مطالعة نقدية في أطروحة كديور
د. بهزاد حميدية(*)
ترجمة: السيد حسن مطر الهاشمي
مقدمة ــــــ
ألقى الدكتور محسن كديور محاضرة حول (المسائل المعرفيّة في الإسلام الحسيني). وقد ضمّنها آراءه حول الإمامة([1]). وقد أشار في محاضرته إلى الأبعاد المتعددة لثورة الإمام الحسين. وعدّ من بينها بُعد مقارعة الظلم، وبُعد الإصلاح الديني. وقد أشار في ما يتعلق بالبعد الثاني إلى مفهوم الإمامة. وذهب إلى أنه قد تعرض إلى تغيرات كبيرة طوال الزمن. لقد رأى الدكتور كديور من واجبه ـ تأسياً بالهدف من واقعة كربلاء ـ أن يقوم بالإصلاح الديني، وتوضيح مفهوم الإمامة وما طرأ عليه من الانحراف لجميع الناس، حيث قال في موضع من محاضرته: «إن لإصلاح مفهوم الإمامة من الأهمية ما يساوي أهمية القضية التي خرج الإمام الحسين من أجلها». وبذلك يكون الدكتور كديور قد قام بإنجازٍ ضخمٍ يعادل في أهميته الإنجاز الحسيني!
إن مفهوم الإمامة يحظى بأهمية قصوى عند الشيعة الاثني عشرية، حتى عدّوه أصلاً من أصول الدين. وبذلك تميَّزوا عن سائر المذاهب الإسلامية الأخرى. وبما أن الدكتور كديور قد طرح الإمامة بنحو مغاير ومخالف لمفهومها السائد كان من الواجب أن نتناول بالنقد جميع المسائل المطروحة في هذه المحاضرة. ومن هنا سيكون مقالنا هذا على قدرٍ من التفصيل.
تحليل النقطة المحورية في أطروحة كديور ــــــ
يرى الدكتور كديور أن التغير الخاطئ الذي طرأ على مفهوم الإمامة طوال التاريخ عبارة عن تضخيم في جانب وإضعاف في جانب آخر. أمّا ما تم تضخيمه فهو عبارة عن نوع من التقديس في مجال الإمامة لم يكن موجوداً في القرون الأولى. وعند بسط الموضوع يتضح أن الذي تم تقديسه في رأي الدكتور كديور عبارة عن أربعة عناصر تكوّن مفهوم الإمامة في علم الكلام، وهي: العصمة، وعلم الغيب، والنصب الإلهي، والنصّ من قبل النبي. ويرى الدكتور كديور أن هذه العناصر الأربعة قد أبدعها المتكلِّمون في حدود القرنين الثالث والرابع، لتتسع وتتضخم فيما بعد بالتدريج.
ملاحظات وانتقادات ــــــ
إن أدنى إلمام بعلم الكلام الإسلامي يثبت أن الدكتور كديور قد ارتكب مغالطة منطقية، حيث بيّن مفهوم الإمامة على نحو مقلوب. فهو يعلم أن مفهوم الإمامة الشائع في علم الكلام عبارة عن (الرئاسة العامة في الدين والدنيا). وقد جاء هذا التعبير بحرفيته أو قريباً منه في كلام السيد المرتضى في «الحدود والحقائق»، والشيخ الطوسي في كتبه المختلفة، والخواجة نصير الدين الطوسي في «الفصول النصيرية»، وابن ميثم البحراني في «قواعد المرام»، والعلامة الحلي في «نهج المسترشدين»، والفاضل المقداد السيوري في «اللوامع الإلهية»، وعبد الرزاق اللاهيجي في «گوهر مراد»، والنوري في «كفاية الموحدين»، والميرزا أحمد الآشيتاني في «لواقح الحقائق». ومن بين المعتزلة من علماء أهل السنة نجد تعريف القاضي عبد الجبار في «شرح الأصول الخمسة» يعود إلى هذا المعنى تقريباً. وقد وافق على هذا التعريف من الأشاعرة علماء، مثل: الماوردي في «الأحكام السلطانية»، والتفتازاني في «شرح المقاصد»، والمير سيد شريف الجرجاني في «التعريفات»([2]). وفي هذا التعريف لا نجد أيّ أثر للعناصر الأربعة التي أشار إليها الدكتور كديور، من العصمة، وعلم الغيب، والنصب الإلهي، والنصّ من قبل النبي، حيث تعد هذه العناصر من أعراض الإمامة دون ذاتياتها. وبعبارة أخرى: إن هذه العناصر الأربعة لم تؤخذ في الكلام الإسلامي بوصفها من مقوّمات مفهوم الإمامة، لا في بدايات نشوء علم الكلام، ولا في الكلام المعاصر. وعليه إذا قام بحث الدكتور كديور على عناصر عرضية للإمامة، بعد تصورها من الذاتيات، فإنه سيكون باطلاً جملةً وتفصيلاً؛ وأما إذا قام على نوع تغيير في الأعراض فهو، وإن كان يدعو إلى التأمل، ولكنه قليل الأهمية. فمثلاً: إذا تغير مفهوم الصلاة من الأفعال والأذكار المعهودة سيكون هناك تغيير كامل معتدّ به، وتحريف واضح؛ وذلك لتغير ذاتيات الصلاة، من الركوع، والسجود، وغيرهما من الأفعال والأذكار الخاصة، وأما إذا تم التأكيد في فترة على أعراض الصلاة، كما لو تمّ التأكيد على تعقيباتها أو مقدّماتها، كالوضوء، والطهارة الجسدية، أو المزايا الأخلاقية، أو بواطن الصلاة العرفانية، أو تم التأكيد على إقامتها جماعة، أو رعاية التدبر فيها، فهو، وإن كان يمكن البحث تاريخياً في جميع هذه الموارد، إلا أننا لن نحصل على ثمار كثيرة من وراء هذه البحوث؛ وذلك لاشتراك الجميع في ذاتيات الصلاة، وليس هناك اختلاف فيها.
إن البحث في التغيرات الحاصلة في الأعراض إنما يكتسب أهمية عندما يتم حذف بعض الأعراض الضرورية، وإدخال أعراض أجنبية. وهذا ما صرح الدكتور كديور بعدم أخذه في موضوع محاضرته، حيث قال: «لا يدور محور البحث حول أصل علم الأئمة بالغيب، وإنما الكلام يدور حول شرطيته». فهو لا ينفي أصل وجود ذلك العلم، وإنما في كونه شرطاً في تحقيق الإمامة.
إن شرطية علم الغيب في تحقيق الإمامة من الأمور المتأخِّرة، والتي تم تضمينها من قبل المتكلمين في القرن الرابع فما بعد. وبعبارة أوضح: إذا كان كلام الدكتور كديور يدور حول عدم وجود علم الغيب، والعصمة، والنصب الإلهي، والنص من قبل النبي، وأنها لم تكن موجودة في صلب الشريعة الإسلامية كصفات للإمام، وإنما دخلت بعد ذلك بفعل التحريف والدّس، لكان كلامه جديراً بالاهتمام. إلا أن كلامه يُظهر أن هذه العناصر كانت موجودة في القرنين الأول والثاني، وكانت تعتبر من صفات الإمام، ولكن تم تضخيمها في القرون التالية، وعندها لا يكتسب هذا الكلام أهمية كبيرة؛ لأنه خاضع للتغيرات الثقافية، وتكامل مستوى علم الإلهيات. وهو أمر يبدو طبيعياً.
ويبدو أن الشيخ كديور لم يكن لديه دليل خاص على انتخاب هذه العناصر الأربعة، دون غيرها من العناصر الأخرى، مثل: القرابة، وصلة الأئمة النسبية بالنبي الأكرم‘، أو العلم اللدني، سوى الترجيح بلا مرجِّح. مضافاً إلى أن العنصر الرابع الذي أشار إليه الدكتور كديور، أي النصّ من قبل النبي، لم يذكر في الكلام الإسلامي بوصفه عنصراً مستقلاً عن النصب الإلهي. كما يبدو أن الدكتور كديور قد نسي في خضم بحثه عنصر العصمة، والنصب الإلهي، حيث ركز على علم الغيب فقط، وسعى من خلال القرائن التاريخية إلى إثبات أن هذا المفهوم ومفاهيم ميتافيزيقية أخرى من هذا القبيل، كخوارق العادات والكرامات، لم تكن موجودة في البداية بين الشيعة الأوائل، وإنما أدخلها المتكلِّمون المتأخِّرون؛ استناداً إلى الأكاذيب والروايات المختلقة، وعملوا على تضخيمها.
إن الشيعة الاثني عشرية، منذ البداية وإلى يومنا هذا، لم ينكروا ولم يشكّوا في النصب الإلهي والعصمة أبداً. وأكبر دليل على ذلك انحصار الأئمة في اثني عشر إماماً، لا أكثر ولا أقل. ويبدو أن الدكتور كديور ـ من دون إدراك التبعات النظرية المترتبة على كلامه، ومنها: نفي انحصار الأئمة بعدد محدَّد ـ يذهب إلى قابلية انطباق العناصر المفهومية للإمام على أيّ إنسان آخر.
دراسة أدلة الدكتور كديور ــــــ
لقد عمد الدكتور كديور من خلال الرجوع إلى الأدوار الأولى لظهور مفهوم الإمامة والفهم الذي كان سائداً عنها آنذاك إلى تنقيح مفهوم الإمامة على أساس ذلك الفهم؛ إذ يقول: إن هذه المفاهيم، أي العصمة، والنصب الإلهي، ونصّ النبي، وعلم الغيب، لم ترد في كلمات الأئمة إلا نادراً. وإن الشيعة الأوائل، من قبيل: سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمار، وكميل، ومالك الأشتر، وأبي بصير، وزرارة، ومحمد بن مسلم، وآخرين غيرهم، لم يكونوا ليعرفوا الأئمة بالصفات التي أضافها المتكلِّمون إليهم.
ويرد عليه:
أولاً: لا بد من الالتفات إلى أن كلمة «نادراً» تشير إلى أن المفاهيم المذكورة قد وردت وجرت على لسان الأئمة^ بوصفها من صفات الإمام. وهذا مغايرٌ للنتيجة التي كان الدكتور كديور بصدد الوصول إليها. وسيأتي شرحها ونقدها فيما بعد.
ثانياً: لإثبات هذه الدعوى فإن الدكتور كديور بحاجة إلى تحديد نسبة الروايات التي تتحدث عن العناصر الأربعة، من العصمة، وعلم الغيب، والنصب الإلهي، والنص النبوي، إلى الروايات التي تعرّف الإمام بالهداية إلى الله، وإقامة الدين وحقوق الناس، والأفضلية العلمية، والبصيرة، والتهذيب، وطهارة النفس، وعقل الدراية في قبال عقل الرواية، ومقارنة كلا الطائفتين ببعضها.
وهناك مسألتان جديرتان بالبيان:
الأولى: إن روايات الطائفة الثانية لا تعارض روايات الطائفة الأولى؛ فإن طهارة النفس لا تنافي العصمة، كما أن الأفضليّة العلمية لا تنفي علمهم للغيب، إلا إذا تمّ التصريح في روايات الطائفة الثانية بأن العصمة، وعلم الغيب، والنصب الإلهي، ليست من شروط الإمامة، وإنما الشرط في الإمامة هو مجرّد الأفضلية العلمية. لقد أشار الدكتور كديور ـ كما سنبين ـ إلى كلام أمير المؤمنين× في الخطبة الشقشقية، حيث وصف نفسه كواحد من (العلماء)، ولكن من الواضح أن هذا لا يعني عدم عصمة الإمام وعلمه للغيب، بل ليس فيها إشارة إلى عدم أهمية وشرطية هذه الأمور بالنسبة للإمام. كما أن كون النبي عبداً: {إِنِّي عَبْدُ اللهِ} (مريم: 30)، لا ينفي أهمية الخصوصيات الميتافيزيقية التي يتمتع بها هذا العبد، من قبيل قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} (الأنبياء: 79)، وقوله تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} (الأنبياء: 81).
الثانية: إن آية التطهير وآية الولاية، اللتين تشيران إلى عصمة الأئمة ووجوب اتباع أوامرهم، وكذلك الأحاديث المشهورة والمتداولة في صدر الإسلام، كحديث الثقلين، المتفق عليه بين الفريقين، وحديث الغدير، الدالّ على النصب الإلهي لأمير المؤمنين×، وكذلك الأحاديث الدالة على حصر الأئمة في اثني عشر إماماً، تدل بأجمعها على أن فهم الشيعة الأوائل، كسلمان ومالك الأشتر، للإمامة كان متضمّناً للعصمة، والنصب الإلهي. وكانوا يرون أنّ توفر هذه العناصر الأربعة هو الشرط في تحقق الإمامة، وليست الأوصاف الباهتة والهامشية. قال الشيخ المفيد، في النصف الثاني من القرن الرابع: «إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وحفظ الشرائع وتأديب الأنام معصومون كعصمة الأنبياء… وعلى هذا مذهب سائر الإمامية، إلا من شذّ منهم»([3]). ويتضح من هذه العبارة أن الإمامية كانوا يحملون فهماً خاصاً عن الإمام، يتجلى في تنفيذ الأحكام و…. وهذا ما لا يمكن الوصول إليه إلا بالنص الإلهي والعصمة. وإن هذه الخصائص من لوازم الإمامة؛ لأن الإمام ـ وفقاً للتعريف المتقدّم، وخصوصاً بالنسبة لصفة حفظ الشريعة ـ لا يمكن تعيينه من قبل الناس الذين يفتقرون إلى العلم التام بالنسبة إلى الشريعة، كما أن الإمام إذا لم يكن معصوماً لا يسعه حفظ الشريعة.
كيف يمكن الاقتناع بأن الإمامية في القرنين الأولين لم يعرفوا الإمام بالنصّ والعصمة، ثم بادروا بأجمعهم إلى تغيير معتقدهم في تحول سريع وعميق، وأنه بعد مضي حوالي مئة وخمسين سنة (أي في النصف الثاني من القرن الرابع) لم يكن لدى الشيخ المفيد أدنى رؤية عن فهم الإمامية في القرنين الأولين، الأمر الذي أدّى إلى دعوى إجماع الإمامية على عصمة الأئمة؟!
ثالثاً: يتعين على الدكتور كديور أن يستند إلى أقوال وكلمات سلمان وأبي ذر وغيرهما من الشيعة الأوائل؛ لبيان نوع إدراكهم للإمامة. وعليه أن يتبيّن المواطن التي يختلف فيها فهمهم عن فهم المتكلمين. والملفت أن السيد كديور قد أشار إلى عدم توفر آثار ومؤلَّفات من القرن الأول والثاني، حيث قال: «للأسف الشديد فإن أكثر الكتب التي بين أيدينا، أو جميعها، يعود إلى الفترة التي ساد فيها التيار الذي ظهر بعد القرن الثاني». وهنا يحقّ لنا أن نسأله: كيف حكم بضرس قاطع بأن سلمان وأبا ذر وأمثالهما كانوا يحملون رؤية وفهماً مختلفاً عن رؤية وفهم المتأخرين في ما يتعلق بالإمامة؟!
يستند الدكتور كديور؛ لإثبات التحريف الحاصل في مفهوم الإمامة، إلى كلمات الأئمة أنفسهم، حيث يقول: «تؤكد النصوص الواردة عن الإمام علي وسائر الأئمة^ على بشريتهم… ولا أذكر أن سيد الشهداء والإمام علي وغيرهما من الأئمة قد استندوا في تعريفهم بأنفسهم إلى الصفات الميتافيزيقية. ويكفي للتأكد من ذلك الرجوع إلى نهج البلاغة، وخطب الإمام الحسين، وأدعية الصحيفة السجادية، وسائر النصوص الدينية المعتبرة».
قال الشيخ كديور: «إنه لا يذكر». ولذلك لا بد من تذكيره بالخطبة رقم 189 من نهج البلاغة، الذي اعتبره من النصوص المعتبرة. وسيجد هناك هذه العبارة التي تقول: «سلوني قبل أن تفقدوني، فأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض». ألا تعتبر هذه الصفة خارجة عن قدرة الإنسان العادي، وتعدّ من الأمور التي تنكرها العقلانية الحديثة؟! يبدو أنّ الجهود الحثيثة التي بذلها الشيخ كديور في تطهير الشريعة ومبحث الإمامة من الصفات الميتافيزيقية، التي يأباها العقل المتحضر، ويراها من الخرافات والأساطير، لم تُؤتِ ثمارها.
لسنا ننكر قلة النصوص الدالة على الخصائص الأربعة ـ التي ذكرها الدكتور كديور ـ في نهج البلاغة والصحيفة السجادية، ولكن من ناحية أخرى فإن كلمات أمير المؤمنين وغيره من الأئمة غير منحصرة بهذين الكتابين. ومن جانب آخر لم يأخذ كديور بنظر الاعتبار الجهات السياسية (تضييق الخناق على الشيعة والأئمة^)، والثقافية (الضعف الفكري الذي حال دون إدراك الناس لحقيقة الإمامة، وهيمنة فكر العامة على المجتمع)، وغيرها من الجهات التاريخية.
وهناك تساؤل آخر يفرض نفسه منطقياً، وهو: إذا كانت هذه الصفات الميتافيزيقية ثابتة للأئمة فهل تتحدد أهميتها من خلال كميتها في روايات الأئمة^؟!
وقد تقدّم من الدكتور كديور قوله: «لا أذكر أن سيد الشهداء والإمام علي وغيرهما من الأئمة قد استندوا في التعريف بأنفسهم إلى الصفات الميتافيزيقية»([4]).
يضاف إلى الإشكالات المتقدمة على هذه العبارة إشكال آخر، يتناول وصف هذه الخصائص بالميتافيزيقية. فعلى الدكتور كديور أن يوضح سبب وصفه العصمة والنص الإلهي وعلم الغيب ونحوها بالأمور الميتافيزيقية. فما هو المائز بين الصفات الطبيعية والصفات الميتافيزيقية؟ تتوقف الإجابة عن هذا السؤال على موقف المجيب من تعريفه للإنسان. فإذا اعتبرنا الإنسان هو (الوجود والكيان الجامع)، الذي بإمكانه ـ خلافاً للملائكة والحيوانات ـ أن يسلك سيراً صعودياً أو نزولياً، فيكون في سيره الصعودي أفضل من الملائكة، كما يمكنه أن يغدو أسوأ من الحيوانات إن هو تخبط واختار سيراً نزولياً، فأية غرابة لو تمتع الأئمة بصفات تفوق صفات الملائكة؟! ولماذا نستبعدها عنهم، ونلقيها في متاهات الميتافيزيقا؟!
يبدو أن السيد محسن كديور لم يتوصل إلى نتيجة حاسمة وقطعية ودقيقة في ما يتعلق بمعنى الإمامة. لذلك نجده في بعض عباراته يقترب من عقيدة الشيعة الإمامية أحياناً، بينما يقترب في عباراته الأخرى إلى معانٍ مختلفة. فمثلاً: قال في موضع: «لقد تمّ في القرون الأولى ونصوصنا المعتبرة بيان معانٍ مختلفة لمحاور الإمامة، وهي بأجمعها ناظرة إلى الهداية إلى الله، وإقامة الدين وحقوق الناس». بينما تحدث في موضع آخر عن أفضليتهم العلمية، وتهذيب النفس، والعقل، كمحاور للإمامة. ولو تجاوزنا عنصر (إقامة الدين) فإن سائر الأوصاف الأخرى قابلة للانطباق على المعنى اللغوي للإمام كـ (قائد ورئيس للمجتمع). وفي النتيجة كأن الدكتور محسن كديور يريد أن يقول: إن على إمام المجتمع وقائده أن يكون شخصاً تتوفر فيه الأهلية لاستيفاء حقوق الناس، وأن يكون عالماً، وما إلى ذلك، دون أن تكون هناك ضرورة إلى تنصيبه من قبل الله، أو أن يتمتع بأوصاف ميتافيزيقية، لا يمكن للإنسان بلوغها بما هو إنسان، من قبيل: علم الغيب، والعصمة، وإن كان بعض مصاديق الإمام، أي الأئمة الاثني عشر، كانوا معصومين، لا بسبب إمامتهم. ولذلك يمكن لكل شخص آخر أن يكون إماماً.
وأما في ما يتعلق بصفة إقامة الدين التي ذكرها الدكتور كديور بوصفها من محاور الإمامة فعلينا أن نسأله: هل يمكن لهذه الصفة أن تتحقق من دون عصمة؟ كيف يمكن لمن هو عرضة للخطأ والانحراف أن يغدو بوصلةً تهدي الآخرين إلى الدين الإلهي؟ قال تعالى: {أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّيَ إِلا أَن يُهْدَى}. وإذا كانت العصمة شرطاً في إقامة الدين فهل هناك من طريق إليها غير النصب الإلهي، حيث إن الله هو الوحيد المطلع على السرائر وما تخفي الضمائر؟
وهذا هو الإبهام العميق الذي يمكن العثور عليه في تفكير الدكتور كديور، وهو إبهام في مفهوم الإمامة، حيث إنه لم يكوّن مفهوماً ورؤيةً واضحةً عن المعنى الاصطلاحي للإمامة. فبعض ما يذكره للإمامة يتداعى منه المعنى اللغوي للإمامة من قيادة المجتمع وزعامته؛ وبعض ما يذكره من جهة أخرى يفيد المعنى الاصطلاحي عند الشيعة، والذي لا ينطبق إلا على الأئمة الاثني عشر المعهودين. وعليه إذا كان هو نفسه لم يتضح له معنى الإمامة فكيف يريد توضيح التحريفات التي طرأت على هذا المفهوم في التاريخ؟! والقاعدة المعروفة تقول: «فاقد الشيء لا يعطيه».
ونتطرق الآن إلى الأدلة الأخرى التي ساقها الدكتور كديور لإثبات تحريف المفهوم المعاصر للإمامة عند الشيعة.
يقول الدكتور محسن كديور: قال الإمام علي× في الخطبة الثالثة من نهج البلاغة: «أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كِظّة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها»، حيث عرّف الإمام نفسه بوصفه عالماً، ونحن لا نراه عالماً فحسب، بل هو أعلم العلماء، ولكن الذي يهمنا هنا هو أنه× انطلق من كونه عالماً، ويمكن للآخرين أن يكونوا علماء أيضاً، إلا أنه مع ذلك تبقى للإمام علي× ميزة اللصوق برسول الله أكثر من غيره. يضاف إلى ذلك تهذيب النفس، وظهور أصول الدين والمعارف الدينية له أكثر من الآخرين. ومهما كان فإن أصل علمه بالغيب لا يشكل محور بحثنا، وإنما يتمحور البحث حول شرطيته.
هل الإمامة بالنصب أم الانتخاب؟ ــــــ
إن النقاط المحورية في هذه الكلمات هي عدم مدخلية النصب الإلهي في تعيين الإمام، وإنما يتمّ نصب الإمام من خلال انتخاب الناس. ولنا هنا أن نتقدم بالأسئلة التالية:
1ـ كيف يمكن الجمع بين عبارة «لولا حضور الحاضر» وقوله× في بداية هذه الخطبة: «وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليّ الطير»؟ ألا يعني الجمع بينهما وجود تمايز بين المقبولية والمشروعية؟ ألم يحظ الإمام بالشرعية من خلال النصب الإلهي في غدير خم، ومع حضور الناس أضيفت المقبولية إلى هذه الشرعية؟
2ـ ما هو محتوى واقعة الغدير من وجهة نظر السيد كديور؟ هل مفاد «من كنت مولاه فهذا علي مولاه»، وهذا النصب الإلهي، هو الحب والمودة، أو الولاية التامة، سياسياً ودينياً؟
3ـ ما هو دور (الأعلمية) التي ذكرتموها للإمام علي× في بحث الإمامة؟ هل هي شرط فيها أم لا؟ وإن كانت شرطاً فيها ـ كما يلوح من العبارات المتقدمة ـ فأي دور سيكون لنصب الناس؟ فلو استخلف غير الأعلم بواسطة آراء الناس كان (إماماً)، وإذا لم يحصل الأعلم على آراء الناس لا يكون (إماماً)؟! إذا كان الأمر كذلك فهل يكون الخليفة الأول بما حصل عليه من خلال البيعة الصورية إماماً؟ وهل يجب علينا تجريد الأئمة الآخرين الذين افتقدوا آراء الناس من صفة الإمامة؟!
4ـ ألا تؤمنون بالعبارة المنطقية الشهيرة التي تقول: «إن إثبات شيءٍ لشيء لا ينفي عنه ما عداه»؟ إذا كنتم تؤمنون بها فلماذا تستنتجون من وصف الإمام نفسه بكونه من العلماء أنه لا يشترط أمراً آخر في الإمامة أكثر من العلم الاعتيادي؟ وإضافة إلى ذلك ما هو الدليل الذي يحملكم على تفسير العلماء بالمعنى العرفي والعادي، دون العلماء الذين يعلمون الغيب؟! والحقيقة أنه كما تم حمل (العلماء) في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ} على علماء بخصوصهم نالوا العلم الحقيقي؛ وذلك لأننا نشاهد الكثير من العلماء في مختلف العلوم الطبيعية والرياضية والإنسانية لا يتصفون بالخشية، يمكن كذلك حمل العلماء في عبارة: «وما أخذ الله على العلماء» على علماء حقيقيين بخصوصهم نالوا أسمى العلوم، بما في ذلك علم الغيب.
5ـ هل ترى في مبحث علم الأساليب إمكان الحكم من خلال الاستدلال المتقدّم على الوقائع التاريخية؟ إن تناول العبارة المذكورة من نهج البلاغة، والتي لم نعثر على الكثير منها ـ مضافاً إلى توجّه الإشكالات المتقدّمة على دلالتها ـ، وتجاوز الروايات الكثيرة الناقضة لفرضيتكم، لا تعني إلا الاستدلال المتقدم، بمعنى اعتبار كل رواية تدعم نظريتي، وكل رواية لا تؤيدها فهي غير موثوقة، ورواتها مدلِّسون وغلاة، دون أن تكون هناك حاجة إلى البحث التاريخي والتحقيق الرجالي!
هل تطوّر مفهوم الإمامة عند الشيعة؟ ــــــ
يدّعي الدكتور كديور أنه «منذ القرن الأول إلى القرن الرابع حصل تحوّل جاد في المذهب. وللأسف الشديد فإن أكثر الكتب التي بين أيدينا، أو جميعها، تعود إلى ما بعد هيمنة هذا التيار. فليس هناك تراث مكتوب من القرنين الأول والثاني، ولكن هناك آثار لذلك الفكر الذي تمّ القضاء عليه، واتهم بالتقصير في النصوص القديمة».
وقد ذكر في إثبات مدّعاه أموراً، منها: كلام الإمام الحسين× في خطابه لأهل الكوفة؛ وكذلك جوابه لأهل مكة: «فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله». وهذه الأوصاف الأربعة قابلة للتعميم. وكل مسلم يمكنه التحلي بهذه الصفات. وقد عرّف الإمام نفسه بمحاور العدل والارتباط بالقرآن.
ويرد عليه:
أولاً: من الواضح أن عبارته الأخيرة تطفيفية، حيث اكتفى بذكر صفتين من الصفات الأربعة.
ثانياً: إن هذه الرواية تؤيِّد ما اعتبره كديور من الصفات الميتافيزيقية، والتي لا يراها شرطاً في الإمامة، من قبيل: علم الغيب، والعصمة، والنصب الإلهي، وأن العمل بالقرآن يفتقر إلى العلم اللدني بالباطن وتأويل القرآن: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ}. مضافاً إلى أنه لا يوجد من يعلم بواطن الناس النفسية غير الله، وعليه فمن يمكنه أن يكون مرجعاً في تحديد صفات من قبيل: «الحابس نفسه على ذات الله»؟! وباختصار: هل هناك من طريق يمكن تصوّره لتعيين الإمام غير النصب الإلهي؟ إن دلالة الصفة الأخيرة على العصمة أمر مفروغ منه، ولا يحتاج إلى توضيح.
ثالثاً: إن سعي الدكتور كديور في تبسيط مفهوم الإمامة، وجعله أمراً عرفياً ميسوراً للجميع، واعتبار الإمامة منصباً كسائر المناصب الاجتماعية والسياسية الأخرى، سعيٌ محبطٌ للغاية. فهو يقول: «إن هذه الصفات قابلة للتعميم، ويمكن لكل مسلم أن يتحلى بها». في حين أن صفة مثل: (الحابس نفسه على ذات الله) ليست من الصفات الهيّنة التي يمكن للجميع التحلي بها. لا شك في أن بإمكان كل فرد بلوغ الكمال باختياره، وفي حدود استعداده الذاتي. وهذا ما يجمع عليه المتكلِّمون. إن عمدة المتكلمين الشيعة يرون الإمامة تفضُّلاً من الله، يعطيه لمن يعلم فيه الأهليّة لها. وعليه لا يكون الدكتور كديور قد جاء بشيءٍ جديد؛ إذ يرى المتكلمون أيضاً أن كلّ من يمكنه بلوغ درجة الكمال للإمامة فإنه سينصَّب للإمامة. وهذا كله في مقام الإثبات والإمكان العقلي. أما على مستوى الثبوت والإمكان الوقوعي فهذا ما لم يكتب له التحقّق إلا لاثني عشر إماماً معهوداً. ومن خلال النص عليهم من قبل رسول الله يتضح أنه سوف لا يسع أي شخص آخر التحلي بوصف (الحابس نفسه على ذات الله). وعليه يكون الدكتور كديور قد وقع في خطأ فاحش إذ ذهب إلى إمكان تحقق الإمامة (لكل مسلم)، والذهاب بالإمامة إلى مصير عرفي ومبتذل.
يبدو أن الغاية والغرض الذي هيمن على تفكير الدكتور كديور قد أدّى به إلى نفي مسلَّمات بحث الإمامة. وذلك الغرض يتلخص في (عقلنة) بحث الإمامة. وربما أمكن تلخيصها بـ (نفي الخرافة) عنها. وعلينا هنا تذكير الدكتور كديور بأنه لم يراعِ التناسب بين الأدوات والغايات في بحثه؛ فإن مشروع محو الخرافة لا يتمّ إلا بالنفي التام لعلم الغيب، والنصب الإلهي، والعصمة، والشفاعة، وتكليم الملائكة، وما إلى ذلك، في حين أنه كان يرمي إلى مجرد نفي شرطية هذه الأمور في الإمامة. فمع وجود هذه الصفات في سماء نبوّة الأنبياء وإمامة الأئمة الاثني عشر لا تتحقق العقلانية الدينية التي تنشدونها. ولذلك يجدر بكم سلوك طريقة أصح لعقلنة الدين ومحو الأساطير عنه.
وبعبارة أوضح: إذا كان الهدف عقلنة الدين فإن نفي شرطية الصفات المذكورة عن الإمامة لا يجدي شيئاً؛ وإذا لم يكن يهدف إلى ذلك فإن الشرطية أو عدم الشرطية المذكورة لن تجعل البحث يحظى بأهمية لمثقَّف ديني مثل: الدكتور كديور. وبعبارة أخرى: «ما قصد لم يقع، وما وقع لم يقصد».
فكرة الأسوة ونظرية الإمامة ــــــ
وقال كديور في بيان دليل آخر؛ لإثبات مدعاه حول مفهوم الإمامة: إنّ الإمام الحسين× قال في خطبة له مهمة، ألقاها في كربلاء قبيل استشهاده: «ولكم فيّ أُسوة». والأسوة إنما تكون إذا كانت هناك مسانخةٌ ومشابهةٌ بين الإمام والمأموم، حتى يتمكّن المأموم من بلوغ مرتبة الإمام. وإذا كانت صفات الإمام على النحو الذي بينه المتكلمون فإن الأسوة سترتفع عنهم.
ولو أننا أردنا بيان استدلال الشيخ محسن كديور في صورة منطقية لخرجنا بالقياس المركب التالي:
1ـ إن جميع الأئمة أسوة.
2ـ وكل أسوة يمكن بلوغ مرتبتها لمن يتأسى بها.
3ـ صفات الأئمة في الكلام الإسلامي لا يمكن لأي فردٍ بلوغها.
4ـ إذاً يمكن للجميع بلوغ مراتب الأئمة، وإن الصفات الواردة للإمام في الكلام الإسلامي غير صحيحة.
وهنا نقول:
1ـ إن المقدمة الأولى غير صحيحة على إطلاقها؛ فإن التأسي بالأئمة إنما يكون في جميع مقاماتهم ومراتبهم، من قبيل: الفضل، والعلم، والعدل، وما إلى ذلك، إلا مقام الإمامة. فهناك مغالطة في الإطلاق والتقييد.
2ـ إن المقدمة الثالثة تتضمن تعريفاً خاطئاً عن (الأسوة)؛ إذ يمكن تفسير الأُسوة بالتشبّه والميل إلى صفات الإمام، سواء أمكن بلوغها أو لم يمكن بلوغها بشكل كامل. فمثلاً: في قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} نجد أن ختم النبوة يقتضي عدم تمكن أحد من بلوغ مقام النبوة. وعليه يبدو أن هذه الأسوة ـ بحسب الظاهر ـ أعم من التفسير. والمعنى الذي تبناه الدكتور كديور مغالطة التعريف بالأخص.
3ـ إن المقدمة الثالثة غير صحيحة بذاتها. فربما كان عدم بلوغ الآخرين مقام الأئمة ـ ولو بأوصافهم الميتافيزيقية ـ عائداً إلى أمور خارجية، كعدم سعي الآخرين إلى بلوغ تلك المراتب، لا لاستحالة المسألة ذاتاً، وذلك لأن الإنسان كيان جامع يمكنه بلوغ مراتب الملائكة. وعليه فإن أوصاف الأئمة الميتافيزيقية قابلة لنيل الجميع بالإمكان العقلي، دون الإمكان الوقوعي، كما تقدم توضيحه. في حين ذهب الدكتور كديور إلى عدم إمكان بلوغها مطلقاً. وهذه مغالطة الإطلاق والتقييد.
4ـ إن كيفية الاستنتاج مخدوشة. فلكي نتمكن من الاعتقاد بالمقدمات الثلاث معاً هناك تقاطع طرق رباعي، يتمثل في: نفي إطلاق الأسوة؛ نفي إطلاق إمكانية بلوغ كمالات الشخص المتأسّى به؛ نفي إطلاق عدم إمكانية بلوغ الصفات الميتافيزيقية؛ نفي صحة الصفات الميتافيزيقية المذكورة من قبل المتكلمين. وهنا لم يذكر السيد كديور مرجِّحاً لاختياره الطريق الرابع، وتجاهله للطرق الثلاثة الأولى. وهذه مغالطة الترجيح بلا مرجِّح.
كديور وظاهرة الغلوّ ــــــ
أشار الدكتور كديور في التبيين المفهومي الذي يراه عن الإمامة، ولا يشترط فيه الصفات الميتافيزيقية، إلى تيار الغلاة والغلو. واعتبره نتيجة مفهوم الإمامة الذي ساد منذ أواخر القرن الثاني، حيث قال: عندما شاهد الناس هذه الوجودات المهذَّبة العالمة انساقوا نحو المبالغة في حقهم على الطريقة الشرقية، واعتبروهم نسيجاً وحدهم. وبدأوا باختلاق الأحاديث في مناقبهم وفضائلهم، حتى بلغ بهم الأمر أن استدعى تدخل الأئمة أنفسهم، واعتبار هؤلاء الأفراد غلاة. وقد نهاهم الإمام علي× عن ذلك، وذكّرهم بعبوديته، وتوعدهم بالعقوبة إن استمروا على شركهم، فلم يستجيبوا له، فعاقبهم.
ويرد على ذلك:
أولاً: إن حادث معاقبة الغلاة على يد أمير المؤمنين×، وخاصة أسطورة حرقهم أحياءً، تحتوي على إشكالات تاريخية جمّة. وقد كشف العلامة السيد مرتضى العسكري على مواطن إشكالاتها بالتفصيل، وبمنهجية علمية.
ثانياً: هناك تضارب تاريخي في عباراته؛ فمن جهة يرى أن الغلو قد شاع في نهاية القرن الثاني؛ ومن جهة ثانية يتحدث عن عقوبتهم على يد الإمام علي×.
ثالثاً: علينا أن نسأله: ما هو معنى (المبالغة الشرقية)؟! يبدو أنه نسي الغلو الذي ساد الغرب، سواء في مرحلة سيادة المذهب الميترائي السابق للمسيحية أو فترة السيادة المسيحية بعد قسطنطين. إن الغلو الذي سلكه الغرب في عصمة البابوات والقديسين ليس بأقل مما نشاهده في البلدان الشرقية.
ولنتدبر في الاستفادة التي أراد الدكتور كديور أن يتوخّاها من الإشارة إلى تيار الغلاة. فهناك افتراضان يمكن تصوُّرهما:
1ـ أن يكون مراده أن الصفات الميتافيزيقية، من العصمة، والنصب الإلهي، وعلم الغيب، إنما هي حصيلة الوضّاعين من الغلاة، وأن الأئمة لا يتمتعون بمثل هذه الصفات.
وفي هذه الصورة يكون أولاً: قد انحرف عن موضوع محاضرته؛ لأنه قال في مقطع منها: «إن أصل علمهم للغيب لا يشكل محور بحثه». وثانياً: قد ارتكب تناقضاً، حيث قال في موضع منها: إن هذه المفاهيم (العصمة، والنصب الإلهي، ونصّ النبي، وعلم الغيب) قلّما وردت على لسان الأئمة في القرون الأولى، مما يدل دلالة واضحة على أن الأئمة صرحوا باتصافهم بهذه الأوصاف، ولو بشكل نادر. وثالثاً: إن نفي هذه الصفات المذكورة بقول مطلق يساوق نفي حصر الأئمة باثني عشر إماماً، وتأويل آية التطهير، وحديث الثقلين، وحديث الغدير، وأمثالها، على نحو غير عقلائي. وكذلك إسقاط جزءٍ كبيرٍ من كتب الشيعة الروائية، مثل: الكافي. وكذلك إسقاط الأحاديث الكثيرة حول مناقب أهل البيت الميتافيزيقية الواردة على ألسنة أهل السنة، وخاصة في «شرح نهج البلاغة»، لابن أبي الحديد المعتزلي، وكتاب «قادتنا، كيف نعرفهم؟»، للسيد الميلاني، وهو موسوعة قيّمة في سبعة أجزاء، يشتمل بأجمعه على أحاديث أهل السنة في مناقب الأئمة^، وإسقاط القسم الأكبر من كتاب «مفاتيح الجنان»، وإسقاط موسوعة «الغدير»، للعلامة الأميني، إلى غير ذلك من أمهات الكتب الأخرى. والأهم من كلّ ذلك أنّ هذا يساوق الهرج والمرج في علم الرجال؛ إذ ينبغي إسقاط الكثير من الرواة؛ بتهمة الغلو!
2ـ أن يكون مراده أن هذه الصفات الميتافيزيقية، وإن كانت ثابتة للأئمة، إلا أن الغلاة هم الذين بالغوا فيها في أواخر القرن الثاني، وجعلوها من شروط الإمامة. وفي هذه الصورة هل كانت جريرة الغلاة قد بلغت درجة استحقوا معها القتل على يد الإمام؟! فإنّ كل ما فعلوه هو أنهم بالغوا في صفة موجودة، فهل يكون وزرهم أثقل من وزر الذي أنكر أصل إمامته×؟!
هناك كلمة للعلامة المجلسي ذكرها بعد سرده روايات عديدة ومختلفة حول الغلو، وهي جديرة بالاهتمام، حيث جاء فيها: «اعلم أنّ الغلو في النبي والأئمة^ إنما يكون بألوهيتهم، أو بكونهم شركاء الله تعالى في المعبودية، أو في الخلق والرزق، أو أن الله حلّ فيهم، أو اتحد بهم، أو أنهم يعلمون الغيب بغير وحي أو إلهام من الله تعالى، أو بالقول في الأئمة^ أنهم كانوا أنبياء، أو القول بتناسخ أرواح بعضهم إلى بعض، أو القول بأن معرفتهم تغني عن جميع الطاعات، ولا تكليف معها بترك المعاصي. والقول بكلٍّ منها إلحادٌ، وكفرٌ، وخروجٌ عن الدين، كما دلت عليه الأدلة العقلية، والآيات، والأخبار السالفة، وغيرها»([5]).
والحقيقة أن الغلاة هم الذين أشركوا؛ لقولهم بألوهية الأئمة، أو جعلهم شركاء مع الله في الخلق والأمر، إلا أن الدكتور كديور يخلط الأوراق، وينكر كل أنواع رفع درجات الأئمة، ويرى القائل بذلك مستحقاً للعقاب. وبذلك يكون قد ارتكب مغالطة (العلّة الجعلية)، حيث ذهب إلى أن إنكار صفات الأئمة الميتافيزيقية سببه غلّو الغلاة، في حين أن الغلو الاصطلاحي لا ربط له بالأوصاف الميتافيزيقية مورد البحث.
كما أنه بعد بحثه عن صلةٍ بين الغلو الاصطلاحي، الذي هو نوع من الشرك، وبين الأوصاف الميتافيزيقية التي ينكرها دخل في بحث التفويض. في حين يذهب جميع المتكلمين من الإمامية إلى أن أوصاف الأئمة، من قبيل: العصمة، وعلم الغيب، والشفاعة، وأمثال ذلك، إنما هي في طول قدرة الله وإرادته، وليس لها أي ارتباط بالشرك والتفويض الشركي. فما هي الصلة بين البحثين؟!
ولكي يثبت الدكتور محسن كديور أن مفهوم الإمامة قد تعرض للتحريف في التاريخ الشيعي بادر إلى إقحام تيار الغلاة. ولكي يوجد صلة للغلاة ببحثنا فقد أشار إلى جماعة من الغلاة يعرفون بالمفوّضة، وقال: المفوّضة هم الذين يقولون بتفويض خلق العالم تكويناً أو تشريعاً للنبي، ومن بعده الأئمة. والمفوضة شعبة من الغلاة مولعون بالمبالغات. وقد صدرت عنهم الكثير من الروايات. ولا زالت موجودة في مصادرنا الروائية تحت عنوان (باب تفويض الأمر من الله إلى النبي والأئمة بعده).
وفي ما يلي نشير إلى بعض النقاط:
1ـ كما ذكر السيد محسن كديور فإن المفوّضة شعبة من الغلاة. وبالالتفات إلى ما تقدم من العلامة المجلسي في بيان خلاصة عقائد الغلاة الشركية يتضح أن المفوضة الذين هم مورد بحثنا قد ذهبوا في تفويضهم إلى استقلالية الأئمة في خلق العالم من الناحية التكوينية أو التشريعية، وجعلهم في عرض الله في ذلك. وأما إذا كان التفويض إلى الأئمة بمعنى منحهم قدرة في طول قدرة الله فلن تكون هناك مخالفة للتوحيد، ولا يوجد في الدين أمر استثنائي؛ إذ إن كل علة في الوجود تؤدي دوراً تفويضياً. فإذا كانت النار تحرق، والدواء يبرئ، فإنما ذلك بسبب التفويض الذي فوَّضه الله إلى النار والدواء، من دون أن يكونا مستقلين في الإحراق والإبراء. مضافاً إلى أننا في الشفاعة ـ كما هو صريح القرآن، حيث يرد ذكرها في مواطن مختلفة، منها: قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً}، وفي أمره تسخير الرياح والجن لسليمان×، حيث يقول تعالى: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، وما إلى ذلك ـ نواجه تفويضات للأنبياء، دون أن يكون هناك شرك في البين.
2ـ قال الدكتور كديور في وصف المفوّضة بأنهم مولعون بالمبالغات.
ونقول: أولاً: لا بد من الالتفات إلى أنه ليس كل مبالغة تصبّ بالضرورة في الغلو المصطلح. ولكن يبدو أنه يحاول اعتبار كل صفة ميتافيزيقية تتنافى مع العقلانية الحديثة مبالغةً ناتجةً عن الغلو؛ ليستفيد من المعنى السلبي لمفردة الغلو في الوصول إلى غايته. وهذه مغالطة الاصطياد في المياه العكرة.
ثانياً: من الذي يمتلك صلاحية تحديد المبالغة والقصور؟! إذا كانت الوسطية تعني العقلانية الحديثة، التي ترسم للإنسان صورة مادية وأرضية، وتعتبر كل صفة معنوية وإلهية من أساطير الأولين التي تدعو إلى الضحك والسخرية، فعندها يمكننا الوصول إلى النتيجة الحاصلة في محاضرة السيد كديور التي ألقاها في شهر محرم. وأما إذا رأينا الوسطية في اعتبار الإنسان كائناً شمولياً يمكنه التفوق حتى على الملائكة فعندها لا نطلق على التفويض غير القائم على الشرك تسمية المبالغة.
3ـ قال الدكتور كديور: وقد صدرت عن الغلاة روايات كثيرة.
وتعدّ هذه التهمة التاريخية (اختلاق الحديث) للشيعة والعلماء الكبار، مثل: الشيخ المفيد، والكليني، وغيرهما من أعلام الشيعة؛ بسبب تضمّن كتبهم الروائية ـ مثل: الكافي ـ باباً تحت عنوان (تفويض الأمر من الله إلى النبي والأئمة بعده) جفاءً لا يغتفر. ولسنا نشك في صدوره سهواً أو زلة لسان من الدكتور كديور. وهو قطعاً لم يلتفت إلى هذه اللوازم الطبيعية، {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ}.
وبعد أن أشار الدكتور كديور إلى انقسام العلماء في القرن الثالث إلى قسمين: مقصّرة؛ ومفوّضة، قال: هناك مراتب مختلفة للتفويض، فمنها: التفويض في الخلق، والتفويض في تدبير العالم، والتفويض في الرزق، والتفويض في أمر الدين والشريعة، والتفويض في الاختيار (في قبال الجبر، والحالة المتوسطة بينهما: لا جبر ولا تفويض، بل أمرٌ بين أمرين). وفي بداية الأمر أنكر العلماء جميع هذه المراتب، ولكن ظهرت فيما بعد بعض التوجيهات والمحامل لكل واحدة من هذه المراتب بالتدريج..، فتمّ القضاء على المقصِّرة وإخراجهم من الأوساط الشيعية، وتحول التفويض بعد اعتداله إلى القوة الفكرية الغالبة والمهيمنة لدى الشيعة. ومرادي من التفويض الاعتدالي هو التفويض الذي لا يذهب إلى تأليه الأئمة، ولا يفوض إليهم أمر خلق العالم، إلا أنه يحتفظ مع ذلك بثلاثة محاور من التفويض، وهي: تدبير العالم، وإعطاء الرزق، والتفويض في الشريعة والدين. وعليه يكمن الفرق بين التفويض الأصولي والتفويض المعتدل في إثبات أو نفي تأليه الأئمة. إذاً باعتقاد الدكتور كديور فإن المتكلمين منذ القرن الرابع لم يعودوا يسمون أنفسهم بالمفوّضة، وإنما يعتبرون أنفسهم الشيعة الأصلاء، وإن الذي تم تغييره وتضخيمه هو معالم المذهب.
تنويهات أخيرة ــــــ
1ـ جعل الدكتور كديور التفويض في الاختيار قسماً للمراتب الأخرى (التفويض في الخلق،…)، في حين يبدو أن التفويض في الاختيار لا ربط له بموضوع البحث؛ فإن هذا التفويض لا ربط له بالأئمة عند من يقول به، ليتم طرحه في موضوع بحثنا؛ فإن التفويض في الاختيار من خصائص الكلام عند بعض المعتزلة، وليس له موقع بين الإمامية.
2ـ كان يجدر بالدكتور كديور أن يبيّن منذ البداية المرحلة التي يعنيها. مضافاً إلى ضرورة أن يقدم قائمة موثَّقة بالعلماء الذين أنكروا جميع مراتب التفويض، أو أن يعرّف واحداً منهم في الأقل. ولا بد من الإذعان بأن التفويض إذا كان منافياً للتوحيد، بأية مرتبة من مراتبه، فهو موضع إنكار جميع المتكلمين من الإمامية. ويمكن فهم الاختلاف الواقع حول روايات التفويض على هذا الأساس. فالذين يرون التفويض المشار إليه في الروايات في طول الإرادة الإلهية ـ وهو الذي يصنفه الدكتور كديور ضمن التفويض المعتدل ـ يقبلونه ببعض مراتبه، أو بجميعها. ولا خلاف بين علماء الإمامية من هذه الجهة.
3ـ لم يُشِرْ الدكتور كديور إلى مراده من (التوجيهات) في عبارته، حيث يقول: «ولكن ظهرت فيما بعد بعض التوجيهات والمحامل لكل واحدة من هذه المراتب بالتدريج». وبذلك سيفهم القارئ من سياق محاضرة الدكتور كديور أن المفوِّضة الذين تحولوا إلى التيار الشيعي الغالب، والذين يشكلون حالياً جميع الشيعة، أو غالبيتهم، قد قبلوا مراتب التفويض من خلال تبريرها بأمور غير مبررة. وبعبارة أخرى: تم قبول التفويض الباطل بنوع من التدليس والتمويه وإظهاره بلباس الحق. ونحن نرجو من الدكتور كديور أن يبيّن لنا توجيهاً واحداً من هذه التوجيهات التي أشار إليها، مع بيان ضعف هذا التوجيه وقصوره وبطلانه؛ ليتضح لنا هل هذه التوجيهات هي التي وقع فيها التدليس والتمويه أم محاضرته التي ألقاها في شهر محرم الحرام؟!
4ـ يتحدث الدكتور كديور عن المعالم الأصلية للمذهب، وأن هذه المعالم قد تمّ القضاء عليها من قبل المفوّضة على مسار التاريخ، ولكن برغم ذلك بقيت آثار هذا التفكير، الذي تم إقصاؤه بعد اتهامه بالتقصير زوراً وبهتاناً، في النصوص القديمة. في حين لا ينسب التقصير في علم الكلام إلى جماعة بعينها لها عقائدها وأفكارها المحددة. وإنما كان الغلاة يعمدون في الدفاع عن أنفسهم بسبّ المخالفين لهم، واتهامهم بالتقصير عن معرفة مقام الأئمة الإلهي على حقيقته. ولكن من جهة أخرى فقد نقل الشيخ المفيد في «تصحيح الاعتقاد» عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد، وهو من مشايخ قم، قوله: «أول درجات الغلو نفي السهو عن النبي والإمام». وبذلك عدّ الشيخ المفيد محمد بن الحسن بن الوليد مقصِّراً، أي إن كل من يعتقد سهو النبي فهو مقصِّر. وقد ذكر الشيخ المفيد أيضاً أن جماعة وردوا إلينا من قم يقصِّرون تقصيراً ظاهراً في الدين، وينزلون الأئمة^ عن مراتبهم، ويزعمون أنهم^ كانوا لا يعرفون كثيراً من الأحكام الدينية حتى ينكت في قلوبهم… ورأينا فيهم من يقول بأن الأئمة ملتجئون في حكم الشريعة إلى الرأي والظنون، ويدعون مع ذلك أنهم العلماء. وهذا هو التقصير الذي لا شبهة فيه. ومن هنا نلاحظ أن (المقصِّرة) يشكلون طيفاً واسعاً يتكون من النافين للغلو، والقائلين بسهو النبي، والذين يتهمون الأئمة بعدم معرفة الأحكام الدينية. فهل يمكن العثور على معالم الشريعة الأصلية على النحو الذي يدعيه الدكتور كديور وسط هذه الاختلافات الفكرية؟! وهل يسعى الدكتور كديور؛ بسبب شحّ الأدلة، التي تبين ضعفها في هذا المقال، إلى البحث عن المقصِّرة وإخراجهم من أدراج التاريخ للتعريف بمذهبهم بوصفه المكوّن لمعالم المذهب؟! إنه يدرك أن (التقصير) يطلق على طيف واسع من العقائد، فهل يؤيد تفكير تلك الفئة من المقصِّرة الذين لم يعارضوا صرف الغلو الشركي فحسب، وإنما آمنوا في الوقت نفسه بميتافيزيقية صفات الأئمة، ويراه معبّراً عن معالم المذهب، أو المقصرة الذين يعتقدون بسهو النبي، أو الذين يفتون بحسب الرأي والظنون؟ من الواضح أنه إذا التزم بالشق الأول فإنه سوف يسير على نفس الطريق الذي سلكه سائر الأئمة إلى يومنا هذا، وهو نفي تأليه الأئمة، واشتراكهم مع الله في الخلق والرزق، ونحو ذلك، مع الاعتقاد بوجود بعض الصفات الميتافيزيقية الأخرى، وسيحظى بدعم كافة الأدلة الكلامية لعلماء الشيعة الكبار؛ وإما إذا اختار الشق الثاني فإنه سيفتقر إلى أدلة قوية ومحكمة لإثبات رأيه. ويجب أن يتفوق في أدلته على أدبيات المتكلمين الإمامية الواسعة. وهذا دونه خرط القتاد.
وعليه يكون التفصيل واللف والدوران الذي قام به الدكتور محسن كديور في مسألة الغلو أجنبياً عن مسألتنا، وإنما ساقه للتهويل وتكثير الأقوال. فمثلاً: يقول: هناك في الجزء الخامس والعشرين من بحار الأنوار أكثر من مئة صفحة في نفي الغلو والتفويض. وقال الشيخ الصدوق في القرن الرابع: «المفوضة والغلاة كفرة ومشركون، وهم من أهل الضلالة بأجمعهم..». يا له من سعي عقيم، حيث يحاول إثبات أمرٍ أجنبيٍّ من طريق الإطناب الممل!
ثم ذكر أن الشيخ المفيد اعترض في «تصحيح الاعتقاد» على الشيخ الصدوق، وأنكر عليه بعض الأمور التي يؤمن بها المفوِّضة، أي إنه يرى المفيد مفوِّضاً إذا ما قيس إلى الشيخ الصدوق، أو أنه أكثر تفويضاً منه. وهنا لابد من الإشارة إلى حقيقة المسألة تاريخياً.
قال الشيخ الصدوق في كتاب «الاعتقادات»، بعد ذكر عقائد الغلاة وردّها: «وعلامة المفوِّضة وأصنافهم نسبتهم مشايخ قم وعلماءهم إلى القول بالتقصير». وقد بادر الشيخ المفيد إلى نقد هذا الكلام. ولكن لابد من الالتفات إلى أن مشايخ قم يذهبون إلى سهو النبي والأئمة، ويرمون بالغلو كل من ينكر سهو النبي. وقد ألَّف إسحاق بن حسن البكران كتاباً في الردّ على الغلاة. وعلى الرغم من ذلك «اتهم بالغلو؛ لمجرد نفيه السهو عن النبي([6]). وقيل عن أبي العباس الرازي: «اتهم بالغلو بسبب كتابٍ له تحت عنوان كتاب الشفاء والجلاء في الغيبة»([7]). وروى المامقاني عن الفاضل الحائري: «رمي القميين بالغلو وإخراجهم من قم لا يدل على ضعف أصلاً؛ فإن أجلّ علمائنا وأوثقهم غالٍ على زعمهم، ولو وجدوه في قم لأخرجوه منها لا محالة»([8]).
وقد عمد الدكتور كديور إلى نقل مخالفة مشايخ قم للغلو والتفويض، دون الإشارة إلى سهو النبي. وذكر أن الشيخ الصدوق كان يرى رأيهم. وقد أشكل الشيخ المفيد عليه؛ لأنه من المفوضة. وحيث إن القارئ يجهل معتقد القميين الخاص بشأن سهو النبي فإنه سيذعن بوجود نزاع جادّ بين الشيعة في القرن الرابع، وقد انتهى هذا النزاع إلى تضعيف المقصِّرة بعد أن كانوا يشكلون تياراً قوياً أو أنهم كانوا يشغلون مدينة هي من أهم المدن الشيعية. ولكن يجب تذكيره بأن هذه القضية التاريخية لا تخدمه؛ لأن تقصير مشايخ قم والشيخ الصدوق إنما كان في مسألة سهو النبي فقط، ولم يذهبوا إلى عدم نصب الإمام من قبل الله، أو عدم عصمته، أو عدم علمه بالغيب، ولو على نحو محدود. ويكفي في ذلك مراجعة كتب الشيخ الصدوق، الذي يراه الدكتور كديور مدافعاً عن التقصير. ومهما كان لابد من الالتفات إلى أن النزاع التاريخي بين الفئات الشيعية ـ وليس في ضمنهم الغلاة المشركون([9]) ـ كان جزئياً وفي بعض المسائل الهامشية، دون الأصول والمباني، التي وحّدت الفئات الشيعية عبر العصور، ومن جملة تلك الأصول: النصب الإلهي، والعصمة.
وندخل في استدلال آخر أقامه الدكتور محسن كديور لإثبات أن الصفات الميتافيزيقية التي يسود الاعتقاد بها حالياً لم تكن شرطاً في أصل الإمامة، حيث تساءل في بحث التفويض قائلاً: لو ذهبنا إلى تفويض كل ما للنبي من الصفات بعينها إلى الإمام علي بن أبي طالب وأبنائه فعندها يطرح هذا التساؤل نفسه: أين يكون موضع الوحي من الإعراب؟
وقد تعرض إلى الرواية المستفيضة التي تقول: «ما فوض إلى النبي‘ فهو مفوّض إلينا»، الواردة في «بصائر الدرجات»، المنسوب إلى أحد أصحاب الإمام العسكري×، وقد تمّ تأليفه في أواخر القرن الثاني. كما وردت في «أصول الكافي»، للكليني، وفي «الاختصاص»، للمفيد، وتفسير علي بن إبراهيم القمي، وتفسير فرات الكوفي. وقال الدكتور كديور نفسه: هناك من الروايات الكثير مما يشاكلها، دون أن يأتي بدليل رجالي أو تاريخي على ردّها، وبيان عدم انتسابها إلى الأئمة المعصومين×. ومع ذلك أوحى برفضها متسائلاً: «إذاً أين يكون موضع الوحي الرسالي من الإعراب؟!».
ولو أن الدكتور كديور قد لاحظ هذه الروايات المستفيضة، التي أشار إليها ضمن أصل خاتمية النبي الأكرم‘، لحكم بأن هذه الخاتمية، بل وجميع مختصات النبي الأخرى، مثل: عدد الزوجات، تشكل قرينة متصلة في الروايات المذكورة على عدم دخولها ضمن ما ينتقل إلى الإمام من صلاحيات النبي‘؛ وذلك بالجمع العرفي المعروف في علم أصول الفقه. ومع الأخذ بنظر الاعتبار تبحّر السيد كديور في مباحث التعادل والتراجيح لم نعرف سبب تجاهله ما يعلمه، فتصور الرواية التي أشار إليها (ما فوض إلى النبي..) مطلقة. ولتعارضها مع الوحي حكم بكونها مختلقة. إلا إذا كان قد وضع قاعدة أصولية جديدة، وعندها لابد من إهمال ظنّيّ السند المطلق بواسطة قطعيّ السند المقيَّد!
وبعبارة أوضح: إن الوحي الرسالي لم يرِدْ في كلمات الأئمة، ولم يخطر في ذهن الإمامية، فلا يكون إلا من خصائص الأنبياء. إذا وردت رواية عن الأئمة بالمضمون المتقدم فإن العرف، وأي سامع، سيفهم استثناء مسألة الوحي الرسالي. وإنما لم يذكر صراحة؛ لوضوحه.
مضافاً إلى أن كلمة (نبي) في الرواية تعتبر قيداً في الرواية، حيث أذعن بها الإمام دون أن يدرج نفسه تحت عنوانها. فمثلاً: لو أن موظفاً في إحدى الدوائر الرسمية أعلن أن المدير قد خوّله جميع صلاحياته فهل يفهم من كلامه انتقال عنوان المديرية إليه أيضاً؟! كلا، وإنما يُفهم منه أنه لا يزال موظّفاً، ومرؤوساً، وأن له مديراً خوَّله جميع الصلاحيات، باستثناء الإدارة، وإن لم يصرِّح بهذا الاستثناء؛ لوضوحه.
ولكي نجاري أقوال الدكتور كديور نقول: يحتمل أن يكون مراده أن تفويض جميع صلاحيات النبي إلى الأئمة تجعل منهم وجودات شبيهة بالنبي، وعندها يفقد الوحي أهميته، ولا يكون هناك مائز مهمّ بين خاتم الأنبياء وغيره. فإذا كان الأمر كذلك يعود كلام الدكتور كديور إلى ما قاله الدكتور عبد الكريم سروش من أن الشيعة تذهب إلى المساواة بين الإمام والنبي في الشخصية، حتى أن هذه الرؤية تقوّض مفهوم خاتمية النبي‘.
وهنا نسأل كديور وسروش: كيف يلتزمان بامتياز النبي عن الإمام بالوحي، ومع ذلك لا يرون هذا الامتياز كافياً في إثبات الفرق بين النبي والإمام، ويأخذان بالمطالبة بفوارق أكثر؟! فإن هذا الكلام بنفسه استهانة بالوحي؛ حيث إن مقام الوحي الذي يختص به النبي‘ يجعل من الأئمة أتباعاً للنبي، وممثلين عنه، ولا يمكن المقارنة بين الأصيل والبديل، فالأئمة مفسِّرون ومبيِّنون للشريعة والطريقة والحقيقة التي نزلت من قبل الله على رسوله بالأصالة؛ لإبلاغها إلى الناس، وإن ما وصل إلى الأئمة إنما انتقل إليهم من رسول الله‘. ولو فرض أن لم يكن هناك نبيٌّ لما كان هناك إمام ولا إمامة. أفلا يكفي هذا الفرق، ولابد من السعي إلى نفي مراتب الأئمة وصفاتهم الميتافيزيقية، لنحصل على فارق كبير بين النبي‘ والأئمة^؟! نعود ونكرر: أليس في هذا استهانة بالوحي؟!
مزعمة كديور أنّ الشيعة تجاهلوا القرآن وأخذوا بالروايات ــــــ
وقد اكتشف الدكتور كديور في معرض حديثه حول مفهوم الإمام ودعوى التحريفات العميقة التي تعرضت لها هذه المفردة، حتى أدت إلى تغير معالم المذهب، سرّاً آخر، وهو أن الفكر الشيعي المعاصر يرفع من شأن الروايات، في حين لا نرى ذلك الاهتمام بالقرآن، وقال: لطالما تساءلتُ: لماذا لا نعتني بالقرآن بالمقدار الكافي؟ وما هو مقدار اهتمام الحوزة العلمية بالقرآن؟ وكم يبلغ عدد الآيات التي تتلى على المنابر؟ وما هو عدد الآيات التي يحفظها كل واحد منا؟
وهذا الكلام يحتوي على دعويين:
الأولى: الدعوى التجريبية، بمعنى أن العناية بالقرآن متدنية للغاية، وأن العناية بالروايات مرتفعة للغاية. وهنا لابد من التدقيق في كلمة (للغاية) في كلا الفقرتين.
الثانية: الدعوى التبيينيّة، بمعنى أن سبب إهمال الشيعة للقرآن يعود إلى شدّة اهتمامهم بمراتب الأئمة.
أما الدعوى التجريبية فلا يمكن إثباتها بأي واحد من الأمثلة التي ذكرها؛ إذ بإمكاننا عكس الأمثلة التي ساقها بكل سهولة، فنقول: لماذا لا نعتني بالروايات بالمقدار الكافي؟ وما هو مقدار اهتمام الحوزة العلمية بالروايات؟ وكم يبلغ عدد الروايات التي تتم قراءتها على المنابر؟ وما هو عدد الروايات التي يحفظها كل واحد منا؟ أرأيتم كيف تسنى لي بهذه البساطة إثبات تدني الاهتمام بالروايات؟!
وإذا نظرنا إلى المسار الفقهي والاجتهادي لوجدنا أن الفقهاء يبدأون في كل بابٍ من أبواب الفقه باستعراض آيات الأحكام أولاً، ثم يستعرضون الروايات ولا يوجد في حوزة قم درس خاص في علم الحديث يزاحم درس الشيخ جوادي آملي في التفسير. وفي المنهج الدراسي الذي تمت المصداقة عليه في شورى إدارة الحوزة العلمية في قم، ويتم العمل به في غالبية حوزات البلاد، نجد أن دروس التفسير، والتجويد، وحفظ القرآن، وإعراب القرآن، وعلوم القرآن، أكثر بكثير من الدروس المتعلقة بالحديث. وقد بذلت جهود كبيرة للترويج لقراءة القرآن وتلاوته وحفظه وفهم معانيه وما إلى ذلك في مختلف الفئات السنية، من الصغار واليافعين والشباب، وفي الجامعات والحوزات العلمية، وحتى مختلف طبقات الناس. وقد أقيمت المسابقات ورصدت الجوائز في هذا الشأن، بحيث يمكن القول بأن عشر هذا المجهود لم يبذل في الحديث.
وإذا التزمنا جدلاً بما قاله الدكتور كديور من اهتمام الشيعة بالروايات وقلة اهتمامهم بالقرآن فنقول: ربما تكون الروايات قد حظيت بما تستحقه من المكانة بين الشيعة، أما القرآن فلم يتم الاهتمام به بالدرجة التي يستحقها. وفي مثل هذه الحالة لابد من تضافر الجهود من أجل إعادة القرآن ورفعه إلى مكانته اللائقة، لا أن ندعو إلى إنزال الأحاديث عن مكانتها. وعليه لا يمكن القول بأن السرّ في الحطّ من القرآن ورفع الروايات في الفكر الشيعي يعود إلى التعاليم المتعلقة بالعصمة والنصب الإلهي وعلم الأئمة للغيب، وإنما لابد من البحث عن السبب الحقيقي في ابتعاد المجتمع وجهله بمرتبة القرآن الطبيعية.
مضافاً إلى أنه طبقاً لحديث الثقلين، الذي لا يمكن للدكتور كديور نفيه؛ لإطباق الشيعة والسنة على تواتره، فإن القرآن والعترة متلازمان، ولا يمكن التفكيك بينهما. ولذلك لا تصحّ نظرية الدكتور كديور في ضرورة تقديم القرآن على الرواية قطعية الصدور عن الأئمة^. فالروايات هي التي تفسر وتشرح القرآن، وهي حجّة في بيان جزئيات الأحكام والعقائد والأخلاق. يقول الدكتور كديور: «واضح أننا عندما نقول: لا يوجد كل شيء في الكتاب، إلا أن الأصول موجودة فيه، ويجب علينا في الكثير من الجزئيات مراجعة الروايات. وعندها تصل الروايات إلى درجة من الأهمية العملية، حتى تحل محل القرآن حقيقة». ولست أدري لماذا يستنكر الدكتور كديور استدلال الشيعة في ضرورة الرجوع إلى الروايات في الأمور الجزئية التي لم يتعرض القرآن إلى ذكرها؟! فإذا كان يرى عدم الحاجة في الرجوع إلى الروايات لبيان الجزئيات؛ مخافة أن تغدو الروايات أهم من القرآن، فيجدر به أن يتحفنا بطريقة جديدة نستنبط منها عدد ركعات الصلاة، وكيفية العبادات الواجبة والمستحبة، وكميتها. وليس هناك من طريق غير (الكشف والشهود) أو (العقل). ولكن لقائل أن يقول عندها: ألا يخشى الدكتور كديور عندما يحل هذين الضيفين المتطفِّلين محل الروايات أن يكتسبا بدورهما أهمية تفوق القرآن، وتكون المسألة عوداً على ما فرّ منه؟!
إن الدكتور كديور، من خلال رفضه لحجية الروايات (بشرط تنقيح صدورها ودلالتها)؛ بحجة أن لا تتزعزع مكانة القرآن بين الشيعة، ولا يغدو دون الروايات من حيث الأهمية، سيملأ الفراغ الذي سيحصل لا محالة في المعارف والأحكام والأخلاق بواسطة العقلانية، وهي مفردة في غاية الإبهام. في حين أن هذا الأمر سيفضي بذاته إلى الحط من مكانة القرآن. وسنبين في الخلاصة الختامية كيف تضر عقلانية الدكتور كديور بمكانة الشريعة بأجمعها.
التشكيك بالتوسّل!! ــــــ
والمسألة الأخرى التي فرّعها الدكتور كديور على بحثه حول الإمامة([10]) هي التشكيك بمنزلة التوسل، حيث قال: «لدينا سنخان من الأدعية والزيارات: السنخ الأول: يعود إلى التفكير الشيعي القديم؛ والسنخ الثاني: يعود إلى التفكير الثاني للتشيع (التفويض المعتدل). ويتمثل السنخ الأول في دعاء كميل، ودعاء أبي حمزة الثمالي، وأدعية الصحيفة السجادية، والمناجاة الشعبانية، ودعاء عرفة. فكل ما هنالك هو اتصال مباشر بالله تبارك وتعالى. وهذه هي صورة التشيع الناصعة التي نصبو إليها. وقد كتب بذلك عن دعاء التوسل ودعاء الفرج ودعاء الندبة بوصفها من أدعية السنخ الثاني، التي تدور على محور التوسل والاستشفاع بالأئمة، بدلاً من التوكل على الذات الربوبية.
وهنا نشير إلى أمور:
1ـ من الواضح أن الدكتور كديور يقوم هنا أيضاً باستدلالات تقوم على أحكام مسبقة، ويدعي تلويحاً أن السنخ الثاني من الأدعية مختلق، وغير صادر عن الأئمة^. في حين يحتاج هذا الأمر إلى تحقيق تاريخي ورجالي، ولا يمكن إصدار الأحكام انطلاقاً من الظنون والأوهام.
2ـ إن موضوع كل دعاء يختلف عن المواضيع في الأدعية الأخرى. ومن الطبيعي أن يبرز الموضوع في كل دعاء بشكل أكثر من غيره. وهذا أمر طبيعي جداً. فمثلاً: نرى مضمون مناجاة الخائفين يختلف عن مضمون مناجاة الراجين ومناجاة الشاكرين. كما أن طبيعة دعاء السمات هي في تركيزه على الخوف والتوبة والإنابة. وفي الزيارة الجامعة يتمّ التركيز على صفات الأئمة وخصائصهم. وفي دعاء التوسل يتم التركيز على الاستمداد من الله من خلال التوسل بالأئمة. وهذا الاختلاف الطبيعي بين مضامين الأدعية لا يؤدي بالضرورة إلى النتيجة التي توصّل إليها الدكتور كديور. فإنه إن كان يؤمن بأصل الشفاعة والتوسّل، وكان إشكاله يدور حول مركزيتهما فقط، فعليه أن يجري إحصائية في جميع الأدعية مرة واحدة، ليتضح ما إذا كان مضمون التوسل فيها هو الغالب أو التوكل، فإذا كانت مضامين التوسل هي الغالبة فعندها يحق له أن يستشكل، لا أن يخضع دعاءً واحداً لهذا المعيار والميزان؛ وذلك لما تقدّم من أنّ مضامين وموضوعات الأدعية مختلفة، وقد يطغى موضوع على موضوع آخر في بعض الأدعية. فمثلاً: لا يمكننا أن ننظر إلى مناجاة الخائفين على حدة، وندعي أنها مخالفة للرجاء. وهكذا لا يمكن أن نقصر النظر على دعاء التوسل لنعتبره مخالفاً للتوكل. إن في اختلاف مضامين الأدعية إشارة إلى مختلف حالات الشخص المؤمن؛ فهو تارة يفتقر إلى مناجاة الخائفين؛ وتارة أخرى يحتاج إلى مناجاة الشاكرين؛ بينما يحتاج في زمن آخر إلى الزيارة الجامعة الكبيرة.
3ـ إن عبارة الدكتور كديور القائلة: «إن التوسل والشفاعة بأهل البيت^ بدلاً من التوكل على الله تعالى» تثبت نوعاً من سوء الفهم لعقائد الشيعة. فإن التوسل والشفاعة إنما تقع في طول التوكل على ذات الله تعالى، ولا تحلّ محلّ التوكل في رؤية الشيعي الأصيل. فالأئمة أناس متكاملون، وهم مظاهر وتجليات كاملة لأسماء الباري تعالى وصفاته. وعليه يكون التوسل بهم عين التوكل على الله؛ وذلك لأنهم ـ طبقاً للأسانيد القطعية التاريخية والروائية ـ قد تجرّدوا من أنانيتهم، وملئوا بتجليات الله ـ وحذار أن يفهم الدكتور كديور معنى الحلول من هذا الكلام!! ـ ، بحيث إنهم لا يريدون ولا يقولون إلا ما يريده الله أو يقوله. فهل يمكن العثور على من هو أفضل من أهل البيت لاعتبارهم وسيلةً وطريقاً واجب الابتغاء، حيث قال تعالى: {وابتَغُوُا إِلَيْهِ الوَسِيلَةَ}؟ إن الفكر الشيعي يرى أن الأئمة^ إنما كانوا وسيلة لبلوغ رحمة الله ولطفه؛ لما يتحلون به من الأوصاف. ولم يحصلوا على هذه المنزلة بشكل اعتباطي. وهذا ما نجده في نهاية الزيارة الجامعة الكبيرة: «اللهم إني لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمد وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي».
4ـ لا يوجد في دعاء الفرج توسل أو استشفاع. ويبدو أن الدكتور كديور قد ذكره سهواً.
لقد جرّد الدكتور كديور مفهوم الإمامة عن العصمة، وعلم الغيب، والشفاعة، والنصب الإلهي. ونسب بروز هذه الأمور الميتافيزيقية كشرط في الإمامة إلى تحريف تاريخي. وقد قمنا بنقد أدلته بشكل تفصيلي. وهنا سنقوم ببحث ودراسة علة أخرى وجدها سبباً في تشديد توجه الشيعة إلى مثل هذا التحريف، حيث قال: «وللأسف الشديد فقد أسهم التصوّف بدوره في انحراف معنى الإمامة أيضاً. فإن نظرية الإنسان الكامل السائدة بين المتصوّفة أنتجت بالتدريج هذا الفهم الثاني عن الإمامة عند الشيعة (الإمامة في التفويض المعتدل). إن من جملة آفات المذهب نوعاً من التصوف. ولا نعني بالتصوف ذلك المعنى العرفاني الأصيل الذي يعرف كمحور للمذهب، وإنما نريد به ذلك العرفان الذي يرى عدم خلو الأرض من حجة الله، وإن كان الله لا يعرفه، ومع ذلك تثبت له اختيارات تطال حتى الاختيارات الربوبية. وإن هذا الحجة الذي يُعرف عندهم بالإنسان الكامل والقطب تمّ فيما بعد تطبيقه على مفهوم الإمام، واستمر في طريقه قدماً».
وبناءً على هذه العبارة يرى الدكتور كديور أن هناك نوعان من التصوّف والعرفان: الأول: هو نوع من التصوّف يعدّ آفة المذهب؛ والثاني: هو العرفان الأصيل الذي هو عماد المذهب. ولابد من التذكير بأن الدكتور كديور، وفي محاضرة ألقاها عام 1380هـ ش، تحت عنوان: (من الإسلام التاريخي إلى الإسلام الروحي)، لخَّص الإسلام الروحي الهادف في أربع نقاط، وكان رابعها: «في هذا الاتجاه تتقلص حوزة الفقه والشريعة بالتدريج»([11]).
وكذلك أشار، في محاضرة له تحت عنوان: (لماذا نحن شيعة؟)، إلى ثلاثة محاور للتشيع، وهي: العقلانية، والعدل، والعرفان. والعرفان يعني ـ باعتقاده ـ (بطن الدين) المخالف للسطحية والسلفية والتزهد([12]). ويمكن تلخيص عرفان الدكتور كديور الأصيل على النحو التالي:
1ـ العرفان المجرّد عن الشريعة، أو مع الحد الأدنى من الشريعة.
2ـ المنسجم مع العقلانية الحديثة، ولا يخالفها.
3ـ لا وجود فيه لمبحث القطب والإنسان الكامل.
4ـ لا وجود فيه لصفات الأئمة الميتافيزيقية.
في حين أن العرفان الإسلامي، كما هو عند العرفاء المسلمين الكبار، يقوم على عدّة أصول مهمة، ومن أهمها:
1ـ وحدة الوجود، التي لها تأصل منقطع النظير في العرفان الإسلامي، خلافاً للتصوّف المسيحي واليهودي، الذي يغلب عليه طابع التفكير الثنوي.
2ـ أنوار تجلي ذات الخلق تعالى التي تجذب السالك ـ بشرط فقره ومحو أنانيته ـ نحو الكمال بشكل تدريجي.
3ـ الكمال الإنساني، الذي هو رهن بالفناء في الله، والبقاء بالله، والوصول إلى مقام الخلافة الإلهية والولاية.
4ـ نفي الاعتماد على العقل المادي؛ لكونه عرضة للوهم والخيال.
العرفان عند كديور ــــــ
نلاحظ أن عرفان الدكتور كديور لا يؤدي إلى محو الأنانية وإظهار الفقر في السالك، من خلال النفي التدريجي لأحكام الشريعة وعدم التعبد الكامل لله تعالى. يضاف إلى ذلك أن الاعتقاد الكامل أو النسبي بالعقلانية الحديثة، التي ترفض الصفات الميتافيزيقية في الأئمة؛ لمجرد مخالفة العقل المادي، لا يمنح قيمة للعقل المجرد. كما يرفض الفناء والبقاء ومقام الخلافة الإلهية من خلال نفي الإنسان الكامل. ونستبعد أن يكون هناك موضع لوحدة الوجود في منظومة العرفان عند كديور؛ لعدم إمكان إدراكها بالعقل الحديث.
وهنا نتساءل: في أي مقطع تاريخي، وعند أي عارف مسلم، وفي أي مؤلَّف عرفاني، يمكن العثور على مثل هذا العرفان الذي يصفه بكونه عماد المذهب؟! وعن أي باطن للشريعة يتحدث عرفان كديور؟! وأساساً بعد غياب المباحث العرفانية الأساسية المتقدمة فأية مباحث يمكن لعرفان الدكتور كديور أن يتحدث عنها؟
وكذلك فإن حديث الدكتور كديور عن عقائد التصوّف، كحديثه عن عقائد التشيع، يحتوي على سوءٍ للفهم. إن عليه أن يستشهد بمؤلَّفات المتصوِّفة، ويثبت أنهم يذهبون إلى حجة الله الذي يتمتع باختيارات مساوية لاختيارات الله، وإن كان الله لا يعرفه.
إن النبي والولي في عرف العرفان الإسلامي هو التجلي التام لذات الله تعالى، ويتمتع بجميع الاختيارات الولائية، ولكن ليس بالاستقلال، بل بإذن الله، وفي طول قدرته تعالى. وعليه لا يمكن الحديث عن اختيارات مقابل الاختيارات الربوبية؛ إذ كيف يمكن المقارنة بين أفعال الفاعل بالقصد مع أفعال الفاعل بالتجلي؟! وأنّى لممكن الوجود أن يحاكي واجب الوجود تعالى، والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الفُقَرَاء إِلَى اللهِ}؟!
إن نفي الإنسان الكامل يستلزم نفي العصمة عن جميع أفراد الإنسانية. وهذا ما يظهر في الفلسفة الإنسانية على ما هو موجود في المؤلَّفات الفلسفية والعلمية لأشخاص مثل: فولتير، وروسو، ومونتسكيو، وديدرو، ودالامبر، ولوك، وهيوم، وكندورس، وكانت، حيث ترى هذه الفلسفة أن عظمة الإنسان ليست تابعاً لجذوره الإلهية، وإنما هي تابع لطاقاته العقلية ووجوده الأرضي. فإنما يمكن إدراك الإنسان بشكل صحيح إذا نظرنا إليه على أنه نسيج من العقل والحرية لتحقيق نفسه وشكوكه المتأصلة([13]). إن العقلية الكاشفة تستخرج من النقد والتشكيك، حيث يمكن تكذيب كل شيء، وليس هناك من يتمتع بمكانة خاصة، وليست هناك مرجعية لتعيين الحقيقة، وليس هناك أي شخص أو جهة في هذه الفلسفة يمكنها أن تدعي العصمة من الخطأ.
إن الفلسفة الإنسانية لا تقنع ممّن يؤمن بمبادئها أن يتركها في منتصف الطريق. فإذا أراد الدكتور كديور أن ينتمي إلى هذه المدرسة فهو مضطر إلى نفي وجود الإنسان الكامل بقول مطلق. وعليه أن ينفي حتى عصمة رسول الله. وعليه فإن نفي الدكتور كديور العصمة عن الإمام علي×، ونفي كماله وحجيته وولايته، هو مشروع غير مكتمل، وسيبقى ناقصاً نقصاناً غير مبرر ما دام هو لم يلتزم بتسريته إلى أنبياء الله. وبذلك يتضح أن الدكتور كديور عالقٌ في برزخ بين الحداثة والتقليد، وبين الفلسفة الإنسانية ونظرية الإنسان الكامل. وعلينا أن ننتظر خطوته القادمة.
الهوامش
_________________________________
(*) باحث في علم الكلام والدراسات الإسلامية.
([1]) صحيفة (شرق)، العددان 713 و714: 18. والعبارات المنقولة عن الدكتور كديور مأخوذة من هذا المصدر.
([2]) راجع مقال (الإمامة)، لأحمد فرامرزقراملكي، في مجلة (دانشگاه علوم إسلامي رضوي) التخصصية، العدد 3 (ربيع عام 1381): 135 فما بعد.
([3]) المفيد، أوائل المقالات في المذاهب والمختارات، انتشارات دانشگاه طهران، عام 1372هـ ش.
([4]) قد نقلت هذه العبارة، وغيرها من العبارات التي تفوّه بها الدكتور كديور، من صحيفة (شرق)، في العددين 713 و714: 18.
([6]) رجال النجاشي 1: 200، رقم 176 (نقلاً عن مقال: غلاة أز ديدگاه شيخ مفيد / www.seraj.ir).
([8]) تنقيح المقال 1: 334 (نقلاً عن مقال: غلاة أز ديدگاه شيخ مفيد).
([9]) قد نوّه بعض كبار المتكلمين الشيعة إلى ضرورة عدم عد الغلاة من فرق الشيعة. وقد ذكر الشيخ جعفر السبحاني هذه الحقيقة في الجزء السابع من (الملل والنحل)، وانتقد بعض المؤرخين، مثل: النوبختي؛ لعدّه إياهم ضمن الفرق الشيعيّة.
([10]) صحيفة (شرق)، العددان 713 و714: 18.
([11]) (سنت وسكولاريسم)، مقالات لعبد الكريم سروش ومحمد شبستري ومصطفى ملكيان ومحسن كديور: 430 ـ 431، طهران، مؤسسة فرهنگي صراط.
([12]) صحيفة (شرق)، العدد 632: 18.
(13)ENCYCLOPEDIA OF PHILOSOPHY” EDWARDCRAIG JOHN C. LUIK “ROUTLEDGE, HUMANISM, IN 532, NEW YOURK, ROUTLEDGE, 1998, 4. VOL, GENERAL ED (528 PP).