برزخٌ بين الإسلام والحداثة
ـ القسم الثاني ـ
الشيخ مسعود إمامي(*)
مقدّمة ــــــ
علم الفقه هو أغنى العلوم الإسلاميّة، وأوسعها نطاقاً. ومن هنا كان اهتمام الحوزات والمعاهد العلميّة، طلاّباً وأساتذةً وباحثين، منصبّاً ـ بالدرجة الأولى، وأكثر ممّا سواه من سائر العلوم الإسلاميّة ـ على دراسة مسائل الفقه، وتدريسها، والبحث والتحقيق فيها.
ولا شكَّ في أنّ قسماً كبيراً من هذا التوجّه والاهتمام ناشئ ومستمدّ من نفس ذلك الاعتناء الواسع الذي نلاحظه في الكتاب والسنّة بالأحكام الشرعيّة والتكاليف الإلهيّة، حيث تضمَّن القرآن الكريم ما يزيد على خمسمئة آيةٍ([1]) موضوعها التكاليف والأحكام الشرعيّة، مضافاً إلى الآلاف من الروايات الواردة عن الأئمّة المعصومين^، وهو ما يكشف عن مدى أهمّيّة هذا العلم ومسائله عند الشارع المقدَّس.
ومن هذا المنطلق ينبغي القول بأنّ زمان ظهور هذا العلم هو نفسه زمان نزول الوحي، وأنّ السير التكاملي له مستمرّ ومتواصل مند عصر النبيّ الأكرم| وحتّى عصرنا الراهن.
وإلى جانب علم الفقه فقد عمل المسلمون على تأسيس وتشييد علمٍ آخر عُرف باسم (علم أصول الفقه)، على أن يكون هذا العلم الجديد هو الآلة والوسيلة العمليّة التي يوظّفها الفقيه في مجال استنباط الأحكام الشرعيّة، وهكذا، حتّى غدا علم الأصول اليوم ـ وبخاصّةٍ في الحوزات العلميّة الشيعيّة ـ واحداً من أعمق وأدقّ العلوم الإسلاميّة المتداولة.
وإلى جانب علم الأصول ثمّة علومٌ أخرى، كعلمَيْ الدراية والرجال، بالرغم من أنّ دورها ليس محصوراً في خدمة الفقه، إلاّ أنّ رشد هذه العلوم وتطوّرها ظلّ مرهوناً أيضاً بمقدار خدمتها للفقه وآليّتها للاستنباط الفقهيّ، وما تستتبعه هذه وتلك من اعتناء الفقهاء بمسائل هذه العلوم وتوجُّههم إليها.
وعليه يمكن القول: إنّ علم الفقه إذا أُخذ بمعناه الأعمّ فهو ذو دائرةٍ وسيعة، بحيث يشمل أحكام الشارع وأوامره ونواهيه، إلى جانب الأصول والمباني التي تقوم عليها عمليّة استنباط الأحكام من مداركها المقرَّرة والمعتمدة، وطرق ومناهج الاستنباط (وهو ما يتكفَّل به علم الأصول)، بالإضافة إلى وسائل الإثبات التاريخيّة (وهو ما يتكفَّل به علما الرجال والدراية).
وأمّا في هذا المقال فنتّبع في البحث منهجاً أوسع من ذلك وأشمل، فنتطرّق حتّى إلى بعض المباني والأصول المسلّمة في علم الكلام ومباحث العلوم الإنسانيّة ذات الصلة المباشرة بهذا العلم. وبعبارةٍ أخرى: إنّ أيّ بحثٍ ومسألة علميّة كانت ـ بنظر المثقّفين ومتنوّري الفكر في بلادنا ـ على علاقةٍ مباشرةٍ بالفقه والأحكام الشرعيّة فهي داخلةٌ في محلّ كلامنا في هذا البحث.
ومن الجدير بالذكر أنّ للمثقّفين والمتنوّرين الدينيّين آراءً ونظريّات مختلفة حول الفقه والمسائل الجانبيّة المرتبطة به. غير أنّ تحليل وتقييم كلٍّ من هذه النظريّات بحاجةٍ إلى مقالةٍ مستقلّة. ومن هنا فنحن في هذا المقال نكتفي بالإشارة إجمالاً إلى بعض الأسس والمباني التي يعتمدون عليها في مجال معرفة الفقه والقراءات الفقهيّة.
وفي هذا السياق يمكن ـ بوضوحٍ ـ أن نلاحظ وجود عدّة وجوهٍ مشتركة بين هذه الأفكار الفقهيّة والدينيّة، بحيث تعكس هذه الوجوه انسجاماً تامّاً بينها. وإنّ المواقف التي اتّخذها المتنوّرون في مواجهة الفقه التقليديّ كلّها تحكي عن وجود نوازع ودوافع خاصّةٍ هي التي تحرِّك هؤلاء نحو تبنّي تلك الآراء الفقهيّة، وهي التي تحدِّد لتلك الآراء وجهتها المعيّنة التي تسير باتجاهها.
هذه الأهداف والدوافع ـ كما سبقَتْ الإشارة إليه آنفاً ـ إنّما تنشأ من الرسالة والقضيّة التي حملها هذا الطَّيْف من المتنوّرين والمثقَّفين الدينيّين على عواتقهم، والتي كانت عبارةً عن إيجاد الصلح بين الدين والالتزام الدينيّ من جهةٍ، وبين أسس الفكر الحديث والحياة الإنسان العصريّ من جهةٍ ثانية.
في هذا المقال نقوم باستعراضٍ لآراء أهل التنوير وقراءاتهم الفقهيّة، لننتهي ـ ودون بتٍّ أو حكمٍ حول مسألة إمكان أو وقوع أو مطلوبيّة مثل هذا الهدف الذي حدّده هؤلاء لأنفسهم ـ إلى النتيجة التالية، وهي أنّ هذا الهدف والدافع لا انسجام له أصلاً مع قراءة هذا الطيف من المتنوِّرين للفكر الغربيّ، ولا مع فهمهم للحداثة والعالم الحديث.
وبرأي هؤلاء ـ كما تقدّم أيضاً ـ فإنّ المكوّنات الأساسيّة للحداثة والعصرنة في تعارضٍ حادّ وجوهريّ مع الدين والتديّن. ومن هذا المنطلق فإنّ تيّار الفكر التجديديّ تحوّل من المطالبة بالتجديد إلى حركةٍ باتّجاه إقصاء الدين والفرار منه، بل وربما إلى حركة معاداة الدين ومحاربته. ولهذا السبب يمكن لنا أن ندّعي أنّ إجراء مصالحةٍ بين أسس الدين وخلفيّاته وبين أسس الحداثة وخلفيّاتها، من دون إخراج أحد الطرفين عن طوره، والتصرُّف في هويّته لصالح الطرف الآخر، لهو أمرٌ غير ممكن البتّة.
إنّ المواقف الانتقائيّة التي يتّخذها كلٌّ من الإنسان المتديّن والإنسان العصريّ في مواجهة هاتين المقولتين المتضادّتين لو بقيت في نفس مستوى وحجم الظواهر الموجودة لدى الطرف الآخر لما تسبَّبت في الكثير من المشكلات أو التحدّيات بالنسبة إلى هذين الشخصين المختلفين، وأمّا العمل على إيجاد المصالحة بين الخلفيّات والمرتكزات الفكريّة لهاتين المقولتين فهو لا يفضي إلاّ إلى المزيد من التناقضات على مستوى الفكر والقول والسلوك. وهي تناقضاتٌ يمكن أن نشاهد نماذج عديدةً لها في أعمال ومؤلّفات المتنوّرين والمثقّفين الدينيّين.
وثمّة سبيلٌ آخر يمكن أن يكون نافعاً في التخلُّص من هذه الإشكاليّة، ألا وهو العمل على تغيير وتحريف المفاهيم والقيم السائدة والمعتمدة لدى أحد طرفي النزاع، إلى الحدّ الذي يصبح به هذا الطرف مناسباً ومنسجماً تماماً مع الطرف الآخر.
وفي مؤلّفات أهل التنوير الدينيّ شواهد عديدة لهذه الحركة، وهي في جميع مواردها ـ أو في معظمها على الأقلّ ـ تبدّل المفاهيم الدينيّة، وتجعلها عرضةً للتحوير والتغيير، لتأتي منسجمةً مع مفاهيم الحداثة ومقتضياتها، حتّى أنّ بعضهم قدّم نظريّةً معرفيّة في توجيه هذا النوع من الحراك الفكريّ([2]).
وينبغي الالتفات هنا إلى أنّ هذا التحليل الذي ذكرناه حول الأفكار الفقهيّة، بل والدينيّة، لهذا الطيف من المثقَّفين والمتنوّرين، لا يعني إبطال كافّة آرائهم وانتقاداتهم والملاحظات التي لديهم حول الفكر الفقهيّ والدينيّ الرائج. بل إنّ بعض تلك الآراء والانتقادات ـ لو أخذناها بنظرةٍ جزئيّة، وفي موارد معيَّنة ـ هي آراء وانتقادات صحيحة وصائبة، غير أنّ النظرة الكلّيّة العامّة لهذا التوجّه الفكريّ، والإشراف عليه ككلٍّ ومجموع، لا يُبقي أمامنا إلاّ أن نضع هذا التوجّه في السياق الذي أشرنا إليه. وعليه فإنّ ما يتضمَّنه هذا المقال من استعراضٍ نقديّ لأفكار متنوّري الفكر الدينيّ إنّما هو ناشئ من هذه النظرة الكلّيّة والمجموعيّة.
وجملة القول: إنّ هذا الجمع من المثقّفين والمتنوّرين، ومن خلال كلّ تلك الطعون والاعتراضات التي أثاروها ـ بوحيٍ من الحداثة والعصرنة ـ في وجه الفكر الدينيّ ـ والتي شاهدنا نماذج لها في العدد السابق من هذه السلسلة من المقالات ـ، قد وضعوا أنفسهم في موضع المنظِّرين والمؤسِّسين لمشروع عصرنة الدين والفقه، وعلى هذا الأساس أقاموا دعائم قراءتهم الفقهيّة([3]).
وفي هذا المقال نقدّم تقريراً موثّقاً حول أفكار هذه المجموعة من المتنوّرين وآرائهم الفقهيّة، لنصل من خلال ذلك إلى الحديث عن سير وكيفيّة تشكُّل هذا المشروع:
1ـ النزوع إلى الابتعاد عن الغيب، والتخلّص من التعبُّد ــــــ
من أهمّ الإنجازات والنتائج التي خلّفتها الحداثة نزعة مفارقة الغيب، والابتعاد عن الغموض والأسرار، والتخلّص من كلّ ما هو من قبيل التعبُّد. وهي النزعة التي يُعنونها أهل الحداثة بأنّها نزعة إلى التخلُّص من الأساطير والخرافات.
فمنذ الأيّام الأولى لتشكُّل عصر الحداثة والفكر الحداثويّ يسير في اتّجاه التشكيك أو الإنكار للحقائق التي هي وراء عالم المادّة، إلى حدّ أن نرى طبيباً غربيّاً مغروراً وقصير النظر يعلن أنّه لن يؤمن بالله ولن يصدِّق بوجوده ما لم يتمكَّن من تشريحه أو إجراء عمليّةٍ جراحيّةٍ له، على غرار ما يصنعه بأجساد البشر وأبدانهم.
وبعد مضيّ قرونٍ على الأبحاث الوافية التي طرحها فلاسفة وعلماء عصر الحداثة فإنّ ذهنيّة الإنسان الحداثويّ اليوم تصغي بصعوبةٍ بالغة إلى الحقائق التي يكتنفها الغموض، وتكون محاطةً بهالةٍ من الأسرار، بل هي تساوي بين أمثال هذه الحقائق وبين الكذب والخرافات.
ومع أنّ المجتمعات الحديثة في أيّامنا هذه تشهد ظهور علائم متنوِّعة على وجود ميلٍ واسع إلى الأسرار والأساطير، والتي لا يحوي كثيرٌ منها في باطنه سوى خرافاتٍ وأكاذيب، إلاّ أنّ نزعة الهروب من الغموض والأسرار والأمور التعبُّديّة تبقى هي الوجه الغالب على الإنسان الحداثويّ، وبخاصّةٍ لدى وسطٍ معيّن من المجتمع.
ومن ناحيةٍ أخرى للدين صلةٌ عميقة بالغيب وعالم السرّ. كيف لا، والأنبياء ما هم إلاّ حملة الوحي، ومبلّغو رسالات عالم الغيب لإصلاح البشر؟! وتلك الرسالات هي ـ في الأعمّ الأغلب ـ أشمل وأبعد ممّا يستطيع الفكر الإنسانيّ أن يبلغه. وهذا ـ في الحقيقة ـ هو السرّ في احتياج البشر دائماً إلى الرسالات السماويّة.
هذا الاحتياج والافتقار إلى الرسل الإلهيّين ـ والذي هو أوضح مصاديق رجوع الجاهل إلى العالم ـ يمثّل الحكم الذي يذعن له الفكر البشريّ دون توقّفٍ ولا تردُّد. ومن هذا المنطلق فإنّ العقل السليم لدى أيّ إنسانٍ لا يتردّد بتاتاً في لزوم الإطاعة محضاً لتكاليف الله تعالى وإنشاءاته، ولا في لزوم التصديق والإذعان ببلاغاته وإخباراته، كيف، وهو الله العليم الخبير، وهو اللطيف بعباده، وهو الخير المطلق؟! وعلى هذا الضوء لا شكّ في أنّ ما تدعو إليه الأديان السماويّة الحقّة من القبول بمبدأ التعبُّد، والركون إلى الغيب وعالم السرّ، إنّما يقوم على أساسٍ من العقلانيّة المحضة.
غير أنّ العقل الحداثويّ ـ ولأسبابٍ مختلفة، لعلّ منها: اختلاط الحقائق السماويّة بالخرافات والأساطير في المسيحيّة إبّان القرون الوسطى، أو لأيّ سببٍ آخر ـ لا يسلِّم بسهولةٍ بهذا الحكم الذي لا يتردَّد فيه العقل السليم، بل يبقى دائماً في حالة رفضٍ للغيب، وامتناعٍ عن القبول بالمسائل التعبُّديّة. ما يقبله العقل الحداثويّ من الشريعة إنّما هو التعاليم والقِيَم التي لا تكون خارجةً عن حدود إدراكه، والتي تكون ـ قدر الإمكان ـ بعيدةً عن أيِّ نحوٍ من أنحاء السرّيّة والغموض أو الارتباط بالغيب.
ومن هنا فقد وُجدت مساعٍ كثيرة للحدّ من ظاهرة النزوع نحو عالم السرّ، وهي الظاهرة التي يمتزج فيها السرّ والغيب معاً في خليطٍ واحد. بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى حدّ أن يعتبر بعضهم الإيمان بالمسيحيّة أمراً ممكناً، حتّى من دون الاعتقاد بالله أو المعاد أو النبوّة([4])!
وأمّا المتنوّرون والمثقّفون الذين يقفون موقف المتردِّد بين الدين والحداثة فأولئك لا ينكرون الارتباط العميق القائم بين الدين وبين السرّ والتعبُّد، بل يعتبرون القبول بذلك قمّة التديّن، كما يرَوْن هذه النزعة إلى السرّ والتعبّد نزعةً مقبولةً لدى العقل، هذا من ناحية.
لكنْ من ناحيةٍ أخرى هم في تفسيرهم للدين ـ والذي هو متأثِّر بالحداثة وآخذٌ منها ـ يحاولون جهدهم الهروب من السرّ والتعبُّد، كما يحاولون قدر الإمكان أن يفرضوا على الدين قراءةً تجعله خالياً تماماً من السرّ والتعبّد، ومحدوداً بالكامل بحدود الفكر البشريّ.
هذا النموذج الواضح من الارتباك لدى هذه الفئة من المتنوّرين والمثقّفين الدينيّين إنّما نشأ من وضع هؤلاء أنفسهم في البرزح والحدّ الفاصل بين الدين والحداثة، وهو ما زجَّ بهم ـ وبكلّ وضوحً ـ في تناقضاتٍ عدّة. وسنشاهد في العناوين التالية من هذا الفصل عرضاً وتفصيلاً وافياً لذلك:
أـ ارتباط الدين بالغيب ــــــ
أهمّ الفروقات الموجودة بين الأديان الإلهيّة وبين المدارس والشرائع البشريّة أنّ الدين ليس من صنع البشر، بل هو نازل من عالم الغيب. ومن هنا كانت التعاليم والقيم الدينيّة ـ إنْ في مجال التكوين أو التشريع ـ حافلةً بالأسرار والرموز، ومحاطةً بهالةً من القدسيّة، وهي ـ لكونها حقائق بعيدةً عن متناول العقل البشريّ ـ السرّ في احتياج الإنسان العاقل إلى الوحي.
وليس معنى ذلك أنّ جميع المفاهيم والخطابات الدينيّة ليست قابلةً للفهم والتحليل العقلانيّ ـ بنحو القضيّة السالبة الكلّيّة ـ، بل معناه أنّ قسماً كبيراً من المعارف الدينيّة ـ وبنحو القضيّة السالبة الجزئيّة ـ هو من هذا القبيل.
«إنّ لحن خطاب الأنبياء هو ـ نوعاً ـ لحن الأمر الذي يصدر من العالي إلى الداني، وهو في الغالب غير مشفوع بالدليل والبرهان. ومن هذه الناحية فهو يختلف عن لحن خطابات الآخرين وأساليب بيانهم. انظروا إلى القرآن الكريم (وغيره من الكتب السماويّة)، وستجدون ندرة الاستدلال فيه. وهذه النقطة من شأنها أن تقرّبنا أكثر من معرفة العنصر الذي به تتقوّم الشخصيّة الحقوقيّة للنبيّ، ألا وهو عنصر الولاية. فالولاية تعني أنّ شخصيّة ذلك الشخص المتحدِّث هي التي تمنح الحجّيّة لكلامه وأوامره. ونستطيع القول: إنّ لسان الأديان هو لسان الولاية، وليس لسان الاستدلال. وهذا الحكم صادقٌ وجارٍ في الأمور التي هي من قبيل: التكليف، كما في الأمور التي هي من قبيل: الإخبار، على حدٍّ سواء»([5]).
«الدين بوصفه واحداً من الأمور الفرديّة والشخصيّة لا يمكن ـ بوجهٍ من الوجوه ـ أن يكون خالياً من وجود نوعٍ من التسليم والتعبّد والتقليد فيه. بل التسليم والتعبّد شرطٌ لازم في التديّن، بل هما أوّل الشروط التي يُطلَب من المتديِّن توفيرها، وإنْ لم يكونا لوحدهما كافيين في تديُّنه. وبهذا المعنى كلّ دينٍ، أو بعبارةٍ أدقّ: كلّ تديُّنٍ، هو أمرٌ تقليديّ لا محالة»([6]).
«على الصعيد الدينيّ لا ينبغي قياس الأمر والتكليف على الموازين والقيم الأخلاقيّة؛ إذ لو كانت العلاقة هي علاقة العبد بمولاه فللعبد الحقّ في أن يقول لمولاه: إنّ أمرك هذا على خلاف الأصول والموازين الأخلاقيّة، لكنّ العلاقة ليست علاقة العبد بمولاه، بل هي علاقة العاشق بمعشوقه، وفي علاقة العاشق بالمعشوق لا مجال أصلاً لمثل هذا الكلام. قال رجلٌ يُدعى سدير الصيرفيّ للإمام الصادق×: واللهِ، ما يسعك القعود، فقال: ولِمَ يا سدير؟ قُلْتُ: لكثرة مواليك وشيعتك وأنصارك، واللهِ، لو كان لأمير المؤمنين× ما لكَ من الشيعة والأنصار والموالي ما طمع فيه تيمٌ ولا عديّ. فقال: يا سدير، وكم عسى أن تكونوا؟ قلت: مئة ألف، قال: مئة ألف! قلتُ: نعم، ومئتي ألف. قال: مئتي ألف! قلتُ: نعم، ونصف الدنيا. قال: فسكت عنّي، ثمّ قال: يخفّ عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع؟ قلتُ: نعم، فسِرْنا حتّى صرنا إلى أرضٍ حمراء، ونظر إلى غلامٍ يرعى جِداءً، فقال: واللهِ، يا سدير، لو كان لي شيعةٌ بعدد هذه الجِداء ما وسعني القعود. ونزلنا وصلَّينا، فلما فرغنا من الصلاة عطفْتُ على الجِداء فعدَدْتُها، فإذا هي سبعة عشر. وبالجملة فإنّ المرحلة التي نعيش فيها ترتبط بنوع علاقتنا بهم، فهل ننظر إليهم نظرة العبد إلى المولى، أم نظرة العاشق إلى معشوقه؟… فالواجب هنا هو توخّي الدقّة، فإنّ الحسن والقبح العقليّين أو الشرعيّين في أفق ومستوىً واحد. ولكنْ ينبغي لنا أن نرتقي إلى مستوىً أعلى من ذلك، لتكون علاقتنا بالله عزَّ وجلَّ علاقة الحبّ والعشق، فإذا وصلنا في علاقتنا به إلى هذا المستوى عندئذٍ سنمتثل جميع أوامره ونواهيه، دون أيِّ تردُّدٍ أو نقاش…»([7]).
«الإنسان المؤمن لا يجادل في أوامر الله تعالى ونواهيه، فلو كان صادقاً في إيمانه لكان مسلِّماً لله عزَّ وجلَّ في جميع ما يريده من الأوامر والنواهي. فالإيمان نحوٌ من أنحاء الحبّ والتعلّق، وفي مقام الحبّ والتعلّق يخرج الإنسان من نفسه، ويضحّي بها لصالح مَنْ هو متعلِّقٌ به. وبعد ذلك لا يبقى للجدال والسؤال محلٌّ أصلاً»([8]).
من خلال هذه الكلمات التي نقلناها يبدو لنا ـ وبوضوحٍ ـ أنّ أصحابها لا يرَوْن وجود صلةٍ وطيدة بين التعبّد والتسليم والالتزام الدينيّ فحَسْب، بل إنّهم أيضاً يعتبرون التديّن من دون التعبّد والتسليم أمراً غير ممكن، ويرَوْن أنّ مثل هذا الالتزام والتسليم المحض لأحكام الله تعالى وتكاليفه يمثِّل قمّة الإيمان بالله والعشق له. ومن الواضح أنّ هذا الالتزام والخضوع لله سبحانه ليس مقيَّداً بفهم الملاكات والأسرار الكامنة في تكاليفه وأحكامه، وإلاّ لما كان التسليم والتعبُّد متعلِّقاً بذاته تعالى حقيقةً، بل كان متعلَّقه حينئذٍ هو عقل الإنسان وفكره، فهو السيّد، وهو الآمر المطاع.
وفي هذا المقام يحسن بنا التفريق ـ ولو بشكلٍ مختصر ـ بين المفاهيم التي تتعارض مع العقل القطعيّ، بحيث لا يتردَّد العقل البشريّ في ردِّها وإبطالها (المفاهيم المناقضة للعقل)، والمفاهيم التي يعجز العقل البشريّ عن إثباتها وإبطالها (المفاهيم التي لا يبلغها العقل)([9]).
أمّا التعاليم الإسلاميّة القطعيّة والمسلّمة ـ وهي التي تسمّى (نصّاً) ـ فلا يمكن أن نعثر فيها على مفاهيم من النوع الأوّل. بل حتّى لو وجدنا في ظاهر عبارات بعض النصوص الدينيّة المعتبرة ما يدلّ على وجود مثل هذه المفاهيم في تعاليم الإسلام القطعيّة والمسلّمة لوجب علينا تأويلها وحملها على خلاف الظاهر. وهذا ما ينظّر له كبار علماء الإسلام ومفكِّريه، قديماً وحديثاً.
وأمّا التعاليم والمفاهيم من النوع الثاني فلا دليل من العقل يحتِّم إنكار وجودها. وليس هذا فحَسْب، بل إنّ فلسفة احتياج الإنسان إلى الوحي إلى جانب العقل إنّما تقوم على افتراض ثبوتها ووجودها، حيث يحظى الإنسان في سيره باتّجاه هدفه الأسنى بحجّتين: إحداهما: داخليّة، وهي (العقل)؛ والأخرى: خارجيّة، وهي (الوحي).
إنّ إخراج السرّ والغيب عن هذا النوع من التعاليم والمفاهيم التكوينيّة والتشريعيّة، وتبديلهما، أو تأويلهما، بحيث يرجعان إلى نوع المفاهيم التي يمكن للعقل أن يفهمها ويحلِّلها ويربط بين مقدّماتها ونتائجها، ليس ـ في حقيقة الأمر ـ سوى تعسُّفٍ لا دليل عليه. وهو إخراجٌ للدين نفسه عن كونه خطاباً غيبيّاً، ورسالةً سماويّة، إلى كونه ديناً من وضع واختراع البشر.
نزعة الاجتهاد في مقابل النصّ التي ظهرت في عصر صدر الإسلام وما بعده، وظهور القياس بوصفه عنصراً خطيراً في تاريخ الفقه الإسلاميّ، يمثِّلان نقطة البداية والانطلاق بالنسبة إلى تيّار العقلانيّة المتشدِّدة، الذي لم يضع هذا الدين السماويّ ولا يقبله إلاّ في أُطرٍ أرضيّة وبشريّة. وكان الموقف الشديد والصارم الذي اتَّخذه الأئمّة المعصومون^ في مواجهة هذا التيّار والاتّجاه الفكريّ كاشفاً عن مستوى خطورته، وأنّه لا يمكن لهذا الاتّجاه أن يُسفر إلاّ عن نتيجةٍ واحدة، ألا وهي تدمير الدين والقضاء عليه([10]).
وهنا نؤكّد على ضرورة الفصل والتفريق جيّداً بين ظاهرة السعي إلى الكشف عن خبايا الوحي وأسراره، والتي تندرج في إطار المسعى العقلانيّ والإيمانيّ الهادف إلى الكشف عن حقائق الدين، وظاهرة إلغاء جنبة السرّ والغيب، والتي هي بصدد التحريف والتأويل غير الصحيح للدين وحقائقه.
ومن ناحيةٍ أخرى لا يخفى أنّه في مقابل هذا التيّار العقلانيّ المتشدّد برز بين المسلمين ـ من الشيعة والسنّة على السواء ـ تيّارات واتّجاهات أخرى، متشدِّدة أيضاً، غير أنّ تشدُّدها تمثّل في الجمود على الظواهر، والتصلّب في النزعة الأخباريّة. وهذا ما كان مدعاةً لولادة معركةٍ فكريّة شرسة دارت حول مسألة تحديد حدود كلٍّ من التعقّل والتعبّد. وقد تحوّلت هذه المعركة إلى أحد أكبر التحدّيات التي واجهها علماء الدين ومفكِّروه على امتداد التاريخ المعرفيّ للدين، لا بالنسبة إلى العلوم والمعارف الإسلاميّة فحَسْب، بل بالنسبة إلى كافّة الأديان الإلهيّة أيضاً، بل أضحت هذه المعركة أيضاً هي المبدأ والمنشأ الرئيس لظهور العديد من الفِرَق والمذاهب في داخل الدين الواحد.
ب ـ النزعة العقلانية التعبُّدية عند المتديِّنين ــــــ
لو كان التعبّد والتسليم مبنيّين على أسسٍ عقلانيّة فلا يكونان منسجمين مع العقل والعلم فحَسْب، بل إنّ حكم العقل يكون داعماً ومؤيِّداً لهما أيضاً. ولهذا السبب من المنطقيّ أنّ على المسلمين أن يلتزموا بإقامة أصول المعتقدات في فكرهم الدينيّ على أساسٍ من التحقيق والتتبُّع العقلانيّ، وأن يحصروا التقليد والتعبُّد في دائرة الأحكام والتكاليف الدينيّة وفروع المسائل الاعتقاديّة.
«يقول الكاتب المعاصر جلال آل أحمد: يشترك رجل الدين والجنديّ في أنّ كلاًّ منهما لا يمكن أن يكون من أهل التنوير الفكريّ؛ لأنّ التنوير الفكريّ مساوٍ للتحرُّر الفكريّ، كما أنّ التعبّد أيضاً يُعدّ مساوقاً للتقليد والتبعيّة بغير دليلٍ. وحيث كان رجل الدين يعيش حالة الالتزام بمباني الشريعة وأصولها، وكان الجنديّ متعهّداً أن لا يتمرّد على قائده، فعلى هذا الأساس كلٌّ منهما ليس حرّاً من جميع الجهات، وإنّما هو مقلّد وتابع من جميع الجهات. وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون صاحب فكرٍ متحرِّر، وبالتالي لا يمكن أن يكون من أهل التنوير الفكريّ.
وأمّا ما استطعنا أن نستنتجه بقليلٍ من التأمّل والتحليل فهو التالي:
أوّلاً: إنّ التعبّد الصحيح دائماً ما يكون ناشئاً عن التحقيق والتتبُّع. فالمتعبّد أيضاً يمكن أن يكون محقِّقاً ومتتبّعاً.
وثانياً: التنوير الفكريّ ليس مساوياً للتحرّر الفكريّ. فليس كلّ متنوّر ومثقّف حرّاً في فكره من ناحيةٍ مطلقة، ولا يوجد شخصٌ متحرِّر في الفكر مطلقاً، بل لا يمكن أن يكون هناك شخصٌ كذلك. ولأجل هذا لا إشكال في أن يكون الشخص يعيش حالةً من الالتزام النظريّ والعمليّ تجاه جملةٍ من الأصول والمباني، وفي الوقت نفسه يتّصف بصفةٍ أخرى، أعني صفة المثقّف والمتنوّر الفكريّ»([11]).
من هذا العنوان وسابقه (ارتباط الدين بالغيب) يتَّضح أنّ المتنوّرين والمثقّفين الدينيّين يشاركون المؤمنين والمتديّنين فكرتهم حول اعتبار التعبّد والتسليم الركن الأساس في الالتزام الدينيّ، وأنّ الدين من دون تعبّدٍ والتزام يكون ديناً خاوياً، بل لا يكون ديناً على الحقيقة. كما يتَّضح أيضاً أنّ هؤلاء يعتبرون هذا الإقبال على عالم الغيب والسرّ، والقبول بمبدأ التعبّد والتسليم، أمراً عقلانيّاً، ويميِّزون بينه وبين الميل نحو الخرافة، أو التبعيّة العمياء التي لا تستند إلى دليلٍ.
ج ـ النزعة العقليّة والتشكيكيّة المتشدِّدة في الغرب ــــــ
تقدّم في ما سبق أنّ التيّار العقلانيّ في الغرب جعل للعقل والعقلانيّة حدوداً. فالعقل عندهم هو ذلك العقل الجزئيّ، الآليّ، العلمانيّ، المحروم من العقل الشهوديّ، المفرط في التشكيك بالأصول الموضوعة والقضايا البديهيّة والأوّليّة التي قام عليها الفكر البشريّ، والمبتلى بداء التشكيك العُضال. هذا الداء الذي دفع بالعقل الحداثويّ نحو النسبيّة المحضة([12])، التي جعلته لا يعتمد على شيءٍ من حقائق التاريخ ومجريات أحداثه، حتّى ما جرى منذ ما لا يزيد عن خمس دقائق([13])!!
ولأنّ الدين هو ـ بنحوٍ من الأنحاء ـ حدث تاريخيّ فلا شكَّ في أنّ إثبات عقلانيّة المفاهيم والقِيَم الدينيّة لمثل هذا الفكر المريض والموبوء هو أمرٌ في غاية الصعوبة، لو لم يكن مستحيلاً.
«وبالالتفات إلى هذه المسألة يتَّضح أنّ أهمّ العقائد التي لدينا، من قبيل: من أين أتينا؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ وما هو الهدف من وجودنا؟ وهل ثمّة عالم أو عوالم أخرى وراء هذه الطبيعة أم لا؟ وهل الله موجود أم لا؟ وهل ثمّة هدفٌ وراء خلق الكون أم لا؟ وأهمّ من كلِّ ذلك: ما الذي ينبغي علينا فعله في هذا العالم؟، كلّ هذه المعتقدات والتساؤلات الهامّة لا يمكن إثباتها والاستدلال عليها بدليلٍ قاطعٍ لا مجال للخدشة فيه…» ([14]).
«العقيدة التي يمكن اعتبارها عقيدةً عقلانيّة لا يمكن إلاّ أن تكون بديهيّةً، أو عقيدةً تمّ استنتاجها بدليلٍ معتبرٍ من القضايا البديهيّة. وإذا كان الأمر كذلك فأغلب الظنّ أنّه لا ينطبق على شيءٍ من العقائد الدينيّة في أيّ دينٍ من الأديان، أو مذهبٍ من المذاهب، لا ينطبق على شيءٍ منها أنّها عقيدة عقلانيّة. لكنّ عدم كونها عقلانيّةً لا يعني أبداً عدم حقّانيّتها وعدم مطابقتها للواقع، بل هي بالنسبة إلى الواقع لا بشرط، بمعنى أنّ العقيدة التي لا تكون عقلانيّةً ـ بالمعنى الذي ذكرناه ـ يمكن أن تكون صادقةً، كما يمكن أن تكون كاذبة»([15]).
هذه العقلانيّة التشكيكيّة والنزعة النسبيّة استطاعت أن تصرف الإنسان العصريّ عن القبول بقِيَم الدين ومبادئه العقلانيّة، دافعةً إيّاه إلى الاعتقاد بأنّ إثبات عقلانيّة هذه المبادئ والقِيَم أمرٌ غير ممكن. وبرأي الإنسان العصريّ لا يمكن افتراض وجود دينٍ قائم على التعبّد والتسليم، وهو مع ذلك يدَّعي القيام على أسسٍ ومبادئ عقلانيّة، بل سرعان ما يتحوّل هذان ـ التعبّد والتسليم ـ إلى خرافاتٍ وأساطير.
ولا شكّ في أنّ هذا البلاء لم يضرب المعتقدات والقِيَم الدينيّة فحَسْب، بل يُعدّ العقل والعلم هما الضحيّة الأولى من ضحايا هذه النزعة النسبيّة والتشكيكيّة:
«تعرّضت العقلانيّة للهجوم من جهتين وجبهتين مختلفتين: إحداهما: جبهة الفلاسفة العقلانيّين؛ والأخرى: جبهة الفلاسفة الحسّيّين. ومع ذلك فإنّه لم يصدر عن كلَيْهما سوى نتيجةٍ واحدة، ألا وهي المزيد من النزوع نحو فقدان الثقة بالعقل وعدم الاعتماد عليه. فلقد ارتمى الإنسان العصريّ في أحضان النسبيّة، لكنّها نسبيّة تختلف كثيراً عن تلك النسبيّة التي كنّا نشاهدها أحياناً عند جملةٍ من قدماء المفكِّرين. فهذه النسبيّة هي وليدة المعلومات اليقينيّة التي تراكمَتْ عند البشر، ووليدة التعارض بين المعارف المختلفة التي وصلوا إليها، ووليدة التأمّل والملاحظات العديدة التي أخذها المثقّفون على إنجازات الفكر البشريّ. وهي ـ لذلك ـ تُعدّ آخر الإنجازات التي توصّل إليها فكر الإنسان الحديث… إنّ مرحلة ما بعد الحداثة هي المرحلة التي جرى فيها إعطاء الصبغة الرسميّة لمبدأ عدم الوثوق بالعقل، وعدم الاعتماد عليه، وساد الاعتقاد بأنّه لم يعد أمام هذا العقل المحطَّم من مهربٍ أو ملجأ يهرب إليه. وقبل ذلك، في عصر الحداثة، كان ضرر النسبيّة قد بدأ بالظهور، لكنّ الأمر آنذاك بدا كما لو أنّ شوكةً ما دخلَتْ العين، وأمّا في هذا العصر، عصر ما بعد الحداثة، فقد جرى الاعتراف رسميّاً بهذه الشوكة، وبُذلَتْ مساعٍ وجهود أُريد منها القول للإنسان بأنّ عليه أن يتعايش مع وجود هذه الشوكة في عينه، وأنّ هذا هو مصيره المحتوم الذي لا محيد عنه… نعم، يريد الإنسان أن يعيد تكرار ذلك اليقين الذي كان لديه في السابق، والذي كان مشوباً بالغفلة، لكنَّه عاجزٌ عن ذلك. ومن هنا فإنّ مرحلة ما بعد الحداثة ترشده إلى أن يبقى بعيداً وبمنأىً عن اليقين وعن الغفلة معاً. وستُظهر لنا تجارب البشر مستقبلاً أنّ الحياة وسط بحرٍ من عدم الغفلة وعدم اليقين هل هو أمر متاح أم لا؟ وهي ـ بكلّ تأكيدٍ ـ ستكون تجربةً مرّةً وأليمة»([16]).
وقد ظهر بذلك أنّ هجمة تيّار التشكيك والنسبيّة في الغرب لم يسلم منها شيءٌ من العلوم والمعارف الإنسانيّة. فلم تكن المعارف الدينيّة هي وحدها مَنْ تضرّر بسبب هذه الهجمة، بل إنّ جميع الإنجازات التي انتهى إليها الفكر البشريّ مُنيَتْ في البداية بداء النسبيّة، لتُصاب لاحقاً بداء التشكيك.
إنّ نسبة هذه العقلانيّة الإفراطيّة والتشكيكيّة إلى كافّة المدارس الفلسفة الحيّة في العالم الحديث هو أمرٌ مجانب للحقّ، وبعيدٌ عن الإنصاف؛ إذ يوجد اليوم كثير من الفلاسفة المشهورين في الغرب ممَّنْ أقاموا دعائمهم المعرفيّة على أسسٍ بعيدةٍ تماماً عن هذه الحِدّة والإفراط، وبذلوا جهوداً كبيرة لتشييد بنيانٍ معرفيّ يكون معتدلاً ومتوازناً وواقعيّاً، بحيث يسلم من الانجرار والانغماس في مناهج التشكيك الملتوية والمنحرفة. ومن هؤلاء يمكن أن نعثر على كثيرٍ من الفلاسفة المتألِّهين ممَّنْ طرحوا آراءً ونظريّات جديرة بالاعتناء في مجال التأسيس لبنيانٍ معرفيٍّ دينيّ محكم.
د ـ الإنسان الحداثويّ والنفور من التعبُّد والغيب وعالم السرّ ــــــ
«الحادثة الأهمّ التي وقعت في تاريخ الإنسان واستطاعت أن تنقل الإنسان من مرحلة ما قبل الحداثة إلى مرحلة الحداثة هي ما أشار إليه عالم الاجتماع الألمانيّ الشهير (ماكس فيبر) تحت عنوان: خروج العالم عن شكله الغيبيّ، الميتافيزيقي، الخرافيّ. وبحَسَب (فيبر) ثمّة بونٌ شاسع وفرق كبير بين عصر الحداثة وعصر ما قبل الحداثة، هو الفرق بين عالمٍ خرافيٍّ وحافل بالأسرار وعالمٍ ينفر تماماً من الأسرار والغيبيّات. ولو أنّنا أنعمنا النظر في الأدبيّات الكلاسيكيّة لأقطاب الفكر والفنّ والأدب في عصر ما قبل الحداثة، كمولوي، وعطّار، وسنايي، وسعدي، وجامي، وغيرهم، بل لو نظرنا أيضاً في الأدبيّات الدينيّة، والتي مصدرها الرئيس هو القرآن الكريم، إلى جانب كلمات كبار الشخصيّات الإسلاميّة، وصولاً إلى مؤلَّفات علماء المسلمين، لو نظرنا في جميع ذلك لوجدناه بأسره يرجع إلى روحٍ واحدة، ويشترك في التحلّق حول محورٍ واحد، وهو عبارة عن الاعتقاد بوجود قوّةٍ غيبيّة، أو موجود خفيّ، أو يدٍ غير مرئيّة، أو إرادةٍ مستترة، تشرف من وراء الستار على العالم كلِّه، وتديره، وتتحكَّم به، وتأخذه إلى حيث تريد، وإلى أيّ جهةٍ تشاء. وليس المقصود من ذلك أنّ الناس لا عقل لهم، ولا إرادة، أو أنّهم لا يخطِّطون لأنفسهم، ولا يشاور بعضهم بعضاً، بل هم يفعلون ذلك، غاية الأمر أنّ حالهم كحال الجالسين في سفينةٍ واحدة، يقودها ربّانٌ غيرهم، وفي نهاية الأمر تذهب بهم السفينة بعيداً إلى حيث يريد سائقها وربّانها. وهذا هو معنى كون العالم عالماً غيبيّاً وحافلاً بالأسرار. وهذه إحدى أوضح القضايا البديهيّة في العالم القديم، والتي لم يكن أحد يخطر له أن يتردَّد أو يسأل بشأنها… وأمّا فكر العالم الحديث فهو فكرٌ قائم على عزل الإنسان عن التاريخ. فإنسان العالم القديم لم يكن يرى نفسه معزولاً ومتروكاً لوحده، ولا حرّاً، ولا قادراً على أن يعتمد على نفسه. ومن هذه النقطة تحديداً انطلق الاتّجاه الإنسانيّ، والذي هو أحد الأركان الأساسيّة التي يقوم عليها العالم الحديث، حيث بدأ هذا الاتّجاه يغيِّر من نظرة الإنسان إلى نفسه، فلمّا صار الإنسان يرى نفسه متروكاً لشأنه نفض عن نفسه غبار الكسل والقعود، وقام معتمداً على نفسه فقط، وكفّ عن الاتّكال والاعتماد على أيّ قوّةٍ أخرى… ومن هنا كانت بداية الاتّجاه الإنسانيّ، الذي سرعان ما انتشر ليملأ أرجاء العالم الحديث، محوِّلاً هذا العالم إلى عالمٍ يعيش نفوراً وعداوةً لأمور السرّ والغيب، بمعنى أنّه أخرج من هذا العالم كلّ ما لم يكن من جنسه، أو أنّه تعامى عن وجوده، ولم يضعه مطلقاً في حساباته وفي تحليله للأمور، ولم يسمح له بالتدخّل مطلقاً، ولا سيَّما في ما يتعلَّق بأمور الإدارة وشؤونها…»([17]).
«الميزة الخامسة من مميِّزات الحداثة: ولادة نحوٍ من النفور من حالة التقديس للأشخاص. فالحداثة تدعو إلى تكريس حالة المساواة (egalitarianism). وهي ـ من زاويةٍ معرفيّة ـ تنظر بعينٍ واحدة إلى جميع البشر. فالمساواة إنّما تعني النظر إلى الجميع بعينٍ واحدة…»([18]).
وبعد تقييد مفهوم العقلانيّة ـ لدى كثيرٍ من المدارس والمناهج المعرفيّة في الغرب ـ، وجعله محدوداً بحدود العقل الآليّ، والجزئيّ، والحسّيّ، والعلمانيّ، والمحروم من الشهود ومن المشاهدات الداخليّة ـ والتي استعرضنا في القسم الأوّل من هذه السلسلة بعض الشواهد العامّة لها في كلمات جماعةٍ من أهل التنوير الدينيّ ـ، بعد تقييد هذا المفهوم بذلك فإنّ إقناع مثل هذه العقلانيّة الغربيّة بمباني الدين وأسسه الميتافيزيقيّة بات أمراً صعباً للغاية، بل غير ممكن. وهكذا تتحوّل تعاليم الدين الغيبيّة كافّةً ـ بحَسَب موازين هذه العقلانيّة ـ إلى خرافاتٍ وأساطير، يعود السبب في ذلك إلى عجز هذه العقلانيّة عن إدراك وإثبات المنطلقات الميتافيزيقيّة التي يقوم الدين عليها.
وعلى هذا الأساس فإنّ إدراج المعارف الدينيّة في خانة الخرافات والأساطير إنّما ينشأ من الضعف والنقص الطارئين على القراءة المعرفيّة الغربيّة، واللّذين أدَّيا إلى حرمان الغرب من الانتفاع بحقائق الدين ومعارفه.
ومع هذا الحرمان أصبحت مفاهيم الدين وتعاليمه في مستوىً واحد مع ادّعاءات الإنسان العاديّ ومفاهيمه، ولم يعُدْ لها أيّ أفضليّةٍ على هذه الادّعاءات والمفاهيم، بل لم يعُدْ هناك من امتيازٍ بينهما أصلاً.
وبطبيعة الحال فإنّ الفكر الذي لا يؤمن بحقّانيّة الدين الإلهيّ واعتباره الميتافيزيقي سوف لن يقيم وزناً واعتباراً أيضاً من الناحية المعرفيّة لما يَثبت في النصوص الدينيّة المقدّسة عن النبيّ| أو أحدٍ من الأئمّة المعصومين، من قولٍ أو فعل أو تقرير، ولن يكون هناك من فرقٍ أو أفضليّةٍ لأقوال هؤلاء وسلوكهم على أقوال وسلوك الناس العاديّين. وتبقى هذه الخطابات الدينيّة غير مقبولةٍ لدى هذه العقلانيّة طالما أنّه لم تقم أدلّة عقليّة مقنعة وكافية لإثبات كلّ واحدٍ منها على حِدة.
غير أنّ مسلك عدم الترجيح هذا لا يعدّ دليلاً على وجود روحيّة الاستدلال والإنصاف والحياديّة عند أتباع هذه العقلانيّة الحداثويّة، ولا على فقدان سائر العقلانيّات غير الحداثويّة لهذه الروحيّة ـ كما ربما يظهر من العبارات التي نقلناها فيما سبق ـ.
وللأسف الشديد فإنّ بعض أهل التنوير الدينيّ زعموا أنّ خطاب الفكر والعقلانيّة في غير العالم الحديث هو خطابٌ مبتلىً بداء التعصُّب والتقليد الأعمى، وأنّ ولادة الحرّيّة الفكريّة وبزوغ فجرها لم يكن إلاّ في الغرب، متجاهلين في هذه المزاعم كافّة الأسس والقواعد المعرفيّة السليمة وما يبتني عليها من الأصول الموضوعة؛ إذ على تقدير أنّنا استطعنا أن نُثبت ـ منطقيّاً ـ العصمة والقداسة لشخص كلٍّ من النبيّ| والإمام× ـ وهو ما نقلناه عن بعض المتنوّرين والمثقّفين الدينيّين تحت عنوان: ارتباط الدين بالغيب ـ، فإنّه حينئذٍ لا تنافي أصلاً بين التسليم لقول كلٍّ من النبيّ والإمام أو فعله وبين حرّيّة الفكر واتّباع منهج الاستدلال. وليس هذا فحَسْب، بل إنّ الردّ والإنكار لقولهما أو فعلهما لا يُصنَّف ـ على هذا التقدير ـ إلاّ في خانة الغرور واللاّعقلانيّة.
ويبدو أنّ ما وقع فيه بعض المتنوّرين والمثقّفين من تجاهلٍ لعددٍ من الأصول الموضوعة والقواعد الأساسيّة، والانشغال بدلاً من ذلك ببعض الأبحاث السطحيّة، هو أمر غير لائقٍ بمقام البحث العلميّ.
هـ ـ المتنوِّر الدينيّ والنفور من التعبُّد والغيب وعالم السرّ ــــــ
رفع المتنوّرون الدينيّون، والذين ارتاحوا وأسلموا قيادهم إلى الفكر الحداثويّ، لواء تخليص الدين من مسائل السرّ والغيب، جاعلين ذلك على رأس القائمة في المساعي العلميّة التي يبذلونها. وفي النزاع بين العالم الحديث والعالم الدينيّ انحاز هؤلاء إلى صفّ الفكر الحداثويّ، مركِّزين جهودهم على تقديم صورةٍ جديدة للدين تنخفض فيها نسبة الاعتماد على السرّ والغيب إلى أقلّ حدٍّ ممكن.
وقد وقف هؤلاء موقف الاستحسان، والاعتراف بالمشاكل والتحدّيات الفكريّة التي طرحها بعض شركائهم في الوطن، ممَّنْ تأثّروا بوهج الثقافة الغربيّة وخُلبت ألبابهم بها، بل وجدناهم ـ أحياناً ـ ينسبون ذلك إلى أفكار الجيل الشابّ والمثقّف. ثمّ ـ ومن موقع الحرص واللَّهْفة ـ صار هؤلاء بصدد التفكير في إيجاد حلولٍ وعلاجات لهذه المشاكل.
«اليوم تقف المسائل الدينيّة بما تحمله من لحن التكليف والأمر والنهي في مواجهة الجيل الشابّ. فلغة الفقه هي لغة التكليف والأمر والنهي، وبهذه اللّغة نفسها يُراد مخاطبة الشباب والحديث معهم. غير أنّ الشباب لا يفقهون لغة الفقه، ولا يفهمونها! ما يفهمه الشباب ليس سوى لغة الفكر والتجربة والكشف عن وقائع الحياة.
إنّ الأمر والنهي قائمان على أساس صلاح البشر وفسادهم. فنحن عندما نتحدّث إلى الشباب يجب علينا أن نحدِّثهم عن الصلاح أو الفساد الذي هو الأساس في هذا الأمر أو النهي، يجب أن ندعوهم إلى خوض تجاربهم الخاصّة، لا أن نخاطبهم مباشرةً بلغة الأمر والنهي. هذه الطريقة في الحديث مع الشباب ومخاطبتهم يجب أن تتبدَّل»([19]).
«ولو تجاوزنا ذلك لربما أمكن أن يُقال: إنّ الإنسان الجديد ـ بشكلٍ عامّ ـ هو أكثر ميلاً نحو العالميّة، وأكثر نزوعاً نحو الإنسانيّة، وأكثر تعلّقاً بمبدأ الفرديّة، وأكثر إصراراً على النزعة الاستدلاليّة، وأكثر طلباً للمساواة وللحرّيّة في الفكر، وأكثر نفوراً من التعبُّد. وبهذا يمتاز عن إنسان ما قبل عصر الحداثة. وهو لذلك يجد نفسه منشدّاً أكثر إلى الدين أو الأديان التي دائرة فقهها أضيق وأقلّ سعةً، والتي تقلّ فيها اليقينيّات والتعبّديّات النظريّة والعمليّة…» ([20]).
كما أنّ المتنوّرين الذين أَنِسُوا منذ القِدَم بالفكر الغربيّ، وأبدوا إعجابهم به، يجدون الدين الخالي من التسليم والتعبُّد أكثر لذةً وحلاوةً:
«برأينا، إنّ أكبر انتقادٍ يمكن توجيهه إلى طريقة التفكير وأسلوب العيش التقليديّ في العالم القديم أنّه عالم تعبّديّ، ساعٍ وراء التعبّد والتسليم. ومن هنا فهو يتميّز بنفوره من منهج الاستدلال، بل ومعاداته له. والذي يبدو أنّ العقلانيّة والحرّيّة يمثّلان اثنين من المكوّنات الرئيسيّة للإنسانيّة، بمعنى أنّ الإنسان كلّما دنا أكثر من العقلانيّة والحرّيّة بشكلهما الواسع والعميق كلَّما اقترب أكثر فأكثر من ساحة الإنسانيّة، ونأى بنفسه بعيداً عن سائر الحيوانات. وعلى هذا الأساس ينبغي التخفيف قدر الإمكان من التعبّد والتسليم والتقليد؛ بسبب أنّ هذه الأمور في مقام النظر تتنافى مع العقلانيّة، وفي مقام العمل تتنافى مع الحرّيّة.
إنّ ذلك العالم القديم؛ بالنظر إلى طريقة التفكير وأسلوب العيش المعتمدين فيه، له قابليّة لأن يشكّل الأرضيّة الخصبة التي تنمو فيها مظاهر التعبّد والتسليم والتقليد بأوسع نطاقاتها. مع العلم بأنّ التعبّد ليس شيئاً آخر سوى إماتةٍ لحسّ الفضول وحبّ المعرفة والاطّلاع وتعطيلٍ للحراك العقلانيّ. والشخص المتعبّد هو ذلك الشخص الذي عطَّل في نفسه طاقة البحث والسؤال، وحبّ المعرفة والسعي وراء الدليل، تاركاً ذلك كلّه عالقاً وراء ظهره، هناك حيث ذاك الموجود الذي يقدِّسه ويأخذ بكلامه دون أيّ نقاشٍ أو جدال. دعونا هنا نقول: إنّ التعبّد لو كان عليه دليلٌ عقليّ قاطع لما كان هناك محذور فيه، لكنّ المشكلة أنّه ليس كذلك في غالبيّة الموارد»([21]).
«إذا كانت حياتنا حياةً مستعارة وغير أصيلة فلسنا نحن أصحاب الرأي والقرار فيها. ونحن عندما نقلّد أو نتعبّد بشخصٍ، أو نأخذ كلام أحدٍ على أنّه كلام غير قابل للنقاش والجدال، فإنّنا في جميع ذلك نتخلّى عن حياتنا الأصيلة، بل إنّنا في جميع ذلك نقوم بأشياء حتّى نحن أنفسنا لا نعرف السبب الذي دعانا إلى القيام بها!»([22]).
«التديّن أسلوب عامّيّ في العيش والتفكير، وهو من الأساليب التقليديّة والقديمة جدّاً. والعالَم بالنسبة إلى هذه الزمرة من المتديّنين هو عالَم أسطوريّ للغاية. العالَم الذي يحوي العلم الحديث، والفلسفة الحديثة، والتكنولوجيا والتقنيّات الحديثة، هو ـ عند هؤلاء ـ عالَمٌ مجهول تماماً، ولا يستحقّ أن يُعرَف، بل حتّى لو عرفوا جانباً منه فهم يجعلونه تماماً بمعزلٍ عن حسابات الأساطير الدينيّة التي يؤمنون بها. لهؤلاء إلهٌ محدّد، ولهم قراءتهم الخاصّة عن التاريخ والبشر والنبيّ، والتي لا يرَوْن وجود منافاةٍ بينها وبين العالَم الحديث، بل لو رأوا تنافياً بينهما في موردٍ من الموارد فهم يميلون أكثر إلى نسبة النقص والخلل إلى هذا العالَم الجديد، لا إلى أفكارهم وتصوّراتهم»([23]).
إنّ النظرة التاريخيّة التي يحملها أهل التنوير الفكريّ تجاه الدين، وبخاصّةٍ إلى أطر تشكُّل المقرّرات والقوانين الشرعيّة، والتي تفضي ـ في النتيجة ـ إلى إضفاء الصبغة التاريخيّة على معظم أو جميع الأحكام الشرعيّة، وسلب صفة الخلود والبقاء عنها، إنّما تنشأ من مثل هذه الدوافع والقراءات:
«…ديدن الفقهاء إلى يومنا هذا قائمٌ على إضفاء صفة الخلود والأبديّة حتّى على الوسائل والآليّات المتَّبعة في الفقه. ومن هنا فقد عدّوا التخلّف عن هذه الوسائل والآليّات أمراً غير جائز، أي إنّهم ساوَوْا بين أحكام المعاملات وأحكام العبادات. فكما أنّ أحكام العبادات لا تقبل التغيير والتبدّل؛ لكونها تنشأ من مصالح خفيّة كامنة، فكذلك أحكام المعاملات. ولا زالت وسائل من قبيل: قطع اليد، والرجم بالحجارة، والجلد بالسياط، وسائل متّبعة في الفقه، ولا يجيزون التخلّف عنها بحالٍ من الأحوال. وهذه الوسائل قد ورد النصّ بها في آياتٍ عدّة من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا﴾ (المائدة: 38)، أو قوله: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾ (النور: 2)، وغيرهما من الآيات. وبالتالي لا يمكن إنكارها من ناحيةٍ تاريخيّة… فالحديث هنا عن أنّ هذه الأحكام هل هي مجرّد وسائل وآليّات خاصّة، أم أنّها تندرج في القيم العامّة التاريخيّة، أو العابرة للتاريخ، التي ترتبط بظروفٍ اجتماعيّة معيّنة، أو التي لا ترتبط بظروفٍ من هذا القبيل؟…»([24]).
كما يطرح هؤلاء البحث عن غاية الفقه وأغراضه، المعبَّر عنها بـ (مقاصد الشريعة)، بهذه الكيفيّة:
«الإسلام الحداثويّ المتجدِّد لا يتعامل مع عقل المستدلّ بوصفه مجرّد آلةٍ لاستخراج حقائق الكتاب والسنّة والكشف عنها، بل هو ـ مضافاً إلى ذلك ـ يجعله مصدراً في عرض الكتاب والسنّة. وأهمّ من ذلك أنّه إنّما يستمدّ من هذا العقل لإثبات الحجّيّة والواقعيّة للكتاب والسنّة. وفوق هذا وذاك يطمح الإسلام الحداثويّ، ومن خلال الوقوف على أغراض وغايات الأحكام والتعاليم الدينيّة والمذهبيّة، يطمح إلى إخراج الالتزام بهذه الأحكام والتعاليم عن دائرة التعبّد المحض، ويحاول إبرازه بوصفه أمراً عقلائيّاً. وبمجرّد أن يشعر بوجود نحوٍ من التعارض ـ مهما كان ضئيلاً ـ بين ظواهر الآيات والروايات والاستنتاجات التي يتوصَّل إليها العقل فإنّه يبادر إلى تأويل الآيات والروايات، وإخراجها عن ظهورها. فالإسلام الحداثويّ ـ من هذه الجهة ـ يعدّ إسلاماً عقلانيّاً، وداعماً لحرّيّة الفكر، وبعيداً عن التعبّد ـ قدر الإمكان ـ»([25]).
وقد ذهب بعضٌ من هؤلاء إلى أنّ قسم العبادات من الفقه يشتمل على أسرارٍ ومصالح كامنة. وهذه المصالح الخفيّة لا بُدَّ من الأخذ بها بنحو التعبّد والتسليم. وأمّا غير العبادات فيحصره هؤلاء في داخل الإطار التاريخيّ، بحيث يتعاملون معه على اعتبار أنّه ناظرٌ إلى تأمين الأهداف الكلّيّة والعامّة لهذا القسم من الأحكام، وأمّا قوالبها الظاهريّة فلا يرَوْن لها موضوعيّة في هذا الإطار([26]).
وفي المقابل ذهب آخرون منهم إلى أنّ العبادات ـ كغيرها ـ خاليةٌ من الرموز والأسرار. فالعبادات لا تختلف عن غيرها في أنّها أمورٌ عقلانيّة، وبهذا اللّحاظ ينبغي تصوُّرها والنظر إليها. وإنْ شئتَ فقُلْ: إنّ الفقه بأسره عند هؤلاء خالٍ من الأسرار والرموز، ولا وجود فيه أصلاً للمصالح الخفيّة والكامنة:
«إنّ الأوامر والنواهي المرتبطة بالعبادات (كالصلاة، والصيام، والزكاة، والحجّ)، والمعاملات (مثل: البيع، والنكاح، والطلاق، وسائر العقود والإيقاعات)، والسياسات (نظير: عقوبة السرقة، القصاص، الديات، الحدود وأحكام الولاية العامّة)، كانت في عصر الرسول الأكرم| تندرج ضمن الأمور المحاطة بالأسرار والخفايا.
إنّ العبادات الإسلاميّة الرسميّة التي حلَّتْ محلّ العبادات التي كان سائدةً في العصر الجاهليّ هي عباداتٌ من قبيل: الدعاء لله تعالى، وتسبيحه، وتنزيه ذاته، وحمده، والركوع والسجود له (الصلاة)، أو التمرين على مغالبة الشهوات (الصيام)، أو الإنفاق والإحسان في سبيل الله (الزكاة)، أو الإتيان بحركاتٍ وأعمال رمزيّة تحمل مفهوماً مركّباً من التضحية والزيارة والاعتكاف والتقرّب إلى الله (الحجّ)، إلى ما هنالك من أمثال هذه العبادات. ولم تكن هذه العبادات ـ بنظر المسلمين ـ عبارةً عن أعمالٍ وحركاتٍ سحريّة ذات آثارٍ وعواقب رمزيّة… وكذلك الأوامر والنواهي التي تربط بالمعاملات أيضاً، كالنكاح، والطلاق، والبيع والشراء (العقود والإيقاعات)، هي بدورها أمورٌ عقلائيّة عندهم، وليست أموراً رمزيّة أو محاطة بالأسرار. وفي ذلك العصر كان السلوك النبويّ في باب المعاملات ناظراً إلى الإلزام بمراعاة الأصول والموازين الأخلاقيّة، تمهيداً لإحلال مبدأ العدالة، ولم يكن يهدف إلى تحقيق أيّ هدفٍ رمزيٍّ أو سرّيّ. وكذلك الحال في السياسات المتَّبعة، كالبيعة، والشورى، والقصاص، والحدود، والديات، والشهادات، فهي بدورها كانت أموراً عقلائيّة، والسلوك النبويّ في بابها كان ناظراً أيضاً إلى الإلزام بمراعاة الأصول والموازين الأخلاقيّة كمقدّمةٍ لإحلال العدالة وتكريسها. إنّ آيات الكتاب العزيز، وأحاديث النبيّ|، وما يُروى في تاريخ صدر الإسلام، كلُّ ذلك حاكٍ عن أنّ أوامر النبيّ| ونواهيه في المجالات الثلاثة المشار إليها هي من قبيل: الأحكام العقلانيّة أو العقلائيّة»([27]).
من جهتهم لا يقبل المتنوّرون هذا الفكر التعبّديّ الذي يتبنّاه الفقهاء، ويأخذون عليه مآخذ عدّة في الكثير من الأحكام الشرعيّة، كما في العديد من المقرَّرات السياسيّة وأحكام المرأة و…: «إنّني شخصيّاً أعتقد أنّ نظرة عامّة المدارس الفكريّة القديمة، وبخاصّةٍ المدارس الدينيّة، إلى المرأة هي نظرة مشوبة بالأساطير والخرافات. وهذا الاعتقاد صادقٌ تقريباً في جميع موارد الأحكام الشرعيّة، ومن جملتها: الأحكام التي ترتبط بالمرأة. وكلّما أخذت الحقوق تتَّجه أكثر فأكثر نحو أن تصبح عرفيّةً كلّما باتت الجنبة الأسطوريّة الكامنة في الأحكام الدينيّة عرضةً للشكّ والمساءلة بشأنها أكثر. فمثلاً: يوجد في الدين أعمال معيّنة، كالوضوء، والغسل، والطهارة، تشبه إلى حدٍّ بعيد الاغتسال والنظافة بالطريقة العرفيّة، لكنّ الطهارة والنظافة الشرعيّة لها جنبة أسطوريّة خاصّة، وفيها رموز وأسرار كامنة، ولا يمكن اعتبارها مجرّد اغتسالٍ وتنظيف عاديّ، وإلاّ فإنّ اقتراح البديل عنها أمرٌ في غاية السهولة.
بدورها الأحكام الاجتماعيّة التي ترتبط بالمرأة لا تخلو من بعض العناصر الأسطوريّة التي تشوبها… النقطة المهمّة هنا هي أنّ الأسرار والرموز الأسطوريّة التي تشتمل عليها أحكام المرأة هذه لا معنى لها إلاّ في عالمها الخاصّ بها، فلو أنّها أُخرجت من عالمها هذا، ووُضعت في عالمٍ آخر، ووُضعت موضع العمل والتنفيذ في مجتمعٍ عرفيّ، لواجهتها مشكلاتٌ عدّة. ولهذا السبب يجب أن تكون النظرة إلى جميع هذه الأحكام نظرةً واحدة، وأن يتمّ الالتفات إلى ما فيها من جنبةٍ أسطوريّة، تمهيداً لمحو هذه الجنبة وإنهائها»([28]).
«وأمّا في باب السياسات فالأمر مختلفٌ تماماً. والذي يبدو في هذا الباب أنّ الإطار العقلائيّ للحركة الفقهيّة مخدوشٌ في العديد من الموارد الأساسيّة، وأنّ غالبيّة الفتاوى والنظريّات الفقهيّة في باب السياسات ليس لها توجيهٌ عقلائيّ في عصرنا الحاضر، وإنّما هي تصبّ في إطار تقوية مصالح المسلمين الشرعيّة وأغراضهم العقلائيّة…»([29]).
كما يسعى هؤلاء أيضاً في سائر مجالات العلوم الدينيّة إلى قطع العلاقة بين تعاليم الدين وعالم الغيب ما وسعهم إلى ذلك سبيلٌ، في محاولةٍ منهم لتظهير هذه التعاليم بمظهرٍ يقبله العقل ويستسيغه. ويذهبون في ذلك بعيداً إلى حدّ البحث عن أيّ ذريعةٍ تُبقيهم بمنأىً عن القبول بأيِّ خطابٍ غيبيّ، مهما كان هذا الخطاب مقبولاً ومعتبراً:
«عندما يكون كلامٌ ما مشتملاً على استدلال وقواعد يُراد إجراؤها والتمسّك بها فإنّ العلاقة حينئذٍ تنقطع بين هذا الكلام وبين الوحي، ولا بُدَّ لهذا الكلام من أن يُوزن بميزان الدليل والبرهان. فمثلاً: ورد في نهج البلاغة: إنّ النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ (إشارة إلى نقصان نصيبهنّ في الإرث)، نواقص العقول. وقد طُرحت أدلّةٌ لإثبات هذه الادّعاءات، ليُصار بعد ذلك إلى الاستنتاج منها، والبناء على نتائجها. وهنا محلّ ما ذكرناه من أنّه عندما يرد في الكلام دليل فإنّ العلاقة بين هذا الكلام وبين شخصيّة قائله تنقطع وتنفصم، لنبقى نحن وذاك الدليل الذي اشتمل عليه ذلك الكلام. فإنْ كان الدليل مقنعاً قَبِلْنا المدّعى، وإلاّ رددناه. ولا يبقى مهمّاً بعد ذلك أن يكون قائل ذلك الكلام وصاحب ذلك الاستدلال هو عليٌّ× أو شخص آخر غيره. وعلى هذا الأساس فالكلام يأخذ قيمته واعتباره من الدليل الذي يشتمل عليه، لا من كرامة قائله ومقامه»([30]).
في ختام هذا القسم يحسن بنا الإشارة إلى نكتةٍ، وهي أنّ المتنوّر والمثقّف الدينيّ يعمد أحياناً؛ ومن أجل الوصول إلى تحقيق بعض أهدافه الأخرى، كالتقليل من دور الدين في مختلف مجالات الحياة الإنسانيّة (الدين كحدٍّ أقلّ) بما ينسجم مع فكر الإنسان الحداثويّ، يعمد إلى تظهير الدين بمظهر حقيقةٍ أسطوريّة يلفّها الغموض، وتحيط بها الأسرار والرموز من كلّ جانبٍ، بزعم أنّ حضور الدين في مختلف ساحات الحياة، ودوره الخلاّق والفعّال في حياة البشر الفرديّة والاجتماعيّة، يمكن أن يكون سبباً في تبدُّل ماهيّة الدين الرمزيّة والغيبيّة. لكنّ الواقع أنّه بذلك قام بمسخ الدين، محوّلاً إيّاه إلى أمرٍ دنيويّ بَحْت!
«مفردة (الأيديولوجيا) التي كلُّكم سمع بها وعرف معناها إنّما تتعلّق ـ بالدقّة ـ بهذا العالم نفسه، وهي المقولة التي تحكي عن هذا الإنسان نفسه، بمعنى أنّ الإنسان موجودٌ قابل للتغيير والتبدّل. والأيديولوجيا هي الدين الجديد للبشر. هي ذلك الدين الذي يمنح الإنسان الحديث إرادةً وعزماً يجعلانه توّاقاً إلى التغيير. هذا هو المعنى الدقيق للأيديولوجيا.
وأمّا الدين والديانة فهو أيديولوجيا الإنسان القديم، تلك الأيديولوجيا التي كانت تضع الإنسان في موضع المتفرِّج في هذا العالم، وتقصر دوره على التفسير والمشاهدة لما يراه فيه، وتكسوه ثوب الرقّ والعبوديّة.
وعلى هذا الضوء ما قيل من أنّه لا يمكن أدلجة الدين ليس كلاماً ناشئاً من التسامح وقلّة التدقيق، بل هو كلامٌ متين، وفي محلّه، ولا بُدَّ من الوقوف على معناه بدقّةٍ تامّة؛ ذلك أنّ الدين هو المحور والعمود الذي قام عليه عالَم ما قبل الحداثة. وهو عبارةٌ عن مجموعة مفاهيم يلفّها الغموض، يُراد بها بيان وتفسير هذا العالم، الذي أُعطي ـ بدوره ـ هالةً من القدسيّة والرمزيّة. وأمّا الأيديولوجيا فهي تحارب الغموض والرمزيّة، وترفضهما، وتعمل على صنع عالَمٍ وإنسانٍ يحاربهما ويرفضهما. وبدلاً من أن تقصر دور الإنسان على دور المتفرِّج والمنفعل هي تولّد فيه إرادةً باعثةً على التغيير والتطوّر. وإذا كان الأمر كذلك فمن الواضح أنّه لا يمكن أدلجة الدين، ولا يمكن للدين أن يكون أيديولوجيّاً»([31]).
إنّ حدّة الصراع والنزاع القائم بين التعقّل والتعبّد تظهر ـ بوضوحٍ ـ في معظم الآراء والأفكار ذات الصلة بفقه المتنوّرين والمثقّفين الدينيّين. وبعبارةٍ أخرى: إنّ أهمّ المؤاخذات التي يأخذها تيّار التنوير الفكريّ على الدين تتمثّل في دعوى وجود تمانعٍ وتقابلٍ بين العقلانيّة التي يتّسم بها الإنسان الحداثويّ وبين التسليم والتعبّد اللّذين يتقوَّم الدين بهما.
لكنّ الملاحظ أنّ هؤلاء في تصدّيهم للقِيَم والمبادئ الدينيّة ـ وبتأثيرٍ من الأجواء المهيمنة على ظاهرة الحداثة ـ وقعوا في فخّ المصادرة والحكم المسبق؛ حيث إنّهم ـ في الغالب ـ قدَّموا للنصوص الدينيّة تفسيراتٍ تخلو تماماً من كلّ ما له صلةٌ بعالم السرّ والغيب، مع إيمانهم بأنّ الدين متعلّق بهذا العالم ومرتبط به، وأنّ تفريغ الدين من السرّ والغيب والتعبّد لا يمكن أن يفضي إلاّ إلى تحريفه وتغيير حقيقته. هذه التفسيرات التي هي في كثيرٍ من الموارد تفسيرات تعسّفيّة، ومصداق لعنوان (التفسير بالرأي)، تقدّم للدين تصويراً يُنزله إلى نفس مستوى مجعولات الفكر البشريّ.
نعم، من غير الصواب افتراض أنّ كافّة المفاهيم الدينيّة يجب أن يكون لها فهمٌ رمزيّ مختلط بالأسرار والغيبيّات، أو بعيد عن مقتضيات العقل والتعقّل؛ إذ لا شكَّ في أنّ قسماً وافراً من الخطابات الدينيّة مطابق ومنسجم مع مكتسبات العقل البشريّ. ولذلك يمكن ـ جزئيّاً ـ أن يكون لبعض آراء المتنوّرين والمثقّفين الدينيّين حول مباحث الفقه ومسائله، بل وسائر المعارف الدينيّة، أن يكون لها أفضليّة على سائر الآراء والأفكار. لكنّ الإفراط في تفسير الدين بتفسيراتٍ بعيدة عن التعبُّد، أو منافية له، هو ـ كما تقدَّم ـ أمرٌ مذموم، شأنه في ذلك شأن الإفراط في تفسير الدين بأسره بتفسيراتٍ غيبيّة أو بعيدة عن التعقّل. فكلٌّ من هذين الاتّجاهين غيرُ صائبٍ، ومجاوزٌ للحدّ.
هذا الإصرار البالغ لدى أهل التنوير الدينيّ للفرار من التعبّد والسرّ والغيب جعل تفسيرهم وفهمهم للكثير من النصوص الدينيّة أمراً يسهل التكهُّن والتنبُّؤ به ـ كما يسهل التنبّؤ أيضاً ببعض التفسيرات القشريّة للفريق المقابل لهم ـ. وهم لذلك قلّما يضعون أنفسهم في مواجهة النصوص الدينيّة أنفسها. وبدل أن يصرفوا جهدهم نحو التأمّل في مضامينها، وتحرِّي الدقّة في فهمها، تجدهم يقدِّمون أحكامهم وتصوّراتهم وتفسيراتهم المسبَقة، والتي يستوحونها من واقع تأثُّرهم بالعقلانيّة العصريّة، يقدِّمونها بعنوان أنّها القراءة الصحيحة للدين.
ـ يتبع ـ
الهوامش
(*) باحثٌ في الفقه الإسلامي والدراسات القانونيّة المعاصرة، وله كتاباتٌ علميّة متعدِّدة.
([1]) ثمّة آراء ونظريّات عديدة حول تعداد آيات الأحكام. وقد أوصل بعضُهم عدد هذه الآيات إلى ما يزيد على ألف آية. لكنّ الأشهر هو الاكتفاء في تعدادها بالخمسمئة.
([2]) في كتبه وأعماله المختلفة التي تناول فيها مسألة العلاقة والتداخل بين العلوم قسّم سروش العلوم إلى قسمين: علومٍ مُسْتَهْلِكة؛ وعلوم مُنْتِجة. وفي هذا الإطار يضع سروش عِلْمَي الفقه والتفسير ونحوهما من العلوم في خانة العلوم التي هي بالكامل علوم مستهلِكة، معتبراً أنّ هذين العلمين لم يكن لهما تأثيرٌ أبداً على سائر المعارف والعلوم الإنسانيّة، ولكنّهما ـ في المقابل ـ متأثّران بالعلوم المعاصرة لهما. (راجع: سروش، سياست نامه: 264 ـ 266، وسروش، آيين شهرياري: 45). وقد كرّر سروش الإشارة إلى هذه النقطة مرّاتٍ عدّة، تصريحاً تارةً وتلويحاً أخرى، في كتابه: قبض وبسط تئوريك شريعت، والذي كان قد ألّفه لطرح وتشييد هذه النظريّة المعرفيّة. (راجع على سبيل المثال: الصفحة 387 من هذا الكتاب).
([3]) كنّا قد بنينا في هذه السلسلة من المقالات على تتبّع آراء ثلاثةٍ من المتنوّرين الدينيّين، وهم: عبد الكريم سروش، ومحمد مجتهد شبستري، ومصطفى مَلَكْيان. لكنّ هذا الاعتراض والنقد المذكور في المتن لا يتّجه إلى ثلاثتهم بنفس المستوى، بل إنّ القارئ اللّبيب باستطاعته أن يدرك ـ من خلال التأمّل في الأقوال والكلمات التي ننقلها عنهم ـ أنّ بعض هؤلاء كان لهم دور فعّال أكثر من سواه في طرح هذه المنهج الفكريّ، أو أنّه مُني أكثر من غيره بالوقوع في تناقضاتٍ وتهافتات فكريّة ونظريّة. وقد آثرنا في هذا المقال ـ ولأسبابٍ مختلفة، منها: الاحتراز عن تحوّل هذا المقال من تقريرٍ نقديّ موثّق لتيّارٍ ومنهج فكريّ بأسره إلى تقريرٍ نقديّ يستهدف آراء شخصيّة فكريّة بعينها ـ آثرنا أن لا ننقل آراء كلّ واحدٍ من هؤلاء الثلاثة على حِدة، بشكل منفصل عمّا ننقله عن أخوَيْه، بل نكتفي بتقرير ونقل آرائهم بشكلٍ مجموعيّ، مع التركيز على النظم الواحد، والانسجام التامّ بين هذه الآراء، والذي يخوّلها أن تنتظم معاً لتشكِّل تيّاراً ومنهجاً واحداً.
([4]) راجع: كتاب بحر الإيمان (درياي إيمان)، من تأليف: دان كيوبيت، ترجمة: كامشاد. وقد كان مؤلّف هذا الكتاب يُعدّ واحداً من أبرز المتألّهين المسيحيّين في إنكلترا. ولكنّه مع ذلك يزعم أنّه لا بُدَّ من تفريغ الدين من الأساطير والخرافات، ثمّ يقدِّم تصوّره للدين، فيعتبر أنّ الاعتقاد بوجود إله واقعيّ وعينيّ، وكذلك الاعتقاد بوجود حياةٍ بعد الموت، هو من ضمن هذه الخرافات والأساطير. ويرى أنّ هذه الخرافات والأساطير كانت في ما مضى في العالم القديم هي السند والدعامة التي بها قوام المبادئ والقيم الأخلاقيّة، وأمّا اليوم، ومع هذا التقدّم العلميّ، فلم يعُدْ بالإمكان الاعتقاد بها. ولهذا فإنّ الدين الذي هو من صنع أيدي البشر، والذي هو الآليّة التي يتَّبعها البشر لتصويب معاييرهم الأخلاقيّة، لم يعُدْ بإمكانه اليوم أن يعتمد على مباني ما وراء الطبيعة كما كان يصنع في السابق.
من جهته يوصي مصطفى مَلَكيان في كتابه (سنّت وسكولاريزم)، في مقالٍ له بعنوان (معنويت گوهر أديان) (الروح المعنويّة جوهر الأديان)، يوصي الإنسان الحديث بالسعي للحصول على روحٍ معنويّة لا يكون هناك أيّ تلازم بينها وبين الاعتقاد بوجود الله واليوم الآخر، بل يدعو إلى روحٍ معنويّة لا تكون منسجمةً مع أديانٍ كالديانتين الإسلاميّة والمسيحيّة، ويرى أنّ روحاً معنويّة كهذه من شأنها أن تلبّي كافّة الاحتياجات المعنويّة لدى الإنسان المعاصر.
([5]) سروش، بسط تجربه نبوي: 132 ـ 135، 372؛ سروش، تفرج صنع: 299.
([6]) مَلَكيان، مجلّة نقد ونظر، العدد 19: 10.
([7]) مَلَكيان، مصطفى، جريدة (إيران)، العدد 1685، تاريخ 13/9/79.
([8]) مجتهد شبستري، نقدي بر قرائت رسمي أز دين: 180.
([9]) هذان المصطلحان أخذناهما من بعض كلمات الكاتب مصطفى ملكيان.
([10]) فمثلاً: تكرَّر هذا التعبير في رواياتٍ عدّة: «السنّة إذا قيست مُحق الدين». (انظر: الكليني، الكافي 1: 57؛ 7: 300، انتشارات الكتب الإسلاميّة، الطبعة الثالثة، طهران، 1388هـ).
([11]) سروش، رازداني وروشنفكري: 276؛ وراجع أيضاً: ملكيان، مجلّة نقد ونظر، العدد 19: 15.
([12]) راجع: مقالة «پارادوكس إيدئولوژي مدرنيسم» (إشكاليّة أيديولوجيا الحداثة)، من كتاب (فربه تر أز إيدئولوژي)، للكاتب عبد الكريم سروش.
([13]) مَلَكيان، سنّت وسكولاريزم: 276. وهذه العبارة المذكورة سبق لنا أن نقلناها آنفاً عند البحث عن العقلانيّة.
([14]) مَلَکيان، راهي به رهايي (الطريق إلى التحرُّر): 125.
([15]) المصدر السابق: 266؛ وأيضاً: مَلَكيان، سنّت وسكولاريزم: 358.
([16]) سروش، فربه تر أز إيدئولوژي: 356 ـ 363.
([17]) سروش، آيين شهرياري: 5 ـ 8.
([18]) مَلَكيان، سنّت وسكولاريزم: 283، 274، 279؛ مَلَکيان، راهي به رهايي: 272؛ مَلَكيان، مجلّة نقد ونظر، العدد 19: 12؛ سروش، بسط تجربه نبوي: 366 ـ 372؛ سروش، أوصاف پارسايان: 72؛ سروش، سياست نامه: 125.
([19]) مجتهد شبستري، نقدي بر قرائت رسمي أز دين: 497، 484.
([20]) مَلَکيان، راهي به رهايي: 241.
([21]) مَلَكيان، نقد ونظر، العدد 19: 15. هذا الكلام الذي نقلناه عن مَلَكيان يتعارض بوضوحٍ مع ما نُقل عنه تحت عنوان (ارتباط الدين بالغيب)؛ فإنّه هناك يؤكِّد كثيراً على لزوم الخضوع والتسليم المطلق لله عزَّ وجلَّ، وبعد شرحٍ وافٍ وتفصيل كثير في أسرار ورموز حادثة ذبح نبيّ الله إبراهيم× لولده إسماعيل×، والتي هي مثالٌ بارز للتسليم المطلق لله سبحانه، يرى مَلَكيان في تلك الحادثة تجلِّياً لأروع حالات الحبّ والعشق بين الإنسان وبين الله عزَّ وجلَّ. ولا شكَّ في أنّ مَلَكيان في ذلك المقطع من كلامه واقعٌ بشدّة تحت تأثير الثقافة والأدبيّات الدينيّة، حيث نراه هناك يُسهب في الحديث عن قضيّة ذبح إسماعيل×، ثمّ يتطرّق إلى قضيّةٍ أخرى منقولة عن أحد أصحاب الإمام الصادق×، يبرز فيها التسليم المطلق والإطاعة التامّة لهذا الرجل تجاه إمامه، ثمّ يعتبر هاتين الحادثتين وأمثالهما خير مثالٍ ونموذج لعلاقة الإنسان بالله تعالى وحججه على خلقه. وأمّا العبارات التي نقلناها عنه في هذا الموضع فمن الواضح أنّها ناشئة من تأثّره بأجواءٍ ثقافيّة وفكريّة مغايرة تماماً، حيث نراه هنا يذمّ التعبّد والتسليم إلى حدٍّ لا يراهما لائقين أصلاً بمنـزلة الإنسان الحرّ والعاقل. هذا التعارض الغريب، وغير القابل للرفع بين هذين المقطعين من كلامه، يجعلاننا ـ لوهلةٍ ـ عاجزين عن التصديق بأنّ كلا المقطعين صادران عن متكلِّمٍ واحد! فكيف إذا كان هذا المتكلِّم الواحد يرفض رفضاً قاطعاً نسبة التحوّل والانقلاب الفكريّ إليه، ويعتبر هذه النسبة غير صحيحة البتّة!
([22]) مَلَكيان، سنّت وسكولاريزم: 330، 333، 335، 339، 395؛ مَلَکيان؛ گفت وگوهاي فلسفه فقه: 39؛ مجتهد شبستري، نقدي بر قرائت رسمي أز دين: 342؛ سروش، سياست نامه: 254.
([23]) سروش، سنّت وسكولاريزم: 137.
([25]) مَلَكيان، راهي به رهايي: 100. وهنا، وبالرغم من أنّ ملكيان ينسب الكلام المذكور إلى الإسلام الحداثويّ، ويحاول الامتناع هنا عن أن يُبدي رأيه الشخصيّ في المسائل التي اشتمل عليها هذا الكلام، إلاّ أنّه في سائر مؤلّفاته يدافع بجدّيّة عن منحى التوجّه والالتفات إلى الأهداف والغايات العقلائيّة الكامنة في الأحكام الشرعيّة، محذِّراً من النظرة الاستقلاليّة إلى الأحكام. (راجع: مجلّة نقد ونظر، العدد 6: 62).
([26]) سروش، سياست نامه: 252، 256. وقد نقلنا قبل صفحات بعض العبارات من المصدر المذكور آنفاً.
([27]) مجتهد شبستري، نقدي بر قرائت رسمي أز دين: 164 ـ 168؛ مَلَکيان، راهي به رهايي: 272.
([28]) سروش، آيين شهرياري: 297 ـ 298؛ سروش، سياست نامه: 171. وهذه العبارة التي نقلناها عن سروش، بالإضافة إلى ما نقلناه عنه تحت عنوان (الإنسان الحداثويّ والنفور من التعبّد والغيب وعالم السرّ)، تُظهر بوضوحٍ رأيه في مسألة تحديث المثقّفين الدينيّين للفقه، وفي الوقت نفسه إقرار هؤلاء بالتنافي بين النظرة الدينيّة والنظرة الحداثويّة.
ويتحدّث سروش صراحةً ـ بناءً على ما تقدّم تحت (الإنسان الحداثويّ والنفور من التعبّد والغيب وعالم السرّ) ـ عن التعارض بين العالم القديم المشوب بالأسرار ـ والذي يقدّم القرآن الكريم تصوّراً واضحاً له ـ والعالم الحديث الذي هو عالمٌ رافض للغيب. وهو في عبارته الأخيرة يصرّ على هذه المسألة، وهي أنّه حيث كان عالمنا هذا عالماً تسوده العلمانيّة فمن الواجب أن ننظر إلى الأحكام والمقرّرات المتعلّقة بعالم النصوص الدينيّة الأسطوريّ والغيبيّ على أساس أنّها أمور عرفيّة وتاريخيّة، ومن الضروريّ لنا أن نخرجها عن هذا الإطار الخاصّ بها، وأن نُبعد عنها تلك الصبغة الأسطوريّة الخالدة التي أُضفيت عليها، وأن نقدّم لها ـ بدلاً من ذلك ـ تفسيراتٍ عصريّة. وهذا ـ في الواقع ـ هو الأساس الذي تقوم عليه نظريّة (عصرنة الفهم الدينيّ).
ومن خلال هذه العبارات التي نقلناها يمكن لنا أن نستنتج ـ وبوضوحٍ ـ أنّ سروش وغيره من المتنوّرين الذين يحملون الفكر ذاته عندما يرجعون إلى النصوص الدينيّة، أو فقُلْ: عندما يقدِّمون فهمهم وقراءتهم للدين، فهم لم يكونوا بصدد الوصول إلى المقصود والمراد الأصليّ لصاحب الدين والشريعة، بل كان هدفهم شيئاً آخر، وهو تحميل فكرهم وثقافة الإنسان الحداثويّ وفرضهما على الدين؛ ذلك أنّ من بديهيّات علم الأصول ـ وهو العلم الذي يُعنى بفهم النصوص الدينيّة، وبيان كيفيّة الاستنباط منها ـ أنّ مَنْ كان في مقام فهم النصوص الدينيّة المقدّسة (الآيات والروايات) فعليه أن يسعى كلّ جهده من أجل الاقتراب من تلك الأجواء التي كانت سائدةً في عصر نزول الوحي، أو في عصر صدور الروايات، وأن يأخذ بعين الاعتبار ما ينضمّ إليها من القرائن المقاليّة وغير المقاليّة التي من شأنها أن تعينه في فهمٍ أفضل وأكثر شفافيةً لمراد المتكلِّم. والحال أنّ المتنوّر والمثقّف الدينيّ لا يسعى أصلاً إلى الاقتراب من تلك الأجواء أو الإشراف عليها، بل هو يعترف بأنّه يتعمَّد تجاهل القرائن والشواهد الواضحة التي تحكم تلك الأجواء، بل ويتعمَّد أيضاً تجاهل بعض العبارات الصريحة الواردة، ليتمكّن من الوصول إلى النتيجة المطلوبة ـ وليست إلاّ تحميل فكر الإنسان الحداثويّ وفرضه على الدين فرضاً ـ.
والملفت هنا أنّ هذا الهدف، وهو هدف الاقتراب من الأجواء التي كانت سائدةً في عصر صدور النصّ، والوصول إلى فهمٍ أفضل لمراد المتكلِّم، ينبغي أن يكون هو الهدف المنشود والمتوخّى، حتّى لأولئك الذين يدعون إلى ضرورة تكوين نظرةٍ تاريخيّة إلى النصوص الدينيّة. وهذا ما يفتقده المثقّفون ودعاة التنوير الدينيّ حين يطرحون نظريّة عصرنة الدين، التي لا تنطلق إلاّ من خلفيّاتهم المسبقة، القائمة على نزع صفة الخلود والغيبيّة عن محتوى ومضمون النصّ الدينيّ.
([29]) مجتهد شبستري، نقدي بر قرائت رسمي أز دين: 168.
([30]) سروش، بسط تجربه نبوي: 135؛ سروش، سياست نامه: 360؛ سروش، آيين شهرياري: 136.
([31]) سروش، آيين شهرياري: 20. هذا وقد تعرَّض سروش مفصّلاً في سائر كتبه ومؤلّفاته، ككتابه «فربه تر أز إيدئولوژي»، إلى الحديث عمّا بين الدين والأيديولوجيا من التنافي والتفاوت.