يعود التخلّف الفكري الَّذي يعيشه المسلمون إلى جملةٍ من الأسباب، منها الممارسات الخاطئة للدعاة الإسلاميين في أساليب العمل، إذ إنَّ الأسلوب العملي في قضية الدعوة إلى الله، له التأثير البالغ في النتائج الحاسمة للدعوة، سلباً أو إيجاباً، وبالتالي ينعكس على الواقع الإسلامي.
من هنا كان كتاب "أسلوب الدعوة في القرآن"، باكورة أعمال سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل
يعتبر سماحة السيِّد فضل الله في التَّمهيد أنَّ الإنسان يلتقي في حياته بالكثير من النماذج الإنسانيَّة، ويشعر بإحساس مختلف تجاه كلّ واحد منها، ويُرجع السَّبب في ذلك إلى الأسلوب الخاص بكل منها في التعاطي، ويؤكد سماحته أنَّ الأسلوب له صلة وثيقة بالحياة، باعتباره يمثل الإطار لوجودها ولازمة من لوازمها التي لا تنفصل عنها حتى النهاية. ومن هذه الخلاصة يصل سماحته إلى موضوع الدعوة إلى الله، والَّتي تمثل إحدى الحقائق والقضايا التي تتصل بحياتنا بشكلٍ وثيق، والَّتي لا بدَّ من أن يكون لها أسلوب خاص تعبر فيه عن نفسها.
يعتمد السيِّد فضل الله على القرآن الكريم كمصدر يحاول من خلاله التماس أسلوب الدعوة، لأنَّه المصدر الصافي الذي لم يعلق به التغيير والتحريف، ولأنَّ القرآن الكريم يعتبر كتاب الدّعوة الشامل الَّذي نجد فيه كلّ آفاقها ومساربها وأهدافها العامة.
تقسم هذه الدراسة إلى قسمين:
يتطرّق السيد فضل الله في القسم الأول، تحت عنوان "بين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، إلى مفهوم الدعوة، مميزاً بين الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ليوضح اللبس الحاصل بين هذين المفهومين: فالدعوة "تمثل الحركة الَّتي يقوم بها الدعاة المسلمون خارج نطاق الحياة الإسلاميَّة من أجل إدخال الآخرين إلى الإسلام"، أمّا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو "العمل على تطبيق الإسلام من قبل المسلمين داخل الحياة الإسلامية، وحمل المسلمين على السير في طريق الإسلام من غير التواء وانحراف".
مع الدعوة في القرآن
يُركّز السيد فضل الله على مبدأ أنَّ القرآن "بدأ كتاب دعوة وختم كتاب تشريع وتوجيه". ولذلك ـ يؤكد ـ أنَّه من الطَّبيعي أن يعيش القرآن واقع الدّعوة وظروفها وملابساتها، فيحلّل دوافعها وأهدافها، ويعرض أساليبها ووسائلها، ويحاكم الشبهات والافتراءات التي وُجهت إليها بالأسلوب الهادئ تارةً والثائر أخرى.
وهنا يلفت السيد إلى أنّ الإسلام جاء لينشر دعوة الله في الأرض ويُبشّر بها ويبني على أساسها دولة تكفل للحياة التنظيم، وتحمي الإنسان من شرور نفسه وشرور أبناء جنسه، لذا فإن طبيعة الدولة في الإسلام لا تنفصل عن روح الدعوة ومجراها، ولكن ما يشدّد عليه السيد فضل الله في هذا السياق "أن طبيعة الدعوة ـ من حيث هي رسالة روحية وفكرية ـ تتطلَّب إفساح المجال أمام الفكر ليفكر، وفتح الطريق أمامه ليقتنع، وخلق الأجواء الملائمة للروح لتنطلق وتحّس وتؤمن، لذا فمهمّة الداعية هي إعانة الإنسان على أن يصل إلى الإيمان بفكره وروحه، ولا بدَّ له في سبيل ذلك من استخدام الوسائل التي تتلائم وهذه المهمة، لتصل به إلى ذلك الهدف". "أما طبيعة الدولة ـ من حيث هي كيان معنوي ومادي ينظم حياة المجموع، ويحمي أمنها وسلامها ـ فتتطلَّب تهيئة القوى الَّتي تدعم هذا الكيان وتركّزه، والعمل على بقاء هذه القوة صامدة أمام التيارات التي تندفع نحوها… فمهمة مؤسِّس الدولة هي تجميع القوى الَّتي تهيئ لهذا الكيان سلامته".
"طبيعة الدعوة الإسلامية"
يرى السيد فضل الله أنَّ الإسلام لم يأتِ ليبني دولة لتكون غاية بذاتها، وإنما جاء لينشر الدعوة إلى الله ويبني على أساسها الدولة، وهو "دين فيه ما يراعى في الدّين من روحيّة تربط النظام بالعقيدة والدعوة بالتشريع، فهو ليس نظاماً مجرداً، وليس عقيدة مجردة، وإنما هو عقيدة ونظام يلتقيان في بداية الطريق، ولا ينفصلان بعد ذلك أبداً".
ما الذي نريده من الأسلوب؟
وفي معرض الإجابة عن هذا السؤال، يركّز السيد فضل الله على الجانب الأخلاقي والأسلوب الأخلاقي، لأننا ـ كما يقول ـ "بحاجة إليه بسبب ما نعانيه من أزمة الأخلاق في أساليبنا … فإن كثيراً من الانتكاسات والانحرافات والأخطاء التي رافقت سير الدعوة إلى الله كانت نتيجة طبيعية لفقدان الأخلاق في أسلوب العمل وفي أسلوب الدعوة الذي يمارسه بعض الدعاة".
أسلوب الإسلام في علاج العلاقات البشرية
يلخص سماحة السيد أسلوب الإسلام وطريقته في تنظيم علاقة الإنسان بالآخرين في كلمتي "التسامح" و"العدل". ويظهر مبدأ التسامح في القرآن الكريم من خلال الآيات القرآنية التي تدعو إلى "العفو" و"الصفح" و"الإحسان" و"دفع السيئة بالحسنة" و"الإعراض عن الجاهلين"…
أما العدل، فأشار إلى أنَّه يدخل كل مجال من مجالات الحياة العامة والخاصة، انطلاقاً من علاقة الفرد مع نفسه وخالقه وأسرته وأمته، ومع الناس جميعاً، ومع الكون في كل ما يتمثل فيه من مخلوقات. ويقف سماحته أمام كل من هذين المبدأين ـ "التسامح" و"العدل" ـ ليُعرّف ملامحهما ويُبيّن خطوطهما وأبعادهما العامة في حياة الإنسان. فتشريع مبدأ "التسامح" في حياة الإنسان ينسجم مع الفهم العميق والإدراك الواعي لواقع الإنسان، وينطلق من هذا الواقع ليفسح له مجال التراجع، فينطلق من لحظات الضعف البشري ليتحول بها إلى جانب القوة والعزّة والكرامة والحياة الإيجابية السليمة. أما العدل، "فيهدف إلى أن يطامن من جموح غريزة العدوان في نفس الإنسان، ويخفّف من طغيان الإثرة والأنانية والحقد والبغضاء وغيرها من النوازع الشريرة، وذلك بوضع الحدود المادية التي توقفه عند حدٍّ مُعيّن لا يتجاوزه ولا يتعداه". ولكن الشريعة السمحة لم تشأ لهذا التشريع أن يكون جافاً قاسياً، فلاحظت فيه جانب المرونة، فانطلقت تفسح المجال أمام العفو وتشجّع على الصفح والمغفرة. ولذا كما يقول السيد "لا تجد آية تعرض للعدل في مورد القصاص إلا وتجد معها الأمر بالصبر والعفو والصفح والمغفرة".
أسلوب الدعوة في القرآن
ضمن العديد من الآيات التي عرضت للدعوة، ركّز سماحة السيد على آية واحدة وهي قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[ النحل: 125]، لأن الآية الكريمة تحوي الركائز الأساسية لأسلوب الدعوة وطريقتها التي يلزم على الدعاة أن يسيروا عليها وينتهجوا نهجها.
ويعمد سماحته إلى استنطاق الآية فيشرحها ويفصّل معناها، ويقسمها إلى فقرتين:
أ ـ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.
ب ـ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.
الفقرة الأولى تشتمل على كلمتي الحكمة والموعظة الحسنة، والمقصود من الحكمة كما يشير سماحة السيد: "السير على الطريقة الواقعية، ونعني بها تلك التي تلاحظ الواقع الخارجي للمجتمع الذي تعيش فيه وتدرس ظروفه العقلية والفكرية والنفسية والاجتماعية، وتضع كل ذلك في حسابها قبل بداية العمل". ويربط الحكمة بالدعوة وتصبح بهذا المعنى "محاولة لتنبيه الدعاة إلى الله إلى أن لا يكون الأسلوب المتبع لديهم في العمل واحداً من حيث النوع، بل لا بد من أن يختلف حسب اختلاف الواقع الذي تعيشه الدعوة ويعيش فيه الدين"، فلا بد للداعية من أن يكون مرناً يلاحظ طبيعة الجو وطبيعة الموقف وطبيعة الإنسان المخاطب.
أما المراد من الموعظة الحسنة، فيقول سماحته: "هي طريقة في التبليغ وأسلوب في الدَّعوة يحبّبها ولا ينفّر عنها، يُقرّب إليها ولا يبعّد عنها، ييسّرها ولا يعسرها".
وفي ما يخصّ الفقرة الثانية، فإنَّما يعتبرها سماحته بمثابة الإرشاد إلى الطرق التي يواجه بها الداعية المسلم رد الفعل الذي تثيره الدعوة لدى المخاطب، ويقول في هذا السياق: "حسب القرآن القرآن الكريم حِساب الكفار وأتباع العقائد اللاإسلامية، وعرف أن الداعية سيصطدم بهم نتيجة اصطدامهم به، بسبب اختلاف أفكارهم مع دعوته، وعرف النتيجة التي سينتهي إليها الداعية معهم لو ترك وطبيعته، فقد يمكن لأسلوبهم أن يثيره ويثير فيه طبيعة الثأر لعقيدته، بالأساليب المألوفة في هذا المجال، وهنا لا تربح الدعوة إلا مزيداً من المشاكل". فالقرآن الكريم يأخذ بيد الداعية إلى التسامح ومراعاة ظروف الآخرين وملاحظة واقعهم النفسي والعقلي، "وهو يلقي في وعي الداعية أن مهاجمة دعوته من قبل خصومها أمر طبيعي جداً، ينبغي تقبله"، وبالتالي، فإن وظيفته أن يكسب هؤلاء الخصوم إلى هدف الدعوة.
اختيار الأحسن هو شعار المسلم في الحياة
من خلال هذا الشعار، يؤكد سماحة السيد أن سلوك الأسلوب الأحسن في مجالات الدعوة، هو جزء من الأسلوب العام للسلوك الإنساني الذي شرّعه الإسلام في الحياة الاجتماعية. وهو الأسلوب الذي يحاول "أن يبني عقيدة، ويخطط تفكيراً، ويربح إيمان الإنسان وعقله، وهو الأسلوب اليقظ الحذر الذي يملك دقّة الملاحظة وعمق النظر، ويؤمن بأصالة جانب الخير في نفس الإنسان".
وحدة طرائق الدعوة في رسالات السماء
يعمد سماحة السيد في هذا العنوان إلى تتبع حديث القرآن عن الأنبياء والرسل(ع)، وما قدّمه من الأساليب التي كانوا يتبعونها في سبيل الدعوة إلى الله، والتي كانت تلتقي إلى حد بعيد مع الخط العام للأسلوب الإسلامي في الدعوة، ومما جاء في هذا السياق: "لن تجد أمامك العنف والشدَّة والغلظة، وإنما تتمثل ـ بدلاً من ذلك ـ اللين والتسامح والرفق والرحمة، وتلتقي بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل بالتي هي أحسن في أكثر من موقف، وفي أكثر من آية، وليس ذلك غريباً بعد أن كان الإله واحداً، والدين واحداً، والرسل يعيشون ـ أيضاً ـ وحدة الأهداف والوسائل".
ثم يستعرض نماذج لبعض المواقف التي وقفها الأنبياء(ع) في رسالاتهم التي وجّهوها إلى قومهم وواجهوا بها البشرية في جميع مراحلها، فتحدث عن موقف النبي إبراهيم(ع) والنبي نوح(ع) ونبيي الله هود(ع) وصالح(ع)، وعن النبي موسى(ع)، مؤكداً أن القرآن قد وضع أمامه قضيةً أساسيةً وهي "أن على الداعية أن يبعث الحركة والحياة في أسلوب الدعوة وطرائقها، فلا يدعها تتجمد أمام موقف واحد، أو تتعنت في محاولة واحدة، بل لا بد له من أن يجعلها حركةً دائمة وحيوية دافقة، تعمل في أكثر من صورة، وتتحدث في أكثر من مجتمع، ولا تقتصر على جبهة واحدة، وإنما تعمل على عدة جبهات".
القسم الثاني
في هذا القسم يقف سماحة السيد عند الآيات القرآنية التي تأمر المسلمين بالقتال، وتدفعهم إلى الحرب، وتحثهم على جهاد الكفار بأسلوب حماسي مثير، ويعلل الحاجة إلى مثل هذا البحث بسبب الاتجاهات الاستشراقية وغيرها التي "حاولت أن تطبع الأسلوب الإسلامي للعمل ـ في مجال الدعوة ـ بطابع القوّة، وتصوّره للعالم الغربي بصورة الدين الذي يمارس عملية سفك الدماء، وقتل الآمنين من الأبرياء، بحجّة الدعوة إلى الله، إمعاناً في إبعاد الإنسان الغربي عن الإسلام، وانطلاقاً من قاعدة الحقد الأسود ضد الإسلام والمسلمين". لذلك حاول المستشرقون، كما يوضح سماحة السيد، أن يرجعوا الآيات الداعية إلى الرفق والتسامح واللين في الدعوة، إلى مرحلة لم يكن استعمال القوة فيها أمراً ممكناً، ولكن عندما استراح الإسلام إلى قوته، بدأ مرحلةً جديدةً في العمل، ترتكز على القسوة وتعتمد على العنف والقوة. ويرى أنَّ الدوافع التي تقف وراء مثل هذه الاتهامات والافتراءات على الإسلام، ليست من منطلق حقد شخصي تفرضه دوافع شخصية بحتة، "بل هي قضية "المسيحية" و"الدفاع عن المسيحية" التي تعرّضت إلى غزو فكري وروحي إسلامي، جعل قضية وجودها مهدّدة في محيطها العام". وإذ إن السيد لا يخوض بحثاً مقارناً بين الإسلام والمسيحية لأنه يعتبر أن الأديان بريئة من كثير من المظالم والآثام التي ترتكب باسمها، فالمسيحية ظُلمت على أيدي معتنقيها بسبب الدماء التي سُفكت باسمها، ولكنه أشار إلى أن المسيحية ـ من وجهة النظر التشريعية ـ لا تستنكر استعمال القوّة في سبيل الدفاع عن الحق.
ويوضح سماحة السيد أن الإسلام قد شرّع الجهاد كفريضة دينية، يترتب عليها كل ما يترتب على الفرائض الدينية من آثار وأحكام، ولكنه يطرح السؤال التالي: هل كانت الحرب في الإسلام ـ التي تتمثل في تشريع الجهاد ـ طريقة إسلامية لإكراه الناس على الدخول في الإسلام، وأسلوباً لدعوة الناس إلى اعتناقه قسراً أو إكراهاً، أو أنها كانت طريقة واقعية يفرضها الواقع الخارجي لكل دعوة ومبدأ، للدفاع عن كيانه وحفظه من أعدائه؟
وللإجابة عن هذا السؤال الذي له أكثر من جانب، كما يفيد سماحته، فإنَّه(ره) يحاول استنطاق مصادر التشريع التي تتمثل بالآيات القرآنية التي عرضت لأهداف الحرب والجهاد في الإسلام، والتاريخ الإسلامي (السنة) كمصدر ثانٍ من مصادر التشريع، لمعرفة ما إذا كان التشريع الإسلامي يسمح أو يقرّ مبدأ الإكراه على الدين كأسلوب من أساليب العمل.
آيات الجهاد:
• ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾.
هذه الآية التي قال المفسرون إنها أول آية نزلت في أمر القتال، ذكرت أن المسلمين ظلموا من قبل المشركين، وأخرجوا من وطنهم "مكة"، نتيجة العسف والقسوة والضغط المعنوي والاقتصادي، وأيضاً تعرضهم للإخراج من دينهم، ومتى وقع الظلم على أحد، ثبت له الحق في دفع الظلم عن نفسه والأخذ بحقه من ظالمه، وبالتالي إنَّ هذين المظهرين للظلم يجعلان الإذن بالقتال أمراً طبيعياً. يلفت سماحة السيد إلى أن البعض فسّر الآية بأنها تعبير عن طبيعية الثأر للذات، وتمثل دافعاً شخصياً للرغبة في القتال، ويرد على هذا الأمر: "يبدو لنا أن هذا التفسير خاطئ، وبعيد عن جو الآية، فقد نستطيع أن نفهم بوضوح مدى ابتعاد القضية عن الجانب الذاتي والدافع الشخصي، إذا لاحظنا طبيعة المبرّرات التي يبرّر المشركون موقفهم الظالم من المسلمين".
• ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾.
• ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه، فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾.
يوضح سماحة السيد في هاتين الآيتين سبباً آخر للحرب، ولكنه سبب يتصل بقضية العقيدة مباشرة، "حيث وجد الإسلام نفسه مهدداً في قضية وجوده، وأصبحت المسألة مسألة حياة أو موت، لذا كان القتال ـ حيث لم تنفع الموعظة ـ قضية حيوية لم يبتدئ بها وإنما اضطُر إليها"، ويقول سماحته: "إذا كانت أهداف الحرب التي تتمثّل في الآية هي عدم فسح المجال للفتنة في الدين أن تمتد… فلا بد لها من أن تقف وتنكمش عند ارتفاع الفتنة وعند قوة الدين واتساع مجاله".
فأهداف الحرب في الإسلام، كما يقول سماحة السيد تتمثل في:
أ ـ الانتصار للعقيدة المضطهدة.
ب ـ الانتصار للمظلومين والمضطهدين من أتباع العقيدة.
ج ـ إضعاف قوة المشركين وتحطيم بأسهم، لئلا يبقى الكفر قوة تمنع الإسلام من متابعة سيره.
د ـ دفع العدوان الحربي المتمثّل في حركات الكفّار الحربية ضد المسلمين.
ه ـ قيام المشركين بعملية فتنة المسلمين عن دينهم.
و ـ نقض العهود التي عاهد عليها المشركون النبي(ص).
مع حروب النبي(ص) وغزواته
ويتعرض السيد بعدها للواقع التاريخي لحروب النبي(ص)، باعتبارها التجسيد الحي للأهداف التشريعية التي عرضت لها آيات الجهاد، فيستعرض نوعية الأهداف والدوافع التي انطلقت منها تلك الحروب، والظروف التي أحاطت بها. ثم فصّل الحديث عن غزوة بدر التي خاضها النبي(ص) ضد الكفار، والتي استغلها المستشرقون ضد الإسلام، كدليل على عدوانيته، متجاهلين الظروف العصيبة التي عاشها المسلمون في مكة. كما تطرّق إلى باقي الحروب التي تختلف عن حرب بدر بوضوح الطابع الدفاعي فيها، والذي يجعل من الحرب ضرورة حياتية للوجود الإسلامي، وليس كما يشاع من أن الحرب كانت تستهدف الدعوة إلى دخول الناس في الإسلام قسراً وإكراهاً.
لا إكراه في الدين
{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(البقرة:256)
{لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}(يونس:99)
حاول البعض تفسير هذه الآية الكريمة من منطلق تشريع الإسلام لحرية العقيدة، فيما أنكر البعض الآخر هذا التشريع، أما سماحة السيد فيقول: "إن هناك فرقاً كبيراً في الأسلوب بين أن يقول الإسلام للناس اذهبوا واعتقدوا ما تشاؤون فلا تهمني عقيدتكم بقدر ما يهمني محافظتكم على النظام أو الهدوء أو السكينة، وبين أن يقول أيها الناس هذا طريق الحق فاتبعوه وذاك طريق الشر فاجتنبوه.. إنكم إن سلكتم طريق الخير تهتدوا، ولكنني لا أكرهكم على سلوك الطريق الذي أريده، وإنما أدعوكم إلى سلوكه ثم أترك مسؤوليتكم لأنفسكم، في الوقت الذي أمنعكم من ممارسة أي نشاط في الدعوة إلى الشر…". ويتابع: "إن الله لا يجبر أحداً من خلقه على إيمان ولا طاعة، ولكنه يوضح الحق ويبيّنه، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار، ومن اتبع الغيّ فقد اتبعه عن اختيار، والله سبحانه كان قادراً على أن يهدي البشر جميعاً، لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير مجبورين على أعمالهم بعد إيضاح الحق وتمييزه عن الباطل".
أما من حيث صلة هذه الآية بأسلوب الدعوة، فإنها، كما يؤكد سماحته، تلتقي في روحها بالآيات المتقدمة التي عرضت لمهمة الداعية ومسؤوليته، وتحديدها بإبلاغ رسالات الله، وإيصالها إليهم… والآية تنفي الإكراه وتشجبه، لأنه يعتبر أسلوب ضعف وليس أسلوب قوة. ويقف سماحة السيد مع الإجراء الذي يتخذه الإسلام ضد المشركين حيث لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل فيقول: "لا بد لنا من أن نضع في حسابنا مسألة واحدة، وهي أن الإسلام قد قرر هذه الأحكام واتخذ هذه الإجراءات باعتباره دولة إسلامية ذات سيادة تمثّل سيادة الله على الأرض…".
ويخلص سماحة السيد فضل الله في نهاية المطاف إلى نتيجة وهي "أنَّ الإسلام لم يتراجع عن أسلوبه السلمي في الدعوة في جميع تشريعاته، حتى الجهاد، لأنه لا يعتبر أسلوباً من أساليب الدعوة، بل هو ضرورة تفرضه طبيعة الكيان الدولي الجديد للإسلام".
يشكّل كتاب"أسلوب الدعوة في القرآن" مرجعاً مهماً لا غنى عنه لكلّ باحث ومهتم في الشؤون الإسلامية، وللدعاة الإسلاميين على وجه الخصوص، كونه يوضح جميع الالتباسات والضمور في كل ما يتعلق بخط الدعوة وأسلوبها، ويرسم للدعاة الخط الواجب اتباعه للوصول إلى الغايات المنشودة والمرجوة في الوصول إلى نشر رسالة الإسلام على هدي نبيها الرحمة المبعوثة للعالمين.