أحدث المقالات

كتاب "المؤمن الصادق… أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"، للمؤلف الأميركي إيريك هوفر، يعرض الخصائص التي تشترك فيها الحركات الجماهيرية، سواء كانت دينية أو اجتماعية أو قومية، على الرغم من الاختلافات في ما بينها. فالحركات الجماهيرية تولّد في نفوس أتباعها استعداداً للموت وانحيازاً للعمل الجماعي، وجميعها تولّد الحماسة والأمل للكراهية وعدم التسامح، وجميعها قادرة على تفجير طاقات قوية من الحراك في بعض مناحي الحياة، وجميعها تتطلب من أتباعها الإيمان الأعمى والولاء المطلق، وجميعها تستقطب أتباعها من النماذج البشرية نفسها، وتستميل الأنماط والعقول نفسها.

هوفر كاتب اجتماعي أميركي، ولد سنة 1902م في مدينة نيويورك. وكان عصامياً علّم نفسه بنفسه، عمل مدة في المطاعم وعاملاً مؤقتاً في المزارع، ومنقباً عن الذهب، وبعد الهجوم على بيرل هاربور عمل عامل شحن وتفريغ في سان فرانسيسكو مدة ربع قرن. كتب أكثر من عشرة كتب، منها كتاب "المؤمن الصادق… أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"، الذي ألفه بينما هو يعمل في ميناء سان فرانسيسكو في أربعينات القرن الماضي، حيث شغل وقته في تأليف أبحاثه الفلسفية. هذا الكتاب هو أول كتبه وأهمها ونشر سنة 1951م، وقد قفز إلى قائمة أفضل الكتب مبيعاً، عندما استشهد به الرئيس ايزنهاور في إحدى ندواته التلفزيونية. إريك هوفر له عشرة مؤلفات، منها (أهواء العقل) و(أزمة التغيير) و(مزاج زماننا)،. وقد حاز هوفر على الميدالية الرئاسية للحرية، وسلمها له الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، سنة 1983م، وتوفي في السنة نفسها.

إذاً التطرف بحسب هوفر واحد وذو طبيعة واحدة سواء أكان تطرفاً دينياً أو قومياً أو أيديولوجياً، وتتشابه الحركات الجماهيرية أيضاً في إخلاصها وإيمانها وسعيها إلى السلطة، وفي وحدتها واستعدادها للتضحية.

ويفترض الكتاب أن الإحباط في حد ذاته يكفي لتوليد معظم خصائص "المؤمن الصادق"، وهي عبارة تعني هنا "المنخرط في حركة جماهيرية بإخلاص وإيمان مطلق مهما كانت طبيعة هذه الحركة"، حيث أن الأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط.

 

أهمية الكتاب في نظر المترجم

والكتاب صدر في منتصف القرن الميلادي المنصرم، وعلى الرغم من أنه لم يحظ بقدر كبير من الانتشار، إلا إن فيه تكثيف للأضواء على العديد من النقاط التي تتعلق بمرتكزات الإرهاب، وبتعبير أوضح في هذا الكتاب إجابة عن سؤال مهم، وهو: لماذا يصبح الإرهابي إرهابياً؟ – كما يرى المترجم غازي القصيبي – الذي يقول: "رجعت الى عدد من المصادر، وبحثت الأمر مع عدد من الخبراء، واتضح لي أنه على الرغم من وجود كم هائل من المعلومات عن الإرهاب، تنظيماته وقادته وأساليبه وأدبياته وتمويله، إلا أنه لا توجد كتابات تضيء عقل الإرهابي من الداخل، وتتيح لنا فرصة التعرّف على هذا العالم العجيب المخيف". ويضيف: "ثم شاءت المصادفة أن أتعرف على هذا الكتاب، فوجئت بأنني عثرت، أخيراً، على ضالتي، وحيث لم أتوقع: في كتاب لم ترد فيه كلمة الإرهاب، ونشر في زمن لم تكن فيه ظاهرة الإرهاب معروفة".

ويعتبر القصيبي في مقدّمته أن الإرهاب وليد التطرّف وهذا الكتاب معني بالتطرّف: جذوره وبذوره. فالمعادلة التي يعرضها الكاتب بسيطة ومقنعة في الوقت ذاته، وهي تبدأ بالعقل المحبط. حين يرى الإنسان عيباً في كل ما حوله ومن حوله، وينسب مشاكله إلى فساد عالمه، ويتوق إلى التخلّص من نفسه المحبطة وصهرها في كيان نقي جديد. وهنا يجيء دور الجماعة الثورية الراديكالية التي تستغل ما ينوء به المحبط من مرارة وكراهية وحقد، فتسمعه ما يشتهي أن يسمع، وتتعاطف مع ظلاماته، وتقوده إلى الكيان الجديد الذي طالما حنّ إلى الانصهار فيه. من هذا اللقاء الحاسم بين عقلية الفرد المحبط الضائع وبين عقلية القائد الإجرامي ينشأ التطرف، ومن التطرف ينشأ الإرهاب.

 

حركة طلبان

يختم القصيبي مقدمته الوجيزة بطلبين، الأول يقع على عاتق الباحثين الذين يجب أن يعرضوا تحليل المؤلف على واقع الإرهاب المعاصر، وأن يتركوا الدراسات الميدانية الدقيقة، تصدق أو تكذب هذا التحليل، ويضيف القصيبي جملة استدراكية هنا بين قوسين: «وفي رأيي أنها ستصدقه!». ثم يضع طلباً آخر، أهم وأعمق من الأول وربما لخص جوهر الحافز لدى المترجم في الاحتفاء بهذا الكتاب، يقول: "أما ثانيهما، وهو أهم وأخطر، فيقع على عاتق الدول العربية التي يجب أن تمتلئ بالفرص وتزدهر بالأنشطة، وتبوح بمؤسسات المجتمع المدني النشطة، على نحو يقضي على الإحباط بين الشباب، أو على جزء كبير منه، بزوال الإحباط يزول التطرف، وبزوال التطرف ينتهي الإرهاب، هذا في – رأيي – هو الأسلوب الوحيد الناجع لمشكلة تقض مضاجع العالم".

 

مقدمة المؤلف

أما المؤلف هوفر فيؤكد أن هذا الكتاب يتعامل مع خصائص تشترك فيها الحركات الجماهيرية كافة، سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم قومية. فكل هذه الحركات متماثلة، وتشترك في صفات رئيسة تؤسس بينها نوعاً من الشبه العائلي. وعلى الرغم من أن ثمة فروقاً واضحة بين المسيحي المتطرف، والمسلم المتطرف، والقومي المتطرف، والشيوعي المتطرف والنازي المتطرف، إلا أنه يبقى صحيحاً أن التطرف الذي حرّك هؤلاء كلهم هو تطرف ذو طبيعة واحدة. وتصدق هذه الملاحظة على القوة التي تدفعهم إلى التوسّع ومحاولة السيطرة على العالم. فثمة درجة من التماثل بين هذه الجماعات تتجلى في إخلاصها للحركة، وفي إيمانها، وفي سعيها إلى السلطة، وفي وحدتها، وفي استعدادها للتضحية بالنفس.

يقول هوفر عن كتابه: "يعنى هذا الكتاب، أساساً، بالمرحلة الديناميكية من الحركة الجماهيرية التي سيصوغها ويهيمن عليها "المؤمنون الصادقون". حيث تنزع الحركات مهما كان نوعها، في هذه المرحلة الى إظهار خصائصها المشتركة التي حاولنا تلخيصها، ويبدو من الواضح أنه مهما كانت الأهداف الأصلية للحركة نبيلة، ومهما كانت النتائج التي حققتها جيدة، فإن مرحلتها الأولى تبدو لنا غير جذابة، إن لم نقل شريرة، والمتطرف الذي يطبع هذه المرحلة بطابعه هو نموذج إنساني لا يثير التعاطف، إنه رجل قاس، معتد برأيه".

يتناول الكتاب المرحلة النشطة الدعوية إلى الحركة الجماهيرية. وتتميّز هذه المرحلة، أساساً، بسيطرة المؤمن الصادق، الرجل صاحب الإيمان المتطرف المستعد للتضحية بنفسه في سبيل القضية المقدسة.

ويحاول الكتاب تحليل البذور والجذور التي تغذي طبيعة هذا الرجل، مستعيناً في تحليله بفرضية محددة، انطلاقاً من الحقيقة التي تقول: إن المحبطين يشكلون غالبية الأتباع الجدد في الحركات الجماهيرية، وإنهم ينضمون بإرادتهم الحرة. فيفترض هوفر بأن الإحباط في حد ذاته، ومن دون دعوة أو محاولة للاستقطاب من الخارج، يكفي لتوليد معظم خصائص المؤمن الصادق. والأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزاعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط.

 

أقسام الكتاب

ينقسم الكتاب إلى أربعة أقسام، وثمانية عشر فصلاً. ويتحدث القسم الأول عن (جاذبية الحركات الجماهيرية) وجاءت فصوله لتتحدث عن: الرغبة في التغيير، الرغبة في بدائل، التبادلية بين الحركات الجماهيرية.

في القسم الثاني من الكتاب، يتحدث المؤلف عن (الأتباع المتوقعون) فيشير إلى: دور المنبوذين في الشؤون الإنسانية، الفقراء، العاجزون عن التأقلم، الأنانيون أنانية مفرطة، الطموحون الذين يواجهون فرصاً غير محدودة، الأقليات، الملولون، مرتكبو المعاصي.

أما القسم الثالث من الكتاب فيقارب (العمل الجماعي والتضحية بالنفس) ويتطرق إلى العوامل التي تشجع على التضحية بالنفس، فيشير إلى: التماهي مع المجموع، الخيال، احتقار الحاضر، الأشياء التي لم تكن، العقيدة، التطرف، الحركة الجماهيرية والجيوش.

كما يشير في القسم نفسه إلى العوامل التي تشجع العمل الجماعي، فيتحدث عن: الكراهية، التقليد، الإقناع والقمع، من أين تأتي الرغبة في التبشير، القيادة، العمل، الشك، نتائج العمل الجماعي.

وعنون المؤلف القسم الرابع من الكتاب بـ(البداية والنهاية) وجاء في أربعة فصول: رجال الكلمة، المتطرفون، الرجال العمليون، الحركات الجماهيرية النافعة والضارة.

ثم تحدث حول ما أسماها (المرحلة الديناميكية وما يواكبها من فساد وعقم) ثم (بعض العوامل التي تحدد المرحلة النشطة). وختم الكتاب بالإشارة إلى (الحركات الجماهيرية النافعة).

جاذبية الحركات الجماهيرية: الرغبة في التغيير

يقول المؤلف إن الذين ينضمون إلى حركة ثورية صاعدة أو حركة دينية أو قومية متطرفة يتطلعون إلى تغيير مفاجئ كبير في أوضاعهم المعيشية، فجميعها حركات من وسائل التغيير، وعندما تتقدم فرص تطوير الذات، أو لا يسمح لها بالعمل كقوة محفّزة يصبح من الضروري إيجاد مصادر بديلة للحماسة، وهنا تكون الحركات الجماهيرية (دينية أو ثورية أو قومية) عاملاً لتوليد الحماسة العامة.

ويرى هوفر أنه تكمن فينا جميعاً نزعة إلى البحث خارج أنفسنا عن العوامل التي تصوغ حياتنا، حتى عندما يكون وضعنا نتيجة عوامل داخلية، كقدرتنا أو شخصيتنا أو مظهرنا أو صحتنا. يقول الفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817 ـــ 1862): "عندما يشكو المرء شيئاُ يحول بينه وبين القيام بواجباته حتى عندما يكون ألماً في أمعائه .. فإنه يبادر إلى محاولة إصلاح العالم".

وقد يبدو مفهوماً في رأي المؤلف أن الفاشلين ينزعون إلى تحميل العالم جريرة فشلهم، ولكنه يلاحظ أيضاً أن الناجحين أيضاً يؤمنون بأن نجاحهم جاء بسبب الحظ السعيد، ذلك أنهم ليسوا متأكدين من معرفتهم بأسباب نجاحهم. فالعالم الخارجي يبدو مثل آلة تدور على نحو يستحيل ضبطه أو توقعه، وما دامت هذه الآلة تدور في مصلتحهم فإنهم يتجّنبون العبث بها، وهكذا فإن الرغبة في التغيير والرغبة في مقاومة التغيير تنبعان من المصدر نفسه: الإيمان بتأثير العوامل الخارجية.

ويستدرك هوفر بأن عدم الرضا في حد ذاته لا يخلق دافعا للرغبة في التغيير، ولكن يجب أن تتضافر معه عوامل أخرى، وأحد هذه العوامل هو الإحساس بالقوة، فالذين يخافون من محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائساً. ويقول إن الناس يقاومون شعورهم بالخوف بإخضاع وجودهم لروتين ثابت، موهمين أنفسهم بأنهم بهذه الوسيلة يتجنبون المفاجآت، وهكذا نجد الصيادين والبدو الرحل والمزارعين الذي يعتمدون على تقلّبات الطقس، والفنانين الذين ينتظرون الإلهام، يخافون من التغيير، ويواجهون العالم كما يواجهون قضاة يتحكمون في مصيرهم. ونجد عند الفقراء نزعة محافظة بعمق النزعة المحافظة عند الأغنياء. وأما الأشخاص الذين يندفعون لإحداث تغييرات واسعة فإنهم يشعرون بأنهم يملكون قوة لا تقهر. وامتلاك القوة لا يكفي للتغيير، ولكن لا بدّ من الإيمان المطلق بالمستقبل، وعندما يغيب هذا الإيمان تصبح القوة داعمة للأوضاع القائمة ومناهضة للتغيير، فالراغبون في التغيير يوقدون الآمال الجامحة.

فالذين يشعرون بالتذمر من غير أن يكونوا فقراء فقراً مدقعاُ وأن يكون لديهم شعور باقتناعهم العقيدة الصحيحة أو اتباع الزعيم الملهم أو اعتناق أساليب جديدة في العمل الثوري سيصبحون قوة لا تقهر، ويجب أن تكون لديهم تطلّعات جامحة إلى المنجزات التي ستأتي مع المستقبل، وفي النهاية يجب أن يكونوا جاهلين جهلاً تاماً بالعقبات التي ستعترض طريقهم، أما المجرّبون وذوو الخبرة فيأتي دورهم في مرحلة لاحقة، ولا ينضم هؤلاء إلى الحركة إلا بعد التحقّق من نجاحها، ولعل خبرة المواطنين الإنجليز السياسية هي التي تجعلهم بمنأى عن الحركات الثورية.

 

الرغبة في بدائل

يلاحظ المؤلف إيريك هوفر أنه يصعب على الذين يعتقدون أن حياتهم فسدت أن يستهويهم تطوير أنفسهم مهما كان احتمال حصولهم على فرص أفضل، فلا شيء ينطلق من النفس التي يكرهونها يمكن أن يكون جيداً أو نبيلاً، وشوقهم العميق إلى حياة جديدة، ومعنى جديد لقيم الحياة لا يتحقق إلا بانتماء إلى قضية "مقدسة" (من وجهة نظر أصحابها بالطبع)، والتماهي مع جهود الحركة ومنجزاتها ومستقبلها يمنحهم الشعور بالكرامة والثقة.

وتعتمد قوة الحركة الجماهيرية وحيويتها على قدرتها على تلبية رغبة أتباعها في محو الذات، وعندما تبدأ حركة جماهيرية في اجتذاب أناس لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية فمعنى هذا أنها لم تعد معنية بإيجاد عالم جديد، بل بالحفاظ على الأوضاع الراهنة وحمايتها. يقول قائد إحدى الحركات الجماهيرية المتطرفة: "كلما زادت الوظائف والمناصب التي تقدمها الحركة؛ انخفض مستوى الأتباع الذين ينضمون إليها، وعندما يحدث هذا تكون قد انتهت".

إن الإيمان بقضية "مقدسة" هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا، وكلما استحال على الإنسان أن يدعي التفوّق لنفسه كان أسهل عليه أن يدعي التفوّق لأمته أو دينه أو عرقه أو قضيته المقدسة، وينزع الناس إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة عندما تكون جديرة بالاهتمام، وعندما لا يكون لديهم شأن خاص حقيقي يهتمون بشؤون الآخرين الخاصة، ويعبّرون عن اهتمامهم هذا بالغيبة والتجسس والفضول.

والاعتقاد بالواجب المقدس تجاه الآخرين كثيراً ما يكون طوق النجاة لإنقاذ الذات من الغرق، وعندما نمد يدنا نحو الآخرين فنحن في حقيقة الأمر نبحث عن يد تنتشلنا، وعندما تشغلنا واجباتنا المقدسة نهمل حياتنا ونتركها خاوية بلا معنى، وما يجذب الناس إلى حركة جماهيرية هو أنها تقدم بديلا للأمل الفردي الخائب، والعاطلون ينزعون إلى اتباع الذين يبيعونهم الأمل قبل اتباع الذين يقدمون لهم العون، فالأمل هو السبيل الوحيد لإدخال القناعة والرضا لدى المحبطين.

 

التبادلية بين الحركات الجماهيرية

عندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية فإنهم _ في اعتقاد المؤلف – يصبحون عادة جاهزين للالتحاق بأية حركة فاعلة، ويبدو من السهل على الحركات الجماهيرية أن تستقطب أتباع حركات أخرى تبدو مختلفة عنها أو متناقضة معها، فاليساريون المتطرفون يتحوّلون إلى يمينيين متطرفين، والعكس صحيح. فجميع الحركات الجماهيرية متنافسة في ما بينها، ومغنم واحدة منها لا بد أن يكون مغرم الأخرى، وبوسع الحركة أن تحوّل نفسها بسهولة إلى حركة أخرى، فيمكن للحركة الدينية أن تتحوّل إلى ثورة اجتماعية أو حركة قومية، كما أنه يمكن للحركة الثورية الاجتماعية أن تتحوّل إلى قومية متطرفة أو إلى حركة دينية، ويمكن للحركة القومية أن تتحوّل إلى ثورة اجتماعية أو إلى حركة دينية.

وكانت هجرة اليهود القدماء من مصر ثورة عبيد وحركة دينية وحركة قومية في آن معاً، وكانت القومية اليابانية المتطرفة ذات طابع ديني، وكان لحركات الإصلاح البروتستانتي جانب ثوري عبّر عن نفسه في حركات تمرد الفلاحين، وكان لها أيضاّ جانب قومي، وتمثل الصهيونية حركة قومية وثورة اجتماعية وحركة دينية أيضاّ.

وكثيراّ ما يكون السبيل إلى إيقاف حركة جماهيرية هو إيجاد حركة بديلة، أو الهجرة، فثمة شبه كبير بين أتباع الحركات الجماهيرية والراغبين في الهجرة، وهكذا هاجرت الجماعات البروتستانتية من أوروبا إلى القارة الأميركية.

 

 الأتباع المتوقعون

يحدد المؤلف هنا وفق القواعد السابقة فئات الأتباع المتوقعين للحركات الجماهيرية، وهي حسب ملاحظته تقوم على عواتق المتذمرين والمنبوذين، وعلى الرغم من أن هؤلاء يوجدون في كل مجالات الحياة إلا أنهم يوجدون بكثرة في المجالات التالية: الفقراء، والعاجزون عن التأقلم، والمنبوذون، والأقليات، والمراهقون، وشديدو الطموح، والواقعون تحت تأثير رذيلة، والعاجزون جسدياً أو عقلياً، والمفرطون في الأنانية، والملولون، ومرتكبو المعاصي.

 

الفقراء

ويناقش المؤلف كلاً من هذه الفئات اإحدى عشرة في فصل من فصول الكتاب الثمانية عشرة. ويخصّ المؤلف الفقراء من بين هذه الفئات الإحدى عشرة بأفكار وملاحظات كثيرة، فيوضح أن الفقر وحده لا يكفي لتشكيل الإحباط المؤدي للانضمام إلى الحركات الجماهيرية، ولكن محدثو الفقر الذين أضاعوا مكتسباتهم هم الذين يسارعون إلى الالتحاق بأية حركة جماهيرية صاعدة، أي الفقر المؤدي إلى التذمر والإحباط وليس كل فقر، ولكن الفقر الناشئ عن فقدان المكاسب، أو الفقراء المتطلّعين إلى الوعود! فهناك أمل يشجّع على الصبر، وأمل يشجّع على الثورة "وعندما نحلم بما لا نرى يكون بوسعنا أن نصبر في انتظار الحقيقة".

وإذا اجتمعت الحرية مع الإحباط تشكلت أكثر البيئات صلاحية لنمو الحركات الجماهيرية. يقول أرنيست رينان: "المتطرفون يخافون الحرية أكثر من الاضطهاد"، وسبب الثورة في مجتمع ديكتاتوري هو تفكك الديكتاتورية وليس الطغيان".

وأما الفقراء المنتمون إلى مجموعة مترابطة (قبيلة أو عائلة أو فئة عرقية أو دينية) فلا يشعرون بالإحباط، ولا برغبة في الانضمام إلى حركة جماهيرية، فالمرشح الأمثل للجماعات الجماهيرية هو الفرد الذي يقف وحيداً من دون جماعة متماسكة، ذلك أن ثمة تناقضاً بين الترابط الأسري والحركات الجماهيرية. وبذلك فإن الترابط الاجتماعي يساعد على منع التمرد، وحتى عندما يكون التضامن ذا طبيعة لا تسمح بإدخال رب العمل في دائرته فإنه يقود إلى تعزيز الشعور بالرضا بين العمال وزيادة فاعليتهم وإنتاجهم.

والحركات الجماهيرية تنجح بمقدار قوتها التنظيمية وتماسكها أكثر مما تنجح بفعل أيديولوجيتها ووعودها، وعندما يضعف نمط اجتماعي سائد أو كان سائداً تصبح الظروف مواتية لصعود حركة جماهيرية ونجاحها في إيجاد تنظيم جماعي أشد تماسكاً وقوة من التنظيم المنهار.

 

العمل الجماعي والتضحية بالنفس

يناقش المؤلف في هذا الجزء من الكتاب كيف تستمد الحركة الجماهيرية حيويتها من نزعة أتباعها إلى العمل الجماعي والتضحية بالنفس، وأما الأيديولوجيا والدعاية فهما في رأيه ليسا إلا أداتين تقودان إلى العمل الجماعي والتضحية، ويقتضي ذلك الإنقاص من قيمة النفس، والتخلي عن الخصوصية والآراء الشخصية، لدرجة أن يتحول عضو الحركة إلى منبوذ وكيان هش إذا خرج منها.

ويقرّر المؤلف أن المحبطين تنمو لديهم على نحو عفوي الرغبة في العمل الجماعي، وفي الوقت نفسه في التضحية بالنفس، وهكذا فإنه من الممكن تفهّم النزعات والأساليب التي تتبع لغسل الأدمغة إذا راقبنا كيف تولّد داخل العقل المحبط، فاحتقار الحاضر، والقدرة على تخيّل أشياء غير واقعية، والنزعة إلى الكراهية، والاستعداد للتقليد، وسرعة التصديق، والاستعداد لتجربة المستحيل، كل هذه المشاعر وكثير غيرها، تزحم عقل الإنسان المحبط، وتدفعه إلى الأعمال اليائسة.

ويرى المؤلف أن الحركة الجماهيرية عندما تجتذب غير محبطين، فهذا يعني على نحو قاطع أنها تشهد تغييراً كبيراً، وأنها تتأقلم مع الوضع الراهن، ويزيد الإقبال عليها في تحويلها إلى مشروع مؤسسي، ولكن في رأي قادة التطرف فإن الحركة إذا خضعت لأفراد يريدون الاستفادة من الحاضر فإن مهمتها تنتهي.

ولا تنبع فاعلية الأيديولوجيا من مضمونها كما يلاحظ هوفر، ولكن من عصمتها عن الخطأ. يقول بيرجسون: "لا تتجلى قوة الأيديولوجيا في القدرة على تحريك الجبال، ولكن في القدرة على عدم رؤيتها وهي تتحرك". وعندما تصبح الأيديولوجيا مفهومة تفقد كثيراً من قوتها، وينزع الأيديولوجي إلى استخدام الكلمات كما لو كان يجهل معناها الحقيقي، ومن هنا يجيء شغفه بالنقاش البيزنطي والجدال العقيم.

إن امتزاج سهولة التصديق بالكذب ليس من خصائص الأطفال وحدهم، ولكن انعدام القدرة على رؤية الأشياء على حقيقتها يقود إلى السذاجة وإلى الكذب في الوقت نفسه.

يؤمن المتطرف بفكرة أو قضية لا بسبب عدالتها أو سمّوها، ولكن لحاجته الملحة إلى شيء يتمسك به، ويعتبر المتطرف أية قضية يعتنقها قضية مقدسة، ولا يمكن إبعاده عن قضيته بالمنطق والنقاش، ولا يجد صعوبة في القفز بقوة من قضية مقدسة إلى قضية مقدسة أخرى (كل القضايا التي يؤمن بها مقدسة) فالروابط التي تجمع بين الرجعي والراديكالي أكثر من الروابط التي تجمع أياً منهما بالليبرالي أو المحافظ، ونقيض المتديّن المتعصّب ليس الملحد المتعصّب، ونقيض المتطرّف الوطني ليس الخائن. يقول أرنست رينان: "عندما يكف العالم عن الإيمان بالله فإن الملحدين سيكونون أشد الناس تعاسة".

والحركات الجماهيرية تحطم بإثارة المشاعر الملتهبة التوازن النفسي الداخلي، وتضمن اغتراباً دائماً عن النفس، فأي وجود مستقل هو في نظر هذه الحركات هو وجود عقيم لا معنى له، والإنسان بمفرده بائس وملوّث وعديم الحيلة، ولا يمكن للإنسان الخلاص إلا برفض نفسه والعثور على حياة جديدة في أحضان كيان جماعي مقدس (جماعة أو أمة)، وازدراء النفس هذا يولّد مشاعر تظل في حالة اشتعال دائم.

ولا يستطيع المتطرف أن يستمد الثقة من قدراته الذاتية أو من نفسه التي تنكر لها، ولكنه يجد الثقة بالتصاقه المتشنّج بالكيان الذي احتضنه، ويعتنق المتطرّف قضية ما، ليس بسبب عدالتها أو سموّها، ولكن لحاجته الملحة لشيء يتمسك به، ومن المستبعد أن يستطيع المتطرّف الذي هجر قضيته أو الذي وجد نفسه فجأة بلا قضية أن يتأقلم مع وجود فردي مستقل، الأغلب أنه سيبحث عن قضية أخرى، شأنه شأن المسافر المفلس الذي ينتظر مرور سيارة تحمله مجاناً.

ومن أهم العوامل التي تشجّع على التجمع المتطرّف "الكراهية" وهي أكثر العوامل الموحدة شمولاً ووضوحاً، فالكراهية الجماعية تستطيع أن توحّد العناصر المتنافرة، بل إن هذه الكراهية يمكن أن توجد رابطاً مشتركاً مع عدو على نحو ينخر قواه ويضعف مقاومته، والكراهية تعبير عن إخفاء الشعور بالنقص أو قلة الأهمية، أو الذنب أو العيوب الأخرى، كثيراً ما يحدث عندما يظلمنا شخص أن تتحوّل كراهيتنا إلى شخص آخر أو جماعة أخرى لا علاقة لها بالأمر.

وتتبنى الحركة الجماهيرية أهدافاً مستحيلة وغير واقعية، تتماشى مع رغبات المحبطين، ويشعر المحبط بالرضا عن الوسائل العنيفة التي تتبعها الحركة الجماهيرية أكثر من شعوره بالرضا عن أهداف الحركة، إن التطلّع إلى الشيء لا امتلاكه بالفعل هو الذي يؤدي إلى التضحية بالنفس، فالأحلام والرؤى والآمال الجامحة أسلحة وأدوات فاعلة.

ولا تقاس فاعلية أيديولوجيا بعمقها أو سموها أو صدق الحقائق التي تنطوي عليها، بل بقدرتها على حجب الشخص عن نفسه وعن العالم كما هو عليه بالفعل. يقول باسكال: "الأيديولوجيا الفاعلة لا بد أن تعارض الطبيعة والمنطق والرغبة".

وعندما تبدأ حركة في عقلنة أيديولوجيتها وجعلها مفهومة، فمعنى هذا أن فترتها الديناميكية قد انتهت، وأنها أصبحت حريصة على الاستقرار، والاستقرار يحتاج إلى استقطاب المثقفين وكسب ولائهم، فتبتعد عن تحريض الجماهير على التضحية بالنفس، ومن هذا الحرص يجيء الحرص على شرح الأيديولوجيا وعقلنتها.

وأخيراً يتوقع المؤلف أن القارئ لن يقتنع بكثير من أفكار الكتاب، وقد يشعر بأن بعض الأشياء بولغ في تضخيمها، بينما أهملت أشياء أخرى، ولكنه يرد بأنه لا يدعي أن كتابه أكاديمي موثق. بل على العكس من ذلك فإن الكتاب يحتوي على أفكار، مجرد أفكار، ولا يرفض "أنصاف الحقائق" إذا كانت تحتوي على منهج جديد، وتساعد على توليد أسئلة جديدة، ويستشهد بمقولة السياسي والإعلامي والتر بيجهوت (1826 ـــ 1887): "إذا أردت إيضاح مبدأ ما فعليك بكثير من المبالغة وكثير من الحذف".

 

إضافات

يعتبر هوفر أن أول ما يجذب المنضمين الجدد إلى حركات ثورية صاعدة هو رغبتهم في التغيير المفاجئ لأوضاعهم المعيشية. أي أن الحركات الثورية بالنسبة إليهم هي أداة واضحة من أدوات التغيير، والحركات الدينية والقومية قد تكون هي الأخرى وسائل للتغيير. وكي يندفع الرجال في مغامرة تستهدف تغييراً شاملاً من توافر شروط عدة، فلا بد من أن يشعروا بالتذمّر من غير أن يكونوا فقراء فقراً مدقعاً مثلاً. ويجب أن يكون لديهم الشعور بأنهم عبر اعتناق العقيدة الصحيحة أو اتباع الزعيم الملهم، أو اعتناق أساليب جديدة في العمل الثوري، سيصبحون قوة لا تُقهر. بالإضافة إلى ذلك كلّه، يجب أن تكون لديهم تطلعات جامحة إلى المنجزات التي ستجيء مع المستقبل. كذلك، يجب أن يكون هؤلاء جاهلين جهلاً تاماً بالعقبات التي ستعترض طريقهم، فالرجال الذين أشعلوا الثورة الفرنسية لم يكن لديهم أي قدر من الخبرة السياسية. والأمر نفسه يصدق على البلاشفة والنازيين والثوار في آسيا. أما الرجال المجربون ذوو الخبرة فيأتي دورهم في مرحلة لاحقة، إذ إن هؤلاء لا ينضمون إلى الحركة إلا بعد التحقّق من نجاحها، فخبرة المواطنين الإنكليز السياسية مثلاً، هي التي تجعلهم بمنأى عن الحركات الثورية.

 

خميرة التغيير

يؤكد المؤلف أنه عندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية، فإنهم عادة، يصبحون جاهزين للالتحاق بأي حركة فاعلة، وليس بالضرورة إلى حركة بعقيدة معينة أو برنامج معين. في المدة التي سبقت صعود هتلر إلى الحكم كان من المستحيل أن يتوقع أحد ما إذا كان سينضم الشباب المتوترون إلى الشيوعيين إو إلى النازيين. وفي أثناء غليان روسيا القيصرية كان اليهود والروس مستعدين للثورة على القيصر، وللانضمام إلى الصهيونية في الوقت نفسه، فكان أحد أبناء العائلة الواحدة ينضم إلى الثوار والآخر ينضم إلى الصهاينة. ويقتبس الكاتب هنا كلام والدة حاييم وايزمن: «كل ما قد يحدث سوف يكون ساراً. إذا كان صموئيل (الإبن الثوري) على حق، فسنكون سعداء في روسيا، وإذا كان حاييم (الإبن الصهيوني) على حق، فسنذهب إلى العيش في فلسطين». هذا الاستعداد للتحوّل، لا ينتهي بالضرورة، عند اعتناق المؤمن الصادق حركة ما. فعندما تكون هناك حركات جماهيرية متنافسة نجد حالات كثيرة من نقل الولاء من حركة إلى أخرى.

وبما أن الحركات الجماهيرية تستمد أتباعها من الأنماط البشرية نفسها وتجذب النوعية نفسها من العقول، يستنتج هوفر بأن جميع الحركات الجماهيرية متنافسة في ما بينها ومغنم واحدة منها لا بد من أن يكون مغنم الأخرى. كذلك جميع الحركات الجماهيرية تبادلية، بوسع أي حركة منها أن تحول نفسها، بسهولة، إلى حركة أخرى. فقد تتحوّل الحركة الدينية إلى ثورة اجتماعية أو حركة قومية، والثورة الاجتماعية إلى حركة قومية متطرفة أو إلى حركة دينية، والحركة القومية قد تصبح ثورة اجتماعية، أو حركة دينية.

يشير الكاتب إلى أن المنبوذين والمهمّشين هم المادة الخام التي يُصنع منها مستقبل الأمة، أي أن الحجر المطروح في الشارع يصبح حجر الزاوية في بناء عالم جديد. فالأمة التي تخلو من الغوغاء هي التي تتمتع بالنظام والسلام والاطمئنان، إلا أنها أمة تفتقر إلى خميرة التغيير. أما السبب الذي يجعل هؤلاء الغوغاء يؤدون دوراً مهماً في مسيرة الأمة هو أنهم لا يكنون أي احترام للأوضاع القائمة. إنهم يعدون حياتهم فاسدة بلا أمل في العلاج، ويحملون النظرة نفسها إلى الأوضاع القائمة. ومن هنا فإنهم على استعداد، دوماً لتحطيم كل شيء ونشر الفوضى والقلاقل. فالغوغاء يتوقون إلى صهر أنفسهم التي يعدونها بلا معنى في مجهود جماعي خارق وإلى الانخراط في عمل جماعي موحد. الغوغاء دائماً في مقدمة الأتباع، سواء كنا بصدد ثورة أو هجرة جماعية أو حركات عرقية، وهم من ثم يطبعون الحركات التي تغير طبيعة الأمم ومسار التاريخ.

ويبين الكاتب الذايدي: "المؤلف لا يجيب بشكل تقليدي متوقع، لقد تغلغل ايريك هوفر في أزقة الفقر وخرائطه وألوانه وجعل (محدثي الفقر) هم رأس الحربة الداعمة لأي حركة جماهيرية، ومثلهم من تحسن وضعهم الاقتصادي قليلا ونقلهم من مستوى الإعدام والإدقاع إلى وضعية أفضل توفر لهم هامشا ما للتفكير والحركة، أي إن الفقراء ليسوا أنصارا للثورات كلهم، بل محدثي الفقر ومن تحسن وضعهم قليلا فقط! – وليس معنى هذا بالضرورة أن كل أفراد هذه الطبقة سينخرطون بشكل أوتوماتيكي في أي عمل ثوري – أما المعدمون والمدقعون فهم أبعد عن تأييد الحركات الثورية، بل إنهم، كما صنفهم المؤلف، يحسبون على فئة المحافظين بسبب خوفهم الدائم من المستقبل"!.

يبحث الكتاب في الأساليب التي تمكّن التنظيمات عبرها من السيطرة على الشخص الضحية وتحويله إلى متطرف مستعد لبذل نفسه في سبيل القضية المقدسة، ويحاول تحليل البذور والجذور التي تغذي طبيعة هذا الشخص. وتبدأ رحلة التحول إلى الإرهاب من العقل المهزوم حيث يرى الإنسان المحبط عيباً في كل ما حوله فينسب كل مشكلاته إلى فساد عالمه ويتوق إلى التخلص من نفسه بوصفه فرداً وصَهْر ذاته في كيان نقي جديد يريحه من الإحساس بالغربة القاتلة ويمنحه أمان الانتماء إلى أسرة جديدة تحتضنه وتعيد إليه احترامه لذاته.

المتطرف الحقيقي كما يراه الكاتب الأمريكي إريك هوفر هو الذي المتطرف يدعي بأنه مالك الحقيقة المطلقة ولا يقبل من يقول بأن الحقيقة نسبية, بل يسعى إلى عزله أو أبلسته قبل نفيه. وهو أحادي التفكير لا يقبل بتعددية الأفكار, مقتنع بأن القضية التي يطرها مقدسة, والبرهان عليها  إشراق من داخله, وليس بالحجة والمنطق والمعرفة, ولا يعني ذلك أن المتطرف صاحب مبدأ, بل انه يمكن أن ينتقل من مذهب إيديولوجي إلى آخر, وفي كل مرة يضفي القداسة على مذهبه وبنفس الدرجة من التطرف. لذلك فهو يتوافق نفسياً مع المتطرفين في المذاهب الأخرى, لأنه مثلهم لا يقبلون بنسبية الحقيقة!.

 

كيف يصبح الإنسان مجرماً؟!

الشاب الأميركي ذو الأصول الباكستانية الذي قُبض عليه وهو يحاول الهرب بعد وضعه لمتفجرات شديدة التدمير في ساحة "تايمز سكوير" بنيويورك أواخر شهر أبريل الماضي، هو أحد الأمثلة صعبة الدراسة في كيفية تحول الفرد المنتمي للطبقة الوسطى العليا إلى إرهابي مجرم؟ يقتل جماعيّاً وبدمٍ بارد دون أن يتردد أو يُنهي مشروعه الدموي مدفوعاً بانتمائه الطبقي المريح، وبفعل معرفته بمحدودية نتائج ما قام به على قضيته – إن كانت هناك قضية – وبالنتائج السلبية التي قد تعود على أسرته ومجتمعه الإثني والديني داخل بلاد طالما حاول هو وغيره كثيراً الحصول على مواطَنتها.

في مقال له في صحيفة الغارديان كتب سكوت آتران: قبل ستين عاماً كتب المفكر إيريك هوفر في كتابه (المؤمن الصادق): "كلما كبرت أماني المرء، ثم كلما كان سقوطه أشد، زاد احتمال انخراطه في إحدى الحركات الجماهيرية العنيفة". وإذا ما نظرنا الى شخصية فيصل شاهزاد، المتورط في محاولة تفجير ساحة تايمز سكوير في نيويورك، فسنجد فيها نسخة معاصرة للمعايير التي طرحها هوفر من قبل. لقد أظهرت الأبحاث ان الإرهابيين عموماً لا يرتكبون جرائمهم لدواعي الثأر وعدم التعاطف، أو الفقر والجهل، أو التعرض لغسيل الدماغ، والدراسة في مناطق متطرفة إبان الطفولة، أو الإجرام والنزعة الانتحارية، أو الجوع الجنسي الى الحور العين. كان شاهزاد إبناً لجنرال سابق في سلاح الجو الباكستاني، قدم الى أميركا ليتابع دراسته الثانوية، وليحصل على ماجستير في إدارة الأعمال، وعلى الجنسية الأمريكية. تابع شاهزاد حياته السهلة كشاب مترف يحرص على ارتداء النظارات الشمسية من الماركات باهظة الثمن، لكن صيف عام 2009 حمل لنا صورة مختلفة عنه، إذ فقد منزله، وعمله، ولم يعد مقرباً من زوجته، ولكنه وجد عزاءه في عملية إعادة ترتيب شخصيته، فتحول الى التطرف والتمرد، وذهب الى باكستان "للبحث عن الذات"، فوجد الجهاد.

يقول (هوفر) في كتابه إن "شخصية أمةٍ (ما) ومصيرها تحددهما العناصر الأقل قدراً فيها، إن الجرم الثابت من أي أمة هو وسطها، إلا أن هذا الوسط الذي يتكون من المواطنين العاديين الطيبين الذين يقومون بأعمالهم في المدن والأرياف، كثيراً ما تتحكم فيه أقليات الصفوة من الطرف، والغوغاء من طرف آخر، إن مسرحية التاريخ يمثلها عادةً طرفان، ودون مبالاة بالأغلبية التي تقع في الوسط".

ويؤكد (هوفر): "إن الأمة التي تخلو من الغوغاء هي التي تستمتع بالنظام والسلام والاطمئنان، إلا أنها أمةٌ تفتقر إلى التغيير، وقد يكون هذا التغيير مدمراً وغير طبيعي؛ ثم يسرد المؤلف الجماعات التي تكون صيداً ثميناً للحركات الإرهابية والإجرامية أو التي تقود الجماهير نحو العنف والتطرف.. ومن تلك الجماعات: الفقراء فقراً مدقعاً وليس فقراً محتملاً، العاجز عن التأقلم، المنبوذون، الأقليات، المراهقون، شديدو الطموح سواء وجد طموحهم المجال أو لم يجده، الواقعون تحت تأثير الرذيلة، العاجزون جسديّاً أو عقليّاً، المفرِطون في الأنانية، الملُولُون، مرتكبو المعاصي".

أهمية كتاب (المؤمن الصادق) تتأتى من أننا في خضم كم هائج من التيارات المتطرفة سواء أكانت "شعبوية" أو "جهادية" أو "دينية" التي تتحكم بواقع ومصير العديد من مجتمعاتنا المسلمة، يقول هوفر: "تستطيع الحركات الجماهيرية، عبر إثارة المشاعر الملتهبة في قلوب أتباعها، أن تحطم التوازن النفسي الداخلي، كما أنها تقوم باستخدام طرق مباشرة لضمان اغتراب دائم عن النفس، فتصف هذه الحركات أي وجود مستقل متميز بأنه وجود عقيم لا معنى له، بل وتذهب الى اعتباره وجوداً منحلاً شريراً".

ويبين هوفر حتمية المتطرف من خلال أن المتطرف ليس له إلا أن يشعر بالنقص وفقدان الثقة، فهو لا يستطيعأن يستمد الثقة من قدراته الذاتية، أو من نفسه التي تنكر لها، ولكنه يجدها في الالتصاق المتشنج بالكيان الذي احتضنه، ويجد في هذا الالتحام ما يحفزه على الولاء الأعمى.

 

 

اسم الكتاب: "المؤمن الصادق… أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية"

المؤلـف: إيريك هوفر

ترجمة: الدكتور غازي بن عبدالرحمن القصيبي

الناشر: دار كلمة ودار العبيكان

الطبعة الأولى – 2010 – 318 صفحة

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً