مسألة حجية قول الفلكي في حساباته والاعتماد عليها من المسائل الحيوية التي راج البحث عنها في الآونة الأخيرة، وخلاصة القول فيها يتألف من مقدّمات ونتيجة:
الأولى: يعتمد الفلكي على علم الرياضيات في استنتاج آرائه الفلكية، ومن المعلوم أنّ علم الرياضيات من العلوم التي لا تقبل الخطأ، مثله كعلم المنطق، ولا يوجد علم إلاَّ وهو قابل للخطأ غير هذين العلمين.
الثانية: السائد بين الفقهاء المعاصرين إمكانية الاعتماد على أقوال الفلكيين في الظواهر الكونية إذا أوجبت الاطمئنان للمكلّف، ويمكنه ترتيب الآثار الشرعية عليها.
الثالثة: بعد ملاحظة التقارير الفلكية وجدناها لا تختلف في توقيتها الدقيق بالثانية فضلاً عن الدقيقة أو الساعة، ولا تتخلّف عن حدوثها، وهذا جلي واضح لمن تتبّع تقاريرهم وطبّقها على الواقع الخارجي في جميع الظواهر الكونية، وما أبعد الحاسة الباصرة عن الصواب إذا ما قورنت بالنتائج الرياضية للفلكيين، فإذا كان ما يمكن فيه الخطأ حجّة فما لا يقبل الخطأ أولى بالحجيّة، بل لو فرضنا حدوث تعارض في المعطيات والنتائج بين شهادات الشهود والتقارير الفلكية، فسنجد أنفسنا مجبرين على إتّباع أقوال خبراء الفلك وترك شهادات الشهود.
الرابعة: يحدّد الفلكي زمان ولادة الهلال، وزمان إمكان رؤيته، والأماكن التي تمكن فيها رؤيته، ويحدّد زمان شروق الشمس وزوالها وغروبها، ومنتصف الليل، والفجر الكاذب، والفجر الصادق، وزمان دخول الفصول الأربعة، والاعتدالين، ومنازل القمر وخسوفه، وبروج الشمس وكسوفها، وغيرها من الظواهر الكونية، وكل ما يرتبط بحركات الأجرام الثلاثة أعني الشمس والأرض والقمر، كظاهرتي المدّ والجزر.
الخامسة: نحن نعتمد على قول الفلكي ونطمئن به في الخسوف والكسوف سنويًا عدّة مرّات، بل وفي شروق الشمس وزوالها وغروبها، فلا تجد أحدًا من المؤذّنين أو المصلين من يعاين الشمس، بل يقصر نظرهم على التقاويم المتداولة، وهذا ظاهر لكلّ من كانت له أدنى ملاحظة، مع العلم بأنهم بمرأىً ومسمع من الفضلاء والعلماء، ولم يصدر من أحدهم أيُّ ردع أو استنكار، بل عمل أهل العلم والفضل ورجال الدين قائم على الاعتماد على التقاويم المتداولة بين الناس.
النتيجة: إذا قرّر الفلكي ولادة الهلال، ومضي مدّة من الزمان يكون فيها قابلاً للرؤية، فإذا لم يتمكّن النّاس من رؤيته فذلك بسبب المانع، كالغبار أو الدّخان، والمانع لا يعني عدم وجوده.
فإن قلت: الحديث النبوي المشهور نصّ على الرؤية البصرية بقوله :"صوموا لرؤيته، وافطروا لرؤيته، فإذا غُمَّ عليكم فأتمّوا العدّة ثلاثين يومًا".
كان الجواب: أوّلاً: بأنّه لم يكن علم الفلك متطورًا كما هو عليه اليوم، فاقتصار النّص على الرؤية لأنّه لا يوجد طريق غيرها آنذاك، وكان علم الفلك مدرجًا يومئذٍ في جملة العلوم الظنيّة، ويختلف في اهتماماته ودراساته كما عليه اليوم، ولم يكن من العلوم القطعية.
وثانيًا: ذيل النّص خير شاهد على أنّ المانع لا يصلح لترتيب الأثر عليه مادام المقتضي قطعي الحصول، بمعنى أنّ إكمال العدّة حالة الغمّة كحالة مفترضة لأي مورد نقطع فيه بانتهاء الشهر السابق ودخول الشهر اللاحق، ومن أجلى صور تلك الموارد ولادة الهلال ومضي فترة زمنية يمكن فيه رؤيته بحسب العادة القاضية وفق الدراسات الفلكية المبنية على المشاهدات المماثلة والرصد المتكرّر.
الخلاصة: أنّ قول الفلكي وتقريره حجّة لنا وعلينا، ولابُدّ من ملاحظة الدقّة التي تعطيها الدراسات الفلكية حيث تختلف إمكان الرؤية من مساحة أرضية لأخرى؛ نظرًا للحركة الإهليجية التي تتحركها الأجرام السماوية (الشمس، الأرض، القمر)، ولا داعي للاختلاف في تحديد موعد دخول الشهر، أو الاعتماد على الحاسة البصرية التي تختلف في الشخص الواحد نفسه من ظرفٍ لآخر وتقع تحت ضغط المؤثّرات النفسية، وليست بمنأى عن الاشتباهات، بل يمكن حسم مادته قبل دخول الشهر والاستعداد له بمدّة كافية، والله العالم.