إذا كنا كمسلمين نفخر بريادة قرآننا الكريم في إعلان حقوق الإنسان، وبنموذجية الممارسة السياسية والاجتماعية الملتزمة بحقوق الإنسان في العهد النبوي الشريف، فإننا يجب أن نشعر بالأسف والأسى لتخلف معظم واقعنا التاريخي والحاضر عن مستوى الالتزام بحقوق الإنسان.
واقع حقوق الإنسان في حياة الأمة:
ذلك لأن تاريخنا الإسلامي السياسي في معظمه، وكذلك حاضرنا، قد ابتلي بداء الاستبداد، فانعدمت فيه المشاركة السياسية للأمة، وتقلصت الحريات العامة، وسادت لغة القمع، وتلاشت قيمة الإنسان، وأهدرت حقوقه.
وانعكس هذا الواقع السيئ على الجانب الثقافي المعرفي، حيث تم تجاهل وتغييب ما صدع به القرآن من إعلان حقوق الإنسان، وما ورد في السيرة النبوية، وجرى تأويل كل ذلك وتفسيره بما يمنع تفعيله في واقع الحياة، ليبقى مجرد آيات كريمة تتلى لطلب الثواب، وسيرة شريفة تحكى للتبرك والفخر.
وتشكلت للأمة ثقافة بديلة تبرر التخلف والاستئثار بالسلطة، وتشرّع القمع ومصادرة الحريات، وتبارك إهدار حقوق الإنسان، وتخلق حالة من الممانعة للإصلاح والتغيير في أوساط الأمة باسم الدين.
وقد تأثر الفقه الإسلامي بهذا الواقع المتخلف، فتوسعت وتضخمت فيه أبواب العبادات، بينما تقلصت وتضاءلت أبواب السياسات وما يرتبط بإدارة الشأن العام للأمة.
فقد ألغى معظم الفقهاء أبواب السياسات من دراستهم وبحوثهم الفقهية، حتى لا يصطدموا بواقع الاستبداد السياسي، واختاروا الابتعاد والانكفاء عما يرتبط بالشأن العام، حتى على المستوى المعرفي، والبحث العلمي الفقهي.
وخضع بعض الفقهاء لواقع الحال السياسي، وتشكلت آراؤهم في الفقه السياسي على أساسه، وربما كان ذلك من بعضهم استجابة للترغيب أو الترهيب.
ومن يقرأ كتب الأحكام السلطانية، ومباحث السياسات في الكتب التي تناولتها، تصدمه فتاوى وآراء واضحة التباين مع مفاهيم القرآن، وتطبيقات السنة النبوية، ومبادئ حقوق الإنسان.
إن خمسة أفراد يمكنهم أن يصادروا إرادة الأمة كلها، فيبايعون أحدهم ليكون إماماً للأمة، وتنعقد إمامته، ويصبح حاكماً شرعياً تلزم طاعته، بهذا أفتى طائفة من الفقهاء، بينما أفتى آخرون بكفاية اتفاق ثلاثة أشخاص على تقرير مصير الأمة بدلاً عن الأمة كلها.
كما نقل الماوردي في الأحكام السلطانية، قال: (وقالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها، أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة… وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين من أهل البصرة. وقال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولاها أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصح عقد النكاح بوليٍّ وشاهدين. وقالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد) .
وهناك رأي فقهي بشرعية اغتصاب السلطة بالقوة، كما ينقل القاضي أبو يعلي الحنبلي في الأحكام السلطانية، مسنداً هذا الرأي للإمام أحمد بن حنبل في أحد النقلين عنه قال:( وقد روي عن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل (في الخليفة)، فقال في رواية عبدوس بن مالك القطان: (ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، براً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين) وقال أيضاً في رواية المروزي: (فإذا كان أميراً يُعرف بشرب المسكر والغلول يغزو معه إنما ذاك له في نفسه)… وقد روي عنه ما يعارض هذا) .
الفقه الإسلامي وأسباب القصور:
الفقه الإسلامي هو الفتاوى والآراء، التي تحدد الأحكام الشرعية الفرعية لأبناء الأمة، والتي يستنبطها الفقهاء من الأدلة التفصيلية.
ومع أن الكتاب والسنة هما المرجع الأساس للفقهاء في استنباط الأحكام الشرعية، يليهما الإجماع والعقل عند الشيعة، ويقابل العقل القياس عند السنة.
إلا أن عملية الاستنباط تتأثر إلى حدٍ كبير بذهنية الفقيه وظروف بيئته. صحيح أن العمل الاجتهادي نشاط علمي له قواعده وأدواته، لكن المجتهد الذي يؤدي العمل الاجتهادي إنسان له خلفيته الفكرية ومشاعره الاجتماعية، وليس جهازاً آلياً.
وقد تحدث الشهيد السيد محمد باقر الصدر عن تأثير الجانب الذاتي في العملية الاجتهادية، مشيراً إلى أن عملية الاجتهاد يحف بها خطر العنصر الذاتي وتسرب الذاتية إليها، خاصة حينما يعالج الفقيه قضايا الواقع الاجتماعي، بما فيه من تصادم وتباين مع مؤدى نصوص شرعية، فهنا يكون خطر دخالة العنصر الذاتي أشد منه في حال معالجة القضايا العبادية الفردية.
وأشار رحمه الله إلى أربعة منابع لخطر الذاتية في الممارسة الاجتهادية:
أولاً: تبرير الواقع: حيث يندفع الفقيه بقصد أو بدون قصد، إلى تطويع النصوص، وفهمها فهماً خاصاً يبرر الواقع الفاسد.
ثانياً: دمج النص ضمن إطار خاص، قد يكون منبثقاً عن الواقع المعاش، فيختار الفقيه من النصوص ما ينسجم مع الإطار الذي سيطر على ذهنه، متجاوزاً النصوص الأخرى.
ثالثاً: تجريد الدليل الشرعي من ظروفه وشروطه، خاصة في التعامل مع دليل (التقرير) والذي هو مظهر من مظاهر السنة الشريفة، ويعني سكوت النبي أو الإمام عن عمل معين يقع على مرأى منه ومسمع، سكوتاً يكشف عن سماحه به وجوازه في الإسلام.
لكن استنتاج الحكم من هذا السكوت يتوقف على التأكد من عدم صدور النهي من الشريعة عن ذلك السلوك، كما يتوقف على أخذ جميع الصفات والشروط الموضوعية في ذلك السلوك بعين الاعتبار، لأن من الممكن أن لبعضها دخلاً في السماح بذلك السلوك وعدم تحريمه.
رابعاً: اتخاذ موقف معين بصورة مسبقة تجاه النص: والمقصود منه الاتجاه الذهني والنفسي للفقيه، فإن الفقيه الذي يتجه إلى تحكيم الشريعة في الحياة على المستوى الاجتماعي، يختلف في اختياراته الفقهية عن الفقيه الذي يتعامل مع الشريعة ضمن دائرة تكاليف الفرد المسلم فقط.
كما تناول الشهيد مطهري هذه المشكلة بوضوح أكبر، فقال في بحث له عن (الاجتهاد في الإسلام) تحت عنوان: أثر شخصية الفقيه في فتاواه، ما يلي:
(عمل الفقيه والمجتهد هو استنباط الأحكام الشرعية، إلا أن معرفته وإحاطته وطراز نظرته إلى العالم تؤثر تأثيراً كبيراً في فتاواه. على الفقيه أن يكون محيطاً إحاطة كاملة بالموضوع المطلوب منه إصدار فتوى فيه. فإذا افترضنا فقيهاً دائم الانزواء في بيته أو مدرسته، ثم نقارنه بفقيه آخر يعايش حركة الحياة حوله، نجد أن كليهما يرجعان إلى الأدلة الشرعية لاستنباط الحكم، ولكن كل منهما يستنبط حكمه على أساس وجهة نظره الخاصة.
لو أن أحداً أجرى مقارنة بين فتاوى الفقهاء، وتعرف في الوقت نفسه على ظروف حياة كل فرد منهم وطريقة تفكيرهم في مسائل الحياة، لعرف كيف أن المنظورات الفكرية لكل فقيه ومعلوماته عن العالم الخارجي المحيط به تتأثر بها فتاواه، بحيث أن فتوى العربي تفوح منها رائحة العرب، ومن فتوى العجمي رائحة العجم، ومن فتوى القروي رائحة القرية، ومن فتوى المدني رائحة المدنية).
من هنا فإن نقد الفقه الإسلامي ليس نقداً للشريعة ولذات الدين، وإنما هو نقد لما استنبطه وفهمه هذا الفقيه أو ذاك من المصادر الدينية، فالشرع المقطوع به من قبل الله تعالى كامل حق لا يصح التردد في قبوله، أو توجيه النقد إليه، لكن ما يفهمه ويستنبطه الفقيه من الشرع، هو جهد بشري محتمل للصواب والخطأ.
لذلك يختلف الفقهاء فيما بينهم في أصول الاستنباط ومبانيه، كما يختلفون في الآراء والفتاوى الفقهية، وديدن الفقهاء نقدهم لبعضهم بعضاً في مسائل الاختلاف، وهي أكثرية مسائل الفقه، لأن المتفق عليه والمقطوع به لا تزيد نسبته على خمسة في المائة من مجموع مسائل الفقه.
وللنقد دور كبير في إثراء علم الفقه وأصوله، وهو لا يعني التقليل من عظمة هذا العلم الأصيل، ولا الاستهانة بالجهود الكبيرة التي بذلها الفقهاء في تحقيق أبحاثه ومسائله. فإن من يطلع على كنوز الفقه ويقرأ عن إخلاص الفقهاء وصرف أعمارهم وحياتهم في مدارسة العلم وغمار البحث، يدرك قيمة تلك الجهود الجبارة العظيمة.