أحدث المقالات
 مفهوم التعسّف والطلاق التعسّفي

1 ـ مفهوم التعسّف:

يرتكز مفهوم التعسّف في الفقه الإسلامي ـ كما تؤصّله النصوص ـ على أساسين اثنين:

الأول: الأساس النفسي، وهو الإرادة الباطنة للمتعسّف، التي يعبّر عنها في سلوكه بالرغبة بإيقاع الضرر بشخصٍ آخر، والأساس النظري لهذا هو حديث الرسول 2: «إنما الأعمال بالنيّات، ولكل امرئ ما نوى»([1]).

الثاني: الأساس المادي، وهو المتمثل بإيقاع الضرر المادي المعبّر عن إرادة الضرر، وان كانت باطنة، ويحكم ذلك قوله 2: «لا ضرر ولا ضرار» ([2]).

ولا تخلو حالةٌ من حالات التعسّف عن إحدى هاتين الناحيتين، إن لم تجتمعا فيها؛ فإلى هذين الأساسين تُردّ حالات التعسّف جميعها.

ومن الجدير بالذكر أن مصطلح التعسّف لم يجر على لسان الفقهاء الأقدمين، فهو متأخّر في الأبحاث الفقهية، وقد سبقتها إليه الأبحاث القانونية، بل لم يعرف في مباحث الفقهاء كنظريةٍ عامة، وإن كانوا قد بحثوا مصاديقه في ثنايا المسائل المتعدّدة، ومن الأبحاث المتأخرة في الفقه نحاول عرض أبرز تعريفاتهم لمفهوم التعسّف.

1 ـ عرّفه أبو سنه: «استعمال الإنسان لحقّه على وجهٍ غير مشروع» ([3]).

2 ـ وعرّفه في مكان آخر: «تصرّف الإنسان في استيفاء حقّه تصرفاً غير معتاد شرعاً» ([4]).

3 ـ وناقش د. فتحي الدريني تعاريفه ونقدها، ثم عرّفه بأنه: «مناقضة قصد الشارع في تصرّف مأذون فيه شرعاً بحسب الأصل» ([5]).

وهذا مستفادٌ ـ فيما يبدو ـ من أبحاث بعض الفقهاء المتقدّمين كأبي إسحق الشاطبي؛ حيث يقرّب مفهوم التعسّف بقوله: «إنّ في الشريعة قواعد عامة تسري على استعمال جميع الحقوق، فالمباح يصير غير مباح بمقاصد المستعمل لذلك المباح، فصاحب الحقّ له أن يستعمل حقه، ولكن لابد أن يتساءل في أيّ غرض؟ وإلى أيّ مدى؟ وبأية كيفية؟ فلو استعمل الشخص حقّه المباح له لتحقيق مقاصد غير مشروعة بحيث تصبح نتائج استعماله لحقّه غير عادلة ومجحفة بحقوق الآخرين، فهذا من التعسّف وكذلك طريقة استعماله لحقّه.. هل تمّت بيقظة وتبصّر؟ فإن لم تتم كذلك فهو متعسف، لذلك قيل: يشترط لممارسة الشخص لحقّه واستيفائه له ملاحظة المقاصد، والنتائج، والطرق، فهذه العناصر الثلاثة هي عناصر لمفهوم التعسّف.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى: يلاحظ أن القواعد الأخلاقيّة لها صلةٌ وثيقة بنظرية التعسف([6])، وهذا أمرٌ لم يعترض عليه الفقهاء المسلمون، لإيمانهم أن مزجاً لا ينفكّ بين الفقه (القانون الشرعي) والأخلاق، بينما يوجّه أهل القانون نقداً بالغاً للخلط بين القاعدة الأخلاقية والقاعدة القانونية، غير أن المزج بين قواعد القانون وقواعد الأخلاق في الفقه واضح جداً؛ فإنّ مخالفة القاعدة الأخلاقية (بإرادة باطنة) غالباً ما يكون جزاؤه أخروياً، لا قضائياً دنيوياً، ومثال ذلك: أن شخصاً لو استخدم حالة جوازٍ قانوني واستبطن قصد الضرر أو مطلق مخالفة القاعدة الأخلاقية، فإنّ للإرادة الباطنة ـ غير المشار اليها بقرائن مادية سلوكية ظاهرة ـ يظل حسابها حساباً ديّانياً أخرويّاً وهذا هو مشهور آراء الفقهاء. لكنّ هذا الرأي يقابله: أن للقاضي أن يمنع المستعمل لحقٍّ قانوني له إذا دلّت القرائن على أنّه مصحوب بقصد الإضرار، ويدعمون رأيهم بأن القانون الشرعي (الفقه) لا يحث صاحب الحقّ على مجرّد التزام الحدّ المأذون له به، بل يحثه على بلوغ مرتبة الإحسان والتسامح في استعماله لحقوقه؛ لقوله تعالى:>إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ< (النحل: 90).

من جهةٍ ثالثة، فإن تحديد مفهوم التعسّف ـ بما تقدّم ـ يشير إلى أنّ له نطاقاً واسعاً في الفقه، منها في البيوع المنهي عنها، وأحكام تلقّي الركبان، والبيع على البيع، والسؤم على السؤم، والنجش، وبيع الحاضر للبادي، وفسخ العقد بالأعذار الملجئة، وعلى مستوى الأحوال الشخصية: الطلاق التعسّفي، وإجبار الزوجة على المطاوعة، وإجبار الزوج على استحداث بيتٍ مستقلّ للزوجة، ومجموعة من الأحكام يمكن أن تستغلّ تعسّفاً.

2 ـ الطلاق التعسّفي، والقانون العراقي

يعرّف الفقهاء الطلاق بأنه: «إزالة قيد النكاح بصيغة: أنت طالق وشبهها» ([7]).

وقد نصّت المادة (34) من قانون الأحوال الشخصية العراقي رقم 188 لسنة 1959م، أنه «رفع قيد الزواج بإيقاعٍ من الزوج أو من الزوجة إن وكّلت به أو فُوّضت، أو حصل من القاضي عند تعذّر استمرار الحياة الزوجية» ([8]).

وقد نظّم الفقه والقانون عملية الطلاق والتفريق في أحكامهما، وبناء على منطوق ودلالة الحديث النبوي الشريف «أبغض الحلال إلى الله الطلاق» ([9])، فهو في إطلاق أوضاعه مبغوض من الله تعالى، ما لم يكن علاجاً لوضعٍ لا يُرجى إصلاحه، فلو خلا من حاجةٍ ماسّة أو سبب فهو تفريط في بناء الأسرة، وبناء الأسرة مقصدٌ شرعي، وكون الطلاق في الأصل إيقاعاً يُصدره الزوج بإرادته المنفردة، يمكّنه أن يوقعه طبيعياً وأن يوقعه متعسّفاً، والتعسف إذا حصل فإن القانون العراقي قبل التعديل عام 1985م لم يتعرّض للطلاق التعسفي، إلا أنه أدخل في قانون الأحوال الشخصيه بالتعديل رقم (51) لسنة 1985م، والمنشور في الوقائع العراقية عدد (3052) في 1/7/1985م.

وقد جاء في الأسباب الموجبة لتشريعه: «إنه حماية للزوجة من إيقاع الزوج الطلاق عليها تعسفاً، ويعوّضها عما يصيبها من ضررٍ من جراء ذلك، وضماناً لعيشها، وحفظاً لكرامتها، ولأجلها شرّع هذا القانون، وأدخلت في القانون الفقرة (3) من المادة (39) التي تنصّ على أنه «إذا طلّق الزوج زوجته، وتبيّن للمحكمة أنّ الزوج متعسّف في طلاقها، وأن الزوجة أصابها ضررٌ من جراء ذلك، تحكم المحكمة ـ بطلبٍ منها ـ على مطلّقها بتعويضٍ يتناسب وحالته المادية ودرجة تعسّفه، ويقدر جملة على أن لا يتجاوز نفقتها لمدة سنتين، علاوة على حقوقها الثابتة الأخرى» ([10]).

وقد جرى العمل، منذ ذلك التاريخ، على ذلك وأصدرت محكمة تمييز العراق قرارات تمييزية مصادقة لأحكام صدرت من محاكم الأحوال الشخصية، تحكم فيها على أشخاص طلّقوا زوجاتهم بنفقة التعسف([11]).

ويشار إلى أنّ هذا التعديل وما ترتب عليه من إضافةٍ لقانون الأحوال الشخصية العراقي حصل إبان الحرب بين (صدام حسين) والجمهورية الإسلامية الإيرانية، فقد كثر الطلاق بسبب أوضاع الحرب مما أدى إلى إجراء يقلّل من كثرته وما يقرّب المرأة من السلطه آنذاك، وكان التعديل قد تمّ بمرسوم، ولأجل نقد هذا التعديل ـ لا من جهة صلاحية المشرّع ـ إنما من جهه نقد التشريع جاء هذا البحث.

صور التعسّف في الطلاق وقيوده

1 ـ صورة التعسّف في الطلاق

إن شروط الحكم للزوجة المطلقة تعسفاً، كما تنصّ عليها الفقرة (3) من المادة (39)، تتحدّد بـ:

1 ـ أن يتضح للمحكمة أن الزوج متعسّف.

وهنا يرد سؤال: كيف يتسنّى للمحكمة أن تتبيّن التعسف؟ وما المعايير الضابطة لمعرفة التعسّف ودرجته، فهذا يفتح الباب أمام اجتهاد القاضي.

2 ـ أن يتبيّن للمحكمة أنّ الزوجة أصابها ضررٌ من جراء ذلك، ولم تفصح الفقرة (3) من المادة (39) نوع الضرر (مادي، اعتباري)، وحجمه ومقداره؛ لأن الضرر واقع لا محالة في أغلب حالاته.

3 ـ نصّت الفقرة أن التعويض يلزم أن يتناسب مع أمرين:

أ ـ الحالة المادية للزوج.

ب ـ درجة التعسّف.

فلو افترضنا أن الحالة المادية متدنية أو متوسطة، فإن المحكمة لا يمكنها أن تحكم بالتعويض ـ حتى مع تبيّنها أنه متعسف، وبذلك يكون تعسّف الفقير لا عقوبة عليه، وتعسف المليء خاضع للعقوبة، وهذا ما يشكّل اضطراباً آخر في التشريع، أما درجة التعسّف فلا يعرف معيارٌ لتحديدها، ولم توضحه التعليمات واللوائح أو القانون، سوى ما يتصوّره القاضي عن:

1 ـ كيفية إيقاعه.

2 ـ البواعث الدافعة إليه إذا توصّل إليها، وهذا ممّا لا يتوصّل إليه بيُسر.

3 ـ والأسس الفقهية التي يبني الفقهاء جواز أو كراهة الطلاق عليها.

أمّا كيفية إيقاعه، فالقرائن الدالة على اختياره كيفيته مسبّبة لجرح معنوي، أو هدر لمكانة المرأة، كان عليه أن يتحاشاها، وكل كيفية ينتج عنها ضرر غير معتاد للمرأة، ربما تكون كاشفةً عن التعسف، وإذا ظهرت بواعث ضررية بالقرائن والأفعال فإنها كاشفة عنه.

ومن جهةٍ فقهية، ربما يُستند في التعسّف على رأيٍ للفقهاء في أسس حكم الطلاق بلا سببٍ موجب؛ فالفقهاء ـ كما هو واضح ـ اختلفوا في حكم الطلاق بلا سبب، فمع استقامة حال الزوجين كانوا على قولين:

أحدهما: إنه محرّم إذا كان لغير حاجة، ونُسب هذا الرأي للإمام أحمد.

ثانيهما: وهو مشهور الحنابلة أنه مكروه([12]).

وذكر الدمشقي أنه مع استقامة حال الزوجين يصبح الطلاق مكروهاً بالاتفاق، بل قال أبو حنيفة بتحريمه([13]).

إن اختلاف الفقهاء في أصل الطلاق هل الإباحة أم الحظر؟ يصحّ أساساً نظرياً للكشف عن التعسّف فيه وعقوبته؛ فالقائلين بالحظر إلى أن يقوم ما يدعو إليه، لما يفترض في المتعسّف أنه لم يطلق ـ تحت ضغط سبب ما ـ فإنه يكون قد أتى بمكروه شرعي ترتب عليه ضرر مادي، وحصل بقصدٍ ضرري؛ وعليه فهو يستحقّ أن يعاقب؛ تعزيراً له على هذا الفعل([14]).

إذن، فالطلاق إن وقع موافقاً للقانون في مضمونه ومقاصده ونواياه ونتائجه فإنه مباح، وإن وقع موافقاً للقانون في مظهره فقط فإنه في الأقل على الكراهة، أما التعويض فلأجل السبب المفقود من تصرّفه المناقض لمقصود الشارع؛ ولذا فإن اعتبار الزوج متعسفاً يحصل إذا قصد بطلاقه غير القصد الشرعي؛ فيكون التعسف مبنياً على مناقضة قصد الشارع.

وخلاصة القول: إن الطلاق مباح، إذا كان خالياً من قصد الإضرار، أو خلا من سببٍ شرعي وجيه على رأي من يرى إباحته مطلقاً، ومع كونه كذلك فإن الفقهاء فيه على قولين:

أ ـ إنه يقع قضاءً ويحاسب ديانةً وأخروياً، وليس لأحد تقييد إرادة الزوج أو فرض شرط أو عقوبة عليه.

ب ـ إنه يقع قضاءً وعلى المتعسّف تعويض المطلّقة، تعويضاً مناسباً للضرر الواقع عليها.

وسترد تفاصيل أخرى في الموازنة بين القولين.

2 ـ أدلّة تحريم التعسف

هل التعسّف باستعمال الحق محرّم شرعاً؟ وما الأدلّة على ذلك؟

والجواب: اتفقت كلمة الفقهاء على الحرمة الشرعية للتعسّف كحكمٍ تكليفي، وسيرد الحكم الوضعي له، أمّا أدلتهم على الحرمة فهي:

1 ـ قوله تعالى>وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لَّتَعْتَدُواْ< (البقرة: 231).

أخرج مالك والطبري في سبب نزولها أنّ الرجل كان يطلّق ويراجع قبل العدّة ليطيل العدّة عليها أو المتضيق النفقة في العدة إضراراً فورد النهي، وهو موجبٌ لحرمة التصرّف، أي لا تراجعوهنّ بنيّة إطالة العدّة، ومعلومٌ أن الرجعة حقٌّ للزوج بل هي مندوبة، لكن المشرّع (الله تعالى) نهى عنها إذا أجراها بقصدٍ غير مشروع([15]).

2 ـ قوله تعالى: >مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ< (النساء:12).

وواضحٌ أن الإقرار بالوصية بين الوجوب والندب، وكذا الدين للدائن، فإذا كانت صورته صورة وصية أو دين ومضمونه تبرع أو هبة ينقلب الحكم إلى الحرمة؛ لقصد الإضرار.

3 ـ حديث الضرر المتقدّم، ومن سبب نزوله تظهر حرمة التصرّف الضرري عموماً.

4 ـ حديث النيّات المتقدم.

5 ـ حرمة التعاون على الإثم.

من هذه وغيرها، تظهر لنا حرمة التعسف ـ مجملاً ـ من حيث هو مفهوم كلّي.

3 ـ جزاء التعسّف

الأصل في جزاء التعسف هو الجزاء الأخروي؛ لارتباطه بالمقاصد والأغراض التي يصعب الوقوف عليها وإثباتها، فيقوم الجزاء الأخروي بدوره في الزجر والردع والمنع ديانةً، وقد يكون باباً ينفذ منه الاجتهاد إلى المنع القضائي إذا ما دعت المصلحة وأسعفتها القواعد العامة، وقد يصار ـ وفي ذلك خلافٌ سيأتي ـ إلى الحكم بالضمان عند العجز عن إزالة الضرر.

4 ـ معايير التعسّف

لأجل فقدان الضابط لمعرفة التعسّف بوصفه معياراً يهتدي به القاضي، لابد من عرض معايير التعسف وهي:

1 ـ قصد الإضرار في استخدام المباحات والمندوبات والمكروهات، فمثلاً لو تزوّج شخصٌ زوجةً إضراراً بزوجته الأولى، فهو متعسف، وكذا لو طلّق زوجته بقصد الإضرار بأهلها أو بها؛ فهذه الأمور جائزة بالعنوان الأولي، إلا أنها لما حصلت لغرض الإضرار صارت من التعسّف، وجزاء هذا النمط من التعسف أنّه بعد ثبوت إرادة الضرر في استخدام الحقّ إذا ثبت للقاضي، فله أن يعزّره؛ لما قاله فريقٌ من العلماء: «أنه إذا انكشف للحاكم أنّ المدعي مبطل في دعواه، فإنه يؤدّبه؛ لينقطع أهل الباطل»([16])، وهو ما يقابل في القانون إشغال السلطات القضائية بدعوى صورية أو ضررية، أو من جنس الدعوى الكيدية، ومن ذلك الإقرار بدَين صوري؛ للإضرار بالدائنين.

2 ـ أن يقصد غرضاً غير مشروع مغاير للأغراض الشرعية، كمن أعطى للقاضي هديةً يقصد بها الرشوة، أو البيع الذي يقصد به الربا، وزواج التحليل بقصد تحليل المطلقة ثلاثاً لزوجها الأول، وحكم هذا النمط كحكم سابقه.

3 ـ أن يقصد تحقيق مصلحة مشروعة، أو دفع ضرر عن نفسه، إلا أنّ ذلك ينتج عنه ضرر لاحق بالغير أعظم من المصلحة المجلوبة والضرر المدفوع، كالاحتكار، وحكمه إزالة الضرر والتعزير؛ فلو طلّق لرغبة زوجةٍ أخرى، فله مصلحة، ولكن ينتج عنه ضرر بالغير.

4 ـ أن يستعمل حقّه بما لم يتعارف عليه بين الناس، كمن سقى زرعه بشكلٍ غير معتاد فتلف زرع جاره، أو من يحمّل المأجور فوق طاقته، وحكم هذه الصورة من جهة الحكم التكليفي هو الحرمة، ومن جهة الحكم الوضعي وجوب الضمان.

5 ـ أن يستعمل حقّه، وهو ذو طبيعة يتطلّب لاستعماله له احتراسٌ معيّن، ولا يحترس المتعسّف في استعماله لهذا الحقّ؛ فيفضي إلى الإضرار؛ كمن أراد أن يصيد طيراً فطاش سهمه وأصاب إنساناً، أو من استعمل في الدفاع الشرعي سلاحاً لا تدعو إليه الضرورة([17])، وفي هذه الحالة يترتب على عدم احتراسه أضرارٌ؛ فيقع عليه الضمان قطعاً والتعزير على رأي.

وترجع الأربعة الأولى من هذه المعايير الخمسة، إلى قاعدة سدّ الذرائع؛ لأنّ مآلات الأفعال معتبرة في الشريعة للحكم على الأفعال ـ جوازاً أو حرمةً ـ فبيع السلاح لوحده جائز، ولكن إذا بيع لأهل الفتنة انقلب حراماً، والكذب لوحده حرامٌ، لكن لو استخدم لإصلاح ذات البين صار جائزاً، والطلاق لوحده مباحٌ أو مكروه، لكنه إذا كان تحت قصد الإضرار تحوّل إلى الحرمة؛ لحرمة القصد المذكور، لاسيما إذا قصد به غرضاً غير مشروعٍ، كما لو طلّق امرأةً ليس لها من يضمنها، فهنا يلعب العنوان الثانوي دوراً هاماً في حرمتها، كما لو قصد بطلاقه مصلحةً مشروعة كإرضاء الأبوين، أو إرضاء زوجةٍ أخرى، لكن كان ضرر الطلاق على المطلّقة أكبر، ولو طلّق امرأةً يضرّ طلاقها بوضعها الاجتماعي؛ لغرض التأثير على وضعها الاجتماعي هذا، أو لو طلّقها في ظروفٍ يشتبه الناس أنه طلّقها لمسٍّ في عفتها، فهذا كلّه ـ مع القصد ـ لا يخلو من شبهة التحريم.

وترتكز فكرة تحريم التعسّف على الخطأ التقصيري أو المسؤولية التقصيرية، مما كان يطلق عليه الفقهاء عنوان التعدّي والتفريط، والتعدّي إما مباشرةً أو بالتسبّب، لكنّه في مجال الفقهاء الذين يجوّزون ضمان الضرر يبنونه على قاعدة ضمان العقد([18]).

 والذي يترجّح عندي أن المعيار الأول مبني على حرمة قصد الضرر، ويكشف التعسّف من خلال ملاحظة الأضرار غير الاعتيادية الناتجة عن طلاقٍ تعسفي، أما المعيار الثاني، فلمخالفة النظام العام، وأما الثالث فلعدم الموازنة بين مصلحة الزوج والمضرّة الحاصلة للمطلقة، وأمّا الرابع فمبني على مخالفة عرف العقلاء، فيما يبنى الخامس على عدم الاحتراس فيما يجب مراعاته، وكل المعايير مبنية على أساس فلسفي، وهو أنّ حقّ الفرد (الحق الشخصي) في الشريعة لا يمكن أن يكون حقاً خاصّاً محضاً، إنما للمجتمع حصّة في حقوقه يلزمه مراعاتها.

ويتضح هنا أن نظرية التعسف متفرّعة على نظرية الحق في الشريعة، الواسعة النطاق والمضبوطة في فروعها، والفقه الإسلامي ـ فيما نرى ـ أكثر ضبطاً لها من القانون السويسري الذي يبني التعسّف فقط على سوء النية، والقانون الروسي الذي يبنيه على مخالفة النظام العام فقط([19]).

5 ـ الآثار المترتبة على التعسف

لكلّ فعل حكم تكليفي، هو واحدٌ من الأحكام الخمسة، وربما له حكم وضعي كأن يكون سبباً أو شرطاً أو مانعاً، وقد يكون الحكم التكليفي ـ كالحرمة مثلاً ـ ممّا له جزاء، ويتعدّد الجزاء بين الديني الأخروي والدنيوي القضائي، والتعسّف نطاقه النوايا والإرادة الباطنة التي لا يستطيع القضاء إثباتها بطرقه المعروفة ومعاييره الصحيحة؛ لأن أكثر أسباب الرخصة فيه خفيّة لا يذكرها المسلم، فربما لو سأل القاضي عن السبب لأدى إعلانه إلى ضرر بالغ بالزوجة، والأسباب النفسية لو ادّعاها فلا إثبات عليها غير إقراره؛ لأن منعقد الزواج أسباب عاطفية، لكن لو توضّحت الأسباب أو الأضرار أو الغرض المناقض لمعتاد الشرع أو لو ثبت للقاضي أن المطلّق يحقّق فيه مصلحة لا يوازيها الضرر الواقع على المطلقة، أو أنه استعمل حقّه خارج المتعارف أو كونه لم يحترس فيما يلزمه الاحتراس فيه، فهل يمنعه القاضي من إيقاع الطلاق؟

الحقّ أن منع الزوج من الطلاق لم يقل به واحدٌ من الفقهاء، فلا يعالج هذا النمط من التعسّف بردّ الدعوى، ولا يمكن أن يُقاس الطلاق التعسفي على وصية الضرار لحرمان الورثة أو الدائنين أو الإقرار بدين صوري، إن واحداً من آثار التعسف هو إبطال الدعوى وتحجيز استيفاء الحقّ متى ثبت التعسف، لكن هذا الأثر لا يمكن اعتماده في حالة الطلاق حتى مع ثبوت التعسّف من قبل الزوج.

وثاني الآثار هو رفع الضرر الناتج عن التعسف، كمن بنى في ملكه ما يسدّ على جاره الضوء أو الهواء، فالقضاء يأمره بإزالة سبب الضرر، ولو حكم القاضي بإزالة الضرر لأمره بإعادتها، وهو بحكم ما لو منعه من إيقاع الطلاق، وحيث إن هذا مخالفٌ للنص والإجماع، فلا يعالَج به فعل التعسف في طلاق الزوج، فلم يبق إلا التعزير، وهو إمّا مادي أو معنوي، والتعزير المعنوي هو تقييد حرية الزوج في تعاقدٍ جديد، أو غير ذلك، والمادي هو الحكم عليه بتعويض مالي مناسب.

ثبوت التعويض المالي على الزوج المطلّق تعسّفاً

تقدم أن الفقرة (3) من المادة (39) من قانون الأحوال الشخصية العراقي، قد أخذت بجواز الحكم عليه بتعويضٍ مالي وفقاً للشروط التي أثبتتها المادة أعلاه، وتأصيل ذلك في الفقه والقانون جارٍ على مجموعة أصول أدّى اختلاف الفقهاء في تحديد دلالتها إلى انقسامهم إلى فريقين:

الفريق الأول: لم ير صحّة أو جواز تعزيره بتعويضٍ مالي للزوجة، واستدل على ذلك بأدلّة متعدّدة.

الفريق الثاني: وقد أيّد صحة الحكم عليه بتعويض مالي للزوجة متى ثبت أنه متعسّف، وقد بُني الخلاف ـ أساساً ـ على مجموعة أدلّة:

1 ـ نظرية تجويز التعويض المالي، الأدلّة والبراهين

استدل مجيزو تعزير المطلّق تعسفاً بعدّة أدلة، نوردها ومناقشتها فيما يأتي:

1 ـ حكم الطلاق: لقد قام الإجماع على أنه مكروه في حالة استقامة الزوجين، وقال أحمد وأبو حنيفة: إنه مع استقامة حال الزوجين حرام([20])، فمتى قيل: إنه مكروه حتى تقوم له حاجة واضحة ومحدّدة فإيقاعه بدونها هو عمل مكروه شرعاً، فإذا أدّى إلى ضرر لزم تعويض المتضرّر، مع تعذر إزالة الضرر.

ويردّ المانعون بأن الطلاق مباح في حال الحاجة إليه، ومكروهٌ مع عدم الحاجة، والمباح والمكروه يقعان في دائرة الجائز في الشريعة، وحيث هو جائز فلا ضمان للضرر الناتج عن فعلٍ له حكم الجائز؛ لقاعدة أن الجواز الشرعي ينافي الضمان.

2 ـ استدلّ المجيزون لحكم التعويض المالي بقوله تعالى: >فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً< (النساء: 34)، فالآية واضحة في أنّ الطلاق بغيٌ مع طاعة الزوجة، والبغي موجبٌ للتعزير.

ويجاب بأنّه نهيٌ شرعي مقتضاه الحرمة، ولا يرتبط بالضمان.

3 ـ قوله 2: «لا تطلّقوا النساء إلا من ريبة، فإنّ الله لا يحبّ الذواقين ولا الذواقات» ([21]).

ويردّ بأن الحديث ضعيفٌ؛ فلا يصلح مستنداً.

4 ـ ولأن الطلاق لغير ما سببٍ سفهٌ وظلم، وكفرانٌ بنعمة الله، وقطع لما أمر الله به أن يوصل، وجنايةٌ على الزوجة والأولاد والمجتمع، فحيث هو قطع لهذه النعمة، وقطع النعمة لا يجوز إلا إذا زالت صفتها، فيكون حراماً كإتلاف المال فلابد من ضبط إيقاعه.

5 ـ ولأن الزواج في الأصل عقدٌ أبدي لا ينهيه أحد العاقدين بإرادة منفردة، إلا لحاجة وتعذر استمرار العقد، فإنما أجيز فسخ النكاح للحاجة، ويبقى الأمر على حكم الأصل، وهو أبدية العقد؛ من هنا يتضح أن ضمان العقد هو الأساس الذي يُبنى عليه التعويض.

ومجموع هذه الأدلّة يوضح أن الطلاق بلا حاجة أو لسبب الإيذاء عملٌ محرم، فهو إذاً مخالفٌ للنظام العام، ومجرد مخالفة النظام العام تكفي سبباً للحكم عليه بتعزيره بالتعويض المالي، لكن لبيت المال وليس للزوجة، إذا جعلناه ضمن نطاق التعزير، وليس ضمن دائرة الضمان الشخصي.

أمّا إذا كيّفناه على أنه بغيٌ على الزوجة فيستقيم أمر التعويض المالي لها، ولا يسلم لصحّة التعويض المالي للزوجة إلا الدليل الثاني من أدلة المجيزين، وهو ظنّي الدلالة.

2 ـ نظرية رفض التعويض المالي، كشف المستندات

أمّا أدلة المانعين، فإنهم يرون أن التعويض المالي ليس له أصل في الشريعة؛ لمجموعة أدلة منها:

1 ـ قوله تعالى: >لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً< (البقرة: 236)، وقد استفادوا من الآية حليّة أو إباحة الطلاق، والإباحة العامة تنافي الضمان.

لكنّ الاستدلال بالآية ليس صحيحاً؛ وذلك أنّها تجيز الطلاق في صورة عدم المسيس، فليست مشرّعةً لعموم جواز الطلاق كما أريد تكييفها للاستدلال، إنما هي في مقام نفي الجناح في طلاق من لم تمسّ بعد، وقد فسّرها المفسرون تفسيراً يوضح مقام التشريع الناظرة له، وهي ـ فيما أرى ـ أجنبية عن المورد الذي نحن فيه([22])؛ لأنها في مجال إعطاء المهر وعدمه إذا طلقها لسبب ما، قبل المسيس وفي حالة عدم فرض مهر لها؛ لأن المدخول بها وليس لها مهر تستحقّ نصف المهر، فكيف حال من لم يسمّ لها مهر ولم تمسّ، فهل تطلق؟

وقد جاء الجواب بالنص القرآني، نعم وبشروط منها فرض مهر مِثل، واستحقاق نصفه، وأنه قبل المسيس لا بدعة فيه، وكذا لو كان قبل فرض المهر، وعن البيضاوي أنه فهم من الآية أن غير الممسوسة لا تطلق حتى تفرضوا لها فريضة، أي المهر؛ رداً على من توهّم أنه لا يقع على غير الممسوسة أو غير المفروض لها المهر؛ وعليه فلا يؤخذ من لفظة >لا جناح< إباحة الطلاق مطلقاً، وإن كنّا مع الحكم الذي ادّعوه، إلا أنّ الدليل المساق لا يساعد على استفادة مثل هذا الحكم([23]).

2 ـ إن النبي 2 طلّق حفصة([24])، وكذا طلّق كثيرٌ من الصحابة نساءهم، ولو كان محظوراً أو عليه تَبِعة تعويضيّة لظهر في التشريع، ولو كان الطلاق مرتبطاً بالحاجة لكانوا يسألون عن وجه الحاجة، ولذلك فإن الطلاق أمرٌ متروك للزوج، ولو كان متعسفاً فعقابه أخروي.

ويردّ أن النبي والصحابة ربما طلّقوا غير مضارّين، بل النبي كذلك قطعاً لعصمته، والسؤال عن الحاجة لم يرد في التشريع ولوائح صحة الطلاق، وهذا خارجٌ عمّا نحن فيه من وجود قرائن التعسف الظاهرة للمحكمة، ولا يمكن الاستناد إلى سوابق تختلف في حيثياتها مع الحالة المدروسة، وهو الطلاق التعسفي.

3 ـ لما لم يكن في الشريعة نصٌّ جليّ على تعويض المطلقة، فالأمر مسكوتٌ عنه؛ وحيث إنّ الطلاق جائز بإطلاقه أو مكروه أو حتى محرم ولكن لم يترتب عليه تعويض مالي في نصٍّ شرعي، وإذا عرفنا أن نصوص القرآن في الطلاق من قبيل البيان التفصيلي، إذاً فلا مجال للاستصلاح والاستحسان قبالة جواز الطلاق عموماً بمقتضى النص، وحيث لا اجتهاد في معرض النص، ولا تقيّد المصلحة أو الاستحسان النصّ المطلق، ولا تخصّص عموماته.. فلا حجّة على الإطلاق على صحّة فرض التعويض على الزوج.

4 ـ لما كان الطلاق الصحيح بشروطه نافذاً وجائزاً شرعاً، فإن أيّ فعل جائز لو ترتب على فعله ضررٌ فلا ضمان؛ لأن الجواز الشرعي ينافي الضمان، بل لو ألزمناه بالتعويض فكأننا منعناه من فعلٍ جائز، وهذا تحكّمٌ في الشرع.

5 ـ على رأي من يرى أن الطلاق حرام ما لم تقم له حاجة، فهذا أولاً أمر غير منضبط؛ لأن الحاجة قد تكون خفيةً لا يضبطها القضاء ولا تخضع لوسائل الإثبات، بل قد تكون مما يجب ستره؛ ففي إعلان السبب مضرّة أكبر للزوجة.

6 ـ لما لم يتضمّن عقد الزواج شرطاً صريحاً أو ضمنيّاً بعدم الفسخ إلا لحاجة، وكان ذلك من جهة المشرّع فهو فهم اجتهادي مختلَف فيه كما تقدّم؛ لأنه مخالف للنظام العام، فالعقد وحده لا يعد أساساً للتعويض المالي في حالة الطلاق التعسّفي.

7 ـ إن المتفق عليه أن المطلق تعسفاً آثم ديانةً، إلا أن نقل الإثم الديانتي إلى العقوبة القضائية يحتاج إلى دليل؛ لأن الإثم الديانتي يقع بين العبد وربّه، فنقله إلى ما بين العبد والعبد نقلٌ من نطاقٍ إلى آخر مغاير له، وفقدان الدليل على صحّة نقل ما هو ديانتي إلى ما هو قضائي يجعله استحساناً، لا يستدلّ به على صحّة التعويض.

3 ـ ردود المجيزين لنفقة التعسّف

أ ـ إنه قد ثبت أن الطلاق ـ مع استقامة حال الزوجين ـ مكروه، فإذا لم تكن هناك حاجة فهو محرّم، وحيث جرّ هذا المحرّم ضرراً على الزوجة والأولاد والمجتمع فهو مثل ردّ عين المغصوب، وضمان المتلف، وحيث لا إمكان لإزالة عين الضرر المترتب على الطلاق الذي هو سبب تضرّر الغير، فليس إلا التعويض المالي عنه.

ب ـ إن المطلّق تعسفاً مسؤول عن تصرّفه مسؤوليةً تقصيرية؛ لأنه مقصّر في تدارك اندفاعه النفسي السلبي وتعقّله ورشده، وحيث يتعذر إعادة الحال إلى حالته السابقة لزم التعويض، والفقه الإسلامي لما ثبت فيه تعويض المال المتلف فبتحقيق المناط يمكن نقله إلى تعويض الضرر الأدبي أو المعنوي، وحيث إن باب التعزير يسع ذلك، وقول أبي يوسف لضمان أرش الألم يسع ذلك أيضاً، وحيث لا عبرة في عدم تعرّض الفقهاء السابقين للضرر المستقبلي كحجّةٍ لمنع نفقة التعسف.. صارت النفقة من باب المستجدّات التي لها حيثيات شرعية وجيهة.

ج ـ يمكن تكييف التعويض، أي نفقة التعسف، بأنه مما ترتب على مسؤولية تعاقدية، حيث إن عقد الزواج دائمي، والزوجة ملتزمةٌ به، فإذا طلّقها متعسفاً لغير حاجة فكأنه أخلّ بالعقد؛ لذا فإن التعويض مترتبٌ على طبيعة العقد نفسه.

د ـ حيث إن الشريعة مبنيةٌ على جلب المصالح ودفع المفاسد، فإن الحكمة في جواز التعويض تقليل حالات الطلاق الكيدي، أو ما كانت وراءه نزوةٌ عابرة، وذلك لوجود عدد من الناس المتفاوتين في النبل والاستقامة فلا يعاملون معاملةً واحدة.

هـ ـ إن تعويض المطلقة تعسفاً جزءٌ من حقوقها التي كفلتها الشريعة كالمهر المؤجل ونفقة العدّة، والسكني، فله حكم مثيلاتها.

و ـ لم تخل آية قرآنية تعرّضت للطلاق من توكيد للمعروف والنهي عن الإساءة والإيذاء؛ فتعزيره منسجمٌ مع مقاصد الشريعة.

ز ـ قوله تعالى:>وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النَّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ< (البقرة: 231)، والمعروف يقتضي عدم الإضرار؛ لأنه منكر نقيض المعروف، فمتى سرّحها بإضرار وجب عليه تعويضها عن الضرر المتحقق أو المتوقّع.

ح ـ قوله تعالى:>لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ< (البقرة: 236) ([25]) والتعويض جزءٌ من المتاع.

ويناقش أنّ هذه الآية في من طُلقت قبل المسيس ولم يفرض لها مهر، ومتعة التي لم يدخل بها ولا سمّي لها صداق، أن يفرض لها متعة، وفي الآية لفظان (حقاً) و(المحسنين)، والأول يشير إلى الوجوب، والثاني مشعرٌ بالاستحباب، إلا أن النصوص من طرق أهل البيت تفسّر الحكم بالوجوب.

قال ابن عباس: المتاع خادم وكسوة ورزق، وهو المروي عن الأئمة E، وقيل: نصف مهر مثلها عن أبي حنيفة، وفي وجوب المتعة لكلّ مطلقة خلاف على ثلاثة أقوال:

الأول: إنها لكل مطلقة إلا المختلعة والمبارية والملاعنة، وهو رأي أبو العالية.

الثاني: للتي لم يسمّ لها صداق خاصّة، وهو مذهب أهل البيت وسعيد بن المسيب.

الثالث: لكل مطلّقة على وجه الاستحباب.

وقال فقهاء العراق ـ وهم ممّن اعتبر القول الثاني ـ : إنه يجبر السلطان الزوج على أن يمتّعها، وذهب فقهاء المدينه إلى أنه يؤمر بها ولا يجبر عليها([26]).

ط ـ قيل: وطلاق الرجل المتعسف، وإن كان فيه حلٌّ لمشكلة الزوج، إلا أنّه لا يصحّ أن يكون أساساً لخلق مشكلة للزوجة، من هنا حمت الشريعة مصالحها بالتعويض المادي([27]).

إنّ كل حقّ في الشريعة غالباً ما يُصاحبه أو ينشأ عنه في الغالب ضررٌ للآخرين، فإذا كان الطلاق حقاً للرجل يوقعه بإرادته ليحلّ مشكلته، فلابد من مراعاة حقّ الزوجة، طالما استفاد من طلاقه غنم، ولكل غنم غرم.

4 ـ مناقشة الردود

أ ـ إنّهم يتخطّون إصرار الفقهاء المسلمين في أنهم لا يعرضون الضرر المعنوي بالمال ويقيسونه على الضرر المادي، والقياس فيه فارق أو يحتاج إلى دليل لإلحاقه.

ب ـ ويتخطّون قاعدة الجواز الشرعي ينافي الضمان، بل حتى الطلاق المحرّم، فعقوبته ديانتية، وجرّها إلى القضائية الدنيوية مبنى على استحسانٍ محض.

ج ـ وهم يبنون تعويض التعسّف على مسؤولية تقصيرية، مع أنّ إثباتها صعب، ومعه فالعقوبة ديانتية، ويتخطّون أن التعزير على ما لا يصحّ شرعاً، والطلاق جائز شرعاً، وأرش الألم عند أبي يوسف جاء من جرّاء عمل مادي كالضرب والشجّ الذي عليه دية، وإلا لم فرع من ذلك، ويتخطّون عدم تعرّض الفقهاء للضرر المتوقع المستقبلي؛ لأن الضرر المعوّض لابد أن يكون واقعاً لا متوقّعاً.

د ـ أمّا قولهم: إن الزواج مسؤولية تعاقدية ترتّبت على المطلق تعسفاً، فهو غير صحيح في رأينا؛ لجواز فسخه بالنظام العام، والفسخ ليس إخلالا بالعقد وليس التعويض مترتباً على طبيعة العقد([28])، أما تقليل حالات الطلاق التعسفي بالتعويض المالي، فهذا مما لا يعدّ أصلاً ودليلاً شرعياً، فالحكمة في التشريعات لا تصلح دليلاً شرعياً.

هـ ـ ولا عبرة بمساواتهم بين نفقة التعسف، وحقوقها الشرعية الثابتة كالمهر المؤجل لأنه دين ونفقة العدة، لأنه ثبت بنصّ صريح، وإلحاق نفقة التعسّف الاجتهادية والمختلف فيها بما ورد به نصّ تحكّمٌ في الشرع.

الخاتمة ونتيجة البحث

يقول الشيخ محمد أبو زهرة: «إن المحاكم التي سلكت مسلك التعويض في التعسّف هي الأقل عدداً في مصر، أما أكثر المحاكم فقد استقرّ أمرُها أنه لا تعويض في الطلاق، ومع ذلك فقد اقترح مشروع سنة 1956م في مصر أنه إذا كان الطلاق بعد الدخول بغير رضاها فلها متعة نفقة سنة بعد انتهاء العدّة» ([29]).

وقد أثبتنا أن ليس لهذا مستند شرعي صحيح، فكيف بقانون الأحوال الشخصية العراقي الذي يقرّر أنّ لها نفقة سنتين، علاوة على حقوقها الثابتة.

لذلك فإن المادة (39) في فقرتها (3) مما يجب إلغاؤه أو تعديله؛ لأنه لا يستند إلى أساسٍ سليم، فضلاً عن أن التحقق من كون الزوج متعسفاً في طلاقه، وأن الزوجة أصابها ضرر مسألة متروكة لتقدير المحكمة، وحيث لا يصحّ إحالة