍ ما لا يعني بالضرورة موقفاً بهذه الشدّة ضدّ حاملي هذه العقيدة، كما أنّ الموقف الشديد ضدّ أبناء عقيدةٍ ما لا يعني أو لا يلازم موقفاً بهذه الشدّة ضدّ العقيدة نفسها. ومن ثَمَّ علينا أن نميِّز النصّ القرآني في تعامله مع العقيدة ومع حاملها. وهو ما يلتقي مع الفكرة التي أَثَرناها أكثر من مرّةٍ في التمييز بين كافر العقيدة وكافر المواجهة.

ورُبَما هذا ما يفسِّر أنّ التراث الشيعي كان ليّناً تاريخيّاً مع المسيحيّة، بينما التراث السنّي كان مختلف الحال. ورُبَما يرجع ذلك إلى أنّ العراق وإيران لم يحتكّا بصدامٍ عسكري مع المسيحيّة، بعكس بلاد الشام وما يتّصل بها، والتي نرى في موروثها الكثير من النقد على النصارى، واتهامهم بالخيانة بفعل الأقلِّية المسيحيّة التي بقيَتْ في تلك البلدان، أعني الحوض الشرقي للأبيض المتوسّط، من مصر وحتّى تركيا، خاصّة بعد الحروب الصليبيّة.

2ـ مرجعيّة المصلحة في فقه الأطعمة والأشربة

وبالانتقال إلى جانبٍ آخر ثمّة تصوُّر واسع النطاق يرى أنّ نظام الأكل والشرب في الأديان الإبراهيميّة كلّها يرجع لما في المأكول والمشروب مثلاً من ضررٍ على الإنسان، بمعنى أنّ العنصر المادّي في كيفيّة الأكل أو زمانه أو نوع المأكول أو صفاته هي التي تؤثِّر على التحليل والتحريم.

وقد أثارَتْ هذه القضيّة جَدَلاً نلاحظه اليوم في سياق الصراع بين التراث والحداثة، وكذلك بين العلم والدين. فأهل العلم يقولون اليوم بأنّ طريقة الذبح الإسلاميّة، التي تمنع قطع الرأس عند الذبح، لا فرق بينها وبين الطريقة الشائعة اليوم على المستوى المادّي، فالحيوان هو هو، ولا تأثيرات مادّية على الإطلاق، ومن ثَمَّ يصبح هذا التشريع الديني بلا معنى. ومن هذا النوع اشتراط التسمية عند الذبح، أو إسلام الذابح عند بعض الفقهاء، وغير ذلك.

لست أريد هنا الدخول في جَدَلٍ بقدر ما أريد أن أشير إلى قضيّةٍ عامّة في بحث الأطعمة والأشربة، وهي أنّ تحريم شيءٍ لا يعني أنّ المحرَّم بنفسه (أعني متعلَّق المتعلَّق) صارت فيه مفسدةٌ، بل قد يكون هو هو، لكنّ التحريم يأتي من أمرٍ خارج إطار المأكول المحرَّم نفسه. وتكفينا هذه الاحتماليّة لإعادة فهم الموضوع. فعدم جواز الأكل ممّا يذبحه غير المسلم لا يعني أنّ المذبوح تغيَّرت واقعيّته المادّية، بل خلف هذا التحريم قد يكون المنع عن المعاملات الاقتصاديّة مثلاً، أو نوع من بناء الحاجز النفسي بين المسلمين وغيرهم. فعلينا أخذ مثل هذه الاحتمالات بعين الاعتبار ونحن ندرس فقه الأطعمة والأشربة.

3ـ فقه الأطعمة والأشربة وإشكاليّة التناقض المفتَرَض بين الكتاب والسنّة

من الجوانب المنهجيّة التي تعطي قيمةً مضافة لفقه الأطعمة والأشربة هو جانب العلاقة بين القرآن الكريم والسنّة الشريفة؛ إذ ثمّة إشكاليّة يجب التوقُّف عندها بجِدِّية أكبر، وهي أنّ المُراجع للنصّ القرآني يلاحظ فيه أنّ عدد المحرَّمات قليلٌ جدّاً، بل يبدو القرآن مصرّاً على حصر المحرَّمات وتقليلها وانتقاد توسعتها، فيما الذي نلاحظه في الحديث الشريف، وكذلك في التراث الفقهي، أنّ مساحة التحريم واسعةٌ، خاصّةً في الفقه الجعفري.

فمن الواضح في الفقه الإسلامي أنّ هناك مجموعة من المأكولات والمشروبات التي حكم بحرمة تناولها، وقد قسَّمها الفقهاء إلى أقسام: حيوان الماء؛ البهائم وحيوان البرّ؛ الطيور أو ما في الجوّ؛ الجوامد والمائعات. فتارةً يكون الكلام عن الحيوان، وأخرى عن الجماد، وثالثة عن المائعات. وفي الحيوان تارةً ننظر إلى حيوان البرّ من الأنعام والسباع والحشرات والهوام، وأخرى إلى حيوان البحر من الأسماك وغيرها، وثالثة إلى حيوان الجوّ، وهو الطيور بأنواعها.

وفي هذا السياق يتحدَّث الفقهاء عمّا هو حرامٌ بذاته، وما يحرم بالعَرَض، كالحيوان الجلاّل والموطوء.

وقد بُني الفقه الإسلامي في موضوع الأطعمة والأشربة على فرضيّة أنّ عدد المحرَّمات ليس بالقليل، خاصّة على مستوى المتداول في الفقه الإمامي. فلو أخذنا حيوان البحر فسيكون كلُّه حراماً إلاّ السمك الذي له فَلْس خاصّة، على أن يخرج من البحر حيّاً. وإذا أخذنا حيوان البر فسنجد أنّ كلّ ذي نابٍ والأرنب والحشرات والزواحف حرام إلاّ الحيوان الأهلي، كالإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير، وبعض الحيوانات الوحشية، كالغزلان.

ولو أخذنا الطيور فكلُّ سباعها (أو ما له مخلبٌ) حرام، كالنسور والصقور و…، وكلُّ غيرها حرامٌ، إلاّ ما كان دفيفه أكثر من صفيفه، إنْ لم نرجع هذه الخاصية إلى خصوصيّات السبعيّة وغيرها.

وهكذا نجد أنّ حجم المحرَّمات في المأكول ليس قليلاً في الفقه. هذا فضلاً عن حرمة الميتة والدم وكلّ النجاسات، وبعض ما في الذبيحة، والطين، والمسكرات، والمتنجّسات، وكلّ خبيث، وغير ذلك.

كيف تنسجم هذه الصورة مع العدد المحدود جدّاً للمحرَّمات في القرآن بصيغة الحصر والتشديد بما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة تقريباً؟!

هذه الإشكاليّة تناولها الدرس الفقهي منذ زمنٍ ليس بالقريب، وقدَّم فيها ـ ولو بشكلٍ عابر ـ علاجاتٍ تبلغ حوالي العشرة. وبهذا يكون هذا الموضوع في حدّ نفسه أحد تطبيقات النظريّة الكلِّية في علاقة الكتاب بالسنّة، ويمكن أن يكون مساعداً في هذا الصدد.

دعوةٌ للباحثين في مجال الدراسات الشرعيّة ومقارنة الأديان

من هنا أدعو الباحثين في مجال الدراسات الشرعيّة ومقارنة الأديان معاً إلى الاهتمام بهذه الإثارات الثلاث:

1ـ بين الفقه اليهودي والفقه الإسلامي في الأطعمة والأشربة (موضوعٌ أدياني مقارن).

2ـ مفهوم المصلحة في باب الأطعمة والأشربة (جَدَل العلم والحداثة مع الدين).

3ـ العلاقة بين الكتاب والسنّة في موضوع الأطعمة والأشربة (جَدَل المصادر المعرفيّة للاجتهاد الشرعي).

إنّ الاهتمام الجادّ، وليس المبتسر ولا المستعجل، والاهتمام الباحث عن الحقيقة، وليس الاهتمام الذي يحمل معه مسبقاً حقيقةً ناجزة، ضروريٌّ في هذا الملفّ الحياتي بالنسبة للفكر الديني من جهةٍ، والإنسان المسلم من جهةٍ ثانية. نسأل الله تعالى أن يوفِّق الباحثين في هذا المجال لتقديم أفضل الأجوبة الناضجة.

الهوامش

([1]) الكتاب المقدَّس، العهد الجديد، الرسالة إلى العبرانيّين، الإصحاح التاسع، الآيات: 8 ـ 14.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً