مقدمة في التعريف بالموسوعة
إنّ الكتاب القيّم الموسوم بـ (موسوعة فقه علي بن أبي طالب) هو من تأليف الدكتور محمّد رواس قلعه جي، يقع في (650) صفحة تقريباً. والنسخة التي اعتمدناها كانت من الطبعة الأُولى / 1403 هجرية = 1983 م، دار الفكر ـ دمشق.
تمثـــّل هذه الموسوعة الحلقة الرابعة من سلسلة (موسوعات فقه السلف) التي أُريد لها أن تكون سلسلة موسوعية جامعة، كما ورد في عنوانها، وإن كانت الثالثة بحسب زمان تأليفها، كما يظهر من مقدّمتها([1]).
وقد تصدّى مؤلّف الكتاب للتعريف بالتراث الفقهي للإمام علي بن أبي طالب× من خلال تتبّع ما روي عنه من نصوص ونقول.
وسنعقد البحث في ثلاثة محاور:
1ـ وقفة مع مقدّمة الموسوعة
تصدّرت الموسوعة مقدّمة مختصرة حجماً، بلغت ثلاث صفحات أو تزيد قليلاً، لكنّها مركّزة محتوى ومضموناً، وقد اشتملت على أربعة نقاط:
النقطة الأُولى: أُشير فيها إلى أهمية فقه الأوائل من السلف، ومدى تأثيره على فقه المتأخّرين.
النقطة الثانية: ورد فيها بيان أهمية فقه الصحابة من بين السلف، وأهمية فقه الإمام علي× من بين الصحابة؛ لأنّه أعلم الصحابة بشهادة النبي’.
النقطة الثالثة: ذُكر فيها أهمية فقه علي× بنظر الصحابة وعنايتهم بآرائه.
النقطة الرابعة: أُشير فيها إلى ظاهرة قلّة النقل عن علي×، وحاول المؤلّف أن يبيّن أسباب ذلك، وقد أرجع تلك الأسباب إلى ثلاثة:
السبب الأول: >إن علي بن أبي طالب بقي مستشاراً للخلفاء الثلاثة السابقين له يقدّم إليهم مشورته، وهي الفترة التي تمّ فيها تنظيم الدولة الاسلامية ورسم خطّها الواضح، ولذلك فإنّ أكثر اجتهاداته قد تبلورت في الأنظمة والأحكام التي كانت تصدر عن الدولة، وبذلك كان علي بن أبي طالب الجندي الذي ساهم المساهمة الكبرى في تنظيم الدولة الاسلامية، ولمّا انتهى الأمر اليه كان قد اكتمل، ولم يعد بحاجة إلى أكثر من تطوير الأحكام والتنظيمات بما يتناسب وتطور الحياة»([2]).
ويلاحظ على ذلك:
1ـ إنّ كونه× مستشاراً لا يمنع من انعكاس آرائه على الملأ العام، بل الأمر على العكس تماماً؛ إذ ما دامت آراؤه مقبولة رسمياً بنظر الخلفاء ومتبنّاة من قِبلهم فإنّ هذا يوفّر فرصة ذهبية لانتشار آرائه ورواجها بين المسلمين، ومن هنا تجد أنّ فقهاء البلاط هم المحظوظون لدى الحكّام دوماً، وآراؤهم هي التي تسود بين عامة الناس دون غيرهم.
2ـ إنّ الدولة الاسلامية في الصدر الأول لم تكن مضروباً عليها بجدار حديدي لا يقبل الاختراق، ولم تكن اجتماعاتها تدور خلف الجدران والكواليس كما نراه في الحكومات الحالية، حيث كانت الحكومة حكومة بسيطة، والخليفة على مرأى ومسمع من الناس، وكان أغلب ما يدور في داخلها منعكس على الشارع إلا ما ندر.
3ـ إنّ إطلاق سمة (مستشار الخلفاء) على علي× إطلاق غير دقيق، وفيه مبالغة، ويتضح ذلك بأدنى مراجعة لتاريخ تلك الفترة، فلا الوضع العام كان يتطلّب وجود مستشارين خاصين ومتفرّغين لذلك، بل إنّ المشورة لعلي× كانت تتمّ بشكل عفوي في أكثر الحالات التي سجّلها التاريخ، وأيضاً لم تنحصر المشورة فيه، بل كان يستشار غيره من الصحابة الآخرين، كزيد بن ثابت، وابن عباس. أجل، قد تكون موارد استشارته أكثر من الباقين.
ثمّ إنّ المنقول تاريخياً استشارته في زمان عمر بن الخطاب فقط، بل إنّ المنقول هو نقل آرائه في بعض القضايا الواقعة آنذاك، ولم يُعرف أنّ ذلك كان إثْر استشارة، أو كان مبادرة منه، أو كان استجابة لاستغاثة بعض ضعفاء المسلمين.
مضافاً إلى أنّ علياً× قد أفل نجمه بعد التحاق الرسول’ بالرفيق الأعلى، ولم يُكَد يُحَسّ بأيّ دور هامّ له في الحياة السياسية، وكان يعيش كأيّ مسلم آخر حياته العادية، وإن كان غير ضنين بالمشورة حينما يُسأل أو يستشار، بل كان يبذل النصيحة للمسلمين، رعاة ورعية، ما وجد لذلك سبيلاً.
4 ـ ثمّ إنّ نعت الفترة التي سبقته× بكونها بناء الدولة وتنظيمها دون فترة حكومته× التي اكتمل فيها نصاب التنظيم… إلخ ليس دقيقاً، وليت شعري من أين استقى المؤلّف هذه المعلومات التي بنى عليها تحليله هذا ؟!
السبب الثاني: «ولمّا ولي الخلافة لم تدم خلافته طويلاً، وشغلته القلاقل الداخلية عن التفرّغ لإعادة النظر في التنظيم وتنقيحه، فعن أيوب السختياني، قال: سمعت محمّد يقول لأبي معسّر: إنّي أتهمكم في كثير ممّا تذكرون عن علي، لأنّي قال لي عبيدة: بعث إليّ علي وإلى شريح فقال: «إنّي أبغض الاختلاف، فاقضوا كما كنتم تقضون، حتى يكون للناس جماعة، أو أموت كما مات أصحابي»، قال: فقُتل علي ـ كرّم الله وجهه ـ قبل أن تكون جماعة»([3])([4]).
ويلاحظ على ذلك:
1 ـ لا شك بأنّ المشاكل الداخلية والحروب قد تركت تبعات ثقيلة على الإمام علي×، وحدّت من نشاطه، وجمّدت بعض مشاريعه، ولم يصل إلى بعض ما كان يصبو إليه إلا أنّ هذه الفترة تعدّ من أغنى الفترات بالنسبة لما نقل عن علي× من الآراء، حيث استطاع خلال هذه الفترة من حكمه، التي استمرت أربع سنوات وأشهر، أن يبثّ من العلوم والمعارف والروايات الكثير الكثير، وإذا رجعت إلى تراثه الفقهي وغيره تجده يعود تاريخياً وزمنياً إلى تلك الفترة بالذات، فخطبه العديدة والتي، جمع نزر يسير منها تحت عنوان (نهج البلاغة)، ومسائله في القضاء، ومسائله في الزكاة، وأحكامه في الحرب والجهاد، كلّ ذلك كان من نتاج تلك الفترة.
2 ـ لقد استثمر الإمام علي× جميع الفرص لبثّ علومه ومعارفه، وكان يصدع ويطالب الناس بسؤاله، وقد اشتهر عنه قوله المتكرّر على أسماع المسلمين آنذاك مراراً عديدة: «سلوني قبل أن تفقدوني».
3 ـ لقد فرض مرجعيته العلمية على الصديق والعدو، فهذا معاوية، الذي كان له منافساً سياسياً عنيداً، يحيل أحياناً من يسأله في أُمور الشريعة إلى علي×، كما أنّ فرقة الخوارج التي بقيت مناهضة ومعادية لعلي× إلى الحدّ الذي كانوا يرمونه بالخروج من الملّة، لكنّهم في الوقت نفسه كانوا يشهدون له بالفقاهة المنقطعة النظير.
4 ـ وأمّا حرصه× على وحدة صفّ المسلمين وعدم تفرّقهم فهذه حقيقة ثابتة لا ريب فيها، وربما لم يكن يصرّ على إجراء رأيه، إلا أنّ ذلك محدود في دائرة المسائل التي كانت محلّ خلاف بينه وبين مَن سبَقه من الخلفاء، ولا علاقة له بسائر القضايا.
وثانياً: إنّ موقفه العملي لم يمنعه من بيان رأيه الفقهي نظرياً، كما ورد في مسألة كتبها ابن عباس يسأله فيها عن حكم الجدّ، حيث بيّن له رأيه بوضوح، ثمّ أمره بمحو الكتاب.
5 ـ إنّه× كانت لديه الصحيفة التي كتبها بيده بإملاء من رسول الله’، وقد أراها لبعض المسلمين، كما روى ذلك ابن كثير([5]). بل الظاهر أنّه كانت لديه عدّة صحف وكتب، فلماذا لم يكثر النقل منها؟!
أجل، لم ينقل منها إلا أبناؤه من أهل البيت(، كما سوف تقف على ذلك مفصّلاً خلال هذه الدراسة، فانتظر.
السبب الثالث: «لقد كان علي× عرضة لحبّ المحبّين وبغض المبغضين، كأيّ إنسان، إلا أنّ الكثير من المحبّين والمبغضين لعلي لم يقفوا عند حدّ الاعتدال، فتجاوزوه إلى المغالاة، ولذلك كثر الدسّ عليه والدسّ له، ممّا جعل العلماء يتحرون جدّاً النقل عنه، بل دفع البعض إلى تحاشي النقل إلا نادراً، خوف الزلل»([6]).
ويلاحظ على ذلك:
1 ـ إنّ فضائله× ومناقبه لم تكن خافية على أحد من عامة المسلمين، إلا أنّه هناك قلّة تطرّفت في الموقف منه، فمنهم من بالغ في حبّه إلى حدّ الغلوّ، ومنهم من بالغ في بغضه إلى حدّ أباحوا دمه، ورموه بكلّ شين، وطبيعة المجتمع الإسلامي الراشد عدم الانجرار وراء التيارات المنحرفة، والتي تمثّل أقلّية لم يكن يكتب لها النجاح في السيطرة على قيادة المجتمع الإسلامي وتوجيهه، فكيف يكون لأُولئك القلّة المتطرّفين مثل هذا الدور الكبير في قيادة المجتمع دينياً وعلمياً، والتحكم به، بحيث شوّهوا كلّ أو أغلب التراث المنقول عنه×؟!
2 ـ إنّ المحبّ، ولاسيما إذا وصل إلى درجة الغلوّ، وكذا المبغض الذي أعماه الحقد وأصمّه، يندفع بشكل غير عادي لبثّ أو اختلاق ما يتناسب مع قناعاته المتطرّفة، ممّا يجعله يقوم بترويج الكثير، وإن كان كذباً ـ كلّه أو بعضه ـ أو مبالغاً فيه، فتكون النتيجة كثرة الرواية عنه، وكثرة النسبة إليه، حقاً كانت أم باطلاً، وليس قلّة الرواية عنه، كما هو المدّعى.
3 ـ إنّ الورع يدفع صاحبه إلى تحرّي الحقيقة لا ترك الرواية، وإلا فقد نسب الكثير من الأكاذيب إلى النبي’، وكذلك سائر الصحابة، فما أكثر ما نسب إلى ابن عباس ؟! وما أكثر ما نسب إلى أُم المؤمنين عائشة ؟! وكم من صحابي مختلق لا حقيقة له ولا واقع؟!
إنّ جميع ذلك لم يمنع من نقل الروايات والأحاديث، وتبقى وظيفة العلماء والفقهاء هي تمحيص ذلك وغربلته، وتمييز الغثّ من السمين، لا ترك الرواية، ولاسيما أنّ الأمر يرتبط بأُمور الدين وأحكامه الشرعية.
والحاصل: إنّ ما ذكر من الأسباب الثلاثة لتحليل ظاهرة قلّة النقل عن الإمام علي× لم يصلح لتبريرها. وأنّى لنا أن نبرّر إهمال تراث مَن شهد النبي’ بأعلميته، وأنّه باب مدينة علمه، وهو الصادق المصدّق، وهو الذي لم يكن ينطق عن هوى ؟! وكيف يُترك من نصبه النبي’ مرجعاً للمسلمين؟!
ومن الجدير بالذكر أنّ المؤلّف قد بيّن في النقطة الثالثة شدّة اعتناء الصحابة والعلماء بقول الإمام علي×، ونقل في هذا الصدد بعض النصوص([7]):
جاء في مصنّف عبد الرزاق: أنّ رجلاً سأل عمر عن بيض النعام يصيبه، فقال عمر: أرأيت علياً؟ اسأله، فإنّا أُمرنا أن نشاوره.
فقول عمر «أُمرنا» ينصرف إلى أنّ الآمر لهم هو رسول الله’، كما هو معهود من كلام السلف رضوان الله عليهم.
ومن هنا كان كثير من الصحابة يتلمّسون قول الإمام علي×، فإذا ثبت لهم عنه قول لم يستجيزوا لأنفسهم مخالفته، فقد نقل ابن قدامة المقدسي في كتابه (المغني)، عن حبر الأُمة عبد الله بن عباس أنّه كان يقول: إذا ثبت لنا عن علي قول لم نعدُه إلى غيره.
ومن الملاحظ أنّ شدّة الاهتمام بقول الإمام علي× أمرٌ في منتهى الصواب، وهكذا كان دأب السلف الصالح، ولكن ها هي المدوّنات الفقهية والروائية والتفسيرية التي كتبها الخلَف بين يديك، فهل تحسّ بهذا الاعتناء وبهذا الاهتمام؟!
2ـ وقفة مع منهج الموسوعة
1 ـ اعتمد المؤلّف المنهج الموسوعي الحديث في طريقة عرضه لفقه الإمام علي×، وهو عرضه من خلال العناوين والمداخل المرتّبة بحسب الترتيب الألفبائي.
وقد بدأت بعنوان (آدمي)، وانتهت بعنوان (وليمة)، وقد ضمّت بين دفّتيها عشرات العناوين الفقهية.
وتعدّ هذه المحاولة في عرض التراث الفقهي بصورة عامة، وتراث الإمام علي× على نحو الخصوص مشروعاً إحيائياً تاريخياً. وبيان ذلك:
أمّا أنّه مشروع إحيائي فلأنّ التراث الفقهي مودع في بطون المدوّنات، ويصعب نواله إلا للمتخصّص الفذّ، ولاسيّما أنّه لم يكن مفرزاً عن غيره، وإنّما نُقل مع غيره من النقول، فجمعه وعرضه بهذا الشكل بحيث يمكن أن يطلع عليه كلّ مراجع ويجعله في متناول يد الباحثين، ممّا يهيّء لهم فرص الإفادة من هذا التراث وإمكانية تقويمه وتحقيقه.
وأمّا أنّه مشروع تاريخي فلكونه عملاً تأسيسياً، وليس تكراراً لما كتبه السابقون من الفقهاء والمؤلّفين، فهو يمثّل نقلة نوعية للتراث من الحالة التراكمية والمبعثرة إلى حالة الانتظام والاتساق.
2 ـ إنّ هذا الانجاز الموسوعي يتطلّب أمرين أساسيين:
أولهما: الذوق الفنّي والظرافة في انتخاب العناوين، وفي تقسيم المادة العلمية وتوزيعها عليها، وفي نمط الإحالات وكيفية الإرجاعات، واللغة والأسلوب المتبع، وغير ذلك.
وقد أحسن المؤلّف الموقّر في هذا الإطار، وأجاد في كيفية برمجته وعرضه الموسوعي هذا.
ثانيهما: تتبّع واستقصاء المعلومات والمطالب، ومن خلال تنوّع الروايات وكثرة المصادر التي اعتمدها وتعدّد الطرق والنقول للنصوص يتبيّن مدى الجهد الجهيد الذي بذله المؤلّف الموقّر لتجميع المواد الأولية لبحوثه الموسوعية هذه.
إلا أنّ الملاحظ هو اعتماده قسماً محدوداً من المصادر، وهي المصادر السنّية لا غير، واقتصاره عليها، وعدم رجوعه إلى المصادر التراثية الأُخرى، التي تزخر بها المدوّنات الفقهية والروائية من مختلف المذاهب الإسلامية، وأهمّها في هذا الصعيد مصادر الإمامية، الحافلة بآراء ونظريات الإمام علي× الفقهية، وكان ينبغي له، كباحث موسوعي يطمح نحو تحقيق منظومة تراثية جامعة لفقه السلف، أن لا يهمل هذا المنبع التراثي الثرّ، وأن لا يدع الإفادة من هذا الرصيد الضخم.
3 ـ لم يتعرّض المؤلّف في أغلب البحوث إلى تمحيص وتقييم النصوص المروية عن الإمام علي× باستثناء بعض الحالات النادرة جدّاً، والتي يظهر أنّه تابع غيره فيها، من غير أن يبيّن مستنده ومعياره في القبول والردّ، وإن أشار في موارد معدودة إلى تضعيف سند بعض النصوص.
ولعلّ المؤلّف الموقّر لم يجعل ذلك من جملة الأهداف في مشروعه الموسوعي، فربّما كان يستهدف العرض لا أكثر.
ومهما يكن من أمر فإنّ الموروث الفقهي بحاجة إلى دراسة وتمحيص، وفصل الغثّ عن السمين، والسقيم عن الصحيح.
3ـ وقفة مع نماذج من بحوث الموسوعة
وسنتعرّض إلى نموذجين من الموارد التي طرحها المؤلّف، والتي تعكس كيفية تعامله مع النصوص، ومنهجه في نسبة الآراء إلى الإمام علي×.
النموذج الأول: في ميراث الجدّة، فقد تعرّض المؤلّف لحكم إرثها، وما لها من أحوال([8])، وزيادة للإيضاح سنبدأ البحث ببيان كلٍّ من الرؤيتين الإمامية والسنّية تجاه مسألة إرث الجدّة:
أـ موقف الإمامية والسنّة من الجدّة:
إنّ الجدّة بحسب النظرية الإمامية تكون بمنـزلة الأُخت، كما أنّ الجدّ بمنـزلة الأخ.
في حين أنّ الجدّة بحسب النظرية السنّية على نوعين: صحيحة، وغير صحيحة.
أمّا الجدّة غير الصحيحة: فهي التي تخلّل في نسبتها إلى المتوفّى ذكر بين أُنثيين ـ وهو الجدّ غير الصحيح ـ كأُم أبي الأُم، وأُم أبي أُم الأب، وأُم أُم أبي الأُم. وتُعدّ من ذوي الأرحام، الذين هم مؤخّرون في الإرث عن أصحاب الفروض والعصَبات والردّ، أي إنّها لا ترث إلا إذا لم يوجد للمتوفّى صاحب فرض أو عاصب.
وأمّا الجدّة الصحيحة: فهي التي لم يدخل في نسبتها إلى المتوفّى جدّ أصلاً، كأُم الأُم، وأُم الأب، وأُم أُم الأُم، وأُم أُم الأب، أو التي دخل في نسبتها إلى المتوفّى جدّ صحيح، كأُم أبي الأب([9]).
فيقع البحث عندهم في المقام في خصوص الجدّة الصحيحة حسب.
ب ـ حكم الجدّة بحسب النصوص المنقولة عن علي×:
لقد ذكر في الموسوعة أنّ الجدّة عند علي× لها عدّة أحوال يختلف حكمها فيها([10])، وسنقصر على ذكر الحالة الأُولى فقط، وهي:
السدس للجدّة الواحدة، أو الجدّات المتعدّدات إن كنّ متحاذيات في درجة واحدة، فقد روي في مسند زيد، عن علي، قال: «وللجدّات السدس لا يزدن عليه»([11]). وروى البيهقي عن علي أنّه كان يطعم الجدّة والثنتين والثلاث السدس، لا ينقصهنّ منه ولا يزدن عليه إذا كانت قرابتهنّ إلى الميت سواء([12])، وقال علي: «ترث الجدّات السدس؛ فإن كانت واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً فبينهنّ سهم»([13]).
وكان عليz يورّث ثلاث جدّات معاً، ثنتان من جهة الأب وواحدة من جهة الأُم([14])، فقضى في رجل هلك وترك جدّتي أبيه وجدّتي أُمه فورّث علي جدّتي الأب وإحدى جدّتي الأُم التي من قِبل أُمها، وأسقط التي من قِبل أبيها، فلم يورّثها شيئاً([15])؛ لأنّها جدّة فاسدة اعترض بينها وبين الميت ذكَر.
يلاحظ على ذلك:
1 ـ إنّ ما رواه البيهقي من إطعام الجدّة لا يدلّ على المدّعى؛ وذلك لأنّ الوارد فيه لفظ الطعمة، وهذا حكم آخر غير الإرث، فإنّه يستحب للأبوين إطعام أبويهما إكراماً لهما.
2 ـ لم يتضح لنا السبب في تعيين السدس سهماً للجدّة؛ فإن كان هناك نص نبوي فهو؛ وإن كان المستند تنـزيل الجدّة منـزلة الأُم فإنّ الأُم فرضها الأصلي الثلث، وإنّما تهبط إلى السدس في حالة خاصة، وهي فيما إذا كان للميت إخوة، ومن الواضح أنّ هذا الاستثناء خاص بالأُم، فلا يتعدّى منها إلى غيرها، فكيف يفتي بالسدس للجدّة؟!
3 ـ إنّ مقتضى صناعة الاستنباط فيما لو لم يكن هناك نص لتحديد حصة وارث ما، مع الفراغ عن توريثه، هو الرجوع إلى القواعد العامة، وهي أنّ كلّ من يدلي إلى الميت بواسطة ما فهو بمنـزلة من أدلى به، وهنا حيث إنّ الجدّة تدلي بالأبوين فإن كانت لأُم لها الثلث وإن كانت لأب لها الثلثان.
4 ـ لم يتضح وجه الفرق في الجدودة بين الجدّ والجدّة، فلم اختلفت عن الجدّ في كيفية إرثها، ولم يكن نص قرآني أو نبوي؟
5 ـ لم يرد في أدبيات علي× ـ حسب ما بأيدينا من نصوص ـ مصطلح الجدّة الصحيحة والفاسدة([16])، لا لفظاً ولا مضموناً، وإنّما هو مأخوذ من أدبيات الفقه السنّي، سحبها الكاتب إلى تراث علي×، وحمّلها عليه.
6 ـ ما روي من عدم توريث الجدّة الرابعة لا دلالة فيه على الفرق بين الجدّة الصحيحة والفاسدة؛ فلعلّ السبب في عدم توريثها هو اختلاف الدرجة، فربّما كانت جدّة عليا فلا ترث مع الجدّة القربى، فأنّى لنا أن نثبت أنّ السبب في قضاء علي× من عدم توريث الجدّة الرابعة هو فسادها؟!
النموذج الثاني: في ميراث ابن الملاعنة، حيث بحثه المؤلّف بشكل مفصّل([17])، وسنواكبه في هذا التفصيل، ولكي يتضح البحث جلياً نقدّم البحث عن نسب ولد الملاعنة أولاً، ثمّ نتعرّض لحكم إرثه.
أـ نسب ابن الملاعنة:
وتوضيح ذلك باختصار ضمن عدّة نقاط:
النقطة الأُولى: إنّ اللعان الجامع للشرائط سبب لسقوط نسب الولد بالنسبة للأب، فلا توارث حينئذٍ بينهما([18])؛ لعدم النسب شرعاً، ولكن نسبه إلى أُمّه باقٍ بحاله، فيتوارثان على القاعدة.
فعنه×: «إذا تلاعن المتلاعنان عند الإمام… وينقطع نسبه من الرجل الذي لاعن أُمّه، فلا يكون بينهما ميراث بحال من الأحوال، وترثه أُمّه ومن نُسب إليه بها»([19])، وعنه×: «وينسب الولد الذي تلاعنا عليه إلى أُمّه وأخواله، ويكون أمره وشأنه إليهم»([20]).
وعن أبي عبدالله×، قال: «كان علي× يقول: إذا مات ابن الملاعنة وله إخوة قسّم ماله على سهام الله»([21]).
والمراد بالرواية الأخيرة أنّهم يرثونه على حسب ترتيب الطبقات، لا أنّهم يرثون سوية([24]).
النقطة الثانية: إذا أكذب الأب نفسه بعد اللعان وأقرّ بالولد أُلحق به، وورث الولد الأب المعترف، ولا يرثه الأب؛ لقاعدة الإقرار([25]).
وروي عنه× أنّه قال في المتلاعنين: «وإن تلاعنا وكان قد نفى الولد ـ أو الحمل إن كانت حاملاً ـ أن يكون منه، ثم ادّعاه بعد اللعان، فإنّ الولد يرثه، ولا يرث هو الولد بدعواه بعد أن لاعن عليه ونفاه»([26]).
النقطة الثالثة: إذا أقرّ الرجل بالولد لا ينتفي عنه، فعن علي بن الحسين×، عن علي×، قال: «إذا أقرّ الرجل بالولد ساعة لم ينتفِ عنه أبداً»([27]).
بل روي عن الحسين بن علي×، عن علي× أنّه قال: «إذا أقرّ بولده، ثم نفاه، جلد الحدّ، وأُلزم الولد»([28]).
النقطة الرابعة: إنّ الأحكام المذكورة لابن الملاعنة لا تختص بالولد الذكر، بل تشمل مطلق ولد الملاعنة ولو كان أُنثى.
ب ـ كيفية الإرث من ابن الملاعنة:
وسنوضّح إرث ابن الملاعنة بحسب اختلاف ما له من حالات مختلفة:
الحالة الأُولى: أن لا يترك سوى أُمّه وحدها، وحينئذٍ تأخذ أُمّه المال كلّه: الثلث بالفرض، والباقي بالردّ ([29]). وهذا بحسب القواعد العامّة.
أجل، روي عن أبي جعفر الباقر×، قال: «قضى أمير المؤمنين× في ابن الملاعنة ترثه أُمّه الثلث، والباقي للإمام؛ لأنّ جنايته على الإمام»([30]).
وهذه الرواية مخالفة للقاعدة العامة في إرث الأُم من أنّها يردّ عليها الباقي من الثلث، ومعارضة للروايات الكثيرة.
ومن هنا رماها البعض بالشذوذ([31]).
وأمّا ما روي في مصادر أهل السنّة فهو نقلان:
النقل الأول: انفراد الأُم بجميع المال، فقد روي عنه×: «عصَبة ابن الملاعنة أُمّه، ترث ماله أجـمع»([32]). وعن ابن عباس، قال: «جاء قوم إلى علي، فاختصموا في ولد المتلاعنين، فجاء ولد أبيه يطلبون ميراثه، قال: فجعل ميراثه لأُمّه، وجعلها عصبته ([33])؛ لأنّه منقطع الصلة بأبيه([34])،دون أُمّه».
النقل الثاني: أنّ أُمه تأخذ الثلث، ويوضع ما بقي في بيت مال المسلمين([35]).
المناقشة
1 ـ إنّ النقل الأول هو المتوافق مع القواعد العامة للإرث، من كون التركة للوارث الخاص ما دام موجوداً، لا للجهة العامة؛ ولذا اعتبره بعضهم أنّه الأصح([36]).
2 ـ يظهر للباحث الخبير أنّ عبارة «وجعلها عصبته» إضافة من الراوي، ولم ترد في كلام علي×، وكأنّ الراوي فسّرها حسب فهمه الخاص ورؤيته المذهبية.
3 ـ إنّ عبارة «وجعلها عصبته»، سواء أكانت إضافة من الراوي أم كانت في متن الحديث، فإنّها على كلّ حال استُعملت بمعنى القرابة، كما هو واضح.
الحالة الثانية: أن يترك أُمّه وخالاً([37]).
فهنا أيضاً تأخذ الأُم المال كلّه، ولا شيء للخال([38])؛ لأنّ الخال يقع في الطبقة الثالثة، في حين أنّ الأُم تقع في الطبقة الأُولى، وكان علي× يورّث الأقرب فالأقرب.
وليس السبب في منع الخال هو ارتباطه بالميت بواسطة أُنثى كما ادّعاه بعضٌ، حيث جعل عنوان المسألة (اجتماع أُمّ ابن الملاعنة مع أحد ذوي الأرحام)([39]). ومن هنا لو ترك ابن الملاعنة أُمّه وأُخته لأُمه لانفردت الأُم بالإرث، ولا ترث الأُخت شيئاً؛ للسبب نفسه.
وهذه هي صورة المسألة: لو مات ولد الملاعنة وخلّف، أُمه وخالاً
المسألة (1): أُمّ، وخال.
للأُم الثلث بالفرض =
الباقي، وهو الثلثان = يردّ عليها
ولا شيء للخال؛ لأنّه يقع في طبقة متأخّرة من الإرث.
الحالة الثالثة: أن يترك مع أُمّه أحد ذوي الفروض من الأسباب ممّن يجتمع مع الأُم، كأحد الزوجين.
فتأخذ الأُم فرضها، وهو الثلث، ويأخذ الزوج أو الزوجة فرضه الأعلى؛ النصف أو الربع، ويردّ الباقي على الأُم([40]).
وهذا بحسب القاعدة العامة.
الحالة الرابعة: أن يترك مع أُمه أحد ذوي الفروض من الأنساب ممّن يجتمع مع الأُم، كالبنت أو البنتين فصاعداً.
فالنصف للبنت، أو الثلثان للبنتين فصاعداً، وللأُم السدس، والباقي يردّ بحسب الحصص. وهذا أيضاً بحسب القواعد العامة.
وهذه صورة المسألة: لو مات ابن الملاعنة وخلّف أُمه وبنتين.
المسألة (2): أُم، وبنتان.
للأُم السدس = = .
للبنتين الثلثان = = = .
الباقي، وهو السدس = = ، يردّ على الأُم والبنتين بالنسبة:
للأُم = ، فتصبح حصتها = + = = .
وللبنتين = ، فتصبح حصتاهما = + = = .
الحالة الخامسة: أن يترك مع أُمه أحد ذوي الفروض ممّن لا يجتمع مع الأُم كالأخ من الأُم الذي هو من الطبقة الثـانيـة.
فعندئذٍ تنفرد الأُم بجميع المال؛ فإنّ علياً× كان يورّث الأقرب فالأقرب.
لكن ورد في مصادر أهل السنّة عن علي× القول: «للأُم الثلث، وللأخ السدس، ويردّ ما بقي عليهما الثلثان والثلث»([41])، وأنّه قضى بذلك([42]). وفي رواية أُخرى «للأخ الثلث، وللأُم الثلث»([43]).
وهذا منافٍ لقاعدة الأقربية، التي كان يقول بها علي×، فلا يطمأنّ بهذا النقل حينئذٍ.
ومن هنا لا يصح جعل عنوان المسألة مطلقاً، كما توهّمه بعض([44])، وهو اجتماع أُمّه مع أحد ذوي الفروض؛ وذلك لاختلاف حالات ذوي الفروض.
الحالة السادسة: أن يترك مع أُمه من يرث بالقرابة ممّن يجتمع مع الأُم، كالابن.
فهنا تأخذ الأُم سدسها، والباقي يردّ على الابن.
وهذا بحسب القاعدة العامة.
الحالة السابعة: أن يترك مع أُمه من يرث بالقرابة ممّن لا يجتمع مع الأُم، كأخ وأُخت.
فهنا تنفرد الأُم بالتركة، ولا شيء للأخ والأُخت إن كانا لأُم؛ لبعدهما عن الميت، وإن كانا لأب فلا نسب بينه وبينهما؛ بسبب اللعان.
الحالة الثامنة: أن تموت أُمّه قبله، فيرثه قرابته، كأولاده وأقرباؤه من أُمّه، وأيضاً يرثه المساببون له، كزوجه.
فإن عُدم الولد فيرثه أقرباؤه ممّن ينتسب له من خلال الأُم، كالإخوة منها، وكذا الأخوال والأعمام لها. وهذا بحسب القاعدة العامة.
لكن في مصادر أهل السنّة: أنّه لو ترك عصبة أُمّه وحدهم يكون لهم المال كلّه؛ لأنّ عصبة أُمّه عصبته([45])، قال علي×: «عصبة ابن الملاعنة أُمّه، ترث ماله أجمع، فإن لم يكن له أُم فعصَبته عصَبتها»([46])، وقال: «ابن الملاعنة عصبته عصَبة أُمّه»([47]).
المناقشة
1 ـ إنّه لا دليل على حمل لفظ (العصبة) على المعنى المصطلح في الفقه السنّي، بل إنّ هذا اللفظ قابل لأن يحمل على القرابة، بل هو المعنى الظاهر؛ وذلك لعدّة قرائن:
القرينة الأُولى: الروايات التي تقدّمت في بحث الحالة الأُولى لابن الملاعنة، فقد روي عنه×: «عصبة ابن الملاعنة أُمّه، ترث ماله أجـمع»([48]). وعن ابن عباس، قال: جاء قوم إلى علي، فاختصموا في ولد المتلاعنين، فجاء ولد أبيه يطلبون ميراثه، قال: فجعل ميراثه لأُمّه، وجعلها عصبته([49])؛ فإنّ المراد بالعصبة هنا القرابة جزماً.
القرينة الثانية: ما روي عن علي×: أنّه ورّث من ابن الملاعنة ذوي أرحامه ([50])، ومن الواضح إرادة المعنى العام من ذوي الأرحام، أي الأقارب، لا المعنى الخاص المصطلح عند الإمامية، أو عند أهل السنّة؛ لأنّ الوارد في القرآن هو الأول، وأمّا المعنى الخاص فهو متأخّر الحدوث.
القرينة الثالثة: ما حكي عن يونس، فإنّه ذكر ما يشبه هذا المضمون، لكن عبّر بلفظ (القرابة)، قال: «إنّ ميراث ولد الزنى لقرابته من أُمّه، كابن الملاعنة»([51])، وهذه العبارة ليونس واضحة في إرادة الزنى من طرف الأب، لا من الطرفين؛ بقرينة عطفه على ابن الملاعنة.
وهذه النكتة تفيد في فهم الكثير من الألفاظ التي لها معنى اصطلاحي، أو التي يكون لها أكثر من معنى واحد، أو استعمال واحد أحدها أشهر من البواقي؛ حيث لا يطرد دائماً إرادة المعنى المصطلح أو الأشهر، فمع وجود القرينة قد يصار إلى المعنى غير المشهور وغير المصطلح.
2 ـ لا يُعلم كون الرواية منقولة بالنص، بل الظاهر أنّ النقل كان بالمعنى، بقرينة قول الراوي: (عن علي وعبد الله أنّهما قالا في ابن الملاعنة: عصبته عصبة أُمّه)، أي إنّه أراد بيان موقفهما الفقهي في ابن الملاعنة.
3 ـ لا يُعلم أنّ هذه العبارة في نفسها ناظرة إلى حكم الإرث، بل لعلّها ناظرة إلى باب الجنايات.
4 ـ إنّ مصطلح (العصبة) في الفقه السنّي اصطلاح متأخّر عن زمان علي×، فلا يجوز حمل النصوص الواردة عنه عليه، بل لابدّ من حملها على معانيها اللغوية.
5 ـ لقد ذكر للعصبة عدّة تعاريف، منها:
الأول: إنّها القرابة من جهة الأب، كما ذكره ابن فارس وغيره([52]).
وعليه فتشمل الرجال والنساء، كالإخوة والأخوات من الأبوين، أو للأب، والأعمام والعمّات، أي إخوة الأب وعمومته، ولا تشمل القرابة من جهة الأُم، كالخال وأبنائه، وكذا الجدّ للأُم([53]).
الثاني: العصبة هم الذين يرثون الرجل عن كلالة، من غير والد، ولا ولد، كما ذكره ابن منظور([54]).
وعليه فلا تشمل الأب، ولا الابن.
الثالث: ما ذكره أبو عمرو غلام ثعلب، قال: قال ثعلب: قال ابن الأعرابي: العصبة جميع الأهل من الرجال والنساء([55]).
وحكي أيضاً عن الفراهيدي، قال: إنّ العصبة مشتقّة من الأعصاب، وهي التي تصل بين أطراف العظام، وإنّما كانت هي الواصلة بين المتفرّق من الأعضاء حتى التَأَمَت، وكان ولد البنات أولاداً للجدّ، كما أنّ أولاد الابن ولد للجدّ، والجدّ جدّ للجميع، [ و] كان البنات في جميع ولدهنّ إلى الجدّ وضمّ الأهل والقبيلة المنسوبة إلى الجدّ كالبنين، وكانوا جميعاً كالأعصاب التي تجمع العظام وتلائم الجسد، فوجب أن يسمّوا جميعاً عصبة([56]).
وعلّق السيد المرتضى على ذلك بقوله: «فإنّ هذا هو المعروف المشهور في لغة العرب»([57]).
الرابع: قرابة الميت من الرجال الذين اتصلت قرابتهم به من جهة الرجال، كالأخ والعمّ، دون الأُخت والعمّة، ولا يجعل الرجال الذين اتصلت قرابتهم من جهة النساء عصبة، كإخوة الميت لأُمه([58]).
الخامس: العصبة مأخوذة من التعصّب والرايات والديوان والنصرة([59]).
أقول: إنّ الاختلاف بين هذه التعاريف ـ كما ترى ـ اختلاف ماهوي، وليس لفظياً.
هذا، وقد رووا عنه×: أنّه لمّا رجم المرأة قال لأهلها: «هذا ابنكم، ترثونه ولا يرثكم، وإن جنى جناية فعليكم»([60]).
وهذه الرواية لا علاقة لها بإرث ابن الملاعنة؛ فإنّ موضوعها ابن الزنى، ولا يصح قياس أحدهما بالآخر. وسيأتي مزيد من التوضيح له في بحث ابن الزنى.
الحالة التاسعة: أن تموت أُمّه قبله، ويترك عصَبة أُمّه، ويترك معهم ذا فرض.
وحكمه يتضح ممّا تقدّم؛ فإنّ في ذلك صوراً مختلفة، والضابطة فيها تحكيم قاعدة الأقربية([61]).
والمذكور في المصادر السنّية صورتان([62]):
الصورة الأُولى: أن يترك عصبة أُمّه وحدهم، وحينئذٍ يكون لهم المال كلّه؛ لأنّ عصبة أُمّه عصبته، قال علي: «عصبة ابن الملاعنة أُمّه ترث ماله أجمع، فإن لم يكن له أُمّ فعصبته عصبتها»([63])، وقال: «ابن الملاعنة عصبته عصبة أُمّه»([64]). وقد مرّت مناقشته.
الصورة الثانية: أن يترك عصبة أُمّه ويترك معهم ذا فرض، وحينئذٍ يكون المال كلّه يكون لذي الفرض فرضاً، ثم ردّاً؛ لأنّه× يقدّم الردّ على ذوي الفروض على توريث عصبة الأُم([65]).
وفرّعوا على ذلك: أنّ ابن الملاعنة أو ابن الزنى لو ترك بنتاً وعمّ أُم كان المال كلّه للبنت، تأخذ منه النصف فرضاً، والنصف الباقي ردّاً([66]).
ويلاحظ على ذلك:
1 ـ إنّ ما ذكر في أصل الحكم لا يصح على إطلاقه، بل يصح في بعض الصور، فلابدّ من مراعاة الأقرب فالأقرب في الاستحقاق، سواء كان الوارث صاحب فرض أم لا.
ثم إنّ الردّ ليس مطلقاً، فقد لا يردّ على بعض أهل الفروض، كالزوجين، وسيأتي مزيد توضيح له لاحقاً.
2 ـ وأمّا ما ذكر في التفريع من حكم فهو وإن كان صحيحاً لكن لا لما ذكر من التعليل من أنّ تقديم البنت لكونها ذات فرض، بل لأنّها أقرب من عمّ الأُم، ولهذا لو افترضنا بدل البنت ابناً فإنّ النتيجة لا تختلف، فالولد حينئذٍ يحوز المال أجمع، رغم أنّه ليس من ذوري الفروض، بل يرث بالقرابة.
الحالة العاشرة: أن يترك أباه أو من ينتسب بواسطته فلا إرث له، كالإخوة والأخوات لأب؛ لانتفاء النسب([67]) بالملاعنة.
الهوامش
([1]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 5.
(*) باحث في الفقه الإسلامي، ورئيس مجلة فقه أهل البيت^.
([2]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 6 – 7.
([3]) انظر: الإشراف على مسائل الخلاف والإجماع (ابن المنذر) 2: 124.
([4]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 7.
([5]) ابن كثير، جامع المسانيد والسنن 19: 69 ـ 70.
([6]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 7.
([7]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 6.
([8]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 65 وما تلاها.
([9]) داماد أفندي، عبد الرحمان بن محمد بن سليمان، مجمع الأنهر في شرح ملتقی الأبحر 2: 752. وانظر: المغني 7: 55 ـ 56. نظام الإرث في التشريع الإسلامي (فرّاج): 183.
([10]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 65.
([11]) الإمام زيد، مسند زيد بن علي: 328.
([12]) سنن البيهقي 6: 237.
([13]) الكوفي العبسي، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة، المصنّف 7: 383، ب 86، ح 185؛ ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد بن سعيد، المحلّى 9: 272.
([14]) سنن البيهقي 6: 236؛ ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد بن سعيد، المحلّى 9: 275؛ المغني 6: 207.
([15]) مسند زيد 5: 76.
([16]) أنا شخصياً لا أحبّذ هذا المصطلح، وإن كان لا مشاحّة في الاصطلاح كما يقال، إلا أنّ إطلاق لفظ الصحيح والفاسد على الجدّ والجدّة غير لائق من الناحية الأخلاقية والدينية، فبالإمكان استعمال مصطلح (الرحمي وغير الرحمي) وأمثال ذلك من التعابير.
([17]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 37 وما تلاها.
([18]) النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام 39: 62 ـ 63، 270.
([19]) النوري الطبرسي، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل 17: 211 ـ 212، ب 1 من ميراث ولد الملاعنة وما أشبهه، ح 3.
([20]) المصدر السابق 17: 213، ب 3 من ميراث ولد الملاعنة وما أشبهه، ح 2.
([21]) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 26: 260، ب 1 من موجبات الارث، ح 3.
([22]) لم ترد کلمة «أخواله» في المصدر الأصلي، وهو تهذيب الأحکام (الطوسي) 9: 345، ح 1239، والاستبصار فيما اختلف من الأخبار (الطوسي) 4: 184، ح 690.
([23]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 26: 278، ب 8 من موجبات الارث، ح 9.
([24]) أقول: وستأتي المناقشة في المعطوف عليه ابن الملاعنة، وهو قوله: «ولد الزنی»؛ حيث جعل الحکم فيهما واحداً.
([25]) النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام 39: 63، 270.
([26]) النوري الطبرسي، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل 17: 212، ب 2 من ميراث ولد الملاعنة وما أشبهه، ح 1.
([27]) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 26: 271، ب 6 من ميراث ولد الملاعنة وما أشبهه، ح 4؛ النوري الطبرسي، الميرزا حسين، مستدرك الوسائل 17: 214، ب 4 من ميراث ولد الملاعنة وما أشبهه، ح 1.
([28]) المصدر السابق 17: 214، ب 4 من ميراث ولد الملاعنة، ح 2.
([29]) النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام 39: 266.
([30]) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 26: 265، ب 3 من موجبات الارث، ح 4.
([31]) النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام 39: 266 ـ 267.
([32]) الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، المصنف 7: 124؛ البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 258؛ المقدسي، ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد، المغني 7: 124.
([33]) البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 258.
([34]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 37.
([35]) البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 259.
([36]) البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 259؛ قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 37.
([37]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 37.
([38]) المقدسي، ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد، المغني 7: 124 ـ 125.
([39]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 37.
([40]) انظر: جواهر الكلام (النجفي) 39: 268.
([41]) الكوفي العبسي، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة، مصنف ابن أبي شيبة 2: 186؛ البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 258.
([42]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 37.
([43]) البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 258.
([44]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 37.
([45]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 37.
([46]) البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 258؛ المغني 7: 123.
([47]) الكوفي العبسي، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة، المصنّف 7: 370، ب 69، ح 3.
([48]) الصنعاني، عبد الرزاق بن همام، المصنف 7: 124؛ البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 258؛ المقدسي، ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد، المغني 7: 124.
([49]) البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 258.
([50]) المقدسي، ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد، المغني 7: 126 ـ 127.
([51]) الحرّ العاملي، محمّد بن الحسن، وسائل الشيعة 26: 276، ب 8 من ميراث ولد الملاعنة، ح 6.
([52]) ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکريا، معجم مقاييس اللغة 4: 340؛ ابن الأثير الجزري، مجد الدين محمد، النهاية في غريب الحديث والأثر 3: 245.
([53]) ابن فارس، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زکريا، معجم مقاييس اللغة 4: 340؛ الانتصار: 556.
([54]) ابن منظور الأفريقي، محمد بن مکرّم، لسان العرب 9: 232.
([55]) حکاه المرتضی، علم الهدی علي بن الحسين، الانتصار: 556.
([56]) حکاه المرتضی، علم الهدی علي بن الحسين، الانتصار: 556.
([57]) المرتضی، علم الهدی علي بن الحسين، الانتصار: 556.
([58]) حکاه المرتضی، علم الهدی علي بن الحسين، الانتصار: 556.
([59]) حکاه المرتضی، علم الهدی علي بن الحسين، الانتصار: 556.
([60]) الكوفي العبسي، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة، المصنّف 7: 374، ب 77، ح 2؛ المقدسي، ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد، المغني 7: 127.
([61]) النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام 39: 267.
([62]) قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 38 ـ 39.
([63]) البيهقي، أحمد بن الحسين، السنن الكبرى 6: 258؛ المغني 7: 123.
([64]) الكوفي العبسي، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة، المصنّف 7: 370، ب 69، ح 3.
([65]) المقدسي، ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد، المغني 7: 123 ـ 124؛ قلعه جي، محمّد رواس، موسوعة فقه علي بن أبي طالب: 38.
([66]) المقدسي، ابن قدامة موفق الدين عبد الله بن أحمد، المغني 7: 126 ـ 127.
([67]) النجفي، محمّد حسن، جواهر الكلام 39: 270.