أحدث المقالات

حول الإشكالات النفسية للشخصية الإسلامية ودورها في إذكاء التخلف

د.  أحمد محمد اللويمي(*)

(a)

(b)     مقدمة

الحياة في مظهرها العام لا ترتبط بحركة الزمن في دوران الليل والنهار، بل ما يشكل مظهر الحياة ويحدد طبيعتها وجوهرها هو القدر الذي يمتلكه الإنسان من عمق وإدراك مفاهيم الحياة. فليس بُعْد الحداثة والقدم الحقيقي ما تنقله أحداث التاريخ بقدر ما يرسمه الإنسان من طبيعة الفهم والقيم والإدراك لتفاصيلها. ويبرز التجديد مرتبطاً بالزمن بالقدر الذي يدركه الإنسان من الحاجة لأعمال أدوات جديدة وقراءات مستحدثة لوجوده في الحياة وعلاقته مع كافة مناحيها. ويظهر جلياً أن التجديد إفراز لإدراك الحاجة في حركة الزمن إلى التحول والتبدل والتغير للتوافق مع متطلبات المرحلة. فالزمن المجرد دون الإدراك لإفرازاته لأعمال الأدوات الفاعلة المتمثلة في الحاجة لا يفرز تجديداً، ولا يخلق حاجة إلى التبدُّل والتحول. ولعل من أهم الجوانب التي تعكسها نظرية داروين في التطور والارتقاء ذات الصلة بمفهوم التجديد ما تشير إليه النظرية حول مفهوم الانتقاء الطبيعي (Natural Selection)، والتي تؤكد على الحاجة إلى التحول للتأقلم مع المتغيرات الطبيعية، وذلك لاكتساب قابليات وملكات جديدة قادرة على الاستمرار في البيئة الجديدة، للاستفادة القصوى من قدراتها وطاقاتها. وأما ما يتعلق بمفهوم التجديد وحدوده وأقاليمه وأدواته فذلك أمرٌ شاسع لا تستوعبه أسطر هذه الدراسة، وإنما الحدّ الذي تطمح إليه هذه الدراسة هو قراءة في بعض ملامح التجديد للقراءة الدينية لمفهوم الإنسان في النص الديني، من خلال ما تمظهر في التجربة الثرية والطويلة الباع في هذا المضمار للعلامة السيد محمد حسين فضل الله&، حيث شُغل بتقديم قراءة علمية نفسية للإنسان المسلم الراهن وما تختلجه من إشكالات وعوائق تمنعه من بلوغ ما أراده النص من صناعة له وتشكُّل.

إن أية محاولة تجديدية لتقديم أدوات قراءة مستحدثة، أو ما ينجب من هذه القراءات، لابد أن ينتهي إلى تنوُّع في الرؤى وتعدُّد في المدارس. وهكذا تبقى الحياة متنوعة تفرز من ما ينجبه التجديد التعدد، ليخلق تلك الصور الجميلة من التنوع، ليتجلى في أبهى صورة في ذلك التعدد الفكري الواسع المنحدر من قراءة النص الديني.

تقدِّم هذه الدراسة لمحة من مفهوم التجديد وأشكاله، ومن ثم بعض الجوانب عن مفهوم التعددية، ومن ثم قراءة للمنهج التجديدي لكلٍّ من العلامة فضل الله& والعلامة الفضلي.

(c)      التجديد في اللغة

«الجِدَّة: نَقِيض البِلى؛ يقال: شيءٌ جديد. جدَّ الثوبُ والشيءُ يجِدُّ، بالكسر، صار جديداً، وهو نقيض الخَلَق… وتجدَّد الشيءُ: صار جديداً. وأَجدَّه وجَدَّده واسْتَجَدَّه أَي صيَّرَهُ جديداً»([1]).

 

(d)     مصطلح التجديد

يؤصل مفهوم التجديد بما جاء في قول الرسول| في حديثه: «إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها»([2]).

أحد مفاهيم التجديد الواردة في كتب العصور الأولى يعني الإحياء، كما أشار إلى ذلك عبد الرحمن الحاج إبراهيم في بحثه (مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي)([3]) فقال: «الإحياء: يظهر تفسير التجديد هنا بمعنى إحياء ما اندرس من السنة أو (إحياء الدين) عندما تكون تحديات العصر الكبرى التي وجد المفسر فيها من النوع الذي يهدد الكيان الإسلامي على مستوى عقائده ومجتمعاته وأخلاقياته وقيمه على نحو كلي. ولعل هذا التفسير هو أول ما وردنا عن التعريف بمفهوم هذا المصطلح في كل شروح السنة الشريفة، وهو قول الزهري&، التابعي الجليل، الذي يفهم من وصفه للخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز بمجدِّد القرن الأول([4]).

ونجد هذا أيضاً عند ابن الأثير، إذ يقول: «فالأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعة من الأكابر المشهورين على رأس مئة سنة يجددون للناس دينهم ويحفظون مذاهبهم التي قلدوا فيها مجتهديهم وأئمتهم»([5]).

وأما مفهوم مصطلح التجديد في واقع ما تمارسه القراءات المعاصرة فيمكن الرجوع إلى الدراسة المستفيضة حول المفاهيم المتعددة للتجديد، إلى مقال حمدوشي([6]). ويذهب حب الله في بحثه (مشروعية تجديد الفكر الديني) إلى أن التجديد هو «محاولة جادة لإضفاء عناصر لم تكن موجودة من قبل على كيان كان وما يزال له وجوده. بهذه الطريقة يكون هذا الكيان قد جُدِّد، سواء حصل التجديد في حذف بعض عناصر الكيان السابق أم في إضافة عناصر أخرى جديدة أم في إعادة ترتيب العناصر نفسها، وسواء كان ذلك في الشكل أم المضمون أم في المنهج الذي يحكم محل العناصر أو الوصول إليها. لكن لا يحصل التجديد بإحداث كيان جديد محل الكيان القائم القديم. فتجديد الفقه الإسلامي ـ مثلاً ـ شيء، والإتيان بفقه جديد شيء آخر»([7]).

ويتضح من خلال ما جاء في مفهوم التجديد في بُعده الكلاسيكي في كتب المصدر الأولى، وما يزاوله المجددون المعاصرون، أن التجديد لا يعني استئصال الأصل واستبداله بجديد، بل هو محاوله لاستبدال أدوات وتحديث أخرى تعين على الكشف عن أبعاد غير مطروقة في النص، والعمل على الارتفاع بالفهم له إلى مستوى يلتقي وتلبية الاحتياجات المعاصرة له. فالتجديد بشكل أبسط هو تحديث لفهم النص، وتقريب لتطبيقاته الموافقة لاحتياجات العصر.

(e)      أبعاد التجديد وحدوده

إن من ضرورات التجديد سعة الدراية والاطلاع على الأدوات المتاحة لقراءة النص. فالدعوة للتجديد لا يمكن أن تتخذ مسارها إلا من خلال تفحص قيمة وفاعلية وتأثير المتاح من التراث. فالتجديد في بعده الترميمي لأدوات القراءة أو الاستبدال يتحرك بحجم ما تستطيع هذه الأدوات من استيعاب متطلبات التحول، ومقدار الضغط الذي يمارسه الواقع في استنطاق النص. والتجديد في استبدال أو تأسيس أدوات القراءة يعتمد أيضاً على حجم ما تمتلكه الحركة التجديدية من رؤية وأفق للواقع؛ لأن الرؤية التجديدية تستبطن في ذاتها حراكاً إصلاحياً، لا نشاطاً أكاديمياً مجرداً. وبما أن الإصلاح يستلزم طرفين مهمين، هما: (النظرة)؛ و(الرؤية)، كما يؤكد على ذلك العارف الكبير مولانا جلال الدين الرومي، فالنظرة تحدِّد أفق الاطلاع وحجم ما يمتلكه المجدِّد من شمولية في الواقع ومتطلباته، والرؤية يراد بها قدرة وصلابة ما تحمله الحركة التجديدية من كفاءات تنويرية في إماطة اللثام عن جوانب النص الكفيلة بتلبية الاحتياجات الملحة التي استلزمت التجديد بادئ ذي بدء. إن نجاح منهجية التجديد مرتبطبما تملكه من هذين الجانبين، وهما: دراية الاطلاع على التراث الديني من حيث قدرته وكفاءته في تلبية احتياجات التطور والنمو الحضاري، ومن جهة أخرى ما تمتلكه الحركة التجديدية من وضوح ورسوخ في منهجها التجديدي، حيث يمنع الأول من توغل التجديد في الدين نفسه، ويحصره في فهم نصه، والآخر يحصن من الضياع والتيه في حركه تجديدية فاقدة للوجهة والأبعاد. كما يشخصه حب الله في بيان حدود وأدوات المنهج التجديدي، فيقول: «أما الاستبدال الراديكالي التام للمنظومة القديمة بمنظومة جديدة، وهذا هو التجديد بالحد الأعلى، فهو تجديد في الواقع، وليس تجديداً في المستبدل. لهذا كان من حق دعاة التجديد في الدين أن يطالبوا بتجديد لا يكون على حساب الدين، وإنما له، بتجديد لا يحدث قطيعة مع الدين والتراث، وإنما تواصل واتصال، بتجديد لا يعني ـ كما يقول العلامة فضل الله وآخرون ـ إسقاط القديم كله واستبداله بفكر جديد لا علاقة له به ليكون ذلك خروجاً من الإسلام ومصادر الشريعة إلى غيره، بتجديد لا يسوق إلى الاستلاب، وإنما إلى الوجود والتحقيق»([8]).

 

(f)       مشروعية التجديد

إن مبررات التجديد هي التي تؤسِّس لمشروعيته. وقوة الحجة ووضوح الحاجة تعين على تأسيس المشروعية دون أن تواجه صدود القوى السلفية المتمسكة بالأدوات التقليدية. ولعل أهم العوامل المساعدة في بناء مشروعية التجديد هو وضوح أبعاد المشروع وتفاصيله وأدواته. فلا مشروعية في حركة تجديدية غامضة، تتخبط في أهدافها، وتعاني الفقر في أدواتها. فالضرورة قد تكون دافعاً للتجربة، إلا أن المشروعية لا تتولد تلقائياً بهذا الشعور ومقدار الحاجة. ومن جانب آخر فإن طول الوقوف عند هاجس المشروعية، دون الإقدام عليه، يفوِّت الفرصة على التجديد من تقديم نماذج قادرة على بناء أسس المشروعية. «بقدر ما أطالب بالجواب عن سؤال المشروعية الذي طرحه عليّ نقاد التنوير يلح الواقع بسؤال الضرورة»([9]).

ولعل من أهم معوقات التجديد هو الفضاء الذي فيه يتولد ويتحرك. فالحرية في انفتاح التجديد في مبانيه العلمية ورموزه الفاعلة على كافة التيارات المشتغلة بالشأن الديني أساس مهم في إثبات مشروعية المشروع التجديدي. وتعد حرية التعبير في فضاء يمارس التعتيم والتدليس من أهم المشاهد الحافلة في تاريخنا الإسلامي بشكل عام، والشيعي بشكل خاص، كما نقل الشيخ حسن الصفار في مقاله الضافي([10]) الكثير من المشاهد المعبرة على ما عاناه المجددون من المحققين، كابن إدريس الحلي، في خلال رحلة تأسيس وتطور الاجتهاد الإمامي.

 

(g)      مشروعية التجديد وهاجس الهوية

من أهم الأدوات التي توظف في معركة مشروعية التجديد ما تشهده الساحة العلمية الثقافية الراهنة من تراشقات يدور مدارها حول «الهوية». إن عقلية المؤامرة تطغى في خطاب المعارضة للحركات التجديدية ورموزها، من خلال التأكيد على خطورة هذه المشاريع على أصالة الهوية الإسلامية للأمة، واعتبار هذه المشاريع الأبواب التي من خلالها تنفذ المشاريع الاستعمارية. وبالرغم من الردح الطويل الذي قطعه الخطاب التجديدي من التقدم والتطور على المستوى التنظيري والأكاديمي، كما يشير إلى ذلك الميلاد في بحثه (لماذا تأخرت مهمة تجديد الخطاب الإسلامي؟)([11])، إلا أن إحالة التجديد من التنظير إلى التطبيق مازال يواجه العوائق والصدود، وخصوصاً مع ما تشهده الساحة الإسلامية الراهنة من الحضور الطاغي للخط السلفي الأصولي الإحيائي، الذي يؤسِّس وجوده على أساس مكافحة كافة المشاريع التجديدية؛ باعتبارها خطراً على الهوية الإسلامية في بعدها الإحيائي السلفي. ويعتبر هذا المسلك السلفي كافة المشاريع التجديدية على مستوى واحد مع المخططات الاستعمارية، ويشرِّع العنف في مكافحة الرموز التجديدية التي لا تنفكّ عن مشروع جهاد المستعمر الأجنبي.

ويبقى هاجس الهوية من أهم المعوقات التي تواجه مشاريع إحالة المشروع التجديدي التنظيري إلى مشروع حياة. إن هاجس الخوف من الآخر القوي المتمثل بالحضارة الغربية من أهم المبررات التي تشحذ الدفاع المستميت لدعاة صيانة الهوية في مواجهة البرامج التجديدية التطبيقية التي تجتهد في تقديم النصوص المتوافقة واحتياجات الإنسان المسلم، الذي أضحى واقعه امتداداً معبِّراً وصارخاً للتلبس بمعطيات الحضارة الغربية. إن وهم محق الهوية الإسلامية الذي يغذي مشروع مكافحة التجديد سيبقى فاعلاً نشطاً حتى تستطيع المشاريع التجديدية تقديم نجاح يمثل اختراقاً للواقع الراهن، الذي أبسط ما يعبر عنه ازدواجية هوية المسلم بين الانتماء للإسلام والممارسة لمعطيات الحضارة الراهنة.

(h)     التجديد وموقعيته في بناء الإنسان المسلم الحضاري

أهم الإشكالات التي تلقي بظلالها على أي مشروع تجديدي هو أولوية التجديد لفهم النص أم تجديد عقلية الإنسان المتلقي لمنتجات التجديد؟ وبعبارة أخرى: هل أن إصلاح الإنسان كقاعدة أساسية في تلقي معطيات التجديد أساس يسبق أي مشروع تجديدي أم أن الاشتغال بتحديث أدوات الفهم للنصوص هو مقدَّمٌ وأساسٌ في المشروع التجديدي؟ وبعد هذا التساؤل الهاجس، الذي ما فتئ يطرح على أي مشروع تجديدي منذ المؤسِّسين الأوائل، كالسيد جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، فإن معطيات أية حركة تجديدية تترجم في بناء الإنسان الذي يعبر عن البعد الحقيقي الذي يريده الإسلام. إن ترجمة الفهم الديني في مشروع إنساني حضاري يعدّ الغاية القصوى لكافة المشاريع التجديدية، ولا يعتبر أي إدراك مجرد للنص أو كشف أعمق لأبعاده ذا قيمة إذا لم يستطع أن يؤسِّس أو يوطّى ء لنهضة إنسانية تعيد تشكيل العقلية الراكدة، وتوحِّد الهمم المبدَّدة، وتركز الغايات المبعثرة. وقد تأسَّس هذا الهاجس على سؤال واجه لعقود من الزمن ردود الفعل المختلفة، وهو: «هل تخلف المسلمون منذ أن أساؤوا فهم الدين أم أن فهمهم للدين ساء منذ أن تخلفوا؟ إن الشق الثاني من السؤال ـ كما يبدو ـ أكثر قرباً لأهداف هذا البحث، وأكثر ملاءمة لطبيعة الواقع الإسلامي، من الشق الأول، رغم أن الباحثين على مدى العقود الماضية انشغلوا بالإجابة عن الشق الأول أكثر من الثاني. إن التلازم بين التخلف وفهم الدين يدعو إلى التساؤل حول أهمية هذه الصلة. إن أهمية هذه الصلة تتجلى عند قراءة التاريخ الإسلامي في عصره الذهبي، عندما برزت الأمة الإسلامية كحضارة جديدة أنتجت بمزجها لما قبلها من الحضارات بفكرها وإنتاجها المعرفي حضارة جديدة. ما هو العامل الفاعل الذي جعل المسلم البدوي البسيط ينفتح وبكل جرأة وشجاعة وإقدام على ثقافات غاية في التعقيد والتنوع، فيهضمها، ويعيد إنتاجها ممزوجة بفكره الإسلامي الجديد؟([12]).

إن استهداف الإنسان كأولوية قصوى في أي مشروع تجديدي يفرض شكلاً من الفعل والعمل الذي يستلزم توفير قاعدة الحد الأدنى من العقلية القادرة على التعاطي مع معطيات المشروع. وقد ذهب الكثير من المجددين الأوائل إلى التركيز على الحس الديني الذي يثير روح العزة والكرامة عند المسلمين لخلق حركة جماهيرية متعاطفة مع المشروع التجديدي. وبالرغم من ذلك تبقى هذه الأدوات في حشد القوى المتعاطفة قاصرة عن المساندة حال دخول المشروع أبعاده التصحيحية المتعلِّقة بالمأنوسات والمألوفات عند الطبقة العريضة من الجماهير. ذلك ما أشار إليه بشكل واضح الدكتور عبدالكريم سروش في معرض تحليله للحركة الإصلاحية للسيد جمال الدين الأفغاني، فقال: «لقد أصبح أكثر قناعة وإصراراً لدى المصلحين الدينين أن الإدراك الصحيح للدين وتبليغه السليم للجماهير هو المسار الذي يعزز من حركتهم. لقد خط هذا المنهج الفكري كلٌّ من محمد عبده وشريعتي وإقبال، الذي واجه شيئاً فشيئاً الصعاب والعقبات. إن الحركة السياسية وما قد يترتب عليها من نصر سياسي أكثر وضوحاً للعيان ووقعاً على النفوس، إلا أن الحركة الفكرية لا تتمتع بذات الواقع، ولا ذلك الوضوح».«إن أصعب الصعاب في المجتمعات الدينية هو البيان المستند إلى التحقيق العلمي والدراية الدينية. ويواجه المفكِّرون الكثير من القيود المعيقة لحركتهم؛ لأن الإيمان القائم على التحقيق واليقين في هذه المجتمعات غاية في الصعوبة، على عكس ما يناله التدين التقليدي من اليسر والسهولة؛ لأن التحقيق بين المقلِّدين عقبة كؤود»([13]).

وهكذا فإن مسار الحركة التجديدية يتمثل في مقاربتها للواقع من خلال ما تؤسسه من طبقة واعية مؤمنة لمعطياتها، وما تحِّققه من نصر في هذا الجانب يمهد لمشروعيتها، ويؤسِّس لتجذرها.

(i)        الشخصية الإسلامية في المشروع التجديدي للسيد فضل الله

منذ الحملة الفرنسية على مصر عام (1798م)، التي أدت إلى إطلاق الشرارة الأولى للنهضة العربية المعاصرة، والمشاريع التجديدية تتوالى في رسم ملامح المجتمع العربي الإسلامي الجديد، الذي ينهض من ركام تخلُّفه، ويغادر عثرته، من خلال تشخيص وتحليل أسباب التخلف، انطلاقاً للنهوض، ومبادرة للاستـشفاء من هذا الداء العضال الذي أركع الأمة بعد شموخها. إلا أن المشاريع التجديدية لم تفضِ إلى نتائج ثورية، بل إن مشروع النهضة وجد نفسه أمام مسيرة أطول وصعاب أعقد ممّا قطع به الماضي، حيث ركام تخلف الماضي وآثار الحاضر الذي خلفها الاستعمار الجديد في عالمنا. فبين مشاريع التغريب التي رأى المفكِّرون الجدد فيها الخلاص من ربقة التخلف، وبصيص الأمل في أحضان المنتج الغربي (فكرة وتقنية)، ومشاريع التأصيل التي وجدت الخلاص في مشروع إحيائي يعيد ربط الأمة بسلفها الصالح وثقافتها الإسلامية الأصيلة النقية، تقاسمت القيادة على دفة النهضة الحديثة. ومع ذلك مازال الضياع أكثر شهوداً من الخلاص، ولاسيما في ظل هذا النشوز الذي يخدش صورة الإسلام وروح المسلم، ألا وهو التعصب المرتسم في هذه الأصولية السلفية الجهادية القاسية الخشنة، التي تشرعن القتل، وتؤسِّس للدمار والتخلف.

ويعتبر السيد فضل الله من الخطوط الأمامية في العقود الأربعة الأخيرة من هذا العصر التي حملت مسؤولية المثقَّف الفقيه؛ لنقل الفكر من بيت الفتوى إلى ساحة الإصلاح والتجديد، مساهماً في هذه المسيرة من النهضة، ومشاركاً في تلمس مكامن الخطأ وتحديد دروب الخروج؛ لشفاء الأمة من تخلفها. وقد انتهج السيد فضل الله مشروعاً مبتكراً، وزاوية قد تجعل الاقتراب من تشخيص مشكلة التخلف للمسلم اليوم إضافة نوعية للمشروع الفكري التجديدي الذي يخوضه المفكِّر المسلم اليوم. وقد اختطّ السيد فضل الله في قراءة الشخصية الإسلامية منهجاً أبستمولوجياً يستند إلى أدوات التحليل النفسي في تشخيص الانفعالات النفسية التي تفرز مظاهر التخلف([14]). وقد تفضل الأستاذ الفاضل أحمد الخلف، طالب الدكتوراه في علم النفس السريري في جامعة بليموث في بريطانيا، بإيراد التعليقات ذات الصلة في موقعها. وقد تم توظيف المنهج الأبستمولوجي([15]) لتشخيص البنية التحتية التي يتأسس عليها التخلف في كثير من المناهج التجديدية للمفكِّرين العرب؛ حيث استند المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري على قراءة العقل العربي في مشروعه التجديدي؛ وذهب المفكر المغربي محمد عابد الجابري إلى تأصيل التجديد من خلال قراءة التراث الديني الإسلامي وأبعاده المؤثرة في البنية الفكرية الإسلامية.

ويمكن توصيف ملامح المشروع النفسي للسيد فضل الله من خلال المفاهيم التالية:

1ـ المنهج النفسي التحليلي لقراءة مكامن الخلل في الشخصية الإسلامية.

2ـ الاستشفاء من التخلف عبر إعادة التأهيل النفسي.

(j)        1ـ المنهج النفسي التحليلي لقراءة مكامن الخلل في الشخصية الإسلامية

عبر رحلة طويلة من التأليف والمشاركات الفاعلة في المشاريع الثقافية ترك السيد فضل الله تجربه ثريّة وزاخرة بمشروعه التجديدي المستند إلى القراءة التحليلية لنفسية الشخصية الإسلامية الراهنة. وقد جاءت في هيئة مقالات وحوارات مجموعة في كتب مهمة، منها: (موسوعة من وحي القرآن)؛ (مع الحكمة في خط الإسلام)؛ (قضايانا على ضوء الإسلام)؛ (خطوات على الطريق)؛ (المدنس والمقدس)؛ (للإنسان والحياة)؛ (منطق القوة في الإسلام). ومن محاضراته المهمة في هذا الجانب: (بين حرية الفكر وهيمنة التعصب)؛ (حرية التفكير تبني ثقافة فاعلة في مواجهة التحديات)؛ (الشخصية الإسلامية). وقد استندت قراءة السيد فضل الله إلى تحديد أهم سلوكيات الشخصية الإسلامية، المعبرة عن حالة الإحباط، والمفرزة لثقافة التخلف والتراجع.

(k)      ثلاثة أنماط من السلوك المتضخم في الشخصية الإسلامية

 في بحثه المهم (الشخصية الإسلامية)([16])، الذي شارك به في المؤتمر الثاني عشر لرابطة الشباب المسلم في لندن في 2/4/1978م، سلط السيد فضل الله الضوء على ثلاثة أنماط من السلوك المتضخم في الشخصية الإسلامية: أـ الروح الباكية؛ بـ الروح الانفعالية؛ج ـ الروح الخائفة المنبهرة بالواقع المنحرف.

(l)        أ ـ الروح الباكية

يقدم السيد فضل الله قراءة نفسية متأنية معلَّلة بالأسباب التي تؤدي إلى استشراء هذه المظاهر السلبية في الشخصية الإسلامية. ففي معرض وصفه للروح الباكية يقول: «فإننا نلاحظ ونشعر بأن الروح الباكية هي التي تسيطر على مشاعرنا، وتهيمن على أساليبنا وكلماتنا، فنحن نبكي حين نتطلع إلى المستقبل بعينين مغرورقتين بالدموع، ونبكي أمام قوة عوامل الانحراف المندفقة في الطريق، ونبكي من خلال السلبيات التي تواجه العاملين في جهادهم، ونبكي في محاولتنا للمقارنة بين الماضي والحاضر…. وهكذا رأينا في أدبنا، أدب الشعر والنثر.«وقد نلاحظ في بعض مجتمعاتنا الدينية أن الصورة المأساوية هي التي تتجسد في وعيهم ووجدانهم عندما تثار قضايا التضحيات التي يقدمها الأنبياء والأئمة والأولياء في سبيل رسالتهم». ويحدد في تحليله النفسي أن الآلة التي تواجه بها الحياة، وتتصارع مع تحدياتها، هي العاطفة الجياشة المنفعلة، التي توظف أداة الحزن والكآبة في مواجهة الواقع، الحزن الذي يغلب العقل والإرادة والحكمة والتوكل، ويلفّ الإنسان بستار من الضبابية التي تمنعه من قراءة الواقع ومراجعة التجربة للتعرف على أدوات النجاح والفشل فيها، حيث يشير بوضوح إلى أن الخلل في طغيان هذا السلوك العاطفي السلبي هو«أن ما نريده هو التأكد من أن البكاء ليس شأن العاملين الذين يفهمون الحياة ويواجهونها من موقع الواقع، فيندفعون إلى قضاياهم بهدوء وجدية وتخطيط، فإذا انتهت أعمالهم بالنتائج الطيبة المنتظرة على أساس الخطة الموضوعة واجهوا النجاح بروح واقعية تتلمس أسباب النجاح؛ لتستفيد منها في تحركها نحو المستقبل، وإذا انتهت أعمالهم بالفشل لم يهزمهم الفشل، ولم تصرعهم صدمة الواقع، بل وقفوا يتقبلونها بهدوء، باعتباره شيئاً طبيعياً اقتضته سنة الحياة عندما يفقد العمل بعض عناصره، أو تبرز للساحة بعض الأوضاع غير المنتظرة، ثم يبدأون في دراسة الأسباب الطبيعية للفشل؛ ليتفادوها في المستقبل».

لاشك أن البكاء من المظاهر العاطفية الإنسانية المجددة للروح والمحرِّكة للعقل، إلا أن مواجهة النوائب والمصائب والبلايا والتحديات المختلفة بالبكاء لا يترتب عليه إلا روح هزيلة منهزمة تطلب العلاج بالبكاء لكل ما تواجهه من تحديات الحياة واختباراتها. إن الوصف الذي يؤكد عليه السيد فضل الله بالروح الباكية هو إشارة إلى حالة الإفراط والخروج عن الطبيعي في توظيف هذه العاطفة، حتى تصبح آلة للهروب الثقافي عن الواقع، لا وسيلة لإعادة توازن المظاهر العاطفية المختلفة في الإنسان، كما يشير إلى ذلك أهل البيت^.

«نحاول فهم قضية العاطفة التي تدفع إلى البكاء فنواجهها بروح إيجابية تندفع مع البكاء الإيجابي، الذي ينطلق مع الأهداف المرتبطة بالواقع اليومي الذي يعايشه الإنسان في ما يحمل من هموم وآلام».

«أما عندما تكون القضية قضية الرسالات فإن على الإنسان أن لايتطلع إلى العاطفة التي تحجبه عن رؤية الواقع، بل يتحول إلى عيون تحدق في الواقع لتفهم الواقع».

(m)   ب ـ الروح الانفعالية([17])

 يصف السيد فضل الله الانفعالية الطاغية في الشخصية الإسلامية فيقول: «إننا نملك رصيداً كبيراً من الإيمان والمعرفة بعقيدة الإسلام وشريعته، ولكننا نخضع للأجواء الانفعالية الضاغطة التي تغرقنا في الحماسة المجنونة في أغلب الحالات».

«إننا نرفض أن يكون الانفعال كل رصيدنا في مواجهة الواقع، فينطلق في حياتنا كأساس وحيد للتحرك، من دون أية انطلاقة عقلانية تدرس الواقع في ظروفه الموضوعية المحيطة به».

إن حالة الانفعال المفرطة التي تصل في بعض جوانبها إلى حالة من الجنون وردّة الفعل غير المقننة أصبحت سمة من سمات المجتمعات الإسلامية. وأصبح الانفعال الذي يحرك العاطفة في ثورة من الغضب العارم الأداة المهيمنة للإنسان المسلم الذي يواجه بها قضاياه المصيرية والضغوط التي تمارسها القوى المختلفة. إن أدوات المكر والعقلنة في معالجتنا في المواجهات الحضارية التي تعيشها الأمة اليوم أصبحت من مفردات قاموس الجبن والخوف والاستسلام. والمسلم اليوم في ما يمارس من صراخ يصكّ أسماع العالم أنموذجٌ حيٌّ لقول الإمام علي×: «لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه». إن الانفعال المفرط تترتَّب عليه تبعات وعواقب جمّة تعطِّل الأمة عن الإعداد لمشروع طويل الأمد محكم الإعداد في بناء قدراتها وتنمية إمكاناتها.

«إن ما نريده هو أن لا نتحول إلى أناس يقعون صرعى عدم وضوح الرؤية، وعدم التخطيط الذي يربط البداية بالنهاية؛ لأن صرعة الاسترسال لا تستقال ـ كما يقول الإمام علي× ـ، بينما يمكن للإنسان الذي يتعثر في العقبات المفروضة أو التحديات المحسوبة أن يقوم من عثرته ليواصل السير من جديد».

(n)     ج ـ الروح الخائفة المنبهرة بالواقع المنحرف([18])

«الشعور بالتضاؤل أمام الحضارة الأوروبية أو القوى الغاشمة التي تقف ضد الإسلام. وقد تحول هذا الانبهار إلى شعور بالخوف». ويؤسِّس السيد فضل الله هذا التحليل على ظاهرة الجهل التي تفرز هذا الخوف، حيث الجهل بالعناصر والأسباب التي أفرزت هذه القوة، وخلقت هذه السطوة. فالجهل يفرز الانبهار، وعلى أساس هذا وذاك يتأسس الخوف من هذه القوه الطاغية الغاشمة.

إنها نوع جديد من الحرب تترك بعناصرها في صناعة الخوف والهزيمة من خلال الإعلام المدجَّج بثقافة الصورة والبث المكثَّف. إنها حرب الانهزام من خلال توظيف التقنية الإعلامية الحديثة التي تبث في مفاصل الأمم الاسترخاء والاستسلام من خلال أدواتها الخفية التي تصنع الانبهار وتؤكِّد الاستسلام. هكذا تتسرب القناعات وتصنع الثقافات الجديدة دون مقاومة أو ممانعة. ويدعم سماحته استعراضه لهذا اللون من الأدوات بما تعرَّض له الإسلام في مراحله الأولى من موجة عارمة من أدوات التهويل والتخويف التي انطلقت من قريش في وجه دعوة النبي، كما يشير سماحته إلى ذلك في معرض تحليل أدوات التهويل والتخويف، وبيان منهج النبي في مواجهتها وإبطالها.

إن الأنماط الثلاثة البارزة في الشخصية الإسلامية التي أكد عليها السيد فضل الله هي تعبير صارخ عن غياب الموضوعية في السلوك. غياب الموضوعية يعني انفراط العقد بين العقل والعاطفة والإيمان. يقول&: «كلمة الموضوعية تختصر ذلك كله، سواء في دائرة الفكر المتنوع أو في دائرة العلاقة مع الآخر»([19]). ويبين السيد فضل الله نتاج وإفرازات غياب الموضوعية على الأمة فيقول: «مشكلتنا في عالمنا الإسلامي هي أن حركتنا في أكثر الاتجاهات الطائفية والحزبية والقيادية كانت ـ ولا تزال ـ خاضعة للعاطفة والانفعال والانحراف عن خط الموضوعية في حركة الفكر والممارسة. فهناك ظلم للخصم، وبُعْد عن العدل مع القريب. فالعدو ـ في نظرنا ـ على باطل دائماً، حتى لو كان الحق معه، والصديق ـ في نظرنا ـ على حقّ دائماً، حتى لوكان الحقّ ضده؛ لأن التربية تركز على التعصب لا على الالتزام، وعلى الفئوية لا على الإسلامية. وهذا هو الذي أدى إلى فقدان الحوار الهادى ء والانفتاح الموضوعي على الواقع بطريقة ميدانية واقعية»([20]).

(o)     2ـ الاستشفاء من التخلف عبر إعادة التأهيل النفسي

ما هي البنية التي تأسست عليها الشخصية الإسلامية التي تزاول الحزن والبكاء، أو الخوف والانبهار، أو الانفعال؟ وما هي العناصر النفسية التي تغذي هذا الشكل من السلوك؟ ويشخص السيد فضل الله المسبِّبات المرضية النفسية من خلال بيان ما يفترض أن تكون عليه الشخصية الإسلامية([21]):

أولاً: الإيمان بالله وصلته بتكوين الشخصية الإسلامية.

وثانياً: دور الحكمة في تحديد مكونات الوعي للواقع والذات.

(p)     أ ـ الإيمان بالله وصلته بتكوين الشخصية الإسلامية

تعد التربية الإيمانية الإسلامية أحد أهم المكونات الإسلامية التي تساهم في صناعة الشخصية الإسلامية الواعدة. إن ما حدَّده السيد فضل الله من المعوقات السلوكية التي تمنع الشخصية الإسلامية من التعبير عن وجودها الفاعل في الحياة هو طبيعة الثقافة الفكرية والسلوك التربوي الذي ألفته الشخصية الإسلامية الراهنة، والتي يمكن تلخيص أهم ملامحها السلبية في ما يلي([22]):

1ـ المنهج التعليمي الديني القائم على أساس التلقين المقدَّس، الذي يحظِّر على العقل التحليل والنقد.

2ـ استفحال ظاهرة التعليم الفقهي، الذي يسيج الحركة الإيمانية للشخصية الإسلامية بإطار شرعي فقهي جافّ يمنع أو يعرقل تحضير الشخصية للولوج إلى عالم التجربة الدينية من خلال أدوات العرفان والسلوك.

3ـ التربية الدينية المفتقرة إلى بنية إيمانية قادرة على مواجهة الواقع بكلّ تداعياته وأبعاده وتفاصيله.

ويؤسِّس السيد فضل الله ـ على أساس ما تمَّت الإشارة إليه ـلما يفترض أن تكون عليه طبيعة الشخصية الإسلامية المتفاعلة مع محيطها، فيقول: «لا يعود الإيمان مجرد خلجات في المشاعر وخطرات في الأفكار، بل ينطلق ليكون موقفاً متحركاً في اتجاهين: اتجاه يبني النفس على الأسس الروحية الأخلاقية الصحية، لتكون مثالاً للشخصية الإسلامية الصابرة على تحديات نوازعها الذاتية الغريزية في أوضاعها المنحرفة؛ واتجاه يطلق الشخصية في مواجهة الشخصيات غير الإسلامية في أجواء الصراع الفكري الذي يثير الشبهات ويخلق الانحرافات»([23]).

إن الإيمان هو تداخل السلوك والعقل، وإن الفعل نتاج للرشد الذي بلغه الإيمان من تفاعل هذا وذاك. فالإيمان المنفصم عن العقل عبادة الهمج الرعاع الذي يغيب العقل عنهم وينطلق سلوكاً مجرداً. والإيمان الذي يحتكر العقل لاينجب إلا سلوكاً متعجرفاً متمرِّداً. إذاً فالإيمان ـ كما يشير السيد فضل الله ـ ليس خلجات المشاعر أو خطرات الأفكار، بل هو الرشد الذي بلغته النفس في الغلبة على نوازعها، والتفوق الفكري هو ثبات الإيمان وتفوقه على الشبهات والانحرافات. إن الإيمان في بعده النفسي والعقلي لا يتجلى إلا في ميدان الفعل والعمل ـ كما يؤكد سماحته في أبعاد صناعة الشخصية الإسلامية ـ من خلال توسع مفهوم البر والإحسان، ودورهما في تعميق هذه الشخصية. يقول&: «إن في الفكر خيراً وشراً، تماماً كما هو العمل خير وشر، بل ربما كان الأساس في البر العملي البر الفكري والعقيدي؛ لأنه هو الذي يعطي العمل دافعه ونوازعه، وهو الذي يحدد مضمونه وطبيعته. ولهذا انطلق القرآن ليحدد للإنسان شخصيته من خلال تجديد ملامحه الفكرية والعلمية، فلم يكتفِ بالعمل وحده في مجال التقييم، بعيداً عن الإيمان، كما لم يكتفِ بالإيمان بعيداً عن العمل. فبالإيمان والعمل تتكامل الشخصية وتنطلق»([24]).

وتتلخص هذه التجربة التجديدية في معالجة المعوقات النفسية للشخصية الإسلامية في أحد جوانبها؛ للعودة إلى مكونات الإيمان اللازم للشخصية الإسلامية، والأدوات التي تؤسس ذلك. وحجر الزاوية في أن البناء السليم للشخصية الإسلامية لا يتأتّى بمعزل عن دفعها إلى معترك الحياة، فهي البوتقة التي فيها يصهر الإيمان ويتشكَّل.

(q)     ب ـ دور الحكمة في تحديد مكونات الوعي للواقع والذات

إن الحكمة والوعي هما المعتمد الأساس في بناء الشخصية الإسلامية؛ لإخراجها ممّا تعاني من التخلف والتراجع. الحكمة هي انعكاس لتبلور ركام التجربة لتتولد إرادة مجسدة تقود وتحرك الشخصية الواثقة. يتحرك السيد فضل الله في تجديد هذا المفهوم في بُعد يتعدى الوصف العام والتصوير الفلسفي له. إن حجر الزاوية في مشروعه التجديدي هو رسم ملامح الحكمة في بُعدها التطبيقي، بعد استيفاء معانيها وتفاصيلها العلمية. يستلهم من هذا المشروع قراءته المتأنية لخطاب الوحي ولسان المصطفى وتجربة الرسالة في بُعدها التطبيقي، والقراءة المتفحِّصة لبيئة الأزمة والتخلُّف، التي تفرز الراهن من أحوال الأمة، وتخرج التفاصيل في وصف جامع بين المعنى الثقافي الفلسفي للحكمة والمعنى الحركي التطبيقي لها. ففي معرض بحثه الذي يؤسس من خلاله طرفي معادلة الحكمة النظرية والحركية، وهو بعنوان (دور الحكمة في القران الكريم)([25])، يلقي الضوء على عدة أساسيات مهمة، منها:

1ـ معنى الحكمة في اللغة والخطاب القرآني.

2ـ المقاربة بين دعوة الوحي للحكمة وتطبيقاتها المرجوة.

3ـ دواعي المشروع القرآني في الحثّ المستفيض على الحكمة.

(r)      الحكمة في اللغة

يبدأ بحثه بقوله: تاج العروس: العلم بحقائق الأشياء والعمل بمقتضاها، ولهذا انقسمت إلى علمية وعملية. ويقال: هي هيئة القوة العقلية العلمية، وهذه هي الحكمة الإلهية. وفي مقاربته بين الحكمة النظرية وتأثيرها على السلوك يقول: «وقد يظهر من بعض الآيات أن الحكمة هي تعبير عن حالة الوعي الذاتية الكامنة في داخل الإنسان، التي تتيح له الرؤية الواضحة للأشياء، فتدفعه إلى التصرف السليم والرأي السديد. وهذا ما نتمثَّله في قصة لقمان، الذي لم يكن من الأنبياء في أغلب الظن، بل كان إنساناً سديد الرأي، ثاقب النظرة، صالح العمل، في ما ينقله لنا القصص الديني: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَة أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(لقمان: 12). «وقد يلوح لنا أن ذلك هو معنى الحكمة، بل المراد بها هو نفس المعنى الذي استوحيناه من الآيات السابقة، وهو المضمون الفكري الذي يتحرك في العقل فيحقِّق النظرة الصائبة إلى الأمور، ويتحرك في الواقع فيحقق الموقف العلمي الصحيح… ومن الطبيعي أن مثل هذا المضمون يحقق للشخص الأفق الواسع والجو الهادئ الذي يوحي له بالمواجهة الواقعية للأشياء»([26]).

و قد لا يكون في ما أشير إليه من جديد في أهمية التلاحم بين الحكمة النظرية وبعدها الحركي، ولكن تكمن القيمة في ما يؤكد عليه السيد فضل الله من خلال استحضار مفهوم الحكمة في مصطلح العقل في الكثير من قراءاته، وهو يقدم النماذج تلو الأخرى من الأزمات، التي لم تكن إلا نتيجة استفحال الغيبوبة التامة للعقل، أو سلطة العقل الأجوف المعزول عن مصادر الإيمان التي تغذيه بتفاصيل الثبات ورؤية تشق ظلم الجهل والنقص. إن المعيار الذي يستند إليه هو أن العقل الحكيم لا يتأتى إلا من خلال الإيمان الواعي الذي تمّت الإشارة إليه في الفقرة السابقة. فالعقلنة لحركة الإنسان حركة متبادلة بين الإيمان والحراك في الحياة، فكلٌّ يغذي الآخر، كما أشار إلى ذلك في بحثه (عقلنة الحياة)([27])، فقال: «إن علينا أن نعقلن وعينا للدين وتصورنا له من خلال الفهم العقلاني الثقافي المتوازن، الذي يجعلنا نفهم الدين بجذوره العقلية والفكرية. نحن لا نعتبر الإيمان فوق العقل، كما يعتبره بعض أتباع الديانات، بل إن العقل هو الذي ينتج الإيمان، ولا عمق لإيمان لا يرتكز على العقل».

ويرى السيد فضل الله أن أسباب الأزمة التي تعيشها الأمة، والتي تفرزها النماذج السلوكية التي تمت الإشارة إليها سابقاً، هي جذور هذا العنف والأصولية العمياء، وهذا التعصب، والفوضى في التراشق بين فئات الأمة في النيل من دينها. وإنّ الاستشفاء من هذا هو في إعادة بناء الإيمان في بعده العقلي، وتعزيز الحكمة الحركية التي تتغذى من الإيمان وتغذِّيه. وقد نظر وأسس في محاولة تجديدية مضنية، فيما لا يحصر من المقالات والأنشطة. وقد كان هو& ضحية التعصُّب والتزمُّت الأعمى، الذي كافح ونافح من أجل علاجه بالحكمة والموعظة الحسنة، دون أن يتنازل عن مشروع دعوة الأمة إلى الاستشفاء بالحكمة النظرية والحركية. ولمزيد من القراءة حول هذا الجانب يرجع لقراءة (بين هيمنة التعصُّب وحرية الفكر)([28])، و(الموضوعية في خط الشخصية الإسلامية)([29]).

(s)      مشروع فضل الله التجديدي منفذ إلى صحة المجتمع النفسية

إن الأزمة الحضارية التي تعيشها الأمة في حاضرها ليست وليدة هيمنة وسيطرة الأجنبي على الأمة فحسب، بل لعل ما تفرزه عقلية وسلوك الشخصية الإسلامية من أزمات ومظاهر تخلُّف تمثل الجزء الأكبر من مكوِّنات هذه الأزمة. والحركة التجديدية التي خاضها العلامة السيد فضل الله& تسعى في توفير العلاج من خلال خلق عناصر المكافحة للمعوقات الفاعلة في طرفي معادلة تجديد الشخصية الإسلامية التي تتحمَّل أعباء التجديد الحضاري للأمة. إن أحد طرفي هذه المعادلة يكمن في التربوي المصلح الذي يؤسِّس لمعايير وقيم التجربة الإيمانية، الأشمل من معايير التفكير الجامد، بل المنفتح على الدين في آفاقه الأخلاقية والفلسفية والعرفانية. والآخر من المعادلة هو الفضاء الذي يؤهِّل الشخصية الإسلامية الراهنة القلقة للإقبال على هذا التربوي المجدِّد الباني لها. إن بناء الشخصية الإسلامية المستندة إلى الإيمان المعقلن، وسيادة روح الحكمة، والتجربة الحكيمة من حراك الأمة الحضاري، لا شك سيفضي إلى اتساع الآفاق، وتسلح الرؤى بمعايير تمكِّنها من تقديم قراءات ومفاهيم متنوعة عن نظرتها إلى دور الدين في الحياة، وأيضاً سيساهم ذلك في تغذية تجربتها الدينية.

إن التنوع الديني في الفهم والممارسة طبيعي في مجتمع الحكمة والإيمان المعقلن، وظاهرة صحية تفضي إلى سقوط احتكار الفهم وممارسة التجربة للدين. إن التنوُّع المنشود في هذه الصور لا يعني الفوضى الدينية، بل الجانب المشرق من هذا التعدد هو ارتقاء القدرة والقابلية للشخصية الإسلامية في التعاطي مع قضاياها ومفاهيمها الدينية، على أساس الحكمة التي تحصنها من الوقوع فريسة التزمُّت، وطعماً سهلاً للمرتزقين بالدين والمعتاشين عليه: «إن التجارب الدينية متنوعة ومتعددة بعدد أفراد البشر، وكل إنسان يملك فيها نظراً خاصاً عن الله تعالى. وبعبارة عرفانية: إن الله تعالى يتجلى لكل إنسان بنحو من الأنحاء، وكل هذه التجليات محترمة ومقدَّسة، والدين الإلهي يقرِّر صحّة كل هذه التجليات بأجمعها»([30]).

إن تجديد الأسس النفسية التي تفرز هذه المظاهر المتنوعة من التخلف في الشخصية الإسلامية يعدّ مجهوداً مبتكراً نذر السيد فضل الله& له عمراً من البحث والجهاد، فعالجه من طرف بما جادت علميته الفذّة من أطروحات فكرية ورؤى شاهقة الأفق، ومن طرف آخر منافحاً عن الأمة وكيانها بحضوره الميداني في ترتيب البيت الداخلي، ومواجهاً لأعدائها المترصِّدين بها.

إن القراءة الموضوعية للشخصية الإسلامية لم تكتمل بعد، وتتطلب المزيد من البحث والتعدين، وفاءً واستكمالاً لمشروع السيد فضل الله التجديدي الفذّ.

الهوامش

(*) باحث من المملكة العربية السعودية.

([1]) ابن منظور، لسان العرب 3: 111، دار صادر، بيروت، 1412هـ، 1992م.

([2]) أخرجه أبو داوود والحاكم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 599.

([3]) عبد الرحمن الحاج إبراهيم، مفهوم التجديد في الفكر الإسلامي www.Islam web.net، يوم الأربعاء 4/7/2001.

([4]) انظر: معالي محمد بن درس ابن حجر العسقلاني في توالي التأسيس: 4، تحقيق: عبد الله القاضي، بيروت، دار الكتب العلمية، ط 1986.

([5]) جامع الأصول، تحقيق الأرناؤوط 11: 321.

([6]) الحسن حمدوشي، التجديد الفكري: قراءة في المفهوم، مجلة الكلمة، العدد (50)، 2006 ـ 1427.

([7]) حيدر حب الله، مشروعية تجديد الفكر الديني، مدارك (إسلام أون لاين)، 25/3/2009.

([8]) المصدر السابق.

([9]) المصدر السابق

([10]) حسن الصفار، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، مجلة الاجتهاد والتجديد، العدد الأول، 2006 ـ 1426.

([11]) زكي الميلاد، موقع العلم والدين www.Scienceislam.

([12]) أحمد محمد اللويمي، التحولات الفكرية والاجتماعية في الأحساء.

([13]) عبدالكريم سروش، مدارا ومديريت (سيد جمال وإحياء إسلام)، الطبعة الثانية، مؤسسة فرهنگي صراط، 1385هـ. ش.

([14]) الأدوات المستخدمة من خلال الدمج بين المدارس الثلاث الحديثة في علم النفس: المدرسة السلوكية؛ والمدرسة المعرفية؛ والمدرسة الإنسانية، وربطها، والنظر إليها بإطار ديني.

([15]) الأبستمولوجيا: هي العلم المتخصص في درس كيفية تكوين المفاهيم وتحولها، وكيفية تبدلها بين علم وعلم، وكيفية تشكل حقل علمي، ودراسة الأحكام والقواعد التي يعاد بمقتضاها تنظيم المفاهيم للعلم.

([16]) محمد حسين فضل الله، موقع بيناتhttp: //www.bayynat.org.lb.

([17]) مصطلح الانفعالية مستقى من علم النفس الإكلينيكي (Abnormal and clinical psychology)، ويدرج تحت المدرسة المعرفية (Cognitive psychology) في علم النفس الإكلينيكي، والتي تقوم على أساس أن السلوك قائم وناتج من فكرة لدى الإنسان، وبتغيير هذه الفكرة نستطيع تغيير السلوك. ويمثل هذا المصطلح مجموعة من الإضطرابات السلوكية، والتي يكون فيها الجانب الانفعالي هو الغالب. وتتسم بغياب الجانب العقلي في السلوك الظاهري، والذي لا يتوافق مع الثقافة السائدة.

([18]) المسمى مستحدث. ولكن من خلال المعنى المذكور هنا يستند إلى المدرسة الإنسانية في علم النفس (Human Psychology)، والتي يقوم أساسها على احترام الإنسان وتقبله بدون شروط مسبقة، ومن أجل تغيير سلوكه ينبغي التعاطف معه في حال من الأحوال. والمؤسسين لهذه المدرسة كارل روجرز وماسلو. وقد ركزت هذه المدرسة على مفهوم الذات، والذي يعتبر أساساً لتوكيد الذات وإثباتها، وكيف تتكون نظرة الدونية والسلبية لدى الإنسان من خلال العوامل البيئية. والفكرة الأساسية لهذه المدرسة أن الانسان كائن لديه القوى الكامنة التي تؤهله أن يكون إيجابياً في تفكيره وسلوكه.

([19]) محمد حسين فضل الله، الموضوعية في خط الشخصية الإسلامية، موقع بينات

http: //www.bayynat.org.lb

([20]) المصدر السابق.

([21]) مازال الحديث يدرج تحت المدرسة الإنسانية، والتي تربط الدين بتفسير السلوك. والذي يؤكد هذا بشكل واضح كارل روجرز، والذي نشأ في بيت محافظ ينتمي إلى الديانة المسيحية. بالإضافة إلى علم النفس الإسلامي الذي يصور الاضطراب النفسي بخلل العلاقة بين المخلوق والخالق. وعلى سبيل المثال: قول أمير المؤمنين×: (من أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس….إلخ)، حيث يربط توافق الإنسان مع المجتمع والمحيط البيئي بحسن علاقة المخلوق بالخالق.

([22]) تدرج هذه المعوقات تحت المدرسة السلوكية (Behavior Psychology)، التي ترى أن الإنسان كائن متعلم، كما يذكر عالمي السلوك واطسن وسكنر. بالإضافة إلى التعلم بالنمذجة، التي تنسب إلى العالم السلوكي باندورا، حيث تقوم فكرته الأساسية على أن الإنسان كائن متعلم يتحكم فيه النموذج الذي يتعامل معه من خلال الوسط البيئي الذي يتعامل معه، ومن خلال هذا النموذج يتحدد سلوك الإنسان.

([23]) محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، تفسير سورة الأنعام، الآيات 1 ــ 6.

([24]) محمد حسين فضل الله، من وحي القرآن، تفسير سورة البقرة، الآية 177.

([25]) محمد حسين فضل الله، دور الحكمة في القرآن الكريم، موقع بينات http: //www.bayynat.org.lb

([26]) المصدر السابق.

([27]) محمد حسين فضل الله، عقلنة الحياة، موقع بينات http: //www.bayynat.org.lb

([28]) موقع بينات http: //www.bayynat.org.lb

([29]) المصدر السابق.

([30]) عبدالكريم سروش، الصراطات المستقيمة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً