هموم، خواطر وتطلعات
ترجمة: محمد عبدالرزاق
في تاريخ الحكماء، ورادة مدرسة شيراز الفلسفية ـــــــ
نشر السيد عباس قائم مقامي مقالاً في العدد الحادي عشر من مجلّة (كيهان أنديشه)، ذكر فيه أنه يعتزم تأليف كتاب في تاريخ الحكماء المتأخرين وأساتذة المدرسة الإصفهانية bلا تَذَر نية الخير، فهي فأل تحقّقهاv([1])، على أن يبدأ بالميرداماد وميرفندرسكي وحتى عصرنا الحاضر.
وكنت قد عرّفت ـ لأوّل مرة ـ بجملةٍ من أرباب هذا الاختصاص في مقدّمات بعض الكتب، ونشرت كتباً ورسائل في بعض العلماء المحقّقين، شارحاً أحوالهم ومقامهم العلمي، وفقاً لمصادر كبار هذا العلم، وحسب انطباعاتي الخاصّة، وقد طبع هذا العمل في أربعة أجزاء تحت عنوان: مختارات في الفلسفة، بتقديم وتعليق المستشرق الفرنسي هنري كوربان، وقد ذكرت فيه روّاد المحقّقين أصحاب المؤلفات القيمة التي تكشف عن منزلتهم العلمية، حتى عصر الآخوند النووي([2])، وما كتب بعد ذلك في هذا المجال كان تكملةً لما بدأت به([3]).
لكنّ السيد قائم مقامي أقدم على عملٍ أكثر أهميةً، وذلك بمساعدة بعض الزملاء؛ ليشرح أحوال حكماء ما بعد الخواجة نصير الدين الطوسي والمعاصرين له، فحقّق ودرس علماء المدرسة الشيرازية، وخاض في تراجم مير سيد شريف، والمحقق الدواني، وصدر الدين وشتكي، والمحقق الخضري، وفخر الدين السماكي ـ أستاذ مير داماد ـ ومير غياث، ومولانا جمال الدين محمود، وغيرهم من علماء هذه المدرسة، وصولاً إلى عصر مير فندرسكي والميرداماد.
وهناك العديد من مؤلّفات أساتذة مدرسة شيراز، ويمكن نشر العديد من رسائلهم ممّن شرح وعلّق على تجريد الاعتقاد للطوسي نصير الدين، ولابد من طبع المناظرات العلمية بين الدواني ومير صدر وغياث العلماء وغيرهم، ويعتبر bشرح المواقف والمقاصدv من أهم نتاجات مدرسة شيراز؛ لذا يجب إعلام الطلبة بأهمية هذه المدرسة، وما أنتجته من مفاخر، رغم معاناة الماضي هناك.
لماذا الخوف من الفلسفة؟! ولماذا التهويل بالضلال؟! ـــــــ
إنني أتساءل ـ مستغرباً ـ عن تزمّت بعض الزملاء بما كانوا عليه في مطلع مشوارهم الدراسي وبشيء من العصبية أيضاً، فيطلبون ـ مباشرة أو مراسلةً ـ عدم التعرض والخوض في بعض المباحث والفصول العلمية، إنّني أقول: إن كان ما يطرح باطلاً فانتقدوه، وإن كان حقاً فخذوه، ففيكم من يتقن التأليف والكتابة، إنّ لمحاربة العلم ـ بشكل مطلق ـ جذورٌ في مدارس (مشهد) تمتدّ إلى جذور الجهل المركّب، إنّني وانطلاقاً من امتثال أمرٍ أرى وجوب طاعته، طلبتُ من الإخوة في رسالة عن طريق السيد ملائي ـ وهو من فضلاء الحوزة، سالم النفس والسريرة ـ أن يطالعوا إلهيات الأسفار، وفصوص القيصري، ثم يدرّسوها لنا، لندوّن تقريراتهم عليها، فإن تمكّنتم من تدريس هذين الكتابين، كان لكم الحق في الاعتراض، وإلاّ لا يحقّ لكم الإشكال، لا شرعاً ولا عقلاً.
وقد ذكر حامل الرسالة ـ السيد ملائي ـ أنه أبلغ السادة بها، فالتزموا الصمت، معرباً ـ في الوقت ذاته ـ عن استعداده لمناقشة كاتب الرسالة في موضوع المعاد، وأنا أيضاً لا مانع لديّ من ذلك، لكن ليس على الخيال المطلق، فلا بد من النقاش في أول سفر النفس من كتاب الأسفار، الذي يتطرّق إلى كيفية ظهور النفس وتحقّقها في عالم الشهادة والمادة، بعد خروجها من عالم الغيب. ولابدّ أيضاً من الخوض في أدلّة تجرّد النفس، ومن ثم في كيفية وجودها بعد الموت ورجوعها للبدن في يوم القيامة؛ فهل حقيقة المعاد ـ أعمّ من الجسماني والروحاني ـ أصلٌ؟ وهل هو ضروري؟ أم أنّ الضروري هو المعاد الجسماني خاصة؛ فإن كان المعاد الجسماني من الضروريات فالبحث فيه ممتنع، فإنّ الذين يعتقدون به يرون أنّ عودة الروح للجسد في معاد الآخرة والدنيا من قبيل التناسخ.
إذن، يتعيّن على من يريد الاعتراض على الملاصدرا في تمسّكه بالمعاد الجسماني أن يكون مستعدّاً للبحث من بداية سفر النفس وحتى آخر مبحث في المعاد الجسماني، أما إذا توقف فهمُه في الصفحات الأولى من سفر النفس لزمه ـ شرعاً ـ التزامُ الصمت، والميدان مشرّعٌ أمام الجميع، وسنعرض في المستقبل مواضيع لبعض السادة مع نقدها، ولهم الحقّ في الردّ والدفاع، وعلى ذلك (السيد المحترم) أن يختار الصمت كما فعل مشايخه، إذ يحقّ له المناقشة في المعاد في حالة تمكّنه من فهم مباحث النفس في كتاب الأسفار.
هل الردّ على الآخر يكون بالنقد أم بسحب الكتب والمجلات من الأسواق؟
يُبدي أحد الأصدقاء الأفاضل والمتدينين ـ وهو في المعارف العقدية (المدرسة التفكيكية) حسب اصطلاحهم، من تلامذة المرحوم الشيخ مجتبى القزويني ـ انزعاجه الشديد تجاه نشر مجلة كيهان مقالي المفصل في نقد كتاب أبواب الهدى، وأنا أقول: إن كان مقالي فيه ضعفٌ استدلالي فليتصدّوا لنقده، لا أن يُقدموا على جمع نسخ المجلة من الأسواق؛ بغية أن لا يطّلع أحدٌ على المقال.
لقد ذكر الميرزا مهدي الإصفهاني في كتابه أبواب الهدى، وبصريح العبارة: إنه لو دقّق أحد وأمعن النظر في مقدّمة أصول الكافي ومقدّمة توحيد الصدوق والأسفار واحتجاجات الرضاB، سيتضح له التباين بين أساليب الحكماء وأسلوب الأئمة(، أما تلميذه الأوّل الشيخ مجتبى القزويني ـ المفعم بإرشادات الميرزا الإصفهاني ـ فقد التجأ للعديد من هذه الأساليب، ليخرج عن الجادة أو ما يسمّى بتوظيف الألغاز والأحاجي، وكنت قد نقلت عن صاحب الكتاب قوله في بدايات كتابه (توحيد القرآن) أنّ الحكماء قبل قرنٍ من الزمن كانوا منبوذين لدى الفقهاء، فانتقدته على ذلك في مقالي هذا.
لقد كتبتُ في مقالات سابقة أنّ الميرزا الإصفهاني قد عتّم على الموضوع وشفّره بعض الشيء، فهو يقول: لا الإمام الرضا B كان له نقاش مع فيلسوف، ولا ورد ذكر فيلسوفٍ واحد في كتب الكليني والصدوق، فقد اشتملت مقدّمات كتبهم على لوم المجبرة والفرق الأخرى، أما احتجاجات الرضا B فكانت مع متكلّمي أهل السنّة.
ومن يقع ضحية مثل هذا الفخّ هم أولئك الطلبة الجدد قليلو الاطلاع؛ فتسيطر عليهم بعض الأوهام، ممّا يسمّى bمعارف عقديةv، وقد يتحوّل في رأيهم العديد من علماء الإسلام الكبار إلى ملحدين ومسيئين لهذا الدين، وغالباً ما يفتقد هؤلاء طاقة تحمّل كسب العلم والمعرفة، وسرعان ما تضيق صدورهم بهما، وإذا ما سنحت لهم الفرصة في الاستمرار كانت أبرز سماتهم الانحراف واعوجاج الفكرة، وفي مثل هكذا تكتلات يقوم أحد الأساتذة معلناً على الملأ: لا توحيد في الأفعال عندنا والاختيار من ذاتيات الإنسان، إنّ إنكار توحيد الأفعال يستلزم إنكار توحيد الذات والصفات، وهذا هو رأي المعتزلة الإلحادي، bلعن الله القدرية على لسان سبعين نبياً، والقدرية مجوس هذه الأمّةv.
مكانة نتاج جلال الدين الرومي ـــــــ
لقد كتب الهنود شروحاً وتعاليق مختلفة على كتاب جلال الدين الرومي، حتى بلغت المائة والخمسين شرحاً وتعليقاً، ويعتبر الرومي من نوادر الدهر، فهو ذو روح عالية وأفق واسع، وقد تضمّن كتابه القيّم معالم في الحكمة والمعرفة، وجوانب تفسيرية في الآيات والروايات، ناهيك عن خلاصة في مباحث التوحيد والنبوّة والولاية، وتحظى قصائده بحماس مُذهل وخلاب، فقد ذوّب جلال الدين روحه في المعنويات والروحانيات؛ ممّا جعله ذا جاذبية تستقطب النفوس الصافية، ولم يهتم بغير الجانب المعنوي، فكانت روحه تمدّه بإلهاماتها العفوية، بعيداً عن أشكال التكلّف والتصنّع، فيسكبها بقوالبه الشعرية المفعمة بلغةٍ آسرة استثنائية يعجز الكلام عن وصفها، فكان الربّ يتجلّى أمامه في كلّ زمان ومكان، نور التوحيد يملأ أرجاء قلبه ويهيمن على تفاصيل وجوده، ممّا جعله موحّداً توحيداً وجودياً عارياً عن شوائب الشرك:
ليس لنا في العالمين سوى الله
هو مقصودنا وغيرهُ لا يعنينا
لم نرتَدِ الجلابيب والعمائم في هواه (كناية عن نبذ الدروشة)
هيّمتنا bألستُ بربكمv فتخلّينا
عن حبّ الزعامة فلسنا مثل bمنصورv
نحن الفقراء في هذه الدنيا
لا يضرّنا أو ينفعنا شرّ أو خير الآخرين
نحن في غنىً عنهم دائماً
قلوبنا مع شمس تبريز، شمس الحقّ
وعلى نهجها نبقى ونسير.
إنّ كتابَي جلال الدين: المستطاب، وغزليات الشمس، من أهمّ ثروات الأدب الفارسي وروائعه، والحقيقة إن المثنويَّ ميزانٌ لتمييز أرباب العقل والدراية عن فاسدي الفكر والمنهج من أصحاب القصور الذاتي؛ فالذي يأنس بكلمات المثنوي ويتفاعل معها يكتسب صيانةً ذاتية عن الفكر الإلحادي والانجراف نحو الهاوية. إنّ أفكاره ركنٌ حصين من أركان الثقافة والمعرفة في الأدب الفارسي.
الحوزات العلمية والتقصير في علوم الفلسفة والعقائد والتوحيد!! ـــــــ
يمنح العرفان ذوي القرائح الشعرية حسّاً متميزاً، يزيد في فصاحة المتكلّم وبلاغته، فتجيش أفكار الشاعر وصوره وتتكاثر؛ حتى يكتسب الشاعر الهائم في العرفانيات نظرةً جديدة للعالم والوجود من حوله؛ إذاً لماذا لم يساهم علماؤنا في شرح مستعصيات المثنوي إلاّ بالشيء القليل الذي لا يكاد يذكر؟ لقد ركّزت الحوزات العلمية على بحوث فروع أحكام الإسلام، ولم يحظ مجال العقائد والأصول العامة بالاهتمام، من قبيل التوحيد والنبوة والولاية، بل كان هذا الجانب مهملاً محارباً أيضاً، أما من كان يهتمّ بهذه الأصول والعقائد فكان عرضةً للهجمات والطعون، إما باعتباره حكيماً أو عارفاً صوفياً.
ولا غرو أن نرى شروح الكافي في بحوث التوحيد والنبوة والولاية، وكذلك توحيد الصدوق، لا تتجاوز الأربعة أو الخمسة مؤلّفات، بينما تعجّ المكتبات بكتب الطهارة والصلاة، فهل أنّ آيات ذات الله وصفاته وأفعاله ومعرفة الحقّ وعرفان النبوة والولاية والمعاد ليست ذات أهمية؟ أو أنّ الروايات المكنوزة بالأسرار المتعلّقة بمعرفة الله وصفاته وأفعاله وأحاديث النبوة والولاية، وكذلك الأخلاق والسلوك، ليست جديرةً بالبحث والتحقيق؟ لماذا لم يكن نطاق البحث الاستدلالي أوسع مما هو عليه.
لو دُرست كتب: أصول الكافي وتوحيد الصدوق بمستوى أفضل، وخضعت القواعد العامة الثابتة في الآيات والروايات في مختلف المجالات للدراسة المركّزة، وتبوّأت كتب المثنوي وفصوص ابن عربي وأسفار الملا صدرا مكانتها اللائقة بها، لعرف الجميع أن الشريعة الإسلامية هي مصدر أصول الحكمة والعرفان.
مع الميرزا مهدي الآشتياني ـــــــ
بعد تأسيس فروع الأدب الفارسي والعربي في الجامعات، لم يكن فيها سوى شخصين أو ثلاثة ممّن تتوفر لديه القدرة والكفاءة على تدريس العرفان والفلسفة، وكانوا من الباحثين القديرين في هذا المجال، وكان الفيلسوف البارع المتمكّن الميرزا مهدي الآشتياني واحداً من كبار أساتذة الجامعات في العرفان والحكمة المتعالية، وهو أستاذ لامع في الحكمة المشائية والإشراق أيضاً، كان يلقي دروسه في الشواهد الربوبية والرسائل، في كلية المعقول والمنقول، وصباحاً كان يدرّس شرح الإشارات هناك، وعندما كان يلقي دروسه قبل مرضه، كنت وقتها من المبتدئين، لم أصل بعدُ لدرس الأسفار والشفاء، وكان ) قد أثقله المرض وأخذ منه مأخذاً، لكنه لطالما كان يردّ علىّ أسئلتي في زياراتي له، وفقاً لكتب الملا صدرا وابن سينا في الشفاء والإشارات، الأمر الذي كان يثير إعجابي ودهشتي؛ نظراً لإلمامه الواسع بهذه المصادر، ولست مبالغاً لو قلت: إنه كان يحفظ فصوص ابن عربي، ومفتاح الغيب، والنصوص، والفكوك، ونفحات القونوي، عن ظهر قلب، فكان ذا بديهةٍ في الردّ على أسئلة العرفان بشكل مذهل.
وقد أصيب الميرزا سنة 1318، 1319ش/1939، 1940م باليرقان، وتلقى العلاج، لكن آثاره لم تبارحه، فبات ثقيل الحركة متململاً، ما كانت تبيّنه قسمات وجهه النوراني، إلاّ أنّ شغفه بالعلوم هو الذي كان يمدّه بالقوّة والنشاط، ولم تزل رغبته الجامحة هي التي تدعوه للمطالعة والتدريس كلّ صباح في مدرسة bسبهسالارv القديمة، فكان يلقي الدروس لثلاث ساعاتٍ متواصلة، مع قلّة المتلهّفين لسماعه.
وكان المرحوم السيد عصار هو الآخر من جملة أساتذة الفلسفة والعرفان البارزين. ولم تستفد الجامعة من طاقاته أبداً، فبقي يلقي دروسه في المعهد الأدبي سنين طويلة، دون أن يطلب منه أحد تدريس أصول العرفان ومباني التصوّف، وفقاً لكتب هذا الاختصاص، من قبيل: أشعة اللمعات، ولوائح الجامي، أو تدريس النصوص المعمّقة في مصادر العرفان في مراحل الماجستير، كنصوص القونوي، وفصوص ابن عربي؛ لكي يتسنّى له تخريج تلامذة أصحاب كفاءة، لهم المستوى الكافي في التدريس والنظم والنثر العرفاني؛ فيحيون أدبهم الفارسي، ذلك العصب الحياتي.
لقد كان في الحوزات العلمية الكثير من الأساتذة المقتدرين والبارعين على أكثر من صعيد، كالمحقق الجامي مثلاً، فهو بالإضافة إلى إلمامه في العلوم النقلية من فقهٍ وأصول وتفسير وحديث، كان أيضاً عارفاً لامعاً وشاعراً مفوّهاً، وهو أستاذ أكثر من فرع، وله باعٌ طويل في مباحث تاريخ العلوم الإسلامية.
وقد أشرنا فيما مضى إلى وفرة شروح مسلمي الهند على مثنويات جلال الدين الرومي، أما من الشيعة فلم يتصدّ أحدٌ لذلك سوى الحكيم السبزواري([4])، ومن قبله الملا حسن لنباني، وهذا الأخير لم يصلنا كتابه، وسنتطرق في المستقبل عبر مجلة كيهان أنديشه، لكتابات الأستاذ بديع الزمان، والأستاذ جلال همائي، والمحقق المعاصر الأستاذ عبدالحسين زرين كوب، وقد طالعت كتبه، وأنا معجب به كثيراً.
يعدّ شرح المحقّق السبزواري من الشروح المعمّقة العلمية، إلاّ أنّه لم يتمكّن من متابعة العمل بشكلٍ منتظم؛ نظراً لكثرة مشاغله، فكان يلقي ثلاثة دروس يومياً: أحدها للمُبتدئين القاصدين سبزوار للاستفادة من علومه، والثاني للمتمكّنين من دراسة الأسفار، وأخيراً درس الشواهد الربوبية للمستويات المتقدّمة والعالية. لذا لم يتمكّن حتى من مراجعة شروح المحقّقين الآخرين، وكان القائد العسكري الأمير حسام السلطنة قد طلب من السبزواري شرح المشكل في أبيات المثنوي.
ابن عربي وإحكام أصول المدرسة العرفانية ـــــــ
وهناك مسألة مهمة يجب أن لا نغفل عنها، وهي أن شرّاح كلمات جلال الدين وبعضهم من العرفاء، كانوا قد أخذوا الكثير من أفكار ابن عربي وأتباع مدرسته؛ لأنّ قدراته العلمية وإبداعاته الفكرية بلغت مبلغاً أجبرت العرفاء المحققين على الانضواء تحت رايته، فهو ذو إلمام وسيع قلّ نظيره بمذاهب الكلام والعقائد ومدارس العرفان، علماً أنّه ليس من السهل على أيّ أحد فهم نصوصه العرفانية، لذا لم يتمكّن الكثير من الذين شرحوا المثنويات من فهم دقائق الشيخ الأكبر، وأعلن غالبيتهم عجزهم عن ذلك.
ويعتبر ابن عربي من أبرز العرفاء الذين خاضوا في تقرير المكاشفات العرفانية بأسلوب متين ودقيق وجامع، وقد رسم الأصول العامة للعرفان ـ بطريقة محكمة ـ في كتابه الفتوحات، رابطاً بينها وبين الفروع ومختلف المسائل، وبتأليفه لفصوص الحكم ـ بهذا المستوى الرفيع ـ أنتج لنا أهمّ منهج درسي في العرفان النظري، ولا يزال كذلك، حيث كتبت فيه دراسات وشروح متعدّدة بمختلف لغات العالم.
وقد احتلّ شرح العلامة القيصري ـ من بين تلك الشروح ـ مكانةً مرموقة على صعيد المناهج التدريسية؛ نظراً لتناوله مستعصيات الفصوص، والتحقيق في مضامينها بشكل مركز، وأنا فعلاً بصدد نشر هذا الشرح مع تعليقات مطوّلة للأستاذ البارع في العرفان السيد محمد رضا الإصفهاني (القمشه اي) على المقدّمة، مضافاً لشروح وإشارات بعض الأساتذة من ذوي الاختصاص.
مساهمات هنري كوربان في التراث الفلسفي العرفاني ـــــــ
كان السيد حيدر الآملي المازندراني([5]) أول عارفٍ لامع ـ من بين علماء الشيعة ـ قدّم للفصوص وشرحه، وله كتاب (جامع الأسرار) في العرفان، صحّحه عثمان يحيى ـ من علماء سوريا ـ وقدّم له البرفسور كوربان، كما نشر كوربان أيضاً الجزء الأول من مقدّمة السيد حيدر على الفصوص، على أن يُتبعها بترجمة له وسيرة، لكنّ الموت لم يمنحه فعل ذلك.
كان كوربان يعتقد ـ كحال أيّ عارف شيعي ـ أن أصول الولاية جميعها مستقاة من كلمات أهل البيت وكلام علي B، وكما يقول المحققون: إنّ سر الأنبياء والأوصياء مودعٌ عند العرفاء، ووفقاً لأحاديث العترة المنقولة عند الشيعة والسنّة، فإنّ الحجج تتوالى في كلّ عصر وزمان، حتى تصل عند خاتمتها في الولاية المحمدية الخاصّة والمطلقة، وذروة كمال الولاية في المهدي الموعود B، كونه من شروط قيام الساعة، كما تنصّ عليه الروايات: mإنّ لله خليفة.. يملأ الأرض قسطاً وعدلاً..n، فالخلافة كالنبوة، لها خاتم حتى تنتهي وسائط الأئمة E جميعاً، وقد كان كوربان يشعر بالفخر والاعتزاز تجاه ما أنجزه من نشر كتابين من كتب السيد حيدر، وقد قدِم كوربان سنة 1349ش/1970م إلى مدينة مشهد؛ ليطرح عليَّ فكرة تأليف مختارات فلسفية في ستة أجزاء، وهناك ألقى كلمةً في نادي الجامعة، ترجمها الدكتور غلام رضا ذات عليان، أستاذ اللغة الفرنسية في الجامعة، وقد دار حديثه حول الولاية في التشيّع، وتطرق أيضاً لما تتفرد به الإمامية من فكرة ضرورة وجود الإنسان الكامل في كلّ عصر، ثم ربط البحث بإمام العصر والزمان B بطريقةٍ نالت إعجاب الحاضرين، لاسيما أولئك الذين يجيدون اللغة الفرنسية، واسترسل كوربان في الحديث ـ عن ظهر قلب ـ حول خاتم الولاية، مهيمناً على قلوب المستمعين، وقد طلب منه البقاء مدّةً أطول في مدينة مشهد؛ ليتحدث إلينا حول موضوع الإمام عند الشيعة، لكنّه لم يكن معه من الوقت سوى ست عشرة ساعة فقط، وقد روى لي بعض الزملاء ممّن حضر احتضار كوربان أنه كان يتوسّل بأئمة الشيعة، وخاصّة صاحب الزمان، ضمن أجواء ملكوتية ومثالية.
كانت مؤلفات كوربان في الشيعة أثارت حفيظة الكتّاب العرب، فنكّلوا به بوابل من التهم والمهاترات.
وقفة مع بعض شروح المثنوي وفصوص الحكم ـــــــ
ونتناول هنا بعض الشروح المختلفة لمسلمي شبه القارة الهندية والكتّاب الغربيين وعلمائنا على مثنويات جلال الدين الرومي بشكل مختصر؛ إذ يعتبر كلاً من بحر العلوم ومحمد ولي مؤلف كتاب أسرار الغيوب bشرح خواجه أيوب للمثنويv ـ وهو بحق من العرفاء البارزين ـ من جملة شراح كتاب جلال الدين الرومي، مضافاً لشارحنا المعاصر والمحقق البارع الذي ليس لنا بدّ من الإشادة بملاحظاته الدقيقة.
ولتاج الدين حسين الخوارزمي شرح أيضاً لبعض كتب المثنوي([6])، وله كذلك شرح على الفصوص أخذ غالبيّته عن الشارح القيصري، وهو في الحقيقة ترجمة فارسية لبعض الشروح، تكاد تخلو من جديد الإبداع والابتكار.
وخلافاً لزعم المصحّح الفاضل، لم يمضغ المستعصيات ولا هضمها، وقد عوّض سطحية الشرح بجميل القول والشعر لا غير، فمنحه بذلك ظاهراً منمّقاً دون أن يتصرّف بالنصوص المترجمة أو يُحدث تغييراً فيها.
وقد استعرضت في مقدّمة شرح القيصري أنواع الشروح والتعليقات الموجودة للشرّاح على الفصوص وأسولبيّاتهم في ذلك.
المحقق الجامي لم يأت ـ أيضاً ـ بجديد في شرحه لبعض مطالب الفصوص، إلاّ أنه يلتزم عندما يترجم إلى الفارسية بالقواعد اللغوية بدقة عالية أثناء إضافته بعض الأمور، ممّا جعل ترجمته أكثر جماليةً ـ من الناحية اللغوية ـ من الأصل، وله إضافات أيضاً في شرحه للفصوص، وقد جمع في مؤلفاته الفارسية ـ من قبيل شرح لمعات العراقي bأشعة اللمعاتv ـ بين دقة النظر وعذوبة البيان، وطلاقة اللسان والتعبير.
الحاجة إلى ثورة جامعية في العالم الثالث في مجال الإنسانيات ـــــــ
منذ سنين وأنا أدرّس نصوص القيصري، وقد راجعت في ذلك شروح الجندي، والكاشاني، وبالي أفندي، وعبدالغني النابلسي، وشرح الجامي؛ فلا يستغني أحد من العرفاء ـ باختلاف مشاربهم ـ عن آراء ابن عربي ومدرسته، بما تخلعه من روح جديدة على العرفان؛ فعلى كليات العلوم الإنسانية أن تولي عنايةً أكبر للعرفان؛ كي يبقى محفوظاً باللغة الفارسية ـ سواء في النظم أو النثر ـ استقطاباً للجامعيين في العالم، ودعوتهم لتعلّمه في معاهدنا وجامعاتنا.
لقد كانت الفارسية لغة العلم ـ خاصة العرفان ـ في فترة من فترات الحكم الإسلامي، وكان ابن عربي يجيد الفارسية، ودرس بها القونوي أيضاً، حيث كان العرفاء حملة الإسلام في بعض البلدان ودعاة الناس إليه، وقد حققوا نجاحات واسعة في هذا المجال، أما الخانقاه([7]) فاعتبر في الماضي معلماً من معالم نيل الكمالات، وهو اليوم متجرٌ للعرفان، ليأتي بعض الجهلة ويدّعي القطبية([8]) علناً، بينما حققت الجشتية([9]) في الهند وباكستان وغيرها من البلدان المجاورة نجاحاً باهراً على صعيد نشر الإسلام، ولابد أن يرصد ذلك الإنجاز في دراسة أو كتاب؛ كي يعلم منتحلو القدسيات والتكفيريون أنه لم يسلم من يدهم أحد في العالم، إنما جلّ همّهم تسفيه ذوي المكانات المرموقة والاصطياد في الماء العكر، في الوقت الذي تبقى صفات أولئك الأخيار مرصعةً بذهب التاريخ الإسلامي، ومشعلاً ينير طريق الإنسانية جمعاء.
إنّ للعلوم الإنسانية مكانةً بالغة الأهمية لدى الدول المتقدّمة والجامعات المعتبرة، فيما يمثل طلاب تلك العلوم في دول العالم الثالث ما يخلفه الغربال، فيتمّ منحهم الشهادات بأية طريقة ممكنة؛ من هنا أعلن ـ وبكلّ صراحة ـ أنه لابد لنا من إيجاد تحوّل وتغيير جذري في جامعاتنا، وعلينا أن نمنح العلم قيمته الحقيقية، فلم تعد الشعارات المجرّدة التي يطلقها بعضهم سبيلاً للعلم والتكامل والنمو الثقافي، فمن الضروري أن نستبدل الجهل المطلق بقليلٍ من العلم.
حول الشيخ حسن علي نخودكي و… ـــــــ
أما بالنسبة للشيخ حسن علي نخودكي الإصفهاني (عظم الله قدره)، وما هو المذهب المنتمي إليه؟ فيجب القول بأنه من فرقة الشيعة الجعفرية، فقد كان يدرّس (شرح اللمعة) وخلاصة الحساب والمعالم، وسمي نخودكياً نسبةً إلى (نخودك) ـ الداخلة في ملك أحفاد الميرزا مهدي الشهيد والمرحوم الحاج الميرزا حبيب الخراساني ـ حيث محلّ إقامته؛ لأنها لم تكن وقفاً في شيء وخالية من الشبهات. وكان الشيخ حسن علي قد سكن في غرفةٍ من الطين منحه إيّاها أحد الورثة المالكين؛ ليتفرّغ فيها للعبادة والذكر، وتروى له العديد من الكرامات والقصص العجيبة المليئة بالعبر، لقد كان زعيماً للجشتية في خراسان، إلاّ أنه لم يشاهد أحدٌ على طريقته، وقد شاركت مختلف الطبقات في تشييع جنازته بموكبٍ مهيب لم تشهده المدينة.
لم يكن أرباب العرفان في بلاد العتبات المقدّسة ـ حسب السيد عصار والطباطبائي وعلي الهمداني ـ تابعين لجماعات التصوّف، أما بالنسبة للسيد محمد بيدآبادي فلم يثبت كون السيد قطب جد مير حكيم الشيرازي أستاذَه، وحتى لو سلّمنا ـ جدلاً ـ بتلقيه الدروس عنده، فهذا ليس دليلاً على كونه درويشاً ذهبياً([10]).
أما مير سيد علي الهمداني، شارح الزيارة الجامعة، فهو من تلامذة الملا حسين قُلي الذي عمّر طويلاً، ويعتبر شرحه للزيارة من خيرة الشروح، وقد طبع بطهران، ولابدّ لإعادة طبعه من استئذان أولاده؛ ليتسنّى للقراء اقتناؤه بحُلّة جديدة، والهمداني من أصحاب المرحوم بهاري والسيد أحمد الكربلائي.
أما مدّعى السيد قائم مقامي في ترجيح الميرزا حسين قلي لمحمد بهاري على السيد أحمد، فهو محلّ نظر؛ فالسيد أحمد الكربلائي من المتبحّرين في الفقه أيضاً، بحيث كان الميرزا محمد تقي الشيرازي ينصح الناس بالرجوع إليه في التقليد، وأما نقطة خلاف السيد أحمد الكربلائي مع الميرزا، فتعود لطلب تجار طهران الملحّ في كتابة الرسالة العملية، فكان يردّ: bإنّ دخول جهنم واجبٌ كفائيv، حسب نقل السيد محمود الإمام الزنجاني([11]) عن كبار طلبة الشيخ محمد حسين الإصفهاني، ناهيك عن تفوّق كتابات السيد أحمد الكربلائي على كتابات البهاري في المستوى، وهذا أمر مفروغ منه؛ فإن مستوى سكنة العتبات المقدّسة في العرفان النظري لا يرقى لمستوى أساتذة طهران، وكان السيد محمد رضا (قمشه اي) علاوةً على إلمامه بجوانب العرفان النظري، له باع أيضاً في العرفان العملي، فهو ممارس جيد لرياضات السلوك العرفانية، ويتمتع بعذوبة التعبير وخصوبة الخيال.
وينقل عن الآخوند ملا لطف الله واعظ الطهراني أنّ محمد رضا كان ذا تفاعل روحي مع بحوث العرفان ودروسه التي كان يلقيها على طلابه وبأساليب آسرة للمستمعين، ويذكر المرحوم السيد جواد معلّم الأراكي أنه عندما كان هو والسيد رثائي الخراساني والشيخ حسن الترشيزي يحضرون دروس محمد رضا كانوا يأنسون ببيانه وعباراته المزجاة بالأشعار العرفانية العديدة، فيأخذهم ذلك إلى عالم خاص، على الرغم من كونهم طلبةً مبتدئين آنذاك.
أما بالنسبة لأساليب العرفان عند أساتذة الأخلاق والعرفان في العتبات المقدّسة والمدن الدينية، فهي في العرفان العلمي لا تختلف عن طرق العرفاء الإسلاميين، بحيث لم يكن أحد يجرؤ على تدريس كتب من قبيل الفصوص والنصوص ومصباح الأنس، لا سراً ولا علانية، إلاّ أنهم ـ وفي تقرير مباحث التوحيد والنبوة والولاية ـ يتبعون الأسلوب ذاته عن أرباب المعرفة مع اختلافات بسيطة في التوحيد والولاية، مع ما يتداولونه ـ خفيةً ـ من عبارات الفتوحات والنصوص وبعض التأويلات القرآنية.
ويدلّ على ذلك النقاشات العلمية بين زعيم أرباب المعرفة السيد أحمد الكربلائي والأستاذ المحقق في مجال المعقول والمنقول العلامة الشيخ محمد حسين الإصفهاني، وكان أستاذ العلامة الطباطبائي يقول لي: إنّ أستاذه السيد علي القاضي كان يحفظ الكثير من عبارات الفتوحات.
وأبرز أتباع مدرسة الملا فتح علي والملا حسين قلي هم عبارة عن السيد أحمد الكربلائي، والميرزا جواد ملكي، والبهاري، والهمداني، والسيد مرتضى الكشميري، والسيد علي الهمداني، بالإضافة إلى اثنين أو ثلاثة آخرين، وقد عرفوا بسموّ السلوك العملي ممّا لا يخفى على ذي بصيرة.
في قصّة الخلاف بين العلامة الطباطبائي والسيدالبروجردي ـــــــ
أما بخصوص درس العلامة الطباطبائي في الأسفار ومخالفة آية الله العظمى البروجردي لاستمراره، فلابد أن أقول: إنّه لم يحرّم الدرس ولم يقطع رواتب طلبة درس الأسفار، ولا أنه طلب استبدال الأسفار بالشفاء، فأنا شخصياً كنت من عشّاق درس الأسفار، ولطالما جلست تحت منبر البروجردي، ولطالما كنت آخذ بساعده كي أعينه على ارتقاء منبره، وينقل عن علم الهدى المشهدي ـ الأخ الأكبر ـ أنّ البروجردي أصدر أمراً بإيقاف درس الأسفار، وكنت قد التقيت علم الهدى في مدينة قم، وتحديداً قرب محلة كذرخان، فسألته عن أمر ذلك، فارتبك كثيراً وقال: إني رأيت في المنام أنّ البروجردي ينهى عن تدريس الأسفار في مدينة قم، ولم أنقل سوى رؤياي، وكان العلامة الطباطبائي قد تأثر لذلك، واحتمل صدق كلام الشخص المذكور، فبعث بأحد طلبته عند البروجردي سائلاً عن التكليف الشرعي في هذا الموضوع، فردّ البروجردي بأنّه إذا كان الميرزا محمد حسين يرى تكليفه في تدريس الأسفار فلا مانع من ذلك، فقيل: إنه يطلب رأي سماحتكم في ذلك، فقال: ليعمل بما يملي عليه واجبه الشرعي. فلم يقطع راتب أحد ولم يمنع من حضور الدرس إطلاقاً. ولم يكن مناسباً آنذاك أن يمنع عالمٌ جليل ومرجع ديني تدريس الأسفار([12]).
منذ ذلك الحين، بدأت الرسائل من مشهد تنهال على السيد البروجردي والسيد محمود الشاهرودي طالبةً منع تدريس الفلسفة؛ لأنها تعرّض بيضة الإسلام في مدينة قم إلى الخطر، حتى أنه يظهر أنّ آية الله الشاهرودي بعث برسالةٍ في ذلك إلى البروجردي، إلاّ أنها ـ ولحسن الحظ ـ لم تترك أثراً يذكر، وكان لتواجدي هناك دورٌ فعّال في إجهاض هذه الأهواء، ولا يزال العديد من طلبة الأسفار حاضرين اليوم، ومنهم كاتب هذه الصفحات، فلم يمنعني أحدٌ من حضور درس الأسفار، ولا أنّ أحداً قطع رواتبي الشهرية، بل ولم يصرّ العلامة الطباطبائي على تدريس الأسفار بدلاً عن الشفاء، إنما ترك تدريسه؛ لتراجع رغبته عن ذلك؛ نظراً لأهمية التعجيل في كتابة تفسير الميزان.
وأما ما كتبه السيد محمد حسين لاله زاري ـ العلامة آية الله السيد محمد حسين الطهراني ـ من أنّ السيد البروجردي أفتى بتحريم درس الأسفار.. فهو أمرٌ لا أساس له من الصحّة؛ فقد كان الطباطبائي من العلم والتقوى بمكان يجعلُه في غنىً عن إرشاده إلى واجبه الشرعي عن طريق الآخرين.
هناك العديد ممّن يُدرّس السطوح وبحث الخارج في جميع الحوزات العلمية، فيطلق عليهم أساتذة سطوح أو بحث الخارج، وفي حوزات أخرى يدرّس التفسير والحديث والكلام والعرفان والفلسفة، أما حوزة مشهد في الماضي وعلى الرغم من تواجد الأساتذة فيها على جميع الأصعدة، إلاّ أن سلبيتها الوحيدة كانت في مخالفتها للعرفان والفلسفة، الأمر الذي أدّى إلى تغييب العلوم وتنميتها بشكل صحيح ولائق.
* * *
الهوامش
(*) أستاذ جامعي وحوزوي بارز في الفلسفة والعرفان، من تلامذة العلامة الطباطبائي والإمام الخميني، كانت له حوارات وعلاقات وطيدة بالدكتور هنري كوربان، وقد قام معه بمشروع إعادة إحياء التراث الفلسفي الإسلامي، صحّح العديد من المصنّفات الفلسفية الشهيرة، توفي بداية هذا القرن.
[1] ــــ ما بين القوسين ترجمة لمثل فارسي (المترجم).
[2] ــــ وقد أثبت في الكتاب المذكور أنّ العهد الصفوي كان عهد نضج الحكمة المتعالية وتكاملها، وأنّ الملا صدرا هو أبرز روّاد المدرسة الإصفهانية، حيث منح الفلسفة والعرفان روحاً جديدة، وقد بلغت أفكار مدرسته ذروتها في زمن الملا علي النوري، ثم اتّبع مدرسة إصفهان العديد من المحققين في طهران وغيرها من المراكز العلمية.
[3] ــــ لقد نشرتُ للحكيم السبزواري رسائل عديدة بالفارسية والعربية، تعدّ من أهمّ مؤلفاته، ونشرت أيضاً مؤلَّفين للملا عبدالله الزنوزي، وهكذا بالنسبة للملا محمد جعفر اللنكرودي ـ من تلامذة الآخوند النوري ـ فقد طبع لهُ شرح على مشاعر الملا صدرا، مضافاً لنشر نتاجات السيد محمد رضا قمشه إي، والميرزا هاشم الرشتي، أما الآن فأنا بصدد نشر تعليقات السيد محمد رضا (1306هـ) على شرح ومقدمة القيصري على فصوص الحكم، وهناك أيضاً تعليقات أخرى للميرزا هاشم الرشتي الإشكوري على الفصوص هي الأخرى تحت الطبع، وقد قدّمت جزئين من الأسفار للطباعة مع تعليقات السيد علي والميرزا هاشم والشيخ غلام علي الشيرازي، بالإضافة إلى جوانب من شروحات آقا مير والشيخ مهدي الإصفهاني، يبدأ موضوعها من مباحث الوجود وحتى مباحث الحركة، ولعلّ جزئي الأسفار يطبعان في ثلاثة في هذه الطبعة الأخيرة.
ويظهر أنّ الإيرانيين كانوا ينتظرون المصريين ليطبعوا كتاب الأسفار النادر، كما فعلوا مع الشفاء، ولعلّ بعضهم كان يتهامس في أنّ ما صححه الميرزا أبو الحسن جلوة من الجزء الأول لمنطق الشفاء كان أفضل بكثير من الطبعة المصرية.
وهناك جزءان من كتاب مختارات في الفلسفة قيد الإنجاز، وقد تمّ طبع أهمّ مواضيعه حول مؤلفات الميرزا محمد علي شاه آبادي ـ من حفدة السيد محمد البيدآبادي ـ والميرزا أحمد والميرزا مهدي الآشتياني والميرزا أبي الحسن القزويني والسيد كاظم عصار، وكتابات للإمام الخميني، والمرحوم الطباطبائي، وبهذين الجزءين سيكون تاريخ الفلسفة والعرفان من زمن الميرداماد ومير فندرسكي وإلى عصرنا الحالي في متناول المهتمّين بهذا الشأن، وهو تاريخ مستند للمصادر العلمية، مع توخي الدقّة على جميع الأصعدة.
ومما يؤسف لهُ أننا لم نعثر على معلومات دقيقة حول مؤلّفات الميرزا محمد علي والميرزا مظفر والميرزا سيد حسن الطالقاني والسيد محمد البيدآبادي والمحقق اللنباني ـ شارح المثنويات ـ والسيد رضا لاريجاني، وهم من عرفاء إصفهان البارزين. وللقاضي سعيد مؤلّفات في العرفان، إلاّ أن آراءه ومؤلفاته لم تركّز على مذهب معين؛ لأنه لم يدرس عند عارف محقق سابقاً، وقد ذكرت شرحه لأربعة أقسام من كتاب الأثولوجيا الكبير في المختارات. وللملا نعيما الطالقاني باعٌ في العرفان أيضاً، وقد أثبت له كتاب قيم مع الملا عبدالرحيم الدماوندي، وهو من مشايخ الذهبية. ولم تخرّج المدارس الشيعية أعلاماً في العرفان، وكان أول عارف متبحّر شيعي كتب تعليقاته على فصوص ابن عربي هو السيد حيدر الآملي المازندراني، وقد نشرت مقدّمته على الفصوص مع كتابه جامع الأسرار بتصحيح عثمان يحيى، وتقديم المستشرق الفرنسي هنري كوربان في المعهد العلمي ـ الإيراني ـ الفرنسي. وفي الحقيقة لقد أحيا هنري كوربان هذين الأثرين.
[4] ــــ بالإضافة إلى تبحره في حكمة صدر الحكماء، عُرفَ الحكيم السبزواري أيضاً بحسن السيرة والسلوك، فكان ذا عزيمة رائعة وتقوى مثالية، متنـزهاً عن شعارات الزهد الوهمية، ممّا أضفى عليه نورانيةً متعالية، وكان لمجرّد الحضور عنده أثرٌ بالغ على نفوس الثوريين، فماذا لقوا عنده وسمعوا منه لكي يستلهموا كلّ هذا الحماس الروحي؟ وقد وصفه السيد علي المدرس بعبارات من قبيل bوحيد عصره وفريد دهرهv أو bوحيد عصرنا وفريد دهرناv.
[5] ــــ تنقّل السيد حيدر الآملي بين مدينتي: النجف والحلّة، فدرس الفقه والأصول عند فخر المحققين، وقد كتب بعض مؤلّفاته استجابةً لأستاذه، وقد توفي الآملي سنة 784هـ؛ فكان معاصراً للقيصري المتوفي سنة 730هـ. وقد أهدى السيد حيدر كتابه (جامع الأسرار) للسلطان أحمد بهادر خان بن تيمور خان bتيمورلنكv، وكان مكرّماً عنده، ومرّ بإصفهان فسكن بها أيضاً. أما من هو أستاذه في التصوّف؟ هذا ما لم نعرفه حتى الآن، وقد اعتزل الآملي الناس في آخر عمره ليعيش في كنف العتبات المقدسة، وله شرح معتدل على الفصوص، وكان ملمّاً ببحوث العرفان بشكل منقطع النظير، وقد ذكر نقاط الخلاف مع شرّاح الفصوص في خاتمة بحث الولاية.
[6] ــــ يقسّم كتاب جلال الدين الرومي (المثنوي) إلى ستة كتب (المترجم).
[7] ــــ الخانقاه محلّ تجمّع العرفاء والمتصوّفة سابقاً (المترجم).
[8] ــــ (القطب) لقب في عالم التصوف، يطلق على الكبير منهم، ممّن يدعي إحراز الكمالات والعلم بكل شيء (المترجم).
[9] ــــ وهي فرقة صوفية في الهند (المترجم).
[10] ــــ الذهبية: طريقة صوفية أتباعها اليوم جميعاً من الشيعة، مركزها شيراز (المترجم).
[11] ــــ تحظى عائلة الإمام الزنجاني باحترام وتقدير في آذربيجان وزنجان؛ فأبوه وأجداده من كبار العلماء هناك، ويعتبر بيتهم ملجئاً للناس من السلطة، أو كما يعبرون عنه بـ bالبستv. أبرز المعاصرين منهم هو الأستاذ المحقق آية الله السيد عز الدين مدّ ظله، وهو نجل المرحوم السيد محمود الإمام الزنجاني، ومن سكنة مدينة مشهد، وهو عالم فاضل دمث الأخلاق جامع للعلم والمعرفة بصفات روحية وتزكية نفسية عالية، درس شرح المنظومة والأسفار عند الإمام الخميني، وحضر عند العلامة الطباطبائي أيضاً. تتلمذ كذلك عند والده المكرّم والسيد البروجردي سنيناً عديدة. وأنا لا أزال مخلصاً له منذ عام 1327، أو 1326ش وحتى يومنا هذا.
[12] ــــ ذكرت سابقاً أنّ الشيوعين في العراق التابعين لجمهورية الصين الشعبية كانوا قد نشروا كتاباً باسم bالله في قفص الاتهامv بالإضافة إلى نشرهم منشورات بنفس الطريقة السرية، لم يتعرضوا فيها إلى الفقهاء والأصوليين والمحدثين والمفسرين، وإنّما كان جام غضبهم منصباً على الحكماء والمتألهين الإسلاميين خاصة، موجهين أكثر طعونهم إلى صدر المتألهين ومدرسته، معتبرين أنصار التوحيد خرافيّين في مذهبهم، وفي عودتي من سفرتي الأولى من مدينة النجف الأشرف جلبت الكتاب المذكور معي، وأطلعت آية الله العظمى البروجردي عليه.
وذكرت في مقالات سابقة استدلال القائلين بانقطاع العذاب مع الإشارة إلى دليل بعض العرفاء في انقطاع العذاب والخلود في النار، فإن كان هنالك مخالف لما ذكر فليقدّمه عن طريق مجلّة كيهان أنديشه، لا أن يجلس على منبر مجلس العزاء الحسيني، ويقول: لعن الله القائلين بانقطاع العذاب، فلابد من مناقشة أدلتهم، فهم يتمسّكون بجملة من الآيات والروايات.