حيدر حبّ الله([1])
تمهيد
تبقى قضيّة حقوق المواطَنة من القضايا الأساسيّة التي يعتني بها الفقه الإسلامي، ورغم أنّه لا يوجد هذا العنوان بذاته في المصنّفات الفقهيّة الإسلاميّة، لكنّ بحوثه موجودة بالفعل في الكثير من الأبواب الفقهيّة، وقد لاحظ المهتمّون بالفقه الإسلامي خلال العقود الأخيرة أنّه صار لابد لهذا البحث من اشتغالٍ أزيد وأكثر تركيزاً، بسبب التحدّيات التي باتت تلاحق الفقه الإسلامي في نظريّاته المرتبطة بالمواطنة وحقوق المواطنين، ونحو ذلك من متفرّعات مبادئ العدالة والحرّية والإنصاف والمساواة.
وقد كان صدر لسماحة المرجع الديني الراحل الأستاذ السيّد محمود الهاشمي الشاهرودي (2018م) رضوان الله تعالى عليه، كتابٌ باللغة الفارسيّة، لا يتجاوز مع ملحقاته وفهارسه 117 صفحة، تحت عنوان «حقوق شهروندى/حقوق المواطنة»، وذلك عام 2015م، ورغم أنّ الكتاب لا يتضمّن بحوثاً فقهيّة بالمعنى المدرسي للكلمة، لكنّه احتوى إشارات لطيفة ومثيرة ومهمّة، تستحقّ أن نتوقّف عند أبرزها في هذه العجالة.
ولستُ أريد هنا التوسّع أو التفصيل في مباني سماحته في هذه القضيّة الشائكة الكثيرة التفرّعات، بقدر ما اُريد باختصار شديد أن أسلّط الضوء على بعض الأفكار التي تضمّنها هذا الكتاب بالخصوص، وأكثّف المضمون كي أوصله للقارئ العزيز، علّ ذلك يفتح أمامه باباً للتأمّل والمراجعة، خاصّة وأنّ هذه الأفكار تصدر من شخصيّة علميّة مرموقة لها سمعتها ومكانتها في الحوزات العلميّة والمؤسّسات الدينيّة وفي التجربة الإدارية القانونيّة كذلك.
المواطنة ومبدأ الكرامة الإنسانيّة وحفظ العدالة
يرى السيّد الهاشمي أنّ مبدأ الكرامة الإنسانيّة من المبادئ الأساسيّة في الشريعة الإسلاميّة، وأنّ النظام الإسلامي مبنيٌّ في الأصل على مراعاة العدالة والكرامة الإنسانيّة وحفظ حقوق البشر والمواطنين، بل هذه هي هويّته وحقيقته وماهيته، بل هي في أولويّات مقاصده وأهدافه، لكننّا مع الأسف لم نصل إلى مرحلة التطبيق العملي الكافي لهذه الأصول، ونحن بحاجة لتعاون جميع الجهات والقوى لتحقيق ذلك([2])، خاصّة وأنّ مفهوم حقوق المواطنة يتسع ويتطوّر ويتعقّد شيئاً فشيئاً بتطوّر نمط الحياة وبمرور الزمن([3]).
من هنا، يلزم أن تكون القوانين في الدولة الإسلاميّة، وكذلك بِنية المؤسّسات والتنظيمات الإداريّة منسجمة مع تحقيق هذا الهدف، وأكبر خطر يتهدّد النظام الإسلامي عند السيد الهاشمي هو أن يشتغل هذا النظام بحفظ سلطة نفسه بدلاً من الاهتمام بمصالح الناس([4]).
ويرى السيد الشاهرودي أنّه يجب أن تكون مفاهيم الكرامة والعدالة وحفظ الحقوق ثقافة عامّة مهيمنة، وإلا فلن نجرّ سوى فشل التجربة. إنّ القاضي عندما يكون في منصبه فلا معنى لمنصبه هذا إلا في كونه خادماً للناس، فهذا من أصول الفقه السياسي الإسلامي، وليست القضية بالعكس، حتى لا نقع في خطأ والتباس هنا، فهيبة القضاء والسلطة عموماً بمراعاة الحقوق لا بعكس ذلك، إنّ هذه هي الرؤية العلويّة للقضيّة، تلك الرؤية التي أطاحت بالولاة والقضاة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم يحملون خاصية تشريفيّة تفوق مصالح عموم الناس، ولهذا فكلّ تصرّف من القضاة يقوم على التعامل الفوقي مع الناس ولا يراعي لهم حرمةً، فهو تصرّفٌ معارض للدين تماماً([5]).
بل قد ذُكر أنّ أحد المشايخ القضاة ـ كما يقول السيّد الهاشمي نفسه أيضاً ـ أصدر قراراً باعتقال اُستاذٍ جامعيّ بطريقةٍ مُذلّة، إنّ السيد الهاشمي هنا يرفض ذلك بشدّة، ويعتبره خرقاً لحقوق المواطنين وقلّة مراعاة لمكانة الناس، فهل لأجل خلافٍ مالي بين هذا الأستاذ الجامعي وأخيه يُجرّ إلى السجن بهذه الطريقة المهينة؟! هل هذا هو القضاء الإسلامي؟!([6]).
إنّ من يُجرّ إلى الإعدام لا يجوز حال جَرّه إلى المقصلة توجيه أيّ أذية له ولا صفعة أو إهانة، فهذا حرامٌ وموجبٌ للقصاص على من يفعل ذلك. بل أكثر من ذلك، يرفض السيد الهاشمي أيضاً وجود فكرة التشهير عندنا، ويرى أنّ المجرم أو المتهم لا ينبغي التشهير به، بل المطلوب في الشريعة هو الكتمان والتستّر وإجراء العقوبات، لا اللعب بحيثيّات الناس ومكانتهم الاجتماعيّة والعرفيّة([7]).
ضرورة وضع حدّ للتمييز بين العدالة والأمن (بين مصالح الدولة ومصالح الناس)
إنّ السيد الهاشمي يعتقد بأنّه من الضروري أن نميّز في النظام الإسلامي بين مفهومَي: العدالة وحفظ الأمن، فبحجّة حفظ الأمن لا يجوز التضحية بالعدالة وحماية حقوق الأفراد، وإذا وصلنا إلى هذه المرحلة فنحن أمام مشكلة حقيقيّة، فالمشكلة الحقيقية اليوم في العالم ليست في مبدأ العدالة، بل في كيفيّة إجرائها، والكارثة أنّ الميدان العملي يتصادم مع قيمة العدالة في كثير من الأحيان بحجّة حفظ مكانة مؤسّسات الدولة أو حفظ الأمن.
من هنا يصرّ سماحته ـ رحمه الله ـ بأنّه إذا تعارضت مصالح الدولة مع مصالح الأفراد، فهذا لا يبرّر دوماً الوقوف في صفّ الدولة، بل في كثير من الأحيان يجب علينا مراعاة مصالح الأفراد وعدم هدرها، فلا يجوز أن نقول إذا كان للدولة مالٌ على الفرد فإنّنا نأخذه بالقوّة، بينما إذا كان للفرد مالٌ على الدولة، فإنّ تحصيله لهذا المال دونه خرط القتاد! هذا أمرٌ غير عادل([8]).
إنّ السيد الهاشمي الشاهرودي يتوقّف هنا أيضاً عند التضحية بحقوق المواطنين والأفراد في النقد وإبداء الرأي، بحجّة صيانة وحفظ مكانة المسؤولين والكبار، إنّ هذا المنطق مرفوض وهو سلبٌ لحقوق المواطنين، إنّه يعتقد بأنّ حقّ الأفراد في النقد محفوظ، ولا يحقّ لنا مصادرة هذا الحقّ بحجّة حفظ هيبة الكبار والمسؤولين، فهذا أمرٌ غير مقبول إسلاميّاً([9]).
حقوق المواطنة وأشكال التعامل مع المتهمين، ورفض مبدأ تفتيش العقائد
يرفض السيد الهاشمي الشاهرودي بقاطعيّة عالية ممارسة أشكال التعذيب ضدّ المتهمين أو المسجونين، ففي الوقت الذي يعتبر أنّ أصل فكرة السجن محدودة جداً في الإسلام، وأنّه لا داعي لتكثير عدد المساجين بهذا الحجم الذي بتنا نشهده اليوم، يرى أنّ القوى الأمنيّة والعسكرية وغيرها لا يحقّ لها ممارسة التعذيب ضدّ المعتقلين أو المساجين، وأنّ هذا السلوك نقضٌ صارخ لحقوق المواطنين المثبَت في الشريعة والقانون، بل يعارض السيّد الهاشمي بقوّة فكرة السجون الانفراديّة ويعتبرها غير مبرّرة، وتخرق حقوق المواطنين، ويعلن ذلك بصراحة عالية مبدياً قلقَه من أسلوب تعامل القوى الأمنيّة والشرطة وبعض الأجهزة القضائيّة علىى هذا الصعيد. أنّه يعتبر أنّ القوى الأمنيّة اعتادت على سجن الناس بسرعة، والتعامل بهذه الطريقة، وهذا خطأ كبير جداً، حتى أنّه ـ رحمه الله ـ يدخل في تفاصيل التعامل مع المتهمين فيرفض وضع عصابة على أعينهم، ويعتبر ذلك غير مبرّر، وواهمٌ من يظنّ ذلك موجباً لهيبة السلطة القضائيّة أو الأمنيّة. إنّه يعتقد بأنّ التعذيب وأخذ الإقرارات بهذه الوسيلة ليس حجّة شرعاً، مستنِداً في ذلك لمجموعة من النصوص الدينيّة المنقولة عن النبيّ وأهل بيته([10]).
كما يؤكّد السيّد الهاشمي على مبدأ المنع عن سياسة تفتيش العقائد، ويرى أنّ الناس في حياتها الخاصّة حرّةٌ لا يحقّ لنا اختراق هذا الحريم الخاصّ بهم([11])، كما يدافع بقوّة عن حق المواطن في المحاكمات العلنيّة ما لم يكن هناك استثناء معقول([12]).
القاضي وعلاقته بالتقارير الأمنيّة والحكوميّة
يرفض السيّد الهاشمي أن يخضع القاضي للتقارير التي تأتيه من قبل الأجهزة الحكوميّة، ويرى ضرورة حفظ حقوق المواطنين عبر اعتبار هذه التقارير مجرّد معطيات لا تمنع أبداً من الاستماع للمتّهمين والمحامين عنهم وفتح المجال لتبرأتهم مهما أمكن، فعلى القاضي أن يُبدي للمتّهمين أنّه حريص عليهم، وليس ساعياً بحماسة للحكم ضدّهم. ويشنّ سماحته ـ رحمه الله ـ انتقاداً قويّاً على الأعمال التي تنتهك خصوصيّة المواطنين بملاحقتهم في حياتهم الشخصيّة وغرف نومهم حسب تعبيره، فيرى أنّ خلط الأوراق ببعضها غير مبرّر، وبحجّة ملاحقة متهم لا يجوز فتح جميع خصوصيّاته وهتك جميع حرماته وكأنّه لا حرمة له! فما علاقة غرفة نومه بالقضيّة التي نبحثها حوله؟! يجب الفصل بين الأمور لحفظ حقوق المواطنين([13]).
نعم من الممكن أنّنا ما نزال نقع في أخطاء ميدانيّة وتنفيذيّة من هذا النوع، ولكنّ نظامنا الإسلامي ليس بالشكل الذي يصوّره الأعداء أبداً([14]).
الدولة بين ممارسة العقاب ووظيفة محو مبرّرات الجريمة
يطلّ السيّد الهاشمي الشاهرودي على هذه القضيّة من خلال مقاربته موضوع ارتفاع معدّلات الجرائم في ضواحي المدن الكبرى وما يعرف بأحزمة البؤس، فيرى أنّه ليس المطلوب منّا ملاحقة الجريمة في هذه الأماكن، بل تفكيك هذه البيئة ووضع ميزانيّات ضخمة لرفع مستوى العيش ونمطه في هذه البيئة الحاضنة للجريمة، وبهذا يُفترض بالدولة الإسلاميّة لا أن تعاقب على الجريمة بعد وقوعها فحسب، بل أن تقوم قبل ذلك بمحو جميع المبرّرات الموضوعيّة التي تنتج الجرائم في المجتمع([15]).
إنّ كلّ المشاكل التي يعاني منها الأفراد ينبغي التفكير فيها، من وجهة نظر السيد الهاشمي، من زاوية الوقاية أكثر من زاوية العلاج أو منطق العقوبات([16]).
فتح باب الاجتهاد وضرورة التعاون بين الفقهاء والتنفيذيّين والعلوم المختصّة
إنّ فيتح باب الاجتهاد من الأمور التي يركّز عليها السيّد الهاشمي، وهو يرى أنّنا لكي نخرج من المشكلات التي نواجهها علينا الإمساك بقوّة بفتح باب الاجتهاد، وهو ما لم يتمّ بالشكل الكافي حتى الآن، ولا يكون ذلك على أكمله ـ من وجهة نظره رحمه الله ـ إلا عبر التعاون أيضاً بين الفقهاء وأهل الاختصاص في العلوم المختلفة، إلى جانب العاملين في ميدان الإجراء والتنفيذ والتطبيق والعمل. ويؤكّد ـ رضوان الله تعالى عليه ـ أنّه بعد عشر سنوات من تسلّمه السلطة القضائيّة اكتشف أكثر فأكثر أنّنا ما نزال بحاجة ماسّة إلى اجتهاد حركي متفاعل ومتطوّر، وأنّه لا يصحّ حلّ المشاكل وفقاً لذهنيّة المصلحة فقط، وعلينا أن نستفيد ـ كما يرى رحمه الله ـ من تجارب الأمم والشعوب وخبراتها القانونيّة؛ لكي نطوّر رؤيتنا الاجتهاديّة([17]).
من هنا يؤكّد في مناسبة أخرى أنّ إصلاح القوانين أمرٌ ضروري، وعلينا التفكير فيه باستمرار([18]).
كلمة أخيرة
كانت هذه إشارات مكثفة أردتُ إعادة ترتيبها من خلال ما طرحه السيّد الشاهرودي في هذا الكتاب، بما يؤكّد حمله لهمّ الحقوق والناس وحرّيات الأفراد والمصالح العامّة. إنّ هذه الإشارات ـ على اختصارها ـ تفتح أمامنا اُفقاً للتفكير في تطوير المعالجات الفقهيّة والقانونيّة، والاستنارة بهديها في التأمّل أكثر فأكثر في القيمة المضافة لمفهوم الحقوق من جهة، ومبادئ العدالة والكرامة والإنسانيّة من جهة ثانية.
___________________________
([1]) نشر هذا المقال في العدد الثالث من مجلة الاستنباط، وهي مجلّة متخصّصة نصف سنويّة، تعنى بالدراسات الشرعيّة، تصدر عن مؤسّسة الحكمة والعلم التابعة للحوزة العلميّة في مدينة النجف، في العراق، وذلك خريف وشتاء عام 2019م.
([2]) انظر: محمود الهاشمي الشاهرودي، حقوق شهروندى: 7، 26 ـ 27، 41، 45 ـ 46، 48 ـ 49، 55، 63.
([5]) المصدر نفسه: 9 ـ 10، 29 ـ 32، 35، 61، 70 ـ 71، 78.
([8]) المصدر نفسه: 11 ـ 13، 27 ـ 28، 73، 85 ـ 87.