دراسة في النتائج التربوية
د. علي نقي فقيهي(*)
المقدمة ـــــــ
تحظى معرفة النفس وتشخيص قدراتها ومواهبها بأهمية خاصّة من وجهة نظر القرآن الكريم؛ لأنَّها:
أولاً: تساعد الإنسان في مسيرة حياته على أن يختار الطريق الأصح والمنسجم مع تركيبته الفطرية ليصل إلى السعادة. فمن منطلق هداية البشر إلى السبيل التربوي الأمثل حَثَّ القرآن الكريم الناس كافة، مؤمنين وكفّاراً، على التدبّر ومعرفة ذواتهم، فقال: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ}([1]) .
ومما يستدل به في اهتمام القرآن الكريم بمعرفة النفس هو أن يدأب الإنسان في تربية نفسه وصلاح أمره، ولا يردعه في هذا الطريق ضلال الآخرين وانحرافهم، وهذا ما صرّحت به الآية الكريمة: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}([2]).
ثانياً: إنّ معرفة النفس تفضي إلى معرفة الله تعالى، وهي ركن أساس في التعليم والتربية. لقد جاء في القرآن وكثير من الأحاديث والروايات أنَّ الطريق إلى معرفة الله هو معرفة النفس. منها الآية الثالثة والخمسون من سورة فصلت التي اعتبرت أنَّ معرفة النفس إلى جانب إدراك آيات الله في الوجود في إحقاق ربوبية الله تعالى:
{سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الآْفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. وعلى الرغم من كون معرفة آيات الله في الآفاق والأنفس تؤدّي في خاتمة المطاف إلى معرفة الله ومعرفة أسمائه وصفاته، ومن ثَمَّ ستهدينا إلى التمسك بدين الحق، وتشخيص التعليم الأمثل والتربية الصحيحة، وكذلك إصلاح النفس والاتصاف بالفضائل الأخلاقية، إلاّ أنَّ معرفة النفس ومعرفة سعادتها وشقائها، وبيان حالات قواها الجسمية والروحانية المتمثلة بمعرفة ملكات النفس الفاضلة وملكات النفس المنحطّة، لا تتمّ بمنأى من تشخيص أمراضها والعمل على معالجتها. بهذه المعرفة يستطيع الإنسان أن يهتدي بشكل طبيعي ومباشر إلى التعليم القويم والتربية الصحيحة، فينشغل بإصلاح نفسه ليصل إلى السعادة الحقيقية.
ثالثاً: إنّ معرفة النفس والاطّلاع على أبعادها الوجودية، كتحرّي الكمال اللامتناهي مثلاً، تحثّ الإنسان على الالتزام بتحقق السعادة الخالدة والحياة السرمدية في الآخرة. هذه المعرفة المدعّمة بحقّ الاختيار، واختيار السعادة والكمال تبعث على الحاجة إلى هداية الأنبياء والإيمان بالنبوّة وإمامة الأمّة وقيادتها. ولا بد أن نشير هنا، إلى أنّ التربية العامّة والهداية المطلقة تبقى رهن الاعتقادات السليمة والنظام الفكري السليم. ولهذا السبب يُعدّ التوحيد والمعاد والنبوّة ركيزة أساسية في هداية الأنبياء. من هنا فإنّ لمعرفة النفس القائمة على التركيبة الصحيحة، لشخصية الإنسان الفكرية والاعتقادية دوراً فاعلاً وشمولياً في مجال التعليم والتربية الصحيحة, وبما أنّ القرآن الكريم قد صّرح بأنّ الهدف من إرسال الرُّسل ونزول القرآن هو التربية والتعليم، فإنّ معظم إرشادات الأنبياء وتعليماتهم، وكذلك أكثر الآيات القرآنية قد اختصّت بتبيين العقائد السليمة، ومكافحة الأفكار السقيمة وهذا خير دليل على أهمية الإيمان ودوره المفصلي في التعليم والتربية، وأهمية معرفة النفس بكونها عاملاً مساعداً في هذا الشأن.
مفهوم معرفة النفس ـــــــ
يعدّ مفهوم الذات أو النفس من المواضيع المهمة في الفلسفة والتعليم والتربية وعلم النفس([3])، وثمّة وجهات نظر مختلفة في علم النفس، من مثل النظرة الاجتماعية، والنظرة المعرفية، والنظرة الاجتماعية التحليلية. (محسني، 1375، ص26). وقد قسّم وليام جيمز النفسَ إلى قسمين أساسيين:
الذات الموضوعية أو المفعولية، والذات العاملة أو الفاعلة. ويرى جيمز أنّ الذات الموضوعية هي عبارة عن الخصائص الجسمية والاجتماعية والنفسية والمعنوية التي يمكن أن يعدّها الفرد جزءاً من ذاته([4]). والذات العاملة التي تقوم بدور تنظيم التجارب وتحليلها، تعني الذات المطّلعة على أمور عدّة، منها: الاختيار، والتشخيص، والتدبّر، والتجارب الشخصية([5]).
يعتقد ديمون وهارت([6]) أن مفهوم النفس أو إدراك الذات يشمل علم الفرد لخصائصه الشخصية وقدراته الفردية، وكذلك التدبّر فيها. فهو كوليام جيمز يرى أنّ إدراك الذات يشمل الذات الموضوعية والذات الفاعلية والمفكرّة, ويؤكدّ أنّ للذات بنية اجتماعية، وأنّ إدراك الذات في حدّ ذاته يعدّ مفهوماً معرفياً اجتماعياً (ديمون وهارت)، 1982و1991, هارت و زامانسكي ([7]) 1988). وفي هذا الإطار يقول جيل بوندكر ([8]): إنّ الذات في جزء من العلم الذي يسير الفرد على ضوئه في دنياه ليجيب عن سؤال: من أنا؟ وينقل جيل بوندكر عن استرولو ([9]) قوله: الذات بنية نفسية تنتظم أجزاؤها وخصوصياتها من خلال تجارب الشخص. ويرى ابن سينا أنّ أهم شيء في التربية هو معرفة النفس, ويعتقد أنّ الإحساس الباطني والتدبر في النفس أفضل طريق لإدراك الذات.
وقد تناولنا الذات في هذا المقالة باعتبارها بنية فطرية تنمو من خلال التربية والتعليم، حيث يمكن إدراكها عن طريق العقل والعلم الحضوري الفطري. من هنا، فإنّ فطرة الناس واحدة، وإنّ معرفة النفس تعني معرفة الإنسان بتمام أبعاده المختلفة، سواء الموجودة أو تلك التي يمكن أن تتواجد فيما بعد. وبناءً على هذا، فإنّ معرفة الذات تشمل الأُمور الآتية:
1ـ معرفة المواهب الظاهرة والقدرات الخاصة الموجودة بشكل طبيعي في جسم الإنسان وروحه، وبخاصة الأُمور الفطرية، من مثل:
البحث عن الله,.ومعرفة الله، وعبادة الله، وطلب الكمال، وتحري الحقيقة.
2ـ معرفة القدرات والمواهب الكامنة، من مثل: النمو اللامتناهي، واكتساب السعادة، والالتذاذ الدائم والمطلق.
3ـ التعّرف إلى مسائل خارجية عن حيّز وجوده ومرتبطة به في الوقت ذاته, من مثل: من أين جاء؟ وماذا يجب أن يفعل؟ وما هي أهدافه ؟ وفي النهاية إلى أين يذهب؟
4ـ معرفة مواضع النفس وضعفها، وتشخيص القدرات التي يمكن الاعتماد عليها في الوصول إلى الأهداف التربوية العُليا، وكذلك تشخيص مواطن الانحراف عن الفطرة والتخلف عن مسيرة الحقيقة.
الطرق المؤدية إلى النظرية الدينية لمعرفة الإنسان ــــــــــ
للوصول إلى الرؤية القرآنية لمعرفة النفس نبحث بشكل إجمالي عن الفطرة، وما أورده القرآن الكريم في هذا المجال:
1ـ دراسة الفطرة ــــــــــ
إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الحقيقة التي أكدّها القرآن الكريم،وهي أنّ الإنسان له خلقة فريدة وفطرة نفسية ([10]) خاصة به، تُميّزُهُ عن سائر المخلوقات, فإنّ دراسة الخصائص الطبيعية والفطرية للإنسان من خلال العلم الحضوري أو العقل الفطري قد تكشف عن الرؤية الإسلامية لمعرفة الإنسان.
2ـ معرفة الفطرة ـــــــ
من خلال العلم الحضوري أو العقل الفطري يدرك الفرد بنيته الطبيعية بخصائصها التالية:
1ـ إنّ علاقته مع الله علاقة معرفية وعاطفية وثيقة لا تتجزأ.
2ـ إنه يحبو إلى الكمال والرّقي.
3ـ هو متحرر ويميل إلى الانعتاق من كل قيد يحول دون وصوله إلى الكمال.
4ـ ويميل إلى الخير والفضيلة.
5ـ ويجنح إلى الحق.
6ـ ويطلب الحقيقة ويحب أن يطّلع على كل شيء، ويرى في نفسه إمكانية تقبّل الحقائق الصحيحة.
7ـ ويحبّ الجمال.
8ـ ويرنو إلى الخلود, ويبحث عن السعادة الدائمة.
9ـ ويحبّ نفسه ويحبّ الآخرين أيضاً.
10ـ هو محبّ للعزة والكرامة.
11ـ ومحبّ للبشر عامتهم.
12ـ ويتوق إلى اللذة والاطمئنان، وينفر من الألم والاضطراب.
13ـ إنّه مُخيَّرٌ ويتحمل المسؤولية.
14ـ ومستقلٌّ لا يحبّ التبعية.
15ـ ونشيط لا يحبّ الكسل والتقاعس.
16ـ ويميل إلى الرقي وتهذيب النفس والهداية والرشاد.
17ـ يعتبر نفسه عاقلاً ومفكّراً ومبدعاً ومنطقياً ذا قدرة على البرهنة والاستدلال .
18ـ ويعتبر نفسه قادراً على اكتساب التجارب.
19ـ ويرى نفسه ذا أبعاد متعددة, ويدرك أنّ هويته الواقعية تتجسّد في روحه.
20ـ يرى نفسه أعزّ المخلوقات وأكرمها, وأنه قادر على اكتساب العزةّ والكرامة.
21ـ يتأثر بالعوامل الخارجية ويؤثّر في ما حوله.
22ـ يدرك أنّ شخصيته تتكامل تدريجياً وعلى مرّ الزمان.
23ـ ويدرك الخير والشرّ.
التعريف بالإنسان في القرآن الكريم ـــــــ
شدّد القرآن الكريم على فطرة الإنسان ([11]), وإدراكه العقلي ([12]) ,وقدراته الواسعة التي جعلته أعزّ المخلوقات وأكرمها: {وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر}([13]). فقد تم التأكيد على معرفة قدرات الإنسان وخصائصه الفطرية وغرائزه وميوله واحتياجاته الحقيقية المُعَبّأة في ذاته, وأنّه أُرشد إلى اكتشاف العلاقة بين خلقته والأهداف الإرشادية والتربوية. وقد أخذت هذه المقالة على عاتقها دراسة عدد من هذه القدرات والخصائص، منها:
أوّلاً: القدرات المعرفية ـــــــ
إنّ الكفاءة العلمية هي أعظم قدرة يتمتع بها الإنسان، سواء كانت بشكل مباشر أو من خلال وسيط. نشير هنا إلى بعض امتدادات هذه الموهبة حسب الرؤية القرآنية:
1ـ معرفة النفس
أشار القرآن الكريم إلى هذه المقدرة, وقال: {بَلِ الإِْنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ}([14]) والبصيرة في المصطلح القرآني تعني الرؤية الصحيحة. والآية تشير إلى أنّ للإنسان مواهب وقدرات تمكنه من معرفة ذاته، سواء بشكل مباشر أو عن طريق هداية الأنبياء والرُّسُل. وقد قيل في تفسير هذه الآية: البصيرة الرؤية الصحيحة الباطنية, والإدراك القلبي, والآية تدل على أنّ للإنسان موهبة وقدرة شمولية يستطيع من خلالها معرفة نفسه معرفة صحيحة([15]) .
2ـ تشخيص الفضيلة والرذيلة
جاء في القرآن الكريم أنّ الإنسان قد منُح قدرة تشخيص الخير والشر, ومعرفة المسلّمات الخُلقية: {فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها}([16]). وقد بين الله ـ سبحانه وتعالى ـ للإنسان الفجور والتقوى. بمعنى آخر أنّ الإنسان بتركيبته الذاتية يستطيع أن يشخص الخير والشرّ, ويمّيز الصلاح والفساد([17]).
3ـ التعلّم اللا محدود
يستطيع الإنسان أن يتعلّم ما لم يعلم , ويقلل من جهله, فدائرة علمه لا يحدّها شيء. بل بإمكانه أن يحدّ من جهله، ويحلّ المسائل العالقة أمامه؛ لينال كمالاً علمياً أفضل. لقد أورد القرآن الكريم في هذا الخصوص: {عَلَّمَ الإِْنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ } ([18]) فالله ـ سبحانه وتعالى ـ مهّد أرضية التعلّم للإنسان؛ ما يجهل. ومن المفسرين من صرّح بأنّ المراد من تعليم الله هو إعداد النفس الإنسانية للتعلّم وإدراك المعاني ([19]).
4ـ قدرة البيان
أمدّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإنسان بقدرة البيان, فقال عزّ من قائل:{عَلَّمَهُ الْبَيانَ}([20]) فالله علم الإنسان البيان, وجاء في تفسير هذا البيان: المراد, ما هو أعم من البيان هو الكشف ([21]). إذن، ليس البيانُ, التحدث والكلام فحسب,بل يشمل أيضاً قدرة القراءة والكتابة والفهم والإفهام, بنحو يستطيع الإنسان أن يمّيز ما يقول وما يقال له.
5ـ معرفة الله
يميل الإنسان من الناحية الفطرية إلى خالقه وربّه, فقد جاء في القرآن الكريم {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}([22]) إذاً فليكن توجهك إلى دين الله, متبعاً فطرتك التي فطرك الله عليها([23]).
6ـ قدرة الفكر والتدبّر
خُلق الإنسان مؤهلاً للتفكّر والتدبّر. وقد وصف القرآن الكريم الإنسان بأنه عاقل ومفكّر, وأنّ دائرة فكره تشمل نفسه وعالم الخلق بأسره. ويقول القرآن في وصف أولي الألباب: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالأَْرْضِ}([24]). وكذلك دعا القرآن الإنسان إلى التدبّر في ذاته والتفكّر في خلق السماوات والأرض وجميع المخلوقات، بغية تفتّح قدرة الكشف عنده؛ ليطّلع على نظام الخلق وصنع الخالق: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالأَْرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ}([25]).
ثانياً: الممّيزات ـــــــ
1ـ تكريم الإنسان
ذكر القرآن الكريم نوعين من تكريم الإنسان,
الأول: التكريم التكويني، وهو تفضيل البشر على سائر المخلوقات من الناحية التكوينية والخلقية: {وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً}([26]). والمراد من هذا التكريم في القرآن الكريم هو التصرّف في عالم الوجود, وما في الجو والبحر والبر, كما يتضح من الآيات التالية: {وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها}([27]), و{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الأَْرْضِ}([28]), و{وَالأَْرْضَ وَضَعَها لِلأَْنامِ}([29]).
فحسب هذه الآيات, أنّ جميع ما في السماوات والأرض من شمس ونجوم ومعادن وبحار ونبات وحيوان مُسخّرٌ للإنسان وفي خدمته.
الثاني: هو التكريم القيمي والمعنوي الذي يزداد حسب درجات قرب العبد من ربه, بصفات الكمال الإلهية الموصلة إلى السعادة السرمدية، من خلال التكامل المعرفي والنهوض بالإيمان وتزكية والنفس التقوى والعمل الصالح, كما جاء في القرآن الكريم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ }([30]). ويستشف هذا المعنى أيضاً من الآيات القرآنية التي ذكرت المقربين من أصحاب الجنة وما لهم من مقامات ورتب مختلفة: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} ([31]), و{وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ }([32]).
2ـ الخلود
ينزع الإنسان فطرياً إلى الخلود في الحياة, فاعزّ شيء لديه هو أن لا تنتهي حياته. وقد صرّح القرآن الكريم بحتمية تحقق هذه النزعة في الآخرة, كالآيات التي ذكرت خلود الإنسان في الجنة وتنعّمه الأبدي فيها: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَْنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً} ([33]), و{وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَْنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَْعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ}([34]), وكذلك الآيات التي أشارت إلى خلود أصحاب الجحيم: {فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً}([35]), فكل هذه الآيات تصرح بالحياة الإنسانية الخالدة.
3ـ الاختيار
يعتبر الإنسان من وجهة نظر القرآن كائناً ذا إرادة، هذه الخصوصية تمهّد في الإنسان أرضية الالتزام والهداية. قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً}([36]), وقوله تعالى: { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآْخِرَةَ}([37]).
ثالثاً: القدرات الارتباطية ـــــــ
1ـ الارتباط مع الله
يرتبط الإنسان مع الله بطرق مختلفة:
الطريق الأول: طريق الأنبياء, فهؤلاء هم النخبة الإلهية المختارة الذين ينقلون إلى الناس تعاليم الله ووحيه، كما جاء في القرآن الكريم: {يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ }([38]), ويُستدل بهذه الآية على أنّ للإنسان خصوصية لا تتوافر في سائر المخلوقات, وعلى كرامته عند الله الذي جعل الرُّسل من البشر.
الطريق الثاني: هو الارتباط القلبي واللساني، عن طريق الدعاء والابتهال إلى الله, والتوكل عليه وطلب الرحمة منه, كما قال الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}([39])و{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}([40]).
الطريق الثالث: هو الاتصال العاطفي والحبّ القلبي, كما قال تعالى: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}([41]).
الطريق الرابع: هو الارتباط الوجودي والكمالي عن طريق الاتصاف بصفات الله. وقد عبر القرآن الكريم عن هذا الارتباط بخليفة الله في الأرض: {إِنِّي جاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً}([42]), فأكبر ميزة للإنسان أن تكون لـه القدرة والكفاءة على تحمّل مسؤولية خلافة الله في الأرض. ولا شكّ أنّ مثل هذه الكفاءة لا ينالها إلاّ مَن بذل قصارى جهده للوصل إلى قمم الكمال الرفيعة، وصار جديراً بمقام خلافة الله السامي.
2ـ علاقة الإنسان مع الآخرين
كل فرد يميل بشكل طبيعي إلى إقامة علاقات مع الآخرين يسودها الحب والإحسان والتعاون والإنصاف: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ }([43]), و{وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الإِْثْمِ وَالْعُدْوانِ}([44]), وفضلاً عن هذه الخصال فلا بدّ للمؤمنين أن يتحلّوا في علاقاتهم مع بعضهم بصفات أكثر عمقاً, من مثل الإخوة والرحمة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}([45])، و{ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ }([46]).
مواقع الانحراف عن الفطرة في القرآن الكريم ـــــــ
ذكّر القرآن الكريم في تبيينه لمعرفة النفس, بمواطن الضعف والحالات النفسية والعوائق السلوكية المغايرة لفطرة الإنسان, ونبّه على أنّ هذه النواقص تنشأ من الانحراف الإرادي عن الفطرة السليمة, وبفعل عوامل داخلية وخارجية تطرأ على الشخص تؤدي إلى رسوخها فيه, بل قد تصبح جزءاً من سلوكه السلبي وطبيعة الثابتة. ولا شك أنّ القرآن الكريم قد بيّن للإنسان في مخططه التربوي والإرشادي مواضع الانزلاق عن الفطرة ,وشّدد على الإفادة الصحيحة والمستمرة من المواهب الإلهية والقدرات الفكرية والتجارب المكتسبة للحيلولة دون سقوط الإنسان في هاوية الانحراف والشقاء، ويمكن أن نعدّ الأُمور التالية بعضاً من مواقع الانحراف عن الفطرة حسب الرؤية القرآنية:
1ـ اختيار الشرّ
يمهد الإنسان باختياره الخاطئ والمغلوط أرضية الشرّ في نفسه: {وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآْخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً}([47]). فكثيراً ما يلح الإنسان على طلب الخير, ولا يجني سوى الشرّ والضرر.
2ـ نسيان الله والنفس
قال الله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ }([48]). فالمفهوم من هذه الآية أنّ ثمة ملازمة بين الاهتمام بالنفس والاهتمام بالله, كما هي الحال في الملازمة بين نسيان النفس ونسيان الله؛ لأنّ الانجذاب إلى الله أمر فطري في الإنسان, فالاهتمام به يعني الاهتمام بأصل الوجود, ونسيانه يعني الغفلة عنه.
3ـ التسرّع في اتخاذ القرار وعدم التريّث
جاء في القرآن الكريم: {وَكانَ الإِْنْسانُ عَجُولاً}([49]) والعجول في اللغة هو الذي يطلب شيئاً قبل أوانه. والمراد من هذه الآية أن الإنسان إذا تعلّق بشيء طلبه, وكثيراً ما يكون هذا الشيء وبالاً عليه.
وليس العَجَل ميزة وضعها الله في فطرة الإنسان, وإنما هي صفة خلقية تحصل عندما يقوم الفرد بفعل عمل متسرعاً, يتصف به. وبعبارة أُخرى يمكن القول: إنّ صفة التسرّع تطلق على العجول بعد أن ينحرف عن فطرته الأولى . ولا يتصف بهذه الصفة قبل الانحراف. فلذا حثّ الإسلام على نبذ هذه العادة الذميمة, ودعا إلى التخلق بالصبر والتريّث في الأمور.
4ـ الإكثار من المجادلة
الإكثار من المجادلة عمل مذموم ناجم عن انحراف الشخص عن فطرته الأُولى؛ لأنّ ما جُبل عليه الفرد مبني على الخير؛ ولا مجال للجدال فيه. وقد نبّه القرآن الكريم على هذا الانحراف الخلقي, وحذّر الإنسان من ارتكابه: {وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الإِْنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً}([50]).
5ـ الظلم والطغيان
يعدّ الظلم والطغيان من حدود الفطرة, وقد يتحقق هذا الأمر عندما تتوافر لدى الإنسان شروط الترف والاستغناء. وقد حذّر القرآن الكريم في نهيه التربوي الإنسان من هذا الأمر, وقال: {كَلاَّ إِنَّ الإِْنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى }([51]), وقال: { إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً }([52]).
6ـ الجهل وسوء التدبير
خلق الإنسان عاقلاً, إلاّ أنه قد لا يستخدم عقله بشكل صحيح, ولا يتخذه نبراساً في طريقه إلى الكمال, فيقع في مشاكل بسبب حمقه, ما يزيده ظلماً وعدواناً. وقد نبّه القرآن الكريم على هذا الضعف , وقال: {إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً}([53]).
7ـ كفران النعمة
إنّ كفران نعم الله, والتغاضي عنها, وعدم الإفادة منها بشكل صحيح لصالح الأهداف التربوية العليا والسعادة البشرية, يُعدّ انحرافاً واضحاً عن الفطرة. وقد نبه القرآن الكريم في الآية الآتية إلى هذا الانحراف وحثّ الإنسان على مراقبة نفسه مراقبة خاصّة: {إِنَّ الإِْنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ}([54]).
8ـ الوهن والضعف
على الرغم من الميزات العليا والقدرات الخاصة التي جبل عليها الإنسان, إلاّ أنّه اختص بالضعف والوهن أيضاً, فأصبح انحرافه عن فطرته وتخلّفه عن مسيرة كماله أمراً ممكناً. وقد شددت التعاليم الدينية على ضرورة الالتفات إلى حالة الضعف هذه باعتبارها مهمة في مجال تربية الإنسان. وقد جاء في القرآن الكريم: {وَخُلِقَ الإِْنْسانُ ضَعِيفاً}([55]).
9ـ الجزع وعدم تحمّل الصعاب
إنّ من مصاديق ضعف الإنسان أنّه لا يطيق تحمّل الأعمال الجسيمة: {إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً}([56]).
10ـ الأمل بلا عمل
إنّ من جملة الموانع المعيقة في طريق الحياة الراشدة كثرة الآمال الخائبة, وطلب الانتفاع دون جدّ واجتهاد. وقد نبّه القرآن الكريم إلى هذا المانع المعيق لحركة الإنسان الكمالية, وقال: {أَمْ لِلإِْنْسانِ ما تَمَنَّى}([57]).
11ـ الطمع
كثيراً ما يتعدّى الإنسان حدوده الطبيعية, فيُبتلى بالطمع والجشع, ويتصف بالهلع لتكون طبيعته الثانوية. وقد حذّر القرآن الكريم في الآية الآتية من هذا الأمر, وقال: {إِنَّ الإِْنْسانَ خُلِقَ هَلوعاً}([58]) .
12ـ البخل
خلق الإنسان وفي ذاته خصائص طيّبة، مثل الحب والإحسان والتعاون ومساعدة الآخرين, إلاّ أنّ تخلّفه عن فطرته يؤدي إلى وقوعه في انحرافات خلقية، من مثل البخل والامتناع عن مساعدة الآخرين. فإذا تفطّن الإنسان إلى مثل هذه النقيصة، فإنه سينأى بنفسه عن الانحراف، قال الله تعالى في كتابه الكريم: {وَكانَ الإِْنْسانُ قَتُوراً}([59]), و{وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً}([60]).
13ـ اتّباع الظن
إنّ التدبر في الأُمور طلباً للحقيقة وكشفاً للمجهول يبعث الإنسان فطرياً على أن يفكّر بشكل علمي, ويحترس من اتباع الظن، فالإنسان لا يستطيع أن يصل إلى كماله ومسار حياته الصحيح ما لم يتّبع العلم ويتخلّى عن الظن. من هنا، فقد حثّ القرآن الكريم على التفكير العلمي ونهى عن اتّباع الظن: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ }([61]), و{وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}([62]).
معرفة النفس القرآنية وآثارها في التربية والتعليم ـــــــ
إنّ تعرّف الإنسان على فطرته, وما لها من خصائص طبيعية, وميول وغرائز واحتياجات ضرورية, ومن ثَمّ تشخيص انحرافاتها المحتملة طبقاً للرؤية القرآنية, يُعد أمراً مهمّاً للغاية في مجال التربية والتعليم. وبما أنّ الأبعاد الوجودية للإنسان متعددة,ومعرفة كل بُعد يتطلب انعكاساً تربوياً خاصّاً, فلذا بات صعباً أن تحصى جميع تلك الانعكاسات؛ نظراً لكثرة الأبعاد الوجودية. المقالة تتناول ثلاثةً من تلك الانعكاسات والآثار العامة, تتطرق بعدها إلى الإشارة إلى العناوين العلمية والوظيفية لهذه الرؤية, ومن ثَمّ تقوم بتشريح نموذج من الخصائص الفطرية, وأهم انعكاساتها وآثارها التربوية:
الآثار العامة ـــــــ
1ـ بناءً على هذه الرؤية, ينبغي على مسؤولي التربية والتعليم وأولياء الأمر والتربويين والمربين أن ينظّموا برامجهم التربوية التعليمية وفقاً لما يطلبه منهم أولياء الدين من أوامر ونواهٍ، وتعاليم ونصائح، من منطلق هداية الإنسان إلى طبيعته وفطرته .
2ـ إنّ علاقة كل شخص مع خالقه ونفسه والناس والطبيعة تنتظم وتأخذ مسارها التكاملي حسب مستوى معرفة الشخص لنفسه. الأمر الذي يحول دون وقوع الشخص في الانحراف, ويساعده على تخطّي العقبات في مسيره نحو الحياة الفطرية الراشدة والسعادة الأبدية الخالدة.
عموماً فإنّ كل فرد بإمكانه ـ وفقاً لهذه الرؤية ـ أن يرقى ويتكامل من خلال تأهيل مواهبه الطبيعية, وتفتح أبعاده الوجودية في مساره الإرشادي، ومن منطلق تحقق الغايات الإنسانية العليا، وعلى رأسها التقرب إلى الله سبحانه وتعالى. وقد اعتبر الشيخ النراقي أنّ معرفة النفس تعني الهداية والحركة في طريق الحق, والتحكّم بقوى الشهوة والغضب, ومن ثمّ الوصول إلى السعادة ([63]) .
3ـ متى ما عرف الإنسان نفسه بناءً على أسس هذه الرؤية فإنه ينمّي اعتقاداته ونزعاته ومشاعره وعواطفه وسلوكه بشكل طبيعي يتوافق مع فطرته الإنسانية, فيصبح خلقه الاجتماعي وأدبه وتعامله العام قيّماً وإيجابياً. وهو بعد ذلك يحرص على أن لا يلحق الأذى بالآخرين أو بنفسه أو بالطبيعة . وإذا ما اشتبكت عليه الأمور فإنّ عقله والتزامه المعنوي والإلهي هو الذي يعين أولويات تعامله وسلوكه.
الآثار العملية ـــــــ
تقدم أن المراد من معرفة النفس هو معرفة الإنسان لخصائص نفسه الفطرية، والهدف هو أن يتعرّف المربي إلى الغاية من الحياة, وما يجب أن يقوم به في هذا الشأن, وكذلك معرفة أُسس الهداية وأُصول التربية الصحيحة, فضلاً عن اتصافه بالخصوصيات الإنسانية والآراء المناسبة في سياق تنمية مواهبه واستيعابه الفطري والطبيعي الذي يحفّز على الحركة والحيوية التي تقتضيها الفطرة الإنسانية؛ لأنّ سعادة الفرد تتوقف على معرفة ذاته ونفسه التي تنمّي فيه نزعاته الفطرية, وتساعده على تطبيقها على أرض الواقع, وتلبّي بشكل موضوعي احتياجاته وغرائزه الوجودية. ونكتفي هنا بذكر قائمة الآثار التربوية المنبثقة مباشرة من الخصائص الفطرية:
1ـ تعزيز العلاقة المعرفية والعاطفية الوثيقة مع الله.
2ـ تقوية الإحساس بالتكامل والرقي من أجل الغاية التربوية العليا.
3ـ تنمية روح التحرر والانعتاق من جميع القيود والموانع الداخلية والخارجية الواقعة في طريق الكمال الإنساني.
4ـ القيام بأعمال قيّمة وخلقية رفيعة.
5ـ النهوض بتتبع الحقيقة وتقبّل الواقع.
6ـ مساندة الحق والدفاع عن أصحابه ومكافحة الباطل.
7ـ تشخيص الجمالية الحية وتنمية روح الإبداع الفني، وتقديم الجمالية المعنوية لدى تزاحم الأُمور .
8ـ التعلّق بالسعادة الخالدة والتّخّلي عن اللذات الغائية التي تتعارض مع السعادة الأٌخروية .
9ـ تمتين روح الكرامة والاعتزاز بالنفس .
10ـ الاعتلاء بحب الذات الحقيقية على امتداد حب الله وتمييزه عن الأهواء النفسانية وترشيده نحو الذات الحقيقية، لا الذات الخالية.
11ـ النهوض بحبّ الذات الإنسانية.
12ـ تعزيز روح المحبة والاحترام ومساعدة الآخرين, بغية الوصول إلى السكينة وتفادي الاضطراب .
13ـ التمتع بالحياة والسعي إلى الابتعاد عن الألم .
14ـ سيادة الإرادة والاختيار والحزم في اتخاذ القرار.
15ـ تعزيز روح النشاط والابتعاد عن التقاعس والكسل.
16ـ تمتين تحمّل المسؤولية وحق تعيين المصير .
17ـ تنمية روح الاعتماد على النفس والاستقلالية وعدم الاتكال على الآخرين .
18ـ تقوية النشاط والسرور وترشيده نحو الأمثل .
19ـ الإفادة الصحيحة من القدرات والمواهب الذاتية.
20ـ التقليل من التعلّق الدنيوي والإفادة الدنيوية من أجل السعادة الأخروية.
21ـ تنمية روح العطف والشفقة والمرونة.
22ـ تعزيز روح الحياء والأدب والسعي إلى تحقق القيم الإنسانية في الحياة .
23ـ الاعتلاء بالخلق الحسن وطيب التعامل مع الآخرين .
24ـ تمتين التعبُّد.
25ـ تعزيز مراقبة النفس والابتعاد عن اللهو واللعب.
26ـ تأهيل القدرة على تفضيل الآخرة على الدنيا لدى تزاحم الأُمور.
27ـ السعي المجد لتقديم رضا الخالق والناس على رضا النفس.
28ـ النزوع إلى القناعة ونبذ الجشع والطمع .
29ـ القناعة بنعم الله .
30ـ تبني الحق في إظهار المودة أو العداء.
الطموح إلى الكمال ميزة فطرية ـــــــ
النزوع إلى الكمال أمر محبوب للإنسان, وطلب الكمال حقيقة في ذات فطرته, وليس النزوع إلى الكمال أمراً يعرض على الإنسان من خلال التربية, أو توافر شروط خاصة,.بل هو حقيقة لا يعقل نفيها عن الإنسان، عموماً لا نجد شخصاً لا يتطّلع إلى التنامي والكمال. هذه الحقيقة الفطرية تدلّ على أنّ:
1ـ للإنسان هدفٌ حقيقيٌ علويٌ يمكن الحصول عليه، وفقدان الهدف العلوي وتعذّر حصوله يستوجب أن يكون الله سبحانه وتعالى قد بذر في وجود الإنسان حبّ الكمال عبثاً لا هدف عقلائياً من ورائه.
2ـ هذه النزعة الفطرية هي نزعة نحو الكمال الأبدي والدائمي, وإنّ الإنسان يريد أن يصل إلى واقع يتلمّس فيه الكمال والسرور الدائمين.
3ـ الكمال الإنساني لا يحدّه شيء، ولا يقف في مسيرته عند حدّ معين, وإنّما لـه مراتب ومقامات غير متناهية.
4ـ نيل الكمال الحقيقي لا يتيسر إلا بالتغيير الذاتي والروحي والباطني الحقيقي.
5ـ الكمال هدف الإنسان الفطري, وللوصول إليه لا بد من العمل والبحث عن طريقه. ولكي نعرف ما هو طريق الرشد, وما هي الأعمال المؤثرة في سموه أو انحطاطه, لابدّ من تشخيص الرشد من الغيّ. لقد اختط الله سبحانه وتعالى الطريق المؤدية إلى الكمال, وبيّن للبشر علائقه الإيجابية والسلبية: {وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ}([64]) فهداية الله في تقديمه النظام التربوي والتعليمي, فالله سبحانه وتعالى لدى تبيينه الرشد من الغي يرشد الإنسان إلى الغاية المطلوبة والمتوخاة([65]).
آثار الكمال التربوية ـــــــ
لطلب الكمال آثار في التربية والتعليم،منها:
1ـ إنّ الهدف من التربية والتعليم لـه خصائص عدةّ, منها: أنّه علوي وواقعي ,وليس منحطاً أو خيالياً أو اعتباطياً. ولهذا السبب اعتبر القرآن الكريم أنّ الكمال وتحقق السعادة هو في التمتع بنعم الله المادية والمعنوية في الجنّة. وكثيراً ما لفت القرآن الكريم انتباه الناس إلى هذا الأمر: {وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالأَْرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}([66]), و{ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الأَْنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَْعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ}([67]).
أكّد القرآن الكريم في إطار التعريف بأحقية الكمال وإحياء التعلّق به عن المربي, على أنّ الكمال والسعادة أمران حقيقيان, وليسا خياليين, وأن لهما آثاراً منها:
دخول الجنة, والتمتع بنعم الله التي لا تنقطع, وتوافر اللذائذ التي تشتهيها الأنفس وتلذها الأعين وغير ذلك. والقرآن بعد هذا يتناول العلاقة الحقيقية بين الهدف، وهو الكمال وبين أفعال الفرد وأعماله, ليخلص إلى أنّ سعادة الفرد في الواقع حصيلة أعماله ونتيجة أفعاله: {وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}([68]).
2ـ على المربي أن يفكر بالسعادة الأبدية, ويختار الأهداف التمهيدية لتحقق السعادة الدائمة, ويطبّق ذلك على أرض الواقع. وقد أشار القرآن الكريم في مواضع عدّة إلى خلود الكمال وتجلّياته في الجنان: {جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً}([69]).
3ـ ينبغي على المتربّي أن يلتفت إلى مراتب الكمال ودرجات السعادة اللامتناهية, وأن يعلم أنّ رقي الإنسان لا يحدّه شيء، ما يجعله يعمل بشكل مضاعف ومكثّف من أجل الوصول إلى مقامات الكمال العليا, ولا يتحوّل إلى شخص عديم الغاية والأمل، إنّ الفرد ليطمئن من خلال معرفة درجات الكمال أنّه مهما بلغ درجة من الكمال, فثمة درجة أعلى في انتظاره . هذه الطمأنينة تحثّ المتربي على مواصلة نشاطاته التربوية, وأن لا يتوقف عن العمل أبداً.
وفي هذا الخصوص يشير القرآن الكريم إلى الارتباط الحقيقي بين الأعمال ونتائجها, ويصرّح بأنّ العمل مهما ازداد قيمةً ازداد مقاماً, وتسامت درجاته الكمالية: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}([70]), و{هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ}([71]).
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الدرجات بعبارات مختلفة, من مثل: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَْنْهارُ}([72]), و{جَنَّاتُ عَدْنٍ}([73]), و{الْفِرْدَوْسِ}([74]), و{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ}([75]), و{ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ }([76]), و{مَقْعَدِ صِدْقٍ }([77]).
4ـ إنّ اهتمام الفرد بأحقية طلب الكمال يؤدّي إلى التخطيط والسعي التربوي بغية تغيير الباطل وتبديل النقص بالكمال. تغيير الباطل مبدأ أصيل مستمرّ، وهو تغيير النفس التي تمنح الإنسان الشخصية والأصالة. فالعامل يؤمن بأنّه فاعل الأعمال الحقيقي، حتى إنّه يوظف جسمه في بعض تلك النشاطات. وهو يعلم أنّ مستقبله وعاقبته رهن عمله: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}([78])، و{ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ }([79]).
على المتربي أن يعلم بأن تغيير النفس هو الأصل, وعليه أنّ يفكر في باطنه, ويسعى إلى إصلاحه وتكامله. فينقّي روحه ويزيح عنها الشوائب؛ لأنّ الروح النقية والطاهرة هي التي تصل إلى الدرجات العليا من القرب الإلهي, إنّ بإمكان المتربّي والسالك في طريق الكمال أن يصل إلى مقام النفس المطمئنة, ويستقر في مقام القرب الإلهي, ويحظى بمرضاة الله ونفسه، ومن ثمّ يلتحق بصفوف عباد الله المخلصين بجنةِ حبه: {يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ ادْخُلِي جَنَّتِي }([80]).
5ـ إنّ الشعور بضرورة الوصول إلى الكمال الحقيقي يُحيي في الفرد روح البحث عن الطريق المؤدية إليه, ويرشده إلى التعرف إلى رسالة أنبياء الله, وينمي في ذاته القناعة بأنّ تعاليم الأنبياء هي تعاليم تكاملية عليا, وأنّ طريقهم يختلف عن سائر الطرق. عندها يؤمن الشخص بالرشد وحقيقة الكمال. وقد جاء في القرآن الكريم: { إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ }([81]), وكذلك الآية الآتية التي ترى ضرورة السعي إلى اتّباع هدي أنبياء الله ورسله التربويين لتمييز الرشد من الضلال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً}([82]).
الهوامش
(*) أستاذ مشارك بجامعة قم، ورئيس مؤسسة بحوث المشاورة الإسلامية.
([4]) جيمز، 1961: 44، نقلاً عن ديمون وهارت، 1991: 5.
([5]) جيمز، 1961: 63، نقلاً عن ديمون وهارت، 1991: 6.
([10]) ما نريده من الفطرة النفسية هو القدرات والاحتياجات والأهداف والخصائص النفسية التي تتوفر بشكل مشترك لدى جميع أفراد البشر. يدركها كل فرد بالمعرفة الحضورية، ويمكن أن تغيب عن البعض بفعل عوامل خارجية، وهي من هذه الزاوية قابلة لاحتجاج جميع الأفراد.
([11]) >فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ< (الروم:30).
([12]) ( إنّ لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء^، وأمّا الباطنة فالعقول). ( الكافي , ج1,ص16,ح13).
([15]) الطباطبائي، 1394هـ، ج20، ص192
([19]) الراغب الإصفهاني، ق1333: 343.
([21]) الراغب الإصفهاني، 332: 69.
([63]) النراقي، معراج السعادة : 7 و8 .