أحدث المقالات

الشيخ علي حسن غلوم

 

{وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّـهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّـهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّـهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّـهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى? زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّـهِ مَفْعُولًا} (الأحزاب: 37).

الاستغراق في المثالية:

عادة ما يتناول المفسرون هذه القصة من جانبين: الأول: إباحة زواج الرجل من زوجة ربيبه بعد طلاقها منه. الثاني: نفي الطبقية في الزواج من المنظور الإسلامي.

إلا أن الجانب الآخر الذي يحتاج إلى معالجة أيضاً، هو بقاء تأثير الواقع الطبقي على طبيعة العلاقة بين السيدة زينب وزوجها، ذلك الواقع الذي لم تستطع هي أن تتجاوزه وتتغافل عنه، ولو كان الزواج بأمر رسول الله (ص)، الأمر الذي يوحي بأن على الخطاب الديني عدم الاستغراق في عالم المثال عند تقديم التصور الإسلامي عن العلاقات الاجتماعية، وكأن هذا الخطاب يفرض سلفاً أن أفراد المجتمع قد بلغوا من النضج الفكري والشفافية الروحية والسمو الأخلاقي مرتبة تذوب معها كل العناوين التي يتلبس بها الأفراد، وتغدو كل المؤثرات المحيطة بهم عديمة الأثر، أو أنهم يعيشون أصلاً في المجتمع الفاضل الذي لا يكدّر صفو الحياة فيه شيء.

قصة جويبر والدلفاء:

هل تصلح قصة جويبر أن تكون نموذجاً في هذا العصر؟ جويبر الذي أسلم فحسن إسلامه، فعرض عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يتزوج، فقال: "يا رسول الله بأبي أنت وأمي، من يرغب في؟ فوالله ما من حسب ولا نسب ولا مال ولا جمال، فأية امرأة ترغب في؟" فقال له رسول الله (ص) : "يا جويبر إن الله قد وضع بالإسلام من كان في الجاهلية شريفاً، وشرف بالاسلام من كان في الجاهلية وضيعاً، وأعز بالإسلام من كان في الجاهلية ذليلاً، وأذهب بالإسلام ما كان من نخوه الجاهلية وتفاخرها بعشايرها وباسق أنسابها، فالناس اليوم كلهم أبيضهم وأسودهم وقريشهم وعربيهم وعجميهم من آدم، وإن آدم خلقه الله من طين، وإن أحب الناس إلى الله أطوعهم له وأتقاهم، وما أعلم يا جويبر لأحد من المسلمين عليك اليوم فضلاً إلا لمن كان أتقى لله منك وأطوع، ثم قال: انطلق يا جويبر إلى زياد بن لبيد فإنّه من أشرف بني بياضة حسباً فيهم، فقل له: إني رسول رسول الله (ص) إليك، وهو يقول لك: زوِّج جويبراً بنتك الدلفاء". وفعلاً تم الزواج على هذا الأساس.

تغير المفاهيم:

هذه الحادثة تقدَّم عادة من قبل الخطاب الإسلامي كنموذج لإلغاء الطبقية وكافة الاعتبارات الأخرى في الزواج، واعتبار الكفاءة الدينية بمثابة الشرط الوحيد، إلا أن ما ينبغي قوله أن الظروف تغيرت، ونظرة الطرفين إلى الزواج اختلفت، بل إن النظرة إلى طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة.. ألا ترى كيف كان الأمر طبيعياً أن ينكح الرجل إماءه ويلدن له ذرية، وكيف كان من الطبيعي أن يكون هناك تعدد في الزوجات، وكيف كانت المرأة تنتقل من بيت زوجية إلى آخر بعد خروجها من عدة وفاة زوجها أو طلاقها دون وجود اعتبارات ومفاهيم هي شائعة اليوم من قبيل: الخيانة الزوجية، الوفاء للزوج الراحل، قبح إظهار المرأة حاجتها للزواج.. إلخ.

