أحدث المقالات

أ. مشتاق بن موسى اللواتي(*)

مقدّمة تمهيدية

في البداية نودّ التأكيد على أن من حقّ أيّ باحث أو كاتب أن يقوم بمراجعة المناهج والمنظومات الفكرية المتعارفة، وأن يعيد قراءتها ونقدها وفق المنهج العلمي، وأن ينتهي إلى بلورة تصوّر أو قراءة معينة يقتنع بها. إنه أمرٌ مشروع، ومن شأنه أن يسهم في إيجاد حراك فكري قد يفضي إلى تطوير الفكر وتمدّده وتنوّعه.

 وانطلاقاً من هذه المقدمة جاءت قراءتنا النقدية لما طرحه الدكتور محسن كَدِيوَر في كتابه «القراءة المنسية»، من «فرضيات» حول التشيّع وتطوّره خلال القرون الأولى. وقد آثرنا أن نتناولها من منظورٍ منهجي فكري، تاركين للباحثين دراسة سياقاتها السياسية المحتملة.

الفرضية المحورية ومستندها

إن الفرضية المحورية في الكتاب مفادها أن نظرة غالبية الشيعة الأوائل إلى الإمامة والأئمة كانت بشريةً عادية، بمعنى أنهم علماء أبرار، وكانوا من أكثر الناس تهذيباً وبعداً عن المعصية، ولكنهم غير منصوبين من قبل الله تعالى، بل عرف النبيّ الإمام عليّاً للمسلمين، ثم إن كلّ إمام نصّ على الإمام الذي يليه([1])، وإنهم متقدّمون على سواهم بالعلم والعمل، وإن اختيارهم تمّ بناءً على أن روايتهم هي أقرب الروايات الى إسلام النبيّ|، غير أنهم مجتهدون، وليسوا معصومين([2]). وهو ما يطلق عليه الكاتب بـ «التصوّر البشري للإمامة» أو «نظرية العلماء الأبرار»([3]). ويقابله ـ حَسْب الكاتب ـ «التصوّر فوق البشري للإمامة»، والذي يعتقد بأنهم منصوبون من قِبَل الله تعالى، ومعصومون، وأن طاعتهم واجبة، بالإضافة إلى تفاصيل أخرى ذكرها، ليست موضع اتّفاق.

ومن أهمّ ما استند عليه في صياغة الفرضية وتدعيمها كلمة للفقيه الأصولي زين الدين العاملي، المعروف بالشهيد الثاني(965هـ)، بالإضافة إلى بعض الكلمات التي نُسبت إلى الفقيه أبي عليّ محمد بن أحمد الكاتب، المعروف بابن الجُنَيْد الإسكافي(381هـ)، في سياق المواقف الإقصائية التي اتّخذت منه.

منهجنا في القراءة النقدية

 سنقوم في هذا البحث بقراءةٍ نقدية للمقالة الأولى من كتاب «القراءة المنسية»، والتي عنونها بـ «إعادة قراءة نظرية (الأئمة الاثنا عشر علماء أبرار)»؛ لأنها ـ كما نرى ـ تمثّل الإطار العام الذي ضمّ أهمّ فرضياته، التي عبّر عنها بـ «القراءة المنسية»، وحشد فيها الأقوال والآراء والمواقف المتناثرة بحسبانها قرائن وشواهد تؤيّد فرضياته. أما بقية المقالات في الكتاب فلا تعدو أن تكون بمثابة تفصيل لتدعيمها وتعزيزها. ولهذا سنطلّ عليها سريعاً. وسينصبّ جلّ التركيز على أبرز فرضياته، حيث نقوم بتحليلها، وتفكيك عناصرها، وتشريح منهجه، ومناقشة مستنداته وإثباتاته. كما سنلقي نظرة سريعة على منهجه، وعلى بعض استنتاجاته وأسانيده، وذلك من خلال المحاور التالية:

أوّلاً: نظرة عامّة في منهجه

إن طبيعة البحث في تاريخ الأفكار وتطوّرها تفرض اتّباع المنهج التاريخي والاستقراء التاريخي، بتتبّع جذور الأفكار، والتعرّف على بداياتها الأولى، والظروف المختلفة التي مرّت بها، والتغيّرات التي طرأت عليها، وقراءتها وتحليلها، وصولاً إلى النتائج المثبتة أو النافية للفرضيات المطروحة.

والناظر في طبيعة الفرضيات التي طرحها الكاتب، والنتائج الجازمة التي انتهى إليها في مقاله حول وقوع تحوّل عميق في البنية الفكرية للتشيّع ـ حَسْب رأيه ـ، توحي بأنها نتاج قراءة موغلة في طبقات التاريخ التي تشكّلت عبر القرون المتعاقبة منذ تاريخ الدعوة الإسلامية وما تلاها من أحداث، وأن الكاتب اتّبع منهج الحفر المعرفي في الوثائق والنصوص، وأمعن في التنقيب في الظواهر الاجتماعية والسياسية، وأعاد قراءتها وتحليلها وتفكيك عناصرها، وصولاً إلى النتائج المطمورة في أعماقها.

والذي يتبين من قراءة المقالة أن الكاتب لم يتّبع أيّاً من المناهج المذكورة، بل يغلب عليها أسلوب تقرير نتائج مسبقة، وتدعيمها عبر تحشيد بعض الآراء والأقوال، وتجميع مواقف متناثرة غير منسجمة المنطلقات لبعض الأعلام، بحسبانها قرائن وشواهد تثبت فرضياته، ودون أن يأخذ في الاعتبار بأن بعضها تنتمي إلى مراحل تاريخية متأخّرة.

ونلحظ عليه ـ باستغرابٍ شديد ـ إغفاله لبعض المعطيات التاريخية المهمّة حول جذور فكرة الوصية والنصّ في الإمامة وظهورها المبكّر، مع أنها تشكّل قضية محورية في البحث. ولم يُجْرِ الكاتب أيّ مقاربةٍ تاريخية للنصوص الدينية التي تزخر بها مصادر الحديث والتفسير والتاريخ والأدب من تراث المسلمين من مختلف التيارات الفكرية، حول النصّ والوصية والولاية ومرجعية العترة النبوية. كما تغاضى عن الظروف التاريخية والسياسية الضاغطة التي مرّ بها الشيعة في بعض الفترات المهمة في القرنين الأول والثاني، وما نتج عنها من ضعف التواصل بين الجماهير وأئمة أهل البيت^، ومن ثم ما أفضَتْ إليه من انعكاساتها على النتاجات الفكرية.

إن الباحث في اتجاهات الرواة من أصحاب أئمة أهل البيت^ يظهر له وجود اختلافات مبكرة في بعض التفاصيل الكلامية والفقهية بين بعضهم. ويبدو أن هذا الوضع استمرّ بعد عصر الأئمة بين بعض الاتجاهات الفكرية داخل التيار الشيعي. إن الكاتب لم يمايز بين تلكم الاتجاهات بمنهجية فكرية معينة، فلم يحدّد مواصفات ومعالم كلّ اتجاه فكري منها والملابسات التاريخية لتشكّله وظهوره، وانجرّ وراء تصنيف الاتجاهات الشيعية ضمن التصوّرين الرئيسين اللذين قرّرهما مسبقاً حول الإمامة: «البشري»؛ و«فوق البشري»، وحاول إسقاطهما على بعض المتكلّمين والمحدّثين من خلال انتقاء كلمات نُسبت إليهم، دون تدقيق في منطلقاتهم أو تحليل لمنهجياتهم التي يصدرون منها. ولهذا أدرج أسماء بعض الشخصيات تحت «التصوّر البشري» لمجرّد مناصرتهم لفكرةٍ معينة، وإنْ كان منهجهم العامّ أو بقية آرائهم ليست كذلك!

فقد عدّ بعض مَنْ كان يتشدّد في قبول الروايات، مثل: أحمد بن محمد بن عيسى الأشعري(القرن 3هـ)، ومحمد بن الوليد(343هـ)، أو مَنْ كان يتشدّد في روايات الخوارق، ويصف أصحابها بالغلوّ، كأحمد بن الحسين بن الغضائري(450هـ)([4])، عدّهم وكأنهم ينتمون إلى «التصوّر البشري»([5])، دون أن يستدلّ على هذه الدعوى!

 فهل بوسع الكاتب ـ على سبيل المثال ـ أن يثبت أن العالم الرجالي أحمد بن الحسين بن الغضائري(450هـ) ـ الذي كان يتشدّد كثيراً في قبول روايات الكرامات والخوارق والأخبار الغيبية ـ لم يكن يؤمن بأن الإمامة بالتنصيب والنصّ والوصية؟ أو أنه ما كان يؤمن بالعصمة مطلقاً، ولو في مجال التبليغ للأمور الدينية؟ وهل يمكن أن يزعم الكاتب بأن الشيخ الصدوق(381هـ)، ووالده عليّ بن بابويه(القرن 3هـ)، وأستاذه ابن الوليد، كانوا لا يؤمنون بأن الإمامة بالتنصيب الإلهي والنصّ والوصية؟

 وانسياقاً مع تصنيفه الثنائي للشيعة عدّ الكاتب الفقيه الأقدم محمد بن أحمد بن الجنيد(381هـ) من أعلام «التصوّر البشري». وعمدة ما استدلّ به على ذلك كلمات خصومه حول منهجه الحديثي والفقهي. وما استند إليه لا يتجاوز كلمات محدودة، نُسب بعضها إلى الشيخ المفيد(413هـ)، والأخرى وردت ضمن مناقشات المرتضى(436هـ) الفقهية له([6]). وقد تعامل الكاتب معها وكأنها تشكّل دليلاً دامغاً لا يمكن ردّه أو دحضه! ولم يتعامل معها تعاملاً تحليلياً نقدياً، فضلاً عن أن يحاكمها ويأخذ في الاعتبار أنها لا تمثّل كلام ابن الجنيد نفسه، بل هو قراءة خصومه لآرائه، وكلام مخالفيه عنه، ولا يفترض أن يسلم به تسليماً، دون بحث أو تدقيق في ملابساته وحقيقته. وهو ما سنتناوله في مقالٍ مستقلّ.

ثم إن مقاومة القمّيين لبعض الآراء المغالية ـ حَسْب منظورهم ـ كانت متوجهة أساسا إلى مَنْ كان يتبنّاها في قم نفسها. وإن اشتراك المدرسة البغدادية مع غيرها في رفض روايات إسهاء النبيّ| لا تعني أن أعلامها كلّهم صاروا غلاة مفوضة، إلاّ بناء على مسلك الإلزام. أما مسألة الشهادة الثالثة فإن الموقف الفقهي السائد عند الإمامية ـ حتّى يومنا ـ يؤكّد على أنها ليست جزءاً من الأذان والإقامة، بل ان بعض تلامذة الشيخ المفيد البارزين، وهو الشيخ الطوسي(460هـ)، وصف رواياتها بـ «شواذّ الأخبار»، وعدّ مَنْ عمل بها مخطئاً([7]). وفي المقابل نجد أن أستاذه المرتضى(436هـ) صرّح: إنْ قال: «محمد وعليّ خير البشر» على أن ذلك من قوله خارجٌ عن لفظ الأذان جاز، (أي إنْ قاله على أنه ليس جزءاً من الأذان) فإن الشهادة بذلك صحيحة، وإنْ لم يكن فلا شيء عليه([8]). ولهذا نرى أن الكاتب أجحف بحقّ مدرسة الشيخ المفيد وإسهامها الكبير في بلورة رؤية كلامية أصولية حديثية وسطية بين الاتجاه الحديثي والآراء المغالية. وتغاضى أيضاً عن وجود اختلافات ـ حتّى الوقت الراهن ـ حول بعض المضامين، من قبيل: التفويض والولاية التكوينية ـ وهو مصطلح ظهر متأخّراً ـ، والمعرفة التفصيلية للغيب من قِبَل النبيّ| والأئمة، وبعض مراتب العصمة وتفاصيلها، وتكييف صدور بعض الخوارق منهم وشروطها، وغيرها من الأمور، مكتفياً بإشارةٍ خاطفة إلى بعضها.

لقد تعرض التشيّع خلال تاريخه إلى محاولات الاختراق والاندساس من قِبَل بعض المنحرفين والمغالين، وقد اتّخذ أئمّة أهل البيت مواقف شديدة منهم، تمثلت في كشفهم والتحذير منهم وإعلان البراءة منهم. وقد واصل علماء الإمامية نهجهم في مواجهة الأفكار المنحرفة.

لقد أغفل الكاتب أن حقيقة الخلاف بين بعض أعلام المدرسة القمية والبغدادية حول مسألة إسهاء الله تعالى للنبيّ| ترجع إلى الخلاف حول منهج التعامل مع المرويات والأخبار، ولا يعكس هذا الخلاف التصنيف الذي حاول الكاتب أن يسقطه عليه وعلى أقطاب المدرستين، ويبني عليه استنتاجاته([9]). إن الشيخ أبا جعفر الصدوق(381هـ)، الذي كان أبرز ممثّل للمدرسة القمّية في هذا الخلاف، كان يعتقد بالنصّ والوصية والعصمة، وبوقوع الخوارق على أيدي الأئمّة([10]). ولا نغفل أن تمسك بعض القمّيين بروايات السهو كان لصحة أسانيدها طبقاً لمعايير الاتجاه الحديثي. ولذا صرّح الصدوق بقوله: ولو جاز ردّ الأخبار الواردة في هذا المعنى لجاز ردّ جميع الأخبار، وفي ردّها إبطال الدين والشريعة([11]). وفي المقابل تحفّظت عليها مدرسة المفيد البغدادية، حَسْب منهجها النقدي. فقد وصف المفيد رواتها بالمقلّدة من الشيعة؛ فإنهم في نظره ليسوا أصحاب نظر في متون الأخبار وتمحيصها، وصرح بأنها من أخبار الآحاد التي لا تثمر علماً، ولا توجب عملاً([12]).

من جهةٍ أخرى ليس من الدقّة العلمية اختزال المدرسة القمّية في بعض الرموز المتقدّمة ـ مع مكانتهم ـ، فلا يجب أن يغفل الباحث بأنها لم تكن تقتصر على اتجاه فكري معين. فقد كان فيها إلى جانبهم علماء ومحدّثون معروفون، أمثال: إبراهيم بن هاشم، وعليّ بن بابويه القمّي والد الصدوق، وعليّ بن إبراهيم شيخ الكليني، وجعفر بن محمد بن قولويه، ومحمد بن أحمد بن يحيى الأشعري، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي، وغيرهم من المحدّثين الكبار.

 لقد اشتركت كلٌّ من المدرسة الحديثية القمّية والكلامية البغدادية في أصول المنظومة الاعتقادية الإمامية، كأصل الإمامة والنصّ والوصية والعصمة وغيرها، وإنْ اختلفتا في تفاصيلها، نظراً لاختلاف مناهج البحث المتّبعة لديهما، كما يتبين من قراءة كتابَيْ: «الاعتقادات»، للشيخ الصدوق؛ و«تصحيح الاعتقاد»، للشيخ المفيد.

والواقع أن مدرسة التشيُّع شهدت حراكاً فكرياً مستمرّاً، وسجالاً كلامياً وجدالاً سياسياً متواصلاً ـ على تفاوتٍ ـ، سواء في داخلها أو مع الاتجاهات الفكرية الأخرى، وذلك بحسب الأوضاع التاريخية المختلفة.

تجدر الإشارة إلى أن دعوى أن الشيعة الأوائل في القرن الأول ما كانوا يعتقدون بالنصّ والعصمة ليست جديدةً. فقد ردّدها خصوم الإمامية من المعتزلة والزيدية وأهل الحديث وغيرهم منذ القدم، وتابعهم على ذلك بعض الباحثين المعاصرين. فقد طرحها القاضي عبد الجبّار الهمداني(415هـ) في كتبه، كالمغني وغيره، وأرجعها إلى المتكلّم الإمامي هشام بن الحكم(199هـ). وردّ عليه السيد المرتضى(436هـ)، ورفض الدعوى، وأرجع الفكرة إلى النصوص الدينية النبوية، ورأى أن سبب هذا الاشتباه لدى القاضي الهمداني هو كونه وجد أن هشام بن الحكم وبعض متكلّمي الشيعة في زمانه صنّفوا كتباً كلامية في الإمامة في هذه الفترة، فنسب تأسيس القول إليهم، وإلاّ فإن الفكرة كانت مستندةً على النصوص، وموجودةً من قَبْلُ. وممّا قاله: إن مَنْ خالفنا لا يحيل في ما يدّعيه، من كون النصّ مبتدأ في زمان مَنْ ذكر، إلاّ على التظنّي والتوهُّم. وحاجّهم بالقول: إن مَنْ ادّعى ذلك هو بمنزلة مَنْ ادّعى أن القول بالعدل والوعيد موقوفٌ على زمن النظّام (من شيوخ المعتزلة). ورأى أن هذه النسبة الخاطئة تعود إلى أن المخالفين لم يجدوا للشيعة كلاماً مجموعاً في نصرة النصّ وتهذيب الحجاج فيه متقدّماً لزمن هشام، فالتبس عليهم الأمر في ذلك. وبالفعل فإن التنظير الفكري كثيراً ما يأتي بعد ظهور الأفكار والممارسات. وانتهى المرتضى بالقول: إن التصنيف والجمع لا يكونان دلالة على ابتداء القول فيه من المصنّف. وأضاف: وليس يجب أن يكون القول مقصوراً على مَنْ صنف الكلام في نصرته وجمع الحجاج في تشييده، بل قد يكون القول معروفاً ظاهراً في مَنْ لا يعرف الحجاج والنظر، ولا يقدر على تصنيف الكتب([13]).

ومع ذلك فقد تبنّى جملةٌ من الكتّاب والباحثين أن فكرة النصّ والإمامة والعصمة ظهرت في منتصف القرن الثاني الهجري، وأن مهندسها الأول هو هشام بن الحكم، وأنها اشتهرت وسادت في الوسط الشيعي بعد هذه الفترة.

مصادر الفرضية المنسية

أما عن مصادر البحث فقد صرّح الكاتب كَدِيوَر بعدم وجود آثار كاملة للعلماء القدماء المعتقدين بالنظرة البشرية العادية للأئمة ـ حَسْب تصنيفه ـ، إلاّ أن بعض آرائهم ومواقفهم وردت في ثنايا مؤلّفات خصومهم الفكريين([14]). لهذا حاول الكاتب أن يتلمس بعض الشواهد والقرائن منها؛ لصياغة فرضياته وتدعيمها. وذكر أن المشكلة الأساس التي تواجهه في بحثه عن القرون الثلاثة الأولى تكمن في أنه لا يملك إلاّ القليل جدّاً من المؤلفات الكاملة التي دوّنت فيها، بل قد لا يملك أصلاً أيّ مؤلّف كامل كتب في القرن الأول. وقال: ومعظم ما وصل إلينا من كتب قليلة يرجع إلى أواخر القرن الثاني، وإلى القرن الثالث([15]).

أما ما هي المصادر التي يعنيها من كلامه المتقدِّم، والتي وصلتنا من أواخر القرن الثاني ومن القرن الثالث؟

لم يحدد الكاتب أيّاً من تلكم المصادر. غير أنه أشار إلى أسماء معينة لأصحاب الأئمة من القرنين الأول والثاني، وهم: سلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار وكميل بن زياد النخعي ومالك الأشتر النخعي وأبو أيوب الأنصاري وأبو حمزة الثمالي وزرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وهشام بن الحكم، وقال: هؤلاء كانوا جلساء الأئمة وأتباعهم الأوفياء، وكانوا علماء زمانهم بالطبع وأصحاب مؤلّفات. وأضاف: وبالطبع إن كتب أولئك الأجلاء وصلت إلينا أيضاً بصورة كتب حديث ورواية([16]).

ولعل الكاتب يشير بذلك إلى رواياتهم التي تضمنتها المدوّنات الحديثية عند الإمامية، كالكتب الأربعة، التي يُعتَقَد أنها اعتمدت على الأصول والمذكرات المتقدمة التي كتبها الرواة من أصحاب الأئمة، والتي دوّن بعضهم فيها ما سمعه مباشرةً من الأئمة. وقد يُستفاد من كلام الكاتب بأنه يعدّ روايات أصحاب الأئمة في المصادر الروائية معبرة عن آرائهم وأفكارهم. كما أشار الى بعض الكتب الأخرى، مثل: «بصائر الدرجات»([17])، و«نهج البلاغة»([18])، ورأى بأن هذه الكتب وما وصلنا من كلمات أصحاب الأئمة تعاني من مشكلات الكذب والتأثّر بـ «التصوّر فوق البشري»([19]). وهكذا نجد أن هذا التصنيف هيمن على منهج الكاتب كمعيارٍ مسبق ونتيجة ناجزة سلفاً، وهو ما دفعه إلى ممارسة الانتقائية للروايات. فكلّ ما لا يتفق مع معياره المذكور يُعَدّ مدسوساً على الأئمة وأصحابهم.

ثانياً: فرضية العلماء الأبرار

يمثل هذا العنوان «العلماء الأبرار» مرتكزا أساساً في فرضيات «القراءة المنسية». وقد اقتبسه الكاتب من تضاعيف البحث الكلامي لأحد الفقهاء الأصوليين في القرن العاشر، وهو الشيخ زين الدين العاملي، المعروف بالشهيد الثاني(965هـ). لقد درج العلماء في بعض بحوثهم الكلامية وأدلتها وشروطها على بيان ما يلزم الاعتقاد به وما لا يلزم، أو توضيح الحد الأدنى اللازم للاعتقاد وتحديد ما يكفي الاعتقاد به من الأصول وما يرتبط بها من شروط. وفي هذا السياق البحثي الكلامي في أصول الدين وأدلتها وشروطها تناول الشهيد الثاني في كتابه «حقائق الإيمان» ما يجب التصديق والإيمان به على مستوى التوحيد والعدل والنبوّة والإمامة والمعاد. وليعذرنا القارئ على إيراد اقتباسات طويلة من كلامه؛ حتّى يتبين سياقه الكلامي. قرّر الشهيد الثاني عند حديثه عن النبوة وجوب التصديق بنبوة محمد|، وبجميع ما جاء به تفصيلاً في ما عُلم تفصيلاً، وإجمالاً في ما عُلم إجمالاً، وأضاف قائلاً: وليس بعيداً أن يكون التصديق الإجمالي بجميع ما جاء به× كافياً في تحقّق الإيمان. ثم فصّل قائلاً: إن كان المكلف قادراً على العلم بذلك تفصيلاً يجب العلم بتفاصيل ما جاء من الشرائع للعمل به([20]). وهذا يعني أن تحديد ما يلزم اعتقاده وما لا يلزم ـ في نظره ـ يعتمد على مدى قدرة المكلّف ومكنته على تحصيل العلم بالقضايا المبحوثة. فالمدار ـ في نظره ـ هو القدرة والمكنة في تحصيل المعرفة، وفي تحقيق مستوى الوضوح المعرفي حولها. فمَنْ كانت لديه القدرة الفكرية على البحث وتحصيل العلم وجب عليه القيام بذلك، ومن ثمّ التصديق بالقضايا التي تحقّق الوضوح المعرفي حولها. أما غير القادر وغير العالم فلا يمكن تكليفه بما لا يطيق، فيكتفى بالنسبة له بالإيمان الإجمالي. وواصل الشهيد الثاني بحثه في الإمامة على نفس النهج، فقرّر الأصل الرابع، وهو (التصديق بإمامة الاثنا عشر صلوات الله عليهم أجمعين)، وقال: هذا الأصل اعتبره في تحقيق الإيمان الطائفة المحقّة الإمامية، حتّى أنه من ضروريات مذهبهم، دون غيرهم. وأشار إلى بعض ما يشترط التصديق به، فقال: ثم إنه لا رَيْبَ أنه يشترط التصديق بكونهم أئمةً يهدون بالحقّ، وبوجوب الانقياد إليهم في أوامرهم ونواهيهم؛ إذ الغرض من الحكم بإمامتهم ذلك. وأضاف: أما التصديق بكونهم معصومين مطهّرين عن الرجس، كما دلّت عليه الأدلة العقلية والنقلية، والتصديق بكونهم منصوصاً عليهم من الله ورسوله، وأنهم حافظون للشرع، عالمون بما فيه صلاح أهل الشريعة من أمور معاشهم ومعادهم، وأن علمهم ليس عن رأيٍ واجتهاد، بل يقين تلقّوه عمَّنْ لا ينطق عن الهوى، خلفاً عن سلفٍ بأنفس قدسية، أو بعضه لدني من لدن حكيم خبير، وأنه لا يصحّ خلوّ العصر عن إمام منهم وإلاّ لساخت الأرض بأهلها، وأن خاتمهم المهديّ صاحب الزمان×، وأنه حيٌّ إلى أن يأذن الله له. وبعد أن أكّد على بعض الأمور المتعلّقة بالإمامة، ووجوب التصديق بها في نظر الإمامية، تساءل: هل يعتبر في تحقّق الإيمان (ذلك) أم يكفي اعتقاد إمامتهم ووجوب طاعتهم في الجملة؟

 وأجاب عليه بقوله: فيه الوجهان السابقان في النبوّة، أي اللذان ذكرهما هناك، وأضاف: ويمكن ترجيح الأول (أي الإيمان التفصيلي)، بل الذي دلّ على ثبوت إمامتهم دلّ على جميع ما ذكرناه، خصوصاً العصمة. ثم استدرك قائلاً: وليس بعيداً الاكتفاء بالأخير (أي الإيمان بها إجمالاً)، على ما يظهر من حال رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم في أحاديثهم^، فإن كثيراً منهم ما كانوا يعتقدون عصمتهم؛ لخفائها عليهم، بل كانوا يعتقدون أنهم علماء أبرار، يعرف ذلك مَنْ تتبَّع سيرهم وأحاديثهم. وفي كتاب أبي عمرو الكشّي جملةٌ مُطْلِعة على ذلك، مع أن المعلوم من سيرتهم^ مع هؤلاء انهم كانوا حاكمين بإيمانهم، بل عدالتهم([21]). وقد علّل إيمانهم الإجمالي بإمامتهم وعدم إيمانهم بعصمتهم ـ حَسْب فهمه ـ بخفائها عليهم، بمعنى عدم تحقّق الوضوع المعرفي لديهم حولها، وهو مدار وجوب التصديق في نظره. وأرجع سبب عدم وضوحها لهم إلى الظروف السياسية الصعبة. ولذات السبب ذهب إلى عدم لزوم الاعتقاد في تلك الأزمنة بالأئمة الاثني عشر قبل تمام عدّتهم بالفعل، وعلّل ذلك بقوله: وقد كانوا في كلّ زمان مخفيين مشرّدين منزوين ملتزمين للتقية في أكثر أوقاتهم لا يستطيعون إخبار خواصهم بإمامتهم، فضلاً عن غيرهم، يشهد بذلك كتب الرجال والأحاديث أيضاً، فحينئذٍ لا بُدَّ من الاكتفاء بما ذكرناه، وإلاّ لزم خروج أكثر شيعتهم عن الإيمان، وهو باطلٌ([22]). والدارس لمجمل كلام الشهيد الثاني، ودون تقطيعه أو إخراجه من سياقه، يتبين له بوضوحٍ أنه يؤكّد ابتداءً على وجوب الاعتقاد بالعصمة وغيرها من خواص الإمامة، غير أنه لا يخرج من دائرة الإمامية مَنْ لم يتحقّق لديه الوضوح المعرفي حولها لبعض الظروف. ويرجع سبب عدم وضوح بعض الأفكار لدى بعض المنتمين إلى مدرسة أهل البيت في تلك الأزمنة المتقدّمة إلى الظروف التاريخية الضاغطة التي مرّ بها أئمة أهل البيت وأتباعهم، مما كانوا يضطرون معها إلى الكتمان. والجدير بالذكر أن بعض كبار الفقهاء الأصوليين، كالشيخ مرتضى الأنصاري(1281هـ) عند بحثه في قضية ما يجب وما لا يجب اعتقاده، تطرّق إلى عدة آراء في ذلك، ومال فيها إلى رأي الشهيد الثاني، وهو الاكتفاء بالإيمان الإجمالي لمَنْ لم يتيسّر العلم له، مع إضافة قيد عدم إنكار ما لا يعلمه([23]).

وقد تمسّك الكاتب كَدِيوَر من كلام الشهيد الثاني بالفقرة المتعلقة بالاكتفاء بالإيمان الإجمالي، وتعليله لذلك، وعدّها أقوى شاهد يؤكّد فرضية «العلماء الأبرار»، وأرجع ذلك الى المكانة العلمية التي يتمتّع بها الشهيد الثاني، وإلى مستنداته([24]). وأما عن مستندات الشهيد الثاني فيقول الكاتب: ولا يكتفي الشهيد الثاني بذكر الدليل على هذا الوجه، بل يقدّم المستندات التي يرتكز عليها، ويشير في هذا الصدد إلى كتاب رجال الكشّي([25])، ويعني الكاتب بالمستندات التي ارتكز عليها الشهيد الثاني هي إحالته العامّة إلى كتاب رجال الكشي، حيث عَدّ الكاتب كَدِيوَر ذلك بمثابة تقديم المستندات التي يرتكز عليها الشهيد الثاني. وبعبارةٍ أوضح: إن كتاب الرجال للكشي هو المرجع المحوري للشهيد الثاني في نظر الكاتب. ولتدعيم تصوّره؛ واحترازاً من أيّ إشكال قد يَرِدُ عليه حول مدى مصداقية محتويات كتاب الرجال للكشّي، ذكر الكاتب بأن الشهيد الثاني يصدّق روايات الكشّي التي تعكس هذا الوجه من اعتقاد أصحاب الأئمة([26]) ويعتبر ـ في نظر الكاتب كَدِيوَر ـ أفضل مصدرٍ للوقوف على نظرة الشيعة الأوائل وأصحاب الأئمة لأئمّتهم([27]). واستنتج من كلام الشهيد الثاني بشكلٍ مباشر أن كثيراً من أصحاب الأئمة ورواة حديثهم ومن الشيعة المعاصرين للأئمة كانوا ينفون عنهم العصمة، وكانوا يرَوْن أن مصدر علمهم لم يكن وهبياً ولا غيبياً، وأنهم مثل سائر العلماء يفتون استناداً إلى اجتهادهم وإعمالهم الرأي([28]).

 ومما سبق يتبين لنا بوضوحٍ أن الأساس الذي اعتمده الكاتب في إنتاج هذه الفرضية والتدليل عليها هو رأي الشهيد الثاني، ومستنده الذي أحال عليه، وهو رجال الكشّي. وهنا لا بُدَّ من التنويه الى أن من حقّ الكاتب أن يعتمد على استنتاج الشهيد الثاني، ويتبنى رأيه أو رأي أيّ باحث أو عالم آخر يقتنع به، وليس لنا أن نصادر عليه حقّه في ذلك.

إن ما نبحثه ينصبّ حول ما إذا كان يمكن اعتبار رأي الشهيد الثاني مستنداً تاريخياً لهذه الفرضية. وهذا الموقف ينطبق أيضاً على بعض الكلمات الأخرى التي استدعاها الكاتب لبعض العلماء المتأخّرين؛ لتأكيد فرضيته وقراءته، مثل: كلمة السيد مهدي بحر العلوم(1212هـ)، والتي اعتمدت أساساً على رأي الشهيد الثاني نفسه([29])، كما استدعى كلمة الوحيد البهبهاني(1205هـ)([30]).

رأيٌ أم دليل تاريخي؟

1ـ لقد تعامل الكاتب مع كلمة الشهيد الثاني بحسبانها أقوى شاهدٍ على صحة فرضيته، في حين أن كلام الشهيد الثاني ليس كذلك. فكلامه ليس شهادة حسّية تاريخية لشاهدٍ عيان عاصر الأئمة وأصحابهم ورواتهم، والتقى بهم أو جالسهم، واستمع إليهم مباشرةً ونقل عنهم سماعاً أو بواسطة بعض مَنْ جالسهم واستمع إليهم. ونظراً للفاصل الزمني الكبير بين الشهيد الثاني، الذي عاش في القرن العاشر الهجري، وبين الرواة والأصحاب الذين عاشوا في القرون الهجرية الثلاثة الأولى لا يمكن أن يُعَدّ كلام الشهيد الثاني وثيقةً تاريخية، ولا خبراً تاريخياً، فضلاً عن أن يمثّل شهادة عن معاينة ولقاء ومجالسة وسماع. ولم يكن الشهيد الثاني أخبارياً (معنياً بنقل الأخبار)، ولا مؤرّخاً مقارباً لزمانهم، ولا ناقلاً مباشراً للواقعة عن بعض الوسائط المعاصرة لهم، ومن ثم فإن كلامه لا يشكّل مستنداً علمياً تاريخياً. كما أنه لم ينقل آراءهم من أصول ووثائق علمية ترجع إليهم؛ لأنه ببساطة لم يكن بصدد بحثٍ تاريخي أو تقييم رجالي. بل إن مضمون ما ذكره الشهيد الثاني لا يعدو أن يكون رأياً مستنتجاً له، بناءً على بحثه العام لما جاء في كتاب الرجال، لأبي عمرو الكشّي(350هـ). وهو ما صرّح به بنفسه بقوله: على ما يظهر من حال رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم في أحاديثهم^([31]). فهذه نتيجةٌ استظهرها الشهيد الثاني من خلال بحثه وقراءته لأحوالهم. ويؤكّد ذلك قوله: يعرف ذلك مَنْ تتبّع سيرهم وأحاديثهم، وفي كتاب أبي عمرو الكشّي جملةٌ مُطْلِعة على ذلك([32]). ومن ثم لا يشكّل كلامه شاهداً ولا قرينة، فضلاً عن أن يكون دليلاً على صدق فرضية الكاتب، بل هو مجرّد رأيٍ واستظهار وقراءة لفقيهٍ أصولي يحظى بالاحترام والتقدير، وليس أكثر.

2ـ إن إحالة الشهيد الثاني إلى كتاب الرجال للكشّي كانت عامّة، فلم يحدّد أمثلة من الرواة، ولم يضع يده على روايات وأقوال ومواقف معينة ثبتت صحّتها لديه. ولهذا يصعب وصف إحالته العامة إلى هذا الكتاب بأنه قدّم مستنداً علمياً، كما ذكر الكاتب. وبتعبير آخر: لا يمكن أن يُقال بأن الشهيد الثاني ـ وإنْ لم يعاصرهم ويجالسهم وينقل عنهم مباشرةً ـ أحال إلى مصدر تاريخي صرحّ بذلك؛ لأنه في الواقع أحال إليه بشكلٍ عامّ، ولم يضع أيدينا على خبرٍ أو نصّ أو موقف أو شهادة تاريخية محدّدة من الكتاب تصرّح أو تفيد ذلك.

3ـ إن الدارس لكتاب الرجال لأبي عمرو الكشّي(350هـ) ـ الذي هو في حقيقته اختيار الشيخ الطوسي(460هـ) من كتابه ـ على أهمّيته يجد أنه يشتمل في جملة من الموارد على روايات متضاربة، مادحة وذامّة في نفس الوقت، لجملة من كبار الرواة من أصحاب الأئمة الذين تناولهم، مثل: زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد العجلي وهشام بن الحكم وغيرهم، وتشتمل على الصحيح وغير الصحيح([33]). وكثيراً ما يروي أموراً متعارضة، وينسب إلى نفس الأشخاص آراء متقابلة ومتضادّة، وقلّما يرجح بعضها على بعضٍ. ولهذا لا يمكن الاعتماد عليه في إصدار حكمٍ بالجملة على جماعة من الأصحاب وُجدوا في مرحلة تاريخية ممتدّة لعدّة قرون من الزمان، بدون بحث أو تدقيق في أخباره عن كلّ راوٍ على حدة، وبلا إجراء مقارنات وموازنات وتحليلات نقدية، وصولاً إلى تحديد المقبول وغير المقبول منها.

4ـ إن كتاب الكشّي الأصلي تعرّض لنقد بعض علماء الرجال الإمامية منذ القدم. فقد قال الرجالي الشهير أبو العباس أحمد بن عليّ النجاشي(450هـ) في أبي عمرو الكشّي: كان ثقة عيناً. وروى عن الضعفاء كثيراً، وصحب العياشي، وأخذ عنه، وتخرّج عليه… له كتاب الرجال، كثير العلم، وفيه أغلاطٌ كثيرة([34]). فحَسْب إفادة النجاشي كان الكشّي تلميذاً لمحمد بن مسعود العيّاشي(القرن 4هـ)، ومن الطبيعي أن يكون قد تأثّر بنهجه، كما هي العادة. وحَسْب النجاشي إن شيخه العياشي هو الآخر، رغم كونه ثقة صدوقاً عيناً، كان يروي عن الضعفاء كثيراً، وكان في أوّل أمره عامّي المذهب، وسمع حديث العامة فأكثر منه، ثم تبصّر وعاد إلينا([35]). فحسب هذا العلامة الرجالي المعروف روى الكشّي عن الضعفاء كثيراً، وفي كتابه الذي ألّفه بنفسه أغلاط كثيرة، كما أن شيخه العياشي هو الآخر يروي عن الضعفاء كثيراً. ونظراً لكونه سمع من حديث غير الإمامية كثيراً فلا يبعد أن تكون بعض معلوماته وتقييماته متأثّرة بنظراتهم أيضاً. وعلى العموم هذا هو حال منهج الكشّي وأستاذه وشيخه وكتابه في نظر هذا العالم الرجالي والنقّاد المعروف بالدقّة في هذا المجال. وقد يقال: إن نقد النجاشي متوجّه إلى الكتاب الأصلي الذي كتبه أبو عمرو الكشّي بنفسه، والذي لم يصلنا، ولم يتوجّه إلى الكتاب الذي وصل إلينا ووصل إلى الشهيد الثاني، وهو اختيار الشيخ الطوسي من كتاب الرجال للكشّي. وهذا الكلام قد يكون صحيحاً، غير أنه لا يفيدنا في المقام؛ لأن الكتاب الأصلي لم يصل إلينا، وليس هناك ما يدلّ على وصوله إلى الشهيد الثاني. ولهذا لا يمكننا المقارنة بينهما، ومعرفة التغييرات التي أجراها عليه الشيخ الطوسي. وفي جميع الأحوال إن اشتمال الكتاب على التضارب أمرٌ مفروغ منه.

5ـ إن الشهيد الثاني نفسه نقد كتاب الكشّي ـ اختيار الطوسي ـ في بعض رسائله الفقهية والدرائية. فقد صرّح في بعضها بقوله: في كتابه ـ كتاب الكشّي ـ المقبول وغيره، وأضاف: فكيف بمثل الكشّي الذي يشتمل كتابه على أغاليط، من جرحٍ لغير مجروحٍ بروايات ضعيفة، ومدحٍ لغيره كذلك، كما نبّه عليه جماعة من علماء هذا الفنّ. وقال مبرّراً ومعتذراً له: والغرض من وضعه ليس هو معرفة التوثيق وضدّه كعادة غيره من الكتب، بل غرضه ذكر الرجل وما ورد فيه من مدحٍ وجرح، وعلى الناظر طلب الحكم([36]). أي إن كتاب الرجال للكشّي ـ حَسْب الشهيد الثاني ـ اشتمل على أغاليط وتجريحات غير دقيقة لبعض الرواة؛ وذلك لأن غرضه ليس أن يقدم تقييمات رجالية بالمدح أو الجرح في الرواة ورجال الحديث، ولا إجراء التحقيقات النقدية والموازنات التحليلية للأقوال. إن غرضه من الكتاب هو إيراد ما وصله من أقوال الجرح والمدح في الرواة كما هي، ودون تمييز أو تدقيق فيها، بل ترك ذلك للعلماء والباحثين أنفسهم.

6ـ ذكر الشهيد الثاني في أكثر من موردٍ في بعض كتبه في علوم الحديث بأن كتاب الرجال للكشّي اشتمل على تقييمات مختلطة في المدح والقدح، بحيث لا يصحّ الاعتماد عليه دون تدقيق وإعمال نظر. قال عند حديثه عن وجوب معرفة الرواة: يجب على المتكلّم في ذلك التثبّت في نظره وجرحه؛ لئلا يقدح في بريء غير مجروح بما ظنّه جرحاً، فيجرح سليماً ويسم بريئاً بسمة سوء تبقي عليه الدهر عارها. فقد أخطأ في ذلك غير واحد، فطعنوا في أكابر من الرواة؛ استناداً على طعنٍ ورد فيهم، له محملٌ، أو لا يثبت عنهم بطريق صحيح. ومَنْ أراد الوقوف على حقيقة الحال فليطالع كتاب الكشّي& في الرجال([37]). وقال أيضاً: ينبغي للماهر في هذه الصناعة ومَنْ وهبه الله تعالى أحسن بضاعة تدبّر ما ذكروه ومراعاة ما قرّروه، فلعله يظفر بكثير ممّا أهملوه، ويطّلع على توجيهٍ ـ في المدح والقدح ـ قد أغفلوه، كما اطّلعنا عليه كثيراً ونبهنا عليه في مواضع كثيرة وضعناها على كتب القوم، خصوصاً مع تعارض الأخبار في الجرح والقدح، فإنه وقع لكثير من أكابر الرواة، وقد أودعه الكشّي في كتابه من غير ترجيح، وتكلم مَنْ بعده (مَنْ جاء بعده) في ذلك، واختلفوا ـ في ترجيح أيّهما على الآخر ـ اختلافاً كبيراً([38]). فالشهيد الثاني في كلماته المتقدّمة يقدّم كتاب الرجال للكشّي كمثل على كتابٍ رجالي اشتمل على الأخطاء وعدم الدقّة والتعارض بين الجرح والقدح في الرواة. وهذا الرأي للشهيد الثاني في كتاب الرجال للكشّي، الذي هو اختيار الشيخ الطوسي منه، قائمٌ على أسس الدراية وقواعد علوم الحديث. والواقع أن كتاب الرجال للكشّي هو بالفعل كما وصفه الشهيد الثاني، يحوي أقوالاً مختلفة وآراء متعارضة في نفس الرواة، دون أيّ بحث نقدي فيها أو ترجيح لبعضها على الآخر، إلاّ في موارد قليلة. ويصعب الاستنتاج من ذلك بأن الشهيد الثاني ربما عدل عن رأيه في كتاب الكشّي؛ لأن إحالته إليه في كتاب «الحقائق» عامّة، ولا تدلل على موقفٍ علمي نقدي كالذي نجده في الكتب الأخرى.

7ـ إن عبارة الشهيد الثاني في كتاب «حقائق الإيمان» حول وجود كثير من الأصحاب والرواة ما كانوا يعتقدون بعصمتهم لا تعني أبداً أنهم كانوا يشكلون التيار الغالب من الشيعة، أو كانوا يمثّلون أكثرية الشيعة. إن الكثرة والقلّة من المفاهيم الإضافية النسبية، وعليه فإن ما يستفاد من كلامه أنهم كانوا يشكلون طيفاً وازناً نسبياً. ولا يستفاد من كلامه عدم وجود تيار آخر من الصحابة والرواة الذين كان لهم اتجاهٌ آخر ونظرة أخرى إلى الإمامة والأئمة. والكاتب كَدِيوَر نفسه أكّد على وجود أتباع للنظرة الأخرى، أو فوق البشرية ـ حَسْب منظوره ـ، منذ زمن حضور الأئمة، وأنها صار لها أتباع أكثر في زمن الأئمة المتأخّرين([39]). وعلى الرغم من ان كلامه يوحي بأنهم كانوا أقلّ قبل زمن الأئمة الأواخر، فهو لم يقدّم أيّ دليلٍ يثبت ذلك.

 وكما سبق أن ذكرنا إن كلام الشهيد الثاني يعبّر عن مجرّد رأي استنتجه من تتبّعه لأحوال بعض الرواة في بعض المصادر، كرجال الكشّي. ولا نستبعد أن يكون في تعبيره بعض المسامحة، فهو لم يذكر أسماء معينة، ولم يحدّد عدداً، ولو على نحو التقدير، بل أطلق وصفاً عاماً بوجود كثير من رواتهم ومعاصريهم من شيعتهم، وأحال على كتاب الرجال للكشي. وهذا الكتاب اشتمل على أكثر من خمسمائة رجلٍ ترجم له، فيهم ـ حَسْب المنظور النقدي الرجالي ـ الموثوق والمعدّل وفيهم المضعف والمجروح. كما اشتمل على أحوال جملة من المنحرفين والغلاة والمنتحلين للتشيُّع، الذين تبرّأ الأئمة منهم ولعنوهم على رؤوس الأشهاد. وفيهم مَنْ اختلفت فيهم الروايات بين مدحٍ وذمّ وقدح!

فما هو عدد الرواة الذين رأى أنهم كذلك؟ هل هو جُلُّهم أو نصفهم أو ربعهم، أم أنه لاحظ أن ما يقرب من خمسين أو مئة من الرواة أو أكثر استظهر منهم هذا الاتجاه فعبّر عنهم بالكثير؟ وبناءً على أيّ رواياتٍ قرّر ذلك؟ ولماذا رجّحها دون ما يقابلها؟ إن كل هذه القضايا تحتاج إلى بحث تفصيلي لتحديد مدى دقّة الاستنتاج، وعلى مَنْ ينطبق بالتحديد.

وفي العادة تقع مثل هذه المسائل مسرحاً للتحليل والنقد والتمحيص، وقلما يتفق الباحثون حولها؛ لأنها لا تمثّل أدلة حاسمة.

والذي يبدو لنا أن الشهيد الثاني لم يكن بصدد البحث التاريخي التفصيلي، بل أشار إلى ذلك على نحو الانطباع العامّ الذي تشكّل لديه من الكتاب.

 وفي جميع الأحوال إن ما انتهى إليه الشهيد الثاني يمثّل وجهة نظر أو رأي له، ولا يشكل بنفسه دليلاً تاريخياً مثبتاً أو نافياً لفرضية معينة أو لواقعة أو قضية تاريخية محدّدة.

ثالثاً: منشأ وصف «العلماء الأبرار»

إن وصف «علماء أبرار» على الأئمة ورد في كتاب الرجال للكشّي على لسان أحد الرواة المعروفين، وهو عبد الله بن أبي يعفور. وقد اشتملت عبارته على وصف «الأوصياء» أيضاً، غير أن الشهيد الثاني اجتزأ العبارة، وأسقط منها هذا الوصف، وعمّمها على الأصحاب بدون وصف الأوصياء. وكما هو معروف إن وصف «الأوصياء» يحمل دلالات فكرية تاريخية معينة، ولكنّ الشهيد الثاني أغفله، ولم يورِدْه في الجملة التوصيفية التي أطلقها. ولم يتّضح لنا لماذا أسقطه؟ وإنْ كنا نرجّح أنه بهدف الاختصار، ودون قصدٍ، ولا سيَّما أنه لم يكن في سياق بحثٍ تاريخي مفصّل عن بيان آرائهم ومعتقداتهم.

ويظهر أن عبد الله بن أبي يعفور هو أول مَنْ نحت هذه العبارة التوصيفية، وقد نقلت عنه مبتورة وغير مكتملة. وابن أبي يعفور هو من الرواة الموثوقين. أما السياق الذي قيلت فيه العبارة فكان أثناء مناقشةٍ حدثت بينه وبين راوٍ آخر، وهو المعلّى بن خنيس، الذي كان يرى أن الأوصياء أنبياء، فاستغرب ابن أبي يعفور، وردّ عليه بأن «الأوصياء علماء أبرار أتقياء». وحَسْب رواية الكشي إنهما بعد ذلك دخلا على أبي عبد الله (جعفر الصادق×)، فلمّا استقر مجلسهما بدأهما أبو عبد الله، فقال: يا عبدالله، أبرأ ممَّنْ قال: إنا أنبياء([40]). والرواية صحّحها السيد الخوئي([41]). ولكن لوحظ أن في سندها محمد بن الحسن البراثي، ولم يَرِدْ ذكره في المصادر الرجالية، وإنْ كان الكشّي روى عنه كثيراً، كما ذكر السيد الخوئي في ترجمته([42])، وهذا يعني أن الرواية ضعيفة السند حَسْب مباني السيد الخوئي نفسه([43]). كما أن مضمونها لا يخلو من مقالٍ؛ فإن معلّى بن خنيس كان مولى للإمام جعفر، ومن المستبعد أن يعتقد بنبوة الإمام ولا يصحّح الإمام عقيدته الفاسدة؛ لأن من الأمور الواضحة المقطوعة في الدين أن النبوة قد ختمت بالنبيّ محمد|، فلا نبيّ بعده. وقد حسم القرآن الكريم ذلك بقوله: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: 40)، وكذلك أكّدت السنة هذه الحقيقة، كما جاء في حديث المنزلة قوله| للإمام عليّ×: ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه ليس نبي بعدي([44]). ولا نريد أن نتكلف بحمل كلامه على أنهم كانوا بمنزلة الأنبياء؛ لأن ذيل الرواية يؤكّد ذات المضمون، وهو قول الإمام: أبرأ ممَّنْ قال: إنا أنبياء. ولهذا استنتج السيد الخوئي بأن المعلّى رجع عن هذا القول؛ نظراً لبراءة الإمام أبي عبد الله (جعفر الصادق) ممَّنْ قال: إنهم أنبياء([45]). وعند قراءة النصّ المذكور يجب أن لا نغفل السياق الخاصّ الذي طرح فيه ابن أبي يعفور وصفه للأئمة بالأوصياء والعلماء الأبرار الأتقياء، فقد طرحه مقابل مَنْ ادّعى أنهم أنبياء، لينفي ذلك، وليبين ما يعتقده بأنهم في الواقع أوصياء النبيّ|، وليسوا بأنبياء؛ لأن النبوة قد ختمت بالنبي محمد|. وهذا الموقف يعبِّر أيضاً عن اعتقاد الشيعة الإمامية. وإن ابن أبي يعفور كان بصدد تصحيح عقيدة المعلّى، ولهذا ردّ عليه بكلّ يقينٍ؛ استناداً إلى ما هو المعتقد السائد والمستقرّ عنده وعند جمهور الشيعة، وهو أن الأئمة هم أوصياء النبيّ|، وأنهم العلماء الأبرار الأتقياء، وليسوا بأنبياء. فمركز اهتمام ابن أبي يعفور هو نفي النبوّة عنهم، وهذه كانت نقطة الخلاف بينهما. ولم يكن الخلاف حول الإمامة أو الوصية أو حجّية الأئمة وطاعتهم أو أنهم مع القرآن يشكّلان الثقلين اللذين أمر النبيّ| بالتمسّك بهما. ولهذا لم يكن ابن أبي يعفور بصدد بيان هذه الأمور، ولا يستفاد من كلامه نفيها. والنصّ يدل على أنهما كانا يعتقدان بعقيدة الوصية، وأن الأئمة هم أوصياء النبي| الذين عهد إليهم بأمر الدين والأمة، وأنهم العلماء الأبرار الأتقياء. وأوّل هؤلاء الأوصياء هو الإمام عليّ بن أبي طالب، وهو ما كان يعتقده الشيعة منذ بواكير القرن الهجري الأوّل ـ على الأقلّ ـ، والذي سوف نتناوله في مقالةٍ خاصة. إن فكرة الوصية كانت موضع اتفاقٍ بينهما، ولعلها كانت قضيةً مفروغاً منها، ولم تكن محلّ جدالٍ أو مناقشة.

مَنْ هو عبد الله بن أبي يعفور؟

إن عبد الله بن أبي يعفور ـ كما يستفاد من المصادر ـ كان أحد الرواة المقربين من الإمام جعفر الصادق، وقد وردت فيه عدة روايات مادحة([46]). إن مجموع الأسانيد التي ورد اسمه فيها يبلغ (226) مورداً، منها: (78) مورداً وردت باسمه عبد الله بن أبي يعفور([47])، والباقي باسم ابن أبي يعفور([48]). وهذا العدد لا يعتبر كبيراً مقارنة بروايات بعض الرواة الآخرين. ووالده هو وقدان، أبو يعفور، العبدي، واسمه واقد. وقد وثَّقه أهل الحديث، مثل: أحمد بن حنبل وابن معين وابن المديني وابن حِبّان([49]). والمشهور أن عبدالله بن أبي يعفور توفّي في زمن الإمام جعفر([50])، وإنْ كان ما ذكره المؤرخان الأشعري القمّي(299هـ) والنوبختي(القرن 3هـ) بأنه كان ممَّنْ استمر على إمامة الإمام موسى بن جعفر بعد وفاة والده يفيد بأنه عاش ـ على الأقلّ ـ شطراً قصيراً بعد وفاة الإمام جعفر([51]). وعبد الله بن أبي يعفور لم يكن مجرّد مستمع ومتلقٍّ للحديث، بل كان ممَّنْ يطرح أسئلته واستفساراته على الإمام، وكذلك يعرض ما كان يخطر بخلده من إشكالات أو ما يتوقّع أن يطرحه الآخرون عليه من مناقشات. وتدلّ بعض الروايات على أنه كانت له مكانة خاصّة من الإمام جعفر، وأنه كان يسلّم تسليماً عالياً بتوجيهات الإمام جعفر في أمور الدين. ويبدو من بعض الأخبار التي أوردها الكشّي أن ابن أبي يعفور كان يحظى بتعاطف الناس معه؛ لأخلاقه ولإخلاصه وتقواه وقربه من الإمام جعفر، كما يستفاد من مضامين الروايات المادحة له. وقد اشترك في جنازته جمعٌ كبير منهم. وكانت هناك فئةٌ تنتقص من التوجهات الإيمانية لابن أبي يعفور، ويطلقون على المتعاطفين معه وصف «مرجئة الشيعة»([52])، ويحتمل أن ذلك كان لنظراتهم المعتدلة إلى الفئات التي تخالفهم في بعض الاعتقادات الخاصة.

الفرقة اليعفورية

يشير بعض مؤرّخي المقالات، مثل: أبي الحسن الأشعري(320هـ)، إلى فرقة باسم «اليعفورية»، كانت ترى عدم تكفير مَنْ يجهل الأئمة، ويعدّونهم «لا مؤمنين ولا كافرين»([53]). غير أن المؤرِّخ الخوارزمي(387هـ) ينسب هذه الفرقة إلى محمد بن يعفور، وليس إلى عبد الله بن أبي يعفور([54]). ويستفاد ممّا أورده الكشّي بأن هذه الفرقة مع أخريات، كالزرارية والعمارية والجواليقية وغيرها، أدرجت ضمن فرق الأهواء زمن المهدي العباسي([55])، وكان المهدي العباسي معروفاً بملاحقته الشديدة وإسرافه في التنكيل بمَنْ كانوا يصفونهم بالزنادقة والملحدين([56]). لقد أنشأ المهديّ العباسي إدارة مختصة للبحث عنهم، ومحاكمتهم، والردّ عليهم([57]). وتحت هذا العنوان العام كان يتم إدراج فئات مختلفة كانت تتعرض للتضييق والتنكيل. ولا يبعد أن تكون السلطة السياسية والدينية الرسمية ـ كما هو دأبها ـ وراء اختراع مسمّيات هذه الفرق، ونسبتها إلى بعض العلماء الرواة من أصحاب الأئمة، ضمن برنامج إعلاميّ؛ لتشويه صورتهم ولتبرير مضايقتهم والتنكيل بهم. وقد تساهل مؤرّخو الفرق ـ كعادتهم ـ في نقلها في كتبهم. وفي جميع الأحوال لا يبعد أن عبد الله بن أبي يعفور لم يكن يرى تكفير مَنْ لا يؤمن بالإمامة، بل يضعهم في مرتبةٍ وسطى بين الإيمان والكفر، كما يستفاد من نصّ المتكلّم والمؤرّخ الأشعري المتقدّم. وربما كان يكتفي ببعض الأحكام السلبية، ويطرح بعض الأعذار لغير المؤمنين بها، ويضيق دائرة التكفير باشتراط بعض القيود، كالعلم وبلوغ الحجة، ويفرّق بين الجاهل والغافل والقاصر من جهةٍ وبين العالم والمقصر والجاحد من جهةٍ أخرى. ويظهر أن مواقفه المعتدلة أزعجت الاتجاه المقابل له، فاعتبره متساهلاً، وأطلق عليه وعلى المتعاطفين معه وصف «مرجئة الشيعة»([58])؛ للانتقاص منهم والتقليل من إيمانهم. ولا يستغرب من ذلك، فإن التراشق بمثل هذه الأوصاف الإقصائية كان رائجاً في تلك المراحل التاريخية بين المختلفين من نفس المدرسة، فضلاً عن المنتمين إلى مدارس فكرية مختلفة.

التراث الروائي لابن أبي يعفور حول الأئمة

إن الوسيلة المتاحة أمام الباحثين لتلمّس الاتجاهات الفكرية للرواة الذين لم تصلنا كتبهم وآراؤهم ومناظراتهم هي الوقوف على ما ورد عنهم من أقوال وأسئلة واستفسارات كانوا يوجّهونها إلى الأئمة، وعلى الأخبار التي روَوْها مباشرة عنهم، والتأمل في مضامينها، واستكشاف اهتماماتهم العقدية من تضاعيفها. إن البحث في متون الروايات ومضامينها والقضايا التي كانت محور اهتمام الراوي قد تساعد على التعرّف على ميوله الفكرية، وعلى آرائه وتصوّراته حول الإمامة. والروايات ـ إنْ ثبتت ـ وإنْ كانت تمثّل نقل أقوال الإمام، ولا تمثل أقوال وأفكار الراوي، وقد تمثّل كلمات الراوي نفسه من جهة نقل المضامين التي سمعها، ولم يتقيّد بنقل نفس الألفاظ، وهو ما يعرف بالنقل بالمعنى، إلا أنها ـ في ذات الوقت ـ قد تعبّر عن بعض الجوانب التي حظيت باهتمامه منها؛ إذ إن الرواة حين كانوا يحضرون مجالس الإمام ويستمعون إلى أحاديثه المتنوّعة كان بعضهم يدوّن ما يستمع إليه من أحاديث مباشرة، وبعضهم كان يدوّن ما حفظ منها لاحقاً، وبعضهم يرويها من حفظه. وعمليات التدوين والحفظ والتجميع والرواية قد تعبّر عن ميول الراوي، وعن اهتماماته واتجاهاته، فيما اذا كان يُعْنَى بالفقه أو الكلام أو التفسير أو بأكثر من مجالٍ منها أو بأيّ فرع من فروعها. كما أن المضامين التي يرويها قد تعبّر بشكل غير مباشر عن ميوله ومشربه الفكري. فمثلاً: إنْ كان الرواي ممَّنْ روى عن الإمامة وخصائصها فإنّ موضوعات رواياته ومضامينها تحكي ـ على الأقلّ ـ عن اهتماماته وما استرعى نظره وما استوقفه من شخصية الإمام، ومن أحاديثه. فهل كان تركيزه على الروايات التي تشتمل على النواحي العبادية والأخلاقية والزهدية أو التربوية والاجتماعية للإمام، أو أنه من الرواة الذين ركزوا على رواية المغيّبات والخوارق والكرامات، أو كان من الرواة الذين جمعوا بين الجانبين معاً؟ وقد عرف عن بعض أئمّة الجرح والتعديل اتباعهم منهجية استقراء مرويات الرواة وتفحّص مضامينها لاستكشاف اتجاهاتهم الفكرية والعقدية؛ للحكم لهم أو عليهم. وقد نسب إلى الرجالي المعروف ابن الغضائري(450هـ) أنه كان ينطلق في تقييماته الرجالية من دراسة متون الروايات، ويحدّد مواقفه من الرواة من خلالها. وقد أشاد الكاتب كَدِيوَر بآرائه، واعتبره من رموز «التصوّر البشري». بل صرّح الكاتب نفسه أن كتب أصحاب الأئمة قد وصلتنا من خلال مروياتهم في مصادر الحديث([59]). وهذا قد يُستفاد منه بأنه يرى أن مضامين رواياتهم تعكس اتجاهاتهم الفكرية والفقهية. لهذا فإننا وإنْ كنا لا نزعم بأن الروايات التي يرويها الراوي تمثّل رأيه وفكره، ولكن نميل إلى أنها تلقي ضوءاً على اهتماماته واتجاهاته وميوله. وبناءً عليه؛ وللتعرف على بعض الجوانب التي حظيت باهتمام الرواي عبد الله بن أبي يعفور في رواياته حول الإمامة وخصائصها، نستعرض جملةً من الروايات التي رواها بن أبي يعفور حول الإمامة، حَسْب ما ورد في بعض المصادر الروائية المتقدّمة:

روى محمد بن الحسن الصفّار(290هـ)، في بصائر الدرجات، بسنده إلى عبد الله بن أبي يعفور، قال: قلتُ لأبي عبد الله: إنا نقول: إن عليّاً لينكت في قلبه أو ينقر في صدره وأذنه، قال: إن عليّاً كان محدّثاً، قال: فلمّا أكثرت عليه قال: إن عليّاً كان يوم بني قريظة وبني النضير، كان جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، يحدّثانه([60]).

وروى الكليني(329هـ)، بسنده إلى عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (جعفر الصادق): إن الله واحد متوحّد بالوحدانية، متفرّد بأمره، فخلق خلقاً فقدرهم لذلك الأمر، فنحن هم. يا بن يعفور، فنحن حجج الله في عباده، وخزّان علمه، والقائمون بذلك([61]). ورواها الصفّار في البصائر، مع بعض الإضافات، منها: والداعون إلى سبيله، فمَنْ أطاعنا فقد أطاع الله([62]). وعن عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبدالله قال: لا يموت الإمام حتّى يعلم مَنْ يكون بعده، فيوصي إليه([63]).

وروى عبد الله بن أبي يعفور، عن أبي عبد الله، قال: سمعتُه يقول: ثلاثة لا يكلِّمهم الله يوم القيامة ولا يزكّيهم ولهم عذاب أليم: مَنْ ادّعى إمامة من الله ليست له، ومَنْ جحد إماماً من الله، ومَنْ زعم أن لهما نصيباً من الإسلام([64]).

وروى عن ابن أبي يعفور قال: سألتُ أبا عبد الله عن قول رسول الله|: مَنْ مات وليس له إمامٌ فميتته جاهلية، قال: قلتُ: ميتة كفر؟ قال: ميتة ضلال، قلتُ: فمَنْ مات اليوم وليس له إمامٌ فميتته جاهلية؟ فقال: نعم([65]).

وروى الصدوق(381هـ)، عن بن أبي يعفور قال: قال أبو عبدالله: لا تبقى الأرض يوماً واحداً بغير إمامٍ منّا، تفزع إليه الأمة([66]).

وروى أيضاً عن عبد الله بن أبي يعفور أنه سأل أبا عبد الله: هل تترك الأرض بغير إمام؟ قال لا، قلتُ: فيكون إمامان؟ قال: لا، إلاّ وأحدهما صامتٌ([67]).

لقد اخترنا هذه النماذج من الروايات ـ التي رواها هذا الرواي من أصحاب الإمام جعفر الصادق، والذي جاء عنه بأنه كان يرى بأن «الأوصياء علماء أبرار أتقياء» ـ؛ وذلك لتجلية بعض نظراته حول الإمامة وخصائص الأئمة.

إن النماذج السابقة من الروايات ـ على قصرها ـ تبين أن عبد الله بن أبي يعفور روى بعض الخصائص الخاصة المتعلّقة بالأئمة. فقد روى عن الإمام جعفرالصادق بأن الإمام علي كان ملهماً ومحدّثاً تحدّثه الملائكة. وروى بأن الأئمة هم حجج الله وخزان علمه والقائمون بأمره، وأن طاعتهم هي طاعة الله تعالى. وروى أن كلّ إمام كان يوصي إلى الإمام الذي يكون بعده، وأن وجودهم مهمّ في الأرض، وأنهم يشكلون المرجعية الحقيقية للأمة، وأن الإيمان بهم ضروريّ لتجنّب الضلال وميتة الجاهلية، وأن الجاحد للإمام من الله يتعرّض للعذاب في الآخرة، ومن ثم فإن الإمام مجعولٌ من الله تعالى. وإذا صحت نسبة هذه الروايات إليه فلا يبعد أن تكون مضامينها تمثّل جانباً من اتجاهاته الفكرية. وإذا كانت نظرة ابن أبي يعفور إلى الإمام جعفر الصادق تتّصف بالتسليم المطلق لأوامره ونواهيه إلى درجة أنه إنْ فلق رمانة إلى نصفين وقال له: إن أحد النصفين حلال والآخر حرام فإنه يطيعه ويسلّم لأمره، كما روى الكشي في كتاب رجاله، عنه، قال: قلتُ لأبي عبد الله: واللهِ، لو فلقتَ رمانةً بنصفين، فقلتَ: هذا حرام، وهذا حلال، لشهدتُ أن الذي قلتَ: حلال حلالٌ، وأن الذي قلتَ: حرام حرام، فقال: رحمك الله، رحمك الله([68]). والرواية ضعيفة سنداً، حسب السيد الخوئي([69])، فإنْ صح مضمونها فهو يكشف عن مدى تسليمه وعمق إيمانه بإمامة ومرجعية الإمام جعفر الصادق، بحيث لا يتردد في قبول تعاليمه، ولا يخطر بباله أن يخطّئه في شيء من الأحكام التي يبيّنها له. فهو يقرّر أنه يتبع الإمام جعفر الصادق ويسلّم بتعاليمه الدينية وأحكامه التشريعية تسليماً مطلقاً لا يشوبه أدنى تردّد. وهذه العلاقة الإيمانية بالإمام تفوق علاقة مَنْ يرجع من المكلَّفين إلى الفقهاء المقلَّدين ـ بفتح اللام ـ؛ فإنها لا تصل إلى هذه الدرجة المطلقة من التسليم، بحيث لا يخطر على بال المقلِّد للفقيه ـ وبالأخصّ مَنْ يتمتع ببعض الفقه والوعي والفهم في الفكر الديني ـ أن يكون الفقيه قد اشتبه أو أخطأ. وابن أبي يعفور لم يكن شخصاً عادياً، بل كان من الرواة العلماء من أصحاب الإمام جعفر.

 وعليه لا يتوقّع أن تكون أحاديث الإمام جعفر الصادق بالنسبة إليه تمثّل مجرد روايات عن شيخه وأستاذه، بل كانت تشكّل بالنسبة إليه تعاليم دينية إيمانية وأحاديث مَنْ يؤمن بإمامته الدينية، ويعتقد أنه يمثّل موقع وصيّ النبيّ| في الأمّة. ومن المستبعد أن يكون ابن أبي يعفور، وعلى الرغم من الأحاديث التي سمعها بنفسه من الإمام جعفر ورواها عنه، أن يكون نظره إلى الأئمة على أنهم مجرّد علماء مجتهدين، بل كان يعتقد أنهم أوصياء الرسول|، الذين عهد إليهم أمور دينه، وأنهم علماء أبرار أتقياء. تجدر الإشارة إلى أن أوصاف العلماء الأبرار الأتقياء، وإضافتها إلى الأوصياء، لا تتنافى مع وصف العصمة ولا تنفيها. بل يمكن أن يقال: إن مفهوم العصمة كامنٌ ومختزل فيها، وخصوصاً في مفهوم الوصاية؛ لأنها تعني أنهم الأئمة المنصوص عليهم، وأن الأمة مأمورة باتباعهم وطاعتهم. ومن رحم هذه الفكرة انبثق مفهوم العصمة. والعصمة في عمقها مستوىً عالٍ ورفيع من التقوى والبرّ. ومن يتأمل في أوصاف المتقين والأبرار في القرآن، ويطبِّقها على سير الأئمة، يتبين له أنهم كانوا يمثّلون أعلى مستويات التجسيد لها. إن البحث في بعض الروايات التي رواها ابن أبي يعفور بنفسه، والتي حازت على اهتمامه حول خصائص الأئمة، قد تلقي ضوءاً على اتجاهه الفكري حول الإمامة، وتزيل اللبس الذي يمكن أن يحدث من فهم وقراءة الرواية السابقة حول مدلول الأوصياء الأبرار.

رابعاً: الأئمة أوصياء النبيّ|، وليسوا مجرّد رواة

يرى الكاتب كَدِيوَر، بناء على فرضية «القراءة المنسية»، أنه لا يبقى دليل ودافع لاختيار الشيعة لأئمّة العترة النبوية سوى رجحان روايتهم للإسلام على الروايات الأخرى، وليس الاستناد إلى طبيعتهم «فوق البشرية». وإن التفاوت بين أئمة أهل البيت (العلماء الأبرار) وسائر علماء الدين هو في ميزان العلم ودرجة التهذيب والتقرب إلى الله تعالى([70])؛ ويعبّر عن ذلك تارةً بـ «القراءة العلوية للإسلام النبوي»([71])؛ وأخرى بـ «الرواية العلوية للإسلام النبوي»، والتي مصدرها القرآن الكريم والسنّة النبوية وسيرة عليٍّ وأهل البيت([72])، وتعتبر أرفع فهم للإسلام وأكثر القراءات له واقعية، ولهذا اختار الشيعة اتّباع الإمام عليّ باعتباره فهم رسالة الدين الحنيف واستوعبها على نحوٍ أفضل وأكمل من جميع أتباع محمد|. فالتشيُّع هو اختيار باب عليٍّ لدخول «مدينة العلم النبوي»([73]).

 والواقع أن تمسُّك الشيعة بأئمة العترة النبوية لم يكن لمجرّد رجحان «روايتهم» أو «قراءتهم» للإسلام على الروايات والقراءات الأخرى. إن جملة من العوامل التاريخية والدينية أسهمت في تشكّل التيار الشيعي الملتف حول أهل البيت، والمغترف من معينهم، ومنها: ما تمتّع به أهل البيت من كمال التربية وسموّ الخلق وصدق المواقف والتفاني من أجل المبادئ وغزارة العلم والانتساب إلى بيت النبوة. وفوق كلّ ذلك تأثير النصوص الدينية التي وردت في أبرز مصادر الحديث والتفسير والتاريخ عند المسلمين، والتي دعَتْ صراحةً إلى التمسّك بعترة النبي|، إلى جانب الكتاب الكريم؛ لكونهما يشكّلان معاً المرجعية الدينية.

إن منطق الترجيح الروائي الذي يفترضه الكاتب كَدِيوَر يقضي ـ حَسْب قواعد أهل الحديث ـ تقديم روايات الرواة الذين عاصروا النبيّ| وشاهدوه واستمعوا إلى حديثه ونقلوه عبر سلاسل الرواة، أمثال: أبي هريرة وجابر الأنصاري وعبد الله بن عمر وغيرهم، وليس تقديم روايات أئمة العترة، كالإمام عليّ بن الحسين زين العابدين والإمام محمد بن عليّ الباقر والإمام جعفر الصادق، الذين لم يعاصروا النبيّ| ولم يجالسوه. أضِفْ إلى ذلك أن أئمة أهل البيت ما كانوا يسندون حديثهم إلى سلسلة الرواة، كما تدل عليه المدونات الروائية الإمامية؛ ففي بعض الأحيان كانوا يرفعون الحديث إلى النبيّ|؛ وفي أحيان أخرى ما كانوا يسندونه أو يرفعونه إليه. ومن ثم تُعَدّ روايتهم ـ حَسْب المقاييس الدرائية ـ أدنى مرتبةً من روايات غيرهم، بل تُعَدّ طبق تلكم المقاييس روايات ضعيفة. وفي أحسن الفروض يمكن أن تعامل مراسيلهم ومرفوعاتهم معاملة الصحاح! فهل يا ترى على هذا الأساس اعتمد الشيعة أحاديثهم وعلمهم وقدّموه على سواهم؟!

إنه لا يبدو تفسيراً منطقياً متماسكاً، ولا مقنعاً! فليس من المنطق أن يقيِّدوا أنفسهم بمدرسة عليّ وأولاد عليّ وحدهم إنْ كانوا يرَوْن أنهم مجرّد أصحاب «قراءة» و«رواية»، كغيرهم من العلماء. وهَبْ أن «قراءة عليّ» فاقت بقية القراءات؛ نظراً لما تمتع به من خصوصيات وحظي بمناقب لم يشاركه فيها أحد، فماذا عن أولاده وأهل بيته؟!

قد يُقال: إن أولاده اتبعوا ذات «القراءة والرواية العلوية»، ولكنْ ما هو الموقف الشرعي في الحوادث الواقعة والوقائع الحادثة المستجدة، إنْ كانت قضية «قراءة ورواية»؟!

وهل يعقل أن لا ينضمّ إليهم أحدٌ من خارج «أهل البيت» و«العترة النبوية» على مرّ التاريخ، ويقتصر تلقّيهم من هذه المدرسة فقط؟!

إن تعامل رواة الشيعة ـ المعتقدين بالإمامة ـ من أصحاب الأئمة وتعامل جمهور الشيعة بحديث أئمة أهل البيت كان على أنه يمثّل التعاليم الدينية المستقاة من المنبع الصافي والمنهل النبويّ العذب. وإن تعبدهم في دينهم بتعاليمهم وأحكامهم وتلقيهم معالم الدين حصرياً منهم لَيؤكّد على إيمانهم ـ في الجملة ـ بكونهم يمثّلون موقع أوصياء النبيّ| وورثة علمه والعترة التي أمر النبيّ| بالتمسّك بها مع القرآن الكريم. إن هذا هو التفسير المنطقي والمقنع في فهم هذه الظاهرة الدينية الاجتماعية الممتدة منذ تاريخ المسلمين المبكر.

إننا نلحظ ارتباكاً مضمونياً في بنية «القراءة المنسية» في ما يتعلّق بالأسباب التي دعت قدماء الشيعة إلى التمسّك بمرجعية العترة النبوية. ففي الوقت الذي يؤكّد فيه الكاتب أن السبب هو أنهم كانوا يعتبرون الأئمة متقدِّمين على غيرهم في العلم والعمل، ولرجحان روايتهم وقراءتهم للدين، ولأنها أقرب الروايات إلى إسلام رسول الله|، وأكثرها واقعية، يؤكِّد في ذات الوقت أنهم كانوا يعتقدون بأنه على هذا المبدأ والأساس حثّ النبي| المسلمين على التمسّك بهؤلاء الهداة المرشدين واتباعهم([74]). ويرى الكاتب؛ استناداً إلى هذه النظرية، أنه تمّ التعريف بكلّ إمام بواسطة الإمام الذي قبله. أما أول الأئمة فالنبي هو الذي عرَّف المسلمين به. وبعبارةٍ أكثر فنيةً واصطلاحاً ـ والكلام له ـ: يتمّ تعيين الأئمة ـ في هذه النظرية ـ إمّا بالوصية وإما بالنصّ من الإمام السابق، وأما في الحالة الخاصّة بالإمام عليّ فبالنصّ عليه من قبل النبي|، ثم باختيار وامتحان علماء الشيعة له([75]). فقد كان أوائل الشيعة يؤمنون بأن النبي| حثّ على اتباع أئمة أهل البيت؛ لأنهم الأقرب إلى الإسلام. وإنهم كانوا يؤمنون بالنصّ والوصية. كما صرّح الكاتب بوضوحٍ بهذا المضمون الفكري في بعض المقالات الأخرى من كتابه، مخالفاً لما سجّله في موارد أخرى فيه، حين قال: رغم أن الشيعة كانوا يرَوْن أنفسهم ملزمين باتباع تعاليم الأئمة؛ عملاً بنصّ النبي| ووصيته، إلاّ أنهم كانوا ينظرون إليهم بوصفهم علماء أتقياء أبرار([76]). وهذا اعترافٌ واضح منه بأنهم إنما اتّبعوا تعاليم أئمة أهل البيت انطلاقاً من النصّ النبوي الملزم ـ حَسْب اعتقادهم ـ، وليس لمجرد ترجيح روايتهم وقراءتهم على سواهم؛ لما تمثِّله من تفوّق وتجسيد واقعي للإسلام. وقال في موردٍ آخر: إن قضايا مثل: «إن الأئمة مفترضو الطاعة» أو «إن أهل البيت هم بوصية النبيّ| مرجع المسلمين العلمي» قضايا كانت ولا تزال تحظى بإجماع الشيعة، ولم يحصل بشأنها خلافٌ. وأضاف قائلاً: واللافت للنظر أن الروايات الدالّة على مثل هذه القضايا المجمع عليها سليمة، أو نادراً ما يوجد بها مشكلات من ناحية السند([77]).

إذن نحن هنا أمام تصريحات مهمّة للكاتب كَدِيوَر تفيد بأن الشيعة الأوائل كانوا يعتقدون بمبدأ النصّ والوصية والتعيين للأئمة، وأن النبي| نصّ على الإمام عليّ، وأن كلّ إمامٍ نصّ على الإمام الذي بعده، وأن الشيعة كانوا يتمسّكون بمرجعية أهل البيت التزاماً بتعاليم النبي|، وبناء على التعاليم النبوية كانوا يعتقدون أن الأئمة مفترضو الطاعة، وأن هذه القضايا كانت ولا تزال محلّ إجماع الشيعة.

 في الواقع إن هذه المبادئ تشكّل الدعامة الرئيسة في بنية التشيُّع المعتقد بإمامة أهل البيت عبر التاريخ. فما معنى أن يعرف النبي| عليّاً للمسلمين؟ هل كان عليّ مجهولاً لكي يعرّفهم به؟ وما معنى أن ينصّ كلّ إمام على الإمام الذي بعده؟ والذي يعنينا هنا كيف كان ينظر أتباع أهل البيت إلى ذلك؟

يبدو لنا أن الكاتب حاول في قراءته للفكر الشيعي في التاريخ أن ينفي أن تكون تعاليم النبيّ| بالتمسّك بمرجعية أهل البيت^، والحثّ على اتباعهم وطاعتهم، صادرةٌ ـ في نظر أتباعهم في التاريخ ـ عن أمر الله تعالى؛ لأن ذلك يمهِّد للقول بعصمتهم، ولو ببعض المراتب. إلا أنه كشف عن وجود فجوةٍ في بنية قراءته وتفسيره؛ لأنها تفضي إلى الإيمان بأن تلكم التعاليم النبوية صدرت انطلاقاً من رغبة شخصية أو اجتهاد شخصيّ من النبيّ| بجعل عترته وأهل بيته مرجعية وعدلاً للقرآن الكريم! ولم يقدِّم الكاتب أيّ دليلٍ على أن أوائل الشيعة كانوا يؤمنون بذلك.

وأمام مواجهة النصوص الكثيرة والوقائع المشهودة قام بإسقاط القراءة الاعتزالية البغدادية على أوائل الشيعة، والتي فسّرت النصّ والوصية من النبي| على نحو الترشيح والاقتراح، كمحاولة للتوفيق بين المواقف السياسية المتضاربة في التاريخ.

 ولكنه لم يقدّم أيّ تفسير للجمع بين الاختبار والامتحان للموصى به من قبل النبي| وبين كونه مفترض الطاعة. فكيف كانوا يؤمنون بأنه واجب الاتّباع ومفترض الطاعة ومرجعاً دينياً إلى جانب القرآن، وفي نفس الوقت يخضع للاختبار والامتحان من قبل العلماء؟!

ومن الناحية التاريخية إن أسلوب الاختبار والامتحان لم يظهر إلاّ مع ظهور مدّعين للإمامة بعد وفاة الإمام جعفر الصادق، ولم يُعْرَف قبل ذلك.

 ثم إننا نتساءل: إذا كنا فهمنا منشأ حثّ النبي| على التمسّك بنهج الإمام علي بعده؛ لأنه ربيبه مباشرة وتلميذه الأول الذي لازمه طوال فترة وجوده وباب مدينة علمه، فعلى أيّ أساس حثّ أيضاً على التمسك بمرجعية بقية الأئمة من عترته؟!

 هل يجد الكاتب تفسيراً مقبولاً لهذا الإيمان غير أن يكون ذلك ـ على الأقلّ ـ استناداً إلى ما تلقّاه النبيّ| من الإخبارات الغيبية بشأنهم من الله تعالى؟

 وكيفما كان إذا كان الشيعة عبر التاريخ مجمعين على أن طاعة أئمة أهل البيت مفترضة، وأنهم يشكّلون المرجعية الدينية حَسْب النصوص النبوية، فإن هذا هو العامل الأساس الذي دعاهم لتقديمهم على سواهم، وتلقي معالم الدين منهم دون غيرهم. بل يمكن القول: إن فكرة العصمة كامنةٌ في أحشاء هذه المفاهيم، وصادرة من رحمها.

إن الشواهد التاريخية والنصوص الدينية والتاريخية والأدبية تؤكّد أن تياراً من المسلمين ـ على الأقلّ ـ كان يؤمن بفكرة النصّ والوصية منذ بواكير القرن الهجري الأول، غير أن الرواية الرسمية لم تعترف بذلك، فأرجعتها إلى المصادر الأجنبية؛ للانتقاص منها، ووسمت أصحابها ببعض الأوصاف الإقصائية.

خامساً: مصطلح العصمة بين المكوّنات والتشكّل

كثيراً ما يحدث أن تسود بعض النظرات وتنتشر بعض الأفكار والرؤى حيال بعض القضايا الفكرية والأدبية والدينية، دون أن يشار إليها عبر كلمة معينة جامعة، أو دون أن تتّخذ في المراحل الأولى معنى اصطلاحياً معيناً. فقد تكون بعض عناصرها موجودة وبعض معانيها أو مدلولاتها سائدة، ولكنها لا تختزل ضمن مفردة اصطلاحية جامعة تعبّر عنها، وقد تتبلور الاصطلاحات وتنحت المفردات الجامعة في مراحل لاحقة، وهذا لا يعني أن تلكم المفاهيم والأفكار لم تكن موجودة أبداً قبل ظهور المصطلحات الدالة عليها، بل إن بعض معانيها الإجمالية قد تكون موجودة من قبل ذلك. وهذا ينطبق تماماً على فكرة العصمة واصطلاحها، فلا معنى لربط ظهور مفهوم العصمة ومضمونها الفكري بتاريخ تشكُّل أو شيوع مصطلح العصمة، وبعبارة أوضح: إن بعض المبادئ المكوّنة لمفهوم العصمة المصطلحة سبقت ظهور وتشكّل المصطلح نفسه، أو انتشاره بين الأصحاب. إن التنظيرات والتقنينات والاصطلاحات في العادة لا تظهر منذ البداية، تماماً كما هو الحال بين تاريخ ظهور القواعد النحوية والأدبية والبلاغية وبين وجودها الواقعي العامّ السابق في الممارسة اللغوية والأدبية. وكذلك مثل: ممارسة المسلمين الأوائل لاجتهاد الرأي والقياس والاستحسان والمصلحة قبل ظهور تنظيراتها وتقنيناتها الأصولية المتأخرة، فإن الممارسة في العادة تسبق التنظير، والعرب كانوا يمارسون كثيراً من القواعد الأدبية والشعرية والبلاغية بسليقتهم، دون أن يعرفوا قوانينها النظرية التي وضعها الخليل بن أحمد أو سيبويه، ولكنّ ذلك ما كان يعني انعدام الأوزان والقواعد لدى العرب في أشعارهم وخطبهم النثرية. وكما يقول أحدهم معرضاً بالنحاة:

ولستُ بنحويٍّ يلوك لسانه *** ولكنّي سليقيّ يقول فيعرب

فإذا كان مصطلح «العصمة» قد تمّ تشكّله ونحته في القرن الثاني ـ كما يرى بعض الباحثين ـ، وصار متداولاً بين الأصحاب والرواة وجمهور الشيعة بالتدريج بعد تلك الفترة، وعلى أثر ذلك نضجت أدبيات العصمة كفكرة عقائدية، وتجمعت عناصرها، وتبلورت حدودها، وتبيّنت حججها الكلامية وأدلتها النقلية، وتكاملت تنظيراتها، فإن ذلك ـ على فرض صحته ـ لا يعني غياب مضمونها ومفهومها بالكامل، ولا يعني أن أيّاً من عناصرها لم يكن موجوداً قبل تلك الفترة. إن النصوص الدينية والخطب والرسائل والمقطوعات الأدبية والشعرية تدلّل على أن الشيعة ـ وعلى الأقلّ بعضهم ـ كانوا يؤمنون بشكلٍ إجمالي، ومنذ فترة مبكّرة، ببعض المفاهيم والرؤى، من قبيل: النصّ والوصية في الإمامة، طبقاً لحديث الغدير وحديث المنزلة وحديث الدار وأحاديث نبويّة أخرى، وكانوا يعتقدون بلزوم التمسّك بالكتاب الكريم والعترة النبوية؛ لكونهما يشكلان المرجعية الدينية؛ بمقتضى حديث الثقلين المعروف. كما كانوا يؤمنون بطهارة أهل البيت ونقائهم؛ بموجب آية التطهير وحديث الكساء وآية المباهلة، ويؤمنون بأن أهل البيت هم حَمَلة علم النبيّ|، وأنهم الأوصياء والعلماء الأبرار الأتقياء الصادقون. وهذه الأفكار تشكل العناصر الأساس المكونة لمفهوم العصمة، وتُعَدّ الخمائر الأولى والبنى المهمة التي أقيم عليها مصطلح العصمة. إن تجذُّر هذه المفاهيم والنظرات الدينية في وعيهم ووجدانهم جعلهم يتحمّلون من أجل ولائهم لأهل البيت وانتمائهم إليهم صنوف الإرهاب وأشكال الاضطهاد في بعض مراحل التاريخ، وهذا ما جعلهم يحرصون على أخذ مفاهيم الدين وأحكامه منهم فقط، ويقصدونهم ويشدّون الرحال إليهم من أماكن بعيدة، ويلازمونهم، ويدوّنون أحاديثهم، ويهتمّون بعلومهم، ويولونها الاهتمام اللازم. إن هذه المعتقدات في واقعها تمثّل مبادئ العصمة الأساس، ومضمونها الفعلي، وتجسيدها العملي. وإلاّ ما معنى أن يقتصر تلقّيهم لتعاليم الدين من الأئمة وحدهم، مع وجود فقهاء وعلماء آخرين ومؤسّسين لبعض المذاهب الفقهية في المجتمع؟

من جهةٍ أخرى لا يبعد أن بعض أصحاب الأئمة ورواتهم ـ في بعض المراحل ـ كان يطلق عليهم بعض أوصاف الأولياء المقرّبين الواردة في القرآن والسنّة، إلى جانب وصف الأوصياء، مثل: العلماء الأبرار الأتقياء الصادقين الصالحين المخلصين وما شاكل ذلك، قبل أن يشيع مفهوم العصمة، وينتشر استعمال مصطلح العصمة. كما كان يلقَّب الواحد منهم في بعض الفترات بالعالم والعبد الصالح. والمصطلحات تتميّز بأنها تختزل مجموعة من الأوصاف والدلالات في أقصر كلمةٍ أو عبارة، وقد يتأخّر ظهورها وتبلورها عن مدلولاتها، وعن العناصر المختزلة فيها. صحيحٌ أن بعض المصادر تروي أحاديث عن الإمام عليّ× والإمام زين العابدين× حول العصمة، ومن هذه الأحاديث ما عن الإمام عليّ: إن الله تبارك وتعالى طهّرنا وعصمنا، وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا. وورد عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين أنه قال: الإمام منا لا يكون إلاّ معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، ولذلك لا يكون إلاّ منصوصاً، فقيل له: يا بن رسول الله، فما معنى المعصوم؟ فقال: هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، لا يفترقان إلى يوم القيامة([78]). ولكنْ ليس بالضرورة أن تكون قد شاعت وانتشرت في مختلف الأوساط، ووصلت إلى جميع الأصحاب. ولا يخفى أيضاً أن أصحاب الأئمة أيضاً كانوا متفاوتين في اتجاهاتهم الفكرية واهتماماتهم العلمية، وأن بعضهم شهدوا تحوّلات في آرائهم، ومرّوا بأدوار فكرية مختلفة.

إننا نطرح هذه الرؤية المحتملة لأنها تتّسق مع طبائع الأمور، وتنسجم مع منطق التاريخ في قراءة التطوّر الفكري والتمدّد المعرفي الديني في تاريخ المسلمين.

إن التطور في منظومة المفاهيم في الفكر الديني عند المسلمين ليس مختصّاً بعصمة الأئمة. إنه ينطبق على جملة من الأدبيات الإيمانية والعقدية أيضاً في التوحيد والنبوة والوحي وعصمة الأنبياء وعصمة النبيّ الخاتم والآيات المعجزة والمعجزة القرآنية والمعاد الجسماني([79])، فإن كثيراً من الأدبيات والتنظيرات حول هذه القضايا ظهرت وتبلورت مفاهيمها وتمّ بحثها والاستدلال عليها بعد الصدر الأول، وذلك بعد أن انفتح المسلمون على الفلسفات والأديان والثقافات المتنوّعة ونضج التفكير العقلي لديهم على أثر السجالات الفكرية والجدالات الكلامية حول مختلف المفردات الإيمانية، ممّا أدّى إلى توسّع الفكر وتمدّد المعرفة الدينية. إن طبائع الأمور في التاريخ، مدعمة بالوقائع التاريخية، تفيد أن تعامل الجيل الأول مع منظومة القِيَم الأخلاقية والمفاهيم الفكرية الجديدة كان يتّصف بشيءٍ من الحماس والاندفاع في تلقّيها وتصديقها والاكتفاء بعمومياتها. ويختلف الحال بالنسبة إلى الأجيال التالية التي تبتعد عن المنابع الأولى، وتغمض أمامها التفاصيل، فتبحث عنها وتثير التساؤلات حولها، وهذا بدوره يقود إلى ظهور مفردات جديدة، وأدبيات لم تكن معهودةً من قبل.

تحوّل النظري إلى الضروري، والعكس

وهناك قضية منهجية أودّ الإشارة إليها، وهي أن التيارات الفكرية والاتجاهات الفقهية للمسلمين لم تكن تعنى في بناء منظوماتها الفكرية والفقهية بالمسار التاريخي. ولا يخفى أن البيئة التي تشهد حراكاً فكرياً وسجالاً كلامياً وجدالاً فلسفياً تسهم في إنضاج الأفكار وتعميقها، بل وفي توليد أفكار جديدة، واستنتاج مفاهيم ورؤى غير معهودة، وهذا من شأنه أن يسهم في تطوير المعرفة وتمدّدها. ليس من المستغرب أن تكون بعض المفاهيم قد نضجت بعد الصدر الأول من تاريخ المسلمين، وأن بعض العناوين العقائدية لم تكن قد ظهرت أو تبلورت في تلك المرحلة، فإذا كان كثير من المسلمين الأوائل أو بعضهم ـ على الأقلّ ـ لم يلتفتوا في قضية توحيد الله تعالى إلى التمييز المعرفي بين الوحدة الأحدية الحقّة لله تعالى والوحدة العددية، أو لم ينضج لديهم مفهوم الإعجاز القرآني، أو لم تتبلور لديهم فكرة عصمة الأنبياء وعصمة خاتم الأنبياء وعصمة الأئمة، فإن ذلك لا يعني أن تلكم المفاهيم الفكرية غير صحيحة؛ لمجرد أنها ظهرت أو نضجت في مراحل فكرية لاحقة من تاريخ المسلمين. إن طبيعة التطوّر الاجتماعي والثقافي، وطبيعة المراكمة الفكرية والبحثية، تسهم بدورٍ كبير في تجلية الأفكار وإزالة الغموض عنها، وكذلك في توليد عناوين معرفية جديدة. إن تولّدها التاريخي المتأخّر ـ عن تلك المرحلة ـ لا يوهن من أهمّيتها الفكرية طالما كانت مؤسّسة على الأدلة الرصينة. مضافاً إلى أن ثمّة مبرّرات تاريخية موضوعية تتّصل بمستوى التطوّر الفكري والاجتماعي والحضاري آنذاك، حتّمت بشكلٍ طبيعي أن لا ينشغل المسلمون الأوائل في التفكير التنظيري والتجريدي. إن مشروع تدوين العلوم الدينية، والانفتاح الفكري على الأديان والفلسفات والثقافات الوافدة، وازدهار مجالس الجدل والمناظرة بين النظّار والمتكلّمين والفلاسفة، أدّى إلى الانتقال من طور التعامل الحماسي والحرفي مع المفردات الإيمانية إلى طور التأمّل والنظر التحليلي العقلي. وهذا التحوّل بدوره قاد إلى طروّ تساؤلات وانبثاق نظريات وتوالد اجتهادات لم يشهدها السالفون. وعليه يغدو واضحاً إنْ قيل بأنّ بعض المعارف والتفصيلات في مجال التوحيد والنبوة والإمامة والمعاد تشكّلت وتبلورت في القرن الثاني الهجري وما بعده، وأن بعض الأدبيات والتنظيرات لم تكن جليّةً لدى السلف، ولكنها غدَتْ واضحة ومتبلورة وناضجة لدى الخَلَف ولدى الأجيال اللاحقة. إن علوم المسلمين المتعلّقة بالفكر الديني أو العلوم الخادمة لها ظهرت بعد القرن الهجري الأول. وتجدر الإشارة إلى أنه ليس غرضنا مما سبق تصحيح كلّ الأفكار والمفاهيم التي ظهرت قبل أو بعد تلكم المرحلة، فإن الممارسة الفكرية بطبيعتها الاجتهادية الإنسانية قابلة للتخطئة وللتصويب. ولا يشذّ التفكير في المجال الديني عن هذه الطبيعة، وإنْ استند إلى المرجعيات النصّية، طالما كان الذين يمارسون النظر فيها هم بشرٌ غير معصومين. ولهذا فإن تواصل المراجعات الفكرية ليس أمراً مشروعاً فقط، بل هو مطلوب أيضاً، على أن يستند إلى منهجيات علمية رصينة.

سادساً: جمهور الشيعة في التاريخ

ويلاحظ أن الكاتب ردّد في غير موضعٍ من الكتاب أن «التصوّر البشري للإمامة» ـ ينفي النصب الإلهي والعصمة ـ كان هو السائد عند الشيعة، حتى قام متكلِّمو الإمامية في أواخر القرن الهجري الرابع وأوائل القرن الخامس بإعادة البناء العقلية، ممّا أدى إلى تراجعه كثيراً، إلى درجة أنه منذ منتصف القرن الخامس أصبح «الفهم فوق البشري» للإمامة هو السمة الأساسية للتشيُّع([80]). وذكر في موردٍ آخر أن نظرية «العلماء الأبرار» ـ وهي التسمية الأخرى التي يطلقها ـ كانت هي الغالبة بين الشيعة حتّى أواخر القرن الهجري الرابع، وأنها مثَّلت الفكر الشيعي في القرنين الثالث والرابع الهجريين([81])، بل قال في نتيجة البحث: ورأينا أن العقيدة الغالبة في القرنين الأولين (نصف القرن الثاني والقرن الأوّل وحتّى أواخر القرن الرابع) كانت النظرة البشرية العادية إلى منصب الإمامة، ثم في القرن الخامس صارت هذه النظرة نظرةً مطروحة فقط في الساحة (وليست الغالبة)([82]).

والواقع أن الدارس للتطوّرات الفكرية في التاريخ يتبين له إمكانية وقوع مثل هذه التغيرات في بعض المجتمعات؛ نتيجة لعوامل تاريخية وسياسية وأمنية واجتماعية وفكرية. فهي ممكنةٌ، وليست ممتنعة. غير أن الكاتب أطلق الحكم دون أن يحدّد بلداً أو إقليماً أو مجتمعاً معيناً حدث فيه هذا التحوّل، والعوامل التي أدّت إليه. مضافاً إلى أنه لم يدعم وجهة نظره بأيّ دليلٍ تاريخي. ولسنا هنا في هذه القراءة بصدد البحث التاريخي حول ذلك، ولكنْ سنكتفي بإيراد بعض الشهادت لبعض المؤرِّخين والمتكلِّمين ـ من مختلف الاتجاهات الفكرية ـ عن الوضع في القرن الثالث الهجري وما بعده.

وأولى هذه الشهادات هي لأبي الحسن الأشعري(330هـ)، مؤسّس المدرسة الأشعرية. تطرّق إلى أهم آراء «الرافضة»، ومما قاله: وهم مجمعون على أن النبي| نصّ على استخلاف عليّ بن أبي طالب باسمه، وأظهر ذلك وأعلنه… وإن الإمامة لا تكون إلاّ بنصٍّ وتوقيف، وأنها قرابة، وأنه جائزٌ في حال التقية للإمام أن يقول: إنه ليس بإمامٍ. وأبطلوا جميعاً الاجتهاد في الأحكام (أي مع وجود الإمام المنصوص عليه)، وزعموا أن الإمام لا يكون إلاّ أفضل الناس. وزعموا أن عليّاً رضوان الله عليه كان مصيباً في جميع أحواله، وأنه لم يخطئ في شيءٍ من أمور الدين. وقال عند حديثه عن فرقة القطعية: وإنما سُمّوا قطعية؛ لأنهم قطعوا على موت موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ. وهم جمهور الشيعة، يزعمون أن النبيّ| نصّ على إمامة عليّ بن أبي طالب واستخلفه بعده بعينه واسمه، وأن عليّاً نصّ على إمامة ابنه الحسن…إلخ([83]). والأشعري متكلّم ومؤرّخ للفرق، وقد ولد سنة 260هـ، وتوفي سنة 330هـ، وعاش في القرنين الثالث والرابع، وكانت وفاته مطلع القرن الرابع. ولا بُدَّ أنه ألّف كتابه قبل ذلك التاريخ، ولم يرصد وقوع أيّ تغيّر في موقف القطعية خلال فترة حياته. ومن عادة مؤرّخي الفرق أنهم إنْ رصدوا أيّ اختلاف في أيّ مسألةٍ لدى الفرق الأخرى، وبالأخصّ التي تُعَدّ خصماً فكرياً لهم، فإنهم يبرزونه مع شيءٍ من التهويل، فما بالك إذا كان في قضية محورية كالإمامة؟! وهذا قد يفيد بأن الشيعة القطعية كانوا يمثّلون جمهور الشيعة منذ القرن الثالث الهجري.

 والشهادة الثانية للمؤرّخ والرحالة الجغرافي أبي الحسن المسعودي(346هـ)، وهو أيضاً عاش في القرنين الثالث والرابع، حيث ولد سنة 283هـ، وتوفي سنة 346هـ. قال: ولأهل الإمامة من فرق الشيعة في هذا الوقت ـ وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة ـ كلام كثير في الغيبة، واستعمال التقية، وما يذكرونه من أبواب الأئمة والأوصياء، لا يسعنا إيراده في هذا الكتاب([84]). وقال في موضعٍ آخر: وفي سنة ستين ومائتين قبض أبو محمد الحسن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب×، في خلافة المعتمد، وهو ابن تسع وعشرين سنة، وهو أبو المهديّ المنتظر والإمام الثاني عشر عند القطعية من الإمامية، وهم جمهور الشيعة([85]).

والشهادة الثالثة هي لابن المعلّم المفيد، وهو متكلّم وفقيه إمامي(413هـ)، الذي عاش في القرنين الرابع والخامس الهجريين، حيث ولد سنة 336هـ وتوفي سنة 413هـ. قال: ولما توفي أبو محمد الحسن بن عليّ بن محمد× افترق أصحابه بعده (على ما حكاه أبو محمد الحسن بن موسى) أربع عشرة فرقة، قال الجمهور منهم بإمامة ابنه القائم المنتظر×، وأثبتوا ولادته، وصحّحوا النصّ عليه([86])، وذكر مقالات تلكم الفرق، ثم قال: وليس من هؤلاء الفرق التي ذكرناها فرقةٌ موجودة في زماننا هذا، وهو سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، إلاّ الإمامية الاثنا عشرية، القائلة بإمامة ابن الحسن، المسمّى باسم رسول الله|، القاطعة على حياته وبقائه إلى وقت قيامه بالسيف، حَسْب ما شرحناه في ما تقدّم عنهم، وهم أكثر فرق الشيعة عدداً وعلماً، ومتكلّمون ونظار، وصالحون وعبّاد، ومتفقّهة وأصحاب حديث، وأدباء وشعراء، وهم وجه الإمامية، ورؤساء جماعتهم، والمعتمد عليهم في الديانة([87]). وشهادة المفيد مزدوجة ـ إنْ جاز التعبير ـ، فقد نقل قسماً منها عن المتكلّم والفيلسوف الحسن بن موسى النوبختي، الذي عاش في مطلع القرن الثالث وتوفي نهاية القرن الثالث، عن موقف جمهور الإمامية من الإمام المهديّ المنتظر، كما تحدّث عن شهادته في عصره، عن سنة 373هـ، وهو الربع الأخير من القرن الرابع، وقد عاش المفيد في القرن الرابع وشطراً من القرن الخامس.

ويؤيّده ما ذكره ابن حزم الظاهري(456هـ)، الذي عاش في القرنين الرابع والخامس الهجريين، حيث ولد سنة 384هـ، وتوفي سنة 456هـ. قال: ثم افترقت الرافضة بعد موت هؤلاء (ذكر بعض متكلّميهم) وموت جعفر بن محمد… وقال: جمهور الرافضة بإمامة ابنه موسى، ثم ابنه عليّ بن موسى، ثم محمد بن عليّ بن موسى، ثم عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى، ثم الحسن بن عليّ، ثم مات الحسن (الإمام العسكري) عن غير عقب، فافترقوا فرقاً، وثبت جمهورهم على أنه ولد للحسن بن عليّ ولدٌ فأخفاه([88]). وقال في موضعٍ آخر: وقالت القطيعية من الإمامية الرافضة كلّهم، وهم جمهور الشيعة، ومنهم المتكلّمون والنظّارون والعدد العظيم، بأن محمد بن الحسن بن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب حيٌّ لم يمُتْ، ولا يموت حتّى يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جوراً، وهو عندهم المهديّ المنتظر([89]). وهكذا نجد أن الشهادت التاريخية منذ القرن الثالث الهجري وحتّى القرن الخامس الهجري تتضافر على خلاف ما ردّده الكاتب كَدِيوَر حول هذه القضية.

استخلاصٌ ورأي

إن تعدّد القراءات الاجتهادية وتنوّعها للنصوص الدينية الأصلية في مختلف المعارف الدينية أمرٌ واقع في الجملة في تاريخ المسلمين ـ بالأخصّ ـ مع تعاقب الأزمنة والأجيال، الأمر الذي يتّفق مع طبائع الأمور في الاجتماع الإنساني. ويؤكّد ذلك واقع الفرق والتيارات الفكرية المختلفة في التاريخ.

وإن القيام بعمليات الحفر والتنقيب لاكتشاف القراءات المطمورة والأفهام المتراكمة عبر التاريخ، والتي قد تكون تداخلت مع النصوص الأصلية أو أنتجت نصوصاً موازية لها، يُعَدّ بحثاً تاريخياً مهمّاً، يتيح للدارس أن يرصد التطور الفكري الذي حدث في التاريخ، ويساعد على التمييز بين الأصول الأصلية والقراءات اللاحقة التي أُضيفت إليها.

إن السؤال الأساس الذي نودّ طرحه هنا هو: هل يشكل الفهم التاريخي المتقدّم أو القريب من زمن النصّ الأصلي معياراً دينياً يوازي النصّ نفسه ويعادله، بحيث يحتج به، وتقاس عليه سائر الاجتهادات والقراءات التي تشكّلت عبر العصور اللاحقة؟

إنْ كان الهدف من مثل هذه البحوث هو تقديم نتائجها كمعيارٍ حاكم على سائر الاجتهادات فإنها لا تعدو أن تكون محاولة لإنتاج سَلَفيات جديدة، وتقديمها للأجيال بحسبانها دليلاً يضاهي الأدلة النصّية الأصلية، على الرغم من أنه نهجٌ يفتقد إلى تأصيل شرعي.

إننا لا نوافق على هذا الاتجاه، بل نرى أن المعيار العلمي في التعامل مع مختلف الاجتهادات والآراء والقراءات هو النظر في أدلتها وأسانيدها، ومحاكمتها إلى الأصول الأصلية للدين، من عقلٍ ونقل.

وكيفما كان فقد انتهينا ممّا سبق إلى أن الكاتب المحترم كَدِيوَر بذل جهداً مقدّراً في محاولاته لإثبات فرضياته. غير أننا نرى بأنه لم ينجح في تقديم أدلّةٍ مقنعة على فرضية «العلماء الأبرار»، ولم يثبتها بوثائق تاريخية واضحة، وأدلة حاسمة. كما لاحظنا ارتباكاً في بعض كلماته في هذا الشأن. وإن عمدة ما استند عليه هو رأي الشهيد الثاني ـ المتوفّى في القرن العاشر الهجري ـ، والذي هو في حقيقته لا يعدو أن يكون استنتاجاً لفقيهٍ أصولي له مكانته العلمية، غير أن الكاتب تعامل معه وكأنّه وثيقة تاريخية دامغة تثبت هذه الدعوى، والحال أنه مجرد رأيٍ ناتج عن قراءة وفهم معينين، قابل للنقد والنقض، ولا يرقى إلى مستوى الحجّة والدليل.

الهوامش

(*) باحثٌ مهتمٌّ بالفكر العربيّ الإسلاميّ. من سلطنة عُمَان.

([1]) محسن كَدِيوَر، القراءة المنسيّة: 40، تعريب وتقديم: سعد رستم، دار الانتشار العربي، ط1، 2011م.

([2]) المصدر السابق: 41.

([3]) المصدر السابق: 18، 42.

([4]) المصدر السابق: 46.

([5]) المصدر السابق: 49، 77.

([6]) المصدر السابق: 50، 51.

([7]) الطوسي، النهاية في مجرد الفقه والفتاوى: 96، انتشارات قدس محمدي، قم ـ إيران؛ الطوسي، المبسوط 1: 99، تحقيق: محمد تقي الكشفي، المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية، 1383هـ.

([8]) رسائل المرتضى 1: 279، تقديم: أحمد الحسيني وزميله، مؤسّسة النور، بيروت.

([9]) القراءة المنسية: 71.

([10]) الصدوق، الاعتقادات: 67، المطبعة العلمية، قم، 1412هـ.

([11]) الصدوق، مَنْ لا يحضره الفقيه 1: 360، تصحيح: علي أكبر الغفاري، ط2، منشورات جماعة المدرسين، قم.

([12]) المفيد، رسالة عدم سهو النبيّ| (منسوبة للمفيد)، سلسلة مؤلّفات الشيخ المفيد 10: 21، دار المفيد، إيران، ط2، 1993م.

([13]) المرتضى، الشافي في الإمامة 2: 119 ـ 120، مؤسسة الصادق، طهران، ط2، 2006م.

([14]) القراءة المنسية: 18.

([15]) المصدر السابق: 105.

([16]) المصدر السابق: 97.

([17]) المصدر السابق: 129.

([18]) المصدر السابق: 91.

([19]) المصدر السابق: 92.

([20]) زين الدين العاملي (الشهيد الثاني)، حقائق الإيمان: 150، تحقيق: مهدي الرجائي، ط1، قم ـ إيران، 1409هـ.

([21]) المصدر السابق: 149، 150، 151.

([22]) المصدر السابق: 151.

([23]) مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول 1: 279، تحقيق: عبد الله النوراني، مؤسّسة النعمان، بيروت، 1991م.

([24]) القراءة المنسية: 39.

([25]) المصدر السابق: 36.

([26]) المصدر السابق: 36.

([27]) المصدر السابق: 39.

([28]) المصدر السابق: 38.

([29]) المصدر السابق: 56.

([30]) المصدر السابق: 29.

([31]) الشهيد الثاني، حقائق الإيمان: 150.

([32]) المصدر السابق: 151.

([33]) رجال الكشّي: 133، 151، 208، 227، تقديم وتعليق: أحمد الحسيني، مؤسسة الأعلمي، كربلاء.

([34]) رجال النجاشي 2: 282، تحقيق: محمد جواد النائيني، دار الأضواء، بيروت، ط1، 1988م.

([35]) المصدر السابق 2: 247.

([36]) رسائل الشهيد الثاني 1: 200، مركز الأبحاث والدراسات الاسلامية، إيران، ط1، 1421هـ.

([37]) الشهيد الثاني، الرعاية في علم الدراية: 176، تحقيق: عبد الحسين البقّال، مكتبة المرعشي الكبرى، قم ـ إيران، ط3، 1433هـ.

([38]) المصدر السابق: 179.

([39]) القراءة المنسية: 42.

([40]) رجال الكشّي: 213.

([41]) الخوئي، معجم رجال الحديث 19: 267، منشورات مدينة العلم، قم ـ إيران، ط3، 1983م.

([42]) المصدر السابق 15: 200.

([43]) علي آل المحسن، اعتقاد أصحاب الأئمة بعصمة الأئمة، موقعه الشخصي في الشبكة المعلوماتية.

([44]) صحيح البخاري: 834، رقم 4416.

([45]) الخوئي، معجم رجال الحديث 19: 297.

([46]) رجال الكشّي: 213.

([47]) الخوئي، معجم رجال الحديث 11: 107؛ صالح الكرباسي، موقع الإشعاع الإسلامي، الشبكة المعلوماتية.

([48]) الكرباسي، موقع الإشعاع الإسلامي.

([49]) ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب 11: 123، دار صادر، ط1، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حيدر آباد، 1327هـ.

([50]) رجال النجاشي 2: 7.

([51]) الحسن بن موسى النوبختي، فرق الشيعة: 78، دار الأضواء، بيروت، ط2، 1984م؛ سعد بن عبدالله الأشعري القمّي، الفرق والمقالات: 88، تقديم: محمد جواد مشكور، مطبعة حيدري، طهران، 1341.

([52]) رجال الكشّي: 214.

([53]) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين: 37، دار صادر، بيروت، ط2، 2008م.

([54]) محمد بن أحمد الخوارزمي، مفاتيح العلوم: 50، حقّقه: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، 1989م.

([55]) رجال الكشّي: 227.

([56]) السيوطي، تاريخ الخلفاء: 270، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة العادة بمصر، ط1، 1952م.

([57]) أحمد أمين، ضحى الإسلام 1: 141، ط10، دار الكتاب العربي، بيروت.

([58]) رجال الكشّي: 214.

([59]) القراءة المنسية: 97.

([60]) محمد بن الحسن الصفّار، بصائر الدرجات: 341، مؤسسة الأعلمي، طهران. وهناك مَنْ يناقش في نسبته إلى المؤلِّف، ويرى بعض الباحثين أنه من تأليف محمد بن يحيى العطّار القمّي. (القراءة المنسية: 129 (الهامش)).

([61]) الكليني، أصول الكافي 1: 248، باب 68، ح5، تعليق: محمد جعفر شمس الدين، دار التعارف، بيروت، 1990م.

([62]) الصفّار، بصائر الدرجات: 81.

([63]) الكليني، أصول الكافي 1: 333.

([64]) الكليني، أصول الكافي 1: 434.

([65]) أصول الكافي 1: 439.

([66]) الصدوق، كمال الدين 1: 130، تصحيح وتعليق: علي أكبر غفاري، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين بقم، إيران.

([67]) المصدر السابق: 134.

([68]) رجال الكشّي: 215.

([69]) الخوئي، معجم رجال الحديث 11: 105.

([70]) القراءة المنسية: 41، 42.

([71]) المصدر السابق: 114.

([72]) المصدر السابق: 141.

([73]) المصدر السابق: 142.

([74]) المصدر السابق: 40.

([75]) المصدر السابق: 41.

([76]) المصدر السابق: 78.

([77]) المصدر السابق: 170.

([78]) الكليني، أصول الكافي 1: 246، 325؛ الصدوق، معاني الأخبار: 132، دار المعرفة، بيروت، 1979م. وراجع أيضاً: المجلسي، بحار الأنوار 25: 193، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط2، 1983م.

([79]) مشتاق بن موسى اللواتي، تطوّر التفكير الديني عند المسلمين، مجلة شرق غرب، العدد 15: 56، سلطنة عمان، 2017م.

([80]) القراءة المنسية: 18، 19.

([81]) المصدر السابق: 40.

([82]) المصدر السابق: 78.

([83]) أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين: 19.

([84]) المسعودي، مروج الذهب 3: 238، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار المعرفة، بيروت.

([85]) المصدر السابق 4: 199.

([86]) المفيد، الفصول المختارة: 258، دار الأضواء، بيروت، 1985.

([87]) المصدر السابق: 261.

([88]) ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل 4: 77، مكتبة السلام العالمية.

([89]) المصدر السابق 4: 138.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً