من التفسير الاقتصادي إلى النهج الاجتماعي
د. الشيخ علي مظهر قراملكي
مقدمة
إن أحد أخلاقيات المكاسب هو مراعاة حقوق الآخرين. قال بعضهم: إنّ العدالة تكمن في مراعاة حقوق الفرد والمجتمع، <العدالة تتكئ على الحقوق الواقعيّة والفطريّة، فالفرد له حقوق، والمجتمع أيضاً له حقوق، فتحقق العدالة يتمّ عن طريق إعطاء كلّ فرد حقّه.
فالعدالة إذاً مراعاة تلك الحقوق>([1]).
ويؤكّد بعضهم على مراعاة حقوق الآخرين، بحيث يعدّه من مقوّمات الأخلاق المهنيّة([2])، بينما الفلاسفة وعلماء الاجتماع يذهبون إلى أكثر من ذلك، أمثال: جون كارل رينهوار الذي يذهب ـ عندما يعرّف الأخلاق ـ إلى أنه أوسع من الحقوق، وأنه يأخذ بنظر الاعتبار مراعاة حقوق الآخرين([3]).
التطفيف والتقصير في العمل من المصاديق البارزة للتعدّي على حقوق الآخرين والإضرار بهم، حتى أنّ بعض الفقهاء والمفسرّين، كالشيخ الطوسي (ت 460هـ) أخذوا التطفيف في المعاملات بمنزلة الجنس في تعريفه([4]).
ما هو التطفيف؟ وما هي أبعاده؟ وما هي النسبة بين التطفيف والتقصير في العمل؟ وما هي الآثار الاجتماعية الناجمة عن التطفيف والتقصير في العمل؟ وكيف يمكن التوقّي من هذه الآفة الاجتماعية في الأخلاق المهنية؟ وما هو علاجها؟
والتحقيق الذي بين أيدينا يعالج ويناقش الحلول من خلال الدين، ومن خلال مراجعة الآيات والروايات، وتحليل معنى التطفيف، والردّ على المسائل الواردة حوله.
فإنّ القرآن الكريم يَعتَبر أنّ أحد الأهداف المهمّة لرسالة الأنبياء هو إقامة القسط والعدل([5])، ودعوة الناس إلى أداء حق الكيل والميزان بالحق([6])، وقد وضع العدالة في الميزان والكيل بمرتبة العدالة في نظام الخلق([7])، وهكذا فإنّ مراعاة العدالة في الميزان يُعدّ أصلاً من أُصول النَّظم الكلّي الحاكم على عالم الوجود.
ومن جانب آخر فإنّ القرآن في مواضع متعدّدة يخصّ أحد مصاديق الظلم، وهو التطفيف، بالذكر، ويقوم بتوبيخ وتهديد مرتكبيه بشدّة([8]).
وهدف هذا التحقيق تناول المباني والآثار المدمّرة للتطفيف بالبحث والتحليل، من أجل الانتباه إلى الأخلاق المهنيّة الحقّة.
وبرغم إشارتنا إلى الأحكام الوضعية والتكليفية للتطفيف بشكل مختصر، لكن يبقى تحليل المباني الفقهية له بحاجة إلى مقالة أخرى.
التطفيف بين المعنى الاقتصادي الضيّق والأوسع
التطفيف من الألفاظ الواضحة، وقد وضّح القرآن هذا المعنى في الآيات المشتملة على مشتقات البخس، والوفاء بالكيل والميزان (هود: 84، الشعراء: 183)، والتطفيف (المطففين: 1)، كما تناولت البحوث الفقهية هذا المعنى تحت عنوان (التطفيف)([9]).
لذا فإنّ البعض فسّروا التطفيف بمعنى التقليل وعدم الوفاء في المكيل والموزون([10])، وآخرون، كالمحقق اليزدي([11])، قالوا: إنّ كل تقليل هو تطفيف.
ويمكن أن نعبرّ عن التطفيف بتعبيرَين: مضيَّقٌ؛ ومُوسَّع:
1ـ التعبير المضيّق والمحدود: وهو ما يُستعمل في الفقه مطابقاً لكلمة (التطفيف)، والتي هي في باب المعاملات، أي البيع والشراء فقط. والمراد من التطفيف في هذا المفهوم هو النقصان في السلعة، التي هي مورد المبادلة، أقل من الذي اتّفق عليه الطرفان، سواءٌ كان ذلك النقص مِنْ صاحب السلعة، أو من العامل الذي يشتغل في وزن تلك السلع للناس، لمصلحة الذي يبيع له السلع ويَزِنها.
ومن أجل ذلك ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ المورد الذي يمكن أن يكون فيه التطفيف هو المكيل والموزون([12]).
وعلى قول المحقق اليزدي: كأنهُ ـ حَسَب نظر أُولئك ـ أنّ (التطفيف) في نظر العرف يختصّ بالمكيل والموزون([13]). وحسب مبنى هؤلاء فإنّ النقص الحاصل في المعدود أو الذي يُباع بالمتر ليس تطفيفاً، لكنّهُ يلحق به حُكماً([14])، وهو على أيّة حالٍ حرامٌ، وموجبٌ للضمان([15]).
والتطفيف حسب هذا المفهوم الخاص له أبعاد مختلفة، ويشمل البائع وصاحب المكيال والميزان الذي يشتغل عنده.
في المتون الفقهيّة طُرحت مباحث متعدّدة حول أحكام الكيل والوزن وآداب التجارة لها علاقة بأخلاق المكاسب، ولا يَسعها هذا المجال. وقد بيَّن الفقهاء حكم التطفيف في مبادلة سلعتين من نوع واحد، حيث عبّروا عن ذلك التبادل بعدّة وجوه:
أولاً: المبادلة تحصل على عين خارجية ومعينة، مثلاً: البائع يخاطب المشتري يقول له: أبيعك هذه الحنطة (التي هي خمسة كيلوغرامات)، مقابل حنطتك (التي هي عشرة كيلوغرامات).
ثانياً: المعاملة تقع على وزن كلّي معيّن (كلّي في الذمّة)، وليس على موزون خارجي معيّن، مثلاً: أحد الأفراد يبيع مئة كيلو حنطة على شكل كلّي في الذمّة، ويستلم الثمن من المشتري، وبدل أن يسلمّه المئة كيلو المتّفَق عليها يسلّمه 90 كيلو غرام من الحنطة.
ثالثاً: يُشير البائع إلى حنطة معيّنة في الخارج ويقول: بعتك هذه المئة كيلو من الحنطة مقابل مئة كيلو من الحنطة، في حين أنّ الحنطة التي تمّ التعامل عليها هي تسعون كيلو وليست مئة، وفي مثل هذه المعاملات صار الاختلاف في العنوان والمعنون.
وإنّ البحث في هذه الصور الثلاث خارجٌ عن موضوع بحثنا في هذه المقالة([16]).
وليس المراد من المكيال والأوزان ما كان رائجاً في صدر الإسلام، بل إنه يشتمل على كل آلة تستعمل في الكيل والوزن([17]).
2ـ التعبير الموسّع: وهو ما يستعملونه بشكل أوسع، أي بمعنى مُطلق النقص، وقد مرّ مفهوم التطفيف في الآيات القرآنية والمتون الفقهيّة تحت عنوان (البخس) و(التطفيف).
وقد استُعملت هاتان اللفظَتان ومشتقاتهما في بعض المصنّفات القديمة للمعاجم والمصادر الأخرى بمعناها المطلق، أي مطلق إعطاء الحق ناقصاً باعتباره خيانة وظلماً([18]).
وبرغم الاختلاف بين لفظة (تطفيف) ومشتقاتها، والتي تخالف كلمة (بخس)، والتي تعطي معنى الكيل والوزن التي تستعمل معها غالباً، فإن بعض الفقهاء استعملوا معنى التطفيف في تنقيص الموزون والمكيل بشكل خاص، ولكن بعض المحقّقين، كالمحقق اليزدي والسيد الخوئي، لم يفصلوا بين المعنى اللغوي وبين المعنى الاصطلاحي، أمّا ذِكْر الكيل والوزن في الآية القرآنية وغيرها فمن باب ذكر المثال أو الاستعمال الغالب([19]).
التطفيف يشتمل على معنى التنقيص في الكيل والوزن، ويُعطي أيضاً معنى التنقيص في السلع المعدودة أو التي تُقاس بالأمتار، بل مع إلغاء الخصوصيّة يكون شاملاً لكافّة الموارد التي يقصّر فيها الشخص في العمل أو الوقت، ولا يتمّه على وجهه الكامل.
لذلك إذا قلّلَ المُنتج من مواصفات إنتاجه، أو العامل والموظّف من عملِهِ ووقته شيئاً أقلّ من المتّفق عليه، يكون عمله ذلك مصداقاً للتطفيف الذي يحرّمه الفقه، ويكون صاحبه ضامناً.
لقد وقعت الأخلاق في العمل تحت تأثير المحيط العالمي، فتعرضّت إلى تغيّرات وانحرافات كثيرة([20])، وكان ذلك سبباً في توسّع مفهوم التطفيف، حيث توسّع التطفيف في المعاملات والمبادلات حتى صار يشمل تقديم الخَدَمات، وإنتاج السلع، وتوزيع المواد في عالمنا هذا.
وحسب هذا المفهوم الجديد تكون المؤسسات الخَدَمية، والمنظّمات التعليميّة، والتحقيقات، والمؤسسات الصناعيّة والتجاريّة، في معرض الوقوع في التطفيف. وبناءً على هذا المفهوم يكون التقصير في العمل أيضاً نوعاً من أنواع التطفيف في عرض الخدمات، سواء كانت تلك الخدمات تجميليّة، مثل: الفَنْدَقَة، أم أمنيّة، مثل: الخدمات العسكريّة أو الإداريّة أو التعليميّة.
كما أنّ عدم مراعاة المواصفات المطلوبة في الكيفيّة يعتبر أحد مصاديق التطفيف أيضاً.
وقد بيّن العلماء المسلمون أبعاد التطفيف في بعض الموارد، الذي هو المفهوم الأعم.
قال ابن مسعود في رواية: الصلاة مكيالٌ، فمن وفى وفى الله له، ومن طفّف فقد سمعتم ما قال الله في المطففين([21]).
ويقول القرطبي في ذيل تفسير آية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}: إنّ التطفيف كما أنه يتحقق في المكيل والموزون، يصدق أيضاً في الوضوء والصلاة ونقل الحديث([22])، ونقل القرطبي من كتاب الموطأ عن مالك أنه قال: (يُقال لكل شيء وفاء وتطفيف).
