أحدث المقالات
إننا بإزاء نص من الخطأ تقريبه أو اعتباره جنساً ‏أدبياً ‏حتى وإن تضمنت بنيته الأسلوبية صيغاً أدبية على مستوى النثر الإيقاعي والتفعيلي وعلى المستوى السردي كذلك،‏لأنه نص متفرد له خصوصية لغوية وخطابية،‏إحتوى متنه على أشكال أدبية ولا أدبية،‏فهو لم يأتِ لينضم إلى مؤسسة الأدب الاحتكارية ولا إلى أي مؤسسة لغوية أخرى،‏فمن الخطأ تجنيسه وفق شكل أدبي معين، فالقرآن نص يرفض التجنيس لأنه يمتلك هوية خاصة منحتها له طبيعة النص ذاته المختلفة عن أي نص آخر حتى على مستوى النصوص الدينية (الكتب السماوية المنزلة)، ولم أهل إلى درجة التصنيف لأنه لم تتكرر بعده نصوص متشابهة تحذو وفقاً ‏لأشكاله وصيغه الأسلوبية ليتحول إلى جنس معين، وهو ليس نصاً مفتوحاً بالمعنى الحديث أو الجامع للنصوص كما تسعى النظريات الأدبية الحديثة لإيجاده والذي يستند على إلغاء الحدود بين الأجناس الأدبية وتحطيم قوانينها الشكلية والأسلوبية فيحاول احتوائها جميعاً ‏في بوتقة نص واحد، والقرآن وإن تضمن أشكالاً أدبية إلا أن متنه يزخر بأشكال لا أدبية،‏والنص المفتوح أو الجامع للنصوص في نهاية الأمر هو نصٌّ أدبيٌ، أما القرآن فليس كذلك،‏فمن الخطأ أيضاً ‏التعامل معه وفقاً لمصطلحات أدبية ونقدية خاصة بمؤسسة الأدب فقط لايصح تعميمها خارج نطاق هذه المؤسسة لأنها لاتصلح إلا في المجال الذي نشأت وتكونت فيه،‏فعلينا اكتشاف المصطلح القرآني من داخل النص نفسه وليس من خارجه، أي نعيّن حدوده ونقيس أبعاده الفهمية والتعريفية حسب المعطيات المتوفرة لنا ضمن المتن، ولانتعامل معه بمصطلحات جاهزة حتى وإن كانت متقاربة كثيراً إلا أنها لاتمنحنا الدقة الحقيقية لما هو معطى ومتشكل لجوهر المصطلح داخل النص، فالنص يكشف عن طبيعة مصطلحاته بنفسه، ولايحتاج الأمر إلا إلى متابعة وتقصّي المعطيات المبثوثة هنا وهناك لاستكمال الأطر المعنوية والدلالية للمصطلح، وهذا ما نفعله هنا مع واحد من أهم مصطلحات النص القرآني والذي يشترك أيضاً مع المعجم الاصطلاحي للمؤسسة الأدبية، ولكن لن نسعى إلى تحديد نقاط المقارنة الاختلافية والتشابهية حول المصطلح بينهما، بل نصب جهدنا في التعريف بالمصطلح وتعيين أبعاده الدلالية وفق المعطيات التي استطعنا تجميعها من داخل النص، ومن خلال هذا التعيين والنتائج التي سنحصل عليها ستتبين لنا فروقات التشابه والاختلاف بينهما،‏وهو مصطلح القصة التي تعني في معاجم اللغة العربية ككلمة: الحديث أو الأحدوثة (1) ،‏التي تتعلق بخبر معيّن تم وانتهى في الواقع وأصبح جزءاً ‏من الماضي، وكلمة الحديث أيضاً تعني: الخبر، إلى الدرجة التي تحوّل فيها المعنى إلى مثل متداول حيث يقال (صاروا أحاديث) أي انقرضوا (2) أي مضى عليهم دهر من الزمن الطويل،‏فالقصة بهذا المعنى في العرف اللغوي ـ‏الاجتماعي عند العرب ترتبط بالواقع وبالحقيقة التي يعكسها الواقع من خلال حيثياته حيث تتحوّل إلى نص شفاهي تداولي أو رسالة تواصلية بين الأفراد غايتها نقل مضامين حرفية تستند إلى معيار الصدق كشاهد إثبات دقيق وكهيكل فقري لها، لأن الجذر المعنوي للكلمة يعتمد على الفعل الاستكشافي قصّ الأثر: أي تتبعه شيئاً فشيئاً (3) ، وهو عمل قياسي كما يقول أحمد سالم: «وفي نفس الوقت عمل تسجيلي علمي لنتيجة القياس ولايحتمل في النتيجة أي زيغ عن الحقيقة العلمية المجردة وإلا خرج من معناه وهدفه» (4) ، نحن لانستطيع القول أن القصة عند العرب تمتلك هذه الدقة العلمية في التحري عن الصدق واثباته بقدر ما تحاول أن تكون حرفية في نقل ما حدث، أي ليست أكثر من قناة اتصال وتواصل تتوخى التطابق مع الواقع لكنها تتعرض إلى عوامل النقص والزيادة والسهو وقصد التحريف في تكرارها وتداولها، غير إن الثبات الدلالي لجذرها المعنوي يُشدد على الإلتزام الدقيق بجعلها مرآة تعكس الواقع بصفاء ووضوح، لذا لامجال للخيال أو التخييل في هذا الإلتزام الدلالي، فالقصة هنا في هذا الإطار ليست فناً أو صنعة تسعى لبلوغ جمالية اسلوبية في التأثير على المتلقي، بل هي نص كلامي ينتقل من فرد إلى آخر وفق أشكال متقاربة تعتمد على قدرة الفرد كراوي في إيصاله بصورة كاملة وصحيحة، بل يتحول القص في ضوء هذا الحياد الموضوعية إلى مسؤولية أخلاقية واجتماعية، فالرسول محمد (ص) يقول: «القاص ينتظر المقت لما يعرضه في قصصه من الزيادة والنقصان» (5) ، حيث يعكس هذا الحديث مدى ارتباط المعنى القصصي بالواقع وبالحقيقة، وينعكس هذا الارتباط جلياً في النص القرآني حيث إن المحددات الدلالية الآنفة لمعنى القصة تصبح هي القاعدة التي تنطلق منها التمظهرات القصصية في المتن السردي له،‏يقول أحمد سالم «كلمة قص وقصص في القرآن الكريم يعنيان تتبع الخبر والحديث على وجه الحق والصدق فيه» (6) ، إن الراوي في القصص القرآني هو الله وهو لايحتاج إلى تقصّي الخبر أو تتبعه لأنه مطّلع عليه بصورة كلية وشاملة من قبل حدوثه وأثناء حدوثه وبعده، فهو كلّي العلم وليس ناقص المعرفة لكي يضطر إلى استكمال معلوماته حول خبر معيّن لكي يقصّه: {فلنقصّن عليهم بعلمٍ وما كنا غائبين} الأعراف/7، وهو يروي قصصاً ‏واقعية وحقيقية تستند على الصدق المحض كمعيار تفريقي عن القصص الأخرى غير الصادقة أو التي تحولت إلى خرافات وأساطير وحكايات شعبية وتاريخية: {إن هذا لهو القصص الحق} آل عمران/68، {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك} يوسف/3.
لايعتمد الخطاب السردي في النص القرآني على كلمة القص للشروع بالسرد، بل يتعامل مع عدد من المرادفات الدلالية التي تحيل إلى المعنى القصصي وديمومته على مستوى الفعل والمصدر،‏حيث تتبادل الأدوار الدلالية فيما بينها لتعطي المعنى نفسه،‏غير أن حضورها المناسب يتجسد حسب نسق الخطاب وسياقه داخل الآية والسورة،‏ومن خلال المسح الإحصائي لآيات القرآن أن استطعنا حصر هذه المرادفات في خمس كلمات شاع تداولها داخل المتن السردي للنص، سنوجز تفصيلها قليلاً لكي لانتشعب بعيداً عن الموضوع أو نتعمق في تخصصات تجرفنا في تفرعات ليست في نطاق تناولنا الآن،‏وهذه المرادفات باستثناء كلمة القص كمصدر وفعلها قصّ التي تناولناها آنفاً ‏تصبح أربعاً : هي:
 الحديث: الذي يعني الخبر لغوياً ، وفعله حَدّثَ أي أخبر،‏يستخدمه النص القرآني في أكثر من مستوى دلالي، لكن ما يهمنا هو ما يرتبط فقط بالخطاب السردي للنص، حيث يصبح الحديث بديلاً للق{وهل أتاك حديث موسى} طه/9، {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى} يوسف/111.
2ـ النبأ: تقول المعاجم اللغوية أن النبأ هو الخبر (لأنه يأتي من مكان إلى آخر) (7) ، وفعله نبّأَ: أي خَبَّرَ وأعْلَمَ، والخطاب السردي هنا يعتمد على هذه الكلمة كمصدر ولايعتمد على الفعل في سياقاته، حيث تصبح وظيفة الأنباء إخبارية كشفية: {تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} هود/46، {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق} طه/99، {نحن نقص عليك نبأهم بالحق} الكهف/13، والنبأ الصادق في لغة العرب هو علم،‏وجذور كلمة النبأ أصلها من النبئ ومعناها الطريق الواضح أو المكان المرتفع، ومنه النبي أي المخبر عن الله» (8) ..
3ـ التلاوة: تلا الكتاب أي: قرأه، الاعتماد هنا على الفعل، حيث تصبح التلاوة/ القراءة فعلاً بديلاً للقص: {نتلو عليك من نبأ موسى وفرعون بالحق} القصص/3، و{اتلُ عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا} الأعراف/175..
4ـ الذكر: ذكر لفلان حديثاً : قال له،‏حيث يصبح الذكر/ القول مفتاحاً ‏للشروع بعملية القص: {واذكر في الكتاب مريم} مريم/16، {ويسئلونك عن ذي القرنين قل سأتلوا عليكم منه ذكرا} الكهف/83..
إن هذه المرادفات الدلالية هي في أساسها اللغوي دوال مختلفة تحيل إلى مدلول واحد هو الخبر الذي يشكل جوهر ونواة السرد في النص القرآني، وفي الترسيمة التالية نموذجاً لعلاقة هذه المرادفات الدلالية وارتباطها بالخبر كمركز دلالي وجذري في المعنى اللغوي تشير إليه كما بينت لنا الآيات السابقة:
القص, الذكر, الحديث الخبر التلاوةالنبأ
إن القص القرآني يتجسد وفق آلية محددة ترتبط بأربعة عناصر متوالية على الترتيب تتجلى في المتن السردي للنص:
الراوي. الناقل. القص. المروي له. الله. الوحي. القص. محمد
وهذه الآية الكريمة خير مثال على تبيانها: {نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك} يوسف/3.. فالقصص القرآني ليس له سوى راوي واحد فقط هو الله وهو خارجي (خارج النص)، وهو الراوي العليم الحاضر لزمن قصّهِ ولزمن خطابه،‏لذا تمتاز قصصه بوحدة موضوعية متصلة وغير منفصلة عن السياق الذي اندرجت فيه وهو سياق السورة الخاص وتحديداً ‏موضوعها الخطابي، لذا فتكرارها السردي ينسجم ويتناسب مع سياق كل سورة كان لها موقعها معها، متوحدة مع غاياتها الدلالية، والقصص القرآنية هي قصص انتقائية تم اختيارها من قبل الرواي من أجل أهداف محددة مسبقاً عنده: {ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} المؤمن/78. وكل ما يتعلق بأحداث هذه القصص ومضامينها يعتمد على معيار الصدق والحق الدقيق الذي يرويه به بعيداً ‏عن أصغر ذرة من الخيال أو انحراف نحوه كما هو الحال عليه في تعريف الحكاية عند جينيت: «عبارة عن جملة الأحداث التي تدور في إطار زمني ومكاني ما وتتعلق بشخصيات من نسج خيال السارد» (10) . وفعل القص يرتبط بحرف جر هو (على) الذي يشير إلى المروي له،‏وهو يؤكد حضور المروي له باعتباره طرفاً ‏في معادلة الخطاب الموجّه، ولكنه في الحقيقة مروي له خارجي أيضاً ‏وليس داخلياً مثلما تؤكده نظرية المروي له الأدبية التي تعتبره عنصراً ‏داخلياً من عناصر القصة حتى وإن كان بلا ملامح شخصية محددة،‏فالنبي محمد (ص) هو المتلقي لأغلب هذه القصص القرآنية،‏وهو عنصر أساسي لايستغنى عنه في آلية الخطاب السردي للنص القرآني أما الوحي الذي يعتبر بمثابة أداة النقل وواسطته بين الراوي/ الله والمروي له/ محمد فهو حامل الرسالة/ القصة والمرحلة الأمينة في التوصيل..
لقد تبيّن لنا من خلال الاستطلاع الإحصائي السابق لآيات النص القرآني أن للقصص القرآني أكثر من وظيفة دلالية، فقد اتضحت لنا أربع وظائف رئيسية تؤديها القصة القرآنية كغاية خطابية جاءت من أجلها وهي:
أـ إخبارية: {ذلك من أنباء القرى نقصّها عليك} هود/100..
ب ـ تنبيهية: {فأقصص القصص لعلهم يتفكرون} الأعراف/ 176..
ج ـ نفسية: {وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك} هود/120..
د ـ وعظية: {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب} يوسف/111..
فالقصص القرآني يمتاز بخصائص وصفات تجعله يختلف عن القصص الأدبي،‏فهو لايلجأ إلى الخيال لأنه يعتمد على المطابقة مع الواقع والحقيقة الزمنية الماضية،‏وله راوٍ واحد فقط، وليست له غايات المتعة أو التأثير في المتلقي جمالياً ‏وليس مثلما يعتقد د. أحمد مطلوب خطأ بأن ورود مادة (قصّ) في القرآن وتكرارها يعتبره «لوناً من الأدب كان معروفاً ‏عند العرب» (11) ، بل ويعتبره من أهم فنون القول، ويبدو إنه يخلط مع فن الرواية المشهور عند العرب والذي يختص بنقل أخبار السابقين وعلمهم كما يعرّفه هو نفسه في معجمه في موقع آخر،‏فمادة (قصّ) في النص القرآني قد تحددت مفاهيمها السردية وأبعادها الدلالية بصورة واضحة، والنص القرآني تعامل مع مواد مرادفة لهذه المادة تعطي الدلالة المعنوية نفسها،‏واستبعد مواد أخرى كالحكاية والرواية والخرافة والأسطورة حيث لم يستند عليها إطلاقاً ‏في خطابه السردي، مما يؤكد أنه يؤسس لنفسه منظومة معرفية واصطلاحية خاصة به تعطي دلالات تتعلق به فقط، فإقصاؤه لهذه المواد يستند على مسألة منطقية واضحة هي أنها جميعاً ‏تنجرف إلى منطقة الخيال والابتعاد عن الواقع في تشكيل نصوصها، بينما الخطاب السردي للنص القرآني لايعتمد سوى على الحقيقة والواقع المعطى سلفاً ، لذا يتأسس مصطلح القصة القرآنية من أرضية المفاهيم الدلالية لعالم الواقع الحقيقي وليس الواقع الافتراضي أو المحتمل مثلما يسعى بعض النقاد الغربيين في محاولة تعريفهم للقصة الواقعية/ الأدبية كجان لوفيف الذي يطلق على إسم القص «كل قول يستحضر إلى الذهن عالماً ‏مأخوذاً على محمل حقيقي في بعديه المادي والمعنوي ويقع في زمان ومكان محددين» (12) ، فالقصة القرآنية مصطلحاً ‏هي مجموعة من الأحداث والشخصيات الواقعية التي تروى وفق نسق سردي معين وتندرج ضمن خطاب أعم متضمَن في سياق السورة التي تنتمي لها ضمن بنية النص الكلية..
* كاتب من العراق
الهوامش:
1ـ المنجد ص631/ المنجد في اللغة والأدب والعلوم. لويس معلوف، ط19، بيروت.
2ـ المنجد ص121.
3ـ المنجد ص631.
4ـ قصص القرآن ص160/ قصص القرآن في مواجهة الرواية والمسرح. أحمد موسى سالم ـ دار الجليل/ بيروت، 1977.
5ـ قصص القرآن. ص239.
6ـ قصص القرآن. 211.
7ـ المنجد، ص784.
8ـ قصص القرآن. ص162.
9ـ قصص القرآن. ص162.
10ـ مدخل إلى نظرية القصة. ص77/ مدخل إلى نظرية القصة.‏سمير المرزوقي + جميل شاكر/ 1985 الدار التونسية للنشر‏ـ‏تونس.
11ـ معجم النقد العربي القديم. ص25/ معجم النقد العربي القديم جـ2، د. أحمد مطلوب 1989. دار الشؤون الثقافية ـ بغداد.
12ـ بناء الرواية. ص28/ بناء الرواية. سيزا قاسم، دار التنوير‏ـ‏بيروت، ط1/1985.
 
 
 
 
 
 
Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً