أحدث المقالات

نحو فهمٍ اجتهادي آخر لمركز الإمضاء في الأعراف الإنسانية العامة

حيدر حبّ الله

توضيح الفكرة ومدار البحث

نقصد بهذه الفكرة أو القاعدة أنّ عدم تعرُّض النصّ الديني لظاهرةٍ معيّنة أو عرفٍ معيّن أو مجالٍ معيّن يمكن أن نجد له تفسيرات متعدّدة، وحالات مختلفة:

الحالة الأولى: أن لا نتأكَّد من حصول السكوت الديني عن هذه الظاهرة أو عن هذا السلوك والفعل، بل نحتمل أنّ موقفاً ما قد صدر في هذا المجال، ولكنّه لم يصِلْنا. ومثال ذلك: أن يقوم شخصٌ أو جماعة في عصر النصّ باتخاذ سلوكٍ معيَّن، ولكنْ نحتمل أنّ النبيّ كان له موقفٌ تعيق الظروف والإمكانات وصولَه إلينا. وفي هذه الحال، لا نستطيع من مجرّد عدم عثورنا على الموقف النبويّ أن نستنتج شيئاً، فالأمر لا بُدَّ فيه من الرجوع إلى العمومات أو القواعد العامّة أو الأصول العمليّة ونحو ذلك، والسبب في ذلك هو عدم إحراز السكوت حتى نحصّل الإمضاء، واستخدام الأصول العدمية هنا غير نافع في هذه الحال في تقديري، بل يندرج في بعض موارده على الأقلّ تحت فكرة الأصل المثبت، ولا نريد الإطالة.

الحالة الثانية: أن نتأكَّد من حصول السكوت الديني عن السلوك أو الظاهرة التي وقعت بالفعل في عصر النصّ، ولو من خلال القول بأنّه لو كان هناك موقفٌ نبويّ سلبيّ مثلاً لظهر وبَانَ، وتمّ تناقله، وكثر الكلام فيه.

وفي هذه الحال، توجد صورٌ عدّة للقضيّة:

الصورة الأولى: أن يكون ما يقع بمرأى النصّ الديني حادثة أو واقعة أو تصرُّفاً فرديّاً أو جماعيّاً محدّداً وجزئياً، ثم يسكت عنه القرآن والسنّة. وفي هذه الحال يأتي موضوع حجِّية التقرير وحدوده، ولا يعنينا هنا. ويمكن مراجعة موقفنا المختلف مع مشهور العلماء والأصوليّين من قضيّة السنّة التقريريّة في كتابنا (حجِّية السنّة في الفكر الإسلامي: 637 ـ 659).

الصورة الثانية: أن يكون ما وقع بمرأى النصّ الديني نهجاً وسلوكاً عقلائيّاً تلقائيّاً، أي الظواهر الإنسانيّة العامّة. وفي هذه الحال يكون السكوت كاشفاً عن الموافقة على هذه الظواهر العقلائيّة، كما هو واضح، بناءً على القول بشمولية الشريعة لكلّ وقائع الحياة.

ولكنّ السؤال يأتي عندما يكون السلوك العقلائيٌّ (الإنسانيّ العام) في قضيّةٍ ما له ظواهر متعدِّدة، وفيه قابليّة التطوُّر والتغيُّر، تَبَعاً للإمكانات والظروف التي تحيط بالإنسان الفرد أو الجماعة، وهنا نسأل: إنّ الشيء الذي أمضاه المشرِّع هل هو الشكل الزمني للسلوك العقلائيّ الذي كان معاصراً له أو الآليّة والبِنْية التي ترجمت نفسها ـ وفقاً للإمكانات المتاحة ـ بما ظهر في عصر النصّ، بحيث يمكن للآليّة نفسها أن تظهر بأشكالٍ متعدِّدة في أزمنة أخرى؛ نتيجة ظروف وإمكانات أخرى؟

سأذكر بعض الأمثلة الافتراضيّة؛ لتوضيح الفكرة أكثر:

المثال الأوّل (المثال الخبري): أن يكون السلوك العملي الإنساني العقلائي المعاصر لزمن النصّ قائماً على الأخذ بالأخبار الحديثيّة المتصلة بشؤون الكون والعالم والطبيعة والطبّ والتكوينيات و… إذا نقلها الثقة المأمون. وهذا السلوك سنفترض أنّه مسكوتٌ عنه عصر النصّ، إذن فهو سلوكٌ صحيح.

لكنْ عندما نفترض أنّ هذا السلوك إنّما ظهر بهذه الطريقة؛ لأنّ مَنْ وصلته الرواية لا يمكنه التأكُّد التجريبي من صحّتها، أمّا لو وصله خبرٌ يتكلّم عن حقيقةٍ علميّة بات للعلم اليوم موقفٌ فيها ففي هذه الحال لا يأخذ بالخبر فوراً، بل يرى أنّ مقتضى الفحص والتأكّد أن يعرضه على العلوم الحديثة. ففي هذه الحال هناك سلوكٌ عقلائي عمليّ معاصر، وهو الأخذ بخبر الثقة حال عدم وجود فرص للتحقُّق من صدقه عدا شخصيّة الناقل؛ لفرض العجز عن التحقُّق من مضمونه؛ وهناك سلوك عقلائي قبلي أسبق منه، وهو الأخذ بخبر الثقة شرط التحقُّق منه وفقاً للإمكانات المتاحة.

وهنا نسأل: هل يمكن لي بسكوت النصّ أن أظلّ أعتمد الطريقة السابقة المعاصرة للنصّ أو يلزمني ـ قبل الاحتجاج بالخبر اليوم ـ أن أعرضه على العلوم الحديثة ذات الصلة؛ للتحقُّق من مضمونه؛ باعتبار ذلك هو السلوك العقلائيّ الأصلي الكامن من خلف شكله الزمني السابق؟!

المثال الثاني (المثال القضائي): أن نفترض أنّ الإمكانات القضائيّة المتوفّرة في عصر النصّ تنحصر في الأَيْمان والبيِّنات ـ بمفهومها الشرعيّ القضائيّ الخاصّ ـ بوصفهما طرقاً عقلائيّة، بصرف النظر عن وجود نصوص فيهما.

وهنا نسأل: عندما يمضي الشارع هذه الطرق التي يستعملها البشر في عصره فهل يمضي حرفيّة الطرق أو أنّه يمضي في الحقيقة فكرة الاستعانة بكلّ الطرق المتوفِّرة للوصول إلى أعلى نسبةٍ ظنّية في إثبات الجرم أو القضيّة المتنازع عليها قضائيّاً؟ بمعنى أنّه لو تطوَّر البشر فهل يمكن للقاضي اليوم أن يكتفي بالبيِّنات الشرعيّة الخاصّة؛ بحجّة أنّ مرجعيّتها ممضاة شرعاً، أو يلزمه الرجوع إلى كافّة الإمكانات المتوفِّرة له اليوم لإثبات الجرم أو نفيه، مثل: الطبّ الشرعي، والتحقيقات الأمنيّة، وعمل الشرطة القضائيّة، والمباحث الجنائية، ووسائل التقنيات المعاصرة؟ فلو شهد اثنان بأنّ زيداً قتل عَمْراً في الشارع، وكان في هذا الشارع أدوات تصوير (كاميرات)، فهل يمكن العمل بالبيِّنة الحاوية على الشروط الشرعيّة أو أنّ العقلاء يعتبرون الاكتفاء ببعض الوسائل أمراً غير عقلائي، دون التقصّي في وسائل التحقيقات الأخرى المتوفِّرة، بحيث لو كانت (الكاميرات) موجودةً عصر النصّ لرأيناهم يراجعونها أيضاً؟

المثال الثالث (مثال الحيازة):  فإذا التزم الفقيه بأنّ الحيازة مملِّكةٌ لما هو غير مملوك لأحدٍ بعينه، كما لو حاز الإنسان على حطبٍ وأخشاب في الغابات الضخمة غير المملوكة لأحدٍ بعينه، أو حاز على ماءٍ من نهر أو بحر، أو حاز بالصيد ونحوه على بعض الحيوانات غير المملوكة، أو غير ذلك، وقلنا بأنّ العقلاء يرَوْن الحيازة موجبةً للتمليك، وسكت المشرِّع عن ذلك، فاستخرجنا قانون الملكيّة بالحيازة. في هذه الحال، لو تطوَّرت وسائل الحيازة؛ نتيجة تطوّر الآلة، فأصبح بإمكان شخصٍ واحد أن يحوز كمِّيات هائلة من المياه أو الأخشاب أو الأراضي أو الحيوانات؛ نتيجة امتلاكه وسائل الحيازة المتطوِّرة، ورأينا أنّ العقلاء يتحفَّظون هنا عن الملكيّة بالحيازة بوصفه مبدأ، لا بوصفه قانوناً عاماً، والشاهد أنّ مساحات الحيازة في العصور السابقة كانت محدودةً جدّاً، فهل أنّ سكوت الشارع عن التعامل الإنساني في مجال الملكيّة بالحيازة هو سكوتٌ بملاحظة الظرف الزمنيّ الذي يعطي معنى محدوداً للحيازة أو أنّه سكوت عن نكتة التملُّك بالحيازة مطلقاً، بحيث لو أنّ العقلاء اليوم نظروا لقانون الملكيّة بالحيازة بعرضه العريض على أنّه باطلٌ كان نظرهم هذا مخالفاً للشرع في ما أمضاه من مبدأ الملكيّة بالحيازة؟

في هذه الأمثلة ما نقصده هو أنّ الأداء العقلائي يمكن أن يتغيَّر نتيجة تغيُّر الطرف الزمكاني، سواء تغيّر بالتوسعة أم بالتضييق، فما الذي يجب أن ننظر إليه ونحن نتكلَّم عن حجِّية السيرة العقلائيّة والأعراف العامة بنكتة الإمضاء؟

وكلامُنا ـ كما ظهر من المثال الثالث ـ ليس مطابقاً تماماً لما طرحه بعض الأصوليّين من أنّ حجِّية السيرة تتعلَّق بالجَرْي العملي أو بالنكتة الارتكازيّة، بل البحث أعمّ من هذا، أي إنّه يشمله ويزيد. فنحن أمام ظهورٍ زمني لتعبير العقلاء عن طبعهم العقلائي في القضيّة، وكذلك أمام طبع عقلائيّ أعمق، قد يظهر ـ في ظل تغيُّر الظروف والإمكانات ـ بطرقٍ أخرى توجب توسعةً أو تضييقاً.

الأصول الموضوعة لفرضيّة البحث

هذا الطرح للموضوع مبنيٌّ على:

أنّ السِّيَر العقلائيّة والأعراف الإنسانيّة العامّة تحتاج في شرعيّتها إلى الإمضاء، أمّا لو قلنا بأنّها لا تحتاج إلى الإمضاء أساساً، بل هي حجّةٌ بنفسها، فإنّ طريقة البحث سوف تختلف بعض الشيء.

ادّعاء أنّ السلوك الإنساني العامّ له وجهان: وجهٌ ظاهر زمنيّ؛ ووجهٌ مستور ارتكازيّ، وأنّ الكلام في أيّهما المدار والمعتمد؟

فهذا أشبه شيءٍ بسلوك الوالد في رفع أجور عمّال مصنعه كلّ عام بنسبة 10%، حتّى وافته المنيّة، وهو يعطي عماله 500$ شهريّاً، فهل المدار 500$ التي هي آخر ما كان يعطيه قبل وفاته، لو أراد الأبناء العمل على سيرة أبيهم، أو المدار على مبدأ الزيادة 10% كلّ عام، والذي لو كان والدهم حيّاً لسنةٍ قادمة لوجدنا أنّه سوف يطبِّقه، فيعطي العمّال للسنة القادمة 550$، وليس 500$؟

أنّ مراجعة أداء العقلاء في عصرنا الحاضر إزاء الكثير من الأمور بطريقة تختلف بعض الشيء عن الطرق السابقة، يعني أنّ العقلاء يترجمون بناءاتهم بشكلٍ سيّال أحياناً، وليس بثابت؛ وأنّ ذلك يختلف سعةً وضيقاً تبعاً للإمكانات والظروف.

فرضيّة البحث

إذا اتَّضح هذا كلّه نطرح فرضية البحث، وهي أنّ ما يُمضيه الشارع ليس هو الأشكال الزمنية المعاصرة له مطلقاً وفقط، بل ما يمضيه هو المنطق العقلائي الذي أَبْرَزَ هذه السلوكيّات في عصر النصّ بطريقةٍ فرضتها الظروف والإمكانات الزمكانيّة، الأمر الذي يعني أنّ العبرة بالمنطق، لا بترجمته، بحيث ربما لا يكون الشارع الذي تراءى لنا أنّه أمضى سلوكاً معاصراً… لا يكون ممضياً لذلك السلوك مطلقاً، بل ممضياً له بملاحظاته الزمكانيّة، وإنّما الإمضاء الإطلاقي جاء لمبرِّرات ذلك السلوك بعناصرها المتعدِّدة المتوالفة.

فرضيّة البحث، المأخذ والمستند

في سياق اتّخاذ موقفٍ من السؤال الذي طرحناه هنا يمكن تقديم إجابتين:

الإجابة الأولى: وهي ترى أنّ المقدار المتيقَّن الذي أمضاه الشارع هو السلوك العملي الذي عاصره، فهذا السلوك كان بمرأىً منه ومسمع، ولكنّه مع ذلك سكت عنه، ولم يعلِّق عليه، الأمر الذي يكشف عن إمضائه له. أمّا المظاهر الأخرى التي برزت فيما بعد، ولو نتيجة اختلاف الظروف والإمكانات، فلا سبيل لنا للتأكُّد من إمضاء الشارع لها بعد عدم المعاصرة. والنتيجة أنّ المقدار المتيقَّن من الإمضاء هو ارتباطه بالصورة الزمنيّة للسيرة العقلائيّة، لا بالمنطلق الذي ترجمه البناء العقلائي بعد ذلك بطريقةٍ أخرى، فغيرُه لا دليل على إمضائه.

الإجابة الثانية: وهي تتعامل مع الموضوع بطريقةٍ مختلفة؛ إذ ترى أنّ هذه المنطلقات العقلائيّة المرتكزة عند العقلاء واحدةٌ، وهي موجودةٌ في عصر النصّ، غاية الأمر أنّها ترجمت نفسها في عصر النصّ بطريقةٍ مختلفة بعض الشيء عن ترجمتها لنفسها في العصور اللاحقة، فعندما يُمضي الشارع ما عاصره فهو يُمضي تلك الذهنية التي عبَّرت عن نفسها في زمنه بتلك الطريقة، وحيث إنّه يهدف إلى حماية مصالح أحكامه فإذا كانت هذه الذهنية من طبيعتها أن تُشكِّل تناقضاً مع أحكامه في ظلّ ظروفٍ أخرى فإنّ من واجبه أن ينبِّه على ذلك، فمع علمه بأنّ الذهنيّة العقلائيّة هي المشكلة، وإنْ كانت ترجمتها المعاصرة له لا مشكلة فيها، فإنّ سكوته عن نتائج هذه الذهنيّة دليلٌ على أنّه قَبِل بها بوصفها منطلقاً لسلسلة من التطبيقات التي تتنوَّع تبعاً لتنوُّع الظروف.

ولنا أن نقدِّم صياغة أخرى للموضوع، وهي أنّ الظهور اللاحق للارتكاز كشف عن أنّ العقلاء في عصر النصّ يبنون على أنّ الحيازة ليست مملِّكة مطلقاً، بل مملِّكة في حدود معيَّنة، وبهذا نُحرز أنّ القدر المتيقَّن للتمليك هو ضمن حدود، وأنّ هذا هو ما أمضاه الشارع، ويكفينا الشك هنا.

وهكذا في الإثبات القضائي، فإنّ قيام العقلاء بتوسعة وسائل الإثبات كشف عن أنّهم عندما اعتمدوا على البيِّنات الشرعيّة والأَيْمان والإقرارات فقط فإنّما اعتمدوا عليها بوصفها الوسائل المتاحة، فعندما أمضى الشارع فإنّما يكون في الحقيقة ممضياً لهذا المركَّب من:

أ ـ واقع التجربة المعاصرة.

ب ـ نكتة قيام العقلاء بهذه التجربة بوصفها مرتبطة بظروفها.

فالممضى هو فعلهم وفلسفة فعلهم معاً، بوصفها ظاهرة معاصرة، غايتُه أنّ فلسفة فعلهم قد عرفناها عندما تغيَّرت الظروف والإمكانات.

وهذا الذي نقوله يشبه ما طرحه بعض علماء أصول الفقه الإسلامي، من أنّ سكوت الشارع عن عمل العقلاء بالظهورات في قضاياهم اليوميّة كاشفٌ عن قبوله بعملهم بها في النصوص الدينية؛ إذ طبيعة الموضوع تستدعي ردّ فعلٍ عقلائيّ واحد، فإذا سكت هناك لزمه أن يوضِّح أنّ طريقتهم هذه لا يقبلها هو نفسه في نصوصه الدينيّة، حتّى لو قبلها في نصوصهم فيما بينهم؛ لأنّه لو سكت عن واقع سيرتهم فيما بينهم فإنّه من المتوقَّع أن تنجرّ هذه السيرة إلى نصوصه، فتُلحق الضرر بها. والأمر هنا بالطريقة نفسها؛ فإنّه لو سكت عن شكل السيرة المعاصر له، مع علمه بأنّ منطلقات السيرة ونكتة ارتكازها سوف تطال مصالحه بعد ذلك في مكانٍ آخر، وستُبدي نفسها في ظروفٍ مختلفة بشكلٍ مختلف، فهذا يعني أنّه راضٍ، وإلاّ لزمه التنبيه على أنّه لا يرضى بطرق أخرى غير البيِّنات والأَيْمان مطلقاً، ومهما كانت الظروف، وهكذا.

النتائج المترتِّبة على فرضيّة البحث في الاجتهاد الشرعي

وينتج عمّا قلناه ـ بعد تصحيح الإجابة الثانية ـ التالي:

أوّلاً: إنّ سكوت المشرِّع عن سلوكٍ خارجي انطلق من ذهنيّة معيّنة تُظهر نفسها في مكانٍ آخر بطريقة أخرى معناه أنّه موافقٌ على هذه الذهنية، لا على السلوك الخارجي فقط، وإلاّ لزمه منطقيّاً التنبيه على أنّ قبوله بسلوكهم الخارجيّ هذا لا يعني قبوله بكلّ امتدادات تلك الذهنيّة.

ثانياً: إنّ كثيراً مما سُمّي بالسِّيَر العقلائية المستحدَثة قد لا يكون مستحدَثاً أصلاً؛ لأنّ الحادث ليس سوى الظهور الخارجي للمنطلقات العقلائيّة، أمّا المنطلقات نفسها فقد تكون كامنةً مسبقاً قبل تحقُّق السلوك الجديد.

وما يؤكِّد ما نقول أنّ السِّيَر العقلائيّة تقوم على فكرة انطلاقها من توافقٍ عقلائيّ عامّ، وهذا يعني أنّ كلّ سيرةٍ يوجد لها منشأٌ عقلائي كامن في ذهن الإنسان ترجم نفسه في هذه السيرة، والشارع كما هو مسؤولٌ عن السلوك الخارجي كذلك هو مسؤولٌ عن مناشئ السلوك وذهنيّته الكامنة التي قد تُبدي نفسها بطريقة أُخرى في مكانٍ آخر. ومعنى ذلك أنّ السيرة العمليّة وإنْ كانت على مرجعيّة البيِّنة الشرعيّة و…، لكنّ الارتكاز المعاصر لها هو ـ على سبيل المثال ـ: مرجعيّة البيِّنة بوصفها كاشفاً نوعيّاً متوفِّراً، لا بوصفها أمراً حصرياً تعبُّدياً. فالارتكاز قام على مرجعيّة الكاشف النوعي الغالبي عن الواقع، لا على مرجعيّة السيرة العمليّة. فسكوت المشرِّع أو النبيّ عن هذا الارتكاز، وعدم تصحيح هذا المفهوم، مضرٌّ بمصالحه جدّاً فيما بعد، فيلزمه البيان.

ثالثاً: إنّ الأصوليّ والفقيه لا يمكنه دراسة السِّيَر العقلائيّة من خلال التجربة المعاصرة لزمن النصّ فقط، بل لا بُدَّ له أن يدرسها من خلال مسارها الزمني في الظروف المختلفة، بما في ذلك عصره هو، ليكتشف بعد ذلك جوهر هذه السيرة، ويقدِّم تعريفاً أكثر دقّةً لها، وهذا ما يفرض على الدرس الفقهي الاستعانة بالمعطيات والأدوات التي توفِّرها علومٌ مثل: علم الاجتماع والأنثروبولوجيا والتاريخ والنفس بفروعها؛ لأنّها تستطيع رصد نوعيّة السيرة، ومَدَيات عقلائيّتها، وعناصر اشتراكها الإنساني العامّ، بَدَل اكتشافنا العفوي للسيرة، والذي يبدو على شكل ادّعاءٍ فقط، الأمر الذي أوقع البحث الفقهيّ والأصوليّ في غير موضعٍ في جَدَل وجود بناءٍ عقلائي على هذا الأمر الفلاني أو لا، بين مثبتٍ ونافٍ.

وهذا كلُّه يعني أنّه كما المعاصرون للنصّ عقلاء، كذا المتأخِّرون. وبهذا يخرج الفقيه بالفهم التالي مثلاً:

1ـ الحيازة مملِّكة في حدود الحاجات العادية للإنسان، لا مطلقاً.

2ـ البيّنة الشرعيّة وسيلة إثبات قضائي، لكنّ كلّ وسيلة نوعيّة لها قدرة كشف نوعيّ مشابه فهي بيّنةٌ عقلائيّة، إنْ لم نقل بأنّ النصوص التي أطلقت كلمة البيِّنة أرادت المعنى اللغوي المساوق عادةً للبيِّنة العقلائيّة، كما أثاره مثل: السيد الخوئي في خبر مسعدة بن صدقة المشهور، والذي يُبحث عادةً في حجِّية خبر الواحد في الموضوعات. وهذا بحثٌ آخر، تعرَّضنا له بالتفصيل في كتابنا (الحديث النبويّ، حدود المرجعيّة ودوائر الاحتجاج 2: 172 ـ 179).

3ـ إنّ حجِّية خبر الثقة مشروطةٌ بعدم إمكان التأكُّد من صحّة مضمون الخبر إمكاناً بشريّاً عاديّاً، أو فلنقُلْ: إنّ الخبر الحجّة هو الخبر الظنّي الذي لم يقُمْ بعد الفحص الممكن أيُّ دليلٍ نافٍ لصدقه، حتّى لو لم يقُمْ دليلٌ مُثْبِت لصحّته.

رابعاً: إنّ التجارب القانونيّة البشريّة المتأخِّرة يمكن أن تساعدنا كثيراً في اكتشاف روح السيرة، بَدَل الاقتصار على الشكل الزمني القديم لها، أو فقُلْ: إنّ التجارب القانونيّة تُحدث فينا وَعْياً أكبر بحقيقة السيرة المعاصرة للنصّ وروحها.

إنّ سكوت الشارع والنصّ الديني عن سلوكٍ عملي عقلائي عامّ نشأ من ارتكاز وذهنية من شأنها أن تُترجِم نفسها بسلوكٍ عمليّ آخر في ظلّ ظروفٍ أخرى… إنّ سكوته هذا كاشفٌ عن رضاه بالذهنيّة نفسها بتمام حيثيّاتها وقيودها، وليس فقط بالشكل الزمني للذهنيّة، بل قد يكون إمضاء الشكل الزمني مقيَّداً بنفسه بالخصوصيّات الزمنيّة نفسها. أعتقد بأنّ هذا النَّسَق من دراسة قضيّة السيرة العقلائية والأعراف الإنسانيّة العامّة يمكنه أن يحرِّك النتائج الفقهيّة بطريقةٍ مختلفة نوعاً ما، ويقدِّم فهماً أكثر صوابية لها، والعلمُ عند الله.

هذه فكرةٌ أطرحها للتداول والتأمُّل؛ بغية السعي للتفكير في مخارج للفقه الإسلامي المعاصر، تجعل من مُخْرَجاته أكثر متانةً وعقلانيّة وحيويّة، إنْ شاء الله.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً