أحدث المقالات




مفهوما التساهل والتسامح تأملات نقدية في المباني الفلسفية

د. حسن رحيم بور أزغدي

سوف نحاول في هذا البحث تقصّي الجذور المعرفية والثقافية، لبعض المفاهيم والمصطلحات التي تبدو للوهلة الأولى متقاربة في المعنى، إلا أنها بعد التدقيق والتأمل يظهر تباعدها مصدرا، وموردا. وسوف نحاول تركيز البحث حول مفهوم المداراة علَّنا نستطيع – بعد تشريحه والنظر إليه من زاويتين- أن نتوصل إلى بعض النقاط المشتركة المتفق عليها، وكذلك إلى تحديد مواضع الاختلاف ومحاوره، ما يؤدي إلى تصور واضح عنها. ولا بد من الابتداء ببعض المقدمات أولاً، وبعد ذلك نستعرض ما عندنا من أجوبة واعتراضات على ما يستدل به دعاة التسامح الليبرالي.

 

المقدمة الأولى:

الاختلاف حول ضرورة التسامح، أم حول المصاديق؟

بدايةً، ينبغي التمييز بين التساهل في مقام المعرفة، وبين التساهل الأخلاقي والمداراة على مستوى السلوك الاجتماعي، ومعالجة كل منهما على حدة. حيث تلزمنا الآداب والأخلاق الإسلامية بتنمية وجداننا الاجتماعي، بحيث يصل كل فرد منَّا إلى مرتبة يتعلم فيها ضرورة الاستماع كما ضرورة الحديث، ويتعلم متى يج-ب أن يتحدث ومتى يجب أن ينصت؟ وقد أوصانا الله -سبحانه – أن نفتح آذاننا للاستماع، كما أفواهنا للكلام(1). ويجد المتتبع آلاف التوصيات الواردة عن النبي الأكرم (ص) والأئمة (ع) بالاستماع، والترحيب بالنقد وقبوله واعتماد المشورة وسيلةً للوصول إلى الصواب(2)؛ بحيث يجب أن نكون على أتم الاستعداد لتغيير الرأي عند قيام الحجة الشرعية أو العقلية على الخطأ في ما كنا عليه من رأي. وهذه التوصيات تحمل بعدا معرفياً ومنهجياً، مضافا إلى أبعادها الإنسانية والأخلاقية.

ومن هنا، يوصى الطالب في الحوزات العلمية أن يكون تابعا للدليل بجميع أنواعه، نقلياً كان هذا الدليل أم برهانيا؛ ولذلك نرى الفقه وأصوله – عند الشيعة الإمامية – مبنيان على اليقين والقطع إلى حد يُخشى معه من كون ذلك ضربا من الوسوسة والشك، إلا أن هذا الموقف منطلق من مبدأ معرفي يؤكد ضرورة إحكام الأسس، قبل الشروع في الاستنباط وإصدار الفتاوى، وهذا ما يفسر تحرج الفقهاء والأصوليين الشيعة من الأخذ بالقياس، والاستحسان، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع وغيرها من الأدلة الظنية(3)، وهذا التحسس له ما يبرره منهجيا، إلا أنه في الوقت نفسه يحتاج إلى اطلاع كامل على ملاكات  الأحكام (المصالح والمفاسد)، وعللها في دائرتي الوجوب والحرام. الأمر الذي لا يرتبط ببحث التساهل. ويشار هنا إلى الاعتراف بإمكان وقوع الخطأ في الفتوى والقضاء؛ ولذا يرجع الآ خوند الخراساني (1839م – 1911م) مفهوم الحجية إلى المعذرية والمنجزية(4)، ويمكن عد ذلك واحدا من وجوه النقص والقصور في التفكير الإنساني، والتي اعتُرِف بها في هذا المنهج، من دون أن يؤدي ذلك إلى التورط في دائرة النسبية والشك.

ولا يمكن الحديث – من وجهة دينية – عن فضاء مفتوح بالكامل، أو مغلق بالكامل، ويصدق ذلك في مجالات مختلفة من المعرفة، والاجتماع، إلى القوانين المدنية والسياسية. وهذه النقطة من الأمور الواضحة في كل الأنظمة الفكرية؛ حيث لا يمكن السماح بحرية مطلقة أو تقييد كامل. وما هو موجود حرية نسبية وفضاء مفتوح إلى حد ما، وليس أكثر. وهذه الحرية ليس لها بحد ذاتها وبقطع النظر عن الموضوع والمتعلق تقييم أخلاقي، وإنما تكتسب قيمتها الأخلاقية مما تتعلق به، ومما يختاره الإنسان الحر، وتختلف الأنظمة الأخلاقية في معايير التقييم وأسسه. ومن هنا، نجد أشد المتحمسين لليبرالية يقيدون الحرية والتحرر بكثير من القيود من قبيل: القيم الاجتماعية، والقانون، والأمن القومي، وغير ذلك من العناوين والضوابط.

إذاً، التسامح المطلق أمر مستحيل، في كل من مقامي العمل، والفكر، فضلا عن وقوعه وتحققه. ولا يمكن التنظير له إلا على صفحات الجرائد وفي بطون الكتب. ولذلك، لا يمكن تصوير الاختلاف بين النظرة الإسلامية والنظرة الليبرالية إلى التسامح، بأن الإسلام يرفضه والليبرالية تقبله، بل الاختلاف يكمن حول الموارد التي يجوز التسامح فيها والموارد التي لا يجوز فيها ذلك، والاختلاف في المصاديق والمعايير إذاً، ولا نريد بحث الموضوع من زاوية حقوقية، أو التعرض لآثار هاتين النظرتين على صعيد الفلسفة السياسية، بل نريد معالجة هذا المفهوم بالبحث عن جذوره الفلسفية والمعرفية بشكل إجمالي.

 

المقدمة الثانية:

أيديولوجيا الشك أبعد عن المعرفة من الشك المنهجي:

تنطلق نظرية التسامح (Tolerance) من أن الفكر الغربي المعاصر لم يعد يهتم بمحاكمة الأفكار والنظريات في المجالات العقلية والأخلاقية، بل يمكن القول: إن المنهج التجريبي (في نظرية المعرفة) لا يسمح بهذا النوع من المحاكمة، ولا يمكن التوصل إلى المفاهيم الأخلاقية والفلسفية العالية، بوساطة ضبط الإدراكات العادية، والتجارب الغريزية، والجسمانية، أو بوساطة تداعي المعاني والربط بين التصورات والتصديقات غير الانتزاعية.

وقد اتجهت الفلسفة الإنجلوسكسونية من هيوم، وبيكون، وهوبز، إلى بنتام، ومل، وغيرهم من فلاسفة الإنجليز اتجاها لا عقلانيا؛ حيث إنهم جميعا لا يؤمنون ببديهيات العقل النظري التي يؤمن بها ديكارت، ولا بديهيات العقل العملي التي يرتضيها كانط، ولا يؤمنون كذلك أيضا بالوجدان وبديهياته.

ويقترح المذهب التجريبي في نظرية المعرفة، أن لا نؤسس معارفنا على أي قاعدة عقلية غير حسية؛ وذلك انطلاقا من إنكار دعاته للمفاهيم المنطقية والمعقولات الثانوية الفلسفية(5)، وقد أخذوا فكرة بناء الفكر على الذات من ديكارت، كما أخذوا نظرية المونادات والنظرية الذرية من الفلاسفة العقلانيين كـ "لايب نيتز" وغيره، إلا أنهم عندما انتقلوا إلى مقام النفي والإثبات في دائرة العقل ومجاله تحولوا إلى اللاأدرية، وارتضوا ما أثاره كانط وهيوم من مشكلات فلسفية تعترض المنهج العقلي. وسايروا كانط إلى منتصف الطريق، وعندما وصلوا إلى الحكمة العملية فارقوه وانفصلوا عنه.

نعم، لقد بحث الأصوليون في أصول الفقه عن حجية مطلق الظن عند انسداد باب العلم والعلمي(6)، في معرفة الأحكام الشرعية وفهم ما أنزل الله مما هو مسطور في اللوح المحفوظ، إلا أن ذلك لم ينته بأحد منهم إلى الشك واللاعقلانية. وما حدث في الفلسفة الغربية والمعرفة الدينية عند الغربيين أمر آخر مختلف تماما عما عرفه الفكر الإسلامي؛ حيث إنهم استسلموا لمقولة انسداد باب العلم في معرفة ما وراء الطبيعة، وليس ذلك خاصا بالفلسفة الوضعية بل يشمل الفلسفة الوجودية أيضا، لا سيما في أوساط تيار ما بعد الحداثة. ومن هنا، نراهم يُنزِلون المعارف الماورائية وسواها من مباني الأخلاق، إلى مستوى الأمور النفسية غير الأساسية. وكذلك لم يعدُّوا الحدس(7)(Intuition) معرفةً رغم كونه ملحقا بالعلم الحضوري.

وبكلمة عامة يمكن القول: إن هذا النمط من التفكير سدَّ على الإنسان باب المعرفة والاطلاع على الواقع، وأوكل الخدمات التي كان يؤديها العقل والعلم إلى الجهل والشك؛ أي انتقلت مهمة العلم إلى الشك. وقد ظهرت في العقود الأخيرة نظريات فلسفية تنتسب الى الوضعية المنطقية تصرح بهذه المآزق المعرفية، وتعد العلوم التجريبية ظنونا موقتة تُقبَل حتى إشعار آخر، ويتضمن هذا الاعتراف إنصافاً يحسب لأصحاب هذا الاتجاه.

وإن شعار (To learn from our mistakes) بدل الاعتبار من الأخطاء، قد حول المعرفة إلى نوع من الحيرة الدائمة في البحث عن اليقين، والانتقال من فرض إلى احتمال. والاستعداد الدائم لإصلاح الأخطاء يختلف عن عدم تبني موقف، ولا يمكن تسمية سد باب المعرفة والعلم على أساس الظن منهجا في نظرية المعرفة.

ولكن لا يُتوقع من المذهب التجريبي غير هذه النتيجة، وقد حصلت. ولا ترى الليبرالية لليقين قيمة معرفية، نعم تعترف به على المستوى النفسي فقط. ولا نجد في قاموسهم مصطلح اليقين البرهاني الذي يقفل باب احتمال الوقوع في الخطأ، ونتيجة ذلك أن حل علم نفس "المعرفة"، وعلم اجتماع المعرفة محل المعرفة نفسها.

 

المقدمة الثالثة:

عدم الاعتراف باليقين في مجال العقليات والأخلاق

أنكر دعاة المذهب التجريبي أصالة المفاهيم الأخلاقية (مثل القيم وما يتنافى معها)، وتعاملوا مع المفاهيم الكلية العقلية بأسلوب واحد، بحجة أنها نزعة أرسطية. وهكذا غدت الفلسفة، والأخلاق، والعرفان، والمعرفة الدينية، نوعا من الدوافع الذاتية التي لا يمكن اعتبارها علما، وبعبارة أخرى هي رغبات لا معلومات. والمؤثر في اختيارات الإنسان هو الدوافع والميول؛ ولذا يرون أن الإيمان والدين يرجعان إلى أسباب اجتماعية ونفسية، لا إلى أدلة وبراهين، فالدين يكتسب مبرراته من الواقع الاجتماعي لا من العقل والبرهان.

ولذلك نراهم يبحثون عن فوائد اليقين ومنافعه المادية، بدل البحث عن كونه صوابا أم خطأ، وقد أرجعوا كل الأمور إلى الحكمة العملية، شرط أن لا يكون لها صلة بالحكمة النظرية وحقائق العالم، وكما يقول هيوم: "الأحكام الاعتبارية لا صلة لها بالوقائع". فليس في هذا المنطق حق وباطل، بل تنوع آراء واختلاف ليس إلا، والحق والباطل حتى لو كانا موجودين (وليسا كذلك عند أصحاب هذا الاتجاه)، فلا يمكن معرفتهما والحكم بهما على أي شيء.

ولما لم يمكن معرفة الحق من الباطل، للحكم بهما على القضايا، فينبغي المساواة بين الآراء كلها، ولا يتسنى لأحد أن يدعي امتلاك ناصية الحقيقة، وبُعدَ الآخرين عنها. وهذا هو الأساس المعرفي لنظرية التسامح والتساهل الليبرالي؛ أي ينطلق هذا المفهوم من الشك، والنسبية المعرفية إلى أن يصل إلى اللاأدرية العقيدية.

ولا يمكن تبرير الإيمان والاعتقاد معرفيا على ضوء أسس هذا الاتجاه ومبانيه، وأرقى أنواع اليقين وأعلاها تتحول إلى جزم ذاتي لا يملك ما يرجِّحه على غيره من الجزميات المساوية له والتي لا تختلف عنه إلا في مقدار المنفعة ليس إلا. فكل الأشياء على حد سواء لا مرجح عقلاني لأحدها على الآخر.

وعندما نصل إلى هذا المأزق المعرفي لا تكون النتيجة المترتبة عليه هي التسامح، بل الاستهتار وعدم الاهتمام بتحديد موقعنا من الحق والباطل، والقيم وما يعاكسها، وعندها يفترق الإيمان عن المعرفة؛ ويصبح من حق كل امرئ أن يؤمن بما يشاء؛ فكل أنواع الإيمان متساوية، وكلها تحظى بالدرجة نفسها من العقلانية، بل قل من اللاعقلانية!!

وأما في الفكر الإسلامي، فباب المعرفة العقلية مفتوح على مصراعيه في أعلى الميادين الأخلاقية والفلسفية. وقد احترم الله – سبحانه – مشاعرنا، وعقولنا ووهبنا حجة باطنة، وأخرى ظاهرة هما: العقل والوحي(8). وحدثنا عن حقائق مهمة في عالم ما وراء الطبيعة، وملكوت العالم والإنسان، وبيَّن لنا بوساطة أنبيائه الحق من الباطل والخطأ من الصواب(9)، وهذه الأمور وغيرها من القيم، من الأمور الواقعية التي يمكن معرفتها بالعقل، وهي في الوقت نفسه وسيلة من وسائل القرب من الله تعالى.

ولا يتجاهل الإيمانُ المعرفةَ أو يعارضها، بل يتكامل عن طريقها ويقوى بها، والعقائد الصحيحة أرضية مناسبة لتكامل المعرفة؛ وذلك لأن معرفة الله ومعرفة الإنسان أمران يشكلان شخصيتنا، وليسا ألغازا مقدسة عصية على الفهم والتحليل.

واليقين الذي يدعو إليه الفكر الإسلامي بعيد غاية البعد عن التعصب الناشئ من الجهل المركب أو العناد. نعم ربما يكون موضوعاً لدراسة في علم النفس، ولكنه في الدرجة الأولى سلوك منطقي برهاني مرتبط بالمعرفة وعلمها. ولا أدعي أنه معرفة بكل شيء؛ فهذه غاية  صعبة المنال، ولو جمعت البشرية بكل علومها لما نفدت المجهولات، ولبقي الكثير منها: "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"(10)، إلا أن الأمر ليس دائرا بين المعرفة بكل شيء وبين الشك المطلق، وإنما الواقع هو أمر بين الأمرين وهو عدم انسداد باب اليقين، وإمكان الوصول إليه بالبرهان والدليل. ونحن نعتقد أن نقائض كانط تتضمن مبالغة في إظهار العجز الإنساني عن امتلاك الحقيقة.

 ومما تقدم كله يتضح أننا نفترق عن دعاة التعددية الليبرالية، وأصحاب نظرية التسامح في هذا المفترق المعرفي؛ فالمعرفة الإسلامية ليست تجريبية، وليست كذلك معرفة عقلية بالمصطلح الديكارتي. وعسانا نتمكن من بيان أهم خصائص الاتجاه الإسلامي في المعرفة في باب التصورات والتصديقات ومعيار صدق القضايا ومفهوم الحمل والسلب، ومعيار المعنى في القضايا، في مجال آخر.

والوقوع في مأزق النسبية من أهم المشكلات التي سببتها الفلسفة التحليلية للفلسفة الأنجلوسكسونية، ومن آثار هذه المشكلة القول بالتسامح والتساهل والتعددية. وهنا أذكِّر مجددا بوجود تعددية ومداراة في فكرنا الإسلامي، على مستوى المعرفة والسلوك؛ ولكن ليس بهذا الشكل الذي تدعو إليه الليبرالية؛ وذلك لاختلاف المنطلقات والجذور. فليست الحقيقة أمرا  متعددا يستحيل الوصول إليه، أو يحتمل الشيء ونقيضه. ومجال المداراة والتكثر في اكتشاف الحقيقة هو المتشابهات التي ليست من ضروريات الدين أو أسسه الأصيلة، ومن هنا يمكن أن تكون محلا للاختلاف.

وكذلك يمكن في المجتمع الديني الإسلامي التساؤل حول أهم ضروريات الدين، بشرط مراعاة أدب الحوار وشروطه، وإن المطلع على أجواء المحافل العلمية يعلم أن أكثر الحوارات جرأة وصراحة تجري فيها، ولكن ذلك ليس معادلا للتعددية بوجه من الوجوه.

 

مباني التساهل:

سنحاول في هذا القسم من المقالة التوقف مليا عند مفهوم التساهل لتحليل مبانيه ومنطلقاته الفكرية، لنرى درجة الانسجام بين الأدلة التي يسوقها التعدديون لمدعياتهم، وبين ما يدعون. ولنطرح مجموعة من التساؤلات حول التساهل الذي يمكن دعوى انسجامه مع الفكر الديني، وحدوده، ومحله. ولنبين الفرق بين التسامح في المعتقد، وبين التسامح في إظهار المعتقد والتصريح به، وهل يشمل التساهل المشركين الحربيين، وغيرهم، أم يقتصر على فئة محددة لا يَعْدُوها؟ وهل التسامح في المعتقد هو نفسه التسامح في الأفكار؟ ولا بد من التوقف عند هذه الأبحاث ملياً ومعالجتها تفصيلاً طلبا للوضوح؛ لأن دعاة التسامح والتساهل ليسوا أمة واحدة، وليست الأدلة التي ينطلقون منها واحدة.

ولن أتعرض لنقد النظريات المعارضة إلا لماما، ولكن سوف يتضح موقفنا منهم ومن آرائهم عند البحث عن حدود التسامح. وأتمنى أن لا يفسر موقفي من التسامح (Tolerance)  عندما أقوم بنقد مبانيه الفكرية والفلسفية، بأنه دفاع عن الاستبداد، وخنق الأصوات، ومعارضة الحرية. بل على العكس من ذلك تماما؛ حيث دعانا الإسلام في أكثر من مورد ووسيلة وعبر العديد من آيات القرآن، والروايات الصريحة التي لا تحتمل التحريف أو التأويل إلى أنواع من التسامح مع الآخرين. وبالمقابل فقد ألزمنا بعدم التساهل والاستهتار، حيث أخبرنا بالفرق بين العالم والجاهل، والمؤمن والكافر، وحدثنا عن النور والظلمات، والهداية والضلال(11) ومن هنا،  كنا نحن الشيعة من المخطئة لا من المصوبة (التصويب بنوعيه الأشعري والمعتزلي)(12)، ولا يمكننا تجاوز الدليل في موارد الاختلاف؛ بحيث نعد كل طرف مالكا لحظ من الحقيقة. فالتساهل في معرفة الحق والباطل خيانة للحقيقة وإمضاء للباطل وإقرار له، وإن حقيقة موقفنا من هذه المسألة هو الاعتدال بين الشك المطلق وبين ادعاء معرفة كل شيء؛ ومن جهة أخرى نجد أن أكثر المنادين بالتسامح، من دعاة النسبية؛ بحيث لايؤمنون بثبوت حق أو باطل. وهذه النسبية وليدة وضعيةٍ وذاتيةٍ مفرطتين، وقد تعمقت هذه النحلة الفلسفية أكثر فأكثر على يد الفلاسفة الحسيين في القرون الأخيرة. ولم يكن لرفض كل معرفة ترتبط بما وراء الطبيعة والنقد القاسي الذي وجهه هؤلاء الفلاسفة إلى المعرفة الإنسانية نتيجة حسنة؛ حيث أدى ذلك إلى إنكار المعرفة بدل تصحيحها وتصويب مسارها.

وتحول الشك في "موضوع المعرفة" إلى "شك في أصل المعرفة وأساسها" وبدأ هذا الشك أول ما بدأ في المعرفة الحدسية، ثم سرى إلى المعرفة العقلية، ومنها انتقل إلى ميدان العلوم التجريبية في العقود الأخيرة، وتحول الشك من كونه توصية ونصيحة تسدى للعلماء، إلى شك منظم يعد أصلا وقاعدة. وبالتالي، صار درب المعرفة والعلم وعراه ومفازة يصعب الغوص في أعماقها والسير في منعطفاتها. ومن هنا نرى أن الفكر الغربي ارتضى بعد كل هذه التطورات مقولة فرنسيس بيكون القائلة: "لا تبحث عن المعرفة بل عن المتعة وإرضاء الذات"!! وقد تحققت النظرية التي تلقاها بيكون من أبيقور، ودافع عنها ويليام آكام في القرون الوسطى؛ تحققت هذه النظرية على يد فوكوياما، وبوبر، ودخلت نظرية المعرفة الجديدة في نفق الاستحالة والامتناع.

وبعبارة أخرى، إن آخر ما يفكر فيه أصحاب هذا الاتجاه هو الحق والباطل، والقيم وما يخالفها، وغير ذلك من الأمور العقلية المشابهة؛ ويرون في ذلك كله نوعا من الشعر والأغاني. ومن هنا، فهم يرون أن إشغال العقل بها عبث لا طائل من ورائه، والشغل الشاغل لهم هو البحث عن المنفعة والربح الذي يمكن الحصول عليه بعد أي عملية تفكير في مجال الحضارة والتخطيط، والتنظيم. والنتيجة الحتمية لهذا المنهج الفكري هي عدم المبالاة بالقيم والأخلاق.

وقد تبين من العرض المتقدم أن التسامح المدعوَّ إليه ينطلق من عدم الإيمان بالحق والباطل، ومن الاعتقاد بعدم وجود معيار لمعرفتهما. وعليه، يمكن جعلهما فداء للمنفعة؛ حيث إنها أمر محسوس يمكن التعرف عليه والإحساس به. وليس التسامح الحقيقي هدية قدمتها الليبرالية للبشرية، بل هو وصية الأنبياء ودعوتهم جميع الناس إلى نبذ محورية الذات، والاستماع للآخر ومراعاة مشاعره. والقول بعدم حجية الإجماع بشكل مستقل(13) – في الفقه الإمامي- يمكن عده واحداً من الأدلة على التسامح، وفتح الباب للرأي الآخر وإمكان طرحه، ودليلٌ، كذلك على أننا لا نفكر بطريقة كمية، ولكن نؤكد هنا أيضا أنَّ هذا يختلف تماما عن تجاهل الحق والباطل، والقول بالمساواة بينهما.

وعندما نراجع التاريخ نلاحظ أن التسامح الذي كان سائدا في ظل الحكومات الإسلامية لا وجود له في غيرها من الدول، والأنظمة الليبرالية وغيرها، والشاهد على ما ندعيه أن بعض الدول الليبرالية الأوروبية لم تتحمل حجاب بعض النساء المسلمات؛ لذا لا يمكن عد الدعوة إلى التسامح أمرا جديدا على الإسلام. غاية الأمر أن جذر هذا التسامح لا يعود إلى الشك الديكارتي، أو الكانطي، بل تمتد جذوره في تربة العرفان والفقه الإسلامي المستوحى من القرآن، وليس تسامحا في المعركة بين الحق والباطل، بل هو عبارة عن نظرة واقعية إلى الحدود التي يعمل العقل الإنساني ضمن إطارها؛ ولذا فالإسلام يعترف بإمكان الوصول إلى الحق وإدراكه، إلا أنه يعطي فرصة لمن لم يتكامل استعداده بعد.

 

المقدمة الرابعة:

المجتمع المدني ومجتمع الغابة

يتأسس التسامح الليبرالي على فرضين أساسيين:

أولهما: عدم وجود مرجح عقلي وبرهاني لمعتقد على آخر، والمعيار والمرجع الوحيد هو المنفعة، وهي من دون  شك معيارٌ بعديٌّ كمي أناني.

ثانيهما: أنه لا بد من تقليل الاختلافات، حتى يبدو المجتمع المدني هادئاً، رغم الوحشية المستبطنة فيه، وإلا فإن الحرمان وكبت الآراء ومنعها من الظهور، سوف يولد انفجاراً وثورة في هذا المجتمع؛ لذا كان لا بد من التساهل؛ لأن ذلك يؤدي إلى تخفيف حدة الاحتقان والغليان، وذلك أمر يصب في مصلحة أصحاب المعتقدات أنفسهم، وفي مصلحة المجتمع المدني بشكل عام أيضاً.

وبيننا وبين دعاة التسامح بون شاسع؛ حيث إننا نحمل مجموعة من المعتقدات نرغب بالعيش على أساسها وفي ضوء هديها، بينما هؤلاء التسامحيون لا يملكون ذلك، وينظرون إلى المعتقد بوصفه غريزة يجب إرضاؤها، لا بوصفه أمراً عقلانياً ينبغي التحقق من صدقه وكذبه، فهم يرون في الاختلاف نوعاً من تنازع البقاء، لا بحثاً دائباً عن الحقيقة.

وما هذا التسامح إلا خداع، فهو مصداق قانون تنازع البقاء الوحشي. وليس التسامح في هذه الرؤية خياراً، بل إجباراً يفرضه ضيق الخناق وعدم وجود حل آخر، هو قفل يسد باب المعرفة والبحث عن الحقيقة. وقد رأينا هذا التسامح المصطنع عند كثيرين من بني أمية، وبني العباس وغيرهم؛ حيث تترك العقائد التي لا تضر النظام الحاكم حرة طليقة، يتداول فيها في "هايد بارك"(14). وليس هذا التسامح مبنياً على احترام الإنسان وفكره، بل هو استغفال له للوصول إلى تعادل القوى عند درجة الصفر؛ بحيث لا يمكن للإنسان أن يتعالى ويرتقي في هذا النمط من التفكير.

إذاً، لا يرى التسامحيون أي قيمة للعقيدة؛ لذا يغنون قصائد التسامح لمفكري العالم الثالث، ويعتقدون بأن هوية الإنسان وحقيقته تكمنان في ميوله ورغباته، لا في عقائده وعقله. وقد أُخِذت نظرية التسامح من الفلاسفة الليبراليين أمثال: هيوم، وبنتام، ومل؛ حيث تحل "المنفعة، واللذة، والأمن" محل "الحقيقة، والأخلاق، والعدالة"، والمجموعة الأولى لا يمكن التسامح فيها عند هؤلاء، بخلاف المجموعة الثانية. وقد فُسِّر التسامح في الفكر الغربي الجديد، بأنه دعوة إلى عدم الاهتمام بالمعتقدات، وأن لا يكون الغرض من البحث والحوار الوصول إلى الحق والواقع، بل إرضاء شهوة الكلام لأجل الكلام.

 

المقدمة الخامسة

التسامح والرأسمالية:

لقد حالت الحروب التي خيضت في أوروبا بين البروتستانتية والكاثوليكية دون تحصيل حياة آمنة طبيعية، وكان من الطبيعي جداً أن يدعو المفكرون الغربيون إلى التحمل وسعة الصدر تجاه الآخر، إلا أن ذلك لم يقف عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى الدعوة، إلى تجاهل العقائد وعدم الاهتمام بها. وهذا يكشف عن عدم كون ما ذكر من الحروب التي خيضت والدماء التي أريقت سبباً للدعوة إلى التسامح، بل العامل الأصلي يكمن في محل آخر، ألا وهو الاقتصاد البرجوازي والدعوة إلى التنافس الاقتصادي الحر، المبني على قوانين السوق التي لا تخضع لأي شرط ديني أو أخلاقي. وهكذا يتضح أن الدعوة إلى ترك البحث عن العقائد والحق والباطل، نتيجةٌ منطقية للعقلية التي تدور حول محور الربح والمنفعة. وهذا ما نلاحظه في الغرب المعاصر، حيث يُتَسامح فيه إلى حدود كبيرة في العقائد والأفكار، ويُتَشَدد ويمارس العنف من أجل المنافع الاقتصادية والأرباح.

ولا يمكن فهم التعددية التي تعد لازماً من لوازم التسامح، إلا إذا قرأناها على ضوء نظرية المعرفة الليبرالية التي لا تقيم وزناً للمعقولات العالية، والمفاهيم الفلسفية غير التجريبية، والتي تغض النظر عن وحدة الحقيقة، وترى في النظريات المختلفة تعبيراً عن منافع متعددة لطبقات مختلفة. ومن هنا، يدعى إلى توزيع السلطة بين أصحاب القدرة. ولكن لا يبرِّر لنا أصحاب هذا المنطق ما هو المرجح لتوزيع السلطة بين عدد من كبير الأقوياء، على توزيعها بين عدد أقل.

والمفاد الأصلي لهذه الدعوة إلى التعددية هو: "بما أننا لا نعلم الحق من الباطل، فلنتقاسم السلطة فيما بيننا". وهذا التصوير للتعددية غاية في الجمال، بالقياس إلى ما هو مطبق في الخارج؛ حيث إن السلطة، سوف يتداولها عدد محدود جداً من الأقوياء الذين يملكون المال الموصل إلى السلطة والذي يصفه القرآن الكريم "دولة بين الأغنياء"(15)، وما يجري خلف الكواليس في الديمقراطيات الغربية ليس سوى "أوليغارشية بورجوازية"، وحكومة للشركات الرأسمالية، وليس حكومة للأكثرية إلا نظرياً.

يرجع بعض الباحثين قضية التعددية إلى الاختلاف النظري بين أفلاطون وأرسطو، حول ضرورة الوحدة والتعاون الاجتماعي الذي يدعو إليه أفلاطون، حيث يعد ذلك نوعاً من الشيوعية اليونانية، في مقابل ما يدعو إليه أرسطو، ويرى فيه هؤلاء الباحثون نوعاً من التعددية.

ولا يمكن قبول هذا الطرح المتقدم، بل يبدو لي أن ما يؤمن به أرسطو بعيد عن التعددية، ولا ربط له بها، إلا أنني أوافق أن الشخصانية والنسبية المعرفية من أهم جذور التعددية الليبرالية التي هي في الدرجة الأولى مقولة رأسمالية ممهدة للاقتصاد الحر؛ أي لا تحمل هذه النظرية بعداً معرفيا، ولا ترجع أهميتها إلى ذلك، بل هي ميل أناني نحو الربح نظَّر له الفلاسفة في مرحلة متأخرة. ولقد ألبس جون لوك، واستيوارت مل، وآخرين هذا الطمع والسعي نحو الربح لبوساً علمياً، في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر الميلادين.

وعلى ضوء ما أسلفنا يتضح سبب الاقتران بين التسامح، وبين التعددية ؛ حيث إن كلاهما يشرب من مصدر واحد، ألا وهو السياسة، والاقتصاد الداعي إلى إضعاف تدخل الدولة في القضايا الاقتصادية، وحصر دورها بالمراقبة؛ وذلك لأن الأساس ضمن هذا المنهج هو الفرد ورغباته، ومنافعه. والدولة، والمجتمع المدني دورهما تأمين راحة الفرد، والسهر على أمنه وحريته. وإن جوهر التعددية والتسامح الغربي يقوم على مجموعة أركان، هي:

– دولة محدودة الصلاحيات،

– وحرية لرأس المال،

– ولا مبالاة القوى السياسية بقضية الحق والباطل والعدل والظلم والعقائد الدينية.

ولم تطرح فكرة التسامح إلا لتفتح الباب على مصراعيه على الصعد المختلفة من سياسية واجتماعية لأصحاب الثروة، وللمصانع الإنجليزية التي كانت تستغل -من دون مراعاة أي قانون أخلاقي- المستضعفين، والمحرومين في أرجاء المستعمرات البريطانية.

ولم يستفد فكر، أو معتقد من التسامح، كما استفاد منه النظام الرأسمالي؛ لأن التسامح يستلزم نفي كل بعد أخلاقي، أو ديني يمنع أو يحد من حرية حركة اقتصاد السوق. وعندما نقبل ضرورة عدم بناء الدولة على أساس القواعد الدينية، أو الأخلاقية؛ ينتج عن ذلك عدم إمكان فرض المعايير الأخلاقية على الأفراد والجماعات، وسوف تكون الدولة مراقبا ضعيفا وخادما لرأس المال، وسوف تقع السلطة الفعلية بيد أصحاب النفوذ والقوة، والنتيجة بعد ذلك لا تحتاج إلى بيان.

إن اعتماد منفعة الفرد قاعدة للسلوك، تعبير نظري عن الأنانية الطاغوتية للغني صاحب المال في أوروبا الصناعية؛ وقد أوحت هذه القاعدة إلى الفلاسفة الليبراليين أن ينادوا بضرورة بناء الدولة على أسس لم تُستَوح من الأخلاق والدين، وأن ينادوا كذلك بلزوم مراعاة مصالح الفرد، مهما كانت مفرطة في البعد عن الأخلاق، ومهما كانت مغرقة في الطمع والأنانية. ولا بد لحديثي النعمة من اكتساب السلطة والمحافظة عليها؛ وفي هذه الحالة لا معنى للحديث عن المشروعية والحق، بل الحديث ينبغي أن يكون عن المنافع والمصالح، ولا بد من رمي العقل والعدالة والقيم وكل المفاهيم الماورائية جانبا، فهذه المفاهيم كلها شغل البطالين!! وتأخذ العقائد بعدا شخصيا لا ربط له بالواقع الخارجي، ولا يمكن إدخاله في حسابات القانون، فالمعيار الأوحد هو الربح والمنفعة الشخصية، لا الخرافات والقضايا الذهنية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وهذه تشمل الدين والأخلاق والعدالة! ومن هنا، على الدولة أن تكون محايدة تجاه هذه الأمور، وتتخذ سيرة التسامح فيها. هذه هي التعددية، وليست غير ذلك أبدا.

بناء على ما تقدم، لا يحق للسلطة أن تمارس صلاحياتها الرقابية على أنشطة المجتمع الاقتصادية، فيما إذا كانت تحمل فكرا محددا، ومعايير أخلاقية خاصة؛ بل ينبغي أن تكون السلطة أمرا مشاعا بين الجميع! ومن المعلوم من هم هؤلاء الجميع في ظل هذا النوع من الحاكمية. بالتأكيد هم أصحاب المال؛ لأنهم وحدهم القادرون على الاستفادة من الفرص المتاحة لهم. وأما سائر الناس، فهم مضطرون للتسليم بما يرتضيه هذا القوي.

التسامح والتساهل يعودان بالنفع على الأقوياء وذوي النفوذ وحدهم، فعندما نقول للراعي: لا يحق لك التدخل في شؤون القطيع، وعليك المساواة بين الذئب والنعاج. سوف يكون ذلك من مصلحة الطرف الأقوى وحده، ألا وهو الذئب، ليعيث في القطيع فسادا. وماذا ينتج التسامح والتساهل غير الظلم والفساد عندما يطرح في ظل ظروف وشرائط ظالمة؟!

 

المقدمة السادسة:

هل تستطيع الدولة أن تكون طرفاً ثالثاً:

يطرح مفهوم التعددية السياسية، وغيره من المفاهيم المشابهة في ضوء مفهوم التسامح وفي ظله، بل تعد التعددية من الآثار الحتمية له؛ أي أن السلطة تصبح رهنا بصراع النفوذ بين الأقوياء من الأحزاب، والتكتلات السياسية، وذلك وحده يحدد مصير الحق والباطل. وبالتالي، ليس مفهوم الدولة المعاصرة، سوى ثمرة من ثمار الصراع المرير على السلطة، وحركتها (الدولة) محكومة لزوما بالميل مع من ترجح كفة ميزان قوته على غيره.

إذاً، يلاحظ في ثنايا فكرة التسامح هرج ومرج، وفوضى منظر لها. والقاعدة الحاكمة هي أن كل من كان أكثر قوة، وأقدر على المناورة، كان له الحظ الأوفر في اقتسام السلطة. وليس هذا سوى قانون الغابة يُعمَل به على أعلى المستويات التنظيمية والسياسية، فيكون العامل الأول لتبديل السلطة هو القوة والمال، ومع هذا التبدل تولد مطامع وتطلعات جديدة. هذه هي آفات النظام الرأسمالي العلماني المتحرر من الأيديولوجيا كما يسمونه! وهم يعترفون بأن ما يحدد مصير الإنسان ويوجهه هو الضغوط التي تمارس بطريقة خفية، وكما يقول هوبز وغيره من الفلاسفة الماديين: "الإنسان الذئب" هو الذي يتحكم بكل شيء ويعطيه شكله الذي يريده له.

ولا أجد التسامح إلا تسامحا مع الأقوياء، ولا أفهم من التعددية إلا تقسيم السلطة بينهم وبين الأغنياء؛ أي يمكن اختصار ذلك بالقول المتداول "كل وأطعم"، ولكن مع إعطائه طابعا عقلانيا ونسقا منطقيا. ومن ذلك كله يتضح معنى العقلانية الجديدة؛ فالمقدس فيها هو الحرية للأقوياء والمستربحين، وهي معيار المشروعية الأوحد.

ولا يمكن في ظل هذا الوضع الحاكم أن تتحول الدولة إلى طرف ثالث، فتأخذ شكلها القانوني، بل لا تكون إلا تجسيما حقوقيا لأصحاب المصالح، ولا يمكن تصور قوانين مستقلة بعيدة عن حسابات الأرباح، والخسائر للقوى الحاكمة، ولا يمكن لعامة الناس أن يشتركوا في منافسة عادلة؛ فإن ذلك ممكن للقوي الحاكم وحده في الحكومة الليبرالية، والمجتمع العلماني. وعليه، سوف يتبدل التسامح النظري إلى تشدد مقنع، وعنف خفي، أو ظاهر أحيانا يمارسه الإلحاد الرأسمالي.

ومن هنا، نجد بعض المفكرين الغربيين يرون أن الحرية شعر، والتسامح شعار، وتداول السلطة كذبة فحسب؛ وذلك لأن الرأسماليين والصهاينة المتحكمين بالاقتصاد، والثقافة الغربية ليسوا من أهل التسامح أو المداراة؛ بحيث يؤتمنون على تداول السلطة بشكل عادل يحفظ حقوق الضعفاء والمساكين.

 

نظرية  كينغ  ونقدها:

يستهل  كينغ  البحث عن نظريته في كتابه (Toleration)، بدعوى أن التسامح هو "القبول بما ليس عندنا"؛ وهذا يعني أن التسامح هو الاختيار بين مجموعة من الممكنات. وبالتالي يتوقف ذلك على تحديد ما نرغب بالتضحية به، فكل ما نراه أقل أهمية هو الذي ينبغي أن يكون كبش الفداء في هذه العملية، وذلك خاضع لمعاييرنا نحن. ومن الواضح أن ما لا يمكن التضحية به في المنظومة الليبرالية هو اللذات والمنافع، وكل ما سواها ينبغي أن يكون هو الفداء والقربان. وعندما يصل الأمر إلى الحق والباطل والقيم، يأتي الحديث عن التسامح والتساهل والدعوة إليهما.

يصرح  كينغ  نفسه في كتابه المشار إليه قائلا: "التسامح عمل عقلاني مبني على تصور الفاعل لسلم أولوياته"(16)، ويُفهم من هذا الكلام أن كل شيء خاضع لما نريد ولأذواقنا الشخصية لا غير، ولا معيار وراء ذلك.

وهنا نسأل، إذا كان المعيار هو الذوق الشخصي والرغبة الخاصة، فبأي حق يمكن إلزام غير المتسامح بالتسامح، والنزول عند مقتضيات تسامحكم؟ فلماذا يعد عدم التساهل مع تشدده، أصح من تشدده هو؟ إذا كان المعيار هو الميل الذاتي وأولويات الفاعل، فلماذا لا تعد اختيارات الطرف المقابل لنا عقلانية، بالدرجة نفسها التي نرى فيها عقلانية اختياراتنا؟ ولماذا يطلب من الآخرين أن يتنازلوا عن ترتيبهم لأولوياتهم لصالح أولوياتنا نحن؟

وجوابنا عن هذا التساؤل واضح وحاضر؛ حيث إننا نرى أن التسامح في بعض الموارد يمكن أن يكون خطأ وظلما. وبالتالي، لا يجوز تبريره والدفاع عنه. وأما في نظرية التسامح الليبرالي، فلا يمكن تبرير ذلك لعدم وجود معيار عقلاني غير ذاتي لترجيح اختيار على آخر؛ لأن المعيار الوحيد المقبول ضمن أطرهم الفكرية هو الذات ولا شيء غيرها.

إذاً، لا يزال الاختلاف حول أمرين:

أولاً: حول المعيار المطروح للتسامح

ثانياً: حول التعريف الذي يقدمه  كينغ له؛ حيث إنه بدل تقديمه لتعريف منطقي لمفهوم التسامح نراه يطرح تعريفا قيميا، فيقول: "التسامح هو تجنب إعمال المعتقدات والميول الشخصية"(17).

وسوف نحاول إلقاء الضوء على التعريف الأخلاقي لمفهوم التسامح كما يراه دعاته، لوجود كثير من الأسئلة المنطقية التي يطلب منهم الإجابة عنها، وهي: لماذا يطلب تجنب اعتماد الرغبات الشخصية في مقام العمل؟ هل يتساوى ذلك مع الدعوة إلى عدم الاعتماد على المعتقدات والأيديولوجيات؟ ثم لمَ يضحي المرء بعقائده لأجل عقائد التعدديين؟ وبخاصة أن القانون يحتاج إلى مبرر عقلائي وأخلاقي، ومن دون ذلك لا يمكن الحيلولة بين أمة، وبين معتقداتها.

بناء عليه، يبدو أنه لا يمكن التوصية بعدم العمل وفق المعتقد؛ لأن من يعتقد بأمر يعتقد بلوازمه السلوكية والعملية، وذلك هو معنى الاعتقاد لا غير، وإلا فإن الشخص الذي لا يعمل وفق عقيدته لا يكون معتقدا حقا، وهذا من عوامل الضعف لا من عناصر القوة. والحل الوحيد  برأينا هو التوصية بتبني العقائد الصحيحة قبل العمل، لا التوصية بعدم العمل على أساسها بعد الإيمان بها.

 

إطلاق المنفعة ونسبية الحق والقيم:

لقد عد الليبراليون مسألة الحق والقيم غير قابلة للنقاش والبحث، ودعوا إلى ترك البحث حول المعتقدات، أو ترك التمسك بها فيما إذا كان لها تأثير اجتماعي، ولكنهم في المقابل لا يتساهلون في مقام العمل عندما يتعلق الأمر بهم أنفسهم، ولا يتوانون عن اللجوء إلى العنف وممارسة الشدة مع المعارضين لفكرهم ومنطلقاتهم، وهم يصرحون بذلك، فيقولون: "لا يجوز إعطاء الحرية لمخالفي التحرر وأعداء المجتمع الليبرالي بل يجب مقاومتهم ولو بالعنف"، ولا أدري ما هو الفرق بين التشدد الذي ينهى عنه دعاة التحرر والتسامح، وبين ما يروجون له من التشدد مع الآخر الذي يدعو إليه پوپر، وفوكوياما. ولو أردنا تقييم موقفهم من هذه المسألة، لوجدنا أن دعوتهم إلى التسامح هروب من المشكلة لا حل لها؛ حيث إنهم بعد ما لاحظوه من المشاكل التي تترتب على الأيديولوجيات دعوا إلى تجنبها في مقام العمل.

 

ولو سُئِلنا عن حل آخر أفضل مما توصلوا إليه، لأجبنا:

لا ينبغي الفرار من المشكلة، بل ينبغي اجتراح  الحلول المناسبة لها، فمن يعتقد مثلا، بـ"لزوم مواجهة المفاسد الاجتماعية"، في مقابل من يؤمن بـ"ضرورة الاعتراف بها وتقنينها"، كيف يُدعَوان إلى التسامح والتنازل كل منهما للآخر؟ أيُّ العقيدتين تُطَبَّق وأيها يُضَحَّى بها؟ أم يُضَحَّى بكليهما؟ فلا بد من تحديد الموقف من كل من المعتقدين، بوساطة معرفة الحق والباطل، وبعد ذلك، وفي الدرجة الثانية على ضوء المصالح والمفاسد المترتبة عليهما، وبمراعاة الأوضاع والظروف المحيطة يُختار الأنسب والأقرب للحق، ولا يُعطى المجوز لأحد بالاستهانة بالحقوق بحجة التسامح والتساهل.

 

التسامح في العقائد والأخلاق والتشدد في المصالح:

لابد من تحديد واجبنا تجاه كل معتقد يطرح، على أساس مدى مشروعيته. والمصدر الذي نستمد منه معاييرنا هو "العقل والنقل". أما الليبراليون، فلا يمكنهم الاعتماد على هذين الأمرين؛ وذلك لأنهم لا يؤمنون بأن الدين يمكنه أن يحدد لنا معايير سلوكنا، ولا يرون العقل قادراً على الخوض في مسائل ما وراء الطبيعة؛ لأنها شخصيّة محضة لا تخضع لأي معيار. والمقدس في مذهبهم هو اللذة، والربح، وأما الحقيقة ومشروعية العقائد، فلا معنى لها في قاموسهم. وإنني أرى من الضروري الإشارة إلى أن التساهل يُقبل عندهم عندما يترتب عليه مصلحة، وأما إذا عارض مصلحة ما، فلا يعود خياراً راجحاً.

ومن هنا، يلاحظ أن كل ما قدمه الفكر الليبرالي هو جعل العقائد موضوعاً ومورداً للتساهل ليس إلا، فلم ينتف العنف والتشدد من ساحة عمل الليبراليين بل تبدل مركزه، وأضحى أشد وحشية وهمجية.

ونحن حيث ندعو إلى عرض أي معتقد على المعايير العقلية المقبولة أو على الوحي، ندعو إلى ذلك قبل العمل، لنحدد مدى صحة هذا المعتقد وانسجامه مع أحكام العقل ومقتضياته؛ أي يجب حل مشكلاته النظرية في الدرجة الأولى، على ضوء أحكام العقل السليم، بعيداً عن أي حساب ذرائعي مصلحي، أو حسابات أنانية. وذلك لا ينفي قبولنا لكثير من أنواع التسامح والتساهل كتسامح العالم مع الجاهل، والقادر مع العاجز، والتسامح في مقام البحث والنظر، بل في مقام العمل أيضاً فيما إذا اقتضى ذلك العقل أو الشرع، في الموارد التي تعد من المتشابهات. ولا أعتقد أن ذلك ينكره عقل سليم، وهو بعيد غاية البعد عن التسامح في معايير الحق والباطل والاعتراف بحقانية كل معتقد، وعن دعوة أصحاب العقائد إلى التنازل عن ما يعتقدون.

وإذا كان تقبل الآخر الذي يدعو إليه الليبراليون، ويرون أنه يندرج تحت مفهوم التسامح، إذا كان هذا التقبل مرفقاً بالاعتراض والرفض، فليس هو تقبلاً مطلقاً، بل هو نوع من التحمل ليس إلا، وعندها نجد أنفسنا بين خيارين: إما ترك ما نعتقد به أو التمسك به، وعلى الحالين نحتاج إلى مرجح لأحد هذين الخيارين على أساس الدليل والبرهان، ونحن ملزمون بالأخذ بالحجة، فإما أن يجب علينا التحمل والقبول، وإما يجب الرفض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع رعاية مراتبهما(18)

 

تبادل المواقع بين التشدد والتسامح:

يعترف الإسلام بضرورة التسامح والتشدد كل في موقعه ومورده. ولا يمكن إحلال أي منهما محل الآخر(19). ولا أعتقد أن أحداً ينكر هذا الحكم العقلي الواضح. والبحث الأساس ينبغي أن يكون في تعيين محل كل منهما وموضعه؛ حيث إننا ندعي وجود معايير لمعرفة ذلك، بينما لا تُعلَم هذه المعايير في منظومة الفكر الليبرالي. فالليبرالية تعترف بأن التسامح عبارة عن الجمع بين "الاعتراض والتقبل"، والتسامح تجاه أي شيء يتضمن عدم التسامح تجاه نقيضه.

وهنا نسأل: هل يجب نفي الفساد وقطع دابره أم لا؟ إذا كان لا يجب ذلك، فهذا معناه غض النظر عن الصلاح والإصلاح ونفيهما، وهذا يتضمن ترجيح جانب الفساد.

 

احترام خصوصيات الأفراد:

يعترف الإسلام بحرم شخصي لكل فرد من أفراد المجتمع، وبالتالي لا يجيز لنا التجسس عليه وانتهاك خصوصياته. ويعترف كذلك بمساحة واسعة للاختلاف النظري؛ فلا يجيز اعتراض الآخر لأجل معتقداته، واختلافه النظري عنا، ولكن هذه المساحة الواسعة لها هامش تنتهي عنده، وهي خاضعة للضوابط المنطقية والعقلائية. وتعتمد هذه الدعوى على الكثير من الأدلة الشرعية من القرآن، وسيرة المعصومين في تسامحهم مع المخالفين لهم والمختلفين عنهم، مع مراعاة جانب الحق والحقيقة وتقديسهما، لا بمعنى عدم إمكان معرفة الحق، والاستهتار بالقيم، أو الفرار من المسؤولية.

إذا، ليست المداراة التي يدعو إليها الإسلام هي القبول بالخطأ أو التصالح مع الباطل، بل بمعنى الرفق والمداراة، وتضمين مقولة الهداية معنى المحبة والإشفاق، فكل الجهد ينبغي أن ينصب على الحق ورعايته، وعندما يختار المرء الحق، ويذعن له لا يمكن أن نطلب منه عدم العمل بلوازمه ومقتضياته، ولا يقبل هذا المبدأ المساومة أو التنازل. وأما الليبراليون، فإنهم لا يجدون غضاضة في التنازل عن المعتقد، لأجل المصلحة، أو غيرها من الرغبات، وهم في ذلك منسجمون مع ما يراه هوبز، وهيوم، وميكافيللي، من أن حقيقة الإنسان تكمن في ميوله ورغباته لا في عقائده وما يؤمن به.

 

التعددية والداروينية الاجتماعية:

بعد ما قدمناه بدأ يتضح أمام القارئ أن التسامح الليبرالي لا يهدف سوى إلى إقصاء مبدأ الحق والعقلانية، وطرد العقيدة تحت شعار طرد التعصب، وإلى تأمين نوع من تعادل القوى، وبالتالي تحكيم قانون تنازع البقاء، بحيث لا يكون التساهل خيارا من خيارات متعددة، بل إلزاما نحن مضطرون للقبول به كنتيجة لهذا المبدأ المشار إليه.

أن نجوِّز للإنسان تبني أي معتقد معناه عدم الاعتناء بالعقائد أو اعتبارها أمرا مهما، ومعناه أيضا أن نخط خط البطلان على مفهومي الحق والباطل، وعدهما كلاما ليس إلا. ويكون صاحب أي عقيدة محمياً، وتحت ظل القانون ما دام لا يورد عقائده إلى ميدان العمل والسلوك، وما دام ملتزماً بالعمل وفق منافعه، وغالبا ما يكون ذلك خاضعا لميزان القوى الذي يتبع رأس المال، الحاكم الأول في المجتمع الليبرالي، وإن كان يبدو ظاهرا أن الحاكم هو الديمقراطية، إلا أن ذلك الظاهر يخفي في باطنه أسوأ أنواع الاستبداد للأقلية التي تملك المال.

وبالتالي تتحكم بالإعلام وغيره من أدوات ممارسة السلطة. وهذا ما يؤكده تسلط القوى الصهيونية على مقدرات البلدان الغربية؛ حيث تمارس أقسى أنواع العنف المقنع. ويراد عادة من الدعوة إلى التسامح، الدعوة إلى نبذ الأديان، وإضعاف المعتقدات، والاستخفاف بالقيم، وغير ذلك من المفاهيم التي ينتج من رواجها ضعف حس المقاومة عند الشعوب، وقلة غيرتها، والنتيجة الطبيعية لذلك تسخير الحقيقة واستغلالها، وأقصر الطرق لتحقيق هذا الهدف هو توجيه أشد الانتقادات إلى المعرفة، والدفاع عن التعددية وتكثر الحقيقة؛ الأمر الذي يمكن عده نموذجا جديدا لنظرية التصويب التي كانت تدعو إليها بعض المذاهب الإسلامية، في مجال الأحكام الشرعية. ويمكن اختصار المقولة الليبرالية بأنها دعوة إلى عدم تبني موقف، أو إلى عدم الالتزام بذلك الموقف وعدم تحويله إلى سلوك في حال تبنِّيه، وكأن الليبرالية تقول لنا: تمتعوا بأفكاركم وأنسوا بها في خلواتكم، ولكن إياكم وحذار من العمل على تطبيقها أو الدعوة إليها.

أعود وأكرر أن التسامح المدعو إليه إذا لم يكن ترديدا وشكا، ولم يكن استخفافا، وعدم اهتمام بالحقيقة ناشئا من ضعف، ومشروطا بموافقة الحجة العقلية والشرعية، إذا كان مشروطا بهذه الشروط ومقيدا بها، فإنه ليس مقبولا في الفكر الإسلامي فحسب، بل هو من الأصول التي تجب رعايتها والالتزام بها.

وقد تحدث  كينغ عن "التسامح في مورد الهوية"؛ أي في مورد الأمور غير الاختيارية، وهذا النوع من التسامح نقبل به ونؤيده، وموقفنا السلبي منحصر بالتسامح في العقائد بالمعنى الذي لعله صار واضحا بعد ما تقدم كله؛ ذلك أنه لا بد من التفصيل بين نوعين منه، ولا يمكن أن نتخذ موقفا إيجابيا أو سلبيا بشكل مطلق، من دون التمييز بين الموارد. وحتى الغربيون أنفسهم كانوا مورديين في تسامحهم، نعم المعايير التي اعتمدوها مختلفة، وهي معايير مادية غالبا، وعلة ذلك أن الحضارة الغربية المعاصرة متشددة في المنافع والمصالح، ومتسامحة في القيم والعقائد. من هنا، يمكن أن ندعي أن الاختلاف بيننا، وبين الفكر الغربي لا ينصب حول أصل مفهوم التسامح، ولزومه أو عدمه، بل حول الموارد التي ينبغي إعماله فيها والموارد التي لا يجوز فيها ذلك، وكذلك حول منطلقاته الفلسفية، ومنافعه، وأضراره.

وعندما يلاحظ تشددٌ وصلابةٌ في الفكر الإسلامي في موارد مواجهة الظلم والفساد ومحاربة المنكر، وعندما يمارس العنف والقوة في مثل هذه الموارد، لا يعني ذلك عدم وجود حدود وقيود تضبط هذه الممارسات، بل ينبغي أن يخضع ذلك كله لأصل العدالة. وليس ترك التسامح في مثل هذه الموارد ناشئا عن أسباب نفسية وعقدة من الآخر كما يدعي كينغ، بل هو عائد إلى الدفاع عن الحق، واحترامٌ لمقتضيات المعرفة، ولا يوجد في الفكر الإسلامي نفور من الآخر لكونه مختلفا، ومن باب التعصب والحقد عليه؛ لأن الإسلام يرى في الفرعونية شعبة من شعب الكفر والطاغوتية.

 

النفور النفسي أم الثبات في صراط الحق؟       

إذاً، لا ينبغي أن يفسّر الالتزام بقضية الحق والباطل، تفسيراً نفسياً؛ وذلك لأنّ ذلك لا علاقة له بعلم النفس، ولا بالمدرسة الفرويدية التي ترجع "الغيرة على الحق" إلى غريزة الرفض، ولا بنظرية ثيودور آدورنو في بحثه عن الشخصيات السلطوية الرافضة للأوضاع الاجتماعية السائدة، ولا بالتحليل العلم-اجتماعي الذي يرى في المقاومة والدفاع عن المعتقد أمراً اكتسابياً، كل هذه الاتجاهات لم تكن دقيقة، أو صاحبة نظرة جامعة إلى الالتزام والثبات على العقائد والأيديولوجيات، بل كانت تفسيراتهم قبلية أشبه ما تكون بالمصادرات، التي تهدف إلى إلغاء المسألة بدل تفسيسرها وحلها.

هؤلاء جميعاً نظروا إلى الاعتقاد والالتزام به، والحياة على ضوء القيم، على أنها المشكلة الأصلية، وإلا فإنّهم أنفسهم أجازوا العنف وعدم التساهل في موارد متعددة. ويشير كينغ إلى الجذور التاريخية للموقف السلبي المعاصر من الاعتقاد والالتزام به؛ حيث كانت الحروب الدموية بين المذاهب المسيحية رائجة في القرن السادس عشر الميلادي. وقد جربت كل الفرق حرق أفراد من الفرقة الأخرى؛ وكما أحرق الكاثوليك "هوبماير" أحرق البروتستانت الكالفينيين سرفيتوس، وكذلك أحرق اللوثريون مونتور.. وهكذا. يقول مارتن لوثر: "إن العقل أعدى أعداء الإيمان، لطِّخوا وجهه بالفضلات، وأغرقوه في حوض التعميد، إنهم ملعونون ومشركون أولئك الذين يريدون عقلنة أصول المسيحية. واقتلوا غرقاً أولئك الأطفال الذين يولدون نتيجة الجماع بين النساء والشياطين… وكل من يريد التقرب إلى الله عن غير طريقتنا(الترك، واليهود، والكاثوليك) يجب أن يموت؛ حيث لا خلاص ولا نجاة خارج كنيستنا".

وهو نفسه يبشر الأمراء عندما ثار عليهم الفلاحون عام 5251: "يجب عليكم وعلى كل شخص أن يقمع العصاة، ويدمرهم؛ لأنه لا شيء أقرب إلى الشيطان من العصيان والتمرد، والكلب العقور يجب قتله ولا أعتقد أن شيطاناً بقي في الجحيم في هذه الأيام، بل كل الشياطين حلت في أجساد هؤلاء الفلاحين العصاة، اشحذوا أيها الأمراء سيوفكم فأنتم خدام الله والمنتقمون باسمه(20).

مضافاً إلى ذلك فإن لوثر هو القائل: "أحرقوا الآخرين بالكبريت ليعلم الله أننا على الحق المسيحي، خربوا بيوتهم، واطردوهم من التراب الألماني، حيث لا يجوز أن نعاني من التعاليم المخالفة، ويجب إجبار غير المؤمنين على الحضور في الكنائس ليكونوا موافقين للآخرين، ولو بحسب الظاهر. وأما المنكرون لألوهية المسيح فيجب قتلهم".

ويحدثنا التاريخ عن وجود كثير من هذه التوصيات البروتستانتية والكاثوليكية واليهودية، إلا أن العنف الليبرالي كان أقسى من ذلك بكثير، فإن كثيراً من المجازر الدولية، وقذف القنابل النووية والكيميائية، وما نتج عنها من مآسٍ وآلام، قامت بها جيوش علمانية ليبرالية، وأي فرق بين هذه المجازر وبين ما نتج عن الحروب الصليبية، وغيرها من الحروب التي كانت تخوضها الفرق والمذاهب المسيحية فيما بينها؟!

وعلى أي حال ورغم هذه الوقائع التي ارتكبت تحت شعار الدين، وباسمه إلا أنها لا يمكن أن تكون سبباً نظرياً كافياً يستند إليه كل أنواع التشدد وعدم التسامح. ورغم أن الليبرالية نمت وترعرعت في هذا المهد إلا أن مشكلة التوصيات القاسية المشار إليها تكمن في محل آخر. ولا ينبغي الدعوة إلى المصالحة بين الحق والباطل، اعتماداً على هذه الأجواء التي كانت سائدة.

وبغض النظر عن الخطأ المنهجي الذي ولّد تلك الصراعات المذهبية في القرن الخامس عشر والسادس عشر، يبقى في الذهن سؤال حائر يحتاج إلى جواب، وهذا السؤال هو: هل يمكن إعمال العنف والاستفادة منه في بعض الموارد من أجل مصلحة البشرية؟

ولسنا نسأل عن الخلاص والنجاة المعنويين، ولكن هل يمكن اللجوء إلى العنف لمنع شخص من الانتحار؟ وهل نكون أسدينا له خدمة أم أننا أضرينا به في ذلك العنف؟

 

الأصل هو الحق أم الأنا؟

عندما ننطلق من أجواء الفردانية التي ترى أن الأساس في أي حكم، وفي معايير السلوك لابد من أن تكون مبنية على قاعدة إرضاء الرغبات الشخصية الذاتية، نكون قد أخطأنا في حق من نمنعه من قتل نفسه، حيث إن كل الرغبات تصبح مشروعة مهما كان نوعها.

وأما إذا نظرنا إلى الموضوع من زاوية العدل والعقل، نكون قد أضرينا بمن يريد الانتحار، لو سمحنا له بذلك وتركناه ينفذ رغبته غير المشروعة تلك؛ وذلك لأن الحق الشخصي تابع للحق المطلق، ومقيد به، وليس مطلقاً ومتروكاً لرغبات الشخص. وبعبارة أخرى، إن حقوق الإنسان. تابعة لتعريف الإنسان نفسه وحقيقته.

وعندما تتعلق المسألة بنجاة الإنسان الحقيقية، يصبح الأمر أكثر أهمية، والإهمال أكثر ضرراً وخيانة أقبح. ولابد من التمييز بين ثلاثة مفردات هي: حرية المعتقد، وحرية نشره وتبليغه، وحرية العمل وفقه، ولا بد من دراسة هذه المفردات كلاً على حدة، وكما يقول الشهيد مطهري: هناك فرق كبير بين حرية التفكير وحرية الاعتقاد فالأول ممدوح ومحثوث عليه. أما الثاني، فهو مرتبط بمتعلق العقيدة وتابع لها، فهل علينا أن نحترم الاعتقاد بالخرافات؟ حتى لو كانت مضرة بصاحبها؟ نعم غاية الأمر أن تغيير عقيدة الآخر وإصلاحها لابد أن يكون خاضعاً للضوابط المنطقية، وأن يكون ذلك باختيار الآخر ورضاه لا بالقسر والإجبار.

والمعتقدات بحد نفسها ليست أمراً اختيارياً ليكون خاضعاً ومحكوماً للبحث القانوني، بل هي معلولة لمجموعة من المقدمات، والعمل الأساس لابد من أن يتم على هذه المقدمات التي يكون بعضها اختيارياً. ومن هنا نقول: لا ينبغي أن ندخل أحداً بالإجبار والإكراه إلى الجنّة.

ومن جهة أخرى، فإن نشر العقائد الفاسدة والخرافات، أمر مضر بالناس وإغواء لهم، وكذلك إعمال هذه العقائد المنحرفة كثيراً ما يؤدي إلى تضييع حقوقهم المادية والمعنوية، وبالتالي، يجب على كل من له قدرة على منع ذلك أن يحول دونه، نعم بالطريقة المناسبة التي لا تكون أكثر ضرراً، وأقبح وقعاً ونتيجة.

وقد أشرنا في ما مضى إلى أن التعصب المذهبي الذي ساد في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وما نتج عنه من حروب بين المذاهب والأديان جعل كثيراً من المفكرين يسيئون الظن بكل معتقد ديني مهما كان نوعه؛ وما يشير إليه جوردن في كتابهThe Development of religious operation in England  من رواج مقولة التسامح، في القرنين السابع عشر والثامن عشر يكشف عن أن الدعوة إلى التسامح بين المذاهب والأديان تحولت إلى التشكيك في كل عقيدة. وبعبارة أخرى، خرج التسامح عن حقيقته وتحول إلى إنكار العقائد بدل التسامح في ما بينها.

ويشير منظرو التسامح إلى مستويات ثلاث لهذه الفكرة، هي: التسامح السياسي، والفلسفي، والديني. وفي مورد كل واحد من هذه الموارد يدعون إلى اعتماده أيديولوجية وغاية أصيلة. ونحن بدورنا سوف نعالج كل واحد من هذه المستويات على حدة.

 

التسامح السياسي:

يتركز البحث عن التساهل السياسي سلباً أو إيجاباً حول الكلفة السياسية والاجتماعية لتوحيد المجتمع والتوجهات السياسية، ومدى ما ينسجم ذلك مع أمن المجتمع المدني واستقراره فالداعون إلى التسامح يستدلون بالكلفة العالية لتوحيد المجتمع وعدم جدوى ذلك. والمخالفون لهذه الفكرة يحتجون بدعوى المحافظة على أمن المجتمع من خطر التعدد وما ينتج عنه من الاختلاف.

ونحن نرى أن الإسلام يهتم بأمن المجتمع، والمحافظةعلى أنساقه، إلا أنه لا ينبغي أن يتحول ذلك إلى حجة يُستَند إليها لقمع أي فكرة مخالفة لما هو سائد. وليس هذا ناتجا عن نظرة نفعية كالنظرة الليبرالية؛ حيث إن الليبرالية تدعو إلى التسامح على ضوء حسابات الربح والخسارة. وليس هذا موقفا إيجابيا من التسامح بل هو تقديس لمنطق المصلحة ليس إلا. وبعبارة أخرى، إن الليبرالية لا تتنافى مع التشدد، بل تجيزه لولا ما يترتب عليه من مشكلات عملية، أو فقل: بما أن التشدد ليس حلا عمليا مربحا، فلذلك لا تتبناه الليبرالية ولا تجيزه.

ولا بد من الالتفات إلى أن هذا ليس دليلا مؤيدا للتسامح، ولا رؤية داعمة له، بل هو ناتج عن نوع من الجبر السياسي والاضطرار العملاني. وأعتقد أن هذا الموقف من التسامح هو من أبشع المواقف، وفي الطرف المقابل فإن دعاة التسامح الديني، أو فقل المخالفين لنظرية التسامح الليبرالي لا يلجأون إلى التسامح بعد ملاحظة كونه خيارا مكلفا، بل إن موقفهم ذلك نابع من الدليل الشرعي أو العقلي الذي يلزمهم باتخاذ هذا الموقف، أو على الأقل ؛لأنه لا يوجد دليل يمنعهم من الأخذ به.

ولذلك نحن أكثر تقدما من الليبرالية والليبراليين؛ حيث إننا نقول بالتسامح بوصفه خيارا أوليا لا من باب الاضطرار. ولو فرض أن المتدين اضطُر إلى التسامح أحيانا في أمر لا ينبغي التسامح فيه، فإن له في ذلك مبرراً منطقيا ودينيا، وهو يستند في ذلك إلى الدليل الشرعي لا إلى المصلحة وحدها.

 

التساهل وكونه وسيلة للإخلاص الديني؟

وأما حول ما ذكره التسامحيون في مورد التسامح الديني فإن أقصى ما ذكروه هو: قبح الرياء في مورد الدين. الأمر الذي يتنافى مع جوهر الإيمان الذي يجب أن يكون نابعا من القلب، وملامسا للوجدان، والتساهل في هذا المجال يؤدي إلى تعميق هذا الشعور ونقائه، ويمنع بالتالي أي مظهر من مظاهر الرياء. وهنا نسأل: كيف يمكن أن يولد الاهتمام بصحة الاعتقادات وسقمها رياء، أو نفاقا؟ وهل تتساوى في نظركم كل أنواع الإيمان وأشكاله، من ناحية الآثار الاجتماعية المترتبة عليها؟ وهل ينسجم المجتمع الليبرالي مع أي إيمان؟ من الواضح أن الجواب هو النفي.

يستقبح الليبراليون الرياء ويصرون على الإخلاص في الوقت الذي نجدهم ألقوا كل القيم والأخلاق ومعايير المعرفة إلى المزابل، وكذلك نجدهم يصرحون بعدم الأهمية المعرفية للدين ولما يتعلق بما وراء الطبيعة، بل لا وجود لمثل هذه الكلمات في قاموسهم.

ثم عندما لا يوَسِّع المتشددُ دائرةَ تشدده إلى قلوب الناس وضمائرهم، سوف يفقد الداعون إلى التساهل حجتهم من دون الحصول على ما يريدون؛ لذا فهم بحاجة إلى دليل آخر يبنون عليه دعوتهم. أضف إلى ذلك أن إظهار الإيمان منفصل عن الإيمان نفسه، ويمكن اعتباره أمرا اجتماعيا موضوعيا، له آثاره الإيجابية، أو على الأقل ضرره أقل من ضرر إظهار الكفر. صحيح أن الإيمان أمر وجداني متروك لضمير المؤمن بعيدا عن أي نوع من أنواع الإجبار، ولكن كيف نثبت أن المجاهرة بمعاندة الحق والحقيقة أقل ضررا من الرياء الديني؟!

ولو خُيِّرتُ بين الدفاع عن الحق مع شيء من الرياء، وبين المحاربة المخلصة له؛ لفضلت الأول على الثاني، لكونه أقل ضررا على المجتمع والفرد، وذلك لا يقلل من بشاعة الرياء وقبحه؛ وبخاصة على ضوء وصفه في التعاليم الدينية بالشرك، وعده رذيلة أخلاقية، ومانعا من الوصول إلى درجات التوحيد، وحائلا دون قبول الأعمال.

 

التسوية بين الحكيم والعامي

يرجع الليبراليون الحساسية التي تبديها الأديان تجاه العقائد الفاسدة إلى نظرة الدين إلى الإنسان، حيث يعتقدون أن للأديان نظرة تشاؤمية إلى الإنسان، فهو لا يرضخ لأكثر الأدلة عقلانية، وهذا ما يدعوه إلى البعد عن الدين ومقتضيات المنطق. وكذلك يوجهون سهام نقدهم إلى المدينة الفاضلة التي يدعو إليها الحكماء والفلاسفة؛ لعدم تساهلها، ولإصرارها على تنقية الجهاز الحاكم من المفسدين، ولإيمانها بفضيلة القادة لاتصالهم بالعقل الفعال.

 

المشكلة الأساس لدعاة الليبرالية، أنهم يؤمنون:

أولا: بالمساواة بين العقائد وعدم الفرق بين عقيدة فاسدة، أوخرى صحيحة.

وثانياً: لا يرون فرقا بين الحكيم والعامي؛ فالكل من وجهة نظرهم يعمل وفق ميوله ورغباته، وبالتالي كل الرغبات مشروعة بالدرجة نفسها. ولا مجال للتمييز بين "عادل وفاسق"، وبين "حكيم وعامي".

 الليبرالية فاشية تعمل بصورة معقدة

وتعقيبا على ما أشرنا إليه في الفقرة السابقة نتساءل ما هو منشأ نفي الليبرالية لتراتبية العقلانية ورفضها للتفاضل على أساس الفضيلة الناشئة عن التقوى؟! وما هو البديل الذي تقدمه لنا؟ وهل هو نوع من القول بالمساواة ورفض التفاضل؟

لا أعتقد ذلك بل ما تدعو إليه الليبرالية ما هو إلا استبدال لمعايير التراتبية القديمة بأخرى مبنية على القوة والثروة، بل نوع من الأوليغارشية البدوية، ولكن بأدوات ووسائل حديثة أكثر تعقيدا من ذي قبل. ومن هنا قلنا: إن الدولة الليبرالية ليست دولة العقل ولا الفضيلة، بل دولة القوة المقنعة، دولة تنازع القوى بمناهج جديدة، وسوف تكون نتيجة هذا الصراع لصالح الأقوى المسلح بالسلطة والمال. وبكلمة أخرى، الليبرالية فاشية تعمل بصورة معقدة، وعندما لا تكون الدولة محكومة للعقل والحكمة وفضيلة التقوى، سوف تكون محكومة للمال والقوة، مهما ألبست لبوس الديموقراطية والحرية، ولكن أي حرية في ظل غسل الأدمغة بوابل من القنابل التي تلقى عبر وسائل الإعلام المملوكة لهذا الأقوى.

وهنا سؤال لا بد منه، وهو: هل يمكن إنكار وجود أفكار ضالة، وبشر ضالين، وعقائد وكتب ضلال؟ يعتقد دعاة الليبرالية بعدم إمكان تقسيم الناس إلى فرقتين: ضالين ومهتدين. ويقولون: لا مجال للحديث عن الهداية والضلال، والحق والباطل، والشرك والتوحيد. ولا يجوز التمييز بين البشر، أو تقسيم الأخلاق إلى: أخلاق صحيحة وأخرى باطلة؛ وذلك لأن هذا العمل نوع من تفتيش العقائد، ومانع من موانع الوحدة … إلى غير ذلك من الأوصاف التي يطلقونها.

ولكن ما معنى ذلك، أليس هناك فرق بين الحق والباطل؟ هل أن من يدعو إلى مواجهة الظلم والفساد، ويميز بين العدل والظلم والحق والباطل، يكون مخالفا لحقوق الإنسان، ومتحدياً لمشاعر الإنسانية؟ أليست بعض العقائد مضرة بالفرد بل بالإنسانية جمعاء؟ أليست الخرافات والتمييز العنصري ضلالاً؟

أم تريدون أن تقنعوا الناس أن كل المعتقدات سواء، وهذا ما لا يوافقكم عليه عاقل. أم تريدون القول: إن المعتقدات لا تخضع لمعيار للتمييز بين الصحيح منها والفاسد، وما هذا إلا تحكم من القول وجزاف لا يدعيه أحد فضلا عن أن يقبله. لو تقولون: إن هناك موارد تقبل البحث والخلاف ويصعب حسم النزاع فيها، لوافقناكم ولقلنا بإمكان التساهل فيها، إلا أنه تساهل يختلف عما تدعون إليه، وليس ذلك بمعنى التوقف واللاأدرية أيضاً، بل هو انتظار لجلاء الحقيقة قبل تبني موقف محدد، ولنا حجتنا ودليلنا على هذا التسامح المشروع.

ومن ينكر وجود أفراد ومؤسسات حاولت عبر التاريخ وما زالت تحاول إغواء الناس واللعب بعقولهم، لتصور لهم المعروف منكرا والمنكر معروفا، ألم يحصل ذلك في الماضي؟ وماذا تفعل وسائل الإعلام الإمبريالية غير ذلك في هذا العصر؟!

أليس الترويج للتحرر الجنسي، واللامبالاة بالقضايا الأخلاقية، وغيرها من القيم مثالا بارزا لهذا النوع من التضليل؟ ألا يمارس الغرب نوعا من الكليانية على العالم أجمع؟ ألا يمارس هذا الغرب ديكتاتورية دولية لفرض قيمه الثقافية، والاقتصادية، والسياسية على الآخرين؟ لِمَ مجاملة الغرب والتملق له بقصد إغواء الخلق وتضليلهم؟ هنا نعرف لماذا يطرح القرآن أسئلة تبدو واضحة الجواب، وما هي في الواقع سوى استفهام تقريري، له أهميته ووضوحه الكامل وإن تظاهر الشكاكون بجهل جوابه، حيث يقول عز وجل: ﴿هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾(21)، أو ﴿أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون﴾(22)، أو حيث يسأل – سبحانه -: ﴿أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا﴾(23).

من الواضح أن هذه الأسئلة مهمة ومصيرية لا مجال لإنكارها أو تجاهلها، ومع ذلك وُجد من ينكرها بكل وقاحة. يقولون: إن الفاشية والشيوعية عقيدتان ضالتان خطرتان لا بد من محارَبتهما، ولو بالعنف لإحلال الليبرالية محلهما!! إذاً، إنكم تؤمنون بوجود بعض العقائد الضالة والمنحرفة وضرورة مواجهتها، ولو بالعنف والشدة!! ولكن ذلك حيث تشاؤون وحيث لا تضركم، بل تنفعكم ممارسة العنف والحكم على العقائد، ولا يكون ذلك تفتيش عقائد، أو جرحا لمشاعر الإنسانية!

وفي الختام أليس ما يقوم به العالمون من دفاع، وحماية لمن لا علم له، ومواجهة العقائد المنحرفة الموجهة لتضليله، نوعاً من الإحساس بالواجب، وغيرة على من لا حول له ولا قوة.  

 

الهوامش:

1- يمكن الإشارة إلى قوله تعالى: ﴿الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه﴾ (الزمر/18).

2-  من شاور الرجال شاركها في عقولها". الإمام علي (ع)، نهج البلاغة، تحقيق محمد عبده، بيروت دار المعرفة، ج4، ص 41.

3-  انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، ط1، بيروت، دار المنتظر،1985م، مج 2، ص 45.

4- المعذرية هي: أن يكون دليل ما كافيا كعذر يتمسك به المكلف. والمنجزية هي: أن يكون الدليل كافيا لإثبات التكليف في الذمة. انظر: محمد كاظم الخراساني، كفاية الأصول، قم، مؤسسة آل البيت،1409هـ، ص 438.

5-  المعقولات الثانية الفلسفية عبارة عن مفاهيم تحمل على الواقع الخارجي، ولكن يتوقف انتزاعها على الجهد الذهني، ومقارنة الأشياء ببعضها، مثل: مفهوم العلة والمعلول، والممكن والواجب…(انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، المنهج الجديد لتعليم الفلسفة، بيروت، دار التعارف، 1988م.، ج1، ص186).

6- المراد من العلمي هو الدليل الظني الذي ثبتت حجيته بدليل قطعي يفيد العلم، ومن هنا سمي علميا. كفاية الأصول، م. س.،ص.

7- يستعمل الكاتب لفظ الشهود معادل لمصطلح  (intuition)، ولما كان الحدس مصطلحا أدق استبدلناه به(المترجم).

8- يا هشام: إن لله على الناس حجتين: حجة باطنة وحجة ظاهرة. فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام )، وأما الباطنة فالعقول". الكليني، الأصول من الكافي، ج1، ص16.

9- ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾. فصلت/53.

10- الإسراء/85.

11- ﴿…قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور…﴾ الرعد/16.

12- التخطئة والتصويب اتجاهان في أصول الفقه يراد من الأول أن المجتهد عندما يفتي قد يصيب حكم الله وقد يخطئه، والمراد من التصويب أن المجتهد مصيب دائما؛ حيث إن حكم الله هو ما يتوصل إليه المجتهد. ومن الأصوليين من يشكك في صحة نسبة هذا الاتجاه إلى الأشاعرة والمعتزلة. انظر: أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، ط5، قم، الداوري، 1417هـ، ج2، ص95.

13- يرى كثير من أصوليي الإمامية أن الإجماع حجة لكشفه عن قول المعصوم وليست حجيته ذاتية. انظر: محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول،م س، ص 127.

14- حديقة في بريطانيا فيها زاوية خاصة للخطابة الحرة.

15- في قوله تعالى: ﴿كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم﴾ الحشر/7.

16- P. king, toleration, London, G. Allen and unwin, pp.31-32.   

17-  P. king, toleration, pp.37 – 41.  

18- راجع: الكتب الفقهية، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مثلاً: الإمام الخميني، تحرير الوسيلة، بيروت، 1982، ج1، ص476.

19-  ووضع الندى في موضع السيف بالعلى      مضر كوضع السيف في موضع الندى.

20- رسالة: الروميون، باب 13.

21- الزمر/9.

22- يونس/53.

23- السجدة/9.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً