قراءةٌ في فهم العلاّمة معرفت
د. محمد كاظم شاكر(*)
مقدّمة
تُعتبر لغة القرآن من المسائل الهامّة في مجال فهم وتفسير القرآن الكريم، بحيث يمكن القول: إن الفهم الصحيح للكثير من الألفاظ والقضايا القرآنية رهنٌ بإيضاح النظريات اللغوية في هذا الشأن.
وقد أفضَتْ النزعة التجريبية في القرون الأخيرة إلى أن تواجه النظرة التقليدية والعُرْفية ـ في الكثير من المفاهيم والقضايا الموجودة في النصوص الدينية ـ تحدّيات جمّة.
ومن ناحية أخرى أفضى اتّساع رقعة المباحث المعرفية واللغوية في العلوم الإنسانية وتعميقها إلى فتح آفاق جديدة أمام الباحثين في الشأن، لكي يتمكنوا من قراءة النصوص الدينية برؤية أخرى، وقد تكون القراءة الجديدة مغايرةً أحياناً للقراءة السابقة أو لقراءات السابقين.
إن المباحث اللغوية الراهنة، سواء في مجال توظيف المفردات أو في مورد القضايا، تتناول مسائل جادّة ومصيرية للغاية، بحيث قد يؤدّي التغيير في النظرة إلى إحدى المسائل إلى حدوث تغيير جذري في تفسير النصوص الدينية، وتبعاً لذلك حصول تحوُّل كبير في العقائد والطقوس الدينية.
ومن هنا يجدر بل يجب على مفسِّر القرآن الكريم في ما يتعلّق بقواعده التفسيرية أن يبيّن رؤيته بشأن كلّ واحدة من الفرضيات المطروحة في مجال اللغة بشكلٍ مستدلّ.
وقد تنبَّه الشيخ محمد هادي معرفت& ـ بوصفه باحثاً ومحقّقاً معاصراً في الشأن القرآني ـ إلى ضرورة الخوض في المباحث اللغوية، وعمد في بعض مؤلَّفاته إلى تحليل بعض جوانب هذا الموضوع. وبطبيعة الحال يجب القول: إن سماحته لم يتناول الكثير من المباحث المطروحة في هذا الشأن؛ وذلك بسبب صعوبة وتعقيد المساحات المرتبطة بلغة القرآن، وحداثة بعض المباحث في مجال القرآن، واعتبار مجال لغة القرآن من المجالات المتداخلة([1])، أو إنه اكتفى بمجرَّد الإشارة إليها باختصار، أو إبداء الموقف العام منها.
ومن ذلك أن سماحته قد تعرّض في كتابه «التفسير الأثري الجامع» إلى مباحث في هذا الشأن تحت عنوان «لسان القرآن»([2])، إلا أن بحثه في هذا الشأن لم يزِدْ على صفحة واحدة وبضعة أسطر فقط!
ولكنّه تناول في موضع آخر من هذا الكتاب بحثاً تحت عنوان «أسلوب القرآن»([3])، تحدّث فيه عن شفهية أو تحريرية الأسلوب البياني للقرآن، وهو في واقعه من المباحث اللغوية.
وفي كتابه «التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب» تناول بحثاً تحت عنوان «منهج القرآن في الإفادة والبيان»، حيث تحدَّث فيه عن العُرْف الخاص بالقرآن في بيان المفاهيم الدينية الحديثة، وتطبيق المحسِّنات الأدبية في القرآن([4]).
وفي ما يتعلّق بتأثُّر القرآن بثقافة عصره أجاب سماحته، في كتابه «شبهات وردود حول القرآن»، عن الشبهات المرتبطة بتأثُّر القرآن بالسابقة الثقافية واللغوية والأدبية للعرب في العصر الجاهلي.
كما تناول في كتابه «التمهيد في علوم القرآن» توظيف القرآن للمحسِّنات الأدبية، ضمن المباحث المتعلّقة بـ «إعجاز القرآن»، بالتفصيل([5]).
وقد كتب الشيخ معرفت سلسلةً من المقالات تحت عنوان «لغة القرآن»، نُشرت في مجلة «فصلنامه قرآني بينات»، ثم عمد إلى نشرها لاحقاً ضمن كتاب «تفسير ومفسّران» أيضاً([6]).
وفي هذا المقال نسعى ـ ضمن تقرير وبيان ما ذكره الشيخ معرفت في مجال لغة القرآن ـ إلى بيان رأيه وآراء الآخرين في هذا الشأن.
«لغة القرآن» في القرآن
إن المباحث المطروحة حالياً في مجال لغة القرآن، ليست بالأمر الذي يمكن العثور على شيء بشأنه في القرآن صراحةً. ومع ذلك لم تخْلُ الكتب من بعض الاستنباطات في هذا الشأن من بعض الآيات القرآنية.
وإن الآية الأشهر والأوضح التي يتمّ الاستشهاد بها والبحث والنظر فيها بهذا الشأن قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4). هناك مَنْ تصوّر أن المراد من «اللسان» في هذه الآية مجرّد اللغة التي يتكلّم بها القوم، كأنْ يكون القرآن ـ على سبيل المثال ـ قد نزل باللغة العربية، والتوراة باللغة العبرية. وقد قال العلامة الطباطبائي في ذلك: «اللسان هو اللغة، قال الله سبحانه وتعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 195)»([7]). ولكنّه أضاف بعد ذلك ـ بطبيعة الحال ـ قائلاً: «أرسلهم باللسان العادي الذي كانوا يكالمون قومهم ويحاوروهم به؛ ليبيِّنوا لهم مقاصد الوحي»([8]).
ويتبيَّن من بعض الروايات والأخبار أن المراد من اللسان الذي نزل بها القرآن هو رعاية القواعد المتعارفة في اللغة العربية. ومن ذلك: نصّ الرواية القائلة: «جاء في الحديث أن قوماً أتوا رسول الله‘، فقالوا له: ألستَ رسول الله؟ قال لهم: بلى، قالوا له: وهذا القرآن الذي أتيتَ به كلام الله؟ قال: نعم، قالوا: فأخبرنا عن قوله: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾ (الأنبياء: 98)، إذا كان معبودهم معهم في النار فقد عبدوا المسيح، أفتقول: إنّه في النار؟ فقال لهم رسول الله‘: إن الله سبحانه أنزل القرآن عليَّ بكلام العرب، والمتعارف في لغتها أن (ما) لما لا يعقل، و(مَنْ) لمَنْ يعقل، و(الذي) يصلح لهما جميعاً، فإنْ كنتم من العرب فأنتم تعلمون هذا. قال الله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ﴾، يريد الأصنام التي عبدوها، وهي لا تعقل، والمسيح× لا يدخل في جملتها؛ فإنه يعقل، ولو كان قال: (إنكم ومَنْ تعبدون) لدخل المسيح في الجملة، فقال القوم: صدقتَ يا رسول الله»([9]).
وقد ذهب بعض المحقِّقين المعاصرين إلى غلبة الظنّ بأن يكون المراد من «لسان القوم» في الآية الرابعة من سورة إبراهيم لغة التفاهم، وليس لغة القوم، حيث قال في هذا الشأن: إن المراد من لسان القوم في القرآن ليس هو لغة القوم ضرورةً، بل قد يعني توظيف ثقافة الشعب، بمعنى مراعاة المستوى والأفق الفكري للناس. فإذا كان المخاطبون يعيشون ضمن رقعة جغرافية وثقافية واجتماعية خاصّة وجب على النبي في التبيين الدقيق لمفاد كلامه ـ بالإضافة إلى توظيف لغة هؤلاء القوم ـ أن يكون كلامه متناسباً مع المستوى والأفق الذي يفهمونه. وأن تكون الألفاظ التي يستعملها مطابقة لمستوى معلوماتهم وتجاربهم. والشاهد على ذلك ما رُوي عن النبيّ الأكرم‘ أنه قال: «نحن معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم»([10]). وهناك روايات أخرى بهذا المضمون، نقلها العلامة المجلسي في كتاب «بحار الأنوار»([11])، تؤيِّد هذا الاحتمال، من قبيل: الرواية القائلة: «ما كان الله ليُخاطب خلقه بما لا يعلمون»([12]).
لقد دافع هذا المحقِّق المعاصر عن رأيه بالدليل.
وإن هذا الدليل، القائم على أن المراد من لسان القوم هي لغة التفهيم والتفاهم، وليست لغة القوم، هو أنه لا يوجد دليلٌ عقلي يمنع من إرسال نبيّ ألماني إلى أمّةٍ من العرب. إنما الذي يحكم به العقلاء هو أن يكون هناك تفاهمٌ بين النبيّ والذين أرسل إليهم. من هنا إذا كان هذا الشخص الألماني يعرف العربية جيداً، أو كان معه مَنْ يستطيع ترجمة كلامه إلى العربية، يكون الغرض متحقِّقاً؛ لأن الدليل الذي يمنع العقلاء هو نقض الغرض أو اللغوية، بمعنى أنه حتّى إذا لم يكن في البَيْن محالٌ أو تناقضٌ، إلاّ أن العقلاء مع ذلك يقولون: إذا لم يكن هناك تفاهمٌ بين الناس والنبي، ولم يستطع الناس فهم كلام النبيّ؛ لأنه يتكلم لغة غير لغتهم، أو كان يتكلّم بكلامٍ فوق قدرتهم الاستيعابية، يكون في ذلك نقضٌ للغرض، ويكون ما يقوم به لغواً([13]).
وقال كاتبٌ آخر: «عندما يُقال: إن القرآن قد نزل بـ «لسان القوم» فإن هذا لا يعني مجرّد نزوله باللغة العربية، بل المراد أن القرآن؛ من باب التسهيل والتسامح، يستعمل ذات التعابير السائدة في التحاور العربي. فعلى سبيل المثال: يشيع بين العرب في حواراتهم تغليب صيغة المذكَّر، فسار القرآن في خطابهم على تغليب الذكر في خطابه؛ جرياً على مألوف عادة العرب»([14]).
وهناك طائفةٌ ثالثة تقول: إن المراد من مماشاة الوحي للسان القوم هو التماشي مع ثقافة العصر. وفي ذلك يقول سماحة الأستاذ بهاء الدين خُرَّمشاهي: «عندما يختار الله مقطعاً من لغة الساكنين في شبه الجزيرة العربية في القرن السابع للميلاد، بمعنى اللغة الخاصة بزمنٍ ومكان وتاريخ وجغرافيا محدّدة، ليكون هذا المقطع المحدَّد إطاراً لبيان وحيه، فهو يتَّخذ في الوقت نفسه من ثقافة ذلك العصر ظرفاً متناهياً لبيان مفهومه اللامتناهي، وأن يعكس البحر المحيط في تلك البركة. من هنا فإن القرآن إذا عكس الرؤية البطليموسية في علم الهيئة، أو الرؤية الجالينوسية في علم الطبّ، علينا أن لا ننكر عليه ذلك. وإذا توصَّل العلم لاحقاً إلى إبطال رؤية بطليموس في علم الهيئة، أو رؤية جالينوس في الطبّ، علينا أن لا نستنتج من ذلك بطلان الأحكام القرآنية؛ لأن القرآن إنما يعمل على مجرّد توظيف ثقافة العصر، لا أكثر»([15]).
وبذلك فإن سماحته يذهب إلى أن الله سبحانه قد عمل على توظيف ثقافة عصر نزول الوحي ـ من الآداب والعادات والتقاليد والتعاليم والأعراف ـ، وبعضاً من ثقافة الجاهلية، عالماً وقاصداً وعامداً([16]).
الردّ على القول بأن القرآن بـ «لسان القوم» يعكس ثقافة العصر
عمد الشيخ معرفت، في كتابه القيِّم «شبهاتٌ وردود حول القرآن الكريم»، إلى معالجة مسألة استناد البعض إلى قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4) للقول بأن القرآن؛ حيث يستعمل لغة العرف السائدة بين عرب الجاهلية، قَبِل الكثير من المعتقدات السائدة في الثقافة الجاهلية وأمضاها. فعلى سبيل المثال: إن أموراً من قبيل: النعيم في الآخرة، مثل: الحور العين والقصور والأشجار والأنهار الجارية، إنما تكون باهجةً لمَنْ يعيش حياة الصحراء الجافة والقاسية التي كان يعيشها العرب في تلك الحقبة. كما وافق القرآن بذلك بعض العقائد الخرافية للعرب من الأمور التي لم تعُدْ ذات قيمة في الوقت الراهن([17]).
وبعد أن بيَّن الشيخ معرفت أن استعمال القرآن لمفردات القوم لا يعني بالضرورة قبوله بجميع التركة الثقافية لأولئك القوم، وإنما يأتي توظيف المفردات لمجرد المجاراة مع القوم في استعمالاتهم، لا أكثر، وهو أمرٌ شائع في جميع اللغات، قال سماحته في توضيح ذلك: «إن التفاهم في أيّ لغة لا يستدعي سوى العلم بمعاني الكلم في الاستعمال الدارج فعلياً لدى القوم، فكان ينبغي المماشاة معهم ومجاراتهم في تبادل المفاهيم حَسْبَ ما يتعاهدونه الآن، من غير نظر إلى أصل الوضع والدواعي التي دعَتْ إلى وضع كلّ لفظٍ لمعنى خاصّ؛ فإن هذه الدواعي كانت ملحوظةً لدى الوضع، ولا تلحظ حين الاستعمال، وربما كان مستعملو اللفظ في ذهول عن الأسباب الداعية للأوضاع الخاصّة الأولية.
خُذْ مثلاً: لفظ «المجنون»، فإنها قد وُضعت للمصاب بداء توتُّر الأعصاب، وكان السبب الداعي لهذا الوضع في حينه اعتقاد أنه أصيب بمساس الجنّ. واليوم أصبحت هذه العقيدة خرافة، غير أن أبناء اللغة لا يزالون يتداولون اللفظة لغرض التفاهم مع بعضهم، حيث أصبح هذا اللفظ مجرّد علامة للدلالة على هذا المعنى بمفهومه الجديد، لا الخرافة البائدة. وعليه فالاستعمالات الدارجة تابعةٌ لمداليل الألفاظ، كعلائم على المعاني مَحْضاً، ولا تلحظ الدواعي والمناسبات الأولية التي لاحظها الواضع حين الوضع.
فلنفترض أن لفظ «الخُلُق» إنما وُضع للصفات والملكات النفسية لمّا كانت جاهلية العرب تعتقد أن للصفات النفسية منشأً في الخليقة الأولى، والإنسان مجبولٌ عليها، ومسيَّر في حياته وفق ما فُطر عليه، تلك عقيدةٌ جاهلية بادت، ولكنّ التسمية دامت. والمسلمون اليوم لا يريدون هذا المعنى قطعيّاً.
وهكذا في ما جاء استعماله في القرآن؛ فإنها مجاراة في الاستعمال، وليس اعترافاً بما تحمله اللفظة من مفهومها الأوّلي البائد»([18]).
ومع تقديرنا لرؤية الشيخ معرفت يجب علينا أن نضيف إلى ما قاله سماحته: إن جميع الذين تحدَّثوا عن تأثُّر لغة القرآن بثقافة العرب في عصر النزول لم يكونوا بوارد إيجاد أو دعم شبهة حول القرآن والإسلام، بل على العكس، فإن البعض منهم يطرح هذه المسألة بوصفها نظرية تعمل على صيانة القرآن، بمعنى أن بعض الإشكالات التي يثيرها أعداء الإسلام ضدّ القرآن أحياناً إنما تنظر في الحقيقة إلى الأدبيات واللغة السائدة في ثقافة العرب، ولم تستهدف أصل الوحي والقرآن. وبطبيعة الحال يجب القول: إن الشيخ معرفت ـ بغضّ النظر عن دوافع أصحاب نظرية «تأثُّر القرآن بثقافة عصره» ـ قد توجّّه بالنقد إلى أصل النظرية.
القرآن الكريم ولغة العرف؛ العرف العامّ أو الخاصّ
لقد تحدّث الشيخ معرفت في كتابه «التفسير الأثري الجامع»، تحت عنوان «لسان القرآن»، عن البحث بشأن لغة القرآن، بشكلٍ مختصر، لا يعدو الإشارة العابرة. فإنه من خلال الاستشهاد ببعض الآيات قال بأن لغة القرآن هي ذات لغة القوم الذين عاش النبي بين ظهرانيهم. ثم استشهد سماحته بالآيات التالية:
ـ ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4).
ـ ﴿فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ﴾ (الدخان: 58).
ـ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (القمر: 17، 22، 32، 40).
ـ ﴿قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الزمر: 28).
ثم قام الأستاذ معرفت بعد ذلك بنقل رواية عن النبيّ الأكرم‘ قال فيها: «إن الله أنزل القرآن عليَّ بكلام العرب، والمتعارف في لغتها»([19]).
ثم عمد سماحته إلى طرح هذا السؤال: هل لغة القرآن هي لغة العرف العام، بحيث يكون عموم الناس هم المخاطَبون بخطابات القرآن، أم أن المخاطَب بالقرآن هم خصوص أهل النظر والاستدلال فقط؟([20]).
وجوابه عن ذلك باختصارٍ هو أن للقرآن ظاهراً وباطناً. وعلى هذا الأساس يكون عموم الناس مخاطَبين بظاهر القرآن. ومن ناحية أخرى استعمل القرآن مفاهيم أدبية دقيقة بالكامل، ومن هنا يمكن لأهل النظر من المحقِّقين والمتعمِّقين أن يقتبسوا من القرآن بمقدار ما تتّسع له طاقتهم الفكرية أيضاً([21]).
إن هذا الكلام من الشيخ معرفت، المقتبس من أحاديث الظاهر والباطن والتأويل والتنزيل، نجده في كلمات العرفاء أيضاً، ومن بينهم: محيي الدين ابن عربي، إذ يقول في «الفتوحات المكية» ما معناه: «إن كلمات العارفين في شرح كتاب الله حقائق نافعة في تفسير القرآن، دخلت إلى نفوس العارفين. وإن ما يراه العرفاء في قلوبهم يدعونه إشارةً، ولا يسمّونه تفسيراً؛ كي لا يثير ذلك حفيظة الفقهاء. كان بإمكان الله أن يُبيِّن ما تأوَّله «أهل الله» بشكلٍ واضح في القرآن، ولكنه لم يفعل ذلك، وترك تلك الأمور في تضاعيف هذه الكلمات التي نزلت بلسان عامّة الناس؛ لكي يتمكّن العلماء من الوصول لها بأساليبهم»([22]).
يمكن القول: إن جميع المفسِّرين متفقون على أن للقرآن ظاهراً وباطناً. بَيْدَ أن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إن القرآن الكريم عندما يقول: إنه قد نزل «بلسان القوم»، وأنتم تقولون: إن لسان القوم يعني مجرّد المعنى المتعارف بين الناس، فكيف نستفيد من ذلك أن القرآن بالإضافة إلى المفهوم الظاهر يحتوي كذلك على مفهوم باطني أيضاً لا يفهمه إلاّ المتعمِّقون في مضامينه؟ وهل توجد هذه المعاني والمفاهيم الباطنية في اللغة العرفية التي يتخاطب بها عموم الناس أم أنها من خصائص القرآن؟ وإذا كانت هذه المفاهيم الباطنية موجودة في العُرْف العام علينا أن نذعن عندها بأن الظاهر والباطن ليسا من الأمور الخاصّة بالقرآن. وأما إذا لم تكن هذه المفاهيم الباطنية موجودة في العُرْف إذن كيف يقال: إن القرآن نزل بلغة العُرْف؟!
وأما إذا قلنا: إن هناك ظاهراً وباطناً في لغة العُرْف فعلينا أن نوضّح كيف يكون هذا النوع من المعاني الباطنية قابلاً للفهم. فأنتم تقولون: إن المعاني الباطنية في القرآن لا يفهمها إلاّ المتعمِّقون. فهل عندما يتحاور الناس فيما بينهم لإيصال مراداتهم يضمِّنون في كلامهم بعض المسائل بشكلٍ مبطَّن؛ لكي يظهر بعض المتعمِّقين ليستنبطوا تلك المعاني من كلماتهم، دون غيرهم؟ يبدو أن هذا الكلام ينطوي على شيءٍ من المفارقة.
والطريق إلى التغلب على هذه المفارقة يكمن في القول بأن القرآن الكريم قد نزل بلغة عُرْف العرب، وإن العرب في عصر النزول كانوا هم المخاطَبون بالقرآن، وإنهم كانوا يفهمون معاني القرآن، وإن الكثير من المعاني كانت موجَّهة إليهم على نحو مباشر. ثم يأتي الدور بعد ذلك للسؤال القائل: كيف يكون الكثير من أجزاء القرآن مختصّاً بأفراد وأحداث بعينها ترتبط بذلك العصر من ناحيةٍ، وفي الوقت نفسه يقال من ناحيةٍ أخرى: إن القرآن كتاب هداية لجميع الناس على مرّ العصور؟ في ظل هذه الأجواء قيل: إن الأجيال اللاحقة يجب أن تستخرج المعاني الباطنية ـ التي تعني المفاهيم الأوسع ـ الكامنة وراء المعنى الظاهري؛ ليهتدوا إلى الصراط المستقيم.
العُرْف الخاص بجوار العُرْف العام
على الرغم من أن سماحته قال في «التفسير الأثري الجامع»: إن لغة القرآن هي لغة «العُرْف العام»، فإنه قال في كتاب «التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب»: إن للقرآن لغته وعُرْفه الخاصّ. قال: «إن للقرآن لغته الخاصّة به، شأن كلّ صاحب اصطلاح. فللقرآن اصطلاحه الخاص، يستعمل ألفاظاً وتعابير في معانٍ أرادها بالذات، من غير أن يكون في اللغة أو في سائر الأعراف دليلٌ يدلّ عليه؛ لأنه من اصطلاحه الخاصّ، ولا يُعْرَف إلاّ من قِبَله. ومن ثمّ كان القرآن ينطق بعضه ببعضٍ، ويشهد بعضه على بعضٍ، كما جاء في كلام الإمام أمير المؤمنين×… إن في القرآن تعابير كثيرة لا تكاد تدرك معانيها إلاّ إذا سبرت القرآن سبراً، وفحصته فحصاً؛ لتعرف مفاهيمها التي اصطلح عليها القرآن من القرآن ذاته، وليس من غيره إطلاقاً»([23]).
وفي مقالٍ له تحت عنوان «معرفة لغة القرآن» قال: «إن للقرآن في إفادة تعاليمه العالية طريقته الخاصة. لقد اتّخذ القرآن لنفسه في بياناته الكافية الشافية طريقة تختلف عن الأساليب العادية التي يستعملها الناس في حواراتهم. إن للقرآن الكريم مصطلحاته الخاصة التي يجب التعرُّف عليها ليغدو الوصول إلى تلك الحقائق العالية ممكناً. لقد استعمل القرآن لغته الخاصة، ومن الضروري التعرُّف على تلك اللغة»([24]).
وبهذا الكلام فإن الشيخ معرفت ينأى بنفسه عن رؤية أصحاب الظاهر، الذين يحملون الألفاظ والقضايا القرآنية بأسرها على العُرْف العام.
إن من مباني أصحاب النزعة الظاهرية في التفسير أن القرآن قد تحدَّث بذات المفاهيم المعهودة بين عامة الناس، وبذلك فإنهم يذهبون إلى أن الناس في صدر الإسلام كانوا يفهمون معاني ومقاصد القرآن في جميع المجالات بشكلٍ جيّد. والنتيجة الأخرى التي توصلوا إليها من ذلك هي أن فهم الناس للقرآن في عصر النزول حجّة علينا أيضاً، ومن هنا لا يحقّ لأحد أن يعمل على تأويل آيات ومفاهيم القرآن على طبق فرضياته الفلسفية والكلامية أو العقلية.
وقد استند الظاهريون في ذلك إلى أمرين: الأوّل: إن العُرْف الخاص يتعلق بجماعةٍ خاصة، في حين أن القرآن قد نزل لهداية عامة الناس؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ﴾ (البقرة: 185)؛ الثاني: إن القرآن الكريم يصرِّح بأنه نزل ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 195)، ممّا يعني أن معانيه يجب أن تكون بحيث يفهمها عامة الناس.
ويبدو أن هذا الكلام ينطوي على بعض المغالطات.
ولكي يتّضح المطلب لا بُدَّ من تأمُّل جديد في مفهوم العُرْف الخاص، وكيفية تبلوره.
إن التبيين الدقيق للعُرْف الخاص سيثبت أن القرآن الكريم، بالإضافة إلى توظيف لغة العُرْف العام، له في الوقت نفسه عُرْفه الخاصّ. ولكي نفهم هذا العُرْف الخاص علينا أن نتعرَّف على هذه اللغة. كما سيتضح أن استدلال الظاهريين المتقدِّم ليس سوى مغالطة.
كيفية تبلور العُرْف الخاص في دائرة الألفاظ
إن المفردات في كلّ لغة تتعرّض للتحوّل والتطوّر على مرّ الزمن؛ حيث إن كل تغيّر أو تحوّل في حياة الإنسان ينعكس على اللغة ومفرداتها، بمعنى أن التحوّل الاجتماعي والسياسي والثقافي والعلمي وما إلى ذلك يلعب دوراً في تطوّر المعاني والألفاظ في أيّ لغة.
فعلى سبيل المثال: عندما يتعرّض المجتمع لحرب طويلة فإن التحوّل والثقافة التي تفرضها الحرب ستعطي لبعض الكلمات بُعْداً جديداً، وهو بُعْدٌ يكوِّن بمجموعه أدبيات الحرب. أو عندما تحدث ثورة في المجتمع فسوف تبرز إثر ذلك أدبيات الثورة. وهكذا لغة العلوم والفنون الخاصة تشملها هذه القاعدة أيضاً، بمعنى أن كل علم بالالتفات إلى حاجاته يستعير بعض المفردات من العُرْف العام، وبعد استعمالها في الموارد الجديدة تكتسب معاني جديدة. وإن مصطلحات النحو والصرف والبلاغة والفقه والأصول والعرفان والتصوُّف، والعلوم التجريبية، مثل: الفيزياء والكيمياء والطب وما إلى ذلك، هي من هذا القبيل.
والهامّ في البين أنه بعد تبلور المصطلحات في كلّ مجال فإن الدراسة والتحقيق في موضوعات ذلك المجال بالالتفات إلى المعاني والمفاهيم الجديدة للألفاظ الخاصة في ذلك المجال. ومن هنا لا يمكن لأحد أن يتوقَّع استيعاب نصٍّ علمي في مجال الرياضيات أو الفيزياء لمجرَّد كونها مكتوبةً بلغةٍ يتكلَّم بها عامّة الناس!
تبلور العُرْف الخاص في القرآن والنصوص الدينية
من خلال هذا التوضيح نقول: إن الدين بشكلٍ عامّ، والإسلام بشكلٍ خاصّ، قد أوجد واحدة من أعمق التحوّلات في دائرة حياة الإنسان، وتحدث عن مسائل جديدة ذات ماهيات مختلفة عما كان سائداً بين العُرْف العام، ابتداءً من الحالات الباطنية للإنسان، وصولاً إلى ما وراء الحسّ والمادة، من قبيل: الله والملائكة والجنّ وعالم الملكوت وعالم الآخرة وما إلى ذلك.
وحيث إن الله تعالى يختار أنبياءه من بين الناس، وإنه يرسله إلى هؤلاء الناس بلغتهم، من الطبيعي أن يستعير الكلمات والمفردات التي يتداولها الناس، ولكنه لا يستعملها في صرف المعاني السائدة بينهم، وإنما سيضفي عليها بعض التعديلات ـ كما يحصل في سائر العلوم والفنون والاختصاصات ـ؛ لتنسجم وتتناسب مع تطلُّعاته وأهدافه وغاياته.
وعليه فإن لغة القرآن ليست هي مجرّد لغة العُرْف العام، بل إن القرآن بعد أن يأخذ المفردات من لغة العُرْف العام يسكب عليها معاني جديدة؛ لتغدو من عُرْفه الخاص، كما يحصل الأمر ذاته بالنسبة إلى كلّ تحوّل علمي أو سياسي أو ثقافي أو اجتماعي.
يبقى علينا أن نشير هنا إلى أن البعض توهَّم أنه إذا قيل: إن للقرآن لغة العُرْف الخاصّ فإن هذا يعني أن القرآن قد تكلم باللغة السائدة في واحدٍ من العلوم أو الفنون أو النِّحَل الفكرية الخاصة، من قبيل: لغة العرفاء، أو لغة الفلاسفة، أو لغة المتكلِّمين، أو لغة العلوم التجريبية، وما إلى ذلك!
في حين أن بطلان هذا الأمر أوضح من أن يكون بحاجةٍ إلى بيان. فكما أن الفلسفة لا تتحدَّث بلغة النحو، وعلم النحو لا يتكلَّم بلغة العلوم الرياضية، كذلك القرآن لا يتكلَّم بلغة أيٍّ من هذه العلوم والفنون والمدارس الفكرية.
إن وجود عُرْف خاصّ للقرآن يعني أن للقرآن مصطلحاته الخاصة.
توضيح ذلك: إن الشخص كما لا يستطيع فهم النصوص الطبية إلاّ بعد أن يتعلَّم المصطلحات المستعملة في علم الطبّ، كذلك الأمر بالنسبة لمَنْ يريد فهم القرآن، حيث لا بُدَّ له من التعرُّف على ثقافة الدين ومصطلحاته، ولا سيَّما الدين الإسلامي. وإن الذي يريد تفسير القرآن من خلال مجرّد اعتماده على لغة العُرْف العام كمَنْ يريد ترجمة وتفسير نصّ طبّي من خلال الاعتماد على الثقافة العامّة. وبذلك سيكون مثل السائر على غير هدىً.
وقد رأى العلاّمة الطباطبائي في عدم الاهتمام بالثقافة الخاصّة للقرآن الكريم في ما يتعلَّق بالتفسير تخبُّطاً في مستنقع التفسير بالرأي، ويقول: «[على] المفسِّر في تفسير القرآن [أن لا يكتفي] بما عنده من الأسباب في فهم الكلام العربي، فيقيس كلامه تعالى بكلام الناس؛ فإن قطعةً من الكلام من أيّ متكلِّم إذا ورد علينا لم نلبث دون أن نعمل فيه القواعد المعمولة في كشف المراد الكلامي، ونحكم بذلك أنه أراد كذا، كما نجري عليه في الأقارير والشهادات وغيرهما، كلّ ذلك لكون بياننا مبنيّاً على ما نعلمه من اللغة، ونعهده من مصاديق الكلمات حقيقة ومجازاً. والبيان القرآني غير جارٍ هذا المجرى على ما تقدّم بيانه في الأبحاث السابقة، بل هو كلامٌ موصول بعضه ببعض، في عين أنه مفصول ينطق بعضه ببعض، ويشهد بعضه على بعض، كما قاله عليٌّ×، فلا يكفي ما يتحصَّل من آيةٍ واحدة بإعمال القواعد المقرّرة في العلوم المربوطة في انكشاف المعنى المراد منها دون أن يتعاهد جميع الآيات المناسبة لها، ويجتهد في التدبُّر فيها، كما يظهر من قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾ (النساء: 82). وقد مرَّ بيانه في الكلام على الإيجاز وغيره.
فالتفسير بالرأي المنهيّ عنه أمرٌ راجع إلى طريق الكشف، دون المكشوف. وبعبارةٍ أخرى: إنما نهى× عن تفهُّم كلامه على نحو ما يتفهّم به كلام غيره، وإنْ كان هذا النحو من التفهُّم ربما صادف الواقع»([25]).
وقال سماحته في موضعٍ آخر: «وبالجملة فالمتحصِّل من الروايات والآيات التي تؤيِّدها([26])… أن النهي في الروايات إنما هو متوجّه إلى الطريق، وهو أن يسلك في تفسير كلامه تعالى الطريق المسلوك في تفسير كلام غيره من المخلوقين. وليس اختلاف كلامه تعالى مع كلام غيره في نحو استعمال الألفاظ، وسرد الجمل، وإعمال الصناعات اللفظية؛ فإنما هو كلام عربي رُوعي فيه جميع ما يُراعى في كلام عربي…، وإنما الاختلاف من جهة المراد والمصداق الذي ينطبق عليه مفهوم الكلام… وإذا تأمّلت ما وصفه الله تعالى في كتابه، من أسماء ذاته وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله والقيامة وما يتعلق بها، وحكم أحكامه وملاكاتها، وتأمّلت ما نرومه في تفسيرها من إعمال القرائن العقلية، وجدت أن ذلك كلّه من قبيل: التفسير بالرأي من غير علمٍ، وتحريف لكلمه عن مواضعها… إن البيانات القرآنية… قد فرّقت في الآيات المتفرقة، وبيّنت ببيانات مختلفة؛ ليتبين ببعض الآيات ما يمكن أن يختفي معناه في بعضٍ، ولذلك كان بعضها شاهداً على البعض، والآية مفسِّرة للآية»([27]).
كما أن بعض الروايات يؤيِّد هذا المعنى أيضاً. فقد رُوي عن الإمام عليّ× أنه قال: «إياك أن تفسر القرآن برأيك حتّى تفقهه عن العلماء؛ فإنه ربّ تنزيلٍ يشبه بكلام البشر، وهو كلام الله، وتأويله لا يشبه كلام البشر»([28]).
كما رُوي عنه× أنه قال: «وأما قوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً﴾ (الفجر: 22)….، وقوله: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ الْمَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ﴾ (الأنعام: 158)، فذلك كلّه حقٌّ، وليست جيئته ـ جلَّ ذكره ـ كجيئة خلقه، فإنه ربّ كلّ شيء، ومن كتاب الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ما يكون تأويله على غير تنزيله، ولا يشبه تأويله كلام البشر، ولا فعل البشر»([29]).
أسئلة حول امتلاك القرآن لعُرْفٍ خاص
يتَّضح ممّا تقدَّم أن جميع آيات القرآن لم تكن قابلةً لفهم الناس وأهل اللغة ـ وحتى المسلمين في عصر نزول القرآن ـ دون إيضاح مصطلحاته، فكيف ينسجم هذا الأمر مع اتّصاف القرآن الكريم بكونه «مبيناً»؟
في الجواب عن هذا السؤال يجب القول: تقوم فرضية أصحاب النزعة الظاهرية عادةً على أن القرآن؛ حيث نزل لهداية جميع الناس، يجب أن تكون جميع مفاهيمه على مستوىً واحد، وأن يكون ذلك المستوى هو مستوى فهم العُرْف العام. فهؤلاء يتوهَّمون أنه لو كان الأمر على خلاف ذلك فسوف يلزم منه أن لا يكون القرآن كتاب هداية لجميع الناس.
في حين أن هذا الافتراض ليس صحيحاً؛ فجميع الناس يولدون لا يعلمون شيئاً، ثم يحصل كلّ واحد منهم بالتدريج على مستوى من المعرفة، ويأخذ كل واحد منهم مقداراً من العلم، بحسب احتكاكه بأهل اللغة، وبذلك يمكنهم توظيف المفاهيم الشائعة في العُرْف العام، وكذلك الشائعة في العُرْف الخاص أحياناً. وليس هناك أمّة من الناس يتساوى جميع أفرادها في المعرفة، بل هناك على الدوام تفاوتٌ في المستويات المعرفية، حيث يتمتّع كل واحد بمستواه المعرفي الخاص الذي يميِّزه من غيره. بَيْدَ أن الكلمة التي نريد قولها هنا هي أن بإمكان كلّ شخص أن يستوعب مفاهيم القرآن إذا أراد ذلك. والمسألة هنا أن البعض قد توهَّم أن المراد من العُرْف الخاص اختصاص اللغة بفئةٍ وصنف خاصّ، في حين أن مفردة «الخاصّ» هنا لا تحدِّد دائرة المتكلِّمين باللغة، وإنما تعني أن بعض المفردات والمصطلحات يُراد منها معنى خاصاً. وعلى هذا الأساس فإن المتديِّنين والمؤمنين بالقرآن يدركون أن القرآن في الكثير من مفرداته قد أراد معاني خاصّة، تشكِّل في مجموعها «ثقافة القرآن».
وأما حقيقة أن القرآن قد نزل ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 195؛ النحل: 103) فلا ربط لها بكون لغة القرآن من العُرْف العام أو العُرْف الخاص، وإنما هو إشارة إلى بُعْدٍ آخر من أبعاد اللغة؛ فإن «اللسان العربي المبين» في مقابل «اللسان العربي غير المبين». فلو كان القرآن قد استعمل لغةً أو لهجة لا تستعملها إلاّ قبيلة خاصة لما كان بإمكان الجميع أن يفهمه، لأنه لن يكون فصيحاً. فحتّى اليوم نشهد ظاهرة قائمة في جميع اللغات ـ ولا سيَّما اللغات العالمية الحيّة، من قبيل: اللغة الإنجليزية والعربية ـ، حيث تكون هنالك لغةٌ ولهجة فصيحة تستعمل عادةً في وسائل الإعلام والخطابات التحريرية، وإلى جانبها لغاتٌ ولهجات غير فصيحة يتكلَّم بها الأفراد العاديون في الكثير من المدن والقرى، وتكون في الغالب غير مفهومة لسكان المدن والقرى الأخرى، ولا يمكن للجميع أن يتعلَّمها أو يتكلَّم بها. وفي العادة تتبلور اللغة الفصحى في مناطق الالتقاء؛ حيث يتعامل الناس من ذوي اللهجات المختلفة فيما بينهم، ويتواضعون على استعمال لغةٍ يفهمها الجميع، حيث يتمّ نبذ المفردات الوحشية والغريبة، وتخرج تدريجياً من دائرة الاستعمال، ولا تبقى إلاّ المفردات المألوفة والسهلة.
وفي عصر نزول القرآن كانت مكّة تتمتَّع بمثل هذه الشرائط المثالية لتبلور اللغة الفصحى التي يفهمها الجميع، فقد كانت هذه المدينة مركزاً تجارياً ودينياً وثقافياً وأدبياً، يقصده التجار لتسويق بضائعهم في أسواقها، وفي أشهر هذه الأسواق [وهو سوق عكاظ] كان الشعراء يُلْقُون قصائدهم. وقد اختار القرآن الكريم اللغة ـ التي تمَّتْ غربلتها وتنقيتها في هذا الملتقى الحضاري بين القبائل والأمم ـ لتكون هي الحاضنة والوسيلة لبيان مقاصده وأهدافه. وعليه فإن الاستفادة من هذه اللغة العربية الفصحى لا تتنافى مع حاجة فهم الكثير من مفاهيم القرآن إلى التدبُّر والتفسير.
وقد ذهب العلامة الطباطبائي ـ في ما يتعلق بالمفاهيم المعرفية في الأحاديث ـ إلى الاعتقاد بأن الكثير منها يفوق مستوى الفهم العادي والعُرْفي. وقد كتب في تهميشه على كلام العلامة المجلسي في باب العقل ومعانيه: «الذي يذكره& من معاني العقل، بدعوى كونها مصطلحات معاني العقل، لا ينطبق لا على ما اصطلح عليه أهل البحث، ولا ما يراه عامّة الناس من غيرهم، على ما لا يخفى على الخبير الوارد في هذه الأبحاث. والذي أوقعه في ما وقع فيه أمران: أحدهما: سوء الظن بالباحثين في المعارف العقلية من طريق العقل والبرهان؛ وثانيهما: الطريق الذي سلكه في فهم معاني الأخبار، حيث أخذ الجميع في مرتبةٍ واحدة من البيان، وهي التي ينالها عامّة الأفهام، وهي المنزلة التي نزل فيها معظم الأخبار المجيبة لأسئلة أكثر السائلين عنهم^، مع أن في الأخبار غرراً تشير إلى حقائق لا تنالها إلاّ الأفهام العالية والعقول الخالصة، فأوجب ذلك اختلاط المعارف الفائضة عنهم^، وفساد البيانات العالية بنزولها منزلة ليست هي منزلتها، وفساد البيانات الساذجة أيضاً؛ لفقدها تميُّزها وتعيُّنها. فما كل سائل من الرواة في مستوى واحد من الفهم، وما كلّ حقيقة في مستوى واحد من الدقّة واللطافة. والكتاب والسنّة مشحونان بأن معارف الدين ذوات مراتب مختلفة، وأن لكلّ مرتبة أهلاً، وأن في إلغاء المراتب هلاك المعارف الحقيقية»([30]).
لغة القرآن والمحسِّنات الأدبية
هناك اختلافٌ في الآراء بشأن توظيف المحسِّنات الأدبية والبلاغية ـ ولا سيَّما أنواع المجاز منها ـ في القرآن الكريم؛ حيث أنكرت جماعة وجود المجاز في القرآن بالمرّة، وقالت بأن ذلك مخالف لشأن القرآن في الهداية([31])؛ وفي المقابل ذهب آخرون إلى القول بأن سرّ الإعجاز القرآني يكمن في توظيف المجاز وغيره من المحسِّنات البلاغية والأدبية([32]).
ومن جهةٍ أخرى نظر جماعةٌ إلى هذه المسألة من زاويةٍ لغوية، واعتبر توظيف القرآن للمحسِّنات الأدبية دليلاً على أن لغة القرآن تعبِّر عن ظواهر غير واقعية، بل هي لغة شعرية وخيالية تهدف إلى تحفيز المخاطب ودفعه إلى القيام بأعمال الخير والصلاح واكتساب الصفات الأخلاقية. ترى هذه الجماعة أن لغة القرآن لغة أدبية ووظيفية([33]).
وعلينا هنا أن نرى ما هو رأي الشيخ معرفت في ما يتعلَّق بهذا النوع من الآراء بشأن توظيف المحسِّنات الأدبية في القرآن الكريم؟
وقد تحدّث سماحته عن أصل استعمال القرآن لأنواع الفنون البلاغية قائلاً: «قد أكثر القرآن من أنواع الاستعارة، وأجاد في فنونها، وكان لا بُدَّ منه وهو آخذٌ في توسّع الآفاق، في حين تضايقت الألفاظ عن الإيفاء بمقاصد القرآن، لو قيِّدت بمعانيها الموضوعة لها محدودة النطاق. جاء القرآن بمعانٍ جديدة على العرب لم تكن تعهدها، وما وضعت ألفاظها إلاّ لمعانٍ قريبة، حَسْب حاجاتها في الحياة البسيطة البدائية قصيرة المدى. أما التعرّض لشؤون الحياة العليا المترامية الأبعاد فكان غريباً على العرب الأوائل المتوغّلة في الجاهلية الأولى. ومن ثمّ لجأ القرآن في إفادة معانيه، والإشادة بمبانيه، إلى أحضان الاستعارة والكناية والمجاز ذوات النطاق الواسع حَسْب إبداع المتكلِّم في تصرُّفه بها، والقدرة على الإحاطة في تصريف المباني، والإفادة بما يرومه من المعاني. وقد أبدع القرآن في الاستفادة بها وتصريفها حيثما شاء من المقاصد والأهداف، ولم يعهد له نظيرٌ في مثل هذه القدرة ومثل هذه الإحاطة على هذا التصرّف واسع الأكناف، الأمر الذي أبهر وأعجب وأتى بالإعجاز»([34]).
إن الشيخ معرفت في هذه العبارة يقول من جهةٍ: «ومن ثمّ لجأ القرآن في إفادة معانيه والإشادة بمبانيه إلى أحضان الاستعارة والكناية والمجاز»؛ ومن ناحيةٍ أخرى أجاب عن المنكرين لاستعمال القرآن للمجاز ـ إذ يقولون: «ما هي الضرورة التي تدعو القرآن إلى استعمال المجاز؟» ـ قائلاً: «وأما القول بأن اللجوء إلى المجاز يأتي بداعي الاضطرار فهو كلامٌ لا يستند إلى أساس؛ لأن الأدباء والبلغاء وأصحاب المواهب يتَّجهون إلى توظيف الاستعارة والمجاز وغيرهما من المحسِّنات البلاغية والبديعية ليضفوا على كلامهم جمالاً ورونقاً وطراوة ويخرجوه من الجمود، وعلى حدِّ تعبير الجرجاني والسكاكي أن تخرج من مشابهة أصوات البهائم والحشرات إلى ارتقاء أعلى القِيَم الكلامية. ولم يتّضح السبب الذي دعا السادة إلى القول بأن القرآن إنما يلجأ إلى توظيف المحسِّنات اللفظية بداعي الاضطرار»([35]).
وبطبيعة الحال يمكن لنا أن نجمع بين هذين المقطعين من كلام الشيخ معرفت، والقول: إن القرآن قد اضطرّ أحياناً إلى استعمال المجاز اضطراراً، كما استعمله في الكثير من الأحيان لمجرَّد تحسين الكلام وتزويقه. وبعبارةٍ أخرى: إن الشيخ معرفت يخالف القول بأن القرآن كان يلجأ إلى استعمال المحسِّنات الأدبية بداعي الاضطرار فقط.
اللغة الأدبية من الخيال إلى الحقيقة
تقدّم أن ذكرنا أن من المسائل الرئيسة في توظيف المحسِّنات الأدبية في القرآن ما يُقال من أن اللغة الأدبية تستعمل في الأمور الخيالية والعاطفية، والهدف منها في الغالب هو استثارة المشاعر والعواطف، وقلَّما تنطوي على بيان الواقع.
وقد بحث الشيخ معرفت هذه المسألة في كتابه «شبهات وردود حول القرآن الكريم» أيضاً، وقال في هذا الشأن: «ما يأتي به القرآن من عبر وضرب الأمثال فإنها جميعاً حكاية عن أمرٍ واقع، إما حقيقة ثابتة في الأعيان، أو تصوير لحالة راسخة في القلوب. وهكذا في ما أخبر عن عالم وراء عالم الشهود، ليست تصوُّرات وَهْمية، وإنما هي حقائق راهنة في أصقاعها المتناسبة. فعِبَر التاريخ يتمثّل بها القرآن، لها واقعية يأخذها القرآن عبرةً، وإلاّ فلا عِبْرة بالأوهام. وكذلك الصور التخييلية لحالات وهواجس نفسية يضرب بها الأمثال، لها واقعٌ مرّ، صوّرها القرآن وألبسها ثوب الحياة في أبدع تصوير. أما الحكاية عن مغيَّبات ما وراء الستار فهي حقائق ثابتة، مثَّلها القرآن في قالب الاستعارة والتشبيه، فيتنبَّه النابه لوجه الاستعارة والتشبيه، ولا مجال للإنكار بعد عدم الدليل على الامتناع. فهؤلاء ملائكة الرحمن لها أجنحة مثنى وثلاث ورباع، ذكرها القرآن تعبيراً عن مختلف مدارج القوى والطاقات التي تملكها ملائكة السماء، المدبِّرات أمراً حَسْب وظائفها في التدبير المخوَّل إليها. والتعبير عن القُدَر والقوى بالأجنحة شائعٌ، وليس المراد أجنحةً كأجنحة الطيور. وهكذا في سائر الموارد عمد القرآن إلى التشبيه والتمثيل حكايةً عن أمر واقع، وليس مجرّد تصوير وتخييل»([36]).
خطابية أو تحريرية الأسلوب البياني للقرآن
لقد تحدَّث الشيخ معرفت في كتابه «التفسير الأثري الجامع» حول ما إذا كان أسلوب القرآن أسلوباً خطابياً أو تحريرياً؟
وقد عمد سماحته في البداية إلى بيان الفرق بين هذين الأسلوبين على النحو التالي: «أسلوب الكتابة يستدعي انسجاماً والتئاماً بين التعابير والجمل والتراكيب، واتّساقاً ظاهراً في نمط البيان؛ ليكون مركَّزاً على صلب موضوع البحث، من غير خروج ولا التفات في صياغة الكلام، ولا يعتمد سوى القرائن الحافّة المتّصلة، ليدلّ عليها مساق الكلام. والعمدة اتجاه سياق التعبير نحو عامّة القارئين، الموجودين والغائبين ومَنْ يأتي على مرّ العصور؛ ليكون الغالب على صياغة الجمل والتراكيب الكلامية أن تكون على نحو القضايا الحقيقية الجارية مع الأبد، والشاملة لكل مَنْ تلبَّس بوصف الموضوع على العموم. أما أسلوب الخطابة فيختلف عن ذلك تماماً، حيث المراعى فيه هي حالة المخاطَبين المشافهين ممَّنْ شهد المحضر فحَسْب، ويجوز الاعتماد على قرائن منفصلة عن الكلام، تكون حاضرةً ومشهودة لدى المشافهين. كما ويكثر في أسلوب الخطابة الالتفات والتنقُّل والمداورة في لحن البيان، الأمر الذي لا ينبغي في كتابة العلوم والمعارف على أيّ حالٍ»([37]).
نموذجٌ من بيان القرآن المعتمد على قرينة المشافهة والخطاب
بعد أن رأى الشيخ معرفت أن أسلوب البيان في القرآن أسلوبٌ خطابي، ذكر مثالاً رأى فيه دليلاً على أن القرآن قد استفاد من قرائن المشافهة والخطاب، حيث قال: «ففي قوله تعالى، حكايةً عن العزيز: ﴿يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ﴾ (يوسف: 29)، مداورةٌ في لحن الخطاب، تبدو عجيبةً، فهو في كلام واحد يوجِّه خطابه أوّلاً إلى يوسف، يستمليه ويسترعي جانبه، ثمّ إلى زليخا، يعاتبها ويوبِّخها؛ اعتماداً على قرينة المشافهة والخطاب»([38]).
نموذجٌ من الانتقال من موضوعٍ إلى موضوع آخر
ومن خلال بيان مثال آخر من سورة «عَبَس» يعمد الشيخ معرفت إلى توضيح نموذج من الانتقال من موضوعٍ إلى آخر، بالاستناد إلى القرائن المقامية. جاء في مستهلّ سورة «عَبَس» قوله تعالى: ﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَنْ لاَ يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى﴾ (عبس: 1 ـ 10).
وقال سماحته في بيان هذا القسم من سورة «عَبَس»: «ففي هذه الآيات ملامةٌ وعتابٌ، ملامةٌ لمَنْ عبس بوجهه، ولوى بجانبه، عندما جاءه ضريرٌ فقير، وعتابٌ لمَنْ تلهّى أي تغافل عن التوجُّه إلى مؤمن مستهدٍ هو جديرٌ بالاهتمام. إذن لمَنْ تلك الملامة، ولمَنْ هذا العتاب؟ لا دلالة في ظاهر التعبير على شيءٍ من ذلك، وإنما هو شيء كان يعرفه شهود القضية، لا غير. غير أن لحن الآية يدلّنا على أنهما شخصان، وأن الملوم غير المعاتَب؛ ذلك أن الملامة وقعَتْ على أمر كان صدر عن اختيارٍ وعن قصد غير جميل؛ ذلك أن العبوس والتولّي كلاهما عمل اختياري صادر عن سوء طويّة، الأمر الذي تأباه ساحة قدسية الرسول الكريم‘. أما التلهّي فهو التغافل، أي عدم توجّه النفس؛ بسبب انشغالها بأمرٍ أهمّ، الأمر الذي يجوز صدوره من نبيٍّ كريم، جادٍّ في تبليغ الرسالة»([39]).
وبعد بيان توضيحٍ بشأن هذه المسألة قال سماحته: «كما ويكثر في أسلوب الخطابة الالتفات والتنقُّل والمداورة في لحن البيان، الأمر الذي لا ينبغي في كتابة العلوم والمعارف على أيّ حالٍ»([40]).
يرى الشيخ معرفت أن الانتقال المفاجئ من أمرٍ إلى أمر آخر في أثناء الكلام، دون أن تكون هناك مناسبة، أو تكون هناك مناسبة بعيدة جدّاً، هو من خصائص الأسلوب الخطابي، يُحْجِم عنه الأسلوب التحريري والكتابي.
وأما في القرآن الكريم فهناك الكثير من هذه الانتقالات. ومن ذلك سورة القيامة، حيث نشاهد فيها الكثير من ظاهرة الانتقال بوضوحٍ. وقال سماحته بشأن هذه السورة: «ففي سورة القيامة يبتدئ الكلام عن الساعة ويوم الحساب، وينتهي إلى قوله تعالى: ﴿بَلْ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ﴾ (القيامة: 1 ـ 15). وينتقل فجأةً إلى الكلام عن نزول القرآن، حيث كان النبي يتعجَّل في قراءته على كتّاب الوحي، فمُنع من ذلك: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ (القيامة: 16 ـ 19). وبعد ذلك ينتقل الكلام إلى لذائذ الحياة في الدنيا والآخرة، وعن شدائد ذلك اليوم العصيب (القيامة: 20 ـ 30). وإذا هو ـ في نهاية السورة ـ يتكلَّم عن كافر عنود (أبي جهل)، الذي طالما قام في وجه الدعوة وكافحها أشدّ كفاح: ﴿فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى﴾ (القيامة: 31 ـ 40). فمثل هذا الكرّ والفرّ والمداورة في الكلام إنما يتناسب مع أسلوب الخطاب والمشافهة، ولا يلتئم مع أسلوب الكتابة وترقيم الكتاب، الأمر الذي تجده في القرآن الكريم بكثرةٍ وافرة»([41]).
الإشارة إلى بعض العادات الجاهلية القبيحة بالاستناد إلى القرائن
يقول الشيخ معرفت: إن الناحيةَ الأخرى التي تعدّ من القرائن على خطابية الأسلوب القرآني حديثُ القرآن عن الوقائع والعادات الحَسَنة والقبيحة التي كانت سائدة بين الناس في عصر نزول القرآن. فقد تحدّث القرآن عن هذه الموارد بالاستناد إلى ما كان شائعاً بين الناس، دون أن يُبيِّنها أو يُبيِّن سوابقها وجذورها. في حين لا يمكن توظيف هذا الأسلوب في الطريقة التحريرية([42]).
وقد مثَّل سماحته لذلك بموضوع النَّسِيء؛ إذ يقول الله تعالى في هذا الشأن: ﴿إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ الله زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ﴾ (التوبة: 37).
يقول الشيخ معرفت: لقد تحدّث القرآن عن موضوع النسيء، في حين أن الشخص غير المطلع على تاريخ الجزيرة العربية سيرى هذا الموضوع محاطاً بهالةٍ من الغموض([43]).
وهكذا يستمرّ الشيخ معرفت بذكر أمثلةٍ أخرى في هذا الشأن، ويستنتج منها أن لا طريق إلى فهم هذا النوع من الآيات إلاّ من خلال الرجوع إلى أسباب النزول.
القضايا الخارجية بدلاً من القضايا الحقيقية
يرى الشيخ معرفت أن من بين خصائص القرآن المعروفة الاعتماد على القرائن الحالية الواضحة من أجل إصدار أحكام على شكل القضايا الخارجية، والتي صدرت ـ بالالتفات إلى القرائن المتوفِّرة ـ في حال الخطاب، لا أن تكون قضايا حقيقية؛ كي يتمّ على أساسها ترتيب الأحكام على الموضوعات في جميع الأزمنة. إن لهذه الظاهرة في القرآن الكبير دوراً كبيراً. وقد يذهب التصوُّر ببعضٍ إلى اعتبارها من القضايا الحقيقية، في حين أن الأمر ليس كذلك.
فمثلاً: يقول الله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (المائدة: 82).
ليس المراد في هذه الآية مطلق اليهود ـ الأعمّ من المعاصرين للنبيّ وغير المعاصرين له ـ، ولا مطلق النصارى، بل المراد جماعةٌ خاصّة من اليهود الذين كانوا معاصرين للنبيّ الأكرم‘، والمراد من المشركين خصوص مشركي قريش، والمراد من النصارى هم نصارى نجران في تلك الفترة ـ أو وفد النجاشي على قولٍ آخر ـ؛ لأن هذه الآية تمثِّل تقرير حال أمّةٍ في عصر خاصّ. وإن بعضهم قد اعتنق الإسلام، ومنهم مَنْ بقي مصرّاً على العناد، ومن هنا نجد الآية اللاحقة تقول: ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ * فَأَثَابَهُمْ اللهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ﴾ (المائدة: 83 ـ 86).
إن المراد في هذه الآيات من عبارة ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ اليهود والمشركين، والمراد من آيات، نظير: الآية التي تقول: ﴿سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ (الفتح: 11)، هم المتخلِّفون عن المشاركة في الحرب، وهم جماعةٌ من أصحاب رسول الله‘ والمعاصرين له.
وكذلك قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾ (آل عمران: 173).
والمراد من كلمة «الناس» الأُولى هم المنافقون الذين يثيرون الشائعات في المدينة المنوَّرة، والمراد من كلمة «الناس» الثانية هم مشركو قريش وقبيلة أبي سفيان بعد الانكسار في الحرب.
ومن هذا القبيل: قوله تعالى: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَنْ لاَ يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة: 97)، فإن المراد من الأعراب هم الجفاة والمنافقون المعاصرون للنبيّ الأكرم‘، كما ورد التصريح بهذا بعد ذلك بثلاث آيات؛ إذ يقول تعالى: ﴿وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ﴾ (التوبة: 101).
وقد وردت هذه التعابير في الآيات: 90، 97، 98، 99، 101 من سورة براءة، والمراد فيها هم أعراب المدينة ومَنْ حولها([44]).
المخاطَب الخاص في القرآن
يذهب الشيخ معرفت إلى الاعتقاد بأن تنزيل وظاهر بعض آيات القرآن الكريم لا يتصف بالشمول، وإنما يراد منه جماعةٌ بعينها من الأفراد الذين عاصروا نزول القرآن. وبعبارةٍ أخرى: إن هذه القضايا ليست قضايا حقيقية، بل هي بلحاظ التنزيل قضايا شخصية.
فعلى سبيل المثال: عندما يخاطب القرآن كفّار قريش يقول بضرسٍ قاطع: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ﴾ (الكافرون: 1 ـ 3).
ومن الواضح أن المراد من الكفار في هذه الآيات ليس جميع الكفّار بشكلٍ مطلق ـ في كلّ عصر ومصر ـ، بل المراد خصوص الكفار الذين وقفوا بوجه رسول الله‘ بكلّ إمكاناتهم، وأصرّوا على إنكارهم لرسالته، وبالغوا في محاربته. وعليه تكون هذه الآيات القرآنية من القضايا الشخصية، وهي خاصّة بالأشخاص الحاضرين أثناء الخطاب، دون غيرهم([45]).
لقد استند الشيخ معرفت في هذا الشأن إلى كلام العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسير قول الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ (البقرة: 6)، فقد ذكر العلاّمة في تفسير المراد من عبارة «الذين كفروا» و«الذين آمنوا» كلاماً يدعو إلى التأمُّل، وذلك إذ يقول: «هؤلاء قوم ثبتوا على الكفر، وتمكَّن الجحود من قلوبهم، ويدلّ عليه وصف حالهم بمساواة الإنذار وعدمه فيهم.
ولا يبعد أن يكون المراد من هؤلاء الذين كفروا هم الكفّار من صناديد قريش وكبراء مكّة، الذين عاندوا ولجّوا في أمر الدين، ولم يألوا جُهْداً في ذلك، ولم يؤمنوا حتّى أفناهم الله عن آخرهم في بدر و غيره.
ويؤيِّده أن هذا التعبير، وهو قوله: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾، لا يمكن استطراده في حقّ جميع الكفار، وإلاّ انسدّ باب الهداية، والقرآن ينادي على خلافه.
وأيضاً هذا التعبير إنما وقع في سورة «يس»، وهي مكّية، وفي هذه السورة، وهي سورة البقرة، أوّل سورة نزلت في المدينة، نزلت ولم تقع غزوة بدر بعدُ.
فالأشبه أن يكون المرادُ من الذين كفروا هاهنا وفي سائر الموارد من كلامه تعالى كفّارَ مكّة في أول البعثة، إلاّ أن تقوم قرينة على خلافه، نظير: ما سيأتي أن المراد من قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ في ما أطلق في القرآن من غير قرينةٍ هم السابقون الأوّلون من المسلمين، خُصّوا بهذا الخطاب تشريفاً»([46]).
ونتيجة ذلك أن نظرية خطابية اللغة القرآنية تترتَّب عليها تبعات تقيُّد تفسير القرآن والاستفادة من تعاليمه ومضامينه.
أسئلةٌ حول خطابية الأسلوب القرآني
بغضّ النظر عن صحّة أو بطلان جميع ما تقدَّم بشأن خصائص اللغة الخطابية وما يترتَّب عليها، فإنّ هذه النظرية قد واجهت الكثير من الأسئلة والشبهات أحياناً.
وفي ما يلي نشير إلى بعضها. وعليه يجب أن نرى ما هو مدى النجاح الذي حقَّقته هذه النظرية في الإجابة عن هذه الإشكالات والتساؤلات.
إنّ أهمّ هذه التساؤلات بشأن هذه النظرية وتبعاتها هي:
1ـ إذا كان القرآن الكريم قد جاء لهداية عامة أفراد البشرية على مرّ التاريخ فلماذا تحدّث بأسلوب خطابي؟
2ـ إذا كان الكثير من القضايا القرآنية قد نزلت في مواجهة الأشخاص والجماعات الخاصّة التي كانت موجودة أثناء نزول القرآن فكيف يمكن الادّعاء بأن القرآن كتاب هدايةٍ لجميع البشر؟
3ـ هل الأسلوب الخطابي متَّبَعٌ في القرآن بجميع آياته؟ وبعبارةٍ أخرى: هل جميع الآيات القرآنية مشمولة بالخصائص والتَّبِعات المذكورة للغة الخطابية؟
إن الشيخ معرفت لم يتعرَّض ـ في تضاعيف كلامه حول اللغة والأسلوب البياني للقرآن ـ إلى السؤال الأول والجواب عنه بشكلٍ مباشر.
وفي ما يتعلق بالسؤال الثالث يبدو من ظاهر كلامه الإطلاق، ولكنّنا سنقول فيما بعد: إن الخصائص والنتائج المذكورة للغة الخطابية لا تصدق على جميع القرآن.
وأما في ما يتعلّق بالسؤال الثاني فيجب القول: إن هذا هو السؤال الوحيد الذي التفت إليه سماحته، وتصدّى للإجابة عنه، حيث قال في كتابه «التفسير الأثري الجامع»: «هنا سؤال لا بُدَّ من التنبُّه له، وهو: إن القرآن إذا كانت أكثر قضاياه شخصية ـ هي قيد التاريخ ـ فما هي الفائدة التي تعود إلى كافّة الناس، والقرآن كتاب هداية عام؟!»([47]).
وقد أجاب الشيخ معرفت عن هذا السؤال باختصارٍ، قائلاً: «إن للقرآن ظهراً وبطناً، ظهراً حَسْب التنزيل، خاصّاً بمَنْ نزل في شأنهم بالذات قيد التاريخ، وبطناً حَسْب التأويل، هي مفاهيم عامّة سارية وجارية مع الأبد، مستنبطة من فحوى الآية، وخابئة تحت ظاهر التعبير. وهذه المفاهيم العامة الباطنة لظواهر القرآن هي التي ضمنت بقاء القرآن عبر الخلود. والاعتبارُ بها، لا بظاهر التنزيل»([48]).
ثم استطرد سماحته، مستدلاًّ ببعض الأحاديث الصريحة في اعتبار التأويل وباطن القرآن ـ التي هي من وجهة نظره ذات المعاني والمفاهيم العامّة المستنبطة من الظاهر والتنزيل ـ باقية على اعتبارها وحجّيتها إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
وقد استند سماحته بشكلٍ خاصّ إلى الروايات التالية:
رُوي عن النبي الأكرم‘ أنه قال: «إن للقرآن ظهراً وبطناً»([49]).
ورُوي عن الإمام الباقر× أنه قال، في بيان الظاهر والباطن: «ظهره تنزيله، وبطنه تأويله، منه ما مضى، ومنه ما لم يكن بعدُ، يجري كما تجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شيءٌ وقع»([50]).
كما رُوي عن الإمام الباقر× أنه قال، في بيان هذا الأمر: «ولو أن الآية إذا نزلت في قومٍ ثمّ مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيءٌ، ولكن القرآن يجري أوّله على آخره ما دامت السماوات والأرض. ولكلّ قومٍ آيةٌ يتلونها، هم منها من خيرٍ أو شرٍّ»([51]).
وبالالتفات إلى هذه الروايات يرى الشيخ معرفت أن ظهر القرآن هو المستوى الظاهري له، والذي نحصل عليه طبقاً لموارد النزول والأسباب الموجبة له، وتكون له في الغالب صبغة اختصاصية. بَيْدَ أن بطن القرآن عبارةٌ عن الرسائل الكامنة في الآيات، والتي يمكن الحصول عليها من خلال التدبُّر والتعمُّق، لتتّضح الناحية الشمولية والخالدة منها([52]).
ومن هنا يمكن القول: إن الرسالة العامّة للقرآن ـ والتي تعبِّر عن خلوده ـ تكمن في الرسائل والخطابات في تضاعيف الآيات، وهي التي تبرز الرسالة العالمية للقرآن. ولو كان القرآن بظاهره المجرّد فقط لكان قد مات بموت الأوائل، في حين أن الأمر ليس كذلك، فإن القرآن الكريم حيٌّ وخالد إلى الأبد([53]).
وبطبيعة الحال ربما أمكن القول: إن بعض كلماته في كتاب «شبهات وردود حول القرآن الكريم» تنطوي على نوعٍ من الإجابة عن السؤال الأول. ودليله على ذلك أن القرآن قد اختار اللغة الخطابية، وعمل في الكثير من الموارد إلى توظيف القضايا الشخصية؛ كي يوفر المناخ للتفاهم مع المجتمع الذي نزل القرآن بلغته. وقد قال سماحته في هذا الشأن: «القرآن وإنْ كان واجه العرب في وقته، لكنه خاطب الناس عامّةً عبر الأجيال. فقد واجه العرب وخاطبهم بلسانهم، وعلى أساليب كلامهم المعهودة لديهم؛ وذلك لغرض التفاهم معهم حينذاك: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4)، لكنّ هذا لا يعني الاختصاص، بعد أن كانت الرسالة عامّة، والخطابات شاملة»([54]).
ويمكن القول في بيان كلام الشيخ معرفت: حيث كانت الأكثرية الغالبة من سكّان شبه الجزيرة العربية من الأميين فقد لجأ القرآن إلى توظيف الأسلوب الخطابي؛ ليكون فهمه أيسر عليهم.
أما الحكمة الأخرى التي يمكن بيانها بشأن خطابية لغة القرآن، والتي لا تقتصر على زمن نزول القرآن، وإنما تشمل جميع العصور، فهي أنه من خلال الأسلوب الخطابي يمكن إحداث التواصل مع المخاطَب على نحوٍ أفضل. وبعبارةٍ أوضح: يمكن من خلال اللغة الخطابية إيجاد ارتباط حيوي مع المخاطب.
وربما كان السرّ في استقطاب القصص والروايات، وكذلك الأفلام، جمهوراً أكبر من سائر أنواع الكتابات الأخرى، بما في ذلك الأفلام الوثائقية والعلمية، يكمن في أنها تقيم مع القارئ والمخاطب ارتباطاً ملموساً. ففي الكثير من الأحيان يستغرق المشاهد للفيلم أو القارئ للقصة والروايات في الأحداث حتّى يتصوَّر نفسه واحداً من أبطالها، فتراه يبكي لبكاء إحدى الشخصيات، أو يضحك على مشهد ينطوي على مفارقة، أو يستولي عليه الحبور، أو تستولي عليه مسحة من الحزن.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الذين يستغرقون في القرآن، حيث تستولي عليهم ذات المشاعر. ومن هنا وصف الله تعالى القرآن الكريم بأنه «أحسن الحديث»، إذ يقول: ﴿اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ (الزمر: 23).
إن القرآن الكريم، بالإضافة إلى دعوة الإنسان إلى مسرح التخاطب الحيّ، يعمل على توظيف الأسلوب الأدبي، بحيث يمنح الحياة والحركة والحيوية لكلّ شيء.
إن الاستفادة من المحسِّنات الأدبية واستنطاق اللغة الأدبية في القرآن يأتي في إطار خلق الصور الفنّية الحيّة من الظواهر التي يتحدَّث عنها، ويدعو المخاطب إلى مشاهدة تلك الصور والمشاهد الحية، حتّى أنك قلما تجد صورة جامدة في القرآن الكريم.
وعلى حدّ تعبير سيد قطب فإن قارئ القرآن، حتّى بعد مدّةٍ من رؤية هذه المشاهد، يشعر وكأنه لا يزال يسير في وسط الأحداث. وفي هذه الأثناء يغفل السامع أو قارئ القرآن عن أن هذا مجرّد كلام يسمعه أو يتلوه، أو مجرّد مَثَل يُقال، وإنما يرى نفسه في مسرح تتحرّك فيه الأحداث، وتنتقل به من مشهدٍ إلى آخر. هذا هو ما يقوم به القرآن، وهذه هي الكلمات التي تتحرَّك اللغة عبرها، وتغدو المشاعر الكامنة متحفّزة، حيث تكون هنا ذات الحياة، وليس الحكاية أو التعبير عنها([55]).
وأما في ما يتعلق بالسؤال الثالث الذي تقدَّم ذكره آنفاً، والذي يقول: هل يمكن تسرية جميع الخصائص والتبعات المذكورة للغة الخطابية على جميع آيات القرآن الكريم أم لا؟ يجب القول: لا يمكن تسرية هذه الأمور على جميع القرآن؛ فلا الآيات بأجمعها منوطة بالقرائن الحالية، ولا جميع القضايا القرآنية قضايا خارجية. هناك مجرّد 15% من آيات القرآن تشتمل على أسباب نزول خاصة، حيث يحتاج المفسِّر في فهمها إلى التعرّف على الشرائط التاريخية للنزول.
من هنا يمكن القول: إن التعاليم القرآنية تنقسم إلى مجموعتين، وهما: المجموعة التي تخاطب عامّة الناس؛ والمجموعة التي تخاطب أشخاصاً بعينهم.
وفي القسم الأوّل تكون لغة القرآن مستندة إلى قرائن حالية، يكون فيها المخاطَبون في عصر النزول ـ من الذين كانوا حاضرين عند النبي ـ هم المعنيّون أصالة، وإن بعضهم كان هو المعنيّ بها على نحو الخصوص.
وأما النوع الثاني من التعاليم القرآنية فيكون فيه جميع الناس هم المخاطَبون بالقرآن.
وبطبيعة الحال فإن القضايا من النوع الأوّل تشتمل بدورها على خطاباتٍ لعامّة الناس أيضاً، كما تشتمل رواية القصص التاريخية للأمم السابقة على خطابات ورسائل، وإنّما قام القرآن بحكاية تلك القصص لانطوائها على تلك الخطابات والرسائل.
هذا وربما لا يكون إطلاق المصطلح الخطابي والتحريري ـ بالالتفات إلى معانيهما الخاصّة والتطبيقية في علم اللغة ـ مناسباً لتعيين وتسمية لغة القرآن، بل يجب أوّلاً استخراج الخصائص اللغوية والمعنوية للقرآن، ثم الحكم على اشتمال القرآن على أيٍّ من خصائص اللغة الخطابية، وأيٍّ من خصائص اللغة التحريرية.
إن القرآن الكريم نصٌّ خاصّ ومميَّز، وربما استحال تعريفه في إطارٍ لغويّ خاصّ.
الاستنتاج
بالالتفات إلى ما تقدَّم يمكن لنا أن نستنتج ما يلي:
1ـ لقد تعرَّض الشيخ معرفت في مؤلَّفاته إلى عددٍ من المسائل المرتبطة بلغة القرآن الكريم، حيث تعرَّض إلى بعضها باختصارٍ، وتناول البعض الآخر بتفصيلٍ أكبر.
2ـ لقد تعرّّض سماحته في كتبه إلى ثلاثة محاور رئيسة من أبحاث لغة القرآن، وهي:
أـ عُرْفية لغة القرآن.
ب ـ خطابية لغة القرآن.
ج ـ أدبية لغة القرآن.
3ـ لقد استعمل القرآن الكريم اللغة المتعارفة بين العرب في عصر النزول وسيلة للتفاهم، ولكنه في الوقت نفسه مزجها بالمعاني العميقة، من خلال توظيف المحسِّنات الأدبية، بحيث لا يمكن إدراكها وفهمها إلاّ للمتعمِّقين.
وعلى الرغم من توظيف القرآن للعُرْف العام، إلاّ أنه لم يستوعب ثقافة عصره، وصار إلى مجاراة الثقافة العربية في استعمال الألفاظ السائدة فيها.
كما أن للقرآن الكريم ـ في الكثير من الموارد ـ لغته الخاصّة في دائرة الألفاظ.
4ـ إذا كانت اللغة تنقسم إلى أسلوبين: الأسلوب الخطابي؛ والأسلوب التحريري، فإنّ أسلوب القرآن هو الأسلوب الخطابي. وإن الاستناد إلى القرائن المقامية الخاصة بالمخاطبين، وتوفُّر القضايا الخارجية، هي من خصائص وتداعيات اللغة الخطابية للقرآن الكريم.
5ـ لقد استفاد القرآن الكريم من المحسِّنات اللفظية كثيراً. بَيْدَ أن استعمال القرآن للمحسِّنات الأدبية لا يعني أن تكون قضايا القرآن قضايا خيالية وغير واقعية، بل إن هذه القضايا هي قضايا حقيقية، رغم صبّها في الإطار الأدبي.
الهوامش
(*) أستاذٌ وعضو الهيئة العلميّة لعلوم القرآن والحديث في جامعة قم.
([1]) المجالات المتداخلة (interdisciplnarity): مجال دراسي يعبر الحدود التقليدية بين التخصُّصات الأكاديمية أو المذاهب والمدارس. وقد حدث ذلك بسبب ظهور احتياجات أو مهن جديدة. وقد ظهر هذا المصطلح في الأصل كتطبيق لتعدُّد التخصُّصات داخل المجالات التربوية والتعليمية والتدريبية؛ لوصف الدراسات التي تستخدم أساليب ورؤى هذه التخصصات الناشئة أو عدّة من الدراسة التقليدية.
([2]) انظر: محمد هادي معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 56 ـ 57.
([3]) انظر: المصدر السابق: 63 ـ 69.
([4]) انظر: محمد هادي معرفت، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب 1: 97 ـ 112.
([5]) انظر: محمد هادي معرفت، التمهيد في علوم القرآن 5: 333 ـ 516.
([6]) انظر: المجلة الفصلية بيّنات، الأعداد 1، 3، 4.
([7]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 12: 15.
([9]) محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 9: 282 ـ 283.
([10]) محمد بن يعقوب الكليني، أصول الكافي 1: 23.
([11]) انظر: المجلسي، بحار الأنوار 4: 83.
([12]) المصدر السابق 76: 236. انظر: السيد محمد علي إيازي، مقاله زبان قرآن: 3 (النسخة الإلكترونية).
([14]) علي رضا ذكاوتي قراكزلو، زبان قرآن، مجلة بيّنات، العدد 5: 77.
([15]) بهاء الدين خرمشاهي، بازتاب فرهنگ زمانه در قرآن، مجلة بينات، العدد 5: 95.
([16]) انظر: المصدر السابق: 91.
([17]) انظر: محمد هادي معرفت، نقد شبهات پيرامون قرآن كريم: 186 ـ 200.
([18]) محمد هادي معرفت، شبهات وردود حول القرآن الكريم: 112 ـ 113.
([19]) المجلسي، بحار الأنوار 9: 282.
([20]) انظر: معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 57.
([21]) انظر: المصدر السابق 1: 57.
([22]) محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية (14 مجلداً) 4: 264 ـ 265.
([23]) معرفت، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب 1: 89.
([24]) محمد هادي معرفت، شناخت زبان قرآن، مجلة بيّنات، العدد 1: 54.
([25]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 78 ـ 80 (تفسير الآيات من 7 إلى 9 من سورة آل عمران).
([26]) انظر: النساء: 83؛ الحجر: 91؛ النساء: 46؛ الإسراء: 36.
([27]) انظر: الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 80 ـ 82.
([28]) المجلسي، بحار الأنوار 90: 136 ـ 137؛ وانظر أيضاً: بحار الأنوار 89: 107.
([30]) المصدر السابق 1: 100 (الهامش).
([31]) انظر: بدر الدين الزركشي، البرهان في علوم القرآن 2: 272 (النوع الثاني والأربعون)؛ جلال الدين السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2: 77 (النوع الثاني والخمسون)؛ حسن مصطفوي، روش علمي در ترجمه وتفسير قرآن مجيد: 73 ـ 76.
([32]) انظر: الزركشي، البرهان في علوم القرآن 2: 272 (النوع الثاني والأربعون)؛ السيوطي، الإتقان في علوم القرآن 2: 77 (النوع الثاني والخمسين)؛ محمد هادي معرفت، التأويل في مختلف المذاهب والآراء: 121 ـ 152.
([33]) انظر: محمد باقر سعيدي روشن، تحليل زبان وقرآن وروش شناسي فهم آن: 176.
([34]) معرفت، التفسير والمفسِّرون في ثوبه القشيب 1: 97 ـ 98.
([35]) محمد هادي معرفت، تفسير ومفسِّران 1: 120.
([36]) معرفت، شبهات وردود حول القرآن الكريم: 114.
([37]) معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 63 ـ 64.
([38]) معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 64. إن السؤال الذي يمكن طرحه بشأن هذا المثال هو: ما هي القرينة المنفصلة التي اعتمد عليها القرآن هنا، وكانت معروفة لدى المخاطبين؟ فإنّ هذه القصة تعود أحداثها إلى ما قبل نزول القرآن بآلاف السنين، فما هي القرينة التي يمكن الاعتماد عليها لدى المخاطبين؟ يجب القول إن القرآن قد استفاد في هذه الآيات من الأسلوب القصصي، بمعنى أنه نقل قصة من خلال توظيف البيان القصصي الخاصّ. الأمر الآخر أن الاستناد هنا لم يتمّ إلى مجرّد قرينة المشافهة والخطاب، بل إن الخطاب هنا قد ورد بلفظ التذكير تارةً، وبلفظ التأنيث تارةً أخرى، ممّا يثبت أن المقطع الأول كان خطاباً ليوسف، والمقطع الثاني كان خطاباً لزليخا.
([39]) معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 64.
([43]) انظر: المصدر نفسه 1: 66.
([44]) انظر: معرفت، تفسير ومفسِّران 1: 102 ـ 103.
([45]) انظر: معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 68.
([46]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 1: 52.
([47]) معرفت، التفسير الأثري الجامع 1: 69.
([49]) المجلسي، بحار الأنوار 89: 78.
([50]) تفسير محمد بن مسعود العياشي 1: 11.
([51]) المصدر السابق: 10. ونصّ الرواية في بحار الأنوار على النحو التالي: «يجري من أوله إلى آخره ما قامت السماوات والأرض» (المجلسي، بحار الأنوار 24: 328).
([52]) انظر: معرفت، نقد شبهات پيرامون قرآن كريم: 150.