أحدث المقالات

دراسة فقهية استدلالية حول مفهوم

 الجدال وأحكامه

حيدر حب الله*

تمهيد

من جملة تروك الإحرام في الحج «الجدال»، وقد دلّت على حرمته نصوص الكتاب والسنّة:

أ ـ أمّا الكتاب، فقوله تعالى: {الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ}([1]).

ب ـ وأمّا السنّة، فجملة من الروايات، ومنها ما هو معتبر السند مثل: خبر عبد الله بن سنان، في قول الله عزوجلّ: {وَأَتِمُّواْ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ للهِ}([2])، قال: «إتمامها أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج»([3]).

كما استدلّ على الحكم بالإجماع أيضاً، وهو وإن كان منعقداً بين المسلمين قاطبةً، إلّا أنّه مدركيّ، فلا يكون بنفسه دليلاً، بل المدرك هو الآيات والروايات، والبحث في الجدال يقع ضمن مباحث ومحاور:

1ـ مفهوم الجدال المحرّم

ما هو الجدال الذي حرّمته الآية؟ ما معناه؟ وما المراد به؟

الذي يبدو أنّ المسلمين انقسموا إزاء هذا الأمر، فقد ذهب مشهور فقهاء أهل السنّة([4])، إلى أنّ المراد بالجدال معناه اللغوي، وهو النزاع والمخاصمة و… ممّا هو معروف، أمّا فقهاء الشيعة([5]) فقد ذهبوا ـ أكثرهم ـ إلى أنّ المراد به قول: «لا والله وبلى والله»، فكأنّ الجدال عندهم اتخذ معنى شرعياً جديداً، خرج به عن معناه اللغوي، فبعد أن كان يعني النزاع والخصومة لغةً، صار يعني شرعاً هاتين الكلمتين، سواء كان هناك نزاع وخصومة أم لا؟

وقد وقع جدل بين فقهاء الإماميّة، انطلاقاً من التفسير المذكور، حول نقطتين:

الأولى: هل المحرّم هو هاتان الكلمتان معاً، أم أنّ الواحدة منهما تكفي؟

الثانية: هل المحرّم هو خصوص هاتين الكلمتين، أم المراد بهما الإشارة إلى مطلق اليمين حتّى لو كان بغير الصيغتين المذكورتين؟

بدورنا سنركّز بحثنا على النقطة التالية: أيّ من التفسيرين هو الصحيح لمفهوم الجدال؟ هل المعنى اللغوي أم اليمين؟ ما هو مدرك النظرية الثانية؟ وهل يمكن تصوّر نظريّة ثالثة أو رابعة في البين أم لا؟

ونتعرّض ـ بدايةً ـ لمدرك النظرية الأولى، ثمّ نعرّج على مدرك النظريّة الثانية، لنخرج بنتيجة نهائيّة في الموضوع بعون الله سبحانه.

مستند نظرية التفسير اللغوي للجدال

الذي يبدو أنّ المستند الرئيس للنظرية القائلة بأنّ الجدال المحرّم في الحجّ هو النزاع والمخاصمة، هو اللغة العربية، فالمصادر اللغوية تُجمع ـ حسب الظاهر ـ على أنّ الجدال في اللغة يعني النزاع والخصومة والحوار الصاخب وأمثال ذلك([6])، حتّى أنّ أصحاب النظرية الثانية أنفسهم أقرّوا بأنّ المعنى اللغوي قائم على ذلك، وأنّ نصوص السنّة هي التي دفعت إلى تبنّي القول الثاني، ولولاها لأخذنا بهذا المعنى في تفسير الآية الكريمة([7]).

ولا شك في صحّة هذا الكلام، وأنّ هذا التفسير هو المتعيّن، غير أنّ المفروض مراجعة نصوص السنّة قبل البتّ بالموضوع، انطلاقاً من كونها مرجعاً ثانياً مع القرآن الكريم، لننظر: هل في السنّة الشريفة ما يفرض ـ منطقيّاً ـ العدول عن هذا التفسير الصائب في حدّ نفسه أم لا؟

ومعنى ذلك أن صحّة النظريّة الأولى صحّة معلقةٌ على الفراغ عن رصد مستندات النظرية الثانية، وهو ما سنقوم به الآن إن شاء الله تعالى.

مستند نظرية التفسير الشرعي للجدال

الظاهر أنّ المستند الوحيد الذي ينبغي التعرّض له للتفسير الشرعي للجدال هو الروايات الشريفة، فإنّ الإجماع هنا واضح المدركية، فلا يعتمد عليه، كما أنّ النص القرآني لا يدلّ عليها وفق ما أشرنا، ولا سبيل لدليل العقل في الميدان حسب ما يبدو لنا.

وعليه، فلابدّ من استعراض نصوص السنّة الواردة هنا، للوصول منها إلى نتيجة، وهذه النصوص هي:

الرواية الأولى: صحيحة معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبد الله×: «إذا أحرمت فعليك بتقوى الله، وذكر الله، وقلّة الكلام، إلّا بخير، فإنّ تمام الحجّ والعمرة أن يحفظ المرء لسانه إلّا من خير، كما قال الله عزّوجل، فإنّ الله عزّوجلّ يقول: ﴿فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ﴾([8])؛ فالرفث: الجماع، والفسوق: الكذب والسباب، والجدال: قول الرجل: لا والله وبلى والله»([9]).

ومن الواضح أنّ الرواية بصدد بيان معنى ما ورد في الآية، أي أنّها ناظرة إليها نظرةً تفسيرية، وتريد أن تشرح معناها، وليست في مقام بيان الحكم الشرعي فقط بقطع النظر عن الآية، بل الرواية ناظرة إلى الآية، فهي تحوي ـ إضافة إلى بيان الحكم الشرعي ـ تفسيراً للآية ونظراً إليها، ممّا يفرض جعل مدلول الآية بالمعنى الذي تنصّ عليه الرواية، فالخبر تامّ السند والدلالة.

الرواية الثانية: صحيحة علي بن جعفر قال: سألت أخي موسى× عن الرفث والفسوق والجدال ما هو؟ وما على من فعله؟ فقال: «الرفث: جماع النساء، والفسوق: الكذب والمفاخرة، والجدال: قول الرجل: لا والله وبلى والله…»([10]).

وحال هذه الرواية كحال سابقتها وإن لم يرد فيها ذكر الآية، ذلك أنّ السؤال عن هذه الثلاث بهذا الترتيب ظاهر في أنّ نظر علي بن جعفر إلى الآية نفسها، وأنّ الإمام لمّا فسّر الثلاث يكون قد فسّر الآية، وتكون النتيجة مطابقة لما استفدناه من الرواية الأولى.

الرواية الثالثة: صحيحة معاوية بن عمّار، وهي مثل الرواية الأولى، إلّا أنّه جاء في آخرها: وسألته عن الرجل يقول: لا لعمري وبلى لعمري؟ قال: «ليس هذا من الجدال، وإنّما الجدال: لا والله وبلى والله»([11]).

وهذه الرواية يبدو أنّها عين الرواية الأولى، وليست روايةً ثانية؛ لاشتراكها معها في مقطع كبير، مع وحدة الراوي، لكن المهم فيها أنّ الإمام× نفى أن يكون من الجدال قول: «لعمري وبلى لعمري»، مستخدماً لحصره في (لا والله وبلى والله) كلمة «إنّما»، وهذا ما يفيد كون الجدال ـ حصراً ـ خاصاً بهذين التعبيرين، وأنّ الموضوع ليس موضوع نزاع ومخاصمة، وهذه دلالة إضافية، أي دلالة الحصر، تعطينا إيّاها هذه الرواية.

اللهم إلّا إذا قيل: إنّ الحصر هنا إضافي بلحاظ ما سبق، لا حقيقي لنفي المفهوم اللغوي ([12]).

الرواية الرابعة: خبر زيد الشحّام قال: سألت أبا عبد الله× عن الرفق والفسوق والجدال؟ قال: «أمّا الرفث فالجماع، وأمّا الفسوق فهو الكذب، ألا تسمع لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ﴾([13])، والجدال هو قول الرجل: لا والله وبلى والله، وسباب الرجل الرجل»([14]).

ونواجه مع هذه الرواية:

أوّلاً: إنّ الرواية ضعيفة السند بالمفضل بن صالح الضعيف ([15])، فلا يحتجّ بها.

ثانياً: إنّها تخالف غيرها من الروايات العديدة التامة السند، التي فسّرت الفسوق بالسباب، فإنّنا لم نجد رواية فسّرت الجدال بالسباب، كهذه الرواية، وهذا ما يجعلها معارضةً لصحيحتي: معاوية بن عمّار وعلي بن جعفر وغيرهما.

الرواية الخامسة: خبر العياشي في تفسيره عن معاوية بن عمّار، عن أبي عبد الله×، في قول الله: ﴿الحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ﴾([16]): «والرفث: الجماع، والفسوق: الكذب والسباب، والجدال: قول الرجل: لا والله وبلى والله»([17]).

وهذه الرواية من حيث الدلالة كسابقاتها، إلّا أنّها:

أوّلاً: ضعيفة السند بالإرسال، فلا يحتجّ بها.

ثانياً: إنّ الظاهر منها أنّها عين صحيحة معاوية بن عمّار المتقدّمة، فهي متطابقة الألفاظ، مع وحدة الراوي، ولا دليل على تعدّد الرواية، فلا تقدّم لنا شيئاً إضافياً.

الرواية السادسة: صحيحة معاوية بن عمّار قال: سألت أبا عبد الله× عن رجل يقول: لا لعمري وهو مُحرم؟ قال: «ليس بالجدال، إنّما الجدال قول الرجل، لا والله، وبلى والله، وأمّا قوله: لا ها، فإنّما طلب الإسم، وقوله: يا هناه، فلا بأس به، وأمّا قوله: لا بل شانيك، فإنّه من قول الجاهلية»([18]).

ومن الواضح أنّ الرواية مستغرقة في تفسير الجدال بكلمات، لا بالنزاع والخصومة، فإنّه لو كان الجدال بمعناه اللغوي، لم يكن معنى لهذه الموضوعات مطلقاً، لاسيّما مع استخدامها أداة الحصر «إنّما»، فهي تامّة الدلالة مضافاً إلى تماميّة السند.

الرواية السابعة: صحيحة أبي بصير ـ ليث بن البختري ـ قال: سألته عن المُحرم يريد أن يعمل العمل فيقول له صاحبه: والله لا تعمله، فيقول: والله لأعملنّه، فيخالفه مراراً، يلزمه ما يلزم الجدال؟ قال: «لا، إنّما أراد بهذا إكرام أخيه، إنّما كان ذلك ما كان [لله] فيه معصية»([19]).

والرواية تركّز على مفهوم اليمين في الدلالة، غايته أنّها تحصر ذلك باليمين الذي فيه معصية، وهذا يثبت المبدأ، وهو صيرورة مفهوم الجدال منحصراً في اليمين، وإن كان وقع بحث في تفصيله، وهو قضية المعصية وعدمها([20]).

إلّا أنّ الإنصاف أنّ هذه الرواية لا دلالة لها على المطلوب، وذلك:

أوّلاً: إنّ أقصى ما تفيده دخول بعض الأيمان في مفهوم الجدال، لكنّها لا تنفي المفهوم اللغوي، على خلاف الحال في الروايات السابقة التي التزمنا دلالتها على التحوّل المفهومي شرعاً للكلمة، إما من خلال ظهورها في النظر إلى الآية لتفسيرها بما يصرفها عن المعنى اللغوي، أو استخدام أدوات تفيد المؤدّى نفسه إن لم نقل بإضافة الحصر بلحاظ مثل «لا لعمري» ونحو ذلك.

فنحن نريد هنا، تأكيد تأسيس معنى جديد لكلمة الجدال، كما هي النظرية المشهورة عند الإماميّة، لا اعتبار المعنى اللغوي مع إضافة، فهذا ما لم يذهب إليه المشهور، كما هو ظاهر كلماتهم.

ثانياً: إنّ الرواية ليست ظاهرة في أخذ خصوصيّة اليمين، بل يحتمل فيها جدّاً أن يكون المراد السؤال عن هذه الحالة بوصفها جدالاً بالمعنى اللغوي، أو ممّا يحتمل فيه شبهة الجدال، لاسيّما بقرينة قوله: «فيخالفه مراراً»، ممّا يحتمل معه صرف مفهوم الجدال والخصومة لغةً، ومعه فلا يحرز أنّ المراد منها اليمين وإن استخدمته الرواية، وإنّما فسّرت الرواية بما ينسجم مع سائر الروايات للأنس بالمعنى، وإلّا لو بقينا وإيّاها وحدنا لأمكن جعلها منسجمةً تماماً مع المعنى اللغوي، لاسيّما وأنّها تنفي الحكم في موردٍ لا خصومة فيه، وإنّما سأل السائل لشبهة كون المورد مخاصمة.

فهذه الرواية لا يصحّ التمسّك بها لإثبات ما ذهب إليه المشهور.

الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة: خبر أبي بصير عن أحدهما‘ قال: «إذا حلف بثلاثة أيمان متتابعات صادقاً فقد جادل، وعليه دم، وإذا حلف بيمين واحدة كاذباً فقد جادل، وعليه دم»([21]).

وتقريب دلالتها أنّها تركّز على مفهوم اليمين، حتّى أنّها تميز بين اليمين الصادقة والكاذبة، ممّا يجعلها تنظر إلى الانصراف عن موضوع المعنى اللغوي بحكم الأمر المفروغ منه.

إلّا أنّه مع ذلك يمكن القول بأنّ الرواية لا تنفي المعنى اللغوي، بل توسّع دائرة الجدال، بما يشمل اليمين، فيمكن القول: إنّها ساكتة عن الدلالة اللغوية الموجودة في الآية، غايته أنّها توسّع ـ بالتعبّد والاعتبار على سبيل الحكومة ـ المراد من الجدال المحرّم شرعاً بما يشمل اليمين.

ونحو هذه الرواية خبران آخران لمعاوية بن عمّار ولأبان بن عثمان، عن أبي بصير([22]).

الرواية الحادية عشرة: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر× قال: سألته عن الجدال في الحجّ؟ فقال: «من زاد على مرّتين فقد وقع عليه دم»، فقيل له: الذي يجادل وهو صادق؟ قال: «عليه شاة، والكاذب عليه بقرة»([23]).

إلّا أنّ هذه الرواية لا تدلّ على رأي المشهور أبداً، فهي لا تبيّن حقيقة الجدال، بل تشير إلى أنّه لو وقع كانت كفّارته كذا وكذا، ومجرّد التعبير بصادقاً وكاذباً لا تدلّ على مسألة اليمين، لأنّ الجدال قد يكون صادقاً وكاذباً، فقد يجادل في أمر يرى نفسه على حقّ فيه، وقد يجادل في أمر يعلم أنّه غير محقّ فيه، فتعبير: «صادقاً وكاذباً» كما يصحّ في مورد اليمين، كذا يصح في المعنى اللغوي للجدال، فترجيح احتمال اليمين لا معنى له.

الرواية الثانية عشرة: صحيحة يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله× عن المحرم يقول: لا والله وبلى والله وهو صادق، عليه شيء؟ قال: «لا»([24]).

وتقريب الاستدلال بالرواية أنّها سألت عن الكفّارة، ممّا يرشد إلى مفروغية الحكم بكون هذا التعبير من محرمات الإحرام، وحيث لا مجال لإدخال هذا المورد إلّا في الجدال بقرينة سائر الروايات، كانت هذه الرواية داعمةً لتلك النصوص المناصرة لقول المشهور.

لكن مع ذلك يناقش بأن أقصى  ما تفيده الرواية ـ بالتقريب المتقدّم ـ اندراج اليمين في الجدال، لا تحوّل مفهومه إلى معنى جديد كما عليه المشهور؛ فلا تكون الرواية دالّةً على القول المشهور هنا.

الرواية الثالثة عشرة: خبر إبراهيم بن عبد الحميد عن أبي الحسن موسى× قال: «من جادل في الحجّ فعليه… والفسوق الكذب، والجدال: قول لا والله وبلى والله، والمفاخرة»([25]).

وهذه الرواية مردودة وذلك:

أوّلاً: بضعفها السندي بالإرسال، دون وجود عامل بها، بل الظاهر أنّ الأصحاب هجروها لمخالفتها لروايات كثيرة في صدرها، لا في المقطع الذي نقلناه وهو موضع شاهدنا ([26])، وما ذكره بعض الفقهاء من أن سقوط بعضها لا يسقط حجّية البعض الآخر ([27]) مردود أصوليّاً؛ لأنّ دلالة البعض الساقط لم تسقط لتقية ونحوها ممّا يحتمل معه التبعيض في الحجّية.

وعلى أية حال فهي غير معتبرة السند.

ثانياً: إنّها فسّرت الجدال بالمفاخرة، وهذا ما لم يرد في الروايات الأخرى، نعم ورد في خبر زيد الشحّام المتقدّم تفسير الجدال ـ إضافة إلى الجملتين المعروفتين ـ بسباب الرجل الرجل، وهذا مخالف لدلالة الحصر والسياق الحصري الوارد في الروايات الأخرى، فلعلّه يكون مضعّفاً.

هذه هي الروايات الواردة في المقام قد بلغت ثلاث عشرة رواية، والذي ثبت منها سنداً ودلالة ثلاث روايات فقط، فالرواية الأولى والثالثة واحدة، كما أن الرواية الرابعة والخامسة والثالثة عشرة ضعيفة السند، أمّا الرواية السابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشرة والثانية عشرة فهي قاصرة دلالة، بمعنى أنّها تفيد شمول مفهوم الجدال القرآني لمثل بعض الأيمان على أبعد تقدير، على سبيل الحكومة الموسّعة بالتعبد والاعتبار، لا أنّها تخلق تحوّلاً جذرياً في مفهوم الجدال كما عليه المشهور، وفق ما تقدّم، على أنّ الرواية الأولى والسادسة مشتركة في راويها، وهو معاوية بن عمّار، وفي حالٍ من هذا النوع لا ينبغي ادّعاء الاستفاضة فضلاً عن التواتر، نعم ثمة دليل صحيح ومعتبر.

إلّا أنّه مع ذلك كلّه قد يقدّم تصوّر آخر عن مفهوم الجدال المحرّم في الحجّ، نعرضه ضمن نظرية ثالثة ـ ذات وجوه ـ هي:

نظرية الجدال بالمعنى الأخصّ (عرض الاحتمالات المتصوّرة)

قد يقال: إن مراجعة نصوص الكتاب والسنّة في موضوع الجدال المحرّم على الحاجّ تدلّ على أنّ الحرام نوع خاصّ من الجدال، وهو ذاك الجدال الذي يتّسم بالشدّة والازدياد عرفاً بحيث يستخدم فيه الطرفان الأيمان والحلف لتأكيد موقفهما، أمّا الجدال العادي الهادئ أو العابر فليس مشمولاً لحرمة الجدال، بعد البناء على حجيّة الخبر الواحد.

وتقريب ذلك أنّ الآية القرآنيّة ركّزت مفهوم الجدال، ولم يرد أيّ معنى لغوي للجدال يفسّره باليمين، فضلاً عن نوع خاصّ من اليمين، والتمثيل بكلمتي: لا والله وبلى والله، وحيث كان القرآن عربياً لزم تفسير الآية وفق المعنى اللغوي العرفي لدى أبناء اللسان العربي، وليس إلّا ما سبق وأسلفناه من المعنى اللغوي.

والتحقيق في فهم الروايات الواردة في المقام، أن أمامنا في تفسيرها احتمالات خمسة هي:

الاحتمال الأوّل: أن يراد بها تأسيس معنى شرعي للجدال، مباين تماماً للمعنى اللغوي والعرفي، وهذا الاحتمال ـ رغم أنّه المنصرف عرفاً من الروايات ـ مردود، إذ لو كان مراد الروايات ذلك لكانت مناقضةً للقرآن، فيجب طرحها حتّى لو كانت صحيحة السند، وإلّا فما معنى مخالفة القرآن، وطرح النصوص التي تعارضه؟! فإن المورد من أوضح مصاديق المخالفة؛ لأنّ النصّ القرآني يعطي معنى في ظهوره الذاتي، فيما تنفيه تماماً ـ حسب الفرض ـ الدلالة الالتزامية لمفاد الحصر الوارد في الروايات، فإنّ الأحاديث بحصرها معنى الجدال في اليمين بقطع النظر عن النزاع والخصومة، تريد بالدلالة الالتزامية نفي النزاع والخصومة، وهو ما يساوق نفي الظهور القرآني، فتكون الرواية مخالفةً للقرآن، لا بنحو التخصيص أو التقييد، بل بنحو المباينة عرفاً، مع الأخذ بعين الاعتبار الدلالة الالتزامية المشار إليها، وإذا أريد حذف هذه الدلالة لبطل الاحتمال الأوّل الذي يساوق القول المشهور بين الإماميّة، فإنّ هذا الاحتمال قائم على الحصر ونفي الجدال بالمعنى اللغوي.

إذن، فحصر الجدال ببعض أنواع اليمين فقط، مخالف للظهور القرآني للآية، فتطرح الروايات أو يردّ علمها إلى أهلها، ولا معنى لمقارنة كلمة «جدال» بكلة «غائط» في أن الشرع أكسبها معنى جديداً ([28])، فإنّ هذا لا ضير فيه، لو كانت الآية قد نزلت بعد هذا التحوّل وحصول الحقيقة الشرعية، وليس كذلك، فتحمل الآية على المعنى اللغوي، إذ لم يرد ما يدلّ على حصول التحوّل قبل عصر الصادقين‘، فقد تمّ هنا الخلط بين أمرين.

قد يقال: إنّ هذا يتمّ لو لم تكن الروايات بصدد الإشارة إلى الآيات وتفسيرها، وقد تقدّم أنّها في هذا الصدد، لا أقلّ الرواية الأولى والثانية المتقدمتين، ومعه يؤخذ بدلالة الرواية في تفسيرها للآية الكريمة.

وهذا الكلام قد يبدو بظاهره جيّداً، إلّا أنّه قد وقع فيه خلط بين الحديث الواقعي والحديث المنقول، فلو أنّنا سمعنا المعصوم× يفسّر لنا الآية باليمين، لوجب علينا قبول تفسيره، ولا مجال للنقاش معه، وهذا واضح، إلّا أنّه خاص بالعلم اليقيني بصدور الرواية، وقد أسلفنا أنّ هذه الرواية لا استفاضة فيها فضلاً عن التواتر، وعمل الأصحاب بها لا يصيّرها قطعية الصدور، وعهدة القطعيّة على مدّعيها.

أمّا لو لم يحصل لنا يقين بصدور الحديث عن المعصوم×، فلا يمكن أن نتعامل معه معاملة الصادر الواقعي مطلقاً، بل إنّ حجّيته تكون حينئذٍ مشروطة بعدم مخالفته للكتاب، ومجرّد ادعاء الخبر أنّه يفسّر القرآن لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً، فإنّ هذه الخصوصيّة لا ترفع عنوان معارضة الكتاب، ومع تحقّق هذا العنوان ينبغي تطبيق قواعد الحجّية القاضية بسقوط اعتبار الأخبار.

وكلّي ظنّ بأن الخلط بين السنّة الواقعيّة والسنّة الظنيّة المحكيّة هو ما يفضي عادةً إلى توهّم حاكميّة نصّ السنّة المحكيّة على نصّ الكتاب، وافتراض أنّنا قد خفي علينا شيء في نصّ القرآن الكريم.

نعم، لو كانت الرواية بصدد بيان بطون القرآن أو معانٍ لم تظهر لنا منه لربما أمكن القول بأنّه لا يمكن ردّها لمجرّد أنّنا لم نفهم هذا المعنى عينه من الكتاب، إلّا أنّ المقام ليس كذلك بل هو مقام أنّ ما أعطتنا إيّاه الرواية ينافي الظهور العرفي، فهذا الظهور ليس بساكت عن مدلول ما أفادته الرواية، وهو الحصر باليمين، بل هو نافٍ له، وهذا هو المصداق البارز لمعارضة الكتاب، وإلّا فلم يُشترط إطلاقاً في معارضة الكتاب أن تكون الدلالة القرآنيّة صريحةً أو قطعيّة، كما لم يشرط في تطبيق قاعدة الطرح أن لا تكون الرواية ذات لسان تفسيري، وإلّا أمكن لأيّ وضّاع نسبة مخالفة الكتاب الكريم إلى المعصوم، إذا صاغ قوله بلغةٍ تفسيريّة، فلاحظ.

وبهذا ظهر فساد القول المشهور، الذي لا معنى لدعمه بالاحتياط كما فعله ابن زهرة([29])، فإنّ الاحتياط يقتضي تجنّب الجدال والحلف معاً، لا الترخيص في الجدال الذي نصّت الآية على حرمته، وتحريم الحلف فقط، كما هو واضح، كما لا معنى لدعمه بالإجماع([30]) بعد كونه واضح المدركية.

هذا، وقد ردّ السيّد الگلپايگاني على من تمسّك ـ لدعم القول المشهور ـ بإطلاق الحلف دون ذكر المخاصمة، بأنّ الروايات مسوقة لبيان الآية، وهذا بنفسه يشهد على أنّ المراد بالجدال الجدلُ المؤكّد باليمين. بل يمكن القول: إنّ احتفاف نصّ الروايات بمثل هذا الجوّ يصلح بنفسه مانعاً عن انعقاد إطلاق فيها للحلف مطلقاً، ولو بدون جدال ([31]).

وكلامه في غاية المتانة، ويمكن دعمه أيضاً بأنّه لو كان المراد محض الحلف لا غير، وكان المعنى اللغوي محض المخاصمة بقطع النظر عن الحلف، لكان ينبغي أن نجد ولو تساؤلاً واحداً من المتشرّعة طيلة ثلاثة قرون حول: كيف أريد من الآية معنى لا تمّت إليه بصلة ولا تتحمّله اللغة العربيّة، ألم يكن يستدعي ذلك إثارة علامات التساؤل من جانب الرواة أو من جانب فقهاء أهل السنّة المعاصرين للإمام×؟ والحال أنّنا لم نعثر على أيّ رواية ـ ولو ضعيفة ـ تشير ولو إشارة عابرة إلى هذا الموضوع، ممّا يكشف عن أن السامعين إنّما فهموا من الروايات ما يتضمّن معنى الجدال، لا ما يخرج عنه إلى الحلف دون مخاصمة.

والمتحصّل: أن هذا الاحتمال يصعب الأخذ به جداً.

الاحتمال الثاني: أن يكون المراد توسعة مفهوم الجدل لما يشمل اليمين الصرف، بمعنى أن تكون الروايات حاكمة على الآية، موسّعة لها توسعةً تعبّدية، فبعد أن كان الجدال واقعاً هو النزاع والخصومة والمراء و … صار الآن ـ ببركة الروايات ـ ذا فردين، أحدهما: الفرد الواقعي وهو النزاع، وثانيهما: الفرد التعبدي الذي قدّمته لنا الحكومة، وهو صرف اليمين أو اليمين الخاص المذكور في النصوص.

وهذا الاحتمال لا يمكن القول بأنّه معارضٌ للكتاب، إذ هو لا ينفي الدلالة القرآنيّة بل يقرّها ويثبتها، غايته أنه يضيف فرداً تعبّدياً على الجدال، هو اليمين، وهذا ممّا لا ضير فيه.

إلّا أنّ هذا الاحتمال يعاني من ضعف إثباتي، وهو أنّ بعض الروايات الواردة كانت بصدد الإشارة إلى الآية، وشرحها، ومعه فشرحها الآية ـ سيّما مع دلالة الحصر في بعضها ـ بالفرد التعبدي الجديد خلاف الظاهر، إذ لو كانت تريد هذا الاحتمال لكان عليها أن تبيّن الفرد الواقعي والفرد التعبّدي، لأنّها في مقام التفسير، فكيف غضّت الطرف عن المعنى الأولي وهي ظاهرة في التفسير، لتشير فقط إلى التعبّدي، فإنّ هذا خلاف الظاهر، سيّما وأنّنا لم نجد تساؤلاً لدى المشترّعة عن الفرد الواقعي، ومعه لابد من افتراض أنّه كان مفروغاً عنه عندهم، وهو خلاف ظاهر السائل في الروايات.

نعم، الروايات الأُخرى مثل الرواية السادسة، والثامنة، والتاسعة، والعاشرة، والثانية عشرة، ليس فيها هذا الضعف الإثباتي، فيمكن الأخذ بها فعلاً، لإثبات أن اليمين من المحرّمات دون نفي الجدال بالمعنى اللغوي.

الاحتمال الثالث: أن يقال: إنّ المراد بـ «لا الله وبلى والله» مرتبة من الجدال، عندما يشتدّ الخصام فيبلغ بالطرفين حدّ الحلف واليمين، وعليه فتكون الروايات التي تشير إلى هاتين الجملتين إنّما تمثلان تعبيراً كنائياً عن اشتداد الخصام بين الطرفين، فلا تزيد الروايات عن المعنى اللغوي للكلمة، غايته أنّها تضيّق من دائرة الجدال الحرام، فبعد أن كان يشمل مطلق الجدال، صار يراد منه جدال خاصّ، وهذا ما يفهم ممّا نقله في التذكرة عن ابن عبّاس، جاعلاً ما قاله الأئمّة بمعناه.. ([32]).

وهذا الاحتمال قريب إلى الفهم العرفي لمجموعة النصوص الواردة في المقام، ولا يلزم منه أيّ تكلّف، لا تكلّف الحكومة، ولا غيرها، وقد مال إلى هذا الاحتمال الفاضل الهندي في كشف اللثام([33])، والطباطبائي في رياض المسائل([34])، والخوانساري في جامع المدارك([35])، والگلپايگاني في كتاب الحج([36]) وغيرهم.

ويعزّز هذا الاحتمال ـ كما قيل([37]) ـ مضافاً إلى أصالة عدم الحرمة في غير مورد الخصومة هذه، صحيحة أبي بصير المتقدّمة (الرواية السابعة)، حيث نفت الجدال في مورد إكرام الأخ ممّا يدلّ على الحصر بمورد الخصومة.

لكنّ هذا الاحتمال يواجه مشاكل أيضاً، ففي الرواية الثالثة نفى الإمام أن يكون قول مثل: لا لعمري من الجدال، حاصراً إيّاه بلا والله وبلى والله، فلو كانت المسألة مسألة نزاع شديد لم يكن لخصوصيّة التعبير معنى، والأمر نفسه تفيده الرواية السادسة، وكلتاهما صحيحة السند، ومعه كيف يمكن تفسير الآية مع الروايات بهذا المعنى؟!

وأمّا التمسّك بالأصل هنا فهو جيّد؛ لولا أنّه لم يحن وقته بعد، إذ نحن نبدأ بالأمارات والأدلّة لكي نعرف ماذا تعطينا، فإذا أجمل الأمر عُدنا إلى الأصل، وسيأتي، وأمّا خبر أبي بصير فهو لا يدلّ على أنّ متعلّق الحكم هو الخصومة، بل يدلّ على اشتراط وجودها، لا كفايتها، وفرق واضح بينهما.

الاحتمال الرابع: أن يقال: إن «لا والله وبلى والله» يراد منه أبسط أنواع الحلف، فتكون كناية عن التشدّد في إطلاق حرمة الجدال، فكأنّه يقول: إنّ الحرام مطلق الجدال، حتّى هذا الذي فيه أبسط أنواع الحلف العابر غير المقصود.

ويدعم هذا الاحتمال أمران:

الأوّل: ما استفاض في مصادر الفقه والرواية السنّية، وكذا بعض المصادر الحديثيّة الشيعية، وقد أسلفنا نقل قسم منها، من أخذ «لا والله وبلى والله» أبرز أنموذج للغو اليمين، وهو اليمين التي تقع من المتكلّم بلا قصد الحلف، فإن ارتكاز هذا المثال، يدلّ على أن العرف آنذاك يرى مثل هذا التعبير سائداً في أوساط الناس، وأهل السوق وغيرهم، بحيث يصدر من المتحاورين عن غير قصد، لشدّة شيوع استخدامه في المحاورات، فعندما يذكر الإمام× هذا المثال في باب الحجّ، فهو يريد التشدّد في أمر الجدال لا التخفيف، خلافاً لمفاد الاحتمال الثالث المتقدّم.

الثاني: ما نقله جماعة ـ منهم ابن حجر والعظيم آبادي ـ من أنّه نقل عن عطاء والشعبي وطاووس والحسن وأبي قلابة أن «لا والله وبلى والله» لغة من لغات العرب، لا يراد بها اليمين، وهي من صلة الكلام([38])، فهذا يؤكّد ـ رغم أنّها يمين ـ أنّها تحوّلت نتيجة كثرة استعمالها إلى أداة وصل في الكلام، ممّا يرشد إلى ما ذكرناه.

وهذا الاحتمال ـ رغم لطافته ـ يواجه المشاكل عينها التي واجهها الاحتمال السابق، فلو كان المراد مطلق الجدال فلماذا لم تحكم بذلك الرواية الثالثة التي ورد فيها: لعمري؟! وهكذا غيرها.

ولعلّ هذا ما يضطرّنا للذهاب إلى الاحتمال الخامس وهو:

الاحتمال الخامس: أن يراد مطلق الخصومة المرفقة باليمين، سواء كانت شديدة أم خفيفة، ولعلّ هذا أيضاً هو مراد الفقهاء الذين ذكرنا أسماءهم في الاحتمال الثالث، مضافاً إلى أنّه ظاهر آخرين([39]).

وميزة هذا الاحتمال أنّه:

أوّلاً: لا يعارض النصّ القرآني، بل يخصّصه، فبعد أن كان المراد ظاهراً مطلق الجدال صار المراد الجدال المصحوب باليمين، أو بحصّة خاصّة منه.

ثانياً: لا يفترض نحواً من الحكومة، كما في الاحتمال الثاني، فلا تكون هناك غرابة في تفسير الإمام×، وعدم ذكره للفرد الواقعي إنّما هو لوجوده ضمن الفرد الجديد، فإن المفروض أن الفرد الذي تحرّمه الروايات هو جدال حقيقي غايته مرفق بمطلق اليمين أو بيمين خاصّ.

ثالثاً: إنّ هذا الاحتمال لا يواجه مشكلة الرواية الثالثة، كما واجهها الاحتمال الثالث؛ لأنّ سلب  الحرمة عن مثل: لعمري و… إنّما هو من باب عدم كون ذلك حلفاً، وإنّما لم نقل هذا الكلام في الاحتمال الثالث؛ لأنّ المفروض هناك أن تكون الحرمة منصبّة على النزاع الشديد، والحلف إنّما يكون طريقاً ومشيراً إلى ذلك، ومعه فتغيّر التعبير المشير أو الدالّ على تحقّق متعلّق الحرمة لا ينبغي أن يضرّ شيئاً، على خلاف الحال هنا، فإنّ المفروض ثبوت الحرمة على مطلق الجدال، غايته شرط أن يرفق بحلف خاصّ أو مطلق الحلف بالله تعالى.

وبهذا كلّه، يردّ على مثل السيّد الخوئي([40])؛ حيث تمسّك بصحيحة معاوية (الرواية السادسة) لإثبات الاحتمال الأوّل.

نعم، يبقى على هذا الاحتمال تفسير مثل الرواية السادسة، والثامنة، والتاسعة، والعاشرة، والثانية عشرة، ومنها ما هو الصحيح السند؛ إذ تقدّم أنّها لا تأبى الاحتمال الثاني، فما هو المرجّح؟

وقد يقال هنا: إن دوران الأمر بين التخصيص لا بلسان الحكومة ـ كما عليه الاحتمال الخامس ـ والتخصيص بلسانها، كما هو الاحتمال الثاني، يفرض تقديم لسان التخصيص بدون الحكومة، إذ يراه العُرف أقلّ مؤونةً، وأسرع انسباقاً إلى الذهن العرفي، ولاحظ ذلك من نفسك.

لكن مع ذلك كلّه، نلاحظ على هذا الاحتمال الأخير (الخامس) أنّه لو صحّ نسأل: هل هذا البيان الوارد في مجمل هذه النصوص هو بيان عُرفي واضح للكشف عن أنّ حرمة الجدال مخصوصة بالجدال المرفق باليمين؟! هل قول: «الجدال هو لا والله وبلى والله» يستفاد منه عرفاً هذا المعنى، سيّما بقرينة الحصر في بعض النصوص؟! لماذا لم يرد في أيّ نصّ حديثي أيّ لسان آخر أوضح في الدلالة؟! أليس الاحتمال الأوّل هو المنسبق إلى الذهن وقد أحرزنا بطلانه؟ ألا يشهد لذلك ـ من باب التأييد ـ أنّه هو ما فهمه جلّ العلماء المتقدّمين؟!

إنّ هذا ـ وللإنصاف وعند النظر بعرفيّةٍ إلى النصوص ـ ما يفقدنا الوثوق بالدلالة المذكورة، رغم لطافتها في الاحتمال الخامس، فليراجع القارئ الروايات بروح عرفيّة بعيدة عن التصوّرات المسبقة ليتأكّد ممّا نقول.

نعم لو كان هذا اللفظ منصرفاً عند العرب إلى معنى خاصّ أوجب اتكال الإمام×، لأمكن ذلك، لكنّنا لا نحرز هذا الأمر، ومعه فلا يكفي مجرّد الافتراض.

وعليه، يظهر أنّ كلّّ احتمالٍ من الاحتمالات التفسيرية السابقة فيه جهة ضعف، وأضعفها الأوّل، وأفضلها الأخير، لكن لا ترجيح قاطع يجمع بين الروايات جميعها، وعليه تتعارض القرائن والشواهد، ويُرجع إلى العمومات الفوقانيّة، وهي الآية الكريمة الدالّة على نفي مطلق الجدال، الذي يعني النزاع ونحوه، وإلّا فيرجع إلى أصالة عدم الحرمة ويؤخذ بالقدر المتيقّن، وهو الذي يجمع فيه بين شدّة الخصومة مع اليمين، أي الجمع بين الاحتمال الثالث والخامس، فهذا قدرٌ متيقّن للحرمة، وتجري البراءة عن غيره إذا لم يدخل ضمن دائرة المتيقّن.

نتيجة البحث في تفسير الجدال المنهي عنه في الحج

وعليه، فإذا بنينا على حجّية خبر الواحد، وبنينا كذلك على إمكان تخصيص القرآن بالآحاد فالتفسير الأخير ـ بعد الأوّل ـ هو الأوفق بالقواعد والأقرب للعرفية، لولا ما فيهما من محاذير، وإلّا لزم الأخذ بالآية لتدلّ على حرمة الجدال مطلقاً، بما يصدق عليه الجدال عرفاً، وهذا هو الأقوى، لأن هذا السياق كلّه ـ بعد عدم انعقاد تواتر أو ما هو قريب منه في النصوص ـ يفقدنا الوثوق بتلك الروايات الصادرة لمواجهتها النصّ القرآني بالشكل الذي شرحناه. وحيث إننا نبني على حجية الخبر الموثوق لا الثقة كما حققناه في أصول الفقه مفصّلاً كان المتعيّن الأخذ بالآية وترك الروايات، وهو ما نرجّحه هنا بإيكال الروايات إلى أهلها والله العالم.

هذا كلّه من حيث المبدأ، وأمّا كون الجدال في معصية، أو تكرّر الحلف، أو الحلف الكاذب والصادق، أو الحوار الذي لا نزاع فيه، فهو ما سيأتي لاحقاً، إن شاء الله تعالى.

2ـ شمول الحكم للرجل والمرأة

أثار تكرّر كلمة الرجل في روايات الجدال استفهام بعض الفقهاء([41]) في احتمال أن يكون الحكم مختصّاً بالرجال، فيكون الجدال من محرّمات الإحرام الخاصّة، لا من تلك المشتركة بين الرجل والمرأة.

والذي يبدو أن الجدال شامل في حكمه للرجل والمرأة معاً، وذلك:

أوّلاً: إنّ استخدام كلمة الرجل غالب في التعابير العربية، دون أن يراد منه الاختصاص، ومع هذه الغلبة لا تحرز القيدية في النص، بل يبقى الظهور على حاله، فيكون أخذه على نحو المثالية. وهو ما استخدمه الفقهاء كثيراً وأشير إليه أيضاً عند الحديث عن قاعدة الاشتراك.

ثانياً: إذا كانت بعض الروايات مختصّة بالرجل فإنّ الآية القرآنيّة وبعض الروايات الأُخرى مطلقة لا اختصاص فيها، ومعه يتمسّك بها، ودعوى تقييد الطائفة المختصّة للمطلقة بعيد جدّاً؛ لأنّ ظهور الطائفة المختصة في تضيّق الدائرة إنّما يحول ـ لو سلّم  ـ دون الشمول للمرأة، ولا يبلغ الحال بها أن تكون ظاهرة في نفي الحكم عن المرأة حتى تخصّص الأدلة الأُخرى، فظهور الأدلّة الأُخرى يبقى على حاله.

نعم، قد يقال: إنّ مجيء الروايات في سياق تفسير الآية يعطيها قدرة التخصيص، فلا يعود هناك إطلاق حجة في الآية، وحينئذٍ ينحصر الجواب بما قدّمناه أوّلاً.

وعليه، فالظاهر شمول الحكم للرجل والمرأة معاً.

3ـ اختصاص الحكم بالصيغتين أو الشمول لمطلق الحلف

وقع خلاف في أنّه بناءً على التقيّد بالصيغة في مفهوم الجدال، هل الحرام هو مطلق الحلف، أم خصوص الصيغتين المذكورتين في النصوص، وهما: لا والله، وبلى والله؟

ظاهر عبارات الفقهاء([42]) ذكر الصيغتين بما يفيد الاختصاص، بل قيل: هو المشهور([43])، إلا أنّ بعضهم كالمحقّق الكركي والشهيد الأوّل وغيرهما([44]) صرّحوا بأنّ موضوع الحكم في المسألة هو مطلق الحلف.

أدلّة القول بالاختصاص، مطالعة ورصد

وقد ذكرت للاختصاص وجوه أبرزها:

الأوّل: ما ذكره السيّد الخوئي وغيره من التمسّك بصحيحة معاوية بن عمّار (الرواية الثالثة)، حيث يستفاد منها ترتّب الحكم على القول المذكور خاصّة، لا على معناه أو مضمونه، ولا حتّى على مطلق اليمين أو الحلق، فيلتزم بظاهر الصحيحة([45])، بل عمّم بعضهم الاستدلال عبر القول بأنّ ظاهر النصوص تفسير الجدال بهما دون غيرهما، ولا دليل على الشمول لغيرهما([46])، والأصل في العناوين الواردة في ألسنة النصوص هو الموضوعيّة لا الطريقية، إلّا بقرينة([47])، ومن ثمّ فلا دليل تعبدي على التعميم كما لا إحراز للمناط في المقام([48]).

وقد أورد المحقّق الكركي على الاستدلال بهذه الصحيحة بأنّ الحصر الوارد فيها عبر كلمة «إنّما» هو حصر إضافي لا حقيقي، إذ ورد قبله الحديث عن عدم صدق الجدال على مثل «لا لعمري»، فلا يكون مفيداً للاختصاص التام الذي يمنع التعدي إلى مطلق اليمين([49])، وكلامه وجيه.

الثاني: الأصل، كما ذكره المحقّق الأردبيلي وغيره([50]).

ومن الطبيعي كونه موقوفاً على عدم وجود دليل على التعميم، وإلّا فلا يصمد أمام الأدلّة الاجتهادية.

شواهد القول بالتعميم، متابعة وبحث

أمّا القول بالتعميم، فقد يستدلّ له بعدّة وجوه أيضاً أهمّها:

الوجه الأوّل: التمسّك بصحيحة معاوية عن عمّار نفسه، إذ جاء فيها بعد بيان حقيقة الجدال أنّه إذا حلف الرجل بثلاثة أيمان ولاء في مقام واحد وهو محرم فقد جادل و.. وهذا ما يشهد على أنّ المراد بالصيغتين الإشارة بنحو المثالية إلى مطلق الحلف، لأنّه رتب الحكم فيما بعد على عنوانه.

وقد أورد على هذا الوجه:

أوّلاً: إنّه وإن ذكرت هذه المسألة في الرواية على نحو الاستقلال إلّا أنّها جاءت عقيب الصدر الذي حدّد الجدال بالصيغتين، ممّا يعلم منه أنّ المراد بالحلف في الذيل هو الحلف الخاص لا مطلق الحلف، فالذيل ليس في مقام بيان الجدال ومعناه، بل في مقام بيان التفصيل بين الكاذب والصادق([51]).

إلّا أنّ هذا الكلام قابلٌ للمناقشة، فإذا كان الذيل في غير مقام بيان الحلف من حيث طبيعة صيغه وأيّها الجدال، فإنّ الصدر أيضاً ليس في هذا المقام؛ لأنّ المفروض أنّ المنصرف من الجدال لغةً ـ بإقرار الجميع ـ هو المخاصمة، فحديث الصدر في مقام بيان الجدال بمعنى الحلف مقابل المعنى اللغوي، ومن غير المعلوم أن يكون في مقام بيان نوع الحلف، وكأنّ أصل كون معناه هو الحلف واضحاً، ولا أقلّ من الشك في كونه في هذا المقام فلا يتمّ الاستظهار المذكور من الرواية، ومعه فكما يحتمل قرينية الصدر للذيل يحتمل العكس أيضاً، فلا يتم القول المذكور، وإن لم تتمّ مناقشته.

ثانياً: لو سلّمنا انعقاد الإطلاق، إلّا أنّه لابد من حملها على الروايات التي فسّرت الجدال بالصيغتين على وجه الخصوص، لتقييدها بها، وبعد حمل المطلق على المقيد يكون القول بالتعميم لمطلق الحلف من الاجتهاد في مقابل النص([52]).

ويجاب عنه: إنّه بعد أن كانت صحيحة معاوية بن عمار معمّمة، فكما يحتمل التقييد، مع أنّهما مثبتين، يحتمل كذلك ـ وبقوّة ـ أخذ الصيغتين على نحو المثالية، فما هو المرجّح ـ على تقدير الأخذ بإطلاق صحيح معاوية ـ لتقديم قرينيّة غيره في التقييد على قرينيّة هذا الصحيح في المثالية؟!

نعم، طرح بعض الفقهاء التعارض بطريقةٍ أُخرى، حيث جعل النسبة بين المطلق وبين مثل صحيحة معاوية بن عمار هي العموم والخصوص من وجه؛ لأنّ الصحيحة تدلّ بدلالة الحصر التي فيها على عدم مؤثرية غير الصيغتين، سواء كان حلفاً أم غيره، فيما المطلقات تدلّ على المنع عن الحلف سواء كان بالصيغتين أم بغيرهما، فيقع التعارض في الحلف بالله بغير الصيغتين، ويقع التساقط بمقتضى قواعد التعارض بين العامّين من وجه، فيرجع إلى أصالة البراءة في مورد الاجتماع([53]).

الوجه الثاني: الاستناد إلى موثقة أبي بصير (الرواية الثامنة) المقاربة في مضمونها لذيل خبر معاوية، بتقريب أنّها ترتب الحكم على مطلق الحلف دون تقييده بصيغةٍ خاصّة([54]).

ونوقش بأن الرواية ليست بصدد بيان الجدال، بل في مقام التفصيل بين الكاذب والصادق في التعدّد وعدمه، ومعه يصعب التمسك بها في المقام([55]).

الوجه الثالث: ما ذكره النراقي من أنّ الأصل في الألفاظ إرادة معانيها، دون خصوص اللفظ، ومعه فيشمل الحكم تمام أوصاف الباري تعالى غير كلمة «والله»، مثل الرحمن والخالق([56]).

إلّا أنّ هذا الوجه تام على غير مبنى التعبدية والتوقيفية في المقام، وإلّا فلا ريب في دخالة بعض الألفاظ الخاصّة في العبادات، كما لا يخفى، ومعه لا يُحرز إرادة المعنى وحده، إذ لعلّ في اللفظ خصوصية، ومن الصعب قياس ما نحن فيه على باب المعاملات.

وبهذا ظهر أنّ أدلّة الاختصاص والتعميم مناقش فيها، عدا الأصل، فالقول بأنّه على التعبدية في المقام بالمعنى الشرعي الخاص لمصطلح الجدال، لا دليل على التعميم، فيتقصر على ما جاء في النص وهو الاختصاص، تام.

هذا كلّه مبني على المعروف من فتوى الأصحاب، من أنّ المراد بالجدال المعنى الشرعي الخاصّ، أمّا على ما تقدّم سابقاً من أنّ المراد به مطلق الخصومة والخصام والتنازع، فلا فرق فيه بين الحلف وغيره، ولا بين هذه الصيغ وغيرها.

نعم، لو التزمنا بالحلف فالخروج إلى غيره ممّا يسمّى حلفاً تسامحاً لا حقيقةً مثل «لا لعمري» غير واضح، لعدم الدليل عليه حينئذٍ.

4ـ اشتراط العربية وعدمه

هل يختصّ موضوع الحلف ـ مطلقاً أو بالصيغتين ـ باللغة العربية أو يشمل غيرها؟

استشكل بعض الفقهاء في الأمر محتاطاً([57])، بل جزم به آخرون([58])، ومنطلق الأمر هو الوقوف على النص حيث الظاهر منه خصوص الصيغتين، وقد ورد باللغة العربية، ولا أقلّ من الشك في الشمول، فتجري أصالة البراءة عن غير العربية، سواء كان لفظ الجلالة بالعربية دون غيره أم العكس أم كان كلّه عربياً مطلقاً([59]).

إلّا أنّ الصحيح ـ وفاقاً لمثل المحقّق النراقي([60]) ـ أنّ مثل هذه الشكوك لا ينبغي الوقوف عندها؛ إذ من الطبيعي أن يبيّن أهل البيت^ الحكم باللغة العربية بحكم لغتهم الأم واللغة المتداولة في أوساطهم ومناخهم الجغرافي في الحجاز أو العراق غالباً، وكلّ الأحكام على هذا المنوال، فالمفترض أنّه لو كان الحكم مختصّاً بالعربية أن يُبرزه الإمام×، والحال أنّنا لم نجد مثل ذلك في أيّ نصّ ولا حتّى في سؤال السائلين، فالعربية هنا لا تؤخذ على نحو الموضوعيّة بل على نحو الطريقيّة، ولاسيّما بناءً على القول بمطلق الحلف.

نعم، بناءً على التعبّدية الشديدة في هاتين الصيغتين قد يحصل شك حقيقي في شمول هذه التعبّدية حتّى لتلك اللغة التي تنطق بها الصيغتان، فمن يذهب إلى مزيد توقيفٍ في التعامل مع هذا الموضوع من الطبيعي حصول الشك عنده، دون غيره.

من هنا، وبناءً على ما تقدّم من أنّ المراد بالجدل مطلق التنازع، لا معنى لهذا البحث، حيث لا يختصّ الأمر بلغةٍ دون أُخرى، بل يتمسّك بإطلاقات دليل تحريم الجدال للشمول لمطلق اللغات.

5ـ شرطية «لا» و «بلى» في الصيغتين

هل يتحقّق الجدال بقول: «والله»، دون إضافة: «لا» أو «بلى» أو استبدالها بغيرها مثل ما فعلت، أم لابدّ من إضافة إحدى الكلمتين؟

1 ـ أمّا إذا بنينا على القول بأنّ المراد بالجدال مطلق المنازعة والخصومة كما هو الصحيح، فلا إشكال في عدم أخذ هذه القيود كما تقدّم، وإنّما تحمل برمّتها على المثالية.

2 ـ وأمّا إذا قلنا بأنّ المراد به المنازعة المقرونة بهذا اللفظ أو الموقوفيّة على هذا اللفظ، فقد يقال بعدم كفاية «والله»، انطلاقاً من الاقتصار على مفاد الدليل، لاسيّما وأن النصوص بصدد بيانه، فيكون غيره مورداً للبراءة([61]).

وفي مقابل هذا القول، قد يتمسّك بوجوه:

أوّلاً: صحيحة أبي بصير (الرواية السابعة)؛ حيث إنّ تعليلها نفيَ الجدال في صورة قول أحد الطرفين لصاحبه: «والله لا تعمله»، بغير فقدان جزء من الصيغة، دليل واضح على أنّه لولا إرادة الإكرام لثبت الجدال بمطلق «والله»، وإلّا لعلّل الأمر بفقدان الصيغة بشكلها التام([62]).

لكن هذا الكلام أورد عليه:

أ ـ بأنّه يمكن أن يكون في هذا الفرض مانعان: أحدهما عدم توفّر الصيغة بصورةٍ صحيحة، وثانيهما صورة الإكرام، فأراد الامام× بيان أحد المانعين؛ لكفايته في هذا المورد، وليس من الواجب بيان الخلل الثاني الموجود في الصورة المفروضة([63]).

ب ـ إن الصحيحة ليست في مقام بيان الحلف بأيّ صيغة، وإنّما هي في مقام بيان نفي البأس عن الحلف التكريمي، فلا يصحّ التمسّك بإطلاقها من تلك الجهة.

ثانياً: ما ذكره الشيخ محمد حسن النجفي من أنّ صيغة القسم في هذه الجملة هي لفظ الجلالة، أما ما يسبقها فهو المقسوم عليه، فلا دخل له بحقيقة القسم، فيجوز وجوده وعدمه، ويجوز أن يكون بغير العربية أيضاً([64]).

لكن هذا الكلام يجري على غير نظرية خصوصية الصيغتين، مع رفض مطلق الحلف أو مطلق المخاصمة، أمّا على هذه النظرية، فيصعب الخروج من حرفية الصيغة؛ لأنّه من غير المعلوم أن يكون الحلف هو المقصود حتّى نجعل المعيار عليه دون ما قبله من المقسوم عليه، فلعلّ المقصود ـ وفق هذا الرأي ـ تركيب الجملتين.

6ـ الحلف الصادق والكاذب

هل يشترط في ترتيب آثار الجدال أن يكون الحلف (مطلقاً أو المخصوص بالصيغتين) كاذباً أم يشمل الحلف الصادق أيضاً؟

ذهب بعضهم إلى الشمول([65])، وبعضهم إلى الاختصاص.

ظاهر بعض النصوص الشمول لصورتي الكذب والصدق غايته التفريق بينهما في الكفارة، مثل خبر أبي بصير وابن عمار وأبان بن عثمان عن أحدهما (الرواية الثامنة والتاسعة والعاشرة)، بل في صحيحة محمّد بن مسلم (الرواية الحادية عشرة) ثبوت الكفارة على المجادل صادقاً أيضاً، غايته أنّ كفارة الكذب بقرة، فيما كفّارة الصادق شاة، إلّا إذا قيل بعدم الملازمة بين الكفارة والحرمة.

نعم، في صحيحة يونس بن يعقوب (الرواية الثانية عشرة) ورد أنّه ليس على من جادل صادقاً شيء، إلّا أنّ الظاهر منها أنّها في مقام الحديث عن الكفارة، لا عن أصل الجدال من حيث تبعات المؤاخذة على فعل الحرام.

من هنا، فالظاهر شمول الحكم للصادق والكاذب، بل هو مقتضى إطلاق بقية النصوص، ولاسيّما التي في مقام البيان من هذه الجهات، كما أنّ مقتضى القول بأنّ المراد بالجدال المحرّم مطلق المخاصمة ـ كما هو الرأي المختار ـ لا فرق بين الصدق والكذب، حيث يستفاد من اللغة ومن إطلاق الآية ذلك أيضاً؛ لأن الجدال لغةً لا يختص بحالة الصدق والكذب فيقال: إنهما يتجادلان حتى لو كان أحدهما صادقاً والآخر كاذباً.

لكن على القول بخصوصية الصيغة، قد يمكن تخصيص الحكم بالكاذب لوجوه:

أوّلاً: التمسك بأصالة البراءة في الصادق.

وجوابه واضح، فإنّه بعد وجود الدليل المحرز لا مجال للأخذ بالأصل العملي([66]).

ثانياً: التمسك بقاعدتي: نفي الحرج والضرر.

وهذا واضح الدفع، إذ لا يحرز وجود حرج نوعي في هذا المجال، في مدّة بسيطة هي فترة الإحرام، كيف وسائر المحرمات الإحرامية يلزم منها ذلك إذا قيل به هنا، وخروج حالة الحرج والضرر الشخصي لا تستلزم تغيير الحكم أساساً، كما هي الحال في سائر الأحكام الشرعية.

فالصحيح شمول الحكم للصادق والكاذب مطلقاً.

7ـ اختصاص الحكم بوجود مخاطب وعدمه

هل قول: لا والله، وبلى والله من غير أن يوجّه إلى أحد محقّقٌ للجدال المحرم في الحج أم لابد من فرض حوار أو حديث جرى فيه التلفظ بالكلمة المذكورة؟

صريح بعض الكلمات الاختصاص بمخاطبة الغير([67]).

أ ـ أمّا على الاحتمال الأوّل من الاحتمالات الخمسة المتقدّمة، وهو حصر الجدال بهذه الصيغة دون علاقة للخصومة، فإن ظاهر جملة من الروايات المحدّدة لمفهوم الجدال على هذا المبنى، الإطلاق من هذه الجهة، كصحيحة معاوية بن عمار، وصحيحة علي بن جعفر وغيرهما، حيث لم تقيّد بوجود حوار بين طرفين.

إلّا أن مقتضى جمع النصوص وضمّها إلى بعضها بعضاً هو ظهورها في أنّ هذه الجملة قد قيلت لطرفٍ آخر لا بين الإنسان ونفسه، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع، وطبيعة مثل هاتين الكلمتين هو كونهما في سياق حوار لا مطلقاً، ومجرّد السكوت عن هذه المسألة وعدم ذكر قيد لا يدلّ على انعقاد إطلاق، ما دامت هذه القضيّة بنفسها تصرف الذهن إلى صورة حوار أو كلام بين طرفين، ولا أقلّ من عدم الظهور في غير ذلك، فهذا تماماً كما لو قيل: لا تقل: انصرف عنّي، فإنها وإن لم تكن ظاهرة بدواً في مخاطبة طرف آخر، إلّا أن ظهورها الاستقراري العرفي يفيد وقوعها ضمن سياق خطاب موجّه إلى طرف آخر.

والغريب ما ذهب إليه بعضهم من أخذ الخصومة في الجدال، ثمّ القول: إنّ مطلقات النصوص لا تستدعي كونه موجّها إلى أحد، مستدركاً ذلك بفرضية الانصراف([68])، مع أنّه كيف يتحقّق مصداق الخصومة ثمّ يكون الحلف موجّه إلى أحد، إلّا على افتراض عقلي احتمالي صرف غير عرفي أبداً.

ب ـ وأما على الاحتمال الثاني، وهو صيرورة الجدال ذا فردين: أحدهما واقعي هو النزاع والآخر تعبّدي هو الحلف، فيرجع فيه الكلام إلى ما تقدّم في الاحتمال الأوّل: لوحدة المورد والمناط.

ج ـ وأمّا على الاحتمال الثالث، وهو كون هاتين الصيغتين تعبيراً عن اشتداد الخصام، أو الاحتمال الرابع وهو كونهما كناية عن أبسط أنواع الجدال والخصام، أو الاحتمال الخامس وهو الخصومة المرفقة باليمين، فمن الواضح اشتراط صدق الجدال بوجود طرف ثانٍ، لأخذ الخصومة في هذه الاحتمالات الثلاثة جميعها.

د ـ وأمّا على القول بالمفهوم اللغوي البحت، كما بنينا عليه، فالأمر واضح جدّاً، إذ يتقوّم هذا التفسير للجدال المحرم بوجود طرفٍ ثان كما صار جلياً.

فالأقرب اشتراط توجه الخطاب والجدال إلى طرف ثانٍ على تمام المباني في المسألة.

8 ــ اشتراط المعصية في الجدال المحرّم وعدمه

هل يشترط في تحقّق الجدال المحرّم وقوعه في معصية أم مطلقاً؟

ظاهر النصوص والآية على تمام التفاسير المحتملة هو الشمول لصورة المعصية وعدمها؛ إذ هي مطلقة غير مقيّدة بقيد رغم تعدّدها.

نعم، ورد في خبر زيد الشحام (الرواية الرابعة) تفسير الجدال بالصيغتين وبسباب الرجل للرجل، ممّا يعني أنّ أحد فرديه معصية حيث يُبنى على حرمة السباب، لكن هذه الرواية لا تقيّد الشكل الأوّل للجدال وهو الصيغتين ـ مهما فسّرناهما ـ بصورة المعصية، كما هو واضح، فيبقى التمسك بالإطلاق سارياً، ونحو هذا الخبر ـ بل أخف منه دلالةً ـ خبر إبراهيم بن عبد الحميد (الرواية الثالثة عشرة)، مع أنّ هذين الخبرين ضعيفا السند، كما مرّ.

والمقيّد الوحيد في المقام هو صحيحة أبي بصير (الرواية السابعة) حيث حصرت ـ بصيغة الحصر (إنّما) ـ مسألة الجدال بما إذا كان لله فيه معصية، أمّا غيره كصورة إكرام الأخ فيجوز.

وقد ذهب بعض الفقهاء([69]) إلى إخراج بعض أنواع الجدال بطريقة أُخرى، حاصلها أنّ الجدال المحرّم يخرج عنه موردان:

المورد الأوّل: أن يكون لإثبات حقّ أو إبطال باطل أو لحفظ النفس أو حفظ المؤمن، ويلوح منه أن مدرك هذا الاستثناء هو الضرورة، ومن ثمّ فلا ينبغي إفراده هنا بهذه الطريقة بل ينبغي القول ـ كما في أيّ حكم شرعي آخر ـ : إنّ هذا الحكم ساري المفعول إلّا إذا طرأ عنوان ثانوي حاكم مثل الضرورة، أو الحرج، أو الضرر، أو نحو ذلك، فلا خصوصيّة لإحقاق الحقّ و…

وقد استدلّ بعض الفقهاء على إخراج صورة الجدال لإحقاق الحقّ في القضايا العقائديّة ونحوها ممّا يرجع إلى الدين، لا القضايا الشخصية و.. بانصراف الأدلّة عن مثل ذلك([70]).

إلّا أنّه لم يظهر الوجه في هذا الانصراف ما دامت النصوص مطلقة في حدّ نفسها، ولا شاهد على إخراج الجدال في قضايا الدين، ولم نفهم مبرّر الانصراف، وليس هناك كثرة استعمال أو كثرة وجود و…، فالصحيح إطلاق النصوص الشامل لمطلق الجدال في الدين وغيره، سواء فسّرناه بالمعنى اللغوي أو غيره.

المورد الثاني: أن يكون الحلف لإكرام المؤمن واحترامه وتعظيمه.

والمدرك الذي ذكر هنا لهذا الاستثناء هو:

أ ـ صحيحة أبي بصير (الرواية السابعة)، حيث جاء فيها: إنّما أراد بهذا إكرام أخيه، وهذا ما يستفاد منه أنّ إكرام الأخ يجوز في مورده الحلف.

والأصحّ في التعامل مع صحيحة أبي بصير عدم الاقتصار على إكرام الأخ، ذلك أنّ الرواية إنّما ذكرت ذلك بمناسبة طبيعة سؤال السائل، وإلّا فقد صرّحت في خاتمتها بحصر الحكم بالحرمة بما كان لله فيه معصية، ممّا يعني أن الحلف الذي لا يقع في سياق معصية جائز، ولا يكون مشمولاً لحكم الحلف أو الجدال في الحج، فلا ينبغي الاقتصار في الاستثناء.

وقد حاول بعض الفقهاء تفسير المعصية هنا بالجدال نفسه، أي الصيغتين بشروطهما، لا وقوع الجدال في سياق معصية كالكذب والغيبة ونحوهما([71])، لكنّه غير واضح، فإنّ الظاهر أنّ الحديث عن وقوع الكلام في سياق الإكرام الذي قابلته الرواية بسياق المعصية، لا أنّ هذه العبارة هي معصية وتلك إكرام كما هو واضح.

ب ـ اقتران مفهوم الخصومة بالجدال الشرعي، فإذا بُني على هذا الاقتران، لم يعد يمكن شمول الحكم لغير مورد الخصومة([72]).

وهذا المدرك يختلف في طبيعته عن غيره، فإن نتيجته ـ لو بقي لوحده ـ استثناء ما لم يكن فيه خصومة سواء كان فيه معصية أم لم يكن، على خلاف النتيجة التي خرجنا بها من صحيحة أبي بصير، حيث صار الاستثناء لكلّ ما ليس فيه معصية سواء كانت فيه الخصومة أم لم تكن؛ فالنسبة بين النتيجتين هي العموم والخصوص من وجه.

من هنا، فمن تمسّك بهما معاً في مسألة الإكرام ـ كالسيّد الشاهرودي ـ يلزمه أخذ القدر المتيقّن الجامع بينهما، وهو الجدال بالصيغة مع خصومةٍ في غير معصية، وهذا هو الصحيح بناءً على ما ذكرناه سابقاً، نعم، لو بنينا على محض المعنى اللغوي للجدال كما هو مختارنا، كان حراماً في غير معصية، سواء حصلت الصيغة الخاصّة أم لا، أمّا الخصومة فتدخل في المعنى اللغوي حينئذٍ.

9ـ الاكتفاء بإحدى الصيغتين

هل يتوقّف تحقّق الجدال على التلفظ بالصيغتين معاً أم تكفي واحدة منهما؟

قد يلتزم بكفاية إحدى الصيغتين ـ كما ذهب إليه مثل الشيخ النجفي والسيد العاملي والفاضل الهندي([73]) و … ـ وذلك لوجوه:

الأوّل: إنّ الظاهر من الروايات كفاية تحقّق إحدى الصيغتين، لاسيّما وأنّه لا إشارة في أيّ رواية إلى عدم تحقّقه بواحدة منهما؟!

فيتمسّك بهذا الظهور (الإطلاقي) لإثبات الحرمة لهما([74]).

إلّا أنّ هذا الكلام غير واضح على مسلك من يرى التوقّف والتعبّد بالصيغتين؛ إذ مع ضمّهما إلى بعضهما في أكثر من رواية كيف يمكن التأكّد من كفاية واحدةٍ منهما؟! نعم على مسلك من يرى الجدال مطلق المخاصمة أو ما شابه ذلك مثل تعميمه إلى مطلق اليمين لا ضير عليه في الالتزام بذلك؛ لا لأن الروايات ظاهرة في التفكيك، بل لعدم البناء على التعبّدية والتوقّف فيما جاء في ألسنتها.

الثاني: إنّ التأمّل في الصيغتين كفيلٌ لوحده في الجزم بعدم أخذهما معاً، فإنّ المتكلّم لا يتلفظ بهما، إذ أخذهما معاً أخذ للمتناقضين، «فبلى والله» جملة مثبتة موجبة، فيما «لا والله» جملة نافية، ولا يمكن للإنسان الحلف لإثبات شيء ونفيه معاً، وهذا خير دليل على أنّ الصيغتين مأخوذتان على نحو الانفصال لا الاتصال([75]).

وهذا كلام وجيه ودقيق، إلّا إذا قيل بأنّ النفي يتوجّه لما قاله الخصم والإثبات لما قاله هو نفسه([76])، وربما لا يكون ظاهراً عرفاً.

الثالث: إنّ الروايات المفصّلة بين الحلف الصادق والكاذب يستفاد منها أنّ موضوع الحكم هو الحلف، ولو بصيغةٍ خاصّة، ولا شك في أنّ الحلف يصدق على كلّ منهما حتّى لو لم ينضمّ إليه الآخر، فيكفي أحدهما([77]).

إلّا أنّ هذا الوجه قابلٌ للمناقشة؛ فإن أخذ الحلف موضوعاً للحكم، ولو بصيغةٍ خاصّة، يستبطن احتمال كون هذه الصيغة هي مجموع الجملتين، فكيف تمّ القفز من هذا الاستبطان إلى الاكتفاء بإحداهما؟! وكيف عرفنا أنّ الصيغة الخاصّة ليست مجموع العبارتين وإنّما إحداهما؟!

فالصحيح كفاية إحدى الصيغتين.

10ـ اختصاص الحكم بالجملة الخبرية أو الشمول للإنشائية

هل يختصّ الحكم بالجملة الخبريّة أو يعم الجملة الإنشائيّة؟

ذكر السيد الخوئي أنّه لم يرَ من تعرّض لهذا الموضوع قبله، ذاهباً إلى أنّ الظاهر من الروايات عدم شمول الحكم للحلف في الجملة الإنشائيّة، والوجه في هذا الأمر أنّ مثل صحيحة معاوية فصّلت بين الصادق من الجدال والكاذب، ومعنى ذلك أنّ الحلف الممنوع يجري في حالةٍ يصدق فيها عنوانا: الصدق والكذب، وبما أنّ مفهومي الصدق والكذب من شؤون الجملة الخبرية لا الإنشائيّة، نستفيد من ذلك اختصاص الحكم بمورد الإخبار دون غيره.

وبهذا السبيل فسّر السيّد الخوئي معتبرة أبي بصير الواردة في إكرام الأخ، إذ فهم منه مجرّد وعدٍ للمؤمن، فلا تكون فيه معصية.

وعبر ذلك، ذهب المحقّق الخوئي إلى عدم شمول الحكم للحلف الوارد في المجاملات الدارجة بين الناس؛ لعدم صدق الإخبار عليها، وبهذا يكون إخراجها على نحو التخصّص لا التخصيص([78]).

وقد تابع السيّد الخوئي في أصل فكرته هنا بعض تلامذته([79]).

ويعلّق على هذا الكلام:

أوّلاً: إنّ الروايات ـ غير معتبرة أبي بصير الواردة في إكرام الأخ ـ تتحدّث عن تحقّق الجدال والكفارة في مورد الصدق والكذب، لكنّها لا تنفي الجدال في موردٍ لا يكون فيه صدقٌ وكذب، ومبرّر التركيز على حالتي الصدق والكذب موجود، وهو أنّ الجدال بالمعنى اللغوي ـ وكذا بالمعنى الشرعي الخاصّ الذي اختاره بعض الفقهاء ـ يقع في الأغلبية الساحقة من مصاديقه في سياق الإخبار لا الإنشاء، فإنّ سياقات الإنشاء قليلة جدّاً نسبةً للإخبارات في هذا المجال، لذا كان من الطبيعي أن يتركّز الحديث عليها، دون نفي لغيرها، وسيأتي تعليق ختامي.

ثانياً: إنّ معتبرة أبي بصير بيّنت أنّ العلّة في سقوط الحكم هو الإكرام، وهذا كما يحتمل أن يكون بملاك كون الإكرام منفصلاً عن الإخبار، كذا يمكن أن يكون بنفسه ملاكاً بقطع النظر عن مسألة الخبرية والإنشائية، فلو فرضنا أنّ الحكم شامل لصورتي: الإخبار والإنشاء، لكن مسألة الإكرام أو عدم المعصية دخيلة في سقوط الحكم لكان يصحّ هذا القول الموجود في صحيحة أبي بصير، إذاً فلا تمثل الصحيحة دليلاً لصالح مسألة الإخبار والإنشاء، لاسيّما وأنّ المأخوذ في لسانها مسألة المعصية والإكرام، فادّعاء الاستطراق منهما إلى غيرهما مع كونهما ممّا من شأنهما دوران الحكم مدارهما يحتاج إلى قرينة إضافية، وهي غير موجودة.

فالصحيح أنّ الحكم شاملٌ لصورتي الإخبار والإنشاء، إلّا أنّه إذا بنينا على المعنى اللغوي للكلمة طبقاً لنصّ الكتاب العزيز ـ كما هو المختار ـ يمكن أن يدّعى أنّ كلمة الجدال التي تستبطن الخصومة يفهم منها عرفاً صورة الخلاف على قضية، ممّا يغلب جدّاً فيه حالة الإخبار، بحيث يلحق غيره بالعدم لشدّة ندرته، فلا يبعد حينئذٍ تخصيص الحكم بذلك، تبعاً لما تنصرف إليه الكلمة بين الناس.

خلاصة واستنتاج

هذا تمام الكلام ـ بمقدار جهدنا وطاقتنا ـ في مباحث فقه الجدال في الحج، أمّا الكفّارة فتدرس في مباحث كفّارات تروك الإحرام على حدة، فلا نتعرّض لها هنا، ويجب أن يعرف نهايةً أنّ الجدال ـ كما فسّرناه بمعنى النزاع والخصومة ـ لا يشمل الحوار والحوارات العلميّة والفكريّة و… الهادئة حتّى لو لم نأخذ الصيغتين بعين الاعتبار، فلا ينبغي الخلط بين مفهوم الجدال في اللغة العربية وبين مفهوم الحوار الهادئ الذي يضارعه في المصطلح القرآني الجدال بالتي هي أحسن من بعض الوجوه؛ لأن كلمة الجدال في اللغة تستبطن لو لم تقم معها قرينة مفهوم الصرع للآخر وإلقائه أرضاً.

وطبقاً لمجمل ما توصّلنا إليه، نجد أن القرآن الكريم طلب في الحج تجنّب تمام الصراعات والمجادلات والمنازعات الصاخبة بمختلف أشكالها، سواء جاء معها حلف أم لا، وسواء جاءت الصيغة الخاصّة أم لا، فالحجّ مظهر التآلف والتوادد وترك الخصومات والمنازعات.

هذا ما فهمناه من هذا البحث، والله العالم بحقيقة أحكامه.

(*) نشر هذا المقال ـ على حلقتين ـ في العددين: 24 ـ 25، من مجلة ميقات الحج، في إيران، عام 2006م. ثم نشر ضمن كتاب (بحوث في فقه الحج) للمؤلّف، عام 2010م.

[1]. البقرة: 197.

[2]. البقرة: 196.

[3]. وسائل الشيعة 12: 466، كتاب الحج، أبواب تروك الإحرام، باب 32، ح6.

[4]. اُنظر: النووي، المجموع 7: 140؛ والإمام مالك، الموطأ 1: 389؛ والمغني لابن قدامة المقدسي 3: 265؛ والشرح الكبير 3: 329؛ وابن حزم، المحلّى 7: 196؛ وقد لاحظنا أنّهم استعملوا كلمة «لا والله بلى والله» لدى حديثهم عن لغو اليمين لا في باب الحج، فراجع: الشافعي، كتاب الأم 7: 66، 257؛ ومختصر المزني: 290؛ والمجموع للنووي 18: 4، 7، 8؛ والحجاوي، الإقناع 2: 253؛ والشربيني، مغني المحتاج 4: 325؛ وحواشي الشرواني 10: 12؛ والدمياطي، إعانة الطالبين 4: 359؛ والمدوّنة الكبرى للإمام مالك 2: 101؛ والرعيني مواهب الجليل 4: 399؛ والسمرقندي، تحفة الفقهاء 2: 295؛ والكاشاني، بدائع الصنائع 3 ـ 4؛ وابن نجيم المصري، البحر الرائق 4: 468؛ والدر المختار 4: 7؛ وحاشية ابن عابدين 4: 8؛ والمغني 11: 179؛ والشرح الكبير 11: 183؛ والبهوتي؛ كشاف القناع 6: 300؛ والعسقلاني، سبل السلام 4: 107؛ والشوكاني، نيل الأوطار 9: 132 ـ 133 و… وورد تفسير اللغو بالأيمان في بعض الروايات الشيعية بلا والله وبلى والله. فانظر: الصدوق، كتاب من لا يحضره الفقيه 3: 361.

[5]. راجع: الصدوق، المقنع: 223؛ والطوسي، النهاية: 219؛ والمبسوط 1: 320؛ والرسائل العشر 228؛ وابن البراج، المهذب 1: 221؛ والحلّي، الجامع للشرائع: 184؛ والعلّامة الحلّي، مختلف الشيعة 4: 87؛ والتذكرة 7: 393 ـ 394؛ و 8: 27؛ وإرشاد الأذهان 1: 317، وتحرير الأحكام 2: 17؛ وتبصرة المتعلّمين: 90؛ وفخر المحقّقين، إيضاح الفوائد 1: 296؛ والشهيد الأوّل الدروس 1: 386، واللمعة: 59؛ وابن فهد، الرسائل العشر: 321؛ والكركي، جامع المقاصد 3: 183 ـ 184؛ ورسائل الكركي 2: 154؛ والشهيد الثاني، الروضة البهيّة 2: 240؛ ومسالك الأفهام 2: 258؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة 6: 293 ـ 296؛ والعاملي، مدارك الأحكام 7: 341 ـ 342؛ والبهائي، جامع عباسي: 117؛ والسبزواري، ذخيرة المعاد: 589، 593 ـ 594؛ وكفاية الأحكام 1: 299؛ والجزائري، التحفة السنية: 182؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 462 ـ 463؛ والأنصاري، مناسك الحجّ، سلسلة مصنفات الشيخ الأعظم 13: 37؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة، كتاب الحج 4: 112 ـ 114؛ والسرائر 1: 545؛ والجناحي، كشف الغطاء 4: 573؛ والروحاني، فقه الصادق 10: 461 ـ 463؛ وابن زهرة، غنية النزوع: 160، والمرتضى، الانتصار: 242.

[6]. راجع: ابن منظور، لسان العرب 11: 105، و 15: 278؛ والقاموس المحيط 3: 346 ـ 347؛ ومجمع البحرين 1: 351 ـ 353؛ وتاج العروس 7: 254، و 10: 341؛ والفروق اللغوية: 158ـ 159؛ والتبيان 2: 164 ـ 165؛ ومجمع البيان 2: 43؛ والميزان 2: 79، و…

[7]. اُنظر ـ على سبيل المثال ـ : الخوئي، المعتمد في مناسك الحج 4: 162 ـ 163؛ والشيخ كاشف الغطاء، كشف الغطاء 4: 573.

[8]. البقرة: 197.

[9]. وسائل الشيعة 12: 463 ـ 464، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام، باب 32، ح1.

[10]. المصدر نفسه: 465، ح4، و13: 115.

[11]. المصدر نفسه: 465 ـ 466، ح5.

[12]. أشار إليه المحقّق الكركي في جامع المقاصد 3: 183.

[13]. الحجرات: 6.

[14]. وسائل الشيعة 12: 467، ح8.

[15]. راجع: الخوئي، معجم رجال الحديث 18: 286 ـ 287.

[16]. البقرة: 197.

[17]. وسائل الشيعة 12: 467، كتاب الحجّ، أبواب تروك الإحرام، باب 32، ح9.

[18]. المصدر نفسه: 465، ح5.

[19]. المصدر نفسه: 466، ح7.

[20]. راجع: الخوئي، المعتمد 4: 163 ـ 164.

[21]. وسائل الشيعة 13: 146، كتاب الحجّ، أبواب بقيّة كفّارات الإحرام، باب 22، ح4.

[22]. المصدر نفسه: 146 ـ 147، ح5، 7.

[23]. المصدر نفسه: 147، ح6.

[24]. المصدر نفسه: 147، ح8.

[25]. المصدر نفسه: 148، ح10؛ وتفسير العياشي: 95.

[26]. لمزيد من الاطلاع، راجع: النراقي، مستند الشيعة 13: 292، والخوانساري، جامع المدارك 2: 630 ـ 631، والخوئي، المعتمد 4: 172؛ والروحاني، فقه الصادق 11: 214؛ والحكيم، دليل الناسك: 219.

[27]. الطباطبائي، رياض المسائل 7: 426؛ والنجفي، جواهر الكلام 20: 422.

[28]. ابن زهرة: غنية النزوع: 160.

[29]. ابن زهرة، غنية النزوع: 160.

[30]. المصدر نفسه: والمرتضى، الانتصار: 242.

[31]. الگلپايگاني، كتاب الحج 2: 142.

[32]. العلّامة الحلّي، تذكرة الفقهاء 7: 393.

[33]. الهندي، كشف اللثام 5: 369.

[34]. الطباطبائي، رياض المسائل 6: 313.

[35]. الخوانساري، جامع المدارك 2: 405 ـ 406.

[36]. الگلپايگاني، كتاب الحجّ 2: 141، وتقرير الحجّ 1: 195.

[37]. المدني الكاشاني، براهين الحجّ 3: 132؛ كما يصلح كلامه لدعم الاحتمال الخامس الآتي؛ وانظر: المرتضى، الانتصار: 242.

[38]. ابن حجر، فتح الباري 11: 476؛ والعظيم آبادي، عون المعبود 9: 113.

[39]. انظر: المدني الكاشاني، براهين الحجّ 3: 132، 133؛ والسيّد محمود الشاهرودي، كتاب الحجّ 3: 181 ـ 182.

[40]. الخوئي، المعتمد 4: 162 ـ 163.

[41]. اُنظر ـ على سبيل المثال ـ : الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 295 ـ 296؛ والگلپايگاني، كتاب الحج 2: 147.

[42]. من العبارات المصرّحة كلام فخر المحقّقين، إيضاح الفوائد 1: 295؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 295، وهو ظاهر السبزواري في كفاية الأحكام 1: 299؛ وصريح الفاضل الهندي في كشف اللثام 5: 370؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 362.

[43]. المدني الكاشاني، براهين الحج 3: 131؛ والسيد محمود الشاهرودي، كتاب الحج 3: 182.

[44]. الصدوق، المقنع 332؛ والكركي، جامع المقاصد 3: 184؛ والشهيد الأوّل، الدروس 1: 386 ـ 387؛ والشهيد الثاني، مسالك الأفهام 2: 258؛ والطباطبائي، رياض المسائل 6: 314.

[45]. الخوئي، المعتمد 4: 164؛ وانظر: فخر المحقّقين، إيضاح الفوائد 1: 295؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 295؛ والفاضل الهندي، كشف اللثام 5: 370.

[46]. المدني الكاشاني، براهين الحج 3: 131؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 114.

[47]. الفياض، تعاليق مبسوطة 1: 221.

[48]. الشاهرودي، كتاب الحج 3: 183.

[49]. الكركي، جامع المقاصد 3: 183 ـ 184.

[50]. الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 295؛ وانظر: الفاضل الهندي، كشف اللثام 5: 370؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 362.

[51]. الطباطبائي، رياض المسائل 6: 314؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 362؛ والخوئي، المعتمد 4: 165؛ والشاهرودي، كتاب الحج 3 : 183 ـ 184؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 115.

[52]. السبزواري، ذخيرة المعاد 1، ق3: 593؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 362؛ والشاهرودي، كتاب الحج 3: 184؛ وانظر: العاملي، مدارك الأحكام 7: 342؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 463؛ والطباطبائي، رياض المسائل 6: 314.

[53]. الخوئي، المعتمد 4: 165 ـ 166.

[54]. المصدر نفسه: 165.

[55]. اللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 115.

[56]. النراقي، مستند الشيعة 11: 387.

[57]. المدني الكاشاني، براهين الحج3: 132 ـ 133.

[58]. النجفي، جواهر الكلام 18: 363، مخصّصاً ذلك بلفظ الجلالة؛ وانظر: الفاضل اللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 119.

[59]. اللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 119.

[60]. النراقي، مستند الشيعة 11: 387.

[61]. الخوئي، المعتمد 4: 167 ـ 169؛ والمدني الكاشاني، براهين الحج 3: 132؛ والفياض، تعاليق مبسوطة 10: 223؛ واللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 114، 117 ـ 119.

[62]. انظر: النجفي، جواهر الكلام 18: 363.

[63]. المدني الكاشاني، براهين الحج 3: 132؛ وانظر: الشاهرودي، كتاب الحج 3: 185، 186.

[64]. النجفي، جواهر الكلام 18: 363.

[65]. الصدوق، المقنع: 322؛ وابن سعيد الحلّي، الجامع للشرائع: 184؛ والگلپايگاني، تقريرات الحج 1: 196.

[66]. الشاهرودي، كتاب الحج 3: 187.

[67]. راجع: العلّامة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعيّة 2: 35؛ وتذكرة الفقهاء 7: 393.

[68]. الشاهرودي، كتاب الحج 3: 182، 186.

[69]. الفياض، تعاليق مبسوطة 10: 222؛ والشاهرودي، كتاب الحج 3: 188؛ وانظر: مدارك الأحكام 7: 342؛ والشهيد الأوّل، الدروس الشرعيّة 1: 387؛ والشهيد الثاني، الروضة البهيّة 2: 240؛ ومسالك الأفهام 2: 258؛ والبهائي، جامع عباسي: 117؛ والفاضل الهندي، كشف اللثام 5: 371؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 469؛ والطباطبائي، رياض المسائل 6: 314؛ والنراقي، مستند الشيعة 11: 386.

[70]. اللنكراني، تفصيل الشريعة 4: 131 ـ 132.

[71]. المصدر نفسه 4: 132.

[72]. الشاهرودي، كتاب الحج 3: 186.

[73]. انظر: الخوئي، المعتمد 4: 167؛ والنجفي، جواهر الكلام 18: 364؛ والعاملي، مدارك الأحكام 7: 342؛ والعلّامة الحلي، تحرير الأحكام الشرعية 2: 69؛ وتذكرة الفقهاء 8: 27؛ والأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان 6: 296؛ والسبزواري، ذخيرة المعاد: 593؛ والجزائري، التحفة السنية: 182؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 462 ـ 463؛ والخوانساري، جامع المدارك 2: 406؛ والگلپايگاني، تقريرات الحج 1: 195 ـ 196؛ والنراقي، مستند الشيعة 11: 387.

[74]. الفياض، تعاليق مبسوطة 10: 223؛ والخوانساري، جامع المدارك 2: 406.

[75]. الشاهرودي، كتاب الحج 3: 187؛ والخوئي، المعتمد 4: 167؛ والفياض، تعاليق مبسوطة 10: 223؛ والبحراني، الحدائق الناضرة 15: 463؛ والنراقي، مستند الشيعة 11: 387.

[76]. الگلپايگاني، تقريرات الحج 1: 196.

[77]. الخوئي، المعتمد 4: 167.

[78]. الخوئي، المعتمد 4: 166 ـ 167.

[79]. الفياض، تعاليق مبسوطة 10: 222.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً