برزخٌ بين الإسلام والحداثة
ـ القسم الأول ـ
الشيخ مسعود إمامي(*)
مقدّمة ــــــ
تعدّ ظاهرة الحداثة والتنوير الفكريّ التي نشأت وبرزت في البلدان الإسلاميّة خصوصاً، والشرقيّة عموماً، وليدة الارتباط والتأثّر بالحضارة الغربيّة الجديدة.
هذه الحضارة قبل أن تبلغ مرحلة الرشد والازدهار، ويصبح بمقدورها أن تؤثّر في سائر الحضارات الأخرى، كان عامّة المثقّفين في المجتمع يُصنَّفون في عداد العلماء والباحثين، وأحياناً في عداد المصلحين، ولكنْ في فترةٍ لاحقة أخذ طيف التنوير الفكريّ بالتشكُّل شيئاً فشيئاً، ثمّ ما لبث أن تطوّر واتّسع حتّى تحوّل إلى منافسٍ لكافّة الحكماء والعلماء في العالم.
ولكن مع ذلك يبدو أنّ حركة التنوير الفكريّ التي نشأت في البلدان الشرقيّة، وبالرغم من كلّ عناصر الشبه القائمة بينها وبين حركة التنوير الفكريّ في الغرب من ناحية أصل القيام والنشأة، تختلف عنها على مستوى الدور والرسالة والأهداف اختلافاً جوهريّاً؛ إذ إنّ ظاهرة التنوير الفكريّ في الغرب تُعدّ ـ من ناحيةٍ ـ وليدة عالم الحداثة والتجدّد، وواحدةً من أهمّ ثمار العصر الحديث. ومن ناحيةٍ أخرى؛ وبسبب الدور الرياديّ الكبير، والمساحة الشاسعة التي يحتلّها الفكر والتنظير في الحضارة الغربيّة، فإنّ ظاهرة التنوير الفكريّ([1]) في الغرب تُعدّ بمثابة الصانع لتلك الحضارة والعامل الرئيس والمباشر في إيجادها. هذا التفاعل المتبادل بين هاتين الظاهرتين في الغرب (ظاهرة التنوير الفكريّ، وظاهرة الحضارة والتمدّن)، والذي يمكن ملاحظة قيامه عادةً بين ظواهر اجتماعيّة مماثلة، أدّى إلى استحكام العلاقة والترابط والصلة بينهما.
وقد استطاع متنوّرو الفكر في الغرب، من خلال قدرتهم على الابتكار والتجديد في طرح الآراء والنظريّات المتنوّعة، والتي طالت مختلف مكوّنات حضارتهم الكبرى، وكذلك من خلال نقدهم وتقييمهم المنطقيّ والعقلانيّ للنظريّات والآراء المطروحة في ساحتهم، استطاعوا أن يمهِّدوا السبيل أمام حضارتهم تلك للوصول إلى مستقبلٍ واعدٍ وباهر. وهذا ما أتاح لهم فعلاً أن يأخذوا على عاتقهم مهمّة القيادة الفكريّة لهذه الحضارة.
وأمّا المتنوِّرون والمثقَّفون في الشرق فهم ـ وقبل كلّ شيء ـ وضعوا أنفسهم في مقابل التجربيّات والإنجازات الكثيرة التي استطاعت أن تحقّقها الحضارة الغربيّة الكبرى، الأمر الذي دفع بهم، وبطبيعة الحال، إلى الانشغال بنقل وترجمة الحضارة الغربيّة، وأحياناً إلى الانشغال بنقدها وتقييمها، واعتبار ذلك جزءاً من الواجب ومن الرسالة الملقاة على عواتقهم، بدل أن يرَوْا أنفسهم ملزمين بالعمل على تنمية وتعميق ثقافتهم الذاتيّة وحضارتهم الأصيلة.
غير أنّ هذه المزية ـ بمجرّدها ـ لا يمكن أن تُشكِّل نقصاً أو عيباً بالنسبة إلى الشرقيّين من أهل التنوير الفكريّ؛ لأنّ العقل يقضي بحسن الاستفادة من تجارب الآخرين، ويمتدح الرجوع إلى آراءٍ ونظريّات وقعت على مدار سنواتٍ متطاولة محلاًّ للنقد والتقييم والاختبار، العلميّ منه والعمليّ. وقد استطاع العالم الغربيّ، على امتداد قرونٍ متمادية، وبعد أن مرّ بمحطّاتٍ متنوّعة، شهد فيها صعوداً تارةً وانحداراً أخرى، استطاع أن يُحرِّر نفسه من قيود حضارته القديمة وثقافته التقليديّة، وأن يخرج ليشيّد الأسس التي أقام عليها أركان حضارةٍ جديدة، ولا زال إلى الآن في طور الحركة والمضيّ نحو فضاءاتٍ مستقبليّة مجهولة لا يمكن توقُّعها أو التنبّؤ بها. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه التجربة القيّمة والثمينة تشكّل ميراثاً ضخماً لا يُستغنى عنه، ولا يُستهان به، بالنسبة إلى كلّ عالمٍ أو مفكِّر ينشد لمجتمعه الكمال والتقدّم والازدهار.
وعلى أيّ حال فإنّ تيّار التنوير الفكريّ في الشرق لم ينعقد ولم يتشكَّل في بداية أمره إلاّ على رسالةٍ محدّدة، يمكن لنا أن نطلق عليها اسم (ترجمة الحداثة).
هذه الترجمة إنّما تكون مورداً للذمّ فيما لو أُريد لها أن تبقى بمنأىً عن النقد والتقييم العقلانيّين، وكذلك فيما لو تمّ تجاهل أو نسيان ما فيها من الخصائص والمكوّنات الحضاريّة الدينيّة أو التقليديّة.
ورغم أنّ أصحاب الاتّجاه التقليديّ لم يكن لهم أيُّ دورٍ فاعل في تنشيط حركة الحداثة والعصرنة، إلاّ أنّ ظواهر الحداثة والعصرنة غير المرغوب بها من قِبلهم، والتي باتَتْ تغزوهم في مختلف الأبواب والمجالات من حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة، لم تُبْقِ أمامهم إزاء ذلك إلاّ خياراً وحيداً، وهو التعرّف على تلك الظواهر والتعرّض لها بالدراسة والتقييم.
ويبدو أنّ أهمّ العناصر التي تدخل في تكوين شخصيّة الحداثويّين أو المتنوّرين (بالمعنى الأعمّ للحداثة والتنوير) في البلدان الشرقيّة، أو في إيران على الأقلّ، هو «التعرّف على العالم الجديد، واتّخاذ موقفٍ جذريّ حازم في قباله ـ إيجاباً أو سلباً ـ؛ لغرض الوصول بالمجتمع إلى الرقيّ والنجاح».
ومن هنا فإنّ طيفاً واسعاً من المفكّرين يندرجون تحت المتنوّرين بهذا المعنى العامّ والوسيع. ونستطيع أن نعثر في جانبٍ من هذا الطيف الواسع على بعض (التقليديّين)([2]) من الدعاة إلى التعرّف على الغرب، من أمثال: السيّد حسين نصر([3])، أو من المناهضين للغرب، كالسيّد أحمد فرديد([4]). وفي جانبٍ آخر منه على بعض المنبهرين بالحضارة الغربيّة، من أمثال: الميرزا ملكم خان، وشخصيّاتٍ أخرى تمثّل نسخاً معاصرة له.
وبين هذين النمطين من المفكّرين يمكن العثور على عددٍ من الحداثويّين والمتنوّرين الذين انشغلوا بأداء رسالتهم الحداثويّة والتنويريّة في وقتٍ خيَّم عليهم نوع من التبعيّة الفكريّة للعالم القديم والجديد.
وبالرغم من اطّلاع كاتب هذا المقال على التعاريف والتفسيرات المتنوّعة لمفهوم الحداثة والتنوّر الفكريّ، بكلا معنيَيْه: الشرقيّ؛ والغربيّ، إلاّ أنّنا نصرّ على تبنّي تعريفٍ له بمعناه الوسيع والأعمّ. ونرى أنّ الاقتصار على النموذج الذي يقدّمه مفهوم الحداثة والتنوّر الفكريّ في الغرب، وتعميم هذا النموذج وتسريته ـ كما هو، ودون أيّ تصرّف ـ إلى تيّار التنوّر الفكريّ في الشرق، إنّما يُعدّ ضرباً من ضروب الهروب من الواقع، والاختباء خلف المصطلح، وإنْ كنّا لا نرى مانعاً في أصل تحديد معنىً أخصّ للتنوّر الفكريّ، أو في اختيار مجموعةٍ من الخصائص والمواصفات التي تحدّد ظاهرة التنوّر الفكريّ في مفهومها المثاليّ. وعلى أيّ حال فإنّ هذا النحو من الاختلافات ما دام محصوراً في نطاق الألفاظ والمصطلحات فلا تترتَّب عليه ثمرةٌ علميّة مهمّة.
ومن بين الحداثويّين الشرقيّين، وبالأخصّ: متنوِّري الفكر في العالم الإسلاميّ، تبرز المسؤوليّات الجسام الملقاة على عاتق متنوّري الفكر الدينيّ على وجه الخصوص، وتبدو ملامح الطريق الوعرة التي يتوجّب عليهم أن يسلكوها؛ لأنّ هؤلاء هم ـ من جهةٍ ـ مرتبطون بالدين، بما يمثِّله الدين من أهمّ ميراثٍ حيّ تركه العالم القديم في العصور الحاضرة، فهم لذلك يرَوْن أنفسهم على ارتباطٍ وصلة بالعالم القديم. ومن جهةٍ أخرى لا يسعهم أمام ضرورات التعرّف على مقتضيات العالم الحديث، والاقتحام القسريّ لهذا الضيف الثقيل وغير المرغوب به لمختلف بلدان العالم الشرقيّ والإسلاميّ، لا يسعهم إلاّ أن يرَوْا أنفسهم أيضاً في منطقةٍ حدوديّة متوسّطة بين العالمين القديم والحديث.
وفي هذا السياق برز جمعٌ من المفكِّرين ممَّنْ سعَوْا إلى المصالحة والتوفيق بين الماضي والحاضر، والثابت والمتغيّر، والتقليديّ والمتجدّد، والدين والعلم، فقدّموا نظريّاتٍ عديدةً في هذا المجال.
وكان من هؤلاء مَنْ سعى إلى استخراج المصداق الأمثل، الذي رأَوْا فيه الأنموذج الصالح كي يُحتذى به من تجربة تحوّلات الحياة الدينيّة في الغرب، وسعَوْا إلى تطبيق هذا الأنموذج الغربيّ في مجتمعاتهم، وتعميمه إلى كافّة بلدان العالم الشرقيّ؛ إمّا بشكلٍ دقيق ومتطابق تماماً معه؛ وإمّا بإدخال شيءٍ من التعديل والتصرّف عليه.
وذهب جمعٌ آخرون إلى دعوى وجود تضادٍّ وتنافر بين الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها الحضارة والمدنيّة الغربيّة وبين الخلفيّات والمنطلقات التي يقوم عليها الفكر الدينيّ، معتبرين أنّ إيقاع الصلح والمواءمة بين الدين والحضارة الغربيّة على مستوى الخلفيّات والمرتكزات والأسس لهو أمرٌ غير معقول، وغير ممكن على الإطلاق.
وأمّا الغالبيّة العظمى من حداثويّي الفكر الدينيّ، في بلادنا كما في سائر بلدان العالم الإسلاميّ، فإنّهم ـ وبصرف النظر عن مواقفهم والآراء التي اتَّخذوها بالنسبة إلى إنجازات ومكتسبات الحضارة الجديدة ـ وقفوا موقف الناقد والمخالف للعالم القديم، وللنظرة التقليديّة إلى الدين. وبالرغم من كثرة الاختلافات والفروقات التي يمكن العثور عليها في آراء هؤلاء ونظريّاتهم، إلاّ أنّهم بأسرهم اتَّحدوا حول فكرة أنّ القراءة التقليديّة للدين لم يعُدْ بالإمكان الدفاع عنها، ولم يعُدْ لها مكانٌ أصلاً في عالمنا المعاصر.
والأمر الذي لا مجال للشكّ فيه هنا هو أنّه لا يسعنا أن نتغاضى عن حقيقة أنّ مصير الدين وسير تحوّلاته في الغرب كان له (ولا يزال) ـ وبصورةٍ مباشرة ـ أكبر الأثر في تشكُّل كثيرٍ من نظريّات هذا الطيف من المتنوّرين وحداثويّي الفكر المذهبيّ والدينيّ. وإنّ إجراء مطالعةٍ ومقارنة تطبيقيّة بين أفكار ودراسات الحداثويّين الشرقيّين والغربيّين، واستناد الحداثويّين الشرقيّين كثيراً إلى آراء ونظريّات الحداثويّين الغربيّين، لهو شاهدٌ واضح وجليّ على هذا التأثير والتأثّر.
وأمّا اليوم فإنّ مقاطع مختلفة من القراءة التقليديّة للإسلام قد تحوَّلت إلى مادّةٍ للجدل والنزاع في العالم الحديث، وبحسب الفكر الذي يحمله الإنسان المتجدِّد. وإنّ الفهم التقليديّ للإسلام لم يعُدْ، وفي العديد من المجالات، موائماً وملائماً لفكر إنسان الحضارة والحداثة.
ومن هنا ينطلق متنوِّرو الفكر الدينيّ من واقع هذا التصادم بين الفهم التقليديّ وبين مقتضيات العالم الحديث ليشخِّصوا أنّ وظيفتهم الأساسيّة تكمن في رفع هذا التصادم الجوهريّ. وهكذا يتابعون أداء رسالتهم التنويريّة في ظلِّ التمسّك والالتزام بالدين.
وكما أسلفنا فإنّ غالبيّة المتنوّرين في الفكر الدينيّ انحازوا في الصراع بين العالم القديم والعالم الحديث إلى جانب الفكر الحداثويّ، فوجَّهوا سهام انتقاداتهم إلى الفكر والفهم التقليديّ للإسلام، ودعَوْا إلى قراءةٍ مبتكرة للنصوص الدينيّة، وإلى إعادة النظر في الفهم التقليديّ الذي كان سائداً لها؛ لأجل أن تكون تلك النصوص متلائمةً ومنسجمةً مع الأفكار والنظريّات الحديثة.
وفي هذا الإطار وقعت كافّة تعاليم الإسلام، في جميع المجالات، عرضةً للهجمات والانتقادات المتلاحقة من قِبَل الحداثويّين والمتنوّرين المذهبيّين. وإنّ مطالعة وقراءة مؤلّفات المعاصرين من المتنوّرين المذهبيّين وغير المذهبيّين في إيران تكشف لنا عن الحقيقة التالية، وهي أنّ سيل الانتقادات ـ وأحياناً الهجمات ـ التي طالت مختلف أبواب المعارف الإسلاميّة، وبخاصّة الفقهيّة منها، إنّما بلغت أوجها وذروتها عقيب استقرار نظام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا النظام الذي يقوم على ولاية الفقيه يمثِّل الرمز لحاكميّة الفقه وسلطته.
ولا شكّ في أنّ ظهور الفقه وتطبيقه في مختلف الساحات الاجتماعيّة والسياسيّة في إيران كان سبباً لتوجُّه الذهنيّة العامّة ـ وبخاصّةٍ في أوساط المتنوّرين والحداثويّين ـ، كما أنّه ساعد على توفير الأجواء المناسبة لانتقاده وتقييمه.
وما نجده اليوم في إيران، وفي سائر البلدان الإسلاميّة، هو أنّ الأفكار والانتقادات التي يوجّهها الحداثويّون والمتنوّرون إلى الفهم التقليديّ للدين باتت موضع عنايةٍ واهتمام كبيرين عند قسمٍ كبير من طبقات المجتمع، على اختلافها وتنوُّعها، ولا سيَّما منهم طبقة المثقّفين والأجيال الشابّة. وإنّ تجاهل هذا التحوّل الثقافيّ، وقلّة الاعتناء به من قِبَل العلماء التقليديّين، لا يحول دون الحدّ من تسارع وتيرته فحَسْب، بل إنّه أيضاً يفسح في المجال أمام اتّساع دائرته بيسرٍٍ وسهولة، ودون أن يصطدم بأيّ إشكالٍ أو نقد يعيق مسيرته.
ومن هنا يتوجّب على دعاة الإسلام وأصحاب الفقه التقليديّ ـ وبخاصّة علماء الحوزات العلميّة وباحثيها ـ، بعد الاطّلاع والإشراف على آخر الأفكار والانتقادات الحديثة التي توجَّه إليهم حاليّاً، أن تكون لهم الشجاعة الكافية للاعتراف بصوابيّة ما يرَوْنه صائباً من هذه الانتقادات، وأن يقدِّموا أجوبتهم وردودهم على شبهات المتنوّرين وانحرافاتهم، على أن يتحرَّوْا في إجاباتهم تلك منتهى الحكمة والرويّة والحلم والموضوعيّة.
هذا الحوار العلميّ والموضوعيّ من شأنه أن يجعل الأسس العقلانيّة التي تقوم عليها هذه الشريعة الإلهيّة أكثر إحكاماً واستقامةً في عيون المفكّرين، كما أنّ من شأنه أيضاً أن يجعل الإيمان الدينيّ أكثر عمقاً ورسوخاً في نفوس عامّة المتديّنين.
وفي هذا المقال نسعى قدر الإمكان ـ وبقدر ما أُتيح للمؤلِّف من الوقت، ومن الاستطاعة العلميّة ـ إلى معالجة هذه المسألة بشكلٍ منضبط ومتين، الأمر الذي يضطرّنا إلى الإيجاز، وعدم الخوض في كثيرٍ من التفاصيل التي قد توجب انفلات زمام البحث.
ومن أجل ذلك اخترنا من الحداثويّين والمتنوّرين خصوص الحداثويّين والمتنوّرين الدينيّين. ومن بين المتنوّرين الدينيّين الذين يشكِّلون طيفاً واسعاً ممتدّاً في أرجاء البلدان الإسلاميّة اخترنا ثلاثةً من المتنوّرين الدينيّين الإيرانيّين، عِلْماً أنّ إيران نفسها تحوي مجموعةً متنوّعة منهم. هؤلاء الثلاثة([5]) الذين اخترناهم هم الأشهر بينهم في القرنين الأخيرين (وإنْ لم يكونوا بالضرورة هم الأكثر عِلْماً وفضيلة منهم). وقد بنينا في نقل وتقييم آراء وأفكار هؤلاء الثلاثة على ما أمكننا الوصول إليه من مؤلّفاتهم المكتوبة؛ لتكون نتيجة البحث في هذا المقال الموجز مقبولةً وصالحةً للاعتماد والبناء عليها.
ويستطيع كاتب هذا المقال، بالاعتماد على ما لديه من معرفةٍ تفصيليّة بآراء وأفكار هؤلاء الحداثويّين الثلاثة، واطّلاعٍ جيّد ـ نسبيّاً ـ على آراء وأفكار غيرهم من متنوّري الفكر الدينيّ في إيران، يستطيع أن يدَّعي أنّه باستثناء ما ورد في هذه السلسلة من المقالات من المواضيع المطروحة قلَّما يمكن العثور على آراء وأفكار مهمّة ومبتكرة لدى سائر متنوِّري الفكر الدينيّ في إيران. هذا مع اعترافنا بأنّ لدى متنوّري الفكر الدينيّ في البلدان العربيّة آراءً ومقولاتٍ متفاوتة ومختلفة في ما بينها إلى حدٍّ كبير، وهو ما يستدعي إجراء دراسةٍ مستقلّة بشأنها.
ولأجل هذا السبب يمكن لنا أن ندّعي أنّ آراء هؤلاء الأشخاص الثلاثة وأفكارهم حول هويّة الإسلام وحقيقته تقدِّم لنا ـ وإلى حدٍّ بعيد ـ تصويراً تفصيليّاً جامعاً لعامّة الأفكار التنويريّة والحداثويّة الرائجة في إيران حول الإسلام.
هذا المقال الذي بين يدَيْ القارئ الكريم يتكفَّل ـ ومن خلال النظرة الشاملة التي يقدِّمها لمجموعة الآراء والتصوّرات التي يتبنّاها المتنوّرون الدينيّون حول الإسلام، إضافةً إلى تحليل هذا النمط من الآراء والتصوّرات ـ بإثبات أنّ هذه الحركة العلميّة واقعة، وبشدّة، تحت التأثير المباشر لثقافة الغرب وحضارته، شأنها في ذلك شأن سائر النزعات الفكريّة التي عادةً ما تبرز لدى الحداثويّين والمتنوّرين من الشرقيّين، حيث إنّ الملاحظ في غالبيّة ـ بل ربما في جميع ـ تصريحات هذا الطيف من الحداثويّين المذهبيّين بشأن الإسلام أنّها تتلاقى وتنسجم تماماً مع الأفكار الغربيّة بهذا الصدد.
هذه الملاحظة وإنْ لم تكن لوحدها موجبةً لورود إشكالٍ علميٍّ ومنطقيّ على ظاهرة التنوير في الفكر الدينيّ في إيران، إلاّ أنّه بانضمام بعض الملاحظات والنقاط الأخرى إليها يمكن أن يُستكشَف وجود نوعٍ من الاضطراب والتهافت في فكر المتنوّرين الدينيّين في إيران.
هذا الاضطراب الذي دفع بهؤلاء المتنوّرين في كثيرٍ من الأحيان إلى اتّخاذ مواقف علميّةٍ أو عمليّة متناقضة ومتكاذبة، حتّى أنّه طال الجوانب الشخصيّة والخاصّة من حياة البعض منهم، إنّما نشأ في الحقيقة من الهدف المستحيل وغير الممكن الذي وضعه هؤلاء ـ مسبقاً ـ نَصْب أعينهم؛ حيث إنّ هؤلاء بعد أن رضُوا وأعلنوا موافقتهم على هذا القدوم القسريّ للحداثة الغربيّة إلى عالم الإسلام صاروا بصدد التوفيق بين خلفيّات هذه الحداثة ومبانيها الفكريّة وبين الإسلام وتعاليمه، فحَسِبوا أنّهم بذلك نجحوا في تجنُّب الصدام والصراع القائم بين الحداثة والتقاليد.
فالمتنوّر الدينيّ هو ذلك الشخص الذي يميل إلى الدين ويتعلّق به، كما يميل إلى الفكر الحديث ويتعلّق به، ويقترب من السنّة والتقاليد بقدر ما يقترب من الحداثة والعصرنة، ويتحرّك في الحدّ الفاصل بين القديم والحديث؛ ليجمع بين أعزّ الموروثات القديمة والتقليديّة، والتي تتمثَّل في الدين، وبين أعزّ المعروضات التي تقدّمها الحداثة، وهي عبارة عن العقل الحديث، ويسعى دائماً إلى التوفيق وإيقاع الصلح بينهما. وبعبارةٍ أوضح: إنّ أكبر التحدّيات التي يواجهها المتنوّر الدينيّ يتمثّل في إبراز أنّه كيف يمكن لإنسان عالم الحداثة أن يكون متديِّناً (من الناحيتين العمليّة والنظريّة). فالدين في ذاته يرتبط بعالمٍ مليء بالخفايا والأسرار، وما نعيش فيه حاليّاً هو عالم يسعى إلى التحرُّر والتقليل من الخفايا والأسرار، فيبقى الجمع بين العالم المليء بالأسرار وبين العالم المتحرّر منها واحداً من أهمّ التحدّيات التي يواجهها أيّ متنوّر دينيّ([6]).
هذه الفئة من المتنوِّرين اختارت ـ عن سابق وعيٍ وعمد ـ اتّباع منهجٍ هو بنظر كثيرٍ من أتباع الفكر التقليديّ منهج يهدف إلى تحريف مفاهيم الدين ـ وبخاصّة الدين الإسلاميّ ـ وتزويرها وإبطالها وتغييرها، بلا فرقٍ في ذلك بين متنوّري الفكر الدينيّ وغيرهم من المتنوّرين والمثقّفين.
غير أنّ التحقيق في هذه المسألة والوصول إلى نتيجةٍ فيها يتطلّب بحثاً مفصّلاً عن حقيقة كلٍّ من الإسلام والتيّار التجديديّ، وهو ما لا يتَّسع له المجال في هذا المقال.
وإنّما نكتفي هنا بالإشارة إلى تناقضٍ وقعت فيه هذه الفئة من المتنوّرين، حيث إنّهم ـ من جهةٍ ـ يعملون على عصرنة الإسلام وعلمنته، ومن جهةٍ أخرى لا يتوانَوْن عن التصريح بهذه الحقيقة المرّة، حقيقة أنّ كلاًّ من اتّجاهي الحداثة والعلمنة يمثِّلان في الواقع حركتين منافرتين للدين، بل ومعاديتين له.
مثل هذا النموذج من التناقضات والإرباكات الواضحة التي وقع فيها هذا الطيف من متنوِّري الفكر الدينيّ هو ما تُعنى مقالتنا هذه بالحديث والبحث عنه.
1ـ مكوّنات الحداثة والعصرنة في نظر متنوّري الفكر الدينيّ ــــــ
في عصر الحداثة لاقى الإنسان تحوّلاً باهراً. وقبل أن تتغيَّر نظرته إلى العالم الذي يعيش فيه بحيث يصبح قادراً على التحكّم به كيف شاء تغيّرت نظرته إلى نفسه، وإلى الطبيعة وما وراءها. وكان هذا التحوّل الداخليّ والفكريّ هو الذي قاده ـ منذ البدء ـ نحو سائر التحوّلات الخارجيّة.
وقد أجرى الباحثون دراساتٍ عدّة حاولوا فيها الكشف والتعرّف على المكوّنات والخصائص الرئيسة التي تحدّد شخصيّة الإنسان المتجدّد، وحقيقة النزعة التجديديّة. وتوصّلوا من خلال هذه الدراسات إلى نتائج متباينة. هذا التنوّع الواسع النطاق في آراء الفلاسفة الغربيّة حول تعريف واقع وحقيقة ظاهرة الحداثة والعصرنة ـ ككثيرٍ غيرها من الظواهر والمفاهيم والوقائع المطروحة في عالمنا المعاصر ـ حوّل هذه الظاهرة إلى ما يشبه الأحجية المستعصية، إلى درجة أنّ تعيين الحدود المفهوميّة لهذه الظاهرة بات اليوم من الأمنيات الصعبة والبعيدة المنال. ولكنْ في الوقت نفسه بإمكاننا هنا أن نغمض قليلاً عن إعطاء تعريفٍ دقيق وتحليل كامل لحقيقة هذه الظاهرة، ونكتفي في المقابل بالحديث عن بعض المكوّنات والخصائص المهمّة لظاهرة الحداثة والعصرنة، استناداً إلى ما ورد على ألسنة عددٍ من المتنوّرين الدينيّين.
ومن الضروريّ بدايةً الإلفات إلى نقطةٍ مهمّة، وهي أنّ خصائص الحداثة والعصرنة لا تظهر بنفس المستوى والدرجة في كلّ فردٍ أو مجتمع حديث، بل الحداثة والعصرنة من المفاهيم والحقائق المشكِّكة، أي إنّها ذات درجاتٍ ومراتب. وعلى هذا الأساس فالمجتمع الذي نال حظّاً أكبر من خصائص الحداثة والعصرنة هو مجتمعٌ أكثر حداثةً وعصرنة من غيره.
وفي ما يلي نستعرض ـ بإيجازٍ ـ أهمّ مكوّنات الحداثة التي تطرّق إليها المثقّفون والمتنوّرون الدينيّون([7])، وتعرّضوا لها أحياناً بالنقد والتقييم.
أـ العقلانيّة، أو النزعة العقليّة([8]) ــــــ
العقلانيّة هي أهمّ الخصائص والمكوّنات التي لا تستغني الحداثة عنها، بل هي أصلها وجوهر حقيقتها([9])، وهي ـ في الواقع ـ خليفة الله في العصور الحديثة([10])، وبرأي بعضهم إنّ العقلانيّة هي السقف الذي تستظلّ بفَيْئه سائر مكوّنات الحداثة وخصائصها([11]).
والعقلانيّة التي هي شرط في الحداثة يُنظر إليها تارةً بوصفها مظهراً من مظاهر الفكر والاستدلال، وفي هذه الحالة يتعامل معها المتنوّرون الدينيّون بكلّ تبجيلٍ واحترام، ولا يرَوْن فيها ـ إذ ذاك ـ ما يستحقّ النقد والاعتراض.
لعلّ أعظم الخصائص التي تقوم عليها النزعة التجديديّة، وأكثر ما تمسّ الحاجة إليه، هو حرّيّة الفكر، والمطالبة بالدليل، والنزوع إلى الاستدلال، وعدم الخضوع لشيءٍ سوى الدليل والبرهان. هذه النزعة الاستدلاليّة تمثّل نوعاً من المطالبة بالمساواة الفكريّة والثقافيّة، وإذا تمّ التعامل معها بجدّيّة لن يعود بإمكان أيّ إنسانٍ أن يتفوّق على الآخرين، أو أن يكسب أيّ امتيازٍ له عليهم، إلاّ بمقدار دقّة ما يقدّمه من الدليل والبرهان، ونتيجة ذلك أن ينسدّ الباب أمام أيِّ شكلٍ من أشكال الخديعة والاحتيال التي تُمارَس عادةً على عامّة الناس، وكذلك أيّ شكلٍ من أشكال العنف عليهم، والإرعاب والترويع لهم([12]).
غير أنّنا وبمجرّد أن نعتبر السعي وراء الدليل والنزعة الاستدلاليّة بمثابة السمة البارزة التي يتميّز بها عصر التجدُّد، فإنّنا بذلك نساهم في ولادة توهُّمٍ مفاده أنّ الفكر البشريّ قبل قرون النهضة والحداثة والعصرنة كان فاقداً للعقلانيّة، ومليئاً بالخشونة والتعصّب، وبعيداً كلّ البعد عن الدلائل العقلانيّة والمنطقيّة.
هذا التصوير المظلم لتاريخ الفكر البشريّ لا يُعدّ إهانةً ـ من الناحية الأخلاقيّة ـ لروّاد العلم والفلسفة في الشرق والغرب فحَسْب، بل ـ حتّى من الناحية النظريّة ـ هناك العديد من الشواهد التاريخيّة التي تبطله وتنفيه؛ حيث إنّ الآثار والمؤلّفات التي وصلتنا من عصور الحضارات القديمة الكبرى، ومن علماء وفلاسفة ما قبل عصر التجدّد والنهضة، كلّها تشير إلى حقيقة أنّ العلماء الماضين أيضاً كانوا يتَّسمون بالعقلانيّة، ويقيمون على دعاواهم من الأدلّة والحجج ما هو بزعمهم كافٍ لإقناع العقل ومخاطبته، كما كانوا يتعرَّضون بشكلٍ منطقيّ لآراء خصومهم والأدلّة التي يقيمونها على دعاواهم بالنقد والمناقشة.
ما يمكن اعتباره حدّاً فاصلاً بين العالم القديم والعالم الحديث في مجال العلم والفكر والمعرفة إنّما هو زوال بعض الأصول الموضوعة والمسلّمات المسبقة التي كانت في ما مضى حاكمةً ومهيمنةً على الفكر البشريّ، أعني الأصول التي كانت تُعدّ في السابق من الأصول المُجمَع عليها ـ تقريباً ـ. ولأنّها كذلك كانوا يرَوْن أنفسهم في غنىً عن إقامة الدليل عليها، ولكنْ في العالم الحديث باتت هذه الأصول مورداً للشكّ والترديد، وباتت بحاجةٍ إلى مراجعة وإعادة قراءة.
ومع ذلك لا خيار أمام العالم الحديث إذا أراد أن يؤسِّس لتقعيد حضارته إلاّ أن يعتمد جملةً من الأصول الموضوعة الخاصّة به؛ إذ إنّ إلغاء جميع الأصول الأوّليّة والافتراضات المسبقة والتردُّد بينها من شأنه أن يعيق تقدّم الحركة التكامليّة في مسيرة العلم والتنمية، حيث تتحوَّل هذه الحركة إلى السكون والركود، بل إلى التراجع والتأخّر والانحراف. وفي الواقع فإنّ مكوّنات الحداثة والعصرنة ـ والتي سنتحدّث بإيجازٍ عن جملةٍ منها ـ ليست سوى بعض هذه الأصول الموضوعة.
كما أنّ هذه الأصول الموضوعة ـ هي نفسها ـ يمكن أن تكون محلاًّ للتأمّل والمناقشة وإعادة النظر في القرون أو حتّى العقود الآتية، بل يمكن أن يحلّ مكانها أيضاً أسسٌ وافتراضات أخرى، بحيث تشكّل هذه الأسس الجديدة قاعدةً تقوم عليها حضارة مغايرة تماماً. وكما أنّه ليس من المناسب واللائق أن ترمي الأجيال الآتية علماء ومفكّري هذا العصر بتهمة تعطيل العقول أو الاحتيال والغوغائيّة كذلك لا يليق بعلماء عصرنا هذا أن يعمدوا إلى رمي علماء العصور الماضية بمثل هذه التهم والافتراءات.
ومن الواضح أنّ هذا الكلام لا يعني نفي وجود أيّ مظهرٍ من مظاهر العنف والتعصّب والتفتيش عن عقائد الناس في تاريخ الفكر والمعرفة على صعيد العالم بأسره ـ وبخاصّة تاريخ المسيحيّة في القرون الوسطى ـ، وإنّما نرمي إلى الابتعاد عن التعميمات الفارغة التي تعطي كلاًّ من الحاضر والماضي صورةً خياليّة لا واقعيّة لها.
ومن جهةٍ ثانية فإنّ مسيرة العقلانيّة في الغرب لم تكن بدورها بهذا المستوى من الإيجاز والسهولة، بل إنّ حرّيّة الفكر والتحرُّر من كثير من الافتراضات المسبقة والمباني الفكريّة التي كانت مهيمنةً على العالم القديم قروناً عديدة من الزمن مرّت بالكثير من المحطّات الصعبة، التي لاقت فيها صعوداً تارةً؛ وهبوطاً أخرى. وفي طول ذلك كلّه تمّ بناء الأسس والافتراضات الجديدة، والتي شكّلت فيما بعد المرتكزات الفكريّة التي قامت عليها هذه الحضارة الجديدة بكلّ ما فيها من رونقٍ يبهر الأنظار.
حركة التنوير والتحرّر الفكريّ التي نشأت في الغرب إنّما قامت في مقابل الأجواء الفكريّة المتوتّرة التي كانت سائدةً في أواخر القرون الوسطى، والتي كانت متأثّرةً ـ وإلى حدٍّ بعيد ـ بالدين المسيحيّ، وبسيرة الذين كانوا يمثّلون دور الوصاية والقيمومة على الدين في ذلك العصر. ولا شكَّ في أنّ هذه الأجواء المشار إليها كان لها تأثيرات أوّليّة على تفجّر حركة العقلانيّة والتحرّر الفكريّ في الغرب، وهي التي وجّهتها في مسارها الذي مشَتْ عليه. وإنّ الالتفات إلى سائر الخصائص والمكوّنات المهمّة التي يتَّسم بها العالم الحديث يكشف ـ وبوضوحٍ ـ عن أنّ إنسان عصر الحداثة كلّما مضى أكثر في قطع أواصر العلاقات التي تربطه بالعالم القديم كلّما سار في اتّجاهٍ يخالف ـ بطبيعة الحال ـ مسار العالم القديم، وهو مع كلّ لحظةٍ تمرّ يزداد عنه بُعْداً وافتراقاً، حاله في ذلك حال كُرَةٍ تدفعها قوّة طردها المركزيّ بعيداً عن المحور السابق الذي كانت عليه([13]).
وعلى هذا الأساس من سُخْف القول أن نفترض أنّ نشوء وتشكّل العقلانيّة في الغرب تمّ في خلاءٍ وجوّ حياديّ، وأنّ مفكّري عصر الحداثة اتّجهوا نحو بناء حضارةٍ جديدة دون أن تكون لهم آراء وخلفيّات مسبقة، ودون أن ينطلقوا من ميلٍ أو نفور نفسانيّ وروحانيّ معيّن؛ إذ إنّ هذا الافتراض يجعل هؤلاء المفكّرين من غير سنخ البشر والكائنات الأرضيّة التي نعرفها، وهم أشبه بالكائنات السماويّة أو المخلوقات الفضائيّة التي نسمع في الأساطير والخرافات عن غزوها لكرتنا الأرضيّة!! فإذن هذه العقلانيّة التي تطبع الحضارة الغربيّة الجديدة بطابعها لا يمكن إلاّ أن تكون قد نشأت في بيئةٍ وأجواء كتلك الأجواء التي أشَرْنا إليها، وهي منذ البداية قد أخذت ذلك المنحى الخاصّ الذي يميّزها.
أضِفْ إلى ذلك أنّ هذه العقلانيّة ليست غريبةً ولا أجنبيّة عن سائر المبادئ والمعايير التي يؤمن ويتّسم بها إنسان الحداثة، والتي سنشير إلى بعضها في ما يلي. وبعبارةٍ أخرى: إنّ مجموعة العناصر التي تدخل في تكوين شخصيّة الإنسان المتجدّد إنّما يصبح لها معنىً عند اجتماع بعضها إلى بعض، بحيث يفسِّر بعضها بعضاً. ومن مزيجها تتشكَّل العصرنة والحداثة.
فمن خصائص الإنسان المتجدّد الميلُ نحو التحرّر من المزيد من القيود والضوابط الدينيّة والأخلاقيّة.
المشكلة هنا لا تكمن في أنّ الحضارة الغربيّة ليست حضارة عقلانيّة، بل على العكس من ذلك، فإنّ العقلانيّة في هذه الحضارة قد أُعطيت منزلاً رفيعاً، حتّى غدت هي السقف الذي ينضوي تحته كلّ شيء. وإنّما المشكلة في هذه الحضارة أنّ العقل فيها ليس حرّاً، بل هو واقع في أسْر الأنانيّة([14]) وحبّ الذات، والغضب والطمع والشهوة. العقل بمجرّده أمرٌ حسن ومطلوب، إلاّ أنّ حُسْن هذا العقل مشروطٌ بأن يكون حرّاً. وأمّا لو كان عقل الإنسان أسيراً لشهواته وأطماعه وأغراضه الشخصيّة فعدمه بالنسبة إليه أفضل من وجوده([15]).
وإذا كان عقل الإنسان تابعاً لنفسه([16]) فمن الطبيعيّ أن تكون سائر العناصر والمكوّنات التي تصنع الإنسان العصريّ منسجمةً معه أيضاً. وفي هذا الإطار تشكّل الإنسانيّة (Humanism)، والأنانيّة (Egoism)، والعلمانيّة (Secularism)، واللّيبراليّة (Liberalism)، جزءاً من الركائز الأساسيّة للعالم الحديث، والتي من دونها لا يبقى للعقلانيّة معنى.
كما أنّ ابتعاد الحضارة الغربيّة عن القيم الدينيّة والأخلاقيّة أفضى إلى حرمانها من العقل الشهوديّ، بل أثار شكوكاً وتساؤلات حول مدى قيمة هذا العقل واعتباره، وهكذا… حتّى باتت هذه الحضارة منبهرةً بإنجازات العقل الاستدلاليّ، متعبةً من ثقل وعمق مباحث ما وراء الطبيعة. ولعلّها كانت بصدد بناء رؤيةٍ كونيّة جديدة أكثر تقييداً ومحدوديّة، حيث إنّ هؤلاء لم يضيِّقوا دائرة العقلانيّة بإخراج العقل الشهوديّ منها فحَسْب، بل هم أيضاً أفقدوا العقل النظريّ ـ الذي يحكي عن الواقع الخارجيّ ـ قيمته واعتباره، وما تبقّى في النهاية من العقلانيّة لا يزيد عن كونه أداةً لا يؤدّي استخدامها إلاّ إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم «العبوديّة الحديثة»([17]).
إذا كان المراد من العقل هو العقل الشهوديّ والنظريّ، بمعنى أن نعمد إلى ما عمله القدماء فنقوم بتحديثه وتغريبه، فإنّ هذا، مضافاً إلى كونه لا يُعدّ بناءً للعقلانيّة، يمثّل تخريباً للعقلانيّة ومعاداةً لها… هذه العقلانيّة التجديديّة هي عقلانيّة آليّة، وهي ـ على هذا الأساس ـ تُعدّ من نوع العقل العمليّ. وتوضيح ذلك أنّه في هذه العقلانيّة المكتسبات البشريّة التي يصل إليها الإنسان عن طريق المشاهدة والتجربة والاختبار تُجعل بمثابة المادّة للأدلّة، فيما تُعتَمَد القواعد المنطقيّة لتعيين الصورة في تلك الأدلّة. وأمّا النتيجة الحاصلة من مثل هذه الأدلّة فهي الوصول إلى سلسلةٍ من الاستنتاجات الجديدة. والواجب في هذه الاستنتاجات أن يُتحرَّى فيها الموضوعيّة الكاملة (Objectivity)، أي أن تكون قادرةً على اكتساب نوعٍ من التعميم والتوفيق بين الأذهان، وأن تكون قادرةً على أن تَهَب الإنسان القدرة على أن يتوقّع بالفعل حدوث ما ليس بموجود أمامه، أو ما ليس بمشهودٍ له. هذه القدرة على التوقُّع والتنبّؤ تجعل الإنسان قادراً على ضبط (Control) الأحداث المستقبليّة والتحكّم بها، وهو ما يجعل ـ بدوره ـ التخطيط والبرمجة لمواجهة تلك الأحداث أمراً ممكناً ومتاحاً. فهذا التخطيط والبرمجة يمثّل الغاية والهدف للعقلانيّة التجديديّة. ومن هنا فإنّ العقلانيّة التجديديّة لا تزيد على كونها آلةً وأداةً نصوِّر بها العالم، ونجعله على الشكل الذي نريده ونشتهيه. وهذا بخلاف العقل التقليديّ، فإنّه ـ قبل كلّ شيء ـ إنّما يُستخدَم طلباً للكشف عن الحقيقة. فالعقل التقليديّ هو أوّلاً: لا يركّز على الغايات والأغراض العمليّة الصرفة. وثانياً: يمكن أن يتعلّق بمعرفة كلّ ما في عالم الوجود، ولا يختصّ فقط بما هو من كائنات عالم الطبيعة. وثالثاً: ليس شأنه هو التنظيم المنطقيّ للمعلومات التي ينالها الإنسان من طريق المشاهدة أو الاختبار والتجربة، بل هو في نفسه يضع بين يدي الإنسان معلوماتٍ عن عالم الواقع، لم يكن باستطاعة الإنسان أبداً أن يصل إليها عن طريق الحواسّ الظاهريّة([18]).
غير أنّ تراجيديا العقلانيّة في الغرب لا تقف ولا تنتهي عند هذا الحدّ، بل إنّ سيف النقد الحادّ ـ القائم على المشاهدة والتجربة ـ قد طال بالنقد هذه العقلانيّة نفسها. وبذلك تحوّلت العقلانيّة من أداةٍ يُقاس بها كلُّ شيء إلى موردٍ للنقد والتشكيك، الأمر الذي جعل كلَّ نتائجه وإنجازاته السابقة في معرض الشكّ والتساؤل.
وهكذا وصلت الحداثة إلى هذا النفق المسدود، وابتُلِيت بهذه الإشكاليّة المستعصية، ومعها سلك الفكر العالميّ في اتّجاه النسبيّة المحضة، وهو الاتّجاه الذي يبشِّر به فكر ما بعد الحداثة. ومن البديهيّ أنّ العالم الذي سيكون وليد هذا الفكر هو عالمٌ أُنْزِل فيه العقل عن الموضع الذي جعله الله له، تاركاً البشريّة تتيه في غمرات الحَسْرة والأسى على اليقين الذي أضاعته([19]).
واليوم هذه العقلانيّة المريضة والموبوءة بلغت حدّاً باتَتْ معه عاجزةً عن الركون والاطمئنان إلى الحوادث السابقة، حتّى لو لم يكن قد انقضى عليها أكثر من خمس دقائق!! وتحت هذه الذريعة نفسها أُثيرت الشكوك حول الدين والتديُّن.
الاعتقاد الذي بات سائداً عند إنسان الحداثة، وبخاصّة منذ زمن ديفيد هيوم وإلى يومنا هذا، هو أنّه لا يمكن حصول الجزم واليقين بشيءٍ من المسائل والحوادث التاريخيّة. إنّ عدم الاعتماد على التاريخ يعني أنّ التاريخ علمٌ احتماليّ، لا قطعيّ. مع أنّ هذه الحالة غير القطعيّة تصدق وتنطبق على كلّ مقطعٍ تاريخيّ، حتّى بالنسبة إلى الحوادث التي وقعَتْ قريباً، كحادثةٍ تقع للشخص منذ خمس دقائق في نفس الموقع والمكان الذي هو متواجدٌ فيه الآن، حيث لم يعُدْ ممكناً حتّى بالنسبة إلى حادثةٍ كهذه الوصول إلى يقينٍ كاليقين الذي يحصل لدينا في مثل قضيّة «2 + 2 = 4». بل الأمر في الحوادث التاريخيّة لا يقتصر على عدم إمكان الوصول إلى هذه الدرجة من اليقين الرياضيّ، بل لا يمكن الوصول أيضاً حتّى إلى يقينٍ كذاك الذي يحصل في العلوم التجربيّة، كاليقين بمسألة أنّ الماء يصل إلى الغليان عندما تبلغ حرارته 100 درجة مئويّة.
خاصّيّة الشكّ واللاقطعيّة هذه تتنافى بشكلٍ واضح مع الدين؛ لكون الدين يتوقّف على التصديق ببعض الحوادث التاريخيّة. ففي كلّ دينٍ لا بُدَّ من القبول بعددٍ من الحوادث التاريخيّة التي وقعت حَتْماً. فكما يعيش الإنسان المتديّن حالة التديّن والاعتقاد بالدين فهو كذلك يعيش حالة الاعتقاد والقبول بوقوع هذه الحوادث([20]).
وبالرغم من أنّ معظم ما أفرزته العقلانيّة([21]) لا يندرج إلاّ في إطار التشكيكات المحضة، فإنّه مع ذلك لا يسعنا إلاّ أن نُدرج هذه العقلانيّة في خانة الإنجازات التي خلّفتها الحضارة الحديثة. غير أنّ نسبة العقلانيّة إلى الإنسان الحديث، ودعوى وجود ملازمة بينها وبين الحداثة ـ بحيث تُعَدّ واحدةً من نتائج الفكر الشموليّ لفلاسفة عصر التجدُّد ـ، لهو بعيدٌ تماماً عن وقائع تاريخ العلم والفلسفة في الغرب. هذا التوجّه الفلسفيّ في الغرب خاض جولاتٍ من الصعود والهبوط، لكنّه لم يستطع أبداً أن يكون شاملاً وعامّاً كسائر المكوّنات العامّة للحداثة، من الإنسانيّة والعلمانيّة وغيرهما.
والنتيجة التي نخلص إليها من خلال هذا العرض هي أنّ المثقّفين من متنوّري الفكر الدينيّ يتحدَّثون عن العقل الحديث بوصفه عقلاً آليّاً، علمانيّاً، أسيراً لرغبات النفس، غريباً عن العقل الشهوديّ، شكّاكاً في ما يرتبط بحقائق التاريخ. ومن الواضح أنّ عقلانيّةً هذا شأنها لا يوجد انسجامٌ بينها وبين معتقدات وتعاليم الأديان الإبراهيميّة ـ وبخاصّة الدين الإسلاميّ ـ. فالدعوة إلى إيقاع الصلح بينهما دعوةٌ فارغة، ولا قيمة لها، وسوف لن تكون نتيجتها سوى مَحْو الدين وإبطاله.
ب ـ العلمانيّة([22]) ــــــ
تُعدّ العلمانيّة واحدةً من أهمّ التحوّلات التي مرّ بها الإنسان المتجدّد، بل يمكن الادّعاء بأنّ العلمانيّة هي الأصل النفسانيّ الذي تقوم عليه سائر مكوّنات العصر الحديث.
العلمانيّة تعني التوجّه والانكباب على عالم المادّة، وإغماض العين عن مراتب وعوالم الوجود الأخرى، تلك المراتب والعوالم التي تقع وراء هذه الحياة المادّيّة الضيّقة.
هذا الإغماض والتجاهل يتحقّق على مستويين: أحدهما: في أفكارنا؛ والآخر: في دوافعنا. فإنسان الحداثة يحصر معارفه وأفكاره بما يُتاح له قراءته ومشاهدته في عالم المادّة هذا، وهذه هي العلمانيّة على مستوى الأفكار. وأمّا علمنة الدوافع فهي بمعنى أن لا يعيش الإنسان إلاّ لدنياه هذه، فلا يسعى ولا يبذل من جهدٍ إلاّ في سبيل تأمين معاشه فيها، ولا يكون له همٌّ سوى ذلك، ولا يفكّر في أيّ شيءٍ آخر، ولا يعمل عملاً من أجل أيّ مكانٍ أو عالم آخر، ولا يحسب حساباً في حياته ولا في عمله ولا في ذهنه لأيّ شيءٍ خارج حدودها. هذا ـ في الحقيقة ـ هو المعنى الدقيق للعلمانيّة. فإذا صارت حياة الإنسان على هذه الشاكلة، وصار الإنسان مسخّراً بشكلٍ تامّ لهذا الفكر العلمانيّ، وعرّض أفكاره ودوافعه للعلمنة، ووضعها تماماً بتصرّف هذا النهج، فإنّه سيتحوّل آنذاك إلى إنسانٍ مختلف، وسيصير ذلك الإنسان الذي نعرفه في عالم اليوم. وفي هذه الحالة سيصبح حجم العالم الإنسانيّ أصغر بكثيرٍ من حجمه الحقيقيّ. ومن الطبيعيّ أن يبدو الإنسان في هذا العالم الأصغر أكثر نجاحاً وتوفيقاً… السرّ في أنّ الإنسان في هذا العالم الجديد يبدو ـ من بعض الجهات ـ أكثر نجاحاً هو أنّ نطاق نفوذ الإنسان وتصرُّفه ـ عمليّاً ـ في هذا العالم قد بات أضيق وأقصر ممّا كان عليه([23]).
وكما قدّمنا فإنّ خصائص الحداثة وسماتها يتأثّر بعضها ببعض، ويفسّر بعضها بعضاً. هذه النظرة العلمانيّة تركت تأثيراً بالغاً على عقلانيّة العصر الحديث محوّلةً إيّاها إلى عقلٍ علمانيّ محض.
وأمّا في جهة الأفكار أيضاً فللعلمانيّة قصّة أخرى؛ ذلك أنّنا نستطيع العثور على علمنة الأفكار في قلب العقلانيّة النظريّة. وقد جرَتْ علمنة التفكير، وعلمنة الاعتقاد، وعلمنة النظرة إلى وقائع هذا العالم، وعلمنة الحكم على الحوادث الجارية، بحيث بتنا نرى هذا العالم الذي نعيش فيه وكأنّه عالمٌ مستقلّ مكتفٍ بذاته، منطوٍٍ على نفسه، منفصلٌ عن العوالم الأخرى. ونحن اليوم في تحليل الحوادث الواقعة حولنا، كما في تحليل الظواهر الطبيعيّة التي تحصل، لا نستند أبداً إلى أيّ شيءٍ يكون خارجاً عن الطبيعة. وهذا هو معنى العقل العلمانيّ، والعلم العلمانيّ، أن نفترض أنّ الطبيعة نفسها تعيش حالةً من الاكتفاء الذاتيّ على صعيد ما هو مطلوب من أجل الحفاظ عليها، أو التحكّم بها، أو إدارة تحوّلاتها، أو إنتاجها، أو صناعة أحداثها، وهي في كلّ ذلك مستغنيةٌ وغير محتاجةٍ إلى كلّ ما هو خارج عنها([24]).
هذه النظرة إلى عالم الوجود أثّرت بشدّةٍ في الأخلاق والقِيَم، وهي السبب وراء تدنّي القيم الأخلاقيّة وتراجع مستواها.
ولعلّ أهمّ ما طرأ على الأخلاق والقيم التي كانت سائدةً قبل النهضة الحداثويّة من التحوّلات التي استطاعت أن تساهم في انتشار الحداثة والبورجوازيّة، وتحرّرها من القيود التي كانت تحدّ من حركتها، هو علمنة الأخلاق. هذه العلمنة كان لها سمتان بارزتان، إحداهما مباينة للأُخرى. هاتان السمتان وُجدتا وتحقّقتا بشكلٍ تدريجيّ، وبما يتناسب مع رشد ونموّ ظاهرة الحداثة نفسها.
إحداهما: اعتناء الأخلاق بالسعادة والراحة الدنيويّة (لا السعادة والراحة الأُخرويّة فحَسْب، ولا كمال النفس فحَسْب).
والسمة الأخرى هي التعرّف ـ رسميّاً ـ على الجوانب والأبعاد المظلمة والمذمومة في وجود الإنسان، وتطبيق هذه الجوانب والأبعاد واستغلالها في بناء العالم الجديد([25]).
وكان الفهم الدينيّ واحداً من الأمور التي كانت عرضةً للتحوّل والتغيّر أيضاً؛ رغبةً في استبداله بفهمٍ آخر وقراءةٍ أخرى للدين تكون محاذيةً ومنسجمةً مع علمنة الدوافع والأفكار.
ما جرى حقيقةً في حركة التهذيب والإصلاح الدينيّ لم يكن متمثِّلاً في إقصاء الدين الحقّ، أو حتّى معاداته، بل كان عبارةً عن علمنة الدين بهذا المعنى الدقيق للكلمة، بحيث تصبح الآخرة تابعةً للدنيا. نظير ما شاهدناه في حركة الإصلاح البروتستانتيّة، حيث لم يُنكر أصحاب هذه الحركة وجود الآخرة. ما عارضته نهضة البروتستانت في ظاهر الأمر هو الكنيسة وإجراءاتها وبروتوكولاتها، وسلطة البابا وصلاحيّاته و… غير أنّ هذه الاعتراضات لم تكن سوى غطاء ظاهريّ للباطن والمراد الحقيقيّ الذي أرادت هذه النهضة الوصول إليه واقعاً، والذي أخذ ـ هذا الباطن ـ يبرز إلى العلن شيئاً فشيئاً بعد استقرار هذه النهضة واستحكامها. ما أراده أصحاب هذه النهضة واقعاً هو القول بأنّنا نؤمن بما جاء به الدين من الحديث عن وجود دنيا وآخرة، لكنّ الآخرة التي نريدها ونؤمن بها هي الآخرة التي تكون تابعةً للدنيا، بمعنى أنّ الإنسان الذي يكون سعيداً في الآخرة ليس سوى ذلك الإنسان الذي كان ناجحاً في هذه الحياة الدنيا. هذا هو المغزى الحقيقيّ للنهضة البروتستانتية. فمَنْ كان سعيداً في دنياه هذه فإنّ هذا معناه أنّ الله تعالى قد أحبّه، ولذا، فهو ـ بتبع ذلك ـ سيكون سعيداً في حياته الأخرى أيضاً([26]).
وفي هذا العالم الجديد يفضّل الناس أن لا يفكّروا في قضايا الوجود الأساسيّة، وفي أسئلته الجدّيّة؛ حيث إنّهم يعتبرون أنّ الإجابة عن هذه الأسئلة من الممكن أن تعرّض سعادتهم وراحة بالهم في هذه الدنيا إلى الخطر؛ إذ إنّ من شأنها أن تجبرهم على سلوك طريقٍ معيّن في هذه الدنيا، تكون نتيجته حرمانهم من بعض اللذّات الدنيويّة.
في هذا العالم الجديد أيضاً بات للحياة معنىً آخر، وباتت قلوب الناس مشغوفةً بغاياتٍ أخرى، هي الغايات التي تروِّج لها وسائل الإعلام وتزرعها في أذهان الناس. وتتمحور هذه الغايات حول إشباع اللذّات وطلب الرخاء والرفاهية. وهي غاياتٌ يتمّ الترويج لها بوصفها الهدف للحياة الإنسانيّة، أن يكون الإنسان مرتاحاً، أن يشتري أكثر، ويستهلك أكثر، ويرتدي الأحسن من الثياب، وأن ينهمك أكثر فأكثر في هذه الأمور ونحوها، ممّا يوجب الغفلة عن حقيقة النفس، وحقيقة الغاية.
وفي الواقع فإنّ من عجائب هذا العالم الجديد أنّ الغفلة واللامبالاة صارت من أسس الحياة وأصولها. هذه الغفلة تمثّل اليوم واحداً من أبرز المحاور الأساسيّة في حياة الإنسان. ومَنْ يراقب عامّة مظاهر التسلية التي برزت في العالم الجديد يستطيع أن يلاحظ أنّها ـ بأسرها ـ موجَّهة لإلهاء الإنسان، وصرف ذهنه واهتمامه ـ ولو للحظةٍ ـ عن الوجه الجدّي والعبوس لهذه الحياة باتّجاه شيءٍ آخر. في هذا العالم الجديد صارت الغفلة مسلكاً ومنهج حياة، وتحوّلت إلى واحدٍ من أهمّ العناصر الأساسيّة في مجال تحديد واختيار الغاية والهدف في هذه الحياة([27]).
وأمّا من وجهة نظر المتنوّرين والمثقّفين الدينيّين فإنّ العلمانيّة في عصر التجدّد قد امتدّت لتطال كافّة الجوانب والمجالات من حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة. فالدوافع والغايات لا تتشكّل ولا تتحدّد إلاّ على أساس المنافع والمصالح الدنيويّة. والعلم أيضاً لا يتخطّى حدود وأعتاب هذا العالم المادّيّ. والقِيَم والمعايير الأخلاقيّة يتمّ رسمها وتعيينها على أساس منافع الدنيا ومضارّها. وبالتالي فإنّ الدين أيضاً يكتسب تفسيراً مادّيّاً وناسوتيّاً.
وعلى ضوء ما ذكرناه فإنّ الغفلة عمّا وراء هذه الدنيا لم تتحوَّل إلى ميزةٍ يتّسم بها آحاد وأفراد الناس في عالم الحداثة فحَسْب، بل هي كذلك أصبحت الخلفيّة العلميّة المفترضة التي تنطلق منها الكثير من المدارس والآراء الفلسفيّة.
ج ـ الإنسانيّة أو الاتّجاه الإنسانيّ([28]) ــــــ
من جملة الأسس والمباني التي تشكَّلت بفعل الرغبة في الفرار والهروب من العالم القديم وضعُ النزعة الإنسانيّة أو محوريّة الإنسان في مقابل النزعة الإلهيّة ومحوريّة الله. فالإنسان الجديد هو الآمر الناهي، وهو مَنْ له صلاحيّة التحكّم بالأمور([29]).
ومن أبرز نتائج هذه النزعة أن تكون الإنسانيّة مقدّمةً على كلّ عقيدةٍ ومعتقد، وأنّه لا يحقّ لأحدٍ ـ بما في ذلك الله عزَّ وجلَّ ـ أن يتعرّض لشيءٍ من الحقوق الثابتة للإنسان([30]). وبفعل ذلك تحوّل الإنسان في الغرب إلى إنسانٍ يعتبر نفسه ـ بالكامل ـ دائناً وصاحب حقٍّ (أي ليس صاحب واجبٍ وتكليف)، فهو يريد ويطلب لنفسه كلّ شيء، ولكنّه يتحلَّل من كلّ واجبٍ، ولا يتعرّف على أيِّ مسؤوليّة([31]).
هذه النظرة إلى الإنسان هي النظرة التي يجسّد الإعلان العالميّ لحقوق الإنسان مظهراً لها. هذا الإعلان العالميّ تواجهه على الأقلّ مشكلتان رئيستان:
1ـ الغفلة عن تكاليف الإنسان ووظائفه.
2ـ تجاهل الحقوق الإلهيّة. وهذا هو السرّ في عدم موافقة المجتمعات والحكومات الدينيّة على هذا الإعلان([32]).
واليوم، في هذا العالم الجديد، لا يُصار إلى إنكار وجود الله بشكلٍ صريح، وإنّما عبوديّة العباد هي التي وقعت محلاًّ للإنكار. وبالرغم من وجود تلازمٍ بين الأمرين فإنّ الفكر الحديث يصرّ على هذا الأمر الثاني.
إذا أردنا أن نقسِّم عصور الحياة العقلانيّة والكلاميّة عند البشر فبالإمكان أن نقسّمها إلى مرحلتين:
فإلى أوائل قرون التنوير كانت أوروبا مجتمعاً دينيّاً، أي إنّها كانت قائمةً بشكلٍ مباشر على الحديث في مسألة وجود الخالق أو عدمه.
ثمّ في فترةٍ لاحقة انتهى الحديث والبحث عن أنّه هل يوجد إله لهذا الكون أو لا يوجد، أو أنّه قلَّ الاهتمام بهذا البحث، وصار بحثاً جانبيّاً، وطُرحت بدلاً منه مسألة أُخرى تمّ التعامل معها بجدّيّةٍ أكبر، وهي مسألة أنّ الإنسان هل يبقى إلى جانب الخالق أم لا؟ وقد كان يُقال: إنّ الإنسان لا يُكتَب له البقاء في جنب إلهٍ كهذا، بل هو محكومٌ بالفناء والزوال. ومن هنا إذا أُريد للإنسان أن يستمرّ في إنسانيّته فإنّ عليه أن يضع جانباً كلّ حديثٍ عن الله ووجوده.
ولذا؛ ومن أجل حلِّ هذه المشكلة، أقدم فلاسفة الفكر الإلحاديّ على نفي وجود الله تعالى؛ وذلك إفساحاً في المجال أمام الناس للمزيد من التفلُّت من القيود التي قد تعيق حركتهم في هذه الحياة. مع أنّ هذا ـ في الواقع ـ ليس سوى ضربٍ من ضروب الشرك، ونوع من أنواعه؛ إذ إنّ القول بضرورة إفساح المزيد من المجال لتكريس إنسانيّة الإنسان ما هو في حقيقة الأمر إلاّ تعبير آخر عن الدعوة إلى إفساح المجال لتكريس ألوهيّة الإنسان، بدلاً من تكريس حالة العبوديّة فيه. والحال أنّه في جنب الله تعالى الباب ليس مفتوحاً إلاّ أمام العبوديّة، وهو موصَدٌ تماماً أمام الألوهيّة. ومن هنا فلو أنّ شخصاً كان مهوُوساً بوهم التأليه لنفسه فإنّ عليه ـ لا محالة ـ أن يقوم بطرد إله الأديان جميعاً؛ ليتسنّى له أن يحلّ بدلاً منه وفي مكانه. هذا هو جوهر القضيّة ولبّ محتواها([33]).
وما يأتي عقيب ذلك هو حبّ الإنسان لنفسه، وتعلّق قلبه بالأمور التي يقوم هو بصنعها وإنتاجها… سرُّ هذا الأمر أنّ الإنسان يعشق ما هو من صنعه، كالأصنام التي صنعها الناس أنفسهم، ولأجل ذلك أحبّوها. والله تعالى ليس من صنع الناس، بل هو ذلك الموجود الذي يستحيل على أحدٍ من الناس أن تكون له القدرة على التصرّف فيه بشيءٍ، حتّى في عالم التصوُّر والتخيّل. ولهذا السبب فهم يفرّون منه ويبتعدون عنه. وأمّا ما هو من صنع أيديهم فذلك يرفعونه إلى مصافّ الألوهيّة؛ لأنّه صنيعة أيديهم… وهذه ـ تحديداً ـ هي الفكرة التي قام عليها ذلك الاتّجاه الذي يُطلق عليه في العصر الحديث اسم الإنسانيّة الإلحاديّة، أو النزعة الإنسانيّة، بحيث يكون الإنسان غافلاً عن الله تعالى، ومعرضاً بوجهه عنه.
هؤلاء الناس يضعون القوانين لأنفسهم، ولكنّهم يُظهرون لا مبالاتهم تجاه كلّ ما يندرج تحت عنوان الدين، من الشريعة، والمقدّسات، والوحي المنزل على الأنبياء، ودور العبادة، كالكنيسة وغيرها، فهم يُعرِضون عن ذلك كلّه، ويعملون ـ بدلاً منها ـ بالقوانين التي هي من وضع أنفسهم؛ لأنّهم هم مَنْ قاموا بوضعها واختراعها. فلو أنّ شخصاً جاءهم مخبراً أنّه معيَّن ومنصوب من قِبَل الله عزَّ وجلَّ، وأنّه قد جاءهم بقوانين وتشريعاتٍ من عند الله، وليس منتظراً منهم أن ينتخبوه، لما كانوا على استعدادٍ لاتّباع هذه القوانين أو العمل بها؛ لأنّها ـ ببساطةٍ ـ ليست من صنع أنفسهم… أحد الأسباب النفسيّة لهذه الحالة هو أنّ الإنسان عادةً لا يستملح ما يصنعه الآخرون، ولا يرى ما فيه من حُسنٍ وجماليّة، لكنَّه يهيم إعجاباً وعشقاً بما تصنعه يداه، وقد يذهب بعيداً في وصفه وتعظيمه أكثر بكثيرٍ ممّا يستحقّه، وممّا هو عليه واقعاً؛ وذلك فقط لأجل أنّه من صنع يديه. والإفراط في هذا الأمر يكشف ـ لا محالة ـ عن انحرافٍ عظيم تستبطنه نفس الإنسان؛ ذلك أنّه إنّما ينشأ عن الأنانيّة وحبّ الذات([34]).
من وجهة نظر هذا المثقّف والمتنوّر الدينيّ فإنّ الأصل والأساس الذي يقوم عليه فكر الإنسان المتجدِّد هو الفرار من العبوديّة لله، والوقوع في فخّ العبوديّة للنفس. مثل هذا الإنسان وإنْ كان في ظاهر الأمر يعدّ نفسه مؤمناً أو متديِّناً لكنّ إيمانه وتديّنه هذا ممزوجٌ ـ في الحقيقة والباطن ـ بالشرك والإلحاد.
د ـ الليبراليّة أو طلب الحرّيّة([35]) ــــــ
تُعدّ الليبراليّة أحد المظاهر العامّة التي تتميّز بها الثقافة الغربيّة. ما تدعو إليه هذه النظريّة هو تحرُّر الإنسان من كافّة الضوابط والقيود، النظريّة منها والعمليّة. غير أنّ الإنسان بحسب التعريف الذي تقدّمه هذه المدرسة ليس سوى ذلك الموجود المادّي الذي تحرّكه الغرائز والعواطف والشهوات([36]).
تنادي هذه النظريّة بأصالة الفرد، وهي تصنّف اللذّة ـ التي هي من الأمور الفرديّة ـ على أنّها هي الهدف والغاية للإنسان. فالليبراليّة تميل في السعادة نحو النزعة الفرديّة([37])، وهي في ذلك تستمدّ من المذهب النفعيّ([38])، وترى أنّ العمل حسن ومطلوب بقدر ما يجلبه من السعادة والمنفعة. وأمّا التعريف النهائيّ للمنفعة ـ رغم تفسيراتها المختلفة في هذه المدرسة ـ فهو يدور مدار ما تحقِّقه من اللذّة للأفراد أو الجماعة، أو ما تدفعه عنهم من الألم والمشقّة.
وبحسب المدرسة الليبراليّة فإنّ سعي الإنسان وراء سعادته يساوي سعيه لتحصيل لذّته، ولكنْ إلى الحدّ الذي لا ينافي لذّات الآخرين. ومن هنا تحديداً تتشكَّل النزعة الفرديّة ـ والتي هي ملازمةٌ للسعي وراء اللذّة ـ([39]).
يُعدّ القانون هو الحدّ والقيد الذي يقيّد الإنسان. والليبراليّة إنّما جاءت لكسر القيود والتفلُّت من عقالها. والإنسان الليبراليّ إنسانٌ يفرّ من القوانين والواجبات. غير أنّ الحياة في داخل جماعةٍ ومجتمع لمّا لم يكن ممكناً لها أن تنتظم إلاّ وفق نظامٍ وقانون فإنّ اللّيبراليّة لا تقبل إلاّ الحدّ الأدنى من الضوابط والمقرّرات التي تحدّ من حركة الإنسان. والحدّ الأدنى منها هو ذاك القانون الذي يضعه البشر لإدارة حياتهم. فالنزعة الإنسانيّة مستبطنة في قلب الليبراليّة وصميمها. وعلى هذا الأساس فالليبراليّة أيضاً تتعامل مع وجود الله تعالى بوصفه ذلك الكائن الغريب عن حياة البشر، وبالتالي ليس له الحقّ في تشريع القوانين لهم([40]).
والليبراليّة لها امتدادٌ وشمول إلى خارج نطاق الحرّيّات السياسيّة. فالشعار الرئيس الذي يطرحه هذا الاتّجاه هو تحطيم جميع أشكال التقديس والمقدّسات، وإلغاء وتعطيل كافّة الحقوق القديمة التي أقرَّتها الأديان للإنسان([41]). وفي هذا الاتّجاه للإنسان الحقّ في أن يعاين ويختبر كلّ ما يرغب فيه. هذا مع العلم بأنّه في بعض الأحيان قد لا يبقى الإنسان بعد هذه التجارب والاختبارات على قيد الحياة؛ لينتفع منها أو يستفيد من نتائجها، وفي أحيانٍ أخرى قد يكون للسير وراء تلك التجارب نتائج وعواقب وخيمة، يبتلى الإنسان بها، ويعاني منها، ولا يجد لنفسه القدرة على العودة إلى الوراء من أجل أن يتخلَّص منها([42]).
وبسبب هذا الضعف الكبير الذي تعاني منه الليبراليّة في مجال معرفة الإنسان، إلى جانب غفلتها أو إغفالها للأبعاد والجوانب الحقيقيّة في وجوده وكيانه، فإنّ الاتّجاه الليبراليّ جعل حقيقة الإنسان مغلولةً ومكبّلةً بالرغبات المادّيّة والأهواء والشهوات أكثر من أيِّ اتّجاهٍ آخر، بالرغم من كلّ ما تنادي به الليبراليّة من الحرص على أن ينال الإنسان حرّيّته كاملةً غير منقوصة. وبعبارةٍ أخرى: إنّ أتباع هذه الثقافة الغربيّة يعيشون غفلةً تامّةً عن الخصم والعدوّ الداخليّ للإنسان، ولذلك لا نجد في قاموسهم أيّ حديثٍ عن ضرورة مجاهدة النفس وتحريرها من آفات الرذائل الأخلاقيّة وشرور الشهوة والغضب([43]).
هذا العالم الحديث رفع شعار الحرّيّة عالياً، ولكنّه اكتفى بالحرّيّات الخارجيّة للإنسان، قاذفاً حرّيّاته الداخليّة بعيداً في زوايا الإهمال والنسيان([44]).
2ـ فرار العالم الحديث من الدين في نظر متنوِّري الفكر الدينيّ ــــــ
هذا التعارض الواضح بين مكوّنات العالم الجديد وبين الدين والتديّن يدفع بالمثقّف والمتنوّر الدينيّ إلى الاستنتاج التالي، وهو أنّ هذا العالم الجديد يُعَدّ منفصلاً وبعيداً عن الدين، لا بل هارباً وفارّاً منه.
إذا كان المقصود من التديّن هو الاعتقاد والالتزام بالدين بشكله المؤسّس له تاريخيّاً فلا شكّ في أنّه سوف لن يستقيم تعبير (التديّن الحديث)؛ لأنّ هذا التعبير ـ حينئذٍ ـ لا يخلو من التهافت والتناقض، كما أنّ تعبير (التنوير الدينيّ) سيكون بدوره تعبيراً متهافتاً ومتناقضاً. وبناءً على ذلك نحن يمكن أن يكون لدينا فكر دينيّ جديد، ولكن لا يمكن أن يكون لدينا تنوير دينيّ أو حداثة دينيّة؛ ذلك أنّ التنوير الفكريّ يدفع الإنسان المتنوّر والحداثويّ نحو أن يتخلّص من جميع أشكال التعبّد. وأساساً فإنّ معنى التنوير الفكريّ (enlightenment) هو أن لا يتعبّد الإنسان بشيءٍ سوى العقل، علماً بأنّ تعبّد الإنسان بالعقل ليس في الواقع شيئاً آخر سوى تعبُّده بنفسه([45]).
تحافظ الليبراليّة على الحالة التي كنّا عليها في المجتمع قبل اختيارنا لعقيدةٍ ما ـ بجميع ما لها من لوازم سياسيّة أو اقتصاديّة أو حكوميّة أو تربويّة ـ، أي إنّها تفترض أنّه حتّى الآن لم يتميَّز الحقّ والباطل في مجال العقائد، أو أنّ تمييز أحدهما من الآخر يتطلّب بحثاً ودراسة وتبادلاً للآراء. ومن هنا فهي في مجال الحكومة والاقتصاد والتربية والتعليم لا تميل ولا تنحاز إلى دينٍ بعينه، وإنّما تستند إلى العقل والتشاور العقلانيّ (rationalism)، وتستعير السياسة والاقتصاد والتربية والأخلاق من العلم الحديث، ومن الإنسان، لا من العقيدة والوحي. ومن هذا المنطلق فإنّ كلّ مجتمع متديّن وملتزم بشريعةٍ معيّنة هو ـ بطبيعة الحال ـ مجتمعٌ غير منسجم مع شيءٍ من أصول الليبراليّة أو فروعها…، بمعنى أنّ الليبراليّة لا تجتمع مع التديّن، وأنّ المتديّن لا يمكن أن يكون ليبراليّاً([46]).
صحيحٌ أنّ العلمانيّة ليست ضدّ الدين والمذهب، ولكنْ علينا أن نفهم هذا الكلام جيّداً. هي ليست ضدّ الدين والمذهب، ولكنّها أسوأ ممّا هو ضدّ الدين والمذهب؛ لأنّها تنافس الدين والمذهب، وتسعى إلى أن تخلفه وتحلّ مكانه، وتكون هي البديل عنه. الضدّ هنا ليس بمعنى العدوّ؛ إذ قد ذكرنا أنّ العلمانيّة ليست عدوّاً للمذهب والدين، وهي لا تسعى للقضاء عليه أو الإطاحة به. والتضادّ ليس دائماً بمعنى العداوة، ففي حالةٍ ما لو أتينا بشيءٍ، وافترضنا أنّه يمكن أن نستبدل به شيئاً آخر، فأخذ ذلك الشيء مكانه، وأخرجه، وحلَّ بديلاً عنه، فهل هناك تضادٌّ أكثر من هذا؟!([47]).
هذه الحضارة الغربيّة؛ وبسبب إفراطها في الاعتماد على الطبيعة واستهلاكها، باتت اليوم تعاني ـ من جهةٍ ـ من نَهَمٍ شديد ومدمِّر، ووقعت ـ من جهةٍ أخرى ـ في فخّ الكره للدين ومجافاته، والبعد عن المسائل المعنويّة. واليوم فإنّ هذا الإفراط والكره بدأت تتردَّد مفاعيله السلبيّة والقاسية. نعم، لقد استطاع هؤلاء أن يضعوا حدّاً للمواقف والكلمات غير المسؤولة التي كانت تصدر عن بعض رجال الدين، غير أنّهم غفلوا عن مسألة أنّ حقيقة الدين ليست منحصرةً بأسرها في ما يصدر عن رجال الدين من فعلٍ أو قول، وإنّما هو يمثِّل ضرورةً وحاجةً ملحّةً يعيش الناس اليوم الشعور بها، والإحساس بأنّ ثمّة فراغاً في حياتهم لا يستطيع شيء سوى الدين أن يملأه ويشغله. وليس جزافاً أن يُطلق على عصرنا هذا اسم (عصر الحَسْرة)، حيث يعيش الناس في هذا العصر حَسْرة غياب الإيمان وافتقاده([48]).
ويجدر هنا الالتفات إلى مسألةٍ مهمّة، وهي أنّ الغرب وإنْ كان يُعدّ هو المنشأ الرئيس لفكر الحداثة والعلمنة، إلاّ أنّه مع ذلك لا يصحّ لنا أن نفترض أنّ هذا الفكر قد تمكَّن من أن يسخّر لصالحه كافّة مجالات الحياة الفرديّة والاجتماعيّة عند الإنسان الغربيّ، من دون أن تواجهه عقبات وأزمات وتحدّيات. فمنذ أن برزت مساعي التجدّد في الغرب (مع بداية عصر النهضة) وحالة العداء للدين والتقاليد مستمرّة ومتواصلة. وهذا النزاع والجدال الطويل الأمد لا زال مستمرّاً ومتواصلاً حتّى وقتنا هذا، بالرغم من أنّ التقاليد والديانة المسيحيّة ظلّت آخذةً بالتراجع على طول الخطّ الزمنيّ لهذا النزاع، متخلّيةً بذلك لخصمها اللدود عن مناطق واسعةٍ من الإمبراطوريّة العظيمة والقويّة التي كانت قد تشكَّلت لها خلال حقبة القرون الوسطى. ومع ذلك فإنّ التيّار التجديديّ في الغرب لم ينجح ـ إلى الآن ـ في إخراج الدين والتقاليد بالكامل من مشهد حياة الإنسان الغربيّ، ولا حتّى في مسخها وتحريفها، فضلاً عن القضاء عليها بشكلٍ كامل ونهائيّ. ومن هنا تطفو على السطح المؤشّرات والعلامات التي تؤكّد وجود التديّن في العالم الغربيّ. وبحَسَب بعض الإحصائيّات فإنّ موجات التديّن هناك آخذةٌ بالتصاعد والازدياد، وإنْ كانت هذه الحالة لها عواملها وأسبابها المختلفة باختلاف البلدان الغربيّة وأوضاعها.
لو أخذنا التجدّد بالمعنى الدقيق للكلمة فهو ـ حَتْماً ـ لا يستبطن في داخله نزعة التعبّد، ولا الميل نحو الأسطورة والخرافات، وإنّما هو ـ في جوهره وحقيقة ماهيّته ـ منافٍ ومعارض لهما. ولكنْ، وكما ذكرنا في الجواب عن السؤال الثالث، قلَّما نجد إنساناً يجسّد مفهوم التجدّد بمعناه الدقيق والكامل. وعلى هذا الأساس من الوارد جدّاً أن نجد لدى الأشخاص الذين تغلب على شخصيّتهم ملامح النزعة التجدُّديّة ترسُّباتٍ وبقايا من أنماط الفكر التقليديّ، لا تزال باقيةً ومهيمنةً على أذهانهم وضمائرهم. ولهذا السبب يمكن أن نشهد لدى أمثال هؤلاء وجود كثير من الأساطير والخرافات والأمور التعبّديّة، التي وبالرغم من عدم انسجامها مع روح الحداثة والتجدّد، إلاّ أنّها ـ على أيّ حال ـ يمكن أن تظهر وتبرز حتّى في مجتمعٍ يعدّ نفسه مجتمعاً عصريّاً ومتجدّداً.
وبرأينا فإنّ المجتمع الحداثويّ الغربيّ لم يستطع ـ حتّى وقتنا هذا على الأقلّ ـ أن يصبح مجتمعاً نقيّاً خالصاً من شَوْب الخرافات والأساطير والتعبُّديّات، وهذا إنْ دلّ على شيءٍ فإنّما يدلّ على أنّ هذا المجتمع لم يبلغ بعد ذلك المستوى المطلوب من العصرنة والحداثة([49]).
وعلى ضوء ذلك نقول: إنّ استمرار الحياة الدينيّة في الغرب ليس إثباتاً ولا دليلاً على إمكان الجمع المنطقيّ بين الدين وبين مقولة الحداثة والعصرنة، وإنّما هو شاهد على استمرار الجَدَل القديم الدائر بين هاتين المقولتين على جميع الصعد الفرديّة والجماعيّة لدى الإنسان الغربيّ.
هذا النزاع الجوهريّ ـ الذي يعترف به هذا الطيف من المثقّفين ومتنوّري الفكر الدينيّ ـ يطرح أمامنا تساؤلاً هامّاً وجدّيّاً، وهو أنّه هل يمكن إيقاع الصلح والمواءمة بين طرفي النزاع هذين ـ مع الحفاظ على الهويّة الأصليّة لكلٍّ منهما ـ أم أنّ ذلك غير ممكن، بل إمّا أن يتمّ إقصاء أحد الطرفين وإبعاده تماماً عن دائرة الصراع والتنازع؛ وإمّا أن يجري تغييرٍ جوهريّ في ماهيّته وحقيقته لصالح الطرف الآخر؟
ومن هنا فإنّ هذا الطيف من المثقّفين والمتنوّرين الدينيّين وقعوا أحياناً في تناقضاتٍ علميّة محيّرة للغاية وهم يعملون في سبيل أداء المسؤوليّات التي أخذوها على عاتقهم، حيث إنّ هؤلاء رفعوا لواء الجمع بين الثابت والمتغيّر، وإيجاد الصلح بين العالم القديم والعالم الحديث، وعصرنة الفهم الدينيّ، وهم بذلك وردوا مجال الأفكار المتصارعة، وكانوا في كثيرٍ من الأحيان يُصابون بالعجز والحيرة، بحيث لا يبقى أمامهم من خيارٍ سوى الاعتراف بالعجز والجهل.
وهنا لا يسعني إلاّ أن أقول بأنّ عقلي عاجز عن الوصول إلى حكمٍ نهائيّ في مسألة أنّ العالم الجديد هل هو أفضل من العالم القديم، أم أنّ العالم القديم هو أفضل من العالم الجديد؟ وإنّني في هذا الشأن أرى أنّ الإنصاف القول بانسداد باب العلم والمعرفة، وأنّه لا يوجد على امتداد التاريخ كلّه نقطة واحدة يُتاح للإنسان من خلالها أن يستشرف أيّ العالمين أفضل من الآخر؟ ولا ينبغي أن يكون لدينا هاجس العودة إلى العالم القديم؛ لأنّ ذلك ـ بحسب الظاهر ـ أمرٌ لا يمكن حصوله، كما أنّه لا يوجد دليلٌ على حصول وتحقّق مثل هذه العودة. وليس بمقدور أحدٍ على الإطلاق أن يُثبت أنّ العالم القديم وحياة السَّلَف من الأقدمين كانت ـ بالضرورة ـ أفضل من العالم الجديد، ومن حياة هذه الأجيال الراهنة. على الأقلّ لم أتمكّن أنا من العثور على دليلٍ ومستندٍ كهذا، بالرغم من الأبحاث الكثيرة والدراسات المعمَّقة التي كنتُ قد أجريتها في هذا المجال.
وأمّا أنتم فحالكم هنا هو حال مَنْ يقول([50]): علينا أوّلاً أن نوقظ التنّين؛ لنتمكَّن من قتله بعد ذلك([51]). ولكن هنا توجد أسئلة عديدة:
فأوّلاً: من أين لكم أن تتأكّدوا أنّكم فيما بعد ستكون لكم القدرة على قتل هذا التنّين؟ من الممكن ـ لا سمح الله ـ أن يقتلكم ذلك التنّين!.. ومن باب المصادفة فإنّ هذا هو ما تحكيه القصّة التي يرويها الشاعر مولانا. فعندما عاد ذلك التنّين إلى الحياة كان أوّل مَنْ قام بقتله هو الساحر.
وثانياً: حتّى لو كُتب لكم النجاح، ووُفّقتم في قطع رأس ذلك التنّين، ينبغي الالتفات إلى أنّ البحث لا يجب أن يتركَّز حول مسألة أنّ قوّتنا هل تؤهّلنا لقتل التنّين أم لا تؤهّلنا لذلك؟ وإنّما البحث حول أنّ حياتنا من الآن فصاعداً ستتغيَّر وتتبدّل، وستتحوّل إلى معركةٍ نخوضها مع ذلك التنّين. وبمجرّد أن تسمحوا للتنّين بالدخول إلى حياتكم فإنّ حياتكم السابقة التي كانت هانئة وهادئة ستكون قد انتهت وتوقَّفت([52]).
إذا أردنا أن نجيب عن سؤال: هل من الجائز أن نأخذ موقفاً سلبيّاً ومعادياً من العادات والتقاليد؟ وإذا كان ذلك جائزاً وصحيحاً فهل هو مطلوب أيضاً أم لا؟ إذا أردنا أن نجيب عن ذلك فلا بُدَّ لنا من التعرّف أكثر على طبيعة الإنسان وحقيقته، لنرى أنّ الإنسان في أصل خلقته وجبلّته هل هو قادر على أن يقتلع نفسه دفعةً واحدةً من عاداته وتقاليده أم لا؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب فهل الإنسان مفطورٌ ليقطع علاقاته بالكامل مع السنن والتقاليد؟ وأساساً هل ذات الإنسان مصنوعة ومكتملة أم أنّها في طور الصنع والاكتمال؟ أي هل للإنسان ماهيّة نوعيّة واحدة ثابتة وموجودة وستبقى أم لا؟
أنا هنا لا أستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة بشكلٍ استدلاليٍّ مقنع، وبالتالي لا أستطيع الحديث عن مستقبل الإنسان، أو عن إمكان أو مطلوبيّة المعاداة والرفض الكامل للسنن والتقاليد من قِبَل الفرد خاصّةً، أو المجتمع الإنسانيّ عموماً. غير أنّ الوضع الراهن الذي نعاينه لا يسمح لنا إلاّ بأن نقول بأنّ معاداة السنن والتقاليد بشكلٍ كامل حتّى لو كانت مطلوبةً فإنّ تحقُّقها فعلاً على أرض الواقع هو أمرٌ غير ممكن البتّة([53]).
الأمر المثير للدهشة والاستغراب أنّ المثقّف والمتنوّر الدينيّ يرى ـ في صميم الرسالة التي يحملها على عاتقه ـ أنّ عليه للوصول إلى هدفه المنشود له أن يدعو المجتمع إلى اتّباع الفكر الذي يتبنّاه هو (حلّ النزاع والاختلاف القائم بين العالمين القديم والجديد)، ولكنْ سرعان ما نجده وقد بدَتْ عليه أمارات الجهل والعجز، تاركاً أتباعه في بداية الطريق أسرى للحَسْرة وخيبة الأمل([54]).
إنّ مقارنة هذه العبارات التي نقلناها، مع ما كنّا قد نقلناه عنهم في بداية هذا المقال([55]) ـ والادّعاءات التي يصرّون على تبنّيها ـ تعطينا مستنداً واضحاً يظهر من خلاله إقرار هؤلاء بعجزهم عن الوفاء والاضطلاع بالمسؤوليّات التي أخذوها على عاتقهم.
ونتيجة الكلام أنّ المتنوّر والمثقّف الدينيّ يعمل ـ من جهةٍ ـ لإيجاد الصلح بين السنن والتجدّد، ولكنّه ـ من جهةٍ أخرى ـ يتحدّث عن التباين والتناقض القائم بين الدين والتجدّد على مستوى الأسس والمرتكزات. هذا التناقض الواضح يضطرّه إلى إبراز عجزه وجهله في مقام الترجيح والمفاضلة بين العالم القديم والعالم الجديد، أو بين الحداثة والتقليد.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) باحثٌ في الفقه الإسلامي والدراسات القانونيّة المعاصرة، وله كتابات علميّة متعدّدة.
([1]) Intellectual: استخدمت هذه المفردة الفرنسيّة للمرّة الأولى على الأراضي الروسيّة في العام ١٨٦٠، ثمّ انتشر إطلاقها واستعمالها بعد ذلك في مختلف أرجاء أوروبا. واليوم تُطلق هذه الكلمة على العلماء الذين يستندون إلى العقلانيّة والحكمة (Intellect) لتكوين رؤيةٍ نقديّة لأوضاع وعادات المجتمع. (راجع: آشوري، داريوش، الوثيقة السياسيّة «دانشنامه سياسي»: ١٧٨، انتشارات مرواريد، الطبعة الثامنة، طهران، ١٣٨١هـ.ش؛ پاشايي، ثقافة الفكر الحديث «فرهنگ أنديشه نو»: ٤٤٠، نشر مازيار، الطبعة الأولى، طهران ١٣٦٩هـ.ش).
وقد تُطلق هذه المفردة أحياناً ويُراد منها ما يُراد من كلمة (Enlightened). وفي هذه الحالة تأخذ الكلمة ـ ومن جهاتٍ عدّة ـ معنىً أضيق، يرتبط بعصر النهضة (Enlightenment) في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر. ويقع في رأس قائمة المتنوّرين آنذاك مفكّرون من أمثال: والتر، وروسو، ومونتسكيو.
إنّ أبرز ما كان يتميّز به هؤلاء هو الاعتماد بشكلٍ كامل على العلوم التجربيّة، إعطاء الأصالة للعقل البشريّ، الترويج للعلمنة والليبراليّة، معارضة سلطة الكنيسة والقِيَم التي كانت سائدة خلال القرون الوسطى، الدعوة إلى التسامح والتساهل والمساواة في الحقوق.
هذه المرتكزات الفكريّة التي تبنّاها هذا الجمع من المفكّرين لعبت دوراً كبيراً في إيصال الحداثة والعصرنة إلى كمالها، وهي التي حدَّدت للحضارة الغربيّة ـ خلال القرون اللاحقة ـ هويّتها والوجهة التي تسير إليها. (راجع: علي رضا شايان مهر، دائرة المعارف التطبيقيّة للعلوم الاجتماعيّة [فارسي] ١: ٣٠١، انتشارات كيهان، الطبعة الأولى، طهران، ١٣٧٧هـ.ش؛ سروش، المعرفة والتنوير «رازداني وروشنفكري»: ٢٧٣؛ ملكيان، التراث والعلمانيّة «سنّت وسكولاريزم»: ٢٩٩).
وبرأي الكاتب فإنّ تعريف التنوير الفكريّ في الشرق، أو في إيران على الأقلّ ـ كما سوف يأتي لاحقاً ـ، ليس مرادفاً لشيءٍ من هذين الاصطلاحين، بل إنّ لمصطلح التنوير الفكريّ في الثقافة العامّة لهذا البلد معنىً ومفهوماً مغايراً لهما.
([3]) للمزيد من الاطّلاع على أفكار السيّد حسين نصر حول الحضارة الغربيّة يُرجى مراجعة مؤلّفاته، ومنها: الإسلام ومعضلات الإنسان المعاصر، ترجمة إنشاء الله رحمتي، نشر سهروردي، الطبعة الأولى، طهران، ١٣٨٣هـ.ش.
([4]) للاطّلاع على سيرة وأفكار السيّد أحمد فرديد راجع: محمد منصور هاشمي، هويّة الفكر والميراث الفكريّ عند السيّد أحمد فرديد «هويت أنديشان وميراث فكري أحمد فرديد»، انتشارات كوير، الطبعة الأولى، طهران، ١٣٨٣.
([5]) وهم السادة: عبد الكريم سروش، محمد مجتهد شبستري، ومصطفى ملكيان.
([6]) سروش، «آيين شهرياري»: ٤٠٨؛ وراجع أيضاً سائر مؤلَّفات هذا الكاتب: القبض والبسط في نظريّة الشريعة «قبض وبسط تئوريك شريعت»، المقدّمة: ٤٧ ـ ٦٢؛ «بسط تجربه نبوي»: ٣٧٢.
([7]) تقدّم أنّ المفكّرين الغربيّين اختلفوا بشدّة في تفسير الحداثة والعصرنة وتحليلها. وكان من الطبيعيّ بتبع ذلك أن يتأثّر متنوّرو الفكر في الداخل بهذه الحالة من اختلاف الآراء ووجهات النظر. ويُعدّ السيّد جواد الطباطبائي واحداً من متنوّري الفكر المعاصرين الذين وجَّهوا سهام نقدهم اللاذع إلى تفسير بعض المتنوّرين والمثقّفين الدينيّين وقراءتهم للعالم الحديث، معتبراً أنّ هذا التفسير تفسير مغلوط وغير صحيح بالكامل. وفي واحدٍ من كتبه، وبعد انتقاده بشدّةٍ للدكتور علي شريعتي؛ على خلفيّة تفسيره الخياليّ وغير الواقعيّ للبروتستانتيّة، ومعاتبته الأستاذ عبد الكريم سروش؛ لتقليده الدكتور شريعتي في هذا الخصوص، كتب طباطبائي ما نصّه: «ما ورد في مقالات سروش في كتابه المذكور (التراث والعلمانيّة) حول العلمنة لا يرجع إلى معنىً محصّل، وليس له مفهومٌ صحيح. وإنّ أيّ قارئٍ له أدنى دراسةٍ وتتبّع في هذه الأبحاث لا يمكن له أن يأخذ هذا الذي نسجه سروش على محمل الجدّ». (السيّد جواد الطباطبائي، الجدال القديم والجديد: 35، نشر نگاه معاصر، الطبعة الأولى، طهران، 1382هـ.ش).
([9]) ملكيان، سنّت وسكولاريزم: 273؛ ومجتهد شبستري، نقد للقراءة الرسميّة للدين [نقدي بر قراءت رسمي أز دين]: 184.
([10]) سروش، فربه تر أز إيدئولوژي: 356.
([11]) ملكيان، سنّت وسكولاريسم: 293.
([12]) ملكيان، مجلّة نقد ونظر، العدد 19: 24.
([13]) راجع: سروش، قصه أرباب معرفت: 364؛ وسروش، رازداني وروشنفكري: 277.
([15]) سروش، سنّت وسكولاريسم: 83.
([16]) سروش، أخلاق الآلهة «أخلاق خدايان»: 50.
([17]) سروش، سنّت وسكولاريسم: 52.
([18]) ملكيان، مجلّة نقد ونظر، العدد 19: 18 ـ 20.
([19]) سروش، فربه تر أز إيدئولوژي (مقالة إشكاليّة الأيديولوجيا المعاصرة): 363.
([20]) ملكيان، سنّت وسكولاريسم: 276.
([23]) سروش، سنّت وسكولاريسم: 79.
([24]) سروش، سنّت وسكولاريسم: 89.
([25]) سروش، أخلاق خدايان: 44.
([26]) سروش، مدارا ومديريت: 189.
([27]) سروش، سنّت وسكولاريسم: 19.
([29]) ملكيان، سنّت وسكولاريسم: 275.
([30]) سروش، فربه تر أز إيدئولوژي: 277.
([31]) سروش، سنّت وسكولاريسم: 54؛ مدارا ومديريت: 431.
([32]) سروش، فربه تر أز إيدئولوژي: 278.
([33]) سروش، حكمت ومعيشت 1: 182؛ سروش، قصه أرباب معرفت: 364.
([34]) سروش، حكمت ومعيشت: 103.
([36]) سروش، رازداني وروشنفكري: 141.
([39]) سروش، رازداني وروشنفكري: 140.
([40]) سروش، رازداني وروشنفكري: 136؛ سروش، فربه تر أز إيدئولوژي: 273.
([41]) سروش، رازداني وروشنفكري: 126.
([42]) سروش، أوصاف پارسايان: 72.
([43]) سروش، فربه تر أز إيدئولوژي: 266.
([44]) المصدر نفسه: 334؛ سروش، مدارا ومديريت: 163.
([45]) ملكيان، سنّت وسكولاريسم: 299. وله أيضاً: مجلّه نقد ونظر، العدد 19: 12.
([46]) سروش، رازداني وروشنفكري: 146.
([47]) سروش، سنّت وسكولاريسم: 92.
([48]) سروش، فربه تر أز إيدئولوژي: 333.
([49]) ملكيان، مجلّة نقد ونظر، العدد 19: 18.
([50]) هذا الكلام وجَّهه الدكتور سروش لشخصٍ قطع عليه خطبته بسؤالٍ سأله إيّاه.
([51]) إشارة إلى التمثيل الذي ذكره مولوي في كتابه (مثنوي معنوي)، وخلاصته: أنّ ساحراً اصطاد على قمّة جبلٍ تنّيناً كان متجمِّداً من البرد والثلج، وأتى به إلى المدينة. هذا التنّين، الذي كان يُظَنّ أنّه ميت، عاد إلى الحياة في المدينة تحت أشعّة الشمس الدافئة، وقبل أيّ شخصٍ آخر أقدم على قتل الساحر الذي اصطاده. فسروش يخاطب السائل الذي قاطع كلامه، فيشبّه له حال الدعوة إلى إحياء وتهييج وإشباع الرغبات النفسانيّة لدى الإنسانيّة المعاصر في عصر الحداثة بحال ذلك التنّين، ويقول له: إنّك ادَّعيتَ أنّ القضاء على ذلك التنّين لا يمكن أن يتمّ إلاّ بإحيائه مجدَّداً، ولأجل ذلك زعمتَ أنّ ورود عصر الحداثة هو أمرٌ مبارك ومقبول.
([52]) سروش، سنّت وسكولاريسم: 35.
([53]) ملكيان، مجلّة نقد ونظر، العدد 19: 11.
([54]) قضى داريوش شايگان، أحد المتنوّرين والمثقّفين الإيرانيّين المعروفين، سنواتٍ طوالاً في البحث عن حلٍّ للتعارض القائم بين التراث والحداثة. وهو في بداية الأمر، وبعد أن اتَّبع في كتابه (آسيا في مقابل الغرب) منهج المناهضة للغرب والتمجيد للشرق، أوصل الحداثة إلى حدِّ العدميّة، ولكنْ لاحقاً حصل له تبدّل فكريّ. وبعد انتصار الثورة الإسلاميّة في إيران وقف في وجه الحركة الدينيّة التي تبنّتها جماهير الشعب الإيرانيّ. وتحت ذريعة تبديل الدين بالأيديولوجيا في الرؤية الثوريّة قام بتوجيه انتقاداته إلى بعض المثقّفين والمتنوّرين، من أمثال: الدكتور شريعتي. ويُعدّ كتابه (ما هي الثورة المذهبيّة؟) من المؤلّفات المهمّة له في هذا المجال. وبعدما طُبع هذا الكتاب خرج بعض المتنوّرين في الفكر الدينيّ، من الذين تأثَّروا به وبمفكِّرين غربيّين، من أمثال: سروش، ليوجِّهوا ملاحظاتهم وانتقاداتهم إلى فكر الدكتور شريعتي وأمثاله (تبديل الدين بالأيديولوجيا). وبعد ذلك انفصل شايگان تماماً عن أفكاره التي كان هو نفسه قد طرحها في أوّل كتبه ومؤلّفاته، وأخذ يدعو إلى التصالح بين التراث والحداثة. ومع إقراره بوجود تباينٍ وتعارض واضح بين هاتين المقولتين رأى أنّ الحلّ الأنسب هو العمل على إيجاد هويّةٍ متعدّدة الجوانب للإنسان، وفي هذه الهويّة التعدّديّة تقع المكوّنات المتعارضة لفكر العالمين الشرقيّ والغربيّ جنباً إلى جنب! هذا التراجع أو الاستدارة الفكريّة عند شايگان كان واضحاً في هذا المجال، إلى حدٍّ دفع بمتنوّر فكريٍّ آخر، يُدعى إحسان نراقي، والذي كانت تجمعه به صداقةٌ قديمة، دفع به إلى وصف شايگان بالمفكّر الذي عرف في حياته الفكريّة تعرُّجاتٍ وانحناءات واستدارات كثيرة، حيث انتقل من كونه مفكّراً ذا نزعة شرقيّة إلى كونه ذا نزعةٍ غربيّة! (راجع: إحسان نراقي، آنچه خود داشت: 24، انتشارات چاو، طهران، 1382، الطبعة الأولى).
وفي نهاية المطاف، وبعد هذا السفر الطويل الذي قام به على الحدّ الفاصل بين العالمين القديم والجديد، اعترف شايگان في آخر مؤلّفاته وآثاره بجهله وعجزه، فقال: «كيف يتسنّى لنا أن نرفع التناقض القائم بين عالمٍ بنظرةٍ ومعرفة وجوديّة محطّمة وبين عالمٍ تخفق فيه الروح بسبب النظرة والمعرفة الوجوديّة التي تحتلّ فيه مكانةً خاصّة ومتميّزة؟! أقول صادقاً: إنّني لا أعرف الجواب الدقيق عن هذا السؤال. كلّ ما أعرفه هو أنّ معرفة العالم من جديد لا تبعث فيه الروح والحياة؛ إذ في الواقع ذلك العالم لم يمُتْ أبداً، وهو دائماً، وبطرقٍ وأساليب مختلفة، يعيد إحياء نفسه فينا». (راجع: داريوش شايگان، أفسون زدگي جديد، هويت چهل تكّه وتفكّر سيّار: 20، ترجمة: فاطمه ولياني، نشر فرزان، طهران، 1380).
([55]) «فالمتنوّر الدينيّ هو ذلك الشخص الذي يميل إلى الدين ويتعلّق به كما يميل إلى الفكر الحديث ويتعلّق به، ويقترب من السنّة والتقاليد بقدر ما يقترب من الحداثة والعصرنة، ويتحرّك في الحدّ الفاصل ما بين القديم والحديث، ليجمع ما بين أعزّ الموروثات القديمة والتقليديّة، والتي تتمثّل في الدين، وبين أعزّ المعروضات التي تقدِّمها الحداثة، والتي هي عبارة عن العقل الحديث، ويسعى دائماً إلى التوفيق وإيقاع الصلح بين هذين. أو بعبارةٍ أوضح: إنّ أكبر التحدّيات التي يواجهها المتنوّر الدينيّ يتمثّل في إبراز كيف يمكن لإنسان عالم الحداثة أن يكون متديِّناً (من الناحيتين العمليّة والنظريّة). فالدين في ذاته يرتبط بعالمٍ مليء بالخفايا والأسرار، وما نعيش فيه حاليّاً هو عالم يسعى إلى التحرّر والتقليل من الخفايا الأسرار. فيبقى الجمع بين العالم المليء بالأسرار وبين العالم المتحرّر منها واحداً من أهمّ التحدّيات التي يواجهها أيّ متنوّر دينيّ». (راجع: سروش، آيين شهرياري: 408).