أحدث المقالات

حيدر حب الله([1])

تدوين وتحرير: الشيخ سعيد نورا

تمهيد

المغالطاتُ في العادة أخطاء غير متعمّدة في التفكير، لكنّها قد تغدو متعمدة بل مشروعة، عندما ينتهجها الإنسان في حياته لغرض من الأغراض. وبعبارة أخرى: إنَّ المغالطة استنتاج فكرةٍ من أخرى بطريقة غير منطقيّة أو إيجاد ترابط غير منطقي بين شيئين.

لا اُريد هنا أن أتحدّث عن بحث «المغالطات» المعروف في المنطق الأرسطي الذي يُتداول تدريسه في الحوزات العلميّة، فبحث المغالطات في المنطق الصوري جديرٌ في نفسه بالاهتمام، لكن مع الأسف الشديد فقد تمّ التغافل عنه أو الاستخفاف به مؤخّراً في الكثير من المعاهد الدينيّة.

لست اُريد هنا الحديث عن باب المغالطات في المنطق الصوري بالطريقة التي ورثناها في الكتب المنطقيّة المتعارفة، بل أستهدف الكلامَ عن مشكلة نعاني منها جميعاً وتعاني منها الفئات والتيارات المختلفة، ألا وهي مشكلة الإدمان على التفكير الخاطئ، أي التفكير غير المنطقي؛ لأنَّ المنطق هو المعيار والميزان لتمييز التفكير الصحيح عن غيره.

لقد جاء نشوء علم المنطق في العصر اليوناني من رحم شيوع المغالطة آنذاك، حيث تحوّلت المغالطة إلى ثقافةٍ ونمطٍ من التفكير والعيش، الأمر الذي دفع أرسطو وأمثاله إلى البحث في وضع معاييرَ لمعرفة الأفكار الصحيحة عن الخاطئة، وهي ما بات يعرف اليوم بالمنطق الصوري.

عندما تعمّ هذه العدوى المجتمعَ بأكمله ويصبح تفكير المجتمع مدمناً على تركيب البراهين والأدلّة بطريقة خاطئة، فنحن بحاجة إلى دراسة علم المنطق، لكن ليس علم المنطق النظري الذي نجده في الكتب المتداولة فحسب، بل نحتاج هذه المرّة إلى علم المنطق التطبيقي والعملي كذلك.

يتحدّث ابن رشد (595هـ)في مقدّمة كتابه «تلخيص السفسطة» عن التمييز بين التفكير المغشوش والتفكير الحقيقي، فيمثل لذلك بالفرق بين الذهب الصافي والمغشوش، وبين الجمال الحقيقي والجمال المزيّف، من هنا ينشأ البحث عن المغالطة، أي البحث عن ضرورة التفكير في مواجهة السفسطة([2]).

لست اُريد أن أتحدّث أيضاً عن مجرّد مصاديق المغالطة هنا أو هناك، بل أبتغي الحديثَ عن ثقافةٍ بدأت تهيمن على مجتمعاتنا، وتتحوّل إلى أنماط من التفكير الخاطئ، الذي بدأنا نألفه من حيث لا نشعر، إذاً نحن بحاجة إلى نهضة حقيقيّة للتخلّص من ذلك.

لماذا تروج المغالطة وأنماط التفكير الخاطئة في المجتمع؟

إنَّ السبب الرئيس لها هو شيوعُ ظاهرة الجدل، عندما تسيطر على المجتمع حالة من الجدل، فإنّ كلّ طرف إنّما يريد أن يحقّق غرضه في مواجهة خصمه، ولهذا فهو يتوسّل الطرق الملتوية إذا اضطرّ الأمر، وهو ما يؤدّي إلى شيوع المغالطة في حياتنا؛ لأنّنا نركز على التأثير الإقناعي أكثر من تركيزنا على معرفة الحقائق.

عندما يصبح الهدف إقناع الآخر فحسب، فسوف يحاول كلّ شخص أن يستخدم أيّ وسيلة ممكنة للوصول إلى هدفه، ومن ثمّ فهو يتمسّك بالصحيح والسقيم، بل تصبح كل وسيلة لديه مباحة! وهو أمر قد نقع نحن أيضاً فيه من حيث لا نشعر.

يُعتبر التفكير الإعلامي من المظاهر الأصليّة لظاهرة المغالطة الحديثة؛ حيث يركّز على إقناع الآخرين عبر طرق مختلفة، الأمر الذي شاع اليوم استخدامه في أوساطنا عن طريق وسائل التواصل الاجتماعيّ وغيرها. إنَّ الوسائل الإعلامية تجعل الإنسان مدمناً على التفكير المغالطي؛ لأنَّ الإعلام بطبيعته يعتمد على الخيال والتأثير النفسي، حيث إنَّه يهدف إلى جذب الآخرين أو دفعهم بأيّ وسيلة ممكنة، وهذه العناصر تكوّن أرضيّةً مناسبة لنموِّ التفكير المغالطي في المجتمع.

لا يعني ذلك أنَّ الإعلام والفنّ بأقسامهما المتنوعة والخطابة والجدل شرورٌ مطلقة، بل يعني أنّ علينا، ونحن نخوض في هذه المجالات، أن لا نتورَّط في إدمان الخطأ في التفكير، ونصبح ـ من حيث لا نشعر ـ معتادين على نمط من التفكير الخاطئ.

اقتراح لتطوير الدرس المنطقي في المعاهد الدينيّة والعلميّة

من هنا، نحن بحاجة إلى نهضة جادّة لتخليص تفكيرنا من ورطة المغالطات، ولكنّ هذه النهضة ليست نظريّةً عبر مجرّد دراسة كتب المنطق، بل إنّها نهضة عمليّة تطبيقيّة؛ بأن نحوِّل البوصلة في هذا المجال من المباحث النظريّة إلى التطبيقات العمليّة في مختلف الشؤون البحثيّة والعلميّة والتعليمية، بأن ندرِّب الطالب على اكتشاف المغالطات الرائجة في أوساطنا العلميّة والثقافية وأن نبحث بحثاً ميدانياً عن المغالطات السائدة في أوساطنا لا أن نقف عند بعض المغالطات الافتراضية المتداولة منذ قديم الأيام في الكتب المنطقية، أمثلة لا يستخدمها أحدٌ اليوم بل أكل الدهر عليها وشرب.

نحن اليوم بحاجة إلى مرحلة متقدّمة، بأن نأتي بأمثلة واقعيّة، ونضع بين يدي الطالب نماذج واقعيّة من المغالطات السائدة في أوساطنا؛ لكي يتمكَّن بنفسه عملياً من التمييز بين طرائق التفكير الخاطئة والصحيحة.

إنَّ فنّ اكتشاف المغالطات ليس أمراً سهلاً، فهو مهارة عمليّة تحتاج إلى ممارسة تطبيقيّة جادَّة، إلى جانب الدراسات النظريّة، وهذا أمرٌ يصعُب على كثيرٍ من الذين درسوا علم المنطق ولو لسنواتٍ عديدة؛ لأنّهم إنَّما اعتادوا على الدراسات النظريّة ولم ينزلوا إلى مرحلة الممارسات العمليّة والتطبيقيّة.

لذلك أقترح أن ننتقل من دراسة المنطق النظري الذي ندرسه اليوم ـ وهو أمرٌ مطلوب ـ إلى منطق يعرف اليوم بإسم المنطق التطبيقي العملي، أي المنطق الذي يعلِّمنا كيفيّة اكتشاف المغالطات في واقع الحياة الثقافيّة والفكرية، بل يدخل إلى أقوال الإنسان نفسه ليضيء على المغالطات التي قد يقع فيها من حيث لا يشعر، والتي تتوالد باستمرار في حياة البشر تبعاً لتحوّلات المعرفة وألوانها.

إنَّ تطوّر علم المغالطات اليوم يكمُن في هذه النقطة، أي تطوير الدراسات التطبيقيّة، وليس في المباحث النظريّة أو تكثير الأمثلة الافتراضيّة، والوظيفة الحقيقية لهذا العلم أن ينقلنا إلى الحياة الواقعيّة ويساعد في رفع الأخطاء التي قد نقع فيها من حيث نشعر أو لا نشعر.

إنّ هناك الكثير من الأمثلة الواقعيّة من المغالطات في حياتنا العلميّة والثقافيّة، فضلاً عن الحياة الشعبيّة، التي لا نلتفت إليها؛ لأننا اعتدنا عليها منذ نعومة أظفارنا، واعتبرناها براهينَ صحيحةً لا يمكن النقاش فيها، بل لم نَرْتَب يوماً في شأنها، مع أنّنا ندرس علم المنطق والمغالطات؛ وما ذلك إلا لأنّ علم المنطق النظري كثيراً ما يعتمد الأمثلة الافتراضيّة.

وبهذا أتمكّن من تأكيد فكرتي وهي: إنّ علينا أن نفتح هذه الاحتماليّة في أذهاننا، أنَّه من الممكن أنَّ مغالطةً ما قد شاعت في أوساطنا الثقافيّة والدينيّة والعلميّة، سواء في المجتمعات الإسلاميّة أم غيرها، إلى حدّ تحوّلت إلى جزء أساس من نمط تفكيرنا ونحن لا نشعر، ومن ثمّ فعلينا أن ننتقل إلى المنطق التطبيقي والعملاني لاكتشاف هذه المغالطات وتجلّياتها، والإضاءة عليها أكثر.

نحن نعيش اليوم صراعاً كبيراً بين المدارس الفكريّة، وأهمُّ هذه الصراعات تقع بين التيارات الدينيّة واللادينيّة([3])، وإذا رصدنا هذه الصراعات فسوف نجد سلسلة طويلة من المغالطات الشائعة، إلى حدّ يمكننا الزعم بأنّ الكثير من هذه الصراعات ترجع في جذورها إلى هذه المغالطات والإشكاليّات.

والجدير بالذكر أن المغالطات لا ينحصر تأثيرها في الأفكار، بل في كثير من الموارد تؤثِّر على المشاعر والحالات النفسيّة للإنسان، الأمر الذي بدوره يؤثر على قبول فكرةٍ ما أو رفضها، وهناك من يلاحظ على المنطق الأرسطي أنّه غرق كثيراً في تحليل بِنية العقل الإنساني المجرّد المنفصل، ونسي أن يدرس علاقة هذا العقل بالنفس وميولها ومشاعرها وانفعالاتها، بوصفها العلاقة الأكثر تسبيباً للخطأ الذهني.

إنَّ التحرّر من المغالطات يساعدنا على بناء حوارٍ أفضل في عالمنا الإسلاميّ بل والعالم كلّه، فهذا العالم المليء بالصراعات والخصومات يحتاج للتحرّر من المغالطات، الأمر الذي يؤدّي إلى ازدياد قدرة الأفراد على التواصل الإيجابي، ويُبعد عنّا تلك الصورة الخياليّة الناجمة عن بُعد المسافة بيننا والآخرين، فيرينا المسافة الحقيقيّة، ومن ثمّ يُصبح مجال الاتصال أكبر.

نماذج من المغالطات الميدانيّة الشائعة

بعد أن تعرَّفنا على أهميّة هذا الموضوع، ننتقل إلى بعض العيِّنات الميدانية التي اهتمّ بها المنطق التطبيقيّ، وكشف عنها من واقع الممارسة الفكريّة والثقافيّة المعاصرة.

إنَّ هذه المغالطات التي سوف أذكرها ليست على نحو الموجبة الكليّة، لكنّها تأخذ شكل المغالطة غالباً، ومن ثمّ فطريقة استخدامها قد تكون حقّة وقد تكون باطلة، وليتضح الأمر أشير لبعض النماذج منها:

أ ـ المغالطة الوراثيّة (مغالطة المنشأ أو المصدر)

من المغالطات التي قد نقع فيها من حيث لا نشعر، ويستخدمها الناقدون للدّين كثيراً، هي المغالطة الوراثية التي قد تُسمّى بمغالطة المنشأ أو مغالطة المصدر.

هذه المغالطة تبتني على نقل الصورة المشوّهة أو الطيِّبة عن مصدر الأفكار إلى الأفكار نفسها، وعلى سبيل المثال: إذا قلنا: إنّ علينا أن ننضبط للوقت، وعلى القطارات أن تنطلق في وقتها المحدّد، ثم يأتي شخص ينتقد كلامَنا هذا فيقول: هل تعلم أنّ أوّل من فرض حركة القطارات في وقت محدّد هو موسوليني؟! فهو يقصد بذلك أن يربط بين هذه الفكرة وشخصيّة موسوليني بوصفه مصدراً لها، وبما أنّ موسليني/المصدر شخصيّةٌ سلبية في الأذهان، فسوف تتأثر الفكرة هذه بتلك الصورة المشوّهة له.

إذا رصدنا مصاديق هذه المغالطة في حياتنا الثقافيّة والعلميّة والدينيّة، فسوف نجد لها تجلّياتٍ مختلفة، كمن يطرح بحثاً علميّاً في فضاء سُنّي ثم يواجَه بانتقادات الآخرين في محيطه بأنّ هذه الفكرة يقول بها الشيعة، فيُصاب صاحب الفكرة بالإحراج إلى درجةٍ يحاول أن يبرّر فكرتَه تلك، بحيث ينفي هذا التشابه بينها وبين ما يقوله الشيعة، وكذلك العكس، عندما يطرح شخص بحثاً علمياً في فضاء شيعيّ، ولكنه يتلاقى في النتائج مع أهل السنّة، فسوف يواجَهُ بمثل هذه الانتقادات، عبر القول: إنّك فكرتك هذه يقول بها السلفيّة أو أهل السنّة، الأمر الذي يوجب انخفاض الدرجة الاحتماليّة لها في الأذهان، بواسطة خلق جدار عازل.

إنّ هذه المغالطة تُربك جدّاً، وتصوِّر للإنسان أنّ الفكرة قد ضعُفت بذلك، عبر نقل الصورة القبيحة عن الآخر الشيعي أو السنّي إلى الفكرة نفسها بسبب اعتبار الآخر مصدراً لها، مع أنّ الفكرة في الحقيقة لم ولن تضعف بذلك؛ إذ بكل بساطة، لا علاقة تلازمية دائمة بين حقّانية الشيء أو بطلانه، وبين مصدره أو من يتبنّاه.

وكذلك عندما يطرح شخصٌ في فضاءٍ إسلامي نظريةً تُشبه النظريّات العلمانيّة في بعض الجوانب، فسرعان ما يواجِه هذه المغالطة، وبمجرّد أن يقال: إنَّ هذه النظريّة تقول بها التيارات العلمانيّة، فسوف تنخفض هذه النظريّة كثيراً ويتراجع الاقتناع بها؛ لأنّنا تربّينا على هذا النمط من المغالطات، وكذلك إذا انتقدنا في فضاءٍ علمانيّ فكرةً معيّنة، ونسبناها إلى كلام رجال الدين، فسوف تنزل الفكرة إلى الحضيض هناك، مع أنّ العبرة في تقويم الأفكار والنظريّات، بالأدلّة العلميّة التي تدعمها لا الأشخاص الذين يتّبعونها أو كانوا قد طرحوها من قبل، لكن حيث إنّ الفضاء الثقافي قد تربَّى على التأثر والتأثير بهذه الأفكار، فسوف تخضع في قوّتها وضعفها تلقائيّاً لمثل هذه العناصر المغالطيّة، بدلاً من إخضاعها للأدلّة فقط.

إذا تأمّلنا في أنفسنا، سنجد نماذج من هذه المغالطة التي قد نتورّط فيها نتيجةَ عدم التفاتنا لها، ومن ثمّ ربما نخسر من أجل ذلك الكثير من الحقائق.

ب ـ مغالطة الثنائيّات

من المغالطات التي نعيشها في حياتنا يوميّاً مغالطةُ الثنائيّات، والمقصود منها حصر أنفسنا أو الطرف الآخر في خيارين فقط، مع أنّه في الحقيقة يمكن افتراض خيار ثالث، كمن يعتبر الطرف الآخر إمّا علمانياً أو إسلاميّاً أو يعتبر فكرةً معيّنة إما حداثيّة أو إسلاميّة، بل في كثير من الأحيان سنجد أنفسنا مضطرّين لخيارين إما (أ) أو (ب)، وهما الخياران الموجودان في الساحة، الأمر الذي يؤدّي بنا إلى أن لا نفكّر أبداً في خيارٍ ثالث ربما يكون هو الصواب؛ والسبب هو أنّنا نفكّر دوماً في إطار من الثنائيّات، بل حتى تصنيفنا للآخرين يظلّ ضمن هذا الإطار، مع أنّ الحقيقة ربما تكون في خيار ثالث ليس مطروحاً في الساحة، فما هو الموجب المنطقيّ لحصر الأفكار بهذه الخيارات المحدّدة أو القوالب الناجزة؟!

إنّ هذا هو ما يسمّى في كتابات بعض الفقهاء والباحثين المعاصرين بالاجتهاد الترجيحي، حيث يجد الفقيه نفسَه حين يجتهد أمام خيارين محدّدين، إما المشهور أو الرأي المخالف للمشهور المطروح في الساحة، ولا يخطر بباله عادةً أن يفكّر في خيارٍ ثالث لم يطرحه أحد، وربما يكون هو الأقرب إلى الصواب، فتجدنا محاصرين بالثنائيّات أو الثلاثيّات المطروحة بحيث يُضعف ذلك فينا قدرةَ التحرّر منها، ويجعلنا نفكّر داخلها وضمن قوالبها فقط، بما يُفقدنا الاجتهاد الإبداعي.

وعليه، فالمطلوب هو أن لا نقع ضحيّة الثنائيات الموجودة، ولا نقرأ العالم من خلالها، بل نفكّر بحريّة تامّة في الحلول الممكنة للمسائل؛ لنصل إلى أقرب جواب للحقيقة.

ج ـ مغالطة القديم والجديد

قد يميل بعضٌ إلى كلّ جديد بحيث عندما يواجه أيّ شخص أو فكرة تكون جديدةً، فهو يميل إليها ـ من حيث هي جديدة ـ ويتحمّس لها، إن لم يقبل تماماً بها. وفي المقابل قد يميل بعضٌ آخر إلى كلّ قديم من حيث هو قديم، بحيث عندما يواجه أيّ شخص أو فكرة قديمة يميل إليها..؛ والسبب هو أنّه في ذهنه قد ركّب قياساً خاطئاً بأنّ كلّ جديد أو كلّ قديم فهو أفضل، مع أنّه لا دليل على ذلك أبداً، فحداثة فكرة أو قدمها لا تعني صحّتها بالضرورة.

وربما يمكننا أن نعبِّر عن هذه المغالطة بأصالة الانكماشيّة، فكأنّ من يعاني منها ـ وقد يكون أيّ واحد منّا ـ لا يستطيع في بِنيته الفكريّة والنفسيّة أن يقبل بالأفكار الجديدة (في مغالطة القديم)، أو هو شخصٌ فَقَدَ هويته الأصيلة لينجذب نحو كلّ جديد (في مغالطة الجديد).

إذا راجعنا اليوم وسائل التواصل الاجتماعيّ، فسنجد الكثير من الأشخاص المسكونين بهذه المغالطة أو تلك، حيث نجد من يميل إلى فكرة معيّنة بمجرّد أنّه قد رآها جديدة، محاولاً تبريرها، كما نجد في المقابل من يتجه نحو أفكار ما بمجرّد أنّه يراها قديمة، حيث يجد الطمأنينة عندها، رغم أنّه لا علاقة واقعية تلازميّة بين حقّانية الشيء وكونه قديماً أو جديداً، فلماذا نربط أنفسنا بعناوين وهميّة لا قيمة لها في البحث العلمي عادة؟! وإذا استطعنا أن نتحرّر من هاتين المغالطتين، فسوف نتمكّن من التعامل مع الأفكار والأشخاص بطريقة أفضل.

د ـ مغالطة تسميم البئر

تُعتبر هذه المغالطة من أكثر المغالطات استخداماً في حياتنا، خاصّةً في سياق النقاش والحوار والجدل.

قد نقرأ أو نسمع جملاً مثل هذه في كثير من النقاشات والكتب:

لا يقول بذلك من له أدنى مسكة!

لا يقول بذلك متفقّه فضلاً عن فقيه!

لا يعقل أن يقول بذلك عاقل متعلّم!

لا يمكن أن يتفوّه بذلك إنسان يعيشُ عصرَه وزمانه!

هذه التعابير التي قد نستخدمها من حيث لا نشعر، ليست سوى تركيبة مغالطيّة قد تُبعدنا عن الحقيقة، وتمنع الطرف الآخر من الدخول في حوار منتج معنا؛ لأنّ الدخول في هذا الحوار سوف يمسُّ سمعته وحيثيّته.

إنَّ هذا النوع من الدخول في عمليّة تسميم البئر التي تؤدّي إلى تشويه الصورة مسبقاً، تُفسد كلّ عملية حوارٍ بنّاء، وتؤدّي إلى إرباك التفكير، وتفقدنا القدرة على التأمّل بشكلٍ علميّ منطقيّ.

ومن الأمثلة الافتراضيّة التي تُذكر لهذا النوع من المغالطة، قصّة مشهورة عن مَلِك أراد أن يحتفل بمناسبةٍ ما، فطلب من خيّاطٍ من أفضل خيّاطي مملكته لباساً فاخراً لم يلبسه أحدٌ من قبل، فما كان من الخيّاط إلا أن قال له: إنَّ أفخمَ وأفضل لباسٍ عندي هو اللباس الذي لا يراه إلا ابن الحلال! فابن الحلال يرى هذا اللباس، وأمّا ابن الحرام فهو لا يراه أبداً، بل سيرى ما تحته.

لقد تفاجأ الملك، لكنّه قبل، ولمّا حان موعد الحفل ـ وكان قد أشيع في المدينة أنّ الملك سوف يلبس لباساً لا يراه إلا كلّ من هو ابن حلال ـ ما كان من الخيّاط إلا أن قدّم للملك لباساً وهميّاً، ففي الحقيقة لم يقدّم له شيئاً، لكنّه قال له بأنّ اللباس صار عليك الآن، ولكنّ الملك لا يرى شيئاً، بيد أنّه لا يقدر على أن يقول بأنّني لا أرى شيئاً؛ لأنّه لو قال ذلك لصار معناه أنّه هو ـ أي الملك ـ ابن حرام! وبهذا خرج الملك من دون أن يكون عليه لباسٌ، دون أن يتجرأ أحد على قول: إنَّ الملك عريان؛ لأنّ ذلك القول سوف يمسّ بسمعة قائله، وهكذا أخذ الكلّ يمتدح لباس الملك الفاخر!

هذا مثالٌ بسيط عن نمط من المغالطات، يلقي فيه طرفٌ من أطراف الحوار صفةً معيّنة على من يختلف معه، فيسدّ الطريق أمام الدخول في العمليّة النقديّة لأفكاره، ومن ثمّ يُغلق الحوار، ويتورّط البحث العلمي بمغالطة من هذا النوع، تعيق إمكانية نموّ المعرفة وتبادل الأفكار.

هـ ـ مغالطة تحميل الآخرين مسؤوليّة الاستدلال

هذا النوع من المغالطة شائعٌ أيضاً، خاصةً في بعض القضايا المتصلة بالشؤون المعنويّة والغيبيّة، وذلك بأن نرفع مسؤوليّة الاستدلال عن كاهلنا ونجعلها على عاتق الطرف الآخر، ونعتبر احتمال الصدق انتصاراً لنا؛ لأنّ على الطرف الآخر أن يأتي بالدليل، مع أنّ احتمال الصدق بالنسبة إليه أيضاً موجود، وهذا خلافُ العدل في البحث العلمي.

مثال ذلك من يدّعي حقيقةً تاريخيّة معينة أو دعوى معجزة أو كرامة ما، من دون أن يأتي بشواهد علمية تُثبتها، وعندما يُطالَب بالدليل يقول: «هذه القضيّة لا يوجد دليل على بطلانها.. أبطلها إن استطعت.. لماذا تنكرها؟!». إنّه هنا يحمّل الآخر مسؤوليّة الإتيان بالدليل، وهي مسؤوليّة تقع على عاتقه هو في الحقيقة؛ لأنّه هو المدّعي لهذه القضيّة التاريخيّة أو الغيبية أو تلك، وبهذا تبدو هذه المغالطة نحواً من السلوك غير الأخلاقي.

و ـ مغالطة خلط الأسباب والأدلّة

المقصود من هذه المغالطة الخلط بين الدليل والسبب، فعلى سبيل المثال، في إطار المباحثات العلميّة بين المؤمنين بالدّين والمنكرين له، يأتي المنكر للدين ليقول: إنَّ الدين خرافة؛ لأنّه من صنع الإنسان. إنَّ الإنسان كان يخاف من الطبيعة والكوارث الطبيعيّة و.. فكان بحاجة إلى ملجأ نفسي يؤويه، فافترض قوّةً مطلقة يستطيع أن يلجأ إليها لكي يتحرّر من الخوف الذي كان يمتلكه.

لكنّ هذا الدليل لا علاقة له ببطلان وجود الله أو الدين؛ لأنَّه إذا كان سبب شيوع فكرة الله في الأذهان هو الخوف، فهذا لا يعني أنّ الله تعالى ليس بموجود، فربما يكون موجوداً وفي الوقت نفسه لجأ الإنسان لفكرة الله بسبب الخوف، بل إذا أردنا أن نثبت عدم وجود الله علينا أن نأتي بدليل منطقي على نفي وجوده سبحانه وتعالى.

المثال الآخر الذي اُريد ذكره هنا ساستحضره من المجال الشرعي الفقهي، فمن يُنكر وجوب الخمس، مستدلاً بأنّ المشايخ ورجال الدين دافعوا عن الخمس لأجل مصالحهم؛ فهو يرتكب مغالطة خلط السبب بالدليل؛ إذ لا علاقة لنزعات المشايخ المصلحيّة بإثبات أو نفي هذا الحكم الشرعي؛ لأنّ الأحكام الشرعيّة تثبت من خلال أدلّتها، وليس من أدلّتها سلوك رجال الدين! إنّ مثل هذه المغالطة تنفع فقط لو أثبتنا عدم وجوب الخمس وأردنا تفسير سبب ظهوره رغم أنّه ليس بواجب، لا أنّها تُثبت بنفسها عدم وجوب الخمس.

إنَّ هذه الطريقة من التعامل مع الموضوعات ليست إلا مغالطة نشأت نتيجة خلط الأوراق ببعضها، حيث نترك الأدلّة الحقيقيّة ونذهب إلى أمور أخَر لا علاقة لها بأصل الموضوع، وقد تكون اجتماعيّة أو نفسيّة أو غير ذلك.

مثال آخر في نقد الأشخاص، حيث يأتي أحدٌ ويريد أن يناقش شخصيّةً لها أفكار متجدّدة، لكنّه بدل أن يناقش أفكاره وأدلّتها يتحدّث عن تأثره بالكتابات العلمانيّة أو عيشه في أجواء لا دينيّة أو نحو ذلك، مع أنّه لا علاقة بين ذلك وبين صحّة الفكرة أو عدم صحّتها.

هذا هو معنى الخلط بين الدليل والسبب، فمبرّرات صحّة فكرة معيّنة شيء، ومبرّرات وجودها في الأذهان شيء آخر في الكثير من الحالات.

الخاتمة

في الختام، لابدّ أن أذكّر بأنّ المغالطات الميدانيّة قد تكون نمطاً من المعايير التي نتربّى عليها وتحكم مشاعرنا قبل أن تحكم نمط تفكيرنا، ومن ثمّ تضغط من خلال المشاعر والاندفاعات النفسيّة على التفكير، فتغيِّر مسار التفكير بحيث يفقد الإنسان قدرة البحث عن الحقيقة بطريقة موضوعيّة.

أرجو أن يهتمَّ طالب العلم ـ خاصّة طلاب العلوم الدينيّة ـ إلى جانب دراسة المنطق النظريّ والمغالطات القديمة، بالدراسات الجديدة في المنطق التطبيقي والمغالطات المعاصرة، الأمر الذي يساهم في تصحيح نمط أفكارنا وقدرتنا على تقديم أدلّة أكثر قرباً إلى الحقيقة، كما يساهم في اكتشاف أخطاء استدلال الأطراف الأخَر، وتلبيساتهم من حيث شعروا أو لم يشعروا.

إنَّ دعوتي المتواضعة هي أن تُضاف هذه المادّة في النظام التعليمي، خاصّة في المؤسّسة والمعاهد الدينيّة، بوصفها مادة مكمِّلة لعلم المنطق، وتتحوَّل إلى مادة تطبيقيّة أكثر من كونها مادّةً نظريّة تحليلية، رغم أنّ الجانب النظري التحليلي أيضاً أمرٌ مطلوب وضروري، فبهذه الطريقة نستطيع أن نرفع من قدرتنا الفكرية وقدرتنا على تفكيك بِنية تفكير الطرف الآخر وتحويلها إلى بِنية إعلامية مغالطيّة لا يمكن أن تنهض بطرح المسائل الفكريّة العميقة في عصرنا الحديث.

هذا ما عنيتُه من عنوان محاضرتي هذه: «نحو حماية للثقافة الدينيّة»، حيث يمكن أن نحمي الثقافة الدينيّة تارةً من مغالطات بعض الذين ينتقدون الفكر الديني اليوم، وأخرى من مغالطاتنا، نحن الذين نحمل شعار الفكر الدينيّ.

____________________

([1]) اُلقيت هذه المحاضرة في جامعة آل البيت (عليهم السلام) العالميّة، في مدينة قم، بتاريخ 6 ـ 3 ـ 2019م. وقد قرّرها الشيخ سعيد نورا، ثم قام الشيخ حبّ الله بمراجعتها لتخرج بهذه الطريقة.

([2]) لا نعني بالسفسطة هنا إنكار الحقيقة، بل نقصد مختلف أنواع التفكير الخاطئ.

([3]) لا أقصد من اللادينيّة هنا مجرّد الإلحاد، حيث إنَّ الإلحاد يعتبر من اللادينيّة التاريخيّة، لكنّنا اليوم نواجه أشكالاً مختلفة من تجليات اللادينيّة كبعض الطروحات العلمانية والنقديّة للدين التي تجتاح اليوم أكثر البلدان الإسلاميّة.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً