للفقيه المجدّد المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله
السيد جعفر محمّد حسين فضل الله(*)
(a) مقدّمة
هذا البحث هو محاولة لاستكشاف المنهج الاجتهادي عند الوالد، الفقيه المجدّد، العالم العامل، السيّد محمّد حسين فضل الله&، الذي لا يزال الكثيرون ـ ونحن منهم ـ يجهلون حجم مساهمته في التجديد الفكري الإسلامي، العقيدي والفقهي والفكري العامّ، لا على مستوى الأفكار والنظريّات الجديدة فحسب، بل على مستوى المنهج الذي يشكّل اللبنة الأساسيّة لاستمرار وديمومة النتاج التجديدي على مستوى الأفكار والنظريّات، وهو الذي يسمح بالتراكم والتطوير الفكري. وأعتقد جازماً ـ بإذن الله ـ أنّ الزمن سيؤرّخ للتجديد بما قبل السيّد فضل الله وما بعدَه، سواء على صعيد الفكر الإسلامي العام أو الفقه ـ على صعيد المنهج والأصول ـ؛ لأنّ التجديد لا يقاس ببعض الفتاوى والأفكار بقدر ما يُقاس بالنظريّات التقعيديّة التأصيليّة التي تمثّل مفردات مناهج البحث والتفكير.
بل قد لا يبالغ المرء حين يقول: إنّ السيّد فضل الله قد فتح نوافذ عديدة للخروج بالفقه والفكر الإسلاميّين من ربقة المذهبة، ليطرح حتّى التفكير في الإطار المذهبي كجزء من التفكير العلمي الموضوعي الخارج عن الإطار العصبوي إلى فضاء الدليل والبُرهان. كما أنّه، باعتماد منهج يعيد للقرآن الكريم أصالته، يفتح الباب على مصراعيه لحوارٍ فقهيّ فكريّ إسلاميّ فوق المذهبي، يسمح بإعادة النظر في الكثير من الأفكار والآراء الفقهية، والفكرية عموماً، على ضوء هذه المرجعية ـ أعني القرآن ـ المتّفق عليها بين المسلمين جميعاً، والتي لا يناقش أيّ منهم في عصمتها، وسلامة نصّها من أية زيادة أو نقصان.
وبنظر كثيرين فإنّ السيّد فضل الله شكّل حلقة وسيطة بين التيّار الأصولي والأخباري في الدائرة الشيعية، وبين النهج النصوصي التقليدي من جهة والنهج العقلي الانفتاحي من جهة أخرى. كما شكّل نقطة تقارُب بين الفقه الشيعي الإمامي وبين الفقه السنّي، بعد تأكيده على مرجعيّة القرآن وحاكميّته على فهم السنّة. وقد يبدو أنّ للسيّد فضل الله الدور البالغ في المصالحة بين النصّ الديني والواقع، وبين فهم الدين والعلم الحديث؛ أو بتعبير أكثر شموليّة: بين عالم التشريع وعالم التكوين النابعين من الله عزّ وجلّ، الخالق والمشرّع؛ وهو أمرٌ يُمكن أن يُبنى عليه الكثير في نقلة نوعيّة في العصر الحديث على مستوى الدراسات المتعلّقة بموقع الدين من الحياة عموماً، ومن حركة العلم الحديث ومناهجه على وجه الخصوص.
يمثّل الاجتهاد المجال الحيوي لمعرفة الدِّين في بُعديه الأساسيّين: العقيديّ؛ والتشريعي، وذلك بافتراض أنّ العقيدة قائمة على أساس الاجتهاد العيني على كلّ مسلم، بحيث يُنتج كلّ مسلمٍ منظومة اعتقاداته على أساس ما يبذله من جهدٍ في معرفة أساسيّات العقيدة في الحدّ الأدنى، علماً أنّنا قد نطلق عليها مصطلح الاجتهاد بشيء من المجاز، بعد أن كانت ـ ولا سيّما في التوحيد ـ أقرب إلى الأمور الفطريّة منها إلى الأمور التي تحتاج إلى إعمال نظر.
وليس من شكّ أنّ طبيعة المصادر التي اعتُمدت تاريخيّاً لمعرفة الشريعة الإسلاميّة تفترض الاجتهاد؛ لأنّ هذه المصادر لا تقدّم معرفة جاهزة بقواعد الشريعة أو بأحكامها التفصيليّة، وإنّما شكّلت ـ في مدى التاريخ ـ تراكماً اختلط فيه الغثّ بالسمين، والصحيح بالمعتلّ والسقيم، كما اختلط فيه ما انطلق من المصدر الأصيل بالدخيل، إلى كثير من العناصر التي مثّلت نقاطاً توقّف عندها العلماء في زمانٍ متأخّر، فناقشوها، وربما أثبتوا وهنها، في الوقت الذي لم يتوقّف العلماء السابقون ـ حتّى بما يُشبه الوهم ـعند احتمال خطئها أو الشبهة فيها، ولا سيّما بما له علاقة بتوثيق الرواة، أو بتحقيق الأسانيد للرواية، أو ما إلى ذلك، ممّا يتّصل بشكل وبآخر بسلامة المصدر نفسه الذي يُعتمد عليه في هذه المسألة الفقهيّة أو تلك.
وقد مرّ العقل الاجتهادي الشيعي الإمامي الاثني عشري بمراحل، قد تُعتبر صعوداً تارة؛ وهبوطاً أخرى، أو اتّجاهاً رتيباً ثالثة، وذلك طبيعيٌّ؛ بسبب تأثّر الفكر عموماً بالمتغيّرات التي تعرض على الواقع الإنسانيّ عامّة، علماً أن التشيّع([i]) ـ في امتداد الزمن الماضي ـ مرّ بمراحل ضغط عديدة، داخليّة وخارجيّة، أثّرت في تفاوت أنماط التفكير وأساليب مقاربة الأمور، بما أدّى أحياناً إلى بروز أفكار لدى صحابة أئمّة أهل البيت^ قد لا يوافق عليها الأئمّة، مع أن أولئك الصحابة يحتكّون بأئمّتهم صباح مساء. وهو ما نجده ـ على سبيل المثال ـ في ما رواه الكليني بإسناده عن زرارة، قال: دخلت أنا وحمران ـ أو أنا وبكير ـ على أبي جعفر×. قال: قلت له: إنّا نمدّ المطمار، قال: وما المطمار؟ قلت: الترّ، فمن وافقنا من علويّ أو غيره تولّيناه، ومن خالفنا من علويّ أو غيره برئنا منه، فقال لي: يا زرارة، قول الله أصدق من قولك، فأين الذين قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَة وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾، أين المُرجوْنَ لأمر الله؟ أين الذين خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيّئاً؟ أين أصحاب الأعراف؟ أين المؤلّفة قلوبهم؟ وزاد حمّاد في الحديث: قال: فارتفع صوت أبي جعفر× وصوتي حتّى كان يسمعه من على باب الدار([ii]).
ومن الواضح ما أصاب الفكر الاجتهادي بعد الشيخ الطوسي&، حيث اشتهر تلاميذه بالمقلّدة، حتّى جاء ابن إدريس وأعاد فتح باب الاجتهاد، بالرغم من أن الفكر الإمامي لم يغلق باب الاجتهاد لحظة من الزمن، وإنّما اعتبر ـ على مستوى النظريّة ـ أنّ ليس للمجتهد تقليد أحد، وإنّما عليه أن يتّبع ما ينتهي إليه نظره في الأدلّة، وإلا لم تبرأ ذمّته.
والمطالع اليوم للكتب التي فهرست الخلاف بين العلماء في امتداد التاريخ الاجتهادي، أو في مصنّفات العلماء كلاًّ على حدة، ينتهي بشيء من الاطمئنان إلى أنّ ثمّة منعطفات تشكّل فيها رأي يكاد يكون واحداً في زمنٍ ما، يختلف عمّا كان سائداً من الرأي في زمنٍ آخر، ما يوحي بحيويّة الاجتهاد من جهة، وباحتياجه إلى عناصر تكفل له مساراً معيّناً بين العلماء، تأثّراً وتأثيراً، من جهة ثانية.
ولذلك قد يكون رأيٌ ما شاذّاً في عُرف الحوزات العلميّة، وذلك عندما يصدم فقيهٌ ما الواقع، ويفتي بما انتهى إليه نظره الاجتهادي، ممّا يكون على خلاف السائد من الرأي، ثمّ لا يلبث ذلك الرأي أن يتحوّل ـ بفعل ظروف عديدة ـ إلى أن يكون هو الرأي السائد، ويُرمى بالشذوذ ما يخالفه. وعلى سبيل المثال: لو لاحظنا مسألة نجاسة الكافر ـ بما يشمل أهل الكتاب ـ لرأينا أنها كانت هي الرأي السائد تاريخياً، إلى أن أفتى بخلافها ـ حديثاً ـ المرجع السيّد محسن الحكيم&؛ نتيجة تغيّر وجهة نظره إلى المسألة، واليوم نجد أنّ الرأي السائد هو طهارة الكتابي، ويتعدّاه إلى الإفتاء بطهارة الإنسان، أو إلى التوقّف فيها على أقلّ تقدير.
ومعنى ذلك ـ بقولٍ مباشر ـ أنّه ليس ثمّة نهائيّات في الفكر الاجتهادي، إلا ما يتحقّق به الإجماع تلقائيّاً؛ نتيجة التقاء نتائج الاجتهادات؛ إذ من غير المسموح به ـ نظريّاً على الأقلّ ـ أن ينطلق الفقيه بمسبقات على مستوى النتائج، إذا لم يكن يمثّل قناعة لديه ولو من خلال بعض القواعد المتبنّاة، كحجّية المشهور أو الإجماع تعبّداً أو ما إلى ذلك.
من خلال هذه المقدّمة المختصرة ندخل إلى المنهج الاجتهادي للفقيه المجدّد السيّد محمّد حسين فضل الله، الذي كانت فتاواه، كما طرحُه لمرجعيّته الفقهيّة، مثاراً للجدل، وأحياناً لحرب تشهيرٍ مفتوحة اتّخذت من كلماته وفتاواه مادّة لها في تحريك مشاعر العامّة من الناس. وشهدت بعض أوساط الحوزات العلميّة إطلاق فتاوى تحكم عليه بالضلال أو بالخروج من دائرة المذهب، في الوقت الذي بدأ فيه استخدام آليّاتٍ مختلَفٍ فيها بين العلماء، كحجّية المشهور ومداها، والإجماع وقيمته العلميّة في معرفة الأحكام، وغيرها من القواعد التي أطلقت كمسلّمات في عمليّة إدارة الحملة ضدّ أفكار السيّد فضل الله؛ هذه الحملة التي أخذت عنواناً عريضاً لها هو العنوان الفكري، العقيدي والشرعي على حدّ سواء، في حين نظر الكثيرون إلى خلفيّات أخرى تتّصل بأكثر من جهة دوليّة وإقليميّة، سياسيّة وغير سياسيّة، التقت كلّها على ضرب هذه التجربة التي مثّلها السيّد فضل الله بشكلٍ وبآخر.
ولذلك لا أظنّ أنه بإمكان أحدٍ التغاضي عن طبيعة المرحلة التي عاشتها مرجعيّة السيّد فضل الله، بل وما قبل طرحها، والتي كانت تشهد تغيّرات كبيرة على مستوى المنطقة، سواء في الهجمة الخارجيّة على الإسلام بعد سقوط الاتّحاد السوفياتي، أو في المصالح الإقليمية التي تتحرّك على طريقة الإثارة المذهبيّة في مقاربة القضايا السياسيّة التي تواجه الاستكبار. أضف إلى ذلك طبيعة التعقيدات المتّصلة بمسألة المرجعيّة بين الحوزات العلميّة، أو في الطريقة التي تتأثّر فيها المواقع العلمائيّة بذهنيّة العامّة والجماهير، أو طبيعة العناصر التي يتميّز بها السيّد فضل الله بما يجعل منافسته أمراً بالغ الصعوبة من قبل أكثر من جهة، وما إلى ذلك، لكي يفهم طبيعة التجاذبات التي حكمت حركة الحملة والصراع آنذاك.
هذا كلّه، مضافاً إلى أنّ ثورة الاتّصالات وتقدّم التكنولوجيا، وتنوّع الأفكار والاتّجاهات التي صوّبت سهامها إلى الداخل الإسلامي، أو أثارت ـ بطبيعتها ـ إشكالات أمام الفكر الإسلامي الذي يحتاج إلى بحثها وتوفير الإجابات العلميّة عليها، أبرز الحاجة إلى الفكر الإسلامي الذي يجمع بين الأصالة في المصادر والمعاصرة في تلمّس المشكلات وعلاجها؛ من أجل تقديم فكر واقعي أصيل يحقّق التجانس والملاءمة بين الطرح الإسلامي وبين ما انتهى إليه العلم الحديث من مكتشفات أو إبداعات، إضافة إلى إعادة الحضور إلى الأطر المذهبيّة مع احتدام الصراعات الدوليّة في الشأن السياسي تجاه المنطقة الإسلاميّة والعربيّة بعامّة، ممّا ساهم ـ مع انتشار النشر ـ إلى دخول النتاج الفقهي وغيره في صلب حركة التجاذب المذهبي. كلّ ذلك وغيره جعل الفقيه أمام واقعٍ معقّد جدّاً يفرض عليه فهمه من جهة، والبقاء مشدوداً إلى النصّ الذي يمثّل الركيزة الأساس في إنتاج الأحكام تجاه مفردات هذا الواقع، وليس تجاه عموميّاته فحسب.
وربما فرضت المستجدّات على الفقيه أن يُعيد النظر في المسائل الفرعيّة، بل في آليّات الاجتهاد أيضاً، ممّا اصطلح على تسميته بـ «علم أصول الفقه»؛ وذلك شعوراً منه أنّ تلك الآليّات لم تعد تمثّل قواعد يمكن الركون إليها في عمليّة الاجتهاد اليوم، ممّا انفتح الفكر فيه على جهاتٍ للنظر اتّخذت كقاعدة لنقد الآليّات المُنتَجة سابقاً، إلى التفكير بآليّات جديدة، أو إعادة الروح لآليّات تمّ التنظير لها على مستوى القاعدة من دون النزول بها إلى التطبيق العملي.
ويعتقد كثير من المهتمّين بأنّ هذه النقطة الأخيرة هي الأساس في مسألة التنظير الأصولي؛ لأنّ التفكير الأصولي عموماً صرف كثيراً من الجهد على مسائل تدخل ـ عمليّاً ـ في إطار الترف الفكري أكثر ممّا تُعدّ فعليّاً قاعدة من قواعد الاستنباط، ولذلك كانت تذيّل نتائج البحث فيها بأنّها ممّا «لا ثمرة عمليّة لها»، أي إنّها لن تكون قاعدة أو أداة تنفع في استنتاج أو استنباط أيّ حكم شرعي ينفع في ميدان العمل، في نفس الوقت الذي كانت مسائل أخرى تمثّل القواعد الأساسيّة على المستوى النظري تنتظر تقعيدها من الناحية العمليّة، بحيث لا تبقى في الضبابيّات على مستوى التطبيق، وإنّما يُمكن استخدامها في ضبط حركة الفكر الاجتهادي في المسائل الفرعيّة وغيرها.
ومن هذه النقطة بالذات ندخل إلى الميزة الأولى من ميزات منهج السيّد فضل الله الاجتهادي، وهي المرجعيّة المعياريّة للقرآن الكريم.
(b) الميزة الأولى: مرجعيّة القرآن المعياريّة
يُعتبر القرآن الكريم المصدر الأوّل للتشريع الإسلامي، إلى جانب السنّة الشريفة والعقل والإجماع ـ على جدالٍ في حدود الأخيرين ـ، علماً أنّ القرآن الكريم يمثّل المصدر المعصوم الذي ﴿لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ﴾(فصلت: 42). وبهذا تكتسب مصدريّة القرآن الكريم أولويّة مرجعيّة حاول السيّد فضل الله أن يترجمها عمليّاً في ما يمكن أن نطلق عليه قواعد الضبط القرآني لأدلّة الاستنباط.
ويجزم السيّد فضل الله أنّ أصالة القرآن تجعله «المصدر الأساس» للجانب التشريعي، بل لمفاهيم العقيدة والحياة، «لنرجع إليه في كلّ ما اختلفنا فيه، ممّا اختلفت فيه الآراء والأهواء، بحيث ننفتح عليه في كلّ مرحلة من مراحلنا الثقافيّة التي تفرض علينا الكثير من الجدل حول هذا المفهوم الإسلاميّ أو ذاك، في ما يحكم الوجدان العامّ للمسلمين في أيّ شأنٍ من شؤون الحياة والإنسان، فلا نلتزم هذا المفهوم من خلال فهم العلماء السابقين، بل نعمل على تجديد دراسة النصّ القرآني، وخصوصاً في ظلّ المعطيات الفكريّة الجديدة التي تطرح أكثر من علامة استفهام، الأمر الذي يفرض إجابات معاصرة لم يكن للقدماء عهدٌ بها، فربما وجدنا في ظواهره معنى لم ينتبه له السابقون، وربما كانت اجتهاداتهم في فهم ظواهره منطلقة من ذهنيّاتهم المليئة بالأعراف العامّة التي تحكم منهج التفكير آنذاك، وربما غابت عنهم بعض المقارنات بين آية وآية، أو بين ظاهر وظاهر، فنكتشف شيئاً جديداً لم يكتشفوه». وبذلك يعتبر السيّد فضل الله أنّه «لا قداسة للقديم من خلال قدمه، فكم ترك الأوّل للآخر؟!»([iii]).
وقد يبدو للمتأمّل في منهج السيّد فضل الله في التعامل مع النصّ القرآني، سواء في التفسير أو في الفقه، حضور هذه النقطة بالذات، بحيث لا يتنكّر السيّد فضل الله لفهم الماضين، ولكنّه لا يجد حرجاً من التفرّد ـ أحياناً ـ عندما يقتنع بفكرة تخالف ما انتهوا إليه.
ولا بدّ هنا للسيّد فضل الله أن يؤكّد على خطأ الذين اعتبروا أنّ «القرآن كتابٌ رمزيّ لا يعلمه إلا الفئة التي جعل الله لها الميزة في فهم وحيه، فأنكروا حجّية ظواهره إلا بالرجوع إلى أئمّة أهل البيت^، وانطلق البعض ليتحدّث عن تعدّد المعاني للكلمة الواحدة بطريقة عرضيّة أو طوليّة، واستفاد آخرون من الروايات أنّ القرآن في مجمل آياته حديثٌ عن أهل البيت بطريقة إيجابيّة، وعن أعدائهم بطريقة سلبيّة، ليبقى للأحكام وللقضايا العامّة وللقصص المتنوّعة مقدارٌ معيّن»، وما إلى ذلك، ممّا اعتبره السيّد فضل الله «خاضعاً للأجواء الخاصّة التي تبتعد بالقرآن عن أن يكون الكتاب المبين الذي أنزله الله على الناس؛ ليكون حجّة عليهم، من خلال آياته الواضحة التي تمنحهم الوعي الفكري والروحي والشرعي على أساس ما يفهمونه منها، بحسب القواعد التي تركّز الطريقة العامّة للفهم العامّ»([iv]).
ويرى السيّد فضل الله ـ في مقابل ذلك ـ أنّ وصف القرآن نفسه بأنّه عربيّ يجعل عربيّته لا تنحصر «في المسألة اللغويّة»، بل يجعلها تمتدّ لتكون «عنواناً للمنهج العامّ للقواعد التفصيليّة، في أساليب اللغة في البيان والفهم والأجواء، من حيث الخصائص الفنّية التي قد تحمل في داخلها الإيحاء والإيماء واللفتة والإشارة، ممّا يتجاوز المدلول الحرفي للكلمات، على أساس أنّ الجانب التاريخي للاستعمال قد يضيف إليها الكثير من ظلال المعاني وخصوصيّاتها التي قد تمنحها جوّاً جديداً، وهذا هو الذي اصطلح عليه بـ«الفهم العرفي» أو «الذوق العرفي»([v]). وهذا ما يجعل فهم القرآن واضحاً في دلالته، ويعطي الفقيه الثقة بإمكانيّة فهم القرآن على ضوء ما يؤسّسه ويرتضيه من قواعد التفاهم والتفهيم الجارية بين الناس. وهذا ما يؤكّد ـ بحسب السيّد فضل الله ـ كون القرآن «حجّة في إيصال الأفكار والتشريعات إلى الناس، فلا مجال للتعقيد اللفظي والمعنوي، في أساليب الاستعارة أو الكناية أو طريقة التركيب، بحيث تكون المسافة بين اللازم والملزوم، أو بين المضمون الحرفي للكلمة والغاية التي يقصدها المتكلّم، بعيدة جدّاً، بالقدر الذي تستلزم بذل الكثير من الجهد الذهني في الربط بين الأشياء؛ لأنّ ذلك يبتعد عن المنهج البياني الذي تفرضه مسألة التفاهم التي ترتكز عليها قضيّة اللغة في طبيعتها الحركيّة»([vi]).
وإزاء ذلك لاحظ السيّد فضل الله على الأسلوب الاجتهادي تأخّره عن مواكبة القرآن الكريم في أكثر من جانب، وليس في الجانب التشريعي فقط. وسنتعرّض في صفحاتٍ قليلة إلى نقد السيّد فضل الله لهذا الأسلوب، والبدائل التي اقترحها، أو أثار التفكير فيها، أو طبّقها عمليّاً، مقتصرين في ذلك على ما له دخل في المنهج الاجتهادي، وذلك في عدّة عناوين:
(c) 1ـ آيات الأحكام
اقتصر الفقهاء عموماً على الآيات القرآنيّة التي عالجت جوانب تشريعيّة بشكل مباشر، دون غيرها، إلى درجة حصر معها الفقهاء آيات الأحكام في خمسمائة آية فقط. وهو اتّجاهٌ لم يوافق عليه السيّد فضل الله؛ لأنّ القرآن ـ في نظره ـ «انطلق في حركة الدعوة ليؤصّل القواعد في دائرتها الواسعة»؛ ولذلك عدّ جملة من الآيات الكريمة ضمن القواعد العامّة؛ كونها تشكّل ـ من وجهة نظره ـ مرجعاً تشريعيّاً لعدد من الأحكام.
وعلى سبيل المثال نذكر عدّة نماذج:
الأوّل: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾. فإنّ الآية، وإن كانت دلالتها المباشرة تتعرّض لحكم الخمر، إلا أنّها من خلال استظهار ما هو المسؤول عنه، وليس هو إلا علّة تحريمه، وملاحظة عموم التعليل، يمكن للفقيه ـ كما رأى السيّد فضل الله ـ أن يستظهر منها عموم الحكم لكلّ ما تنطبق عليه العلّة. وقد كان هذا الاستدلال من جملة الأدلّة التي ساقها السيّد فضل الله في تحريم تدخين التبغ، بتقريب أنّ كلّ ما كان ضرره أكثر من نفعه فهو حرام، ويكفي أن تُحقَّق الصغرى بالنسبة إلى التدخين ليثبت التحريم.
الثاني: قوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾، حيث يرى السيّد فضل الله أنّها «ترسم قاعدة عامّة تحدّد علاقة الرجل بالمرأة، بحيث لا يملك الرجل أن يجمّد حياة المرأة؛ إذ خيّره الله تعالى بين الإمساك ـ أي إبقاء العلاقة الزوجيّة ـ بالمعروف، وبين التسريح بالإحسان ـ أي طلاقها ورفض هذه العلاقة ـ»([vii]).
الثالث: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ﴾، حيث يرى السيّد فضل الله أنّ هذه الفقرة تؤسّس حرّية التعاقد في الإسلام، بما يمنح العقود المستجدّة، كعقود التأمين مثلاً، شرعيّة تشريعيّة، دون المحاولات التي يجريها بعض الفقهاء في إرجاعها إلى عقود لها مسمّيات سابقة، كالجعالة أو الإجارة أو ما إلى ذلك.
وكذلك يُمكن استفادة قواعد عامّة من قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ﴾ (البقرة: 188)، أو قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَة ﴾ (البقرة: 195)، وغيرهما من الآيات.
ويخلص السيّد فضل الله إلى أنّه بالإمكان «من خلال الرجوع إلى القرآن الكريم أن نحصل على جملة قواعد فقهيّة عامّة، قد تغطّي مساحات واسعة في حياة المسلمين»، معتبراً أن المشكلة تكمن في «أنّ الأسلوب الاجتهادي السائد لدى الكثير من الفقهاء يتعاطى بأسلوب ضيّق جدّاً؛ إذ إنّهم ينظرون إلى كلّ نصٍّ في مورد خاص، بحيث تبدو لكل نصّ شخصيّة خاصة تختلف عن شخصية النصّ الآخر الوارد في مورد آخر، مع أنّنا نجد أنّ أيّ إنسان ملمٍّ باللغة العربية، وبالصيغ التعبيرية، يستطيع أن يأخذ من مجموع الموارد قواعد عامّة؛ لأنّ الموارد المختلفة قد لا تنفي، بل تؤكّد، التقاءها بالخطّ العامّ الذي تشترك فيه النصوص التي وردت في مثل هذه الموارد»([viii]).
وبذلك يبدو أنّ السيّد فضل الله يوسّع دائرة الأدلّة على الأحكام؛ اعتماداً على قواعد اللغة، بشقّيها اللغوي والعرفي، بما يسمح بتجاوز العدد الذي حدّده السابقون لآيات الأحكام، علماً بأنّ هذا التحديد هو بطبيعته نتيجة للاجتهاد أيضاً، بمعنى أنّ تحديد آيات الأحكام بخمسمائة مثلاً هو نتيجة عدم اعتباره من الناحية الاجتهاديّة لأية آية أخرى دليلاً على مسألة فقهيّة.
(d) 2ـ حاكميّة القرآن على مضمون السنّة
هذا العنوان إشارة إلى الموقع الذي يحتلّه القرآن الكريم بالنسبة إلى السنّة، الشريفة في مسألة التشريع.
والسيّد فضل الله، شأنه شأن سائر علماء الإسلام، يؤكّد على حجّية السنّة وكونها مصدراً ثانياً من مصادر استنباط الأحكام الشرعيّة، كما في تحديد المفاهيم وبيان الحقائق؛ انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا﴾ (الحشر: 7)، أو قوله تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ (المائدة: 92). نعم، تُعاني السنّة من مشكلة التوثيق التي تتّصل بصحّة هذا الحديث أو ذاك، بخلاف القرآن الذي هو قطعيّ الصدور؛ إلا أنّ هذه المشكلة ـ كما يقول السيّد فضل الله ـ «ليست عصيّة على الحل؛ فقد وضع العلماء المختصّون طرائق عديدة لإثبات الصدور وتوثيق النصوص، وإن كان ثمّة اختلافٌ بينهم في هذه الطرائق». وليس من شكّ ـ عند السيّد فضل الله ـ أنّ آليّات فهم النصّ النبوي أو الإمامي يخضع أيضاً «للقواعد العربيّة المتّبعة في فهم أيّ نصّ عربيّ»، من دون أن يعني ذلك الاقتصار على ما أنتج قديماً من خلال اختلاف المدارس النحوية أو البلاغية، فإنّ بالإمكان الانفتاح «على أيّة قواعد علميّة جديدة لفهم النصّ، وذلك لتطوير طريقة فهمنا للنصوص، ممّا يمكن أن يقدّمه لنا الكثير من مناهج البحث أو مناهج فهم النصّ»([ix]).
وكذلك فإنّ السيّد فضل الله يؤكّد على أنّ إشكاليّة تأخّر التدوين في تأثيره على وثاقة المنقول من السنّة لا يمثل مشكلة عصيّة أيضاً؛ «لأنّ الثقاة الذين رووا عن النبيّ| حفظوا ذلك في صدورهم، وتناقلوه بينهم، وحفظه الحفّاظ عنهم»، إضافة إلى أنّ المسلمين الشيعة لم يعانوا من هذه المشكلة؛ «لأنّهم يعتبرون الأئمّة من آل بيت رسول الله| الامتداد الطبيعي للنبيّ|، وأنّهم معصومون عن الخطأ، وأنّهم المصدر الرئيس بعده لتبليغ الأحكام… وأنّ الأئمّة رعوا عمليّة الكتابة والتدوين، من عليّ× إلى آخر إمام منهم»([x]).
نعم، بالإمكان الحديث عن المضامين التي نقلت في كتب الروايات، وأنّ كثيراً منها كان يُنقل بالمعنى، بما يسمح بتدخّل ذهنية الرواة وطبيعة ثقافاتهم، وبعض الإشكالات الأخرى، التي دفعت بالسيّد فضل الله ـ في ممارسته الاجتهاديّة ـ إلى التفكير في الآليّات الأقرب إلى الحصول على وثاقة المضمون المتصل بالحكم الشرعي، كضرورة القراءة المجموعيّة للروايات إضافة إلى القراءة التفصيلية؛ لأنّ فهم كلام أيّ متكلّم لا يكون إلا من خلال النظر إلى كلّ ما تكلّم به حول فكرة معيّنة، في حين قد تؤدّي النظرة التجزيئيّة إلى وجهة أخرى قد تبتعد عن الواقع، أو تُبرز إشكاليّات معيّنة، من قبيل: المبرّر المنطقي لحذف جملة من الروايات يمكن أن تكون جزءاً من الصورة الكاملة فيما لو نظر إلى الروايات بمجموعها من زوايا أخرى. وعلى أية حال فهذه نقطة أخرى مفصَّلة في محلّها([xi]).
وأيّاً يكن الأمر، وبالعودة إلى العنوان الذي نحن في صدده، أعني حاكميّة القرآن، فإنّ السيّد فضل الله ينطلق من فكرة أنّ القرآن انطلق «في حركة الدعوة والتشريع ليؤصّل القواعد في دائرتها الواسعة، أمّا السنّة فقد وردت في غالبيّتها لتحاكي تطبيقات هنا وهناك، ولتجيب عن الأسئلة هنا أو هناك؛ الأمر الذي يجعل الحديث متحرّكاً في دائرة خاصّة، وهي آفاق السؤال وكلّ القرائن والإيحاءات المحيطة»([xii])، ليؤسّس فكرة حاكميّة القرآن على السنّة؛ إذ يعتبر سلفاً أنّ السنّة لا تتحرّك خارج الإطار القرآني، وحاكت ـ في تطبيقاتها ـ العناوين القرآنيّة، في ما تعرّض له القرآن، وهذا ما سيؤثّر حكماً على نتائج البحث، ولا سيّما فيما يتعلّق بإطلاقات الأحاديث التي أخذ بها الفقهاء على عموميّتها، مع كون العنوان القرآني الذي يُعدّ دليلاً لهذه المفردة أو تلك ليس على هذا النحو من الإطلاق. ومن هنا لاحظ السيّد فضل الله على أسلوب الفقهاء في الدخول في تبريرات لنتائج مثل هذه الآليّات، ليُتحدّث تارة عن الورود أو الحكومة التي تُضيف مفردة إلى هذا الموضوع أو ذاك، إمّا بتوسعة الموضوع لما ليس داخلاً فيه بحسب الدلالة الأولى، أو بتضييقه لإخراج ما هو داخل فيه بحسب تلك الدلالة.
وباختصار فقد رأى السيّد فضل الله أنّ ورود القرآن مورد القاعدة في موضوع معيّن يجعلنا نُخضع السنّة لمدى الدلالة القرآنيّة، وليس العكس؛ لأنّ التطبيق عرفاً يُفهم منه أنّ العنوان هو المطبَّق.
يقول السيّد فضل الله في كتابه «رسالة في الرضاع»: «إنّ لدينا منهجاً في التعامل مع الروايات والآيات القرآنيّة، وهو منهج عامٌّ يتّصل بالقرآن وبالروايات الواردة عن أهل بيت العصمة؛ بحيث نستفيد من بعضها أحكاماً ومفاهيم عامّة تكون هي الأساس في مختلفة الموارد والتطبيقات؛ فإنّ تعاملنا معها يختلف عمّا هو المعهود لدى علماء الأصول»([xiii]).
وقد اتّبع السيّد فضل الله هذا المنهج في جُملة من المسائل:
(e) أ ـ روايات الغناء
يقول السيّد فضل الله: «عندما نلاحظ أنّ الأئمّة يفسّرون «قول الزور»([xiv]) بالغناء، أو يطبّقونه عليه، كما يفسّرون «لهو الحديث»([xv]) بذلك ويطبّقونه عليه، أيضاً، نعرف أنّ الغناء المحرّم يدور مدار صدق هذين العنوانين: «قول الزور»؛ و«لهو الحديث». وبعد ذلك لا نستطيع أن نأخذ بإطلاقات أدلّة تحريم الغناء، حتّى ولو كان مضمونه حقّاً. لماذا ذلك؟ لأنّنا فهمنا من خلال استشهاد الإمام× بالآية القرآنيّة؛ لتحريم الغناء، أنّ مورد الحرمة هو ما تنطبق عليه الآية القرآنيّة، ليكون الغناء المحرّم هو ما كان مصداقاً لقول الزور أو لهو الحديث، وخاصّة أنّ موضوع([xvi])حرمة الغناء هو الغناء الموجود في زمانهم^ في مجالس الخلفاء ومحافل المغنّين، والذي يتناسب مع عالم أهل الفسوق، وعندئذٍ لا محالة يتضمّن كلماتٍ هي مصداق للعناوين القرآنيّة…».
وهنا نجد أنّ السيّد فضل الله يرفض طريقة الفقهاء في الجمع بين دلالة القرآن ودلالة السنّة، ليعتبروا ـ مثلاً ـ أنّه «وإن لم يكن الغناء من قول الزور فالإمام يتعبّدنا بجعله من مصاديقه، بحيث يريد توسعة الحكم بلسان توسعة الموضوع»، ويرى بأنّ «الزور ـ الذي هو المناط في الحكم بالحرمة ـ متعلّق بالقول مع الطريقة الخاصّة، وليس متعلّقاً بالطريقة وحدها»([xvii]) ـ كما يحاول بعض الفقهاء استفادة ذلك ـ.
وبذلك نجد أنّ السيّد فضل الله، وإن التقى مع بعض العلماء في النتيجة، كما يُنقل عن الفيض الكاشاني، إلا أنّه اختلف في طريقة الاستدلال، والذي تميّز فيه بارتكازه على قاعدة عامّة في علاقة العناوين القرآنيّة بما ورد في تطبيقات السنّة. وهذه القاعدة شكّلت عند السيّد فضل الله مدخلاً مهمّاً في توجيه إطلاقات السنّة، وأمّنت ـ بنظره ـ آليّة لضبط تفلّت مدى الإطلاقات التي يشعر معها المتأمّل في كثير من الأحيان أنّها ليست بهذا المستوى من الاتّساع، ولكنّه لا يستطيع تجاهها شيئاً؛ لأنّ القواعد الأصوليّة تربط الإطلاق بخلوّ اللفظ أو العنوان عن القيد.
(f) ب ـ روايات النرد والشطرنج
المعروف بين الفقهاء حرمة هذين النوعين من الآلات ولو لم يُلعب بهما القمار؛ فلا تتقيّد حرمة اللعب بتلك الآلات بالرهن، أو بما يكون فيه اللعب قماريّاً.
ويرى السيّد فضل الله أنّ روايات تحريم النرد والشطرنج([xviii]) ناظرة إلى المفهوم القرآني في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾(المائدة: 90). ونحن عندما نعرف أنّ الميسر من المفاهيم العرفيّة الواضحة، وهو عبارة عن القمار؛ فما لم يكن قماراً لا يكون ميسراً؛ لأنّ القمار والميسر من المفاهيم المتساوية لدى العرف، فكلّ ما يكون ميسراً لا بدّ أن يكون قماراً. ويخلص السيّد فضل الله إلى أنه لـ «تطبيق الآية على موضوع خارجيّ، والذي يكون مفهوماً بصورة معيّنة، مع احتمال أن يكون بنحوٍ آخر، لا بدّ أن يكون مورد التطبيق منسجماً مع المفهوم القرآني، ولا يكون حينئذٍ موجباً لتوسعة موضوع؛ إلا إذا كان ذلك بلسان التخصيص الصريح»([xix]). وتبرز هنا الشخصيّة الأدبيّة للسيّد فضل الله حين يُشكل على «ما يقوله علماء الأصول في باب الحكومة، من توسعة الموضوع وتضييقه»، حيث يعتبر أنّه «إذا كان لا يرجع إلى التخصيص صراحة فلا واقع له أصلاً. فقولهم^: «لا شكّ لكثير الشكّ»، أو «الطواف في البيت صلاة»، ممّا يعتبره الأصوليّون من باب التنزيل لتوسعة الموضوع، لا نوافق عليه، وإنّما هذا يرتبط بالجانب الشكلي التعبيري، فـ «لا شكّ» يعني لا حكم لكثير الشكّ، وحكم الطواف هو حكم الصلاة؛ وهذا يكون من اختلاف الصورة، أي اختلاف التعبير، كما في التعبير بقولهم: زيدٌ عدلٌ، فإنّهم يريدون المبالغة في ذلك»([xx]).
وبذلك تكون نتيجة العنوان القرآني على روايات النرد والشطرنج وغيرهما أنّه إنّما يحرم من اللعب ما ينطبق عليه عنوان الميسر، وهو ما يكون برهنٍ، دون ما لو كان لمجرّد التسلية.
(g) ج ـ البلوغ
موضوع البلوغ من المواضيع المهمّة فقهيّاً، ويترتّب عليه انتقال الذكر أو الأنثى من حالة الصبا إلى حالة المسؤوليّة والمخاطَبة بالتكاليف الشرعيّة بشكل مستقلّ إجمالاً بالنسبة لأولياء الأمور. ولهذا الموضوع تحديده الشرعي الذي قد يلتقي وقد لا يلتقي مع المعنى العُرفي الذي يربط البلوغ بنضوج الجسد من الناحية الجنسيّة، أي القابليّة لإنشاء العلاقة الجنسيّة. فمن الممكن التفكيك ابتداءً بين الوجهتين، العرفيّة والشرعيّة، ليُقال ـ مثلاً ـ بأنّ للشريعة الحقّ بتعليق المخاطبة بالتكاليف على أساس موضوع معيّن. وقد اشتهر الرأي القائل بأنّ الفتاة تبلغ بالتاسعة هجريّة، مع أنّ الحيض يتأخّر عند الفتاة عن هذه السنّ غالباً، وقد استند هذا الرأي إلى بعض الروايات التي فُهم منها إطلاق السنّ عن الحيض.
ولكنّ السيّد فضل الله ـ وفق منهجه ـ يعتبر أّنّ العنوان القرآني، وهو «بلوغ النكاح»([xxi])، و«بلوغ الحلم»([xxii])، وحتّى «بلوغ الأشدّ»([xxiii])، يحكم إطلاقات الأحاديث الواردة في السنّة، بحيث لا يمكن استفادة إطلاق الحكم بالبلوغ بتسع سنوات من دون أن تكون حائضاً؛ فكأنّ القرآن ـ بدلالته الواضحة ـ يضيف إلى السنّة قيداً، حتّى يتحقّق التجانس بين دلالة الآية ودلالة الرواية.
يقول السيّد فضل الله في بحث البلوغ: إنّ «قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ﴾، وقوله عزّ وجلّ: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطفَالُ مِنكُمُ الحُلُمَ﴾، وكذا ما ورد في السنّة الشريفة، من قوله|: «لا يُتم بعد احتلام»، أو «رفع القلم عن الصبيّ حتّى يحتلم»، وغيرها ممّا هو وارد مورد بيان القاعدة في البلوغ، مع عدم إشارة القرآن إلى سنّ معيّنة، كلُّ ذلك يستفاد منه أنّ العنوان الأساسي في البلوغ هو النضوج الجنسي. وبحسب المنهج الذي ارتأيناه في علاقة العناوين القرآنيّة الثابتة بالعناوين المتحرّكة الواردة في السنّة فإنّ هذا العنوان يحكم كلّ ما ورد في الروايات من عناوين تحدّد البلوغ بها، ممّا يكون بإطلاقه اللفظي شاملاً لما تحقّق معه العنوان وغيره. وبعبارة أخرى: إنّ ما ورد في السنّة الشريفة من تحديدات للبلوغ بسنّ معيّنة، كالتسع والعشر والثلاث عشرة، أو في الذَّكَر بالثلاث عشرة والأربع عشرة والخمس عشرة وغيرها، محكومة بالعنوان القرآني الذي هو وارد مورد القاعدة، ما يعني أنّ دائرة إطلاق تلك العناوين ـ الواردة في السنّة ـ ينبغي أن تقيّد بالعنوان القرآني، لا أن تتمّ توسعة البلوغ إلى ما لا يتحقّق معه ذلك العنوان، كما قرّبه الفقهاء فيما سمّي باب الحكومة»([xxiv]).
(h) د ـ كيفيّة الغسل
ذهب المشهور من الفقهاء، إن لم يكن إجماعاً، إلى أنّ ثمّة نوعان من الغسل: الأوّل: ترتيبي، ويقضي بغسل الرأس والرقبة ثمّ الجسد، متفرّقاً أو بالجملة؛ والثاني: ارتماسي، ويقضي برمس الجسد كلّه بالماء دفعة واحدة. وقد فرّع الفقهاء على هذا الاختلاف جملة من الأحكام، من ضمنها ـ مثلاً ـ أنّه لو أحدث بالأصغر أثناء الغسل، وأعاده ترتيباً، وجب عليه التوضّؤ بعده ـ على خلافٍ في هذه المسألة ـ، وأمّا لو أعاده ارتماساً فليس عليه أن يتوضّأ بعده.
وقد لاحظ السيّد فضل الله ـ في ما فهمتُه من بعض مذاكراتي معه ـ أنّ العنوان القرآني أتى مطلقاً، وهو قوله تعالى: ﴿وَإِن كُنتُم جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا﴾ (المائدة: 6) المتوسّط بين تفصيلين: الوضوء والتيمّم، وهو أيضاً قوله تعالى: ﴿وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغتَسِلُواْ﴾ (النساء: 43)، حيث الأمر بالتطهّر والاغتسال مطلقٌ، وللعرف تجاهه فهمه الواضح، بل المُمارس طبيعيّاً. وهذا الفهم حكم ـ لدى السيّد فضل الله ـ فهمه للحديث في الروايات عن الترتيب والارتماس، حيث إنّه ـ بمعزل عن طبيعة اللسان الذي لا يسمح كثيراً بالتفريق على النحو الذي ذهب إليه الفقهاء ـ يمكن أن يُفهم أن كلا الكيفيّتين هما من المصاديق الخارجيّة للعنوان الأساس، وهو التطهّر والاغتسال الذي هو واضح لدى العرف، وهذه النتيجة يمكن أن تُلقي بظلالها على الأحكام المترتّبة على التفريق.
والأمثلة على ذلك كثيرة أيضاً، ومتنوّعة بتنوّع الأبواب الفقهيّة.
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ حضور القرآن عند السيّد فضل الله في الاستدلال المباشر على ما تعرّض له القرآن أمرٌ واضح لا يحتاج إلى بحثٍ كبير، ولكنْ ينبغي فهم الفرق عند السيّد فضل الله بين الرجوع إلى القرآن في محاولة استظهار الحكم الشرعي، أو فهم مفاد الآيات المتعلّقة بالمسألة الشرعية، وبين المنهج الذي أشرنا إليه؛ إذ في النحو الأوّل لا يختلف السيّد فضل الله عن غيره إلا صغرويّاً، أي في اختلاف الفهم، بينما هنا يتميّز السيّد فضل الله كُبرويّاً، وعلى مستوى القاعدة.
وعلى سبيل المثال: إنّ محاولة استفادة السيّد فضل الله وجوب الخلع على الرجل إذا بذلت المرأة من قوله تعالى: ﴿فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللّهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ﴾ يندرج في إطار القاعدة التي يتحرّك عليها الفقهاء، وأصّلوها في علم أصول الفقه، وهي حجّية الظهور، بما يعنيه ذلك من ملاحظة كلّ القرائن الحاليّة والمقاليّة، والتي لاحظ السيّد فضل الله هنا أنّها لصالح القول بالوجوب، طالما أنّنا نفترض أنّ الآية واردة لحلّ المشكلة، وهي مشكلة عدم انسجام الحياة الزوجية مع حدود الله، فلو بقي عندئذٍ الطلاق بيد الزوج مع بذل الزوجة فلا تُحلّ المشكلة. وهنا سيكون اختلاف السيّد فضل الله مع غيره في فهم الآية وتحديد الظهور وطبيعة القرائن المحتفّة باللفظ في هذا المجال.
أمّا عندما يجعل السيّد فضل الله آية «بلوغ النكاح»، أو «قول الزور» و«لهو الحديث»، مثلاً، أساساً لتحديد إطلاقات الروايات فهذا يمثّل قاعدة جديدة، لا يتحرّك وفقها الفقهاء في ما عُهد من بحوثهم الأصوليّة وتطبيقاتهم الفقهيّة. وهو ـ في الحقيقة ـ بابٌ جديد لا بدّ للبحث الأصوليّ من الانفتاح عليه نقداً وتطويراً، ممّا يمكن أن يؤسّس لقواعد جديدة في علاقة القرآن والسنّة في البحث الفقهي، وربما في غيره، وينعكس بالتالي نتائج مهمّة على صعيد البحث الفقهي والفكري والعقيدي وما إلى ذلك ممّا تعرّض له القرآن، وشكَّل نقاط خلاف لدى العلماء، تبعاً للتضارب في الروايات، التي تمّ التعامل معها بمعزل عن مرجعيّة القرآن المعيّاريّة التي طرحها السيّد فضل الله، ومارسها عمليّاً.
(i) القاعدة تشمل قواعد السنّة
اتّضح من المثال الثالث أنّ هذه القاعدة لا تقتصر على العناوين القرآنيّة، بل يُمكن تطبيقها ـ بحسب السيّد فضل الله ـ على العناوين الواردة في السنّة، والتي وردت مورد القاعدة، كما في حديث النبيّ|: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»([xxv]). ويقول السيّد فضل الله في توجيه ذلك: «فلو ورد عندنا بعض الروايات التي تثبت الحرمة من جهة الرضاع بما لا يكون عنواناً نسبيّاً فإنّنا نتوقّف في هذا الموضوع؛ باعتبار أنّه ما دام قوله|: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» كالقاعدة العامّة ـ وإن كانت نبويّة ـ، ولذا ورد تطبيقها في كثير من الروايات، كما في حديث طويل لبريد العجلي، قال: «سألت أبا جعفر× عن قول رسول الله|: يحرم…»، الذي فيه عبارات مثل: «فذلك الذي قال رسول الله |…»، ومثل: «فإنّ ذلك الرضاع ليس بالرضاع الذي قال رسول الله |…»؛ ولذا فيكون مضمون هذا الخبر قاعدة عامّة، وقد انطلق الأئمّة والفقهاء في تفريعاتهم من خلاله»([xxvi]).
وعلى أساس ذلك توقّف السيّد فضل الله في قضيّة «لا ينكح أبو المرتضع في أولاد صاحب اللبن»؛ لأنّ الرضاع في هذا المورد لا يوجد علاقة كالعلاقة النسبيّة، وبالتالي فلا يحرم به ما يحرم بالنسب.
(j) معنى آخر لحاكميّة القرآن
يقرّر الفقهاء أنّ أيّ دليلٍ يفقد حجّيته إذا خالف القرآن، وبالتالي يكون المضمون القرآني هو أحد أهمّ عناصر الضبط لوثاقة مضمون السنّة، وهو مقدّم على وثاقة سند الرواية. وليس في هذا إشكالٌ بين جميع الفقهاء.
ولكنّ المشكلة تبدأ في تحديد طبيعة المخالفة؛ حيث يُلاحظ السيّد فضل الله على الاستنباط الفقهي عموماً طغيان «المنهج العقلي الذي يستخدمه البعض في فهم النصّ، بما يُبعده عن الفهم العرفي الذي يرتكز عليه وعي المضمون في اللغة العربيّة على أساس الظهور…»، ويعتبر أنّ هذا المنهج «حصر مخالفة القرآن بمنطوقه فحسب؛ فإذا لم يصطدم منطوق الحديث بمنطوق القرآن فلا مشكلة؛ بل يُصار ـ لديهم ـ إلى التخصيص».
(k) أ ـ رفض روايات كراهة التزويج من أقوام
ولذلك عمدوا ـ على سبيل المثال ـ إلى الجمع بين قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء: 70) وبين الأحاديث الواردة في عدم تزويج الأكراد والزنج وأمثالهما بإخراج هؤلاء من دائرة التكريم؛ لأنّ الآية لا تدلّ ـ بحسب فهمهم ـ «على شمول التكريم بكلّ ألوانه وأشكاله أو لكلّ الأشخاص، فلا مانع من تقييده ببعض الأشخاص أو ببعض حالات التكريم».
ويرى السيّد فضل الله ـ في هذه المسألة ـ أنّ «الفهم العرفي يستفيد من هذه الفقرة من الآية فكرة أنّ الله يتحدّث عن تكريم الإنسان من خلال إنسانيّته، باعتبارها القيمة التي يملك فيها الإنسان الفضل على كثير من المخلوقات، ما يجعل من أيّ تشريع يهبط بقيمة الإنسان من حيث ذاته، انطلاقاً من نسبه أو قوميّته، مخالفاً للآية الكريمة، وذلك باعتبار أنّ المخالفة للقرآن تمثّل المخالفة لمفاهيمه، وفي ضوء ذلك فإنّه يكون مخالفاً لروح الشريعة»، مع تأكيده على أنّه لا يُراد بروح الشريعة «الروح التي يستوحيها الإنسان في تفكيره الذاتي غير المرتكز على ظهور أو نصّ، بل الروح التي يستوحيها من الكتاب والسنّة، كما في الفقرة المذكورة في هذه الآية»([xxvii]).
(l) ب ـ حقّ المرأة الجنسي
ومن خلال ذلك يرفض السيّد فضل الله الالتزام بالروايات التي حدّدت حقّ المرأة الجنسي تجاه الرجل كلّ أربعة أشهرٍ مرّة؛ وذلك اعتماداً على بعض الروايات([xxviii]) في هذا المجال. حيث يرى السيّد فضل الله أنّ هذه الروايات تصطدم بمبدأ المعروف الذي جعل القرآن الكريم الحياة الزوجيّة دائرة مداره، حيث قال تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾(البقرة: 229)، وقال تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾(النساء: 19)، وقال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَة ﴾(البقرة: 228). حيث بعد أن يستقرب السيّد فضل الله أن المراد بالدرجة درجة الطلاق، أو القوامة بصورة عامّة، يقرّر أنّ المفهوم من كلمة «المعروف» أنّ «حقّ المرأة في الجنس بالنسبة إلى الرجل كحقّ الرجل بالنسبة إلى المرأة، وخاصّة إذا لاحظنا أنّ الجانب الجنسي هو الأساس في الزواج؛ لأنّه لا معنى لأن تتزوّج المرأة حتّى تجد شخصاً يوفّر لها الطعام. والحاصل أنّ الجنس غريزة خلقها الله في المرأة والرجل… فكما أنّه يمثّل حاجة هنا فإنّه يمثّل حاجة هناك، وبالتالي فكما يجب على المرأة أن تستجيب كلما أراد الرجل كذلك يجب على الرجل أن يستجيب كلّما أرادت المرأة، إلا أن تكون هناك حالة مرضيّة أو حالة إعياء أو عذر شرعي وما إلى ذلك من العناوين»([xxix]).
ونحن قد أوردنا هذه المسألة هنا، مع إمكان أن تُجعل وفق المعنى الأوّل لحاكميّة القرآن ـ مما تعرّضنا له آنفاً ـ؛ لأنّ من الممكن ادّعاء أنّ مرجعيّة القرآن هنا تضرب أصل حجّية الروايات المخالفة، لا أنّ القرآن يضبط مدى دلالة السنّة بعد الفراغ عن حجّيتها.
وعلى أيّة حال فبإمكان البحث الفقهي أن يتعمّق في مسألة مرجعيّة القرآن الفقهيّة ليصل إلى صوغ قاعدة عامّة تكون كلّ هذه المفردات التي فصل بينها الاصطلاح الأصوليّ والفقهيّ، تكون كلّها مصاديق لقاعدة واحدة.
(m) ج ـ الحيل الشرعية
ويطرح السيّد فضل الله ـ في إطار هذا المعنى لحاكميّة القرآن ـ الإشكال على مسألة أخرى، وهي مسألة ما يُعرف بالحيل الشرعية؛ حيث ينطلق القائلون بها من «قاعدة أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها؛ فإذا استطعنا أن نغيّر الموضوع فإنّ الحكم يتغيّر… والحيل الشرعية تنطلق من إيجاد بعض الأساليب التي تخرج الموضوع من موضوعيّته المحدّدة، لنحصل على حكم جديد»([xxx]).
وربما كانت هذه المسألة، أو هذه الحيل، سبيلاً يلجأ إليه الفقهاء تجاه بعض مستجدّات العصر، كما في المعاملات المصرفيّة الربويّة التي تكون خاضعة لاشتراط الزيادة، فيحتالون في تحويل المعاملة إلى بيع وشراء، بحيث يبيع أحد المتبايعين الآخر ما قيمته ألف ليرة مثلاً بعشرة آلاف ليرة، ففي هذه الحالة لا تكون المعاملة ربويّة؛ إذ لا مانع ـ بحسب ما يبيّنه كثير من الفقهاء ـ أن يشتري الإنسان شيئاً يساوي درهماً ـ مثلاً ـ بألف درهم إذا كانت الظروف المحيطة تقتضي شراء الشيء بثمن أكبر، كما في المثال المعروف: نذر شخص أن يبيع جملاً بدرهم، وعندما أراد أن يفي بنذره حار كيف يفعل، فذهب إلى الفقيه فلفته إلى أن يبيع الجمل مع القلادة بألف درهم، مع العلم أنّ القلادة لا تساوي ألف درهم، وبهذا فإنّه يكون قد وفى بنذره حيث باع الجمل بدرهم من خلال ضمّ القلادة له التي تساوي قيمة الجمل الحقيقيّة.
وإذ يقرّ السيّد فضل الله أنّ «القائلين بهذا المعنى قد يستندون إلى بعض الأحاديث التي جاءت عن أهل البيت^ يرى بأنّه «لو ثبت عندنا دليل على بعض هذا فعلينا أن نلتزم به في مورده تعبّداً، وأن نرجع في غيره إلى القواعد العامّة التي هي قواعد عقلائيّة، فإنّ العقلاء يعدّون مثل هذه المعاملات (الحيل) خارجة عن الأصول المتّبعة بالعنوان الذي تتحرّك فيه؛ لأنّهم يرون أنّ المعاملة هذه لا قصد فيها».
ويبرز موقع القرآن في إشكال السيّد فضل الله على ما سمّي «الحيل الشرعيّة»، حيث يقول: «لعلّنا نستوحي ذلك من توبيخ الله لليهود بعد «الحيلة الشرعية» التي قاموا بها عندما حرّم الله عليهم الاصطياد في يوم السبت، حيث وضعوا حظائر يتجمّع فيها السمك يوم السبت، لتبقى في الشباك حتّى يصطادوها يوم الأحد، فوبّخهم الله على ذلك، ممّا يوحي بأنّه تعالى يريد من تكاليفه أن تؤخذ من الواقع، لا من خلال الشكل»([xxxi])، في إشارة منه إلى قوله تعالى: ﴿واسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَة الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَة الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ﴾(الأعراف: 163).
والسيّد فضل الله وإن كان لا يجزم في الموضوع هنا فإنّ مجرّد الإشارة إلى هذا الجانب يفتح باباً لتفكير مختلف حول المخالفة للقرآن الكريم، ممّا يُمكن أن ينفتح عليه التفكير الفقهي بشكل وبآخر.
يبقى أن نؤكّد أخيراً أنّ هذا المبدأ، أعني حاكميّة القرآن، إذ يؤسّس له السيّد فضل الله في ممارسته الاجتهاديّة العمليّة، فهو يضع اللبنة الأساسيّة لإعادة بلورة قواعد الفهم والاجتهاد الإسلامي عامّة، سواء في المجال الفقهي أو العقيدي، في الدائرة المذهبيّة التي ينتمي إليها أو في الفضاء الإسلامي العام؛ لأنّ الحديث الوارد في السنّة، سواء كان وارداً عن النبيّ| أو عن الأئمّة أو عن الصحابة2، يحتاج إلى نصّ معياري، أو مرجعي، يضبط المضمون؛ إذ أثبت الاكتفاء بالمعيار السندي للحديث فحسب أنّه لا يملك المتانة المطلوبة في عمليّة اكتشاف النظريّات الإسلاميّة، فقهيّة كانت أم غيرها.
هذه المنهجيّة رأيناها جليّة عند السيّد فضل الله في بحوثه العقيديّة، والتي كان يرجع فيها إلى القرآن ليضبط من خلالها تناقضات الروايات، ولاسيّما مع اتّساع احتمالات الوضع والكذب في مثل هذه المواضيع؛ نظراً لاحتدام الصراعات المذهبيّة والدينية عموماً خلال التاريخ، ما دفع كثيرين من ضعاف العلم إلى ابتداع أحاديث نسبوها إلى النبيّ| تارة، وإلى الأئمّة أخرى، وإلى بعض الصحابة2 ثالثة؛ لأجل تأكيد فكرة هنا أو هناك.
وفي اعتقاد الكثيرين فإنّ السيّد فضل الله فتح الباب واسعاً أمام التفكير الأصولي في ما يتعلّق بموقع القرآن في عمليّة الاستنباط الفقهي والعقيدي والفكري عموماً، والذي يحتاج إلى توفّر كثير من الجهود لأجل بلورته ومراكمة التفكير حوله، للخروج بتطوّر مهمّ في نتائجه، بدا السيّد فضل الله طليعيّاً في كثير من مفرداته.
يتبع…
____________________________
(*) باحث وكاتب، وأستاذ في الحوزة العلمية، من لبنان.
([i]) استخدمنا مصطلح التشيّع هنا مع إشارتنا إلى مرحلة زمنيّة لم يكن قد تشكّل فيها هذا المصطلح في المجال الإسلامي، ولكن اعتمدنا على مآل الأمور في ذلك، باعتبار أنّ التشيّع انطلق ـ على المستوى الفكري العقدي ـ من خلال الاختلاف في مسألة الخلافة والإمامة، وقد شكّلت الإمامة المصدر الأساس للتشيّع لاحقاً، بدءاً من الإمام عليّ× وحتّى الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر#، ما مكّننا من استخدام المصطلح كإشارة إلى هذه المدرسة الفكريّة التي يعتقد المسلمون الشيعة أنّها تمثّل الامتداد الطبيعي لما أتى به رسول الله|.
([ii]) الكليني، الكافي 2: 382 ـ 383.
([iii]) السيّد محمد حسين فضل الله، الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل: 130، المركز الثقافي العربي، ط1، 2009م.
([iv]) المصدر السابق: 140 ـ 141.
([xi]) يُمكن في هذا الصدد مراجعة كتاب: البلوغ (تقرير بحث السيّد فضل الله، بقلم: جعفر فضل الله)، دار الملاك، بيروت، لبنان.
([xii]) الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل: 194.
([xiii]) السيد محمد حسين فضل الله، رسالة في الرضاع: 30، ط2، 2005، دار الملاك، بيروت، لبنان.
([xiv]) كما في ما رواه زيد الشحّام، قال: سألت أبا عبد الله× عن قوله عزّ وجلّ: ﴿وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّور﴾؟ قال: قول الزور الغناء (راجع: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 17: 303، ح2، مؤسسة آل البيت^ لإحياء التراث، بيروت، لبنان).
([xv]) كما في ما رواه سهل بن زياد، عن الوشا، قال: سمعت أبا الحسن الرضا× يُسأل عن الغناء، فقال: هو قول الله عزّ وجلّ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الحَدِيثِ لِيُضِلَّ عِنْ سَبِيلِ الله﴾ (راجع: الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، 17: 306، ح 11).
([xvi]) لعلّ المقصود هو أنّ موردها ذلك.
([xviii]) راجع: وسائل الشيعة 17: 323 وما بعدها، باب تحريم اللعب بالنرد وغيره من أنواع القمار.
([xix]) رسالة في الرضاع: 33 ـ 34.
([xxi]) في قوله تعالى: ﴿وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ﴾ (النساء: 6).
([xxii]) في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا..﴾.
([xxiii]) في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾.
([xxiv]) البلوغ، (تقرير بحث المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله، بقلم: السيّد جعفر فضل الله): 174 ـ 175.
([xxv]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع.
([xxvii]) الاجتهاد بين أسر الماضي وآفاق المستقبل: 245 ـ 246.
([xxviii]) من قبيل: «سئل الرضا× عن الرجل تكون عنده الزوجة الشابّة فيتركها لا يريد الإضرار بها، ولكن تكون لهم المصيبة، فهل يكون آثماً في ذلك، ومتى يكون آثماً؟ فأجابه الإمام× بأنّه إذا تركها إلى أزيد من أربعة أشهر يكون آثماً» (وسائل الشيعة 14: 100، ح1)، وغيرها.
([xxix]) الشيخ جعفر الشاخوري، كتاب النكاح (تقريراً لبحث العلامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله) 1: 169 ـ 170، دار الملاك، بيروت، لبنان، 1996م.