نماذج تاريخية:

وللدلالة على تغير مفهوم الزواج سنرجع إلى كتب الأنساب لنقدِّم من خلالها الأمثلة التالية:

1. لبابة بنت حبر الأمة عبد الله بن عباس بن عبدالمطلب: كانت زوجة علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، ثم خلف عليها إسماعيل ابن الصحابي طلحة بن عبيد الله التيمي؛ ثم فارقها؛ فتزوجها ابن عمها محمد بن عبيد الله بن العباس.

2. أم إسحق بنت الصحابي طلحة بن عبيدالله التيمية: كانت زوجة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، وبعد استشهاده خلف عليها أخوه الإمام الحسين عليه السلام، وبعد استشهاده خلف عليها عبدالله بن محمد بن عبدالرحمن ابن الخليفة أبي بكر التيمي.

3. لبابة بنت عبيد الله بن عباس بن عبدالمطلب: كانت زوجة أبي الفضل العباس بن علي بن أبي طالب عليهما السلام، وبعد استشهاده خلف عليها زيد ابن الإمام الحسن عليه السلام، ثم تزوجها الوليد بن عتبة بن أبي سفيان الأموي.

فلاحظ التعدد من جهة، ولاحظ أسماء الأزواج، وما تعكسه تلك الأسماء أحياناً من صراعات عاشها أصحابها، إلا أنها مع ذلك لم تؤثر في استمرار الأنكحة بينهم. فكيف يمكن قياس تلك الأوضاع والظروف بما نعيشه اليوم، وكيف يمكن إسقاط تلك الظروف على الواقع المعاصر؟

مراعاة الظروف الحالية:

فلابد إذاً من الأخذ بعين الاعتبار أن قضية الزواج في عصر النبي(ص) ، بل إلى أوقات قريبة، كانت أهون بكثير مما هي عليه الآن، فالاعتبارات التي تأخذها الفتاة ـ اليوم ـ وتضعها لترسم من خلالها صورة زوج المستقبل الذي تخطط أن تعيش معه حياة سعيدة، فيها الكثير من التفاصيل، وتتجاوز مجرد الدين ورفعة النسب ووفرة المال، وتتعداها إلى الوسامة والبنية العضلية والأناقة واللباقة في الحديث والتلاقي في الأمزجة وطبيعة الوظيفة ومكان السكن وجنسية الزوج و شهاداته الدراسية والفارق العمري بينهما وتفاصيل حفل الزواج ورؤية الشاب بخصوص الإنجاب والقائمة تطول.

المعالجة الجذرية أولاً:

هذا لا يعني بالطبع مخالفتنا لمضمون تلك الأخبار ودلالتها الداعية إلى إلغاء الاعتبارات الطبقية عند اختيار الزوج، ولكن ما أريد قوله هو أننا لو نجحنا في رفع أفراد المجتمع إلى هذا المستوى وعالجنا القضية من الأساس بأن زرعنا ـ تربوياً ـ في أبنائنا القيمة الحقيقية للإنسان، وأن لا فرق بين مسلم ومسلم بالقومية واللون والحسب والمال، وأن الفارق الحقيقي هو التقوى، فيحق لنا حينذاك أن نتحدث عن رفض أي عنوان يؤخذ بعين الاعتبار سوى الكفاءة في الدين، أما والحال مختلفة تماماً، فلابد من أن نتعامل مع المسألة بحذر وروية، بعيداً عن الحالة الشعارية التي قد تؤدي إلى مشكلات كبيرة ومعقدة، لاسيما بلحاظ تفاهة الأسباب التي أدت إلى الطلاق في مجتمعنا، والتي تعود أحياناً كثيرة إلى عدم مراعاة تلك الفروقات حين الإقدام على الزواج، كمن طلبت الطلاق لأن ذوق زوجها في اختيار غرفة النوم لم تعجبها، أو تلك التي لجأت إلى المحكمة طلباً للطلاق لأن زوجها لا يقوم بإعداد وتقديم فنجان الشاي والإفطار لها في الفراش صباح كل يوم، وأمثال هذه القصص كثيرة، وهي تعكس هشاشة بنية الأسرة ومفهوم الزواج في الجيل المعاصر.

ما أجمل أن نكون واقعيين في حياتنا وتفكيرنا، وما أشد ما نجنيه حين نفرط في المثالية ونغرق فيها.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً