أحدث المقالات

قراءة في الفلسفة (العدمية) لنيتشه

بقلم: نضال البيابي – (ميدل ايست أونلاين)

 

تقوم الفلسفة العدمية المادية لنيتشه على تحرير الإنسان من بقية الـ (أوهام) التي تتعلق بالثبات والتجاوز والكلية، وأن يطهر المجال الفلسفي تطهيرا تاما من (ظل الإله)، بمعنى تطهيره من القيم والثوابت والثنائيات والغايات (إن كانت أخلاقية أو معرفية) المتجاوزة للمادي والمباشر.

فما كان يسمى قبل نيتشه "فلسفيا" مقدسا وحقا وخيرا ومطلقا ويقينيإ، حطمه نيتشه على محرابه المقدس"إرادة القوة"!

ففي كتابه "أفول الأصنام" يؤكد في أكثر من سياق أن استلاب الإرادة للنص أو القيمة أو المفهوم هو المبرر لاختلاق الوهم على وجود إرادة متجاوزة للحواس. "فالذي لا يعرف كيف يوظف إرادته في الأشياء يضفي عليها معنى ما على الأقل.. فذلك يوهم بأن ثمة فيها إرادة مسبقا (أساس الإيمان)".

فهو يرى إن إفناء الأساس الديني للأخلاق لن يتأتى بدءاً إلا بالقضاء على اليقين المعرفي، وعلى فكرة الأخلاق في ذاتها، وصولا إلى فكرة الوجود الثابت، أي على المركز المنبثقة منه إن كان مركزا مؤلها "إلاهيا" أو"إنسانيا".

ويمكن أن نقول إن نيتشه أسس فلسفته العدمية على عبارته الشهيرة "لقد مات الإله" ومن ثم لم يدخر جهدا في تطهير العالم من بقايا ظلال قد تركها الإله على الأرض بعد موته. وهي كما يقول: "فكرة مرعبة لكنها مبهجة! هي مرعبة لأننا نشعر أن خالقنا السابق هجرنا، ومع ذلك فهي مبهجة لأننا نشعر فجأة أن عالمنا انفتح أمامنا إلى ما لا نهاية. فأي شيء الآن يمكن أن نتخيله؟!"

ويرى البعض أن هنالك تفسيرات متباينة لفكرة "موت الإله"، فقد قيل إنها ترمز إلى موت الحضارة الغربية، وقيل إنها موت الإله على الصليب، وقيل أيضا إنها تعني انتهاء المسيحية. ولاقت هذه الفكرة صدى واسعا عند قائدي الثورات وحاصدي أرواح الشعوب، ومن مسه مس جنون العظمة، كهتلر وماوتسي تونغ، وللأخير قول شهير في هذا السياق: "إذا ما كنا عظماء بما فيه الكفاية حتى ننهي سيطرة الإله علينا، ألا نصبح نحن انفسنا آلهة. ببساطة لأننا جديرون – فيما يبدو – بذلك؟"

ويشرح لنا هيدجر مضمون هذه العبارة بإن الإله بالنسبة لنيتشه هو "العالم المتسامي" بمعنى العالم المتجاوز لعالمنا، أي عالم الحواس، فالإله مركز لكل الأفكار والمثاليات والمطلقات والثوابت والقيم الأخلاقية.

ولنقف قليلا عند "متجاوز" فعندما يقول نيتشه "لقد مات الإله" يعني موت الفكرة المتجاوزة والمفارقة للمادة، والتي تعطي للكون تماسكا وهدفا أو غاية، فموتها يعني نهاية فكرة المركز المتجاوز للمادة والكائن بطبيعة الحال خارجها. وعليه لن تكون هناك حقيقة ثابتة غير خاضعة للتجربة المادية المباشرة. بعبارة أخرى .. تقتضي فكرة "موت الإله" النهاية الحتمية للميتافيزيقا وما يترتب على ذلك من موت لفكرة "الحقيقة".

لذا عدّ نيتشه الإيمان بأن العقل الإنساني قادر على التزود بمعرفة يقينية إنما هو وهم، وكل إدعاء أن ثمة مركزية تنبثق منها الأخلاق والقيم إدعاء زائف تولد من عجز الإرادة، أو فرض الإرادة ليس إلا. وأي حديث يصب في قالب المطلق إنما هو عبث، فكل مايدرك هو من الأمور المادية – ولن يدرك سواه – وكل المدركات "المادية" نسبية.

وإن كان يمكن أن يوجد عالم ميتافيزيقي فسيكون "إنساني، إنساني إلى أقصى حد"! وأما الحاجة إلى كون ثابت لا زماني، فهي حاجة لا معنى لها على الإطلاق. إنها ببساطة "استياء الميتافيزقيين من الواقع" فكل النظريات التي حاولت الإجابة عن وجود عالم ميتافيزيقي، تقع ببساطة خارج مجال البحث البشري، ولكن ما الذي – رغم جاذبية هذا السؤال – يمكن أن نربحه إذا ما قبلنا وجود بُعد ميتافيزيقي؟ من المؤكد أن معرفته ستكون معرفة عبثية لا طائل وراءها. وسوف تكون أكثر عبثية من معرفة تركيبة الماء لبحار يغرق، أي علينا "تقبل المأساة". ونتيجة لهذه الفكرة أطلق نيتشه عبارته الشهيرة "كن أنت" إشارة رمزية لصورة التكامل عند "الإنسان الأعلى" أو التجسيد الأرضي للإله.

إذن، أن الفلسفة الحقيقية ستولد بعد إزالة بقايا "ظلال الإله"، والذي يعني اختفاء أي مركزية ثابتة متجاوزة للإطار المادي الذي تتساوى فيه الأشياء. فثمة مبدأ كامن في الطبيعة "المادة". ويتجلى في شكل قوة لا تتجزأ ولا يتجاوزها شيء ولا يعلوها شيء، إنما تضبط وجود العالم وهي النظام "الحتمي" للأشياء. وهذا النظام يحتوي على مقومات الحركة وكل مايلزم لبقائه واستمراره، ويتكون من قوى متناحرة ومتصارعة وليس له بنية أومركزية واضحة، لأنه مبدأ غير عاقل، ومادام ليس عاقلا فلا غاية له، ومن ثم فهو عالم قائم على الصراع تحكمه الصدفة والفوضى ولا ثبات فيه للمطلقات. ولذلك قال نيتشه عبارته السالفة الكاشفة عن رؤاه والتي لها دلالة واحدة أننا دخلنا مرحلة العدم!

 

العالم النيتشوي:

إن عالم نيتشه، هو العالم الذي بلا مركزية، والإنسان هوجزء من الطبيعة، ولا يوجد ثمة فارق جوهري بينه وبين كل الكائنات الأخرى، فهو جسد وغرائز مثل البقية، وبما أنه جزء من الطبيعة فلا يمكنه أن يفهمها ويتجاوزها، فالجزء لا يمكنه أن يحيط بالكل فضلا أن يتجاوزه، لذا لا يمكن أن تنبثق منظومات أخلاقية متجاوزة للمادة، فالإنسان جزء من حركة المادة وإذن هو خاضع لها.

فالكون كما يراه نيتشه له مبدأ واحد هو الحياة، والحياة هي "إرادة القوة" ويكتسب الإنسان قيمته من خلال مقدار القوة التي يستطيع تحصيلها والاستيلاء عليها. لأن الحياة تولد على حساب حياة أخرى، والحياة ليست هي البقاء مجرد فحسب، وإنما هي الرغبة في في الاقتناء، وهي التغير والصيرورة بلا ثبات.

فثمة ترادف أصيل بين الحياة والقوة، فبمقدار شعورنا بالحياة وبالقوة يكون إدراكنا للوجود وهذا جوهرها، ومن خلال هذا الفهم يمكننا تفسير كل مظاهر الوجود "فالحياة إن هي إلا صراع وتقاتل ودماء"!

وإذا كان ماركس يرى بأن صراع الطبقات هو محرك التاريخ، وفرويد يرى بأن الليبيدو أو الغريزة الجنسية هي الدافع الأساسي والمحرك، إلا أن نيتشه اعتبر أن إرادة القوة هي دافعية الأفراد والمحرك للتاريخ، وللصراعات العكسرية والتحولات الاجتماعية والثورات الأخلاقية والنزوع للجمال والعلاقات بين الافراد بمختلف مستوياتها. فنيتشه يرى بأن كل الصراعات لا يمكن فهمها إلا في إطار "الصراعات اللامتناهية بين إرادات مختلفة، والتي تنبع منها أشكال مختلفة للهيمنة". إذن إرادة القوة هي المركزية الثابتة لفلسفة نيتشه العدمية التي تنكر الثبات وتعلي من شأن الصيرورة باعتبارها الثبات الأوحد!

 

الفكر:

يرى نيتشه أن الفكر تعبير أمين لإرادة القوة وليس انعكاسا مشوها للواقع ولامحاولة اجتهادية لتفسيره. فالمعايير التي يصوغها الإنسان لتحديد ما هو صواب وخطأ وما هو زائف وحقيقي ليست نزعة أصيلة ولا أفكار برئية كما يبدو الأمر ظاهريا، إنما هي مجرد أوهام وأساطير ابتدعها للهروب من الصيرورة الدائمة أو ما يعبر عنه بالاستياء من عالم عصي على التغيير. فرغم العقلانية الظاهرة المغلفة للأفكار إلا أن ثمة دوافع مظلمة لا يدركها حتى أصحابها.

 

العقل:

يعتقد نيتشه أنه لا يوجد عقل إنساني واحد متكامل وشامل يمكنه الحكم الكلي على الكون وعقلنة أحداثه وظواهره، في ظل هذه الصيرورة الكاملة، فالعقل ليس مستقلا عن العناصر المحيطة به في الواقع، وحتى المنطق والأفكار الثابتة والعقائد لم تكن ثمرة رغبة في معرفة الحقيقة، وإنما الدافعية من خلق الثوابت ومنطقتها هي السيطرة والامتلاك، بعبارة أن المحرك هو الإرادة ولا شيء سواها. فالغرائز والنزعات نحو البقاء والقوة لها وجود أصلي حقيقي (بناء مادي تحتي) أما الفكر الذي يأتي لاحقا (بناء فكري فوقي) يتخذ أشكالا تبريرية للسلوكيات المادية الغريزية. فالأصل هو الفعل، والأخلاق ما هي إلا التبرير للأفعال إذ أن الدافعية برجماتية محضة. إذن، العقول تتمايز بتمايز الظروف والإرادات، ولذا قد تختلف الأراء إزاء أمر واحد.

وعندما أذعن لفكر الآخرين، ليس هذا الإذعان فعلا عقليا، إنما هو مجرد إذعان لإرادة القوة المنتصرة. فنجاح أية فكرة إنما يعبر عن مدى نجاح إرادة القوة في فرضها، فحقيقة نجاحك تكتسب من خلال الفرض والفشل عكس ذلك. ومنطق هذا الفكر هو منطق القوة وكما يسميه نيتشه الحقيقة الديونيزية "الحقيقة التي يؤمن بها الإنسان الأعلى".

 

الأخلاق:

تساءل نيتشه كيف يمكن أن ننظر إلى شخص يكون فاضلا؟ فالشخص الفاضل الذي يثني عليه الآخرون لما قدم لهم من خيرات وفضائل (الطاعة، العفة، العدالة، المثابرة.. إلخ) سوف تضر بالفعل الشخصي الحائز عليها! وكما يقول "لو كنت حائزا على فضيلة .. فأنت ضحية لها"، وهكذا نثني على الفضيلة عند الآخرين لأننا نحصل منها على منافع ومميزات. فالمعتقدات الأخلاقية هي معتقدات الجموع، والجموع أكبر من الفرد "مع الأخلاق يمكن للفرد فحسب أن ينسب لنفسه قيمة بوصفه دالا على القطيع"، فالأخلاق تمثل أولئك الذين يكونون ضعافا من الناحية الفردية (وهم أفراد). لكنهم أقوياء من الناحية الجمعية (وهم مجتمعون) وهم يأملون أن تحميهم قوانين الأخلاق بقدر ما تبرر وجودهم وأسلوب معيشتهم. فالأخلاق هي النتيجة الحتمية للمصلحة الذاتية الإنسانية والدافع التطوري للبقاء. فالدافعية للأخلاق دافعية برغماتية محضة كما أسلفنا، فلا وجود للخيار الحر ولا وجود للثنائيات المتجاوزة.

 

الإنسان الأعلى:

إن الأستقراطيين الممتازين هم أساس وأصل الحضارات الكبرى، فالحيوانات المفترسة الشقراء كانت تجوب الارض وتخضع الشعوب لسطوتها وتفرض عليها إرادتها وسلطانها، ومن ثم تختلق شرعة قيمية وأخلاقية تؤكد بها شرعيتها وسلطانها واستمرار سيادتها وسوطتها. وتعمل هذه الأقلية المسيطرة على الحفاظ على قوتها الجسمانية، وتحافظ على على نقاء نسلها من الاتصال بأعراق الطبقات الدنيا. وهؤلاء الممتازون يقدسون الأجداد وصفاتهم النبيلة، وتتحول هذه القداسة إلى طقوس عبادية تؤله فيها ذكرى الأجداد الذين أصبحوا آلهة – فيما بعد – تقدم القرابين لأرواحهم، أي أن العبد والمعبود هو الذات المؤلهة.

وبهذا المفهوم النيتشوي ينقسم البشر إلى أقوياء وضعفاء، فالأقوياء هم السادة الذين يبتكرون القيم الأخلاقية لتبرير أفعالهم المباشرة، فهم يتسمون بغريزة السيطرة وحب الغزو والمخاطرة ونعيمهم هو الانتصاروالسيادة، أما الضعفاء فقيمهم وسيلة لتغطية عجزهم ونكوصهم عن فرض إرادتهم.

إن الإله الحي المتجسد على الأرض الذي بشر به نيتشه هو الإنسان الأعلى "لا يمكن أن يكمن هدف الإنسانية في نهاية الزمان، بل فقط في أعلى نموذج لها" بالرغم أن هذه ليست حتمية إلا أن على البشرية أن تطمح لها كتحد للروح البشرية. ومن الأفراد التاريخيين الذين اقتربوا من هذا المثل الأعلى كما يصوره نيتشه أمثال: يوليوس قيصر، ونابليون. وقد هاجم كثير من النقاد صورة الفرد الذاتي الأناني الذي يمجد ذاته فحسب، إلا أن نيتشه وجد أن الأنانية "الغرورية" تنتمي إلى ماهية الروح النبيلة!

وهذا الإنسان الأعلى سيولد من طبقة السادة الممتازين الذين نبذوا الأديان التي تنفر من الحياة الأرضية، والتي ساهمت في امتصاص عناصرالقوة وأبقت البشرية في حالة ضعف ووهن. إذن الإنسان الأعلى هو عودة للطبيعة المادية الأصيلة التي تجسدت فيها إرادة القوة وسوف تتجسد من خلاله تجسدا تاما (نقيض فلسفة شبنهور أستاذه في بداياته). ولا يسعنا إلا أن نتخيل هذا "الإنسان الأعلى" بجيوش همجية يكتسح ما سواه!

وكما يقول نيتشه بصلافته النزقة وعجرفته المعهودة على لسان زرادشت: "على أهل السيادة في الإنسانية المتفوقة أن يمهِّدوا سُبُلَ السعادة لمن هم دونهم بتضحية ملذَاتهم وراحتهم وعليهم أيضا أن ينقذوا مَنْ لا يصلحون للحياة بالقضاء عليهم دون إمهال".

يرى تشارلز دارون في كتابه "سلالة الإنسان"، "أن القبيلة المؤلفة من كثرة الأعضاء الذين هم على استعداد دائما لمساعدة بعضهم البعض، والتضحية بأنفسهم من أجل الصالح العام، سوف تنتصر على معظم القبائل الأخرى، وسوف يكون انتخابا طبيعيا."

ونيتشه عكس السيناريو تماما "فلندع القبيلة تضحي بنفسها لو أن ذلك ضروريا للمحافظة على فرد واحد عظيم. إن ما ينبغي علينا أن نسعى لزيادته هو كيف البشرية لا كمها. إن الأمة طريق ملتف للطبيعة للوصول إلى ستة أو سبعة من الرجال العظماء. نعم وعندئذ تدور حولهم". فالصراع هنا ليس صراعا من أجل الوجود كما هو عند دارون، بل هو صراع من أجل العظمة والقوة. كما نلاحظ أن هذه النظرة غير السوية للبشرية لن تخلق لنا سوى مسوخا بشرية تؤله الذات على حطام الشعوب! ولا شك أنها صورة قميئة من صور الاستبداد، ولا يمكن أن تكون إلا نتيجة حتمية لولادة نظام وحشي شمولي يعلي من قيمة الفرد الحاكم "ظل الإله في الأرض".

 

العود الأبدي:

وهي فكرة محورية في فلسلفة نيتشه "العود الأبدي" والتي تبدو بديلا لفكرة الأبدية في الأديان السماوية، وهي أيضا قريبة الشبه من فكرة عقوبة سيزيف في الأسطورة اليونانية، الذي عاقبه كبير الآلهة بعمل متكرر ورتيب، وليست بعيدة أيضا عن فكرة الكارما البوذية، إلا أن نيتشه يرى أنها عود أبدي مادي رتيب "كالساعة الرملية" سيعود من جديد ويذهب من جديد دائما وأبدا، فكل شيء سيعود بنفس التسلسل وبنفس النتائج. ويعترف نيتشه بأنها فكرة محبطة جدا وليست أكثر إغراء من فكرة الجنة والخلود في الأديان السماوية، إلا أنها محرض لكي نكافح لنكون أعظم مما نحن عليه، ومادامت اللحظة الراهنة هي كل شيء، فلنستغلها أفضل استغلال محققين أفضل ما في أنفسنا.

فالزمان عندما تنتهي دورته الحالية لن يتوقف، إذ أنه سيبدأ من جديد دورة أخرى لا تختلف عن سابقتها، والعود الأبدي "يعني تكرار اللحظة بكل ثباتها وصيرورتها، ولكنه ليس تقبلا لمضمون اللحظة الثابتة، وإنما هو تأكيد لصيرورتها"، وكما يقول نيتشه مخاطبا اللحظة: "فلتكرري نفسك إلى الأبد" أي إذعان كامل للصيرورة.

 

عبء التاريخ:

التاريخ بالنسبة لنيتشه يمكن أن يهدد الحاضر، وذلك بجعل أمم الماضي العظيمة مثالية، ويحثنا على منافسة هذه الثقافات الميتة ولذا قال: "ليس لدينا نحن المحدثين ثقافة نقول عنها أنها ثقافتنا، فنحن نملأ أنفسنا بعادات وفلسفات أجنبية، وكذلك بديانات وعلوم بحيث نصبح موسوعات جوالة" (استخدام التاريخ وإساءة استخدامه) فتمثل الماضي واستخدامه في صنع حياتنا وثقافتنا هو مسخ لإرادتنا، فالتاريخ ما هو إلا عبء ميت ثقيل على الحاضر. فما قيمة أن تمتلك قدرا وفيرا من التاريخ، لكنك لا تستطيع أن تعيش حياة أصيلة من صنعك؟! إذن، إن اسقاط التاريخ على الحاضر هو إعدام للمشروع الفردي للتحقق الذاتي والفعل في العالم. وكلما قلّ اكتراثنا بالتاريخ، كلما كنا أقرب لإنتاج ثقافة حية "حرية الروح"، وإلا سنظل "مجرد ظلال للإنسانية".

 

بين نيتشه وكانط:

آمن كانط بوجود حقيقة كامنة لا زمانية، وهذا التصور للحقيقة يعلو على الحقائق الجزئية في أية ثقافة أو عند أي فرد. ولقد أطلق كانط على هذا المجال للحقيقة "اللازمانية" اسم "النومين" أي الأشياء في ذاتها التي تعارض الظواهر التي تظهر لنا من خلال الحواس. ومهما حاولنا استخدام عقولنا وإدراكاتنا الحسية، فلن نستطيع أبدا أن نعرف عالم "النومين" اللازماني. رغم التأكيد على وجوده، إلا أننا مستبعدون عنه لقصور حواسنا من جهة، وحد الزمان والمكان والسببية من جهة أخرى. لكن نيتشه رفض رفضا قاطعا فكرة الحقائق الأزلية، فكل فكرة تدور في هذا الإطار "اللازماني" ليس لها معنى على الإطلاق. واتهم نيتشه "كانط" بالتعصب الأخلاقي الذي يرجع لغريزة كانط اللاهوتية، فالفضائل الأخلاقية ينبغي أن تكون من ابتكارنا، وأن تكون دفاعنا وضرورتنا الشخصية.

 

مفارقات نيتشوية:

نادى نيتشه بإرادة القوة رغم أنه كان معتل الصحة منذ طفولته، وكليل البصر، ورغم مقته للضعفاء إلا أنه كان ضعيفا بدنيا وتدهور صحته تصاعد في سنواته الأخيرة حتى فقد عقله تماما قبل وفاته بأشهر.

ولد نيتشه لأسرة دينية، فوالده كان قسيسا، ودفعته أسرته نحو كلية اللاهوت، إلا أن نيتشه – لاحقا – نصب نفسه عدوا للمسيح، وكانت أجراس الكنائس تزعجه وهو القائل: "أكل هذه الضجة من أجل يهودي صلب منذ ألفي عام!"، وكان مبغضا للنساء وأهم نصائحه في هذا السياق أن لاتقابل امرأة إلا في يدك السوط، لكن فشله في حكاياته الغرامية – فيما يبدو – أسهم في خلق هذه الصورة السوداوية، علما أن المرأة التي وقفت بجانبه طيلة حياته وأسهمت من بعد مماته على نشر مؤلفاته هي شقيقته اليزابيث!

كتب نيتشه ذات يوم إلى شقيقته اليزابيث بينما كان عاكفا على كتابة الأجزاء الأخيرة من كتابه الأثير "هكذا تكلم زرادشت": "سأقيم الحواجز حول أفكاري لئلا تدوس الخنازير بستاني، وفي جملة الخنازير أولئك الثقلاء المعجبون بي بلا فهم!" وما أكثرهم يانيتشه!

وإذا وصفنا نيتشه بجنون العظمة فلن نجانب الحقيقة ولو أردنا دليلا كاشفا لمقدار تأليه الذات عنده لكانت إحدى رساله لشقيقته مؤيدة تماما لما ذهبنا إليه، إذ يقول فيها بكل شموخ وترفع وكبرياء وصلافة: "يبدو أنكِ لستِ على وعي بواقعة أنكِ القريب المباشر لرجل كُتب عليه أن يقرر مصير الآلاف من السنين – وإن شئتِ الدقة – فأنا أقبض على مستقبل الجنس البشري في يدي!" وكانت هذه من آخريات رسائله قبل أن يسقط صريعا للجنون!

علما أن أهم كتبه تأثيرا وهو "أصل نشأة الأخلاق" ألفه في حالة يرثى لها، وذلك عندما كان مدمنا لعقار (الأفيون) الذي كان يتناوله للتخفيف من ألمه وصعوبة الشعور بالنعاس. وفي رسالة أخرى يبدو فيها جنون العظمة طافحا وقد وجهت إلى برانديز وشترندربرج، وكانت بعد انتهائه من آخر كتبه "هو ذا الإنسان" يقول في رسالته: "سأكون المخلص الجديد الذي ينتزع التاريخ والبشرية معا من قبضة المسيح!"

 

الخلاصة:

يقول اميل فاكيه عن نيتشه: "ما من مفكر أشدُ اخلاصا من نيتشه إذ لم يبلغ أحدٌ قبله ما وصل إليه وهو يسبر الأغوار في طلب الحقيقة دون أن يبالي بما يعترض سبيله من مصاعب، لأنه ما كان ليرتاع من اصطدامه بالفجائع في قرارتها أو من من انتهائه إلى لا شيء" لا شك أن نيتشه اختلفنا معه أم اتفقنا، ليس بعيدا عن تصور فاكيه، فقد كان نيتشه مخلصا لأفكاره أشد الإخلاص ولم يبالِ قط بردة الأفعال المناهضة لأفكاره التي آمن بها إيمانا كبيرا – وأكاد أقول مطلقا – وبالرغم مما يبدو في أفكاره وتعاليمه من غرور وصَلف، إلا أن ذلك لم يمنعه من الثورة على أفكاره الخاصة التي تبناها في بداياته، فأنه يسبر الأفاق بحثا عن حقيقته، فيؤمن اليوم بها ويكذبها غدا، فلا عقيدة ثابتة عنده، ولا السعادة غاية الحقائق، فلربما كانت المأساة كامنة في الحقائق التي يُخشى مقاربتها.

إن حقيقة الإنسان التي جدّ نيتشه في البحث عنها هو من يصنع خيره وشره بذاته المتفوقة وكما يقول "إنَّ لا مكتشفَ لحقيقة ذاته إلا من يهتف: هذا هو خيري وهذا هو شري فيُخرس الخلد والقزم بأن الخير خيرٌ للكل والشرّ شرٌ للجميع". ومن يزعم هذا الزعم، لا تظنه سيأتيك بشرعة بديلة تقوم مقام الشرائع التي ثار عليها ساخطا، وإنما يطمح لخلق إنسان يصنع الشرائع بذاته المتفوقة لا أن يكون انعكاسا هزيلا لقيم متجاوزة أورثته الذل والمسكنة وحطمت في ذاته عزيمته وإرادته الحرة كما كان يردد دائما وأبدا.

هنا تبدو ردة فعل نيتشه المناهضة لسطوة الكنيسة على عقول الأتباع والمؤمنين واضحة. وهذا الضعف المسيحي الذي وجده نيتشه أسهم في تطرفه مع إنسانه المتفوق، بيد أن البديل للمجتمع المسيحي الذي يطمح نيتشه لتكوينه هو مجتمع يسود فيه المتفوقون الذين يحددون ماهية الخير والشر، ولو ولد نيتشه في هذا العالم الفنتازي لكان أول ضحاياه " دون إمهال" كما كان العلماء ضحايا للكنيسة ومحاكم التفتيش في القرون الوسطى.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً