تسعى هذه المقالة إلى استخراج نظريّة "الطَّلب على المعرفة الدينيّة" ضمن إطار علم الاقتصاد، ولكن من خلال التوجّه الإسلامي. أمّا دراستها دراسة تجريبيّة، فتحتاج إلى مجال آخر. وقد ارتأينا أن نستخدم فيها عبارة "المعرفة" ( Knowledge ) بدلاً من "العلم" ( Science ) الذي يرکّز على العلوم التجريبيّة لتغطيَ دائرة أوسع من "المعارف".
فالمعرفة الدينيّة، بوصفها سلعة استهلاكيّة، ذات قيمة استثماريّة، فكما يمكن للمعرفة الدينيّة أن تحقّق رضا المستهلك وأن تشبع حاجته، كذلك يمكنها أن تزيد من قدرته الوظيفيّة، ومن المردود الاقتصاديّ والاجتماعيّ العائد عليه .
وقد تمّ، في هذه المقالة، استخراج "دالّ الطلب على المعرفة الدينيّة" من خلال تبيين الماهيّة الاستهلاكيّة والاستثماريّة "للمعرفة الدينيّة" في ضوء مناهج البحث العلمي التي توصّلت إليها "المدرسة المؤسسيّة" في علم الاقتصاد( 1).
المصطلحات الأساسيّة: علم الاقتصاد الإسلامي، اقتصاد المعرفة، اقتصاد التعليم، اقتصاد المعرفة الدينيّة، نظريّة الثروة البشريّة، طلب المعرفة، طلب المعرفة الدينيّة.
المقدّمة
إنّ الموارد الاقتصاديّة المحدودة (بشريّة كانت أم مادّية) هي مصادر لتأمين ما لا يعدّ ولا يحصى من الحاجات البشريّة. وتالياً، فعندما يقوم أيّ فرد أو وکالة أو دولة بتخصيص شيء من هذه الموارد لتأمين جانب من تلك الحاجات (كالمعرفة الدينيّة على سبيل المثال) ينبغي أن يتوافر أحد أمرين:
ـ أن يتمكّنوا من إثبات كون الفائدة الناتجة عنه أعظم ممّا يترتّب على الخيارات الاجتماعيّة والاقتصاديّة الأخرى، أو على الأقل مساوية لها.
ـ أن تكون رغبتهم فيه أشدّ من رغبتهم في غيره أو مساوية لها.
وفي حال عدم القدرة على القيام بهذه الموازنة, أو عندما لا يُعمل بمقتضى النتيجة التي يتمّ التوصّل إليها، سيكون السلوك مخالفاً للعقلانيّة (Rationality ) الاقتصاديّة؛ إذْ يقضي المنطق على كلّ من يودّ المشاركة في المراكز التعليميّة أو التحقيقيّة ـ في أيّ مجتمع كان ـ أن يكون قد وصل إلى نتيجة مفادها: أن رغبته في الحصول على تلك المعرفة الدينيّة وكذلك الاستفادة من نتائجها الاقتصاديّة أو الاجتماعيّة , ذات قيمة توازي ما بذله في سبيل تحقيقها مقارنة له بما يبذل في أيّ نشاط آخر؛ سواء كان المبذول موارد بشريّة (كالعمر)، أو مادّيّة (من قبيل التنازل عن دخلٍ محتملٍ أو دفع أجور نقديّة)؛ وفي النتيجة لا بدّ من أن يكون مستعدّاً لدفع قيمة المعرفة الدينيّة بما لا يتجاوز قيمة الرغبة فيها وما يترتّب عليها من فوائد اجتماعيّة واقتصاديّة. ومن البديهيّ، أنّ الطلب على المعرفة الدينيّة، في أيِّ مجتمع من المجتمعات، إنّما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستوى تأثير هذه المعرفة على مقاييس الرغبة والنفع في هذا المجتمع، وذلك بما ينسجم مع نتائج هذه المعرفة من حيث الاستثمار العلميّ (Knowledge)، والمكانة الاجتماعيّة ( Status )، والثروة الاقتصاديّة ( Richness )، والسلطة السياسيّة (Power )؛ وتالياً فإنّ قيمة المعرفة الدينيّة لدى الشعوب التّي ترتبط الاستفادة من مواهب الحياة عندها بتلك المعرفة ستفوق قيمتها لدى الشعوب التي أَسست نظام حياتها على أسس مختلفة. كما نلاحظ أنّ المجتمعات التي يتمتّع أصحاب المعرفة الدينيّة فيها بمنزلة اجتماعيّة راقية، أو فُرص عمل أفضل، أو دخل اقتصاديّ أعلى، تمتاز بزيادة الطلب على هذه المعرفة، وسنلاحظ أيضاً أنّ مقدار ما يخصّصه أفراد هذه المجتمعات من مواردهم البشريّة والماديّة الشحيحة في هذا المجال، إنّما هو تابع بشكل تناسبيّ للقيمة الفعليّة التي تولّدها لهم هذه المعرفة.
إضافة إلى الفوائد الاجتماعيّة والاقتصاديّة المباشرة للأفراد الذين يتمتّعون بالمعرفة الدينيّة، هناك فوائد اجتماعيّة مهمّة تعود بالنفع على المجتمعات البشريّة على اختلافها وتنوّعها؛ وقد لا يلاحظ الأفراد ـ عند حسابهم لمصالحهم الشخصيّة ـ هذه الفوائد بشكل كامل؛ ومن هنا، نجد الدول والحكومات تعمد ـ نيابة عن المجتمع ـ إلى الإسهام في تحقيق هذه الأهداف الاجتماعيّة, وذلك بتخصيص ما لديها من موارد بشريّة وماديّة لتحصيلها، وهي إضافة إلى ما تقوم به من تأسيس مراكز مختلفة ودعوة الأفراد إلى العمل فيها، تقوم كذلك بتسديد نفقاتها .
وفي النتيجة، يمكن لنا من طريق البحث والمعرفة الدقيقين للآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة العائدة على المجتمع، بوصفها نتاجاً لاستثمار المعرفة الدينيّة، أن نعرف السبب في تأكيد الدول وإصرارها على تحصيل تلك المعرفة. ولكن على أيّ حال، سؤالنا الأساسي، في هذه المقالة، هو:
– لماذا يبذل كلّ من القطاع الخاص (أي أفراد الشعب) والقطاع العام (أي الدولة) الموارد الاقتصاديّة المحدودة (المادّية والبشريّة) بغية تحصيل "المعرفة الدينيّة"؟
وفي إجابتنا عن هذا السؤال، نعتقد بأنّ المعرفة الدينيّة تحظى بالقبول لدى المستهلكين كما أنّها تؤمّن لهم مردوداً اقتصاديّاً؛ ولذا يرغب القطاع الخاص (أفراد الشعب) بدفع تكاليف تنظيمها وتأمين فرصتها، كما أنّ الدولة تعمل على دفع تكاليفها لأنّ تمتّع أيّ فرد أو مؤسّسة بها له آثاره الاجتماعيّة (ثمار خارجيّة)، وهي تترك أثراً بارزاً على كيفيّة التوزيع في سبيل تحقيق العدالة، إضافة إلى دورها في إنتاج ثروة اجتماعيّة. ولهذه الأسباب يمكن ـ بل يجب ـ العمل الجادّ في سبيل استثمار المعرفة الدينيّة على تنوّعها، وذلك من طريق التحليل والدراسة الاقتصاديّين, واعتماد آليّات الاستفادة الأفضل, كما يمكننا بطبيعة الحال ـ إذا شئنا ـ العمل على قياس إنتاج المعرفة الدينيّة باعتماد تلك الدراسات، وذلك بغرض تحصيل الحدّ الأقصى من الربح؛ ومن هنا، كانت هناك جملة من الموضوعات تملأ قسماً من فهرس اقتصاد المعرفة الدينيّة أمثال: "إنتاج المعرفة الدينيّة إلى جانب عرضها وطلبها"، و"دور الدولة في عرضها وطلبها"، و"المعرفة الدينيّة والنمو والتنمية الاقتصاديّة"، و"المعرفة الدينيّة والعدالة الاقتصاديّة" وكذلك "المعرفة الدينيّة والأداء الخارجيّ والداخلي".
وتقسم فوائد المعرفة الدينيّة التي يحتّم المنطق على الأفراد والمجتمعات أن يدفعوا تكاليف تحصيلها ونتائجها إلى مجموعات ثلاث: سلع استهلاكيّة، سلع استثماريّة، وسلع عامّة.
استهلاك المعرفة
تلقى المعرفة الدينيّة، بوصفها سلعة استهلاكيّة (Consumption Goods )، رواجاً وقبولاً لدى المستفيدين منها؛ فهي تؤمّن لهم نوعاً خاصّاً من الشعور بالرضا والسعادة في الحياة الفرديّة؛ وتالياً فإنّ الفرد سيكون مستعدّاً لأنْ يدفع قيمتها. ومن هنا، ووفاقاً لهذه النظرة، تصبح المعرفة الدينيّة عبارة عن سلعة استهلاكيّة يستفاد منها بشكل مباشر ونهائي. وعلى سبيل المثال، فإنّ السموّ الأخلاقي، والحيلولة دون الإحساس بالوحدة، والتقليل من الشعور بالخوف تجاه الموت، وتقديم معنى أو هدف متعال للحياة البشريّة، والمنع من الأزمات النفسيّة، والمحافظة على الأخلاق، والسير أو السلوك المعنويّ، والاطمئنان والسكون في الحياة الشخصيّة والاجتماعيّة، والانسجام في الحياة الاجتماعيّة ، ذلك كلّه هو نماذج من الوظائف الاستهلاكيّة للمعرفة الدينيّة، والتي نجد كلّ فرد ـ وخصوصاً من يعتقد بتلك الآثار ـ مستعدّاً لأن يدفع الثمن اللازم بغية تحصيلها.
ومن المتوقع لحجم الرضا والسعادة الناشئين عن المعرفة الدينيّة، في مختلف تلك الجوانب آنفة الذكر، أن يتضاعف كلّما ارتفع مستوى التعليم الديني. فعلاوةً على ذلك، قد يُطلب كلّ مستوى من مستويات المعرفة الدينيّة بوصفه سلعة استهلاكيّة مقدّمةً للمستويات الأعلى منها. وبذلك يمكن لاكتساب المعرفة الدينيّة في المستويات الدنيا أن يكون نوعاً من الاستثمار مقدّمةً للمستويات العليا منها.
وفي اعتقادنا، فإنّ المعرفة الدينيّة، ككافّة السلع الاقتصاديّة الأخرى، هي سلعة استهلاكيّة وثروة استثماريّة في آن معاً؛ فالسيّارة مثلاً يمكن أن تكون وسيلة لرفاهيّة الأسرة، فتكون سلعة استهلاكيّة حينئذ، كما يمكن أن تكون سلعة استثماريّة تؤدّي إلى تحصيل المردود واكتساب الدخل. وكذلك هي المعرفة الدينيّة، حيث يمكن أن توفّر منفعة للمفكّرين والمنتفعين بها، وفي الوقت نفسه يمكن لإمكاناتها الإنتاجيّة وقدراتها الوظيفيّة المختلفة والمتعاقبة أن تضاعف من المردود الاقتصاديّ والاجتماعيّ للمستفيدين منها، وتالياً فهي من هذه الجهة سلعة استثماريّة.
ومن خلال هذا القسم، سيتبيّن السبب في إعراض بعض المستهلكين عن معرفة ما؛ في حين نجد آخرين من ذوي الدخل نفسه يطلبون مقداراً لا بأس به منها . وبصورة عامّة، فإنّ أيّ فرد يمتلك موارد اقتصاديّة محدودة ومعيّنة كالوقت والدخل، ومع ذلك يكون راغباً في الاستفادة من السلع والمنتجات الاقتصاديّة العديدة إلى جانب المعرفة الدينيّة؛ سيكون مجبوراً لأن يحدّد رغبات معيّنة ويخصّص موارده المحدودة في سبيل تحقيقها. وهو يسعى في الحقيقة إلى أن يحصّل أعلى مقدار من رغباته من خلال موارده الاقتصاديّة المحدودة. كما أنّه يعلم جيّداً أنّ اختياره لأيّةِ كلفة إنّما يعني تنازله عن خيار آخر، وكذا هو يعلم أنّ صرفه لأيّ مقدار من الدخل أو الوقت في سبيل التمتّع بأيّ مقدار من المعرفة الدينيّة يجعله مجبراً على ترك التمتّع بثروات أكبر, أو سلع أخرى كان يمكنه الحصول عليها إذا ما صرف عليها ذاك المقدار نفسه من الوقت أو الدخل.
وممّا يساعدنا على فهم سلوك المستهلك هذا, دراسة كلّ من أهداف المستهلك وغاياته، وكذلك فرضيات الاستهلاك، وفي نهاية المطاف عامل الاستهلاك.
أهداف المستهلك
يلاحظ أنّ الاتجاهات و النظريّات المختلفة قد حدّدت للاستهلاك مجموعة من الأهداف:
الأوّل : تحقيق أقصى منفعة
تعدّ المنفعة الشخصيّة، في الاقتصاد الجزئي، الغرض الأوحد لكلّ النشاطات والأفعال الاقتصاديّة؛ وتتمثّل المنفعة الشخصيّة للمنتج بالربح، وللمستهلك بالرضا الحاصل من استهلاك السلع والخدمات الاقتصاديّة؛ ورغم أنّ المصداق الوحيد للمنفعة في النظام الرأسمالي ـ على ما يبدو ـ هو الإشباع المادّي فقط، فإنَّه من الممكن أن نجد لمفهوم المنفعة سعةً وشمولاً أكبر من خلال المسائل الآتية:(2 ).
1-1. حيث إنّ المنفعة الإجماليّة للمستهلك تساوي القيمة الفعليّة لإجماليّ المنفعة في حاضر الفرد ومستقبله، فإنّه من الطبيعيّ أن يكون الهدف من النشاط الاستهلاكيّ لدى الفرد المسلم هو المنفعة الإجماليّة للدنيا والآخرة. ولا يخفى أنّ للمعرفة الدينيّة دوراً فريداً تؤدّيه في بنية الشخصيّة الخالدة للإنسان المسلم، بل إنّ المعيار في إنسانيّة الإنسان متوقّف على مقدار علميّته؛ وذلك كما قال نبيّ الإسلام (صلّى الله عليه وآله وسلّم):
"أَكْثَرُ النَّاسِ قِيمَةً أَكْثَرُهُمْ عِلْماً وأَقَلُّ النَّاسِ قِيمَةً أَقَلُّهُمْ عِلْماً" (الشيخ الصدوق، کتاب من لا يحضره الفقيه : ج 4، ص 394).
وقال الإمام عليّ (عليه السلام) :
"قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَعْلَمُه" (الآمديّ، غرر الحكم ودرر الكلم، 1366: حجري رحلي 6752) .
وبناءً على ذلك، فلن يكون باستطاعتنا أن نقيس دور المعرفة الدينيّة في تحقيق إجماليّ منفعة الإنسان المسلم على أيّ شخص آخر تنحصر حياته بحدود الحياة الماديّة، وتختصّ معرفته في ذلك ولأجل ذلك .
1-2. يبدو من المنطقيّ جداً أن تكون المنفعة شاملة لجميع المتطلّبات المعنويّة والنفسيّة من قبيل العلم والدين أيضاً، إلى جانب المتطلّبات الجسديّة؛ وذلك رغم كون هذه النظريّة موجّهة أساساً إلى المستهلكين، والذين يهتمّون أكثر بإرضاء المتطلّبات الجسمانيّة. وإضافة إلى ذلك، فبناءً على قانون تناقص المنفعة النهائيّة، فكلّما ارتفع مقدار الاستهلاك للسلع التي تشبع المتطلّبات الجسميّة تناقصت الرغبة فيها وتضاءل الطلب عليها؛ وبعبارة أخرى: سيكون المستهلك مستعدّاً لأن يجعل مقداراً أكبر من السلع بديلاً من استهلاك سلع أخرى، وهذا هو المعنى الدقيق لكون منحنى عدم الاختلاف محدّباً؛ وفي المقابل كلّما زاد مقدار الاستهلاك للسلع المعرفيّة التي تُشبع المتطلّبات النفسيّة، نشأت رغبة أعلى في التمتّع بها. فإذا ما طَلَب أحدُ الأفراد كتاباً لإشباع رغبته في معرفة الحقيقة، فعند ذلك لن يقتصر الأمر على عدم تناقص رغبته في الدفعات اللاحقة من الكتب، وإنّما قد تتزايد رغبته في تلك الدفعات، تماماً مثلما قال الإمام عليّ (عليه السلام):
"كُلّ شَيءٍ يَعِزُّ حِيْنَ يَنْزُر إلاّ العِلْم فَإنّهُ يَعِزُّ حِيْنَ يَغْزُر" (المصدر نفسه، ح ر، 6913).
من هنا كان من المستحيل استبدال المعرفة بأيّ سلعة أخرى يمكن أن تنافسها ـ إلاّ إذا كان هناك ضرورة للحدّ الأدنى من السلطة والثروة التي تحفظ الحياة وتؤمّن استمراريّتها ـ وبالطبع فإنّ هذه الخصوصية ناشئة من إحدى الخصوصيّات العامّة لاستهلاك السلع الثقافيّة، وهو ما يعبّر عنه بالاعتياد.
ويشير هذا المفهوم إلى أنّه كلّما كان الاستهلاك الفعلي للسلع الثقافيّة أكبر، زاد استهلاكها في المستقبل، فعلى سبيل المثال: تعدّ الرغبة في سماع الموسيقى المؤثّرة رغبة مكتسبة، بحيث تقوى مع مرور الزمان ومن خلال الاستمرار أكثر فأكثر في الاستماع . وخصوصيّة "الاعتياد في استهلاك السلع الثقافيّة" ناظرة إلى كون الطلب على سلع المنتجات الأخرى يتناقص تدريجياً كلّما زاد استهلاكها، في حين أنّ الأمر على العكس من ذلك في مورد الطلب على المنتجات الثقافيّة؛ أي كلّما زاد استهلاك السلع الثقافيّة كلّما ارتفع الطلب عليها. ومن هنا، إذا كانت أرضيّة المجتمع مهيّأة لأن يستهلك أفراده سلعاً ثقافيّة أكثر، فإنّنا سنجد أنّ خصوصيّة الاعتياد على هذه المجموعة من السلع ستزيد من السلع الثقافيّة في سلّة المشتريات العائليّة؛ وحينئذ عندما تصبح المعرفة عبارة عن استثمار له مردودٌ مادّي (الدخل) أو نوعاً من السلطة والشهرة, سيكون الوضع حينئذ على نحو مختلف، وهو ما سنبحثه في استثمار المعرفة.
1-3. نجد، في بعض الأحيان، أنّه مثلما يشعر الإنسان باللذّة جرّاء استفادته من أيّة سلعة، فهو يمكن أن يشعر بتلك اللذّة كذلك من خلال إعطائه تلك السلعة بعينها للآخرين ليستفيدوا منها؛ ومن هنا نعتقد بأنّ المنفعة الإجماليّة التي يحصّلها الفرد من أيّة سلعة ، هي مجموع المنفعة الناجمة عن استهلاكه لها، أو الناشئة من إعطائها للآخرين. ونتيجة لذلك كثيراً ما نرى الفرد يتحمّل المشقّات في سبيل أن يستفيد الآخرون من المنافع الناشئة عن "المعرفة الدينيّة".
وحقيقة الأمر، تعود إلى أنّه، في هذه الحالة، يكون قد حقّق أقصى منافعه الممكنة، فإذا نظرنا إلى المعرفة من هذه الزاوية نجدها موضوعاً استثنائيّاً غير اعتيادي؛ ذلك أنّ كلّ المادّيات المتوافرة على سطح الكرة الأرضيّة تتّسم بالتناقص عند انتقالها إلى الآخرين، ومن البديهيّ أنّ الإنسان يفضّل دائماً الزيادة في كلّ شيء على النقص، وتالياً فهو يحسّ بأنّ الخسارة قد لحقتْ به جرّاء تلك النقيصة، في حين يُروى عن الإمام عليّ (عليه السلام) أنّه قال :
"الْمَالُ تَنْقُصُهُ النَّفَقَةُ والْعِلْمُ يَزْكُو عَلَى الإِنْفَاق" (الشيخ المفيد، الإرشاد: ج1، ص 227) .
وقال أيضاً :
"أَعْوَنُ الأَشْيَاءِ عَلَىْ تَزْكِيَةِ العَقْلِ التَعْلِيْم" (الآمدي، غرر الحكم، 1366، ح ر 3246) .
ومن الواضح بالطبع أنّه، إضافةً إلى آثار التزايد الذاتي للمعرفة من خلال تعليمها، ينبغي أن يكون هناك أجر دنيويّ وأخرويّ يتمّ الحصول عليه من المعرفة أيضاً .
الثاني : نظريّة الطلب على أساس خصوصيّات السلعة
أبصرت هذه النظريّة النُّور عام 1966م على يد "كلوين لانكستر"، وهي تقضي بأنّ الطلب يرتبط بالخصوصيّات المهمّة للسلعة، لا بالسلعة نفسها. وفي الحقيقة، إنّ أهميّة الوصول إلى مجموعة من الخصوصيّات المهمّة لأيّة سلعة من السلع ـ بما تمثّله بالنسبة للمستهلك ـ هي النواة المركزيّة لهذه النظريّة. أمّا بالنسبة للمعرفة فقد كانت أهمّ خصوصيّاتها ووظائفها في الأزمنة الماضية متمثّلة بالكشف عن الحقيقة والواقع، وقد تبدّلت هذه الخصوصيّة في أيامنا إلى "القدرة على التصرّف في الطبيعة"؛ كما أنّ المعارف الإسلاميّة كانت قد أخذت على عاتقها مسؤوليّة الكشف عن "إرادة الشارع"؛ وذلك إلى ما قبل الثورة الإسلاميّة في إيران، أمّا بعد الثورة الإسلاميّة فأصبحت المسؤوليّة الملقاة على عاتق تلك المعارف هي إدارة حياة الأفراد والمجتمع على أساس إرادة الشارع. (قديرى اصل : ص 83 ؛ حسينى بهشتى : ص 44) .
الثالث : تحقيق المصلحة العليا( 3)
إنّ الهدف من الاستهلاك عند الإنسان المسلم هو إحراز الحدّ الأقصى من المصالح والمنافع، أو تأمين الحدّ الأعلى من الاحتياجات, وذلك في مقابل بلوغ الحدّ الأقصى من الرغبات. وتحقيق المصلحة هو الغاية التي وضعت من أجلها الأحكام الإلهيّة الهادفة إلى تنظيم الساحات والميادين الفرديّة والاجتماعيّة في حياة الإنسان؛ وبعبارة أخرى: فإنّ فلسفة جعل الأحكام الإلهيّة هي "المصلحة"، فهي الفلسفة الكامنة وراء جميع ما ينبغي تحقيقه على الفرد والمجتمع سواء في الحياة الفرديّة أو الاجتماعيّة.
وترى العدليّة (المعتزلة والإماميّة): أنّ الأحكام الشرعيّة التي تتعهّد بتنظيم أفعال الإنسان المسلم، قد جُعلت على أساس المصالح والمفاسد، فالمصلحة والمفسدة تمثّلان العلّة المادّية لوضع القوانين والأحكام الشرعيّة ، وهي المعيار في الأمر والنهي في الشريعة الإسلاميّة .
وقد عرّف بعضهم المصلحة بأنّها جلب المنفعة ودفع الضرر (جعفرى لنگرودی, بى تا: ص 158)، وعرّفها آخرون بأنّها: الحصول على اللذّة أو الوسيلة إلى ذلك، ورفع الآلام أو الوسيلة إلى رفعها (البوطى، ص 27). كما عرّفها الغزّالي بأنّها تأمين هدف الشارع، ورأى أنّ هدف الشارع عبارة عن المحافظة على الدين والحياة الإنسانيّة والعقل والمال (جعفرى لنگرودی: ص 158) .
لماذا نعتقد أنّ بلوغ الحدّ الأعلى من المصلحة هو غاية المستهلك المسلم ؟
كما ذكرنا سابقاً, إنّ التباني العقلائي القاضي بضرورة كون كلّ نظريّة من النظريات منتمية إلى إطار فكريّ مدرسيّ معيّن، هو بعينه يقضي بأن تكون النظريّة مبنيّة على المباني والأسس الرئيسيّة لتلك المدرسة، وأن تتمتّع إلى حدّ بعيد بالقَبول العام منها.
ولقد جعل الغرب حياته بأكملها قائمة على أساس تحقيق أقصى المنافع الدنيويّة والمادّية؛ ولهذا نجد أنّ نظريّة الاقتصاد الجزئي قد أُسّست على ذلك، فهي مبنيّة على أساس محكم ومتين وتتمتّع بالأصالة في الثقافة والفلسفة الغربيّة، ومن هنا كانت ثمارها دائمة متنامية.
أمّا نحن فنعتقد بأنّ بعض المباني والمبادئ والأسس والطرق التي اعتمدت مؤخراً في عمليّة التنظير في ميادين الفكر الديني الجديد، لم تحكم الارتباط بالأصول والأوليّات, بل وحتّى لم تترابط مع المفاهيم الأساسيّة الشاملة .
ويبدو أنّ مفهوم "المصلحة" من أكثر مفاهيم المعرفة الدينيّة أهميّة، وخصوصاً على صعيد الميادين العمليّة في الحياة. كما أنّه وبناءً لنظريّة العدليّة (الشيعة والمعتزلة)، فإنّ كلّ الأحكام الإلهيّة إنّما وُضعت من أجل تحقيق المصالح وتأمينها, وكذا الاحتراز عن المفاسد والابتعاد عنها؛ من هنا، فإذا رأينا أنّ هدف المستهلك هو الوصول إلى الحدّ الأقصى من الانسجام مع الضوابط الإسلاميّة أو الرضا الإلهي أو الثواب الإلهي، فليس ذلك في الحقيقة إلاّ إشارة إلى المصاديق الأساسيّة للمصلحة المتمثّلة بتوأمة الدين مع الدنيا .
وعلى صعيد الفكر الاجتماعيّ الإسلاميّ، فقد وصلت نظريّة "الحكومة الإسلاميّة" عند الإمام الخمينيّ (قده)، في تكاملها، إلى ضرورة جعل مصلحة الحياة الاجتماعيّة هدفاً عاماً وشاملاً لكلّ الأهداف الإسلاميّة الأخرى الناظرة للحياة الاجتماعيّة نظير: العدالة، والرقيّ المعنويّ، والرفاهيّة، وحفظ نظم الحياة، والعزّة والقوّة الإسلاميّة؛ ومن هنا فهي حاكمة وواردة حتّى على الأحكام الأوّليّة للشرع المقدّس؛ وفي النتيجة يمكن لتحقّق المصلحة أن يؤدّي إلى ظهور انسجام أساسيّ قويّ بين غايات الحياة الشخصيّة وأهدافها مع الحياة الاجتماعيّة، بل إنّها تحلّ أيضاً المشكلة الأساسيّة التي تكمن في التعارض والتزاحم المحتمل بين متطلّبات الفرد ومتطلّبات المجتمع .
ومن المناسب الالتفات إلى أنّ الشهيد الدكتور بهشتي (حسينى بهشتى، من دون تاريخ: ص 54 ) قد قسّم أهداف الحكومات إلى ثلاثة أقسام: حكومات تؤمّن مصالح الحُكّام، وحكومات تؤمّن مصالح الناس وميولهم ورغباتهم، وحكومات تؤمّن مصالح الشعوب, ورأى أنّ الحكومات الإلهيّة هي من الصنف الثالث، في حين أنّ الحكومات التي تعتمد الديمقراطيّة الليبراليّة الغربيّة هي من الصنف الثاني. بناءً على هذا التقسيم، يتّضح لنا أنّ الهدف من الحياة الاجتماعيّة الغربيّة هو نفسه ـ وعلى نحو الدقّة ـ الهدف من الحياة الفرديّة، أي: تحقيق الحدّ الأعلى من المنافع والميول والرغبات؛ ومن هنا كان من المنطقيّ جدّاً ـ بل المنسجم مع الناحية العمليّة ـ أن نعدّ الهدف من الحياة الفرديّة والاجتماعيّة في الفكر الإسلاميّ هدفاً واحداً أيضاً؛ وقد انتهت الدراسات في أسس علم الاجتماع الآن إلى أنّ هدف الحياة الاجتماعيّة ليس سوى تأمين المصلحة العامّة. ولذا يمكن بل يتحتّم على أساس هذا المبنى أن نجعل المصلحة الفرديّة هدفاً في الحياة الفرديّة .
كما أنّا نجد في تحليلنا لما هو مشهود, أنّ الإنسان المسلم لا يمكنه أن يجعل المنفعة المادّية الفرديّة وحدها هي الهدف من حياته في الميادين المختلفة، كما لا يمكنه أن يتنازل عن ذلك أيضاً، ولكنّه يسعى إلى تحديد معنى المنفعة والسعي إلى تحقيقها ضمن إطار منظومة من الأصول الاعتقاديّة، والرؤية الدينيّة الخاصّة بالحياة، والأهداف المعنويّة الرفيعة ، والحياة الأخرويّة الخالدة، والمسؤوليّات الاجتماعيّة، ويبدو أنّ هذه الخصوصيّة ليست سوى مفهوم "المصلحة" الموجود في المباني الكلاميّة والفقهيّة في الثقافة الدينيّة.
وعلى أساس من هذه النظرة، سينتفع الفرد المُسلِم بتلك السِّلع والخدمات ذات الأثر في تأمين هدف الشارع أو دفع الضرر الديني أو الدنيويّ، أو كسب المصلحة الدينيّة أو الدنيويّة؛ وتالياً، فإنّ عدم استهلاك المجتمع الإسلامي لأيّ شيء من المعرفة، يعني عدم تحصيل المصالح أو عدم إشباع الإنسان المسلم من احتياجاته الواقعيّة التي يكتسبها من طريق تلك المعارف. ينبغي على المجتمع الإسلامي أن لا يميل ـ بأيّ شكل من الأشكال ـ نحو المعارف التي لا تزيد من ثروة الفرد أو المجتمع الإسلامي، كما عليه أن يعزف عن المعارف التي لا تؤدّي إلى تقوية الحسّ الديني لدى المسلم مهما كانت وفيرة وواسعة، ومثلها المعارف التي ترتكز أصولها على أسس تؤدّي إلى إضعاف النشاط العقليّ للفرد المسلم وتعطيله، أو ما يكون نتاجاً للعقلانيّة المفسدة للنظام الأسري. ومن البديهيّ أنّ من وظيفة الفرد والمجتمع الإسلاميّين أن يعنيا بإنتاج المعارف المناسبة لتأمين حاجاتهما الواقعيّة وتوفيرها. أمّا الموارد الآتية التي عُدَّت غاية للمستهلك المسلم، فيبدو أنّها مندرجة هي الأخرى ـ بنحو أو بآخر ـ تحت عنوان تحقيق المصلحة العليا, وهي:
أ. يسعى الإنسان المسلم ـ باذلاً قصارى جهده ـ إلى جعل جميع تصرّفاته الاستهلاكيّة منطبقة مع الضوابط الإسلاميّة، وهذه هي نظريّة "صدّيقي" التي تتحدّث عن هدف المستهلك المسلم، وعلى أساس هذه النظريّة نجد أنّ زيادة الطلب على المعرفة أو المعارف الإسلاميّة من قبل أفراد المجتمع الإسلامي, إنّما تؤدّي إلى جعل الأرضية مهيّأة للوصول إلى الحدّ الأقصى من التطابق بين تصرّفات المسلم والضوابط الإسلاميّة.
ب. لا ينحصر طلب الفرد المسلم، أو المجتمع الإسلاميّ، على السلع والخدمات بغرض تأمين احتياجاته الشخصيّة فحسب، بل يقترن سلوك الإنسان المسلم أساساً مع الإحسان إلى الغير، فإنّه بغية تحصيله على اللذّة من طريق تخصيص بعض إمكاناته أو دخله أو وقته يكون ملزماً بتأمين منافع الآخرين واحتياجاتهم أيضاً، تماماً كما يحدث حين يُؤمّن مصالحه واحتياجاته. والعدالة تقتضي أن لا تؤدّي التصرّفات الاستهلاكيّة للمسلم إلى إلحاق أيّ ضرر بالآخرين، فالإحسان يقضي أن تُكسب الآخرين نفعاً؛ وفي النتيجة عليه احترام الأولويّات الاستهلاكيّة للآخرين، وإذا ما كان لديه دخلٌ مرتفعٌ، فمن الممكن أن يقلّل من مقدار طلبه على السلع الخاصّة به لصالح الآخرين، وفي بعض الأحيان ولهذا السبب نفسه قد يدفع الفرد المسلم الكلفة اللازمة لتمتّع الآخرين بالمعرفة الدينيّة .
ت. يهتمّ الإنسان المسلم بأنْ تؤدّي كلّ تصرّفاته وسلوكيّاته ـ ومن جملتها استهلاك المعرفة ـ إلى تحقيق الحدّ الأقصى من الرضا الإلهي والقرب من الله عزّ وجلّ. وأحياناً نرى أنّه يحسّ بإمكانيّة تحصيل رضا أكبر لله عزّ وجلّ من خلال صرف عمره وأمواله (دخله) في الإفادة من حملة المعارف.
ث. يُعدّ الكمال المعنويّ والتعالي الأخلاقيّ واحداً من المتطلّبات الأخرى التي يرغب الفرد المسلم في أن يحصّل أقصى درجاتها. ولكن ما هو الدور الذي تؤدّيه المعارف الموجودة في هذا الصدد واقعاً؟ (دفتر همكارى حوزه ودانشگاه , 1376: ص 42).
الفرضيّات
لا يخفى أنّ فرضيّات أيّة نظريّة من النظريّات, إنّما هي بمثابة أدوات أخرى، يمكن العمل بمساعدتها ومن خلالها ـ ضمن المساحة الجغرافيّة لتأثير تلك النظريّات ـ على فهم الواقع الخارجي وإدراكه وتقديم التكهّنات في شأنه:
الأوّل: ارتكازاً إلى إحدى فرضيّات الأنثروبولوجيّة في علم الاقتصاد الجزئيّ، لا بدّ لأيّ مستهلك افتراضيّ أن يتصرّف بنحو عقلائيّ، والتصرّف العقلائيّ يعني أن يسعى المستهلك إلى تحصيل المنفعة القصوى والمصلحة العليا ـ بما هما هدفان للاستهلاك ـ وذلك مقابل ما يدفعه وينفقه في استهلاكه وشرائه للسلع والخدمات المختلفة والتي من جملتها المعرفة؛ وتالياً، إذا حصل ـ من خلال تخصيصه لقسم من موارده الاقتصاديّة بهدف الاستفادة من أيّة سلعة أخرى غير العلم ـ على مصلحة أكبر متناسبة مع ما بذل فإنّه سيُعرض بذلك عن تحصيل العلم .
فالمنفعة والمصلحة الناشئتان من الاستفادة من شيء ما هما مرتبطتان بأثر ذلك الشيء في تحقيق الأهداف المعيشيّة للفرد، وإذا كان هدف الفرد هو الحصول على اللذة الدنيويّة لا غير، فمن البديهيّ أن يكون ما يؤدّي إلى تحصيل لذّة أعلى من السلع هو الأكثر رواجاً ونفعاً؛ ومن هنا ، فالمنفعة الناشئة عن الاستفادة من وحدات جديدة وإضافيّة من المعرفة تتوقّف على دورها في تحصيل اللذة في الحياة المادّية الدنيويّة. لكن من البديهي أيضاً أنّ المسلم الإيرانيّ هو في صدد الوصول إلى الحدّ الأقصى من النفع الدنيويّ والأخرويّ في آنٍ واحد، ولذا فهو يطلب المعرفة التي تساعده في مسيرته هذه.
الثاني: بناءً على فرضيّة أنثروبولوجيّة أخرى في الاقتصاد الجزئي، فإنّ كلّ مستهلك يمتلك المعلومات الكافية عن جميع السلع الاستهلاكيّة، مثل: عدد كلّ سلعة وتنوّعها وقيمتها. فالمستهلك يعرف مستوى رغبته ورضاه الناشئين من استهلاكه لكلّ سلعة، وكذا الحال بالنسبة لموارده الاقتصاديّة.
وعندما يريد أيّ فرد مسلم ـ في أيّ حال من الأحوال ـ أن يُرجّح "طلب شيء غير العلم" على "المعرفة" فهو يجعل نفسه في مواجهة مع هذا السؤال القرآني: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ والَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الزمر "39"، الآية : 9)، وهذا السؤال الأساسي إنّما يتضمّن هذه المعادلة الواضحة، وهي أنّ التمتّع بأيّ شيء غير العلم لا يمكن أن يوازي القيمة المتنازل عنها من أيّ مقدار من العلم مهما كان صغيراً جداً؛ يعني: عندما يرغب الإنسان في التنازل عن مقدار من العلم, فحتّى لو كان ذلك ضئيلاً بالنسبة لما يحصل عليه من المنتجات غير العلميّة ـ حتّى وإنْ كانت ضخمة جدّاً ـ فإنّ اختلال ميزان التساوي يكون قد لحق به .
وبناءً لنظرة المعارف الدينيّة، يعدّ العلم هو المعيار في الإنسانيّة؛ أي: كلّما ازداد الإنسان علماً تزداد إنسانيّته بذلك المقدار على وجه الدقّة: "قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يَعْلَمُه" (الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، 1366: ح ر 6752)، وكذلك "أَكْثَرُ النَّاسِ قِيمَةً أَكْثَرُهُمْ عِلْماً وأَقَلُّ النَّاسِ قِيمَةً أَقَلُّهُمْ عِلْماً" (الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه : ج 4 ، ص 394) .
ومن الطبيعي والبديهي أنّ الإنسان كلّما ازدادت إنسانيّته، يحصل على لذّة أعلى من الحياة الإنسانيّة؛ إلاّ إذا هبطت به لذّته لتصبح حياته غير إنسانيّة. وعند ذلك ينبغي على الإنسان المسلم أن يتخيّر بين أمرين: بين "العلم والمنتجات العلميّة" و"السلع، والأموال والمنتجات الأخرى"، وعليه أن يعلم بـ "أنّ الله سُبْحَانَهُ يَمْنَحُ المَالَ مَنْ يُحِبُّ ويَبْغَضْ، ولا يَمْنَحُ العِلْمَ إلاّ مَنْ أَحَبَّ" (الآمدي، غرر الحكم ودرر الكلم، 1366: ح ر 3532) .
على ضوء التحليل الحكميّ للمعارف الدينيّة، فإنّ جميع المنتجات والسلع غير العلميّة تتناقص بالاستهلاك، حتّى تنفد وتنعدم في النهاية؛ بينما إذا أنفق الإنسان قيمة استفادته من مقدار معيّن من العلم من خلال تنازله عن استفادته من سلع أخرى، فهو أوّلاً: سيتمتّع بذلك المقدار من "العلم" الخالد، وثانياً: في كلّ مرّة يستخدم ذلك العلم فهو يزيد من مقداره؛ ذلك لأنّه ليس فقط في كلّ مرّة يستخدم علمه، فهو من الناحية المنطقيّة والعمليّة يزداد بسبب تعميقه وإحكامه, وكذا تعميمه وتوسيع دائرته ليصبح أكثر شمولية للموارد الخاصّة، بل إنّ العلم يفنى وينعدم إذا لم يُستخدم: "العِلْمُ لا يُفْنِيهِ الاقْتِبَاسُ، لِكِنَّ بُخْلَ الحَامِلِينَ لَهُ سَبَبُ عَدَمِهِ" (المصدر نفسه، ح ر 3520)، وأيضاً: "كُلُّ شَيْءٍ يَنْقُصُ عَلَىْ الإِنْفَاقِ إِلاّ العِلْم" (المصد نفسه، ح ر 6888) .
ويجيبنا الإمام عليّ عن السؤال عن تفاضل العلم والمال بأنّ العلم خير من المال لأنّه يزكو على الإنفاق (الكراجكي، 1364 : ص 318 ).
وفي ضوء هذه الحقائق المشرقة, فأيّة استفادة من أحد العلوم حتّى وإن كانت قليلة فهي في الحقيقة مضاعفة لا نهاية لها, وهي طريق لبلوغ علوم أخر، حيث لا ينتهي توالد العلم وتكاثره إلى حدّ، كما ورد في التعبير القرآنيّ: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ (يوسف، (12)، 76).
أو كما يشير الإمام عليّ:
"العلم لا ينتهي" (الآمدي، 1366 ح ر 1054)، أو قوله: "شيئان لا تُبلَغ غايتُهما العلم والعقل" (المصدر نفسه: ح ر5768): ولا شكّ في أنّ بإمكاننا الوصول في هذه الدنيا إلى نهاية كلّ شيء خلا العلم؛ وذلك أنّه مع كلّ استفادة جديدة منه يتولّد علم جديد، وكلّ علم حين يُكتسب فهو علم واحد لا أكثر؛ ولكنّه ومع كلّ استخدام لحلّ معضلة مّا سيتحوّل إلى علم آخر وسيتضاعف بعدد ما يُطرح من تساؤلات وإجابات، وما يقدَّم من محاولات جديدة للسؤال والإجابة؛ ولذا فإن تكن للمستهلك معرفة وافية بقيمة العلم ونفقاته، وخبرة وافرة بقيم سائر السلع والخدمات الاقتصاديّة ونفقاتها، فسيمكّنه ذلك من القيام بعمليّة تصنيف وترتيب لهذه السلع مقايساً بعضها إلى بعضها الآخر، وعلى سبيل المثال، وارتكازاً إلى ما تحقّقه كلّ سلعة من المنفعة والرضا والمصلحة, فسيضطلع المستهلك بالقدرة التي تؤهله للقيام بعملية تصنيف لهذه السلع الآتية: إجازة في الأدب A ، مقدار من الدخلB ، مقدار من الرفاهية C ، مقدار من الخبرة الفنيّة في ميكانيك السيارات D ، ومستوى من المكانة السياسيّة E ، وفي النهاية قد يرجّح إحدى هذه السلع على الأخرى، كما قد لا يميّز بين اثنتين منها أو أكثر. ولا شكّ في أنّ المستهلك العاقل سيفضّل الكميّة الأكبر من كلّ سلعة على الكميّة الأقل من السلعة نفسها (ولا يخفى أنّ للعلم من بين جميع هذه الخيارات دوره الفريد في بلورة السلوك الاقتصاديّ في الاستهلاك الأمثل) .
دالّ الطلب
إنّ الأدوات الأساسيّة التي لا بدّ منها للقيام بعمليّة تحليل "دالّ الطلب" هي المفاهيم الآتية: المنفعة النهائيّة، النفقة والدَّخل. فالمنفعة النهائيّة من "المعرفة" و"المعرفة الدينيّة" هي عبارة عن إحداث تغيير في رضا المستهلك على أثر تغيير محدود يطرأ على الاستفادة من تلك المعرفة. ولكي يختار الفرد قدراً أكبر من "المعرفة" و"المعرفة الدينيّة"، وفي النتيجة لينتخب قدراً أقلّ من السلع الأخرى (نظراً إلى انحصار الموارد الاقتصاديّة بينها)، لا بدّ من أن تكون منفعته الناتجة عن هذا المستوى من المعرفة والمعرفة الدينيّة أكثر من منفعته الناتجة عن السلع الأخرى المساوية لها في القيمة، وكذا لا بدّ من أن تكون خسارته لها أعظم من خسارته لسواها؛ نعم على أساس ما تقدّم من عناوين، فإنّ المصلحة النهائيّة في الرؤية الإسلاميّة هي المفهوم البديل عن المنفعة النهائيّة.
والآن كيف يمكن أن نحدّد نقطة التوازن الاقتصادي للطلب على المعرفة الدينيّة في ضوء نظريّة الاستهلاك؟
وتبسيطاً للمسألة لنفترض أن المستهلك يواجه سوقاً تحتوي سلعاً ثلاثاً: العلوم غير الدينيّة التي نسمّيها اختصاراً k ، المعرفة الدينيّة التي نطلق عليها اختصاراً rk ، وسلعاً اقتصاديّة أخرى نسمّيها g، ونحن نعلم أنّ كلّ فرد يسعى في عمليّة بحثه عن الأفضل إلى رفع مستوى القيمة العقليّة ـ أو ما يعبّر عنه بالمنفعة الناتجة عن استهلاكه لكلّ واحدة من هذه السلع الثلاث ـ إلى حدّها الأقصى، وهو ما يتحقّق في حالة يمكن التعبير عنها في المعادلة الرمزيّة الآتية: mug/pg = murk/prk = muk/pk أو
ونرمز بـ ( muk ) إلى القيمة العقليّة والمنفعة والرضا أو المصلحة الناتجة عن استهلاك آخر وحدة من "العلوم غير الدينيّة"، وكذلك نرمز بـ ( pk) إلى نفقتها. ونرمز بـ (murk ) إلى القيمة العقليّة والمنفعة والرضا أو المصلحة الناتجة عن استهلاك آخر وحدة من "العلوم الدينيّة"، ونرمز إلى نفقتها بـ ( prk ). وكذا بـ (Mug ) إلى القيمة العقليّة والمنفعة والرضا أو المصلحة الناتجة عن الاستهلاك الأخير لسائر السلع، وبـ (pg ) إلى نفقتها؛ لذا ففي نقطة التوازن الاقتصادي ـ والتي تعدّ كذلك من وجهة نظر الاقتصاد الجزئي أيضاً ـ فإنّ المستهلك سيخصّص مصارفه بما يساوي بين السلع كلّها في المنفعة أو المصلحة النهائيّة الناتجة عن كلّ ريال أنفِق في استهلاكها. أما إذا افترضنا ـ لسبب أو لآخر ـ أنّ المستهلك لم ينطلق من نقطة التوازن هذه، فسوف تتحقّق هذه المعادلة على النحو الآتي مثلاً :
murk / prk " muk / pk " mug / pg
(وهي الوضعيّة التي يرى الكاتب ضرورة أن تكون مسيطرة على المنحى الاستهلاكيّ في المجتمعات الإسلاميّة بشكل عام، والمجتمع الإيراني بشكل خاص). وتعني هذه الوضعيّة أنّ الريال الأخير الذي ينفَق في سبيل "المعرفة الدينيّة" سيحصّل منفعة أو مصلحة نهائيّة تفوق ما يحصل من الريال الأخير الذي ينفَق من أجل "سائر العلوم والمعارف"، وكذلك الريال الأخير الذي ينفَق من أجل "سائر العلوم والمعارف" سيحقّق منفعة أو مصلحة نهائيّة تفوق ما يحقّقه من ذلك الريال الأخير الذي ينفَق على سائر السلع الاقتصاديّة؛ لذا فإنّ التخصيص الجديد لريال واحد من نفقات الفئة g لـلفئة k ، ومن نفقات هاتين الفئتين لـلفئة rk ، سيزيد من المنفعة أو المصلحة العامّة لدى المستهلك. لكن ـ ومع القيام بهذه العمليّات التبادليّة، ونظراً إلى شمول قانون تنازل المنفعة النهائيّة لمنافع العلوم والمعارف الدينية (وليس على عامل منفعة الدين) ـ هل ستتحقّق في النهاية وضعيّة التوازن تلك؟
والإجابة عن هذا السؤال ستكون سالبة؛ وذلك لعجز قانون تنازل المنفعة النهائيّة عن بيان وضعيّة استهلاك العلم، فالمنفعة والمصلحة النِّهائيّتان للعلم هما في تصاعد مستمرّ، في حين أنّ ذلك القانون هو نتيجة طبيعيّة لإمكان وصول الإنسان إلى حال من الإشباع في استهلاكه لسائر السلع الاقتصاديّة؛ أمّا استهلاك العلم ـ كما ورد في بداية المقالة ـ فلا يمكن أن يصل إلى حدّ الإشباع؛ فالرغبة في القطعة الثانية من الخبز ـ بناء على ذلك القانون ـ هي أقل من الرغبة في القطعة الأولى منه؛ حيث إنّ حاجة الإنسان للخبز وقدرته على استهلاكه محدودتان، ومع الاستهلاك المتتابع للخبز فإنّ مؤشّر حاجة الإنسان إليه وقدرته على استهلاكه سيتوجّهان نحو الصفر، أمّا حاجة الإنسان إلى العلم, وكذا استعداده لاكتسابه, فإنّهما غير محدودين؛ ذاك أنّ صيرورة الإنسان ـ ذلك الكائن اللامتناهي ـ أكثر إنسانيّة, لهي حركة متناسبة مع مدى استفادته من العلم. ومن هنا، كان الإنسان اللامتناهي هو نتيجة للعلم اللامتناهي؛ لأنّه لا يمكن لأيّ معلوم يحتاجه الإنسان ويمتلك القدرة على إدراكه أن يشغل مكانه من عقله, ما لم يكتسب العلم السابق عليه؛ لذا فإنّ كلّ معلوم هو بمثابة الوحدة الأولى من سائر السلع الاستهلاكيّة. يقول الإمام عليّ:
"كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه إلاّ وعاء العلم فإنّه يتّسع".
فليست القضيّة بحيث يكون العلم الذي يحتلّ مكاناً في نفس الإنسان لا يقلّل من قدرته على استقبال علم آخر فحسب، بل إنّ العلم الذي يشغل مكاناً في النفس سيضيف إليها سعة أكبر؛ إذْ من المبرهن عليه أنّ "العقل" بما هو وعاء للعلم و"العلم" كلّ منهما يعمل على تنمية الآخر.
فكلّ جديد من العلم هو عامل يوجب ازدياد العقل ونموّه، وذلك بوصفه الوعاء الخاص بإنتاج العلم في نفس الإنسان، كما لا ريب في أنّ العقل من خلال تأمّلاته يضيف على الدوام إلى المخزون العلميّ لدى الإنسان. لذا فليس هناك شيء من العلم يحتلّ مكان شيء آخر منه، بل هو يفسح مكانا جديداً لاستضافة علم جديد؛ إذاً فكلّ نوع من العلم يخلق نوعين من المنفعة والمصلحة: أولاً: المصلحةَ والمنفعة النَّاتجتان عن الاستفادة من العلم نفسه. وثانياً: المنفعة والمصلحة الناتجتان عن خلق حاجة جديدة وإيجاد قدرة جديدة على الاستفادة من أنواع أخرى من العلم؛ ولذا، كلّما استمرّ الإنسان في التنعّم بالعلم سيتكامل بشكل تصاعديّ نحو اللانهاية. وارتكازاً إلى هذا المنطق ننتهي إلى أنّ العلم سلعةٌ لا بديل عنها مطلقاً، وأنّ سائر السلع الاقتصاديّة ستكون مجرّد سلع ثانويّة تساعد العلم . فالإنسان محتاج لتحقيق الاستفادة من العلم إلى حدّ أدنى من الثروة والسلطة والمكانة الاجتماعيّة؛ وهكذا فليس هناك أيّ من الممتلكات الإنسانيّة ذات القيمة الاقتصاديّة يمكنها عقلاً أن تعدّ بديلةً عن العلم. وبعبارة أخرى، سيتمتّع العلم في نظريّات الاستهلاك الاقتصاديّة ومفاهيمه بمنزلة فريدة تجعل منه سلعة لا بديل عنها، وستكون سائر الممتلكات الإنسانيّة من قبيل الثروة والسلطة مساعدة له، وكلّما رفع الفرد من مستوى استهلاك هذه السلع المساعدة ـ سواء بسبب انخفاض نفقات الاستفادة من العلم أم بسبب زيادة الدخل ـ تحرّك منحنى التوازن بسرعة متزايدة في موازاة محور العلم، وبسرعة متضائلة في موازاة سائر المحاصيل الاقتصاديّة؛ وفي النتيجة فإنّ حركة منحنى (الدخل ـ الاستهلاك) وكذا منحنى (النفقة ـ الاستهلاك) ستُضاعِف من حركة الاستهلاك في موازاة محور العلم؛ ومن هنا سيزداد تدريجياً "منحنى أنجل" وكذلك الطلب على العلم والذي يضاعف من استهلاكه بشكل تدريجيّ. وفي النهاية فإنّ العلم في المستويات الاستهلاكيّة المزدهرة سيصبح سلعة في غاية الأهميّة، ولا شكّ في أنّ ذلك لا ينفي حقيقة كون العلم ـ مقارنة بسائر السلع الاقتصاديّة ـ في النقاط القريبة من الصفر سلعة ضروريّة أيضاً؛ وفي النتيجة سيكون انحدار مؤشّر الطلب و"منحنى أنجل" لقياس الطلب على العلم على هيئتيهما في الإشارة إلى السلع الضروريّة، وكذلك بعد تغيير إيجابيّ بسيط يظهر في استهلاك العلم ستبرزُ قيمة العلم أيضاً.
رأسمال المعرفة
يعدّ تحصيل الإنسان للمعرفة الدينيّة نوعاً من الاستثمار، فهي تتّخذ منحى استثمارياً عندما تبعث على تغييرات مستقبليّة في أحوال الإنسان وظروفه. ومن هنا ينظر كلّ فرد إلى تحصيل المعرفة الدينيّة كاستثمار حينما تعود بأثر إيجابيّ على قدرته في اكتساب منافع أخرى، ومن العائدات الدنيويّة للمعرفة: المكانة والموقعيّة الاجتماعية، الدخل والسلطة السياسّية. أما تحصيل الثواب الأخرويّ فإنّه يمثّل مردودها القيّم والذي لا نهاية له، حيث تعدّ المعرفة استثماراً مهمّاً له في حدّ نفسه، كما أنّه يكسبها قيمة استثماريةً من زاوية أخرى، حيث تتأثّر المنفعة الناشئة عن المستويات العليا من هذه المعرفة وثوابها بتحصيل مستوياتها الدنيا، فالمستويات الدنيا منها حينئذ هي استثمار ضروريّ ومقدّمة للاستثمار في المستويات العليا .
يختلف مقدار ما تنتجه المعرفة الدينيّة من منافع وشعور بالرضا، وكذا النتائج الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة المنبعثة عنها فهي متفاوتة بين فرد وآخر، ومتفاوتة بين ثقافة وأخرى، ومن مجتمع إلى آخر ومن قوميّة إلى أخرى، وكلّما ازدادت منافعها وسائر نتاجاتها في دولة مّا وتفوّقت بها على سائر الدول، أمكن جعل المعرفة الدينيّة في الدولة المتفوّقة أكثر اقتصاديّةً؛ لذلك فإنّ حجم استثمار المعرفة الدينّية سيتأثّر بقوّة بالمؤسّسات الاجتماعيّة كالدولة والحكومة والعائلة، والمؤسسات الدينيّة، والتربويّة والتعليميّة، فضلاً عن تأثّره بالآثار العكسيّة لنفقات الموارد الإنسانيّة والماديّة المستخدمة فيها، وكذلك الآثار المباشرة لمداخيلها الاقتصاديّة المختلفة كالدخل و.. . فجميع هذه المؤسّسات يمكنها أن تؤثّر في استثمار المعرفة الدينيّة سواء كان أثرها واحداً أم متنوعاً؛ وعلى أيّ حال، فهذا هو الاتجاه الجديد الذي اتّخذته "المدرسة المؤسسيّة"(4 ) وخصوصاً الجديدة في تحليل النشاطات والظواهر الاقتصاديّة. ومن البديهي أنّ الفهم الدقيق لهذا الموضوع يرتبط بالدراسات التجريبيّة التي طرحت في هذا المضمار في مختلف المجتمعات.
ماهيّة الثروة البشريّة ومفهومها
تشير الثروة البشريّة في الحقيقة إلى الخصائص الكيفيّة للإنسان وإلى نوعيّة قدراته وإمكاناته الإنتاجيّة. ومن هذا المنطلق فإنّ كلّ ما يضاعف من إبداع الإنسان وقدرته على الإنتاج وذلك بالتغيير في خصائصه الكيفيّة فهو استثمار بشريّ، وهكذا يشمل هذا المفهوم كلّ ما يؤمّن عنصر السلامة لتلك القدرات. لذا فإنّ التعليم، الصحة الجسديّة والنفسيّة، الغذاء، ظروف الحياة والعمل، المسكن، التأمين، اللباس، أوقات الفراغ، الراحة النفسيّة، والحريّات الشخصيّة هي من أبرز موارد الثروة والاستثمار البشريّين. غير أنّ المدرسة التقليديّة الجديدة(5 ) تحصر الثروة البشريّة ومصاديقها ـ في مقابل الثروة الماديّة ومصاديقها ـ بالأدوار والنشاطات البشريّة المختلفة التي يشهدها واقع النظام الاقتصاديّ من الإنتاج والربح ومستوى الدخل والتوزيع والرفاهية، ذلك كلّه على صعيد الاقتصاد الجزئي، أمّا على صعيد الاقتصاد الكليّ فهي تشير إلى التطوّر، العدالة والتنمية. إذاً وانطلاقاً من هذه النظرة، وبدلاً من الاعتبار المستقلّ والموضوعيّ للخصائص الكيفيّة للإنسان فإنّ اعتبار المداخيل المختلفة ذات القيمة الاقتصاديّة هي ما تهتمّ به تلك المدرسة. كما أنّ الإمام عليّ يقول :
العلم أجّل بضاعة (الآمدي، 1366 : ح ر612).
لا كنز أنفع من العلم (الشيخ الصدوق، ج4، ص406).
العلم أعظم كنز (الآمدي، 1366 : ح ر620).
غنى العاقل بعلمه (نفسه: ح ر 10458).
وثروة العاقل في علمه وعمله (نفسه، ح ر638).
تفيد هذه الكلمات أنّ شرط كون العلم أكبرَ ثروة إنّما يرجع ذاتاً وأساساً إلى عقل صاحبه؛ لذا فأولئك الذين لديهم القدرة اللازمة على المعادلات الحسابيّة وفنون الجبر، ومهارة التحليل والتركيب لما يواجهونه في حياتهم, سيعدّ العلم بالنسبة لهم أثمن كنز وأكبر ثروة.
لا بدّ من البحث عن السرّ في كون العلم إحدى الثروات ـ بل الثروة الأربح ـ وذلك باستقصاء ما ينتج عنه من آثار اقتصاديّة؛ ولكن هل الثروة البشريّة في الواقع هي كالثروات الماديّة ذات الآثار والنتائج الاقتصاديّة المهمّة؟
تشير الدراسات التي أجريت على جميع دول العالم، منذ ما يقارب نصف قرن، وبالخصوص على الدول النامية أنّ نتائج الاستثمار البشريّ ـ وتحديداً العلميّ ـ تفوق نتائج الاستثمار الماديّ. وعلى أيّ حال، يمتاز الاستثمار البشريّ عند أصحاب هذه النظرية بميّزتين أساسيّتين: تتمثّل الأولى بزيادة هذه الاستثمارات من قدرة الإنتاج لدى الأفراد الخاضعين للتعليم (وذلك جرّاء التعليم)، وتتمثّل الثانية بأنّ الأفراد يؤدّون هذا الاستثمار البشريّ بهدف الفوائد المستقبليّة، وعلى هذا الأساس تخصّص الدول ميزانيّة كبيرة للاستثمار الإنساني كالتعليم، كما تسعى الأسر والأفراد إلى هذا النوع من الخدمات، وكذلك تولي المؤسّسات الاقتصاديّة اهتماماً كبيراً بسياسات التنمية للثروة البشريّة. ولا يخفى أنّ هدف هذه الفئات الثلاث من ذلك ليس واحداًً.
ففي حين تسعى الأسر والأفراد إلى نتائج مستقبليّة كالدخل، السلطة السياسيّة، المكانة الاجتماعيّة، المعرفة والتكامل الإنسانيّ، ترى الدولة أنّ تحقيق التنمية والتطوّر هو الهدف المرجوّ من استثمارها، وكذلك هي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في المجتمع، بينما تعمل المؤسّسات الاقتصاديّة على استثمار القدرات البشريّة لما يتبع ذلك من أرباح. وهنا يحسن الالتفات إلى المسائل الآتية:
1. كلّما كثر الوقت المستهلك في اكتساب الأفراد للمعرفة الدينيّة تضاعفت فوائده المستقبليّة. وبما أنّ الأفراد يسعون إلى زيادة القيمة الفعليّة للفوائد الناتجة عن أيّ نشاط اقتصاديّ إلى أعلى حدّ ممكن، فستبرز في هذا المجال أهميّة خاصّة للاستثمار العلميّ في بلورة وجهة سير الإنسان الاقتصاديّة وتحديدها.
2. يستثمر العقلاء (أفراداً، أسراً ومؤسّسات اقتصاديّة) من أجل التعليم إلى الحدّ الذي تتضاعف عائداته النهائيّة قياساً إلى نفقاته النهائيّة.
3. يمتلك الشباب في أنفسهم دافعاً أقوى نحو الاستثمار؛ فبإمكانهم أن يحصّلوا عائدات استثمارهم على مدى أبعد؛ وممّا لا شكّ فيه أنّ التعلّم في مرحلة الشباب هو أفضل وأيسر، وتالياً فإنّ كلفته أقلّ.
4. تستثمر المؤسّسات والجمعيّات ـ في الأوضاع الطبيعيّة ـ علوماً يستبعد نقلها عادة؛ ولذا فإنّها تسعى إلى الاستثمار في حقل التخصّص الذي تحتاجه. وفي غير الأوضاع الطبيعيّة فإنّها ومن خلال نقلها للثروة البشريّة كأنمّا تقوم بالإنفاق لصالح الآخرين.
وعموماً، فقد قدّمت في مجال العائدات الاقتصاديّة للاستثمار البشريّ في مجال التعليم دراساتٌ تجريبيّةٌ مفصّلة ذات نتائج مقنعة نسبياً. وإحدى الدراسات القيّمة التي ضمّت أبحاثاً عديدة دراسة لـ (ساخار وبولس) صدرت للمرة الأولى عام 1973، ثمّ شاعت وذاع صيتها خلال الأعوام: 1985، 1994، 2002.
تؤيّد معطيات هذه الدراسة ونتائجها نظريّة الثروة البشرية؛ وذلك ما يظهر من خلال ما يأتي:
1. لقد قدّر مستوى الدخل الناتج عن الاقتصاد الخاصّ بالتعليم بما يزيد على المعدّل الطبيعيّ للدخل الاقتصاديّ الناتج عن الاستثمار المادي.
2. غالباً ما يفوق الدخل الاقتصاديّ الناتج عن القطاع الخاصّ الدخل الاقتصادي الناتج عن القطاع العام، وذلك بسبب الدعم على التعليم العام وعدم الالتفات إلى فوائده الاجتماعيّة.
3. إنّ مستوى المردود الاقتصادي للتعليم في الدول المتطوّرة أعلى ممّا هو عليه لدى الدول النامية.
4 . إنّ مستوى الدخل الاقتصادي الناتج عن الاستثمار التعليميّ لدى النساء هو أكثر ممّا هو عليه لدى الرجال.
5 . الدخل الاقتصادي الناتج عن التعليم الابتدائي العام يفوق دخل التعليم الجامعيّ.
والآن، وفي ضوء هذه الرؤية، ما هو واقع المعرفة الدينيّة؟
وكأنّ المعتمد في دراستنا حتّى الآن هو أسس "نظريّة الثروة الإنسانيّة"، والتي تعتمد الاستثمار وتعزيز الإمكانيّات والقدرات الإنتاجيّة للاستثمار البشريّ. ولكنّ هذه النظريّة تعرّضت لمنافسين حقيقيّين كأمثال نظريات "كينث اروو"، "ستغلينتز" و"سبينس".
والوجه المشترك بين هذه النظريّات هو التشكيك في إمكان الاستفادة من الاستثمار البشريّ كالتعليم. فهي ترتكز على الاعتقاد بامتلاك الأفراد لقدرات متفاوتة منذ ولادتهم، وبما أنّ هذه القدرات لا يمكن ملاحظتها، فلا يمكن التمييز بين القادرين والعاجزين، لذلك لا بدّ من سبيل لمعرفة القادرين على تولّي الوظائف والأعمال والمناصب المناسبة. والاستثمار البشريّ كالتعليم هو الذي يحمل على عاتقه مسؤوليّة تحديد القادرين والمؤهّلين لا إيجاد القدرة والتأهيل.
وقد ظهرت على يد كينث اروو (arrow 1973) ما يسمّى بـ"نظرية المصفاة"، ومن وجهة نظره، فإنّ الشهادات التعليميّة تؤدِّي دوراً على صعيد تمييز "القدرة الذاتية" وليس على صعيد "المهارة المكتسبة" للأفراد، ويقوم التعليم العالي بتصنيف الأفراد بوساطة التعليم تماماً كالمصفاة، وذلك بدلاً من زيادة قدراتهم أو جعلهم أكثر اجتماعيّةً. ويسعى الأفراد بدورهم في نيلهم الشهادات العالية إلى إبراز قدرتهم الذاتية لطالبيها (نادري، 1383: ص48؛ جونز، 1376: ص24).
أما نظريّة ستغليتز ( (stiglitz 1972 فهي كذلك تستند إلى أنّ الاستثمار البشريّ كالتعليم, إنّما يقوم بغربلة ذوي القدرات وتمييزهم من غيرهم، ولا بدّ من أن يتكفّل بنفقات هذه العمليّة أولئك الذين يتضرّرون من الإنفاق على القادرين والعاجزين على السواء. (نادري، 1383: ص49؛ جونز، 1376: ص 26).
وكذلك نظرية "الإشارة والمؤشّرات" لسبنس (Spence 1973) فهي تنكر كسابقتيها دور استثمار التعليم، وتثبت للتعليم دور الإشارة إلى القدرات الذاتيّة للأفراد (نادري، 1383: ص51؛ جونز، 1376: ص24).
كما يسعى الأفراد، على مدى الزمان، إلى زيادة مؤشّرات الخصائص الإيجابيّة والقابلة للتّغيير في أنفسهم. ولا يعني الاستثمار البشريّ في التعليم إلا مجرّد الإشارة إلى الخصائص الكامنة في الأفراد.
وتطالعنا، في كلٍّ نظرية من هذه النظريّات الثلاث، العديد من النقاط المهمّة، حيث شكّكت بالاعتماد المفرط على إيجاد الاستثمار البشريّ والتعليم للقدرات الإنتاجيّة، غير أنّ هناك دراسات تجريبيّة تشير إلى أنّ هذه النظريّات قد نحت هي الأخرى منحى متطرّفاً؛ فعلى أساس هذه النظريّات لا يمكن للتعليم أن يؤدّي إلى تفاوت قدرات التوائم المتشابهة في خصائصها الذاتيّة، بل لا بدّ من أن يتساوى المستوى التعليميّ لكلّ فردين من تلك التوائم؛ ولكنّ الدراسات التجريبيّة أثبتت عكس ذلك (نادري، 1383: ص55)؛ فمثلاً دراسة شنفلتر وكروكر (Ashenfelter and Krueger , 1994 ) تشير إلى أنّ التفاوت في العائد الاقتصادي لتوائم متطابقة خلال سنة دراسيّة في أمريكا كان يتراوح ما بين 12 إلى 16 بالمائة. وهذه الدراسات تثبت نظريّة الاستثمار البشريّ القائمة على فائدة التعليم وإنتاجيّته.
وتفيد النتائج المأخوذة من أغلب الدراسات, أنّه وبعد تنظيم الناتج عن القدرات الذاتيّة فإنّ الناتج الاقتصاديّ الإيجابيّ للتعليم هو ناتج معتدّ به ومقداره قيّم ومهم. وفي الواقع إنّ رسالة التعليم هي التعلّم لأجل الحصول على العلم.. لأجل البقاء.. لأجل العمل والعيش المشترك، فجميع ذلك يعمل على تأمين الظروف اللازمة لاستمرار عمليّة التعلّم مدى العمر(مشايخ، 1379).
ومن زاوية أخرى، نجد أنّ التعليم يضاعف من استعداد الأفراد الأوليّ للتعلّم، كما يرشد إلى كيفيّة الاستفادة من القابليّات. ثمّ بعد ذلك يكون التعليم قد ضاعف القابليّات كما أنّه يكون قد نمّاها؛ وبذلك ربّما يكون قد تعلّم كيفيّة التعليم أيضاً! وهو الأهمّ.
والآن ما هو الدور الذي تؤدّيه المعرفة الدينيّة؟ فهل هي بدورها تضاعف من قابليّات القيام بالخدمات الدينيّة وقدراتها لدى المستفيدين منها أو أنّها تصنّف الذين يتمتّعون بقدرات ذاتيّة وتفرزهم جانباً وتميِّزهم من غيرهم, أو أنّها مجرّد مؤشّر على ذوي القدرات الذاتيّة لفرزهم عن الآخرين؟
وعلى أيّ حال، ورغم ما تتمتّع به المعرفة الدينيّة من أهميّة في الاستثمار الاقتصاديّ، فليس المردود الاقتصاديّ وآليّة السوق هما اللذان يحدّدان مستوى الطلب على المعرفة الدينيّة بوصفها سلعة استثماريّة؛ بل إضافة إلى ذلك، فإنّ كميّة الاستثمار وكيفيّته يتأثّران ـ في المعرفة الدينيّة إلى حدّ بعيد ـ بالقيم والمؤسّسات الاجتماعيّة كالدّولة، الدين، الأسرة، التربية والتعليم، والعلوم.
المعرفة الدينيّة بوصفها سلعة عامّة(6 )
علاوة على كون المعرفة الدينيّة ذات نتائج استهلاكيّة واستثماريّة فرديّة, فإنّ لها نتائج اجتماعيّة أيضاً؛ ولهذا كانت بمثابة سلعة عامّة إلى حدّ كبير. ولا يطلق في علم الاقتصاد على السلعة صفة "العامّة" إلا عندما تعود فوائدها على المجتمع ككل؛ فمثلاً يعدّ الأمن وسلامة البيئة من جملة السلع والخدمات العامّة؛ فهذه الخدمات هي ممّا لا يمكن أن يختصّ في نتائجه بفئة معيّنة.
وفي هذه الموارد، فإنّ الدولة ومن خلال دورها في الاقتصاد إما أن تساعد على إنتاج المنافع الاجتماعيّة من خلال إسهامها في نفقاتها، وإما أن تأخذ النفقات الاجتماعيّة للمؤسسات الاقتصاديّة بأشكال مختلفة, ومنها الضرائب.
وبالإضافة إلى الوظائف الفرديّة للمعرفة الدينيّة، فإنّ لها وظائف ومنافع اجتماعيّة أيضاً. وعندما تصبح هذه المنافع من نصيب أيّة حكومة أو بلد, فمن المنطقي أن تدفع ثمنها وتسدّد قيمتها. فالتنمية والازدهار الماديّ والمعنويّ للمجتمع, يحقّقان أموراً كثيرة: كالعدالة ولو بالتوزيع العادل للدخل، وحلّ النزاعات والاختلافات بين بني البشر، ضبط أفراد المجتمع، تقديم مصالح المجتمع والآخرين على المصالح الفرديّة (وهو شكل من أشكال المحبّة)، التعاضد الاجتماعي، الدور الإبداعي في الحضارة والثقافة العالميّة، إزالة العقائد الباطلة والخرافيّة من المجتمع الإنساني، المحافظة على الأخلاق وتفسير الحياة الدنيا، فجميع ذلك يسهم في المنافع الاجتماعيّة للمعرفة الدينيّة, حيث تنفق الدول المليارات للاستفادة من هذه النتائج والوظائف بما يتناسب مع إدراكها وإمكاناتها، وذلك من خلال إنشائها للمؤسّسات المختلفة. وفي النهاية، وعند لمس هذه النتائج، فإنّ الدول التي هي وليدة العقلانيّة الاقتصاديّة، أو متأثّرة بها، جاهزة لدفع النفقات الاقتصاديّة لتلك النتائج. حتّى لو لم يستفد القطاع الخاصّ والمواطنون في المجتمعات المختلفة من هذه المعرفة رغم كثرة منافعها، سواء لعدم القدرة الماليّة اللازمة لتحصيلها أم لضعف مستوى عقلانيّتهم؛ فمن الطبيعيّ حينئذ ـ كما في سائر السلع الضروريّة التي لا يملك أفراد المجتمع القدرة الماليّة والعقليّة اللازمة للاستفادة منها كالغذاء والصحّة ـ من الطبيعيّ أن يكون من واجب الدولة أن تقدّم الدعم اللازم في سبيل إبلاغ المعرفة الدينيّة.
إنّ ضرورة تحقيق التوزيع العادل للمعرفة الدينيّة لهو سبب آخر يؤكّد ضرورة تقديم المعرفة الدينيّة, تماماً كتقديم السلع والخدمات الاقتصاديّة التي لم يتمّ توزيعها بشكل عادل، وهي مهمّة الحكومة وخصوصاً في الدول الإسلاميّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ المعرفة الدينيّة تنتج ثروةً اجتماعيّةّ، والثروة الاجتماعيّة هي وليدة الثقة المتبادلة بين أفراد المجتمع، وهذه الثقة المتبادلة تعمل على تخفيض قيمة المقايضة الاقتصاديّة، وفي النهاية ومع انخفاض كلفة إنتاج السلع والخدمات الاقتصاديّة سيتضاعف صافي المنافع الفرديّة والاجتماعيّة؛ ومثالاً على ذلك، نشير إلى مقدار الثقة العالي والمميّز الذي يتمتّع به مرتادو الثقافة الدينيّة دون سواهم؛ لذا فبثّ التعاليم الدينيّة سيخلق ريعاً اقتصادياً من خلال إنتاجه للثروة الاجتماعيّة القائمة على نشر الثقافة الدينيّة على الفرد والمجتمع. ومن الطبيعي أنّ على الحكومة أن تنفق نيابة عن المجتمع الحدّ الأقصى اللازم لنشر الثقافة الدينيّة بغية تحقيق الربح الاقتصاديّ المتوقّع من الثروة الاجتماعيّة الناتجة عن التديّن.
ونشير إلى أنّ هناك قاعدة عامّة تؤكّد أنّ النموّ والتطوّر الاقتصاديّين للدول ما هما سوى علاقة مباشرة وحقيقيّة مع مستوى ثروتها الاجتماعيّ ومقدارها، وهي الثروة التي تقبل القياس التجريبي بشكل دقيق.
عناصر الطلب على المعرفة الدينيّة
بالالتفات إلى مجموع ما تقدّم من أبحاث، فإنّ الطلب على المعرفة الدينيّة ( rk ) تابع لـ :
1. التكاليف الماديّة ( Cm ).
2. الزمن الذي نحتاجه للحصول عليها ( (ct.
3. مقدار تأثيرها في سعادة الفرد وكماله ( pr ).
4. الرغبات والقدرات الذاتيّة ( ii).
5. تقنية التعليم ، البحث والاستفادة من المعرفة الدينيّة ( tk ).
6. النتاجات الاقتصاديّة ( re ).
7. المكانة الاجتماعيّة (sk ).
8. مؤسسة العائلة ( fi ).
9. المؤسّسة التعليميّة ( ed ).
10. كلفة الاستفادة من باقي السلع والخدمات الاقتصاديّة ( cg ).
11. منافع الاستفادة من باقي السلع والخدمات الاقتصاديّة (bg ).
12. تكاليف الاستفادة من سائر العلوم والمعارف(co).
13. منافع الاستفادة من سائر العلوم والمعارف (bo).
14. تكاليف الاستفادة من البدائل (cs).
15. سلوك مؤسّسة الدولة(bg).
16. وظيفة المستفيدين من المعرفة الدينيّة (jk).
17. كلفة الاستفادة من الخدمات والسلع الكماليّة ( pk ).
18. الدخل والثروة (ir ).
19. السن (eg).
Rk = f(cm , ct , pr , ii , tk , re , sk , fi , ed , cg , bg , co , bo , cs , bg , jk , pk , ir , eg)
النتيجة:
لقد سعت هذه المقالة إلى استنباط العوامل المستقلة المؤثّرة على المعرفة الدينيّة، وذلك ارتكازاً إلى مفاهيم الاقتصاد الجزئيّ ونظريّاته، ولكن من وجهة نظر "المدرسة المؤسسيّة", وقد تمّ توضيح الصورة العامّة للطلب على المعرفة الدينيّة تحقيقاً لهذا الهدف، وذلك من خلال المعطيات التي قدّمناها من الدراسة المفصّلة للوظائف الاستهلاكيّة والاستثماريّة التي تؤدّيها هذه المعرفة. ومع ذلك لم نتوصّل إلى بيان النظريّة بشكلها الرياضيّ الواضح والدقيق، وهو ما يحتاج كي يبصر النور ـ فضلاً عن الدراسات التجريبيّة في ضوء ما انتهينا إليه ـ إلى عون الباري تبارك وتعالى.
المصادر والمراجع
1. القرآن کریم.
2. آذربایجانی، مسعود، تهیه وساخت آزمون جهتگیری مذهبی با تکیه بر اسلام، قم، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه ، اوّل ، 1382ش.
3. الآمدی، عبدالواحد محمد النعیمی ، غرر الحكم ودرر الكلم ، خوانساری، تهران، انتشارات دانشگاه تهران ، اوّل ، 1366ش.
4. ابن الرازی، جامع الاحادیث، تحقیق سیّد محمد حسینینیشابوری، مشهد، آستان قدس رضوی.
5. امزیان ، محمد ، روش تحقیق علوم اجتماعی ، عبدالقادر سواری، قم ، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه ، اوّل ، 1382ش.
6. الأنصاری، محمد جعفر ودیرباز، عسگر وکرمی، محمدمهدی وکرمی، محمدحسین، درآمدی به مبانی اقتصاد خرد با نگرش اسلامی، قم ، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه ، اوّل ، 1378ش.
7. البوطی ، سعید رمضان ، ضوابط المصلحة في الشریعة الاسلامیة.
8. تراسبی ، دیوید ، اقتصاد فرهنگ ، کاظم فرهادی ، نشر نی ، اوّل ، 1382ش.
9. ترنر ، جاناتان اچ . ، مفاهیم وکاربردهای جامعهشناسی ، محمد فولادی ومحمد عزیز بختیاری ، قم ، مؤسسه آموزشی وپژوهشی امام خمینی ، 1378ش.
10. جعفریلنگرودی ، مکتبهای حقوقی در حقوق اسلام ، تهران ، نشر گنج ، 1370ش.
11. جونز، گرنت، اقتصاد آموزش، مصطفی عمادزاده، اصفهان، جهاد دانشگاهی اصفهان ، 1376ش.
12. چالز ، موريس واون ، فيليپس، تجزیه وتحلیل اقتصادی، اکبر کمیجانی وحسن سبحانی ، تهران ، دانشگاه تهران ، 1373ش.
13. حسینیبهشتی ، سیّدمحمد ، مجموعة مقالات ، قم ، جهان آراء.
14. خسروپناه ، عبد الحسین ، کلام جدید ، مرکز مطالعات وپژوهش¬های فرهنگی حوزه علمیه ، دوم ، 1381ش.
15. الخوری ، سعید ، أقرب الموارد ، ج 1.
16. دفتر همکاری حوزه ودانشگاه ، درآمدی بر تعلیم وتربیت اسلامی (اهداف تربیت از دیدگاه اسلام) ، انتشارات سمت ، اوّل ، پاییز 1376ش ، ج 2.
17. دهخدا ، علیاکبر ، لغت¬نامه ، تهران ، دانشگاه تهران ، 1378ش ، ج 12.
18. الراغب ، مفردات راغب، ماده صلح، کلمه مصلحت، بیروت ، دارالقلم ، 1379ش.
19. الرضيّ ، ابوالحسن الشریف، نهجالبلاغة، تحقیق صبحی الصالح، قم، انتشارات هجرت ، 1395ق.
20. سالاریفر، محمدرضا وآذربایجانی، مسعود ورحیمینژاد، عباس، مبانی نظری مقیاسهای دینی ، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه ، اوّل ، 1384ش.
21. الشیخ الصدوق، من لایحضره الفقیه، تحقیق: علیاکبر غفاری، قم، مؤسسه انتشارات اسلامی ، ج 4.
22. الشیخ المفید ، محمّد بن محمّد، الإرشاد ، تهران ، دفتر نشر فرهنگ اسلامی ، 1378ش.
23. الفیومی القری، أحمد بن محمّد بن علي ، المصباح المنیر ، بیروت، المكتبة العصریّة، 1420ق ، ج 1.
24. قدیریاصل ، باقر ، دولتشاهی وتقوی ، اقتصاد خرد ، سوم .
25. کرمی، محمدحسین ودیرباز ، عسگر ، مباحثی در فلسفه اقتصاد ، قم ، پژوهشگاه حوزه ودانشگاه ، اوّل ، 1384ش.
26. كراجكي ، محمّد بن عليّ ، کنزالفوائد ، قم ، دارالأضواء ، اوّل ، 1364ش ، ج 1.
27. متوسلی ، محمود وآهنچیان ، محمدرضا ، اقتصاد آموزش وپرورش ، تهران ، انتشارات سمت ، 1381ش.
28. متوسلی، محمود، سرمایهگذاری در نیروی انسانی وتوسعه اقتصادی ، تهران ، مؤسسه تحقیقات پولی وبانکی ، اوّل ، 1370ش.
29. محمدی، رحیم، درآمدی بر جامعهشناسی عقلانیت، انتشارات پرواز، اوّل، 1382ش.
30. محمدى ریشهری ، محمد ، التنمية الاقتصاديه ، قم ، دارالحديث ، 1380ش.
31. ــــــــ ، ميزان الحكمة ، قم ، دفتر تبلیغات اسلامی ، اوّل ، 1362ش.
32. مختاریپور ، مرضیه ، مبانی واصول اقتصاد آموزش وپرورش ، انتشارات جنگل، اوّل، 1382ش.
33. مشايخ ، فريده ، ديدگاههاي نو در برنامهريزي آموزشي ، تهران ، سمت ، 1379ش.
34. موسایی ، میثم ، اسلام وفرهنگ توسعه ، سرزمین ما ، اوّل ، 1380ش.
35. ــــــــ ، اقتصاد فرهنگ ، تهران ، انتشارات آن ، اوّل ، 1379ش.
36. نادری ، ابوالقاسم ، اقتصاد آموزش ، نشر یسطرون ، اوّل ، 1383ش.
37. واخ ، یوآخیم ، جامعهشناسی دین ، جمشید آزادگان ، تهران ، انتشارات سمت ، اوّل ، 1382ش.
38. وزارت فرهنگ وارشاد اسلامی، یافتههای پیمایش در 28 استان کشور، ارزشها ونگرشهای ایرانیان موج دوم ، تهران ، سازمان چاپ وانتشارات وزارت فرهنگ وارشاد اسلامی ، زمستان 1382ش.
الهوامش:
(1) (institutionalist economics ) وهي تدرس الدور الاقتصاديّ الذي تؤدّيه المؤسسات الرئيسيّة كالمنظّمات التي تعمل بصورة جماعيّة من الروابط والنقابات والشركات…إلخ بدلاً من الدور الذي يقوم به الأفراد كلّ على حدة، وقد يعبّر عن نظريّتهم في بعض المعاجم بـ "اقتصاديات النظم" (راجع جون كينيث جالبريث، سلسلة عالم المعرفة، العدد 261، تاريخ الفكر الاقتصادي، ص 219) (المترجم).
(2)(لكنّ هذا الاتساع المفهومي يعاني بشدّة من انحصاره بالمنهج المعرفي؛ حيث يحصل في المفاهيم تأثّر نظريُّ كبير بالفلسفة الحاكمة والتجربة التاريخيّة لموطن نشأتها وتطوّرها. بل قد لا يكون «للمفاهيم» من الأساس أيّة هويّة منفصلة عن الفلسفة الحاكمة أو التجربة التاريخيّة. وقد ظهر مفهوم «المنفعة» نتيجة لمزاوجة نظريّة بين الفلسفة الغربيّة وبعض المدارس الأخلاقيّة الخاصّة أمثال فلسفة «أصالة اللذة» لبين تومي. ومن هنا يرتبط توسيع وتضييق مفهوم المنفعة ومصداقها بالإطار الفلسفي والتاريخي لموطن نشأته وتطوّره. ولذا فإنّ تطعيم أيّ «فكرة» مستقاة من فلسفة أخرى مختلفة لا يعدو كونه تحميل الشيء ما لا يحتمل. وعلاوةً على ذلك، فإنّ التنظير ضمن إطار مدرسة فكريّة خاصّة باستخدام مفاهيم ونظريّات مدرسة أخرى (لا على أساس مفاهيم ونظريّات تلك المدرسة نفسها) هو بالحقيقة بتر علميّ ومحو للأصول التاريخيّة، وبناءً عليه سيعود النشاط العلميّ إلى أوّل بداياته بِكراً، وهو ما يعني تضييع الثروات والتراكمات العلميّة لتاريخ وماضي هذه المدرسة.
(3) يبدو من الممكن من وجهة نظر مناهج البحث والتنظير على أساس من "المفاهيم" و"النظريّات" التي تتمتّع بسابقة تاريخيّة في مجموع العلوم التابعة لمدرسة فكريّة معيّنة، من الممكن أن نستخدم تلك المفاهيم والنظريّات في سبيل نظريات جديدة. وبعبارة أخرى، إنّ ارتباط النظريّات الجديدة لمدرسة ما بالشجرة العملاقة والتراث الفكريّ والعلمي لتلك النظريّات، يحفظ دوام الأصالة والأسس كما يضمّن في روح النظريّات الجديدة جميع المحتويات النظريّة السابقة، وفي موضوع بحثنا هذا يؤدّي مفهوم المصلحة ومجموع النظريّات المرتبطة به هذا الدور المنهجي بشكل بارز.
(4) (institutionalist economics ) وهي تدرس الدور الاقتصاديّ الذي تؤدّيه المؤسسات الرئيسيّة كالمنظّمات التي تعمل بصورة جماعيّة من الروابط والنقابات والشركات …إلخ بدلاً من الدور الذي يقوم به الأفراد كلّ على حدة ، وقد يعبّر عن نظريّتهم في بعض المعاجم بـ "اقتصاديات النظم" (راجع جون كينيث جالبريث ، سلسلة عالم المعرفة ، العدد 261، تاريخ الفكر الاقتصادي ، ص 219 ) (المترجم)
( 5) New Classical أو Marginal School المدرسة الحديّة .
(6 ) سنتحدَّث عن هذا القسم مفصّلاً في مقالة أخرى تحت عنوان الوظائف الاقتصاديّة للدولة في "قانون العرض والطلب للمعرفة الدينيّة" .