من خلال المعنى اللغوي للتطفيف والبخس، والأقوال التي ذُكرت، والمعاني التي توسَّعَت، يظهر أنّ ذكر المَكيل والموزون ليس له خصوصيّة في التطفيف، فما جاء في الروايات والآيات القرآنية من ذكرٍ للكيل والوزن هو من باب المثال والغَلَبَة. وبإلغاء الخصوصيّة يمكن القول: إنّ كل تعدٍّ وتجاوز على حقوق الآخرين، بل كل تجاوز لحدود الله سبحانه، يعدّ مصداقاً للتطفيف، ويقع تحت طائلة التوبيخ والنهي والتهديد الإلهي الوارد في آية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}.
ويَعتقد بعض المفسرين أنّ مطفّفي العصر الحاضر هم كل من يستعمل نفوذه وقدرته في البيع والشراء بشكل غير مشروع، بحيث يشتري بأقلّ الأثمان ويبيع بأغلى الأثمان، فيربح في كلتا الحالتين، والناس مُسَلّمين لرغباته غير المَشروعة نتيجة للضغط السياسي والاقتصادي عليهم، فيستثمرون أموالهم معه مضطرّين([23])؛ لأنه مهما كان معنى التطفيف والمطففين فإنّ المراد منه في آية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} أُولئك الذين يأخذون أموال الناس بشكل غير مشروع، أو هم الذين يَصِلون إلى مآربهم ومُبتغاهم بالظلم([24]).
ويرى المرحوم الطالقاني أنّ المطفِّف هو الذي يجرّ أموال وحقوق الناس نحوه بالحيلة والدّهاء، فيستفيد من الآخرين عن هذا الطريق([25]).
وعلى مبنى تفسير المراغي، القائل: برغم أنّ التطفيف يكون في الكيل والموزون لكنه من الممكن أن يتحقّق في الأشياء الأخرى، فالعامل كلّما قصّر في عمله كمّاً وكيفاً يعتبر مطفّفاً، والذين يسلكون الطُرق الملتوية والحيلة في الاستفادة من نفوذهم وقدرتهم في الحكم، ويتصرّفون بأموال الآخرين بغير حق من غير كيلٍ ولا وزن، أولئك من المطففين([26]).
أبعاد التطفيف، الانتصار للمفهوم الواسع
الموازين الأخلاقيّة تفسّر التطفيف حسب مفهومه المطلق، وهو كل نقص يحصل في التعامل، فيكون للتطفيف حسب هذا المفهوم أبعاد كثيرة ومتعدّدة، يمكن اكتشافها من خلال تعامل الأفراد وعلاقاتهم بعضهم مع البعض الآخر:
1) النقص في العبادة: بمعنى العلاقة بين العبد وربّه، وقد استخدم القرآن مفهوم التجارة لتوضيح هذه العلاقة: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} ]الصف: 10[.
فالإنسان يمكن أن يكون مطفّفاً في عبادته، حاله حال التجارة، إذا نقص منها شيء.
2) التطفيف في العمل والمهن: الكسب، حسب المفهوم الجديد للكلمة، أخصّ من الحرفة، ويشتمل على الحِرَف التجاريّة وأمثالها. والكسب يشمل نقصان الكميّة، ونقص المواصفات المطلوبة في كيفية السلعة والخدمات. أمّا الطب والتدريس والقضاء فهي حِرَفٌ لا تشتمل على الكسب، لكن يمكن أن يصدق عليها التطفيف.
التقصير في العمل من أكثر الأشكال رواجاً بالنسبة للتطفيف في المِهَن.
التطفيف في المِهَن، وبالخصوص الكسب، له ارتباط واسع وكبير بالخيانة والخدعة.
3) التطفيف في العلاقات العائليّة: الأُسرة تسودها علاقات دافئة وحميمة من خلال محبّة واحترام بعضهم لبعض، ويمكن أن يتسلّل التطفيف إلى الأُسرة، وذلك عندما يشحّ الوالدان على أفراد عائلتهما بالحب والحنان، أو يتعاملان معهم بالشدّة، ويبخلان عليهم بالوقت المفيد للعائلة، فكل ذلك يمكن أن يكون من مصاديق التطفيف في العلاقات العائلية.
تحذير القرآن من التطفيف
هناك هدفان أساسيان للأنبياء حسب التعاليم القرآنية والروائيّة: التوحيد، وإقامة القسط والعدل([27]).
وقد أشارت الروايات والآيات المرتبطة بالقسط إلى الآثار المخرّبة للتطفيف، حيث جاءت مرّة بالتصريح، ومرّة بالتلويح، محذّرةً الناس من العلاقات الاقتصادية المبتنية على التطفيف.
وأوضح الآيات في هذا الحقل هي {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، وسوف نعرض للآيات التي تخصّ التطفيف، وذلك حسب ترتيب السور القرآنية.
أولاً: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} ]الأنعام: 152[. (أوفوا) أصلها (وفى، يفي، وفاء) أي: الأداء كاملاً من دون نقص. أما (الكيل) فهو الذي تُقاس به السلع من حيث الحجم([28]).
أداء الكيل أن تُعطي المكيال حقّه في الامتلاء، ولا تنقص منه شيئاً، وجملة (أوفوا) متعلّقة (بالقسط).
ومقتضى وجوب الإيفاء بالقسط في هذه الآية هو إقامة القسط والعدل بخصوص الكيل والوزن في المجتمع، وإعطاء الأفراد حقوقهم كاملة شاملة من دون إجحاف. وهذه الآية الشريفة تعبّر عن أحد المحرّمات الإلهيّة التي جاءت في ذيل الآية: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ]الأنعام: 151[ بتعبيرٍ أنيق وجميل وقصير، وقد حذّرت الآية المطفّفين، كما أوصت بأداء حق الكيل والوزن مراعاةً للعدل والإنصاف.
وهنا يبرز توهّم يقول: لا يمكننا أن نؤدّي حقّ الكيل بالتمام والكمال بهذه المكاييل العادّية؛ لأنّ النقص والزيادة واردان فيها حتماً، والذي يرفع هذا التوهّم عبارة {لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}، لأنّ الله سبحانه يكلّف كل إنسان على قدر استطاعته([29]).
ثانياً: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} ]هود: 84[.
المكيال: اسم آلة أصلها (كيل)، ذكر ابن منظور([30]) والراغب الأصفهاني([31]) أنها بمعنى: كيل الطعام، ولكن صاحب (أقرب الموارد) يقول: إنها، أي كلمة (المكيال)، جاءت في أكثر الموارد بهذا المعنى. فبناءً على ذلك المكيال هو ذلك الشيء الذين يُقاس به الطعام وغيره، وكل شيء صار مقياساً للطعام يدعى مكيالاً.
الميزان أصله (وزن) بمعنى آلة توزن بها الأشياء وتقاس. (وَزَنَ الشيء) يعني أنه قاس ذلك الشيء وأخذ مقداره([32]).
على الرغم من أنّ الميزان المطلق هو ميزان كل شيء لكن في هذه الآية يظهر أنّ المراد منه ذلك الميزان المتداول بين الناس، لكن لا يبعد أن يكون الميزان هو ميزان كلّ شيء بحَسَبِه، فيكون المراد هو أعم من الميزان العادي المتداول؛ لأن المراد من الميزان في الآية التالية ليس هو الميزان المتداول بين الناس: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ]الحديد: 25[، بل هو الميزان الذي يَزن العقائد والأخلاق والسلوك والأقوال، لذلك صار لكل واحد مقياس خاص به، فللعقائد مقياسٌ يميز الحق عن الباطل، وللأخلاق مقياسٌ وميزانٌ يميّز الفضيلة عن الرذيلة، وللسلوك ميزانٌ يميز الصدق عن الكذب، فكل واحدٍ منها له ميزانٌ يناسبه.
وفي قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب× لولده الحسن×: <واجعل نفسك ميزاناً في ما بينك وبين غيرك…>([33]) جَعَلَ النفس الإنسانية ميزاناً. ميزان الطعام والحبوب يختلف عن ميزان الذهب والمجوهرات، وميزان قياس حرارة بدن الإنسان غير ميزان قياس مساحة الأرض، وكذلك ميزان قياس الفضائل يختلف عن ميزان قياس الرذائل، وكذا بالنسبة لميزان العدل والظلم.
والآية الكريمة: {وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ…} أشارت إلى أحد المفاسد الاقتصادية، وهو التطفيف، فأوصَت المُخاطَبين أن لا ينقصوا من الكيل والميزان عند التعامل في البيع والشراء، وأنّ نقص الكيل والميزان هو تطفيفٌ وعَدَمُ مُراعاةٍ لحقوق الناس، وهو نوعٌ من النهب والظلم للآخرين.
واعلم أنّ العمل بهذه النصيحة الإلهية يمكن أن يكون سبباً لنزول الخيرات، والتطوّر في المجال التجاري والأمني والاقتصادي، ممّا يؤدي إلى أن يعيش المجتمع بسلام واطمئنان.
وأشارت الآية الكريمة: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ} إلى ذلك، حيث إنّ الله سبحانه يرى خَيرَنا في الالتزام بهذه النصيحة، وهي عدم التطفيف، والعمل بالعدل والإنصاف لقوله: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}، أمّا إذا ظلمتم فـ{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}، ويمكن أن يكون ذلك إشارة إلى عذاب الآخرة، كما يمكن أن يكون إشارة إلى المجازاة في دار الدنيا([34]).
ثالثاً: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ]هود:85[.
والمكيال كما أشرنا إليه سابقاً هو اسم آلة من (كال الطعام)، يعني هو ذلك الشيء الذي بواسطته نكيل الطعام.
المقطع الأول من الآية هو الدعوة لإقامة القسط والعدل وإعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه.
ثم خاطب القوم بأنْ لا يبخسوا الناس أشياءهم، و<البخس> هو مطلق التنقيص والظلم للآخرين، وقد جاء في هذه الآية بمعنى تنقيص الحق([35])، وفي هذا المقطع من الآية مفهوم واسع، فقد دَعَت إلى مُراعاة الحقوق الفرديّة والاجتماعية لكافّة الأقوام وجميع الشعوب، فهي ذات ارتباط وثيق بالمفهوم العصري للأخلاق المهنيّة وهو رعاية حقوق الآخرين أو مصالحهم. ومن الواضح أنّ بخس الحق يظهر بشكل أو بآخر في كل زمان ومكان، حتى أنّه يظهر في بعض الأحيان على شكل قرض أو مساعدة بلا عوض.
وجاء في ذيل الآية: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، <ولا تعثوا> من <عثى يعثي> بمعنى الفساد، وهذه اللّفظة تأتي مع الفساد الذي ظاهره ليس فساداً، ولكن عاقبة آثاره الفساد([36])، وكلمة <مفسدين> حال من الضمير في <تعثوا> جاء للتأكيد، وكأنّه قال: النقص في المكيال والميزان نوعٌ من الفساد في الأرض. ومن المحتمل أن تكون الجملة المذكورة نهياً مستقلاً، ففي هذه الحالة يكون الفساد شاملاً للتطفيف في الكيل والوزن، وأيضاً يشمل الفساد عن طريق غصب حقوق الآخرين أو التجاوز عليها، وكذلك الفساد الناشئ من الاختلال في تقديم الخدمات الحاصل من عدم النظم في الموازين والمقاييس الاجتماعية، وأيضاً الفساد عن طريق إظهار العيوب في أموال الآخرين، والفساد الناشئ من التجاوز على الآخرين وعلى أعراضهم.
وجملة (ولا تعثوا) بمعنى لا تفسدوا، فذكر كلمة <المفسدين> بعد هذه الجملة بمثابة التحذير والتأكيد أكثر على هذه المسألة.
والآيتان المذكورتان تبيّنان الواقعيّة القائلة، بعد طرح مسألة الاعتقاد بالتوحيد والعقائد الصحيحة: إنّ الاقتصاد السليم مهمٌ جداً، وإنّ الاقتصاد إذا اختَلّ فسوف يعمّ فساد كبير في المجتمع.
وأخيراً يشير إلى قضية مهمّة، وهي أنّ زيادة الثروة عن طريق ظلم الآخرين واستغلالهم لا يرفع حاجتكم، بل إنّ المال الحاصل من طريق الحلال أفضل وأدوم وإن كان قليلاً([37]).
وتشير الآية 85 إلى المسائل المهمة، حيث تقول: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} ]هود:86[، والتعبير ببقيّة الله إما أن يكون الرزق الحلال القليل؛ لأنه بقيّة الله، أو أنّ المال المُقتَنى من الحلال يبعث على دوام النّعمة الإلهيّة وبقاء البركة فيها([38]).
وقوله: {وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} يشير إلى أنه إذا شاع التطفيف والفساد لا يمكن لأحد أن يصون ذلك المجتمع، حتى لو كان ذلك الشخص هو النبي شعيب.
رابعاً: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} ]الشعراء:181[، {وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} ]الشعراء: 182[، {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ] الشعراء: 183[.
الكيل هو ذلك الشيء الذي تقاس به المواد من حيث الحجم، وإيفاء الكيل بمعنى أن تملأ الكيل تماماً من دون نقص.
الإخسار: هو الضرر أو التلف، والمراد هنا النقص في أصل المال، والقسطاس هو ميزان يزن المواد بلحاظ المقدار، هاتان الآيتان تأمران بإيفاء حق الكيل، بحيث لا يتضرّر الآخرون، وزنوا بالقسط والعدالة، ويضيف: لا تبخسوا حق الناس ولا تفسدوا في الأرض.
الأمر المستحق للتأمّل أنّ الآية توضّح أنّ التطفيف يُصنَّف ضمن الفساد في الأرض، وهذا لوحده دليلٌ على أبعاد المفاسد الاجتماعيّة لهذا العمل.
والنقطة الأُخرى أنّ الآيتين تأمران بمراعاة العدالة في أخذ أو إعطاء الكيل والوزن، وفي الآيات الأخرى عُدّت العدالة في الميزان بمثابة العدالة في نظام الخلقة في عالم الوجود: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ * أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} ]الرحمن:7ـ8[، فمِنَ المعلوم أنّ مراعاة العدل في الميزان ليست بالأمر الهيّن، بل هي جزءٌ من أصل العدالة والنَّظم الحاصل في عالم الوجود.
خامساً: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} ]المطففين: 1[.
<الويل> بمعنى حصول الشرّ والسوء([39])، أو بمعنى الغمّ والحسرة والعذاب الأليم، وجاء بمعنى الهلاك([40])، ويعتقد البعض أنّ <الويل> في هذه الآية كناية عن العذاب والغضب الإلهي، أو إنه اسمٌ لوادٍ في جهنّم([41])، واللام في <للمطفّفين> تعني الدلالة على الاستحقاق أو التخصيص، فيكون معنى الآية: الويل والعذاب والغضب الإلهي يخصّ المطففين.
التهديد والوعيد في الآية خاص بالمطففين، ولكن الآية الثانية والثالثة فسرت المطففين بأنهم الأشخاص الذين يستوفون حقهم من الآخرين بشكل كامل، بل أكثر من حقوقهم([42])، وإذا أعطوا الناس بالكيل أو الوزن ينقصونهم، فيوقعون الناس في الخسران. فمضمون الآيتين ذم واحد، وهو أن المطففين يراعون الحق لأنفسهم ولا يراعونه لغيرهم، وبعبارة أُخرى: لا يراعون لغيرهم من الحق مثل ما يراعونه لأنفسهم، وفي هذا إفساد المجتمع الإنساني المبني على تعادل الحقوق المتقابلة، وفي إفساده كل الفساد([43]).
والنقطة الأُخرى التي تبيّن أثر التطفيف والإجحاف هي أن الويل في القرآن الكريم للذنوب التي تكون مَصدراً لذنوب أُخرى، ومصدراً للفساد، مثل: الشرك، والكفر، والظلم، فقد جاء في الآيات {َوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ}، {َوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ}، {َوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا}.
وقد ذكرت آية: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} الإجحاف والتطفيف، وقالت: إنه مثل الشرك والكفر والظلم في مستوىً واحد. وهذا يدلّ على أنّ التطفيف والضرر بالآخرين له تبعات كثيرة، ليس لها إلاّ الويل والعويل والصياح([44]).
تحذير السنّة من التطفيف
قال علي×، وهو على المنبر في السوق: يا معشر التجّار، الفقه ثم المتجر…، التاجرُ فاجر، والفاجر في النار إلاّ من أخذ الحقّ وأعطى الحق([45]).
وورد عن الإمام الباقر× أنه قال: <كان أمير المؤمنين× عندكم بالكوفة يغتدي كل يوم بكرة من القصر فيطوف في أسواق الكوفة سوقاً سوقاً، ومعه الدرّة على عاتِقِه، وكان لها طرفان، وكانت تسمى السبينة، فيقف على أهل كل سوقٍ فينادي: يا معشر التجار، اتّقوا الله، فإذا سمعوا صوته ألقوا ما بأيديهم، وأصغوا إليه بقلوبهم، وسمعوا بآذانهم، فيقول: قدّموا الاستخارة، وتبرّكوا بالسهولة، واقتربوا من المتبايعَين، وتزيّنوا بالحلم، وتناهوا عن اليمين، وجانبوا الكذب، وتجافوا عن الظلم، وأنصفوا المظلومين، ولا تقربوا الربا، {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، فيطوف في جميع أسواق الكوفة، ثم يرجع فيقعد للناس>([46]).
وفي حديث آخر عن رسول الله’ قال: <إذا طُفّفت المكيالُ والميزانُ أخذ الله بالسنين والنقص…>([47]).
لذا فإنّ التطفيف يؤدي إلى اختلال النظام الاقتصادي في البلاد، ويكون سبباً لنزول العذاب، فقد جاء في الروايات: من الأفضل أن تعطي أكثر، عندما تزن أو تكيل، وتأخذ أقل من حقّك عندما تستلم المال المكيل أو الموزون، والبعض يعتقد أن التطفيف لـه معنى واسع، حيث يشمل كل تقصير ونقص في العمل، وتأدية الوظائف الفرديّة والاجتماعية والإلهيّة.
النتائج السلبية لظاهرة التطفيف في المجتمع
هناك آثار للتطفيف على حياة الفرد والمجتمع، وسوف نبيّن أهمها بشكل إجمالي:
1) الخسران: أصله من (خسر) بمعنى قَلَّ، وأيضاً بمعنى ضَلَّ، (أخسره) أي أضلّه.
ويعتقد المطففون ـ حسب نظرتهم الضيّقَة وتطلّعهم للربح السريع ـ أنهم يجنون الأرباح من خلال السرقة في الكيل والميزان كي يحصلوا على الثراء، لكن نرى القرآن يعبّر عن أُولئك بأنّهم الأشدّ ضرراً وضلالاً، لذلك أوصى أتباع القرآن بإيفاء الكيل والميزان كي لا يكونوا من أصحاب الضّلال والضّرر، فقال: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} ]الشعراء: 181[. وهكذا فإنّ الإنسان من خلال النظرة العميقة والتفكّر الطويل يصل إلى صيانة نفسه من الخسارة (انظر سورة الشعراء: 181)، وهذه الخسارة بمعنى زوال رأس المال([48]).
وقد جاء في المفهوم القرآني أنّ أصل ثروة الإنسان في الدنيا والآخرة الإيمان بالله وآياته([49]).
2) الفساد في الأرض: الفساد نقيض الصّلاح، وهو بمعنى الخراب([50]). ونقرأ في سورة هود خطاب النبي شعيب لقومه، بعد أن حذّرهم من التطفيف، قائلاً: {وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، فالتعبير بالفساد في الأرض، بدلاً عن الفساد في المجتمع، يمكن أن يذكّرنا بالمفهوم العصري (global) الذي يرجع أصله إلى معنى كوكب سيّار، أما ترجمته فتعطي مفهوم الشمول والعالمية.
والفساد في التعبير القرآني لـه معانٍ خاصة متفاوتة حسب موارد استعماله، ولكن كلّها ترجع إلى معنى الفساد والاندثار.
الفساد الناشئ من النقص في الكيل والوزن، الذي هو سلب أموال الناس الناشئ من التطفيف، يؤدّي إلى سلب حسن التدبير من الأفراد والمؤسسات، ويجرّهم إلى الحيرة والضلالة؛ لأنّ التطفيف بمثابة السرقة الخفيّة غير الواضحة، وغالباً ما تكون من دون جَلبة ولا حراك، ولا يطالها القانون، وهذه تعمل على شيوع حالة التطفيف في المجتمع وتزلزله، وتؤدّي إلى زوال ثقة الناس ببعضهم، وتكون منشأ للحقد والعُقَد والنزاعات الاجتماعيّة، وهذا هو الفساد في الأرض([51]).
3) فقدان الأمن الاجتماعي: قِوام واعتماد الحياة الاجتماعية على المعاملات والمبادلة؛ إذ كل إنسان يعيش في المجتمع ويستفيد منه، وفي مقابل ذلك عليه أن يؤدّي مسؤوليته تجاه المجتمع، فإذا صار على كل فرد أن يدفع أقل ممّا عليه، ويأخذ حقّه كاملاً من دون نقص، فلا يمرّ وقت طويل حتى يُفتقَد الاطمئنان، وينتهي اعتماد الأفراد بعضهم على البعض الآخر. وفي النتيجة سوف يَزول الأمن في المجتمع، لذلك قالت بعض الآيات المذكورة بفساد كل الأفراد، سواء كانوا صالحين أو طالحين، مطففين أو غير مطففين، فقد جَعَلَتْهم كلهم في مرتبةٍ واحدة([52]). ولذلك قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
4) سلب الثقة: جَلبُ الثقة وأكتسابها له دور كبير في التوفيق في العمل، يجب على دوائر العمل جلب اعتماد المشتري، العمال، المشرفين على المؤسسات المالية والاعتباريّة. وسبب توفيق المؤسسات هو إيجاد الاعتماد الراسخ، والواسع، والثابت، والأصيل، لها.
وكل ارتباط مع مؤسسة يُعتبر نوعاً من المساهمة في مشروع اقتصادي. استثمار الثروة يعني تخصيص مبلغ الاستثمار من أجل الحصول على الربح في المستقبل.
والمال أعم من السيولة النقديّة، فرص العمل، التجارب والمهارة العمليّة، و…، الثقة والاعتماد على المؤسسة بحد ذاته استثمار كبير، والثقة والاعتماد الاجتماعي أيضاً من الأموال الاجتماعيّة، والتطفيف يؤدّي إلى ضياع وتبديد هذا الاستثمار وهذه الثروة.
5) فقدان أسواق التصريف العالميّة: التطفيف سبب لفرار المشتري. وبعد أن صار الاتصال بين الناس ميسّراً جداً في عصرنا الحاضر فإنّ عدم رضا المشتري الواحد يؤدّي إلى فقدان عشرات المشترين من تلك المؤسسة. الشركات التي تتعامل بالتطفيف، لا تفقد سوقها فحسب، بل تحطّم موقعها الشعبي ومصالحها الوطنيّة، وتعمل على فقدان قيمة ذلك الشعب، وتقلّل من منزلته وفضيلته، لأنّ مثل هذا الشعب يكون ضالاً ومتضرراً.
فالتطفيف لا يهدّد تلك الشركة التي تعمل به، بل تتعدّاه لتهديد اعتبار ذلك الشعب أيضاً.
6) الابتعاد عن رحمة الله: نستطيع أن نتعرّف على هذا المعنى من خلال كلمة <أولئك> في الآية: {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ}، ولفظة <أُولئك> تُستعمل في اللغة العربية للبعيد. يقول العلامة الطباطبائي: هذا كلّه من أجل أن تُفهَم الآية أنها ترمي إلى طرد المطففين وإبعادهم عن رحمة الله([53]).
النتيجة
التطفيف لا يخصّ الأشياء القابلة للوزن أو الكيل فقط، بل له مفهومٌ موسّع، بحيث يشمل كل خفاٍء في تعامل مع المؤسسة. وإنّ كلّ نوع من النقص يُعتبر من مصاديق التطفيف، سواء كان كميّاً أو كيفيّاً، في الإنتاج أو بيع المواد أو تقديم الخَدمات.
حذّرَت الروايات من التطفيف بأشكال مختلفة. ورواج التطفيف يعتبر سبباً لفقدان الاعتماد، وشيوع الفساد في الأرض، وفقدان الأمن الاجتماعي، والضرر والخسران، وفقدان أسواق التصريف والعمل في العالم، والابتعاد عن رحمة الله سبحانه.
الهوامش
(*) حاصل على شهادة الدكتوراه في الفقه ومبادئ الحقوق الإسلامية، أستاذ مساعد في قسم الفقه والحقوق الإسلامية في جامعة طهران.
([1]) مرتضى مطهري، إسلام ومقتضيات زمان (الإسلام ومقتضيات الزمان) 1: 337. (طهران، صدرا، 1372).
([2]) أحد فرامرز قراملكي، أخلاق حرفه اي (الأخلاق المهنية): 108، (طهران، انتشارات مجنون، الطبعة الثالثة، 1385).
([3]) reinhold niebuhr karl poul, moral man and lmoral society, choles’s sono, new york.
([4]) الطوسي، التبيان في تفسير قرآن 1: 295، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1411هـ، 1991م).
([8]) راجع سورة المطففين: 1ـ3.
([9]) الحلي، قواعد الأحكام 2: 10 (مؤسسة النشر الإسلامي، 1418هـ)؛ الأنصاري، كتاب المكاسب 1: 197 (مؤسسة الهادي، لجنة تحقيق التراث، 1415هـ).
([10]) محمد جواد العاملي، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة 12: 299 تحقيق: الشيخ محمد باقر الخالصي (قم، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، 1434ق)؛ الكاظمي، مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام 49:3، تعليق: الشيخ محمد باقر شريف زاده، تصحيح وتحقيق: محمد باقر البهبودي، (طهران، المكتبة المرتضوية)؛ الفاضل المقداد، كنز العرفان في فقه القرآن 3: 40، تعليق: الشيخ محمد باقر شريف زاده، تصحيح: محمد باقر البهبودي، (طهران، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1343).
([11]) اليزدي، حاشية المكاسب 1: 22 (قم، مؤسسة إسماعيليان، 1379)؛ الخوئي، مصباح الفقاهة 1: 244 (بيروت، دار الهادي، الطبعة الأولى، 1412هـ ـ 1991م).
([12]) ارجع إلى: الأنصاري، المكاسب 197:1؛ العاملي، مفتاح الكرامة 12: 299؛ الفاضل المقداد، كنز العرفان 2: 40؛ الطريحي، مجمع البحرين 5: 9؛ الحلي، قواعد الأحكام 2: 10.
([13]) اليزدي، حاشية المكاسب 1: 22.
([15]) الأنصاري، المكاسب 1: 197ـ199؛ الحلي، نهاية الأحكام في معرفة الأحكام 2: 473 ـ 474 (بيروت، مؤسسة آل البيت، دار الأضواء، الطبعة الثانية، 1412هـ ـ 1991م).
([16]) الأنصاري، المكاسب 1: 200.
([17]) من أراد التفصيل حول أنواع الأوزان والمكاييل فليراجع: الخاروف، أوزان مكاييل ومقاييس إملاي ومقايسه آنها با أوزان ومكاييل ومقاييس بين المللي كنوني (مقارنة الأوزان والمكاييل والمقاييس القديمة مع الحديث العالمي منها)، رسالة الدكتوراه في كلية الإلهيات في جامعة طهران، 1353.
([18]) الفيومي، المصباح المنير 1: 374 مادة طفف؛ القاموس المحيط، فصل الطاء: 245؛ الأزهري، تهذيب اللغة 13: 300، تحقيق: أحمد عبد العليم البردوني، (الدار المصرية للتأليف، 1408هـ)؛ ابن منظور، لسان العرب (ذيل المدخل)، (بيروت، دار صادر، الطبعة الأولى، 1410هـ (وأيضاً دار إحياء التراث العربي، 1408هـ)، (ذيل المدخل)؛ الراغب الأصفهاني، المترادفات في غريب القرآن (ذيل المدخل)، (المكتبة المرتضوية طهران)؛ الراوندي، فقه القرآن في شرح آيات الأحكام 2: 55 (قم، مكتبة آية الله العظمى مرعشي النجفي، 1405ق).
([19]) التوحيدي، مصباح الفقاهة في المعاملات (تقريراً لأبحاث الأستاذ الأكبر آية الله العظمى السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي) 1: 313 (بيروت، دار الهادي، الطبعة الأولى، 1412هـ ـ 1992م)؛ اليزدي، حاشية المكاسب
1: 135.
([20])جورج ريتشاردن، <تاريخجه أخلاق كسب وكار> (تاريخية أخلاق الكسب والعمل): 9ـ35.
([21]) الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن 10: 435، تصحيح وتعليق: السيد هاشم رسولي المحلاتي، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1379هـ).
([22]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 19ـ20: 219، تحقيق: عبد الرزاق المهدي، (دار الكتاب العربي).
([23]) مغنية، التفسير الكاشف 7: 534، (بيروت، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 1970م).
([25]) محمود الطالقاني، پرتوي از قرآن: 233 (شركت انتشار المساهمة، 1345ش).
([26]) تفسير المراغي30: 23، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الثانية، 1985م).
([27]) فرامز قراملكي، مباني كلامي جهت گيري دعوت أنبياء: 20 (طهران، مركز تحقيق الثقافة الإسلامية، 1382).
([28]) الفيروز آبادي، القاموس المحيط 4: 64، (بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1412ق).
([29]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 7: 398 ـ 399، (دار الكتب الإسلامية، 1391هـ).
([30]) ابن منظور، لسان العرب 12: 203.
([31]) الراغب الأصفهاني، المترادفات في غريب القرآن: 444.
([33]) الشريف الرضي، نهج البلاغة، رسالة رقم 31.
([34]) الميزان في تفسير القرآن 10: 362، (مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في قم، 1417ق).
([35]) الفراهيدي، العين 4: 203، تحقيق: الدكتور إبراهيم السامرائي، (قم، مؤسسة دار الهجرة، 1405ق)؛ ابن منظور، لسان العرب 6: 24 ـ 25.
([36]) الراغب الأصفهاني، المترادفات في غريب القرآن، مادة (عفي).
([37]) الميزان في تفسير القرآن 10: 363ـ364؛ المجلسي، بحار الأنوار 25: 211، (دار إحياء التراث العربي، تحقيق: محمد باقر البهبودي وعبد الرحمن رباني الشيرازي، بيروت، الطبعة الثالثة، 1403ق).
([38]) الميزان في تفسير القرآن 10: 365.
([39]) الميزان في تفسير القرآن 15: 341.
([40]) الفراهيدي، العين 8: 366.
([41]) ابن منظور، لسان العرب 11: 738.
([42]) بناء على ذلك فإنّ الاستيفاء في الآية أخذ الزائد، وكلمة (على) تدلّ على أنّ فهم المعنى فيه ضررٌ. (المصدر نفسه: 438).
([43]) الميزان في التفسير القرآن 344:20.
([44]) الطالقاني، پرتوي از قرآن، القسم الأول من المجلد الأخير: 233.
([45]) الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 12: 282 ـ 285، (دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان).
([47]) الكليني، الكافي 2: 374 (دار الكتب الإسلامية، طهران، 1365)؛ الصدوق، علل الشرايع 2: 584، تحقيق: السيد محمد صادق بحر العلوم (منشورات المكتبة الحيدريَة).
([48]) الطوسي، التبيان في تفسير القرآن 8: 58؛ الراوندي، فقه القرآن في شرح آيات الأحكام 2: ؟؟؛ الميزان في تفسير القرآن 10: 124.
([49]) الميزان في تفسير القرآن 1: 124.
([50]) الفراهيدي، العين 7: 231.
([51]) الميزان في تفسير القرآن 10: 363.