أحدث المقالات




نخلتنا السيد فضل اللهأو الصبر لحماً ودماً

السيد هاني فحص

أحببته أول ما رأيته في كنف مرباه رَحِمنا النجف التي ظلت تجمعنا بما أسستنا عليه من نزوع إلى الحرية في تحصيل المعرفة وتداولها… وزاد حبي له عندما سمعته يتكلم في العلم والأدب والحياة بحنان وإيقاع فيه جرح عميق ولكنه مصر على البهجة.

ثم زاد حبي ثانية عندما بادلني الحب بسخاء ودفء… وأسعدني مرات عندما انسل ليلاً ليسهر معي… كنخلة تسهر مع فسيلتها أو تسهر عليها، في منزلي البسيط في النجف.

إذاً، فقد وجدت فيه حضناً… ولكن الحضن أو الحاضن مسؤول، فلا بد من الالتزام بواجب الرعاية… بالحب والتشجيع والنقد… وقد جعلني نقده أشعر بالمسؤولية أكثر… من دون أن يتمكن من تهدئة توتري وقلقي، خاصة في ما يعود إلى المسلكيات التي فاجأتني وفجعتني في مجال الحركة الفكرية والعلائقية في الحوزة.

ولكني ـ وكما قلت له في آخر لقاء قبيل رحيله ـ أدخلته أو دخل في نظام حياتي وقراءتي وكتابتي رقيباً داخلياً. وإن لم يكن بإمكاني أن ألتزم برأيه أو أوافق على نقده دائماً، ولكنه كان يسرني كثيراً ويقوي طموحي إلى الصواب وأحياناً إلى مخالفة السائد الذي كان يخالفه أيضاً، ولكن بطريقة مختلفة، من داخل السياق والمؤسسة، ذلك أنه عريق في هذا السياق، أما أنا فلست كذلك. أنا جديد أطمع بالتجديد، قلق مدجج بالأسئلة والاعتراض. لقد استطاع أن يداخلني ويشاركني أو يدخلني في شراكته، في حساسيته الأدبية وشعوره بضرورة التطوير، ولكنه لم يقيدني… ولم يكرهني لأني لم ألتزم بقوله أحياناً كثيرة، بل كان يرتفع صوته ناقداً ويتسارع نبض قلبه محباً.

وأحببته شاعرا.ً.. عندما حدثني عنه الكبار من رعيله الشعري… فقال السيد مصطفى جمال الدين إن السيد فضل الله كان يمكن أن يكون أجودنا وأثرانا شعراً لو استمر… ولكنه استمر، غير أنه غيّر المسار، ذهب إلى الشعر الديني، إلى النجوى والأحلام الرعوية الإيمانية والحكمة كخلاصة للتجربة الفكرية والحياتية… ولكن ظل عندي ذلك الشاعر الشاب المتمرد المتورد حباً وغزلاً ووطناً كأوطان الآخرين… غير مؤدلج.

وفي آخر لقاء، طلبت من معاونيه أن يوافوني بنماذج من شعره القديم، والغزلي خاصة، قرأتها بعناية واحترمت ما قاله فيها… ولكني بقيت على حبي لشعره الأول، لأنه يؤكد الجانب البشري العادي غير الاستثنائي في شخصية رجل الدين الذي أراده البعض خشباً تحت شعار التقوى الظاهرية وبصرف النظر عن الواقع… يريدون أن يحرموه من الإبداع والاستمتاع بالحلال!

ولسوف أكتب… ولن أظلم خياره الشعري المتأخر والذي التزم بإملاءات المرجعية. التي لها تحديد علمي ولها تحديد شعبي وأحياناً لها تحديد سياسي. فقد تصدى للمرجعية في لحظة كانت السياسة أو السلطة قد أكملت سطوها وسطوتها على العلم والعلماء والمرجعية. ولكنه كان من الشجاعة بحيث اختار إعلان مرجعية الطرف الذي كان يُراد له المزيد من الإلغاء والمصادرة لحساب المركز الديني أو المرجعي في بعده السلطوي أو السياسي.

وثار الموصولون بالمركز على هذه الخطوة وقصفوا صاحبها بما استطاعوا، ولا داعي للتذكير إلا بأنهم عادوا ليقرأوا فيه تاريخه العلمي والعملي التأسيسي والجهادي ولربما كانوا قد فعلوا ذلك عندما تأكدوا أنهم حصروا مرجعيته وحاصروها… ولكن لم يثأر فتواصل من دون أن يزول عنه ظلم المركز… إلا في حدود غير مجزية دائماً.

أحببت فيه عمله وديموقراطيته المركزية أو مركزيته الديموقراطية على غير نموذج الأحزاب المركزية والتي تدعي الديموقراطية في إدارة المؤسسات وهي شديدة المركزية. وكنت أتورط في نقده فكرياً وعملياً وسياسياً في حدود، وفي حضوره… ولا يزعل. وأنقده في حضور محبيه بقوة أو قسوة أحياناً ولا يصلني منه إلا عتاب قليل… أما أمام كارهيه فقد تورطت بما جلب لي خطراً وعقاباً.

وفي تجربتين، تحولت إلى مقاتل علني على المنبر في لحظة حرجة من لحظات الفتنة في الجنوب وكدت أن أعاقب، وعوقبت بالاعتداء الكلامي علي. ومرة أخرى، في مؤسسة أم… كان فيها شياطين يحاولون إغراء الرمز الكبير بالموقف الصغير، ودفعت الثمن غالياً عندما اعترضت… عندما شلحت على الأرض كتاباً ظالماً للسيد كان يوزع مجانا.ً.. انتصاراً للسيد احتجاجاً على قلة الوفاء.

أحببت مؤسساته… وكنت أقول دائماً بأنه نجح ويجب أن يدعم في ذلك. والنجاح بذاته قيمة… له ولنا… وللأيتام وسائر التلامذة الفقراء… وسائر الفقراء. وكنت أنقده في ذلك… أنتقد ما يسمى فردانية، وفي لحظة انتبهت إلى أن المتحد الاجتماعي والديني الذي أنتمي وينتمي إليه السيد لا يستطيع أن يعمل مع مؤسسة تداولية… وأن الواحد منا إن كان كبيراً كبر أو تكبر على المشاركة فإن كان غير ذلك لم يكن قادراً على الالتزام بمقتضيات التراتب في العمل… فالجماعية في العمل انتهت دائماً إما إلى الخراب وإما إلى استئثار البعض دون الشركاء. وقد كتب السيد من زمان تحت عنوان: «مشاريع دينية بلا دين». لقد آثر أن يعمل لا أن يمتدح ولو بالباطل… فشكل مؤسسته… منظمته ممن يوافقونه ولا يصادرهم ولا يحرصون على مخالفتهم فكان أقرب إلى رب العمل بروح القائد والمرجع. ومن هنا، كان نجاحه. أما أنها أسرية فهي كذلك وأنا أتحفظ عليها. ولكن، هل هناك ممن يؤاخذونه عليها لا يتصرفون بشكل عائلي أو أسري وغير مفيد أو ضار بالجماعة (الطائفة) وغيرها، وهناك طبعاً من ينقد عن قصور. والآن، لكم أغنى أن تثبت المؤسسة بكل العاملين فيها ومراتبهم أنها مؤسسة على أساس متين وأن رعاية السيد مستمرة فيها… وإلا فسوف يتحسر المحبون أكثر على رحيله، على أن هذا الرجاء كما أعرف تتوفر له عناصر التحقيق.

كنت في النجف مع ثلة من المهمومين فكرياً نقرأ ونكتب ونعد أنفسنا أن نضارع أو نسبق نماذج باذخة… السيد محمد تقي الحكيم والشيخ محمد مهدي شمس الدين والسيد محمد حسين فضل الله… ونغيب عنهم ونعود إليهم… فيخيب أملنا لأننا نجدهم قد تقدموا علينا أضعاف ما تقدمنا نحوهم. وبقيت حتى الآن كما قلت للسيد بأنه تحول مع الآخرين، الحكيم وشمس الدين، إلى رقباء على حبري وحرموني من قول كثير مما أردت قوله… حتى إذا غاب واحد منهم أردت أن أكتب ما كنت قد أوقفته حرصاً على رأيهم وخوفاً من (زعلهم). ولكني لا أكتب لأن احتمال الاختلاف تحول في داخلي إلى ممانعة… وهكذا نجوت من كثير من الاستعجالات.

ولأنه عالم حقيقي… كان شاباً حقيقياً وفي لحظة انكشاف مشروع الدولة في الوطن العربي، كان واحداً، وإن مميزاً من الشباب العلماء الذين انخرطوا أو أسسوا أطراً سياسية وحزبية، للتغيير بالثورة والانقلاب بعد نشر الفكرة والفكر الإسلامي الذي يسندهاوقد كانت شراكته في «حزب الدعوة» مدخلاً واسعاً إلى بيت الوحدة والتقريب بين المسلمين الذين اختاره نهجاً من دون أن يتنصل من خصوصيته الشيعية… بل وقبله الآخرون محترمين فيه عدم الميل إلى النفاق أو المجاملة… مكتشفين رسوخ عقل وفكر التوحيد في تكوينه ووجدانه… وإن كانت بعض الأحداث تلتبس عليه أحياناً فيبدو وكأن أمراً قد طرأ على وحدويته… وكان البعض يفسر ذلك بضغوط معينة عليه… أو أنها اللحظة… أو أخطاء الآخرين في التصرف… ولا يخلو أي بيت أو طائفة ممن لا نقص في خبثه أو غبائه.

لأنه كان شاباً حقيقياً، أراد أن يكون شيخاً… قائداً حقيقيا.ً.. من دون اختزال أو (انخزال) فقرر أن يتصدى للمرجعية في ظرف حرج وبعد صبر يؤكد حكمته وعقله المنظم. وفي لحظة أصبحت فيها مرجعية الطرف الشيعي أمراً محظوراً لا مجرد سلوك تاريخي تأسس على مرجعية النجف من دون أن تعمل هذه المرجعية على منع التفريع لصالح المركز المرجعي المتعدد في الأصل. ولم تكن مرجعية النجف تحمل هواجس سياسية خاصةبل كانت تمارس اعتراضها واحتجاجها من موقع المسؤولية الأخلاقية ومن موقع المواطنة.

ومبكراً، وفي أواسط الثمانينيات، أبلغ السيد قيادة «حزب الدعوة» بأنه يعتذر عن مواصلة عضويته في مجلس فقهاء الحزب مع ثقته بزملائه الآخرين، ولم يعاد شباب الحزب وقيادته التي اتفقت أو اختلفت معه أو فيما بينها. لملم دفاتره الحزبية، وفتح كتاب المرجعية على أهلية يراها كثيرون مزينة بشروط جديدة اقتضاها المستجد في الحياة والمعارف.

وكذلك فعل الإمام السيد محمد باقر الصدر وكأنهما عادا فاكتشفا أن العمل الحزبي والحرفة السياسية هي مقام افتراق وشقاق بينما المرجعية هي مقام انعتاق واتفاق… فانعتقا وذهبا إلى الوفاق مع القاعدة المؤمنة الموصولة بقواعد الوطن والاجتماع الوطني بكل تلاوينه وألحانه… من دون استنكاف عن إعلان الموقف في اللحظة الداعية إليه ومن دون توقع حصول الإجماع على صوابه دائماً… وقدرت له ذلك كل القوى السياسية حتى التي تختلف عنه أو معه.

وبعضهم اندفع نحوه للتعويض عن الماضي من جهة… ولأنه اكتشف أن موقعه لا يتزعزع وأنه حاجة تصل إلى حد الضرورة وهذه براغماتية مقبولة بشرط أن تكون خالية من الدغل وشفافة.

وآخرون لم يقصروا… فعادوا إليه معترفين بدوره التأسيسي الرائد في أفكارهم وأعمالهم… وأصبحت لدينا حالة من التنازع أو التجاذب الشيعي لشخصية السيد. وكان رضاه مطلوباً ولو شكلاً بصرف النظر عن كونه راضياً أم لا. وهو يرضى ولكنه لا يمتنع عن الشكوى إذا ما وجد أذناً تبث إلى القلب لا في هواء العصبيات.

أليس من هنا كانت له هذه المكانة في العالم العربي والإسلامي الذي يختلف معه ويتفق ولكنه يقدر ويحترم ويسعى إلى اللقاء والإصغاء؟ هنا يتمايز العرب عن غيرهم، على ما فيهم من مساوئ، يتمايزون بأنهم يحبون المعتدل والمستقيم والصريح والشجاع حتى لو كان ضدهم. وقال كلاماً سلبياً عنهم… في مقابل آخرين يزعجهم الحب… وأحياناً يزعجهم الإخلاص والصراحة والتشبث بالاستقلالية لما فيها من مصلحة مشتركة.

تحية له… صابراً على المرض منذ عقود وصابراً على الأذى منذ عقود… كأنه تمرن في الصبر على المرض الجسدي ليتأهل للصبر على القهر الروحي… أو العكس… هذه الدنيا عكوس… عكوس… أما الآخرة فهي استحقاق الفرد لا جماعته التي قد تنصفه وقد تظلمه ولكنها لا تأخذه إلى الجنة ولا إلى النار… هنا يحلو لنا أن نقلد السيد محمد حسين فضل الله في اجتهاده في الصبر على الأعداء والأصدقاء معاً.

رحمه الله الرحمان الرحيم كفاء رحمته التي ترجمها مياتم تعيد اليتم إلى مفهومه الصحيح (الفرادة) وهنا كانت فرادته… كأنه يتيم قد يكون هناك… أو أنه هناك وهنا وهنالك من هو أعلم منه… ولكنهم أو بعضهم لأسباب ذاتية أو موضوعية أو منهجية أكاديمية محترمة لا تميل إلى تسييل محتواها العلمي اجتماعياً فينعزلون. أما هو فقد اختار أن يكون نخلة عربية يزينها الإيمان الكبير والإسلام الواسع الرحب العظيم بالسعف والمذاق الرطب. وهي شاخصة يراها البعيد والقريب من دون أن يتعب بصره أو بصيرته.

نخلة طويلة… طويلة… من لم يحسن ارتقاءها لذوق جناها، قصفها بحجارة الكلام فلم يأته منها إلا ثمرات معطوبة وغير سائغة.

أما الأصفياء وأهل المحبة، وإن اختلفوا، فإنهم يهزونها كما هزتها العذراء فأسقطت عليها رطباً جنياً… والنخبة… الكلمة الطيبة الراسخة في الأرض تؤتي أكلها كل حين… كلما ارتفعت نحو السماء اتسع ظلها على الأرض ونعم الأحبة بفيئها… ظلاً وارفاً هو ظل الروح وإن غاب الجسد… وغلالاً وعطاءً متجدداً من الحبر الذي لا يجف وإن جف الدم في الجسد وانهمر دمعاً مالحاً على وجنات الأحبة… «دانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا».

إلى ظل الله هانئاً مضى… وهنيئاً له هناك ما يطعم جزاء على أطعم.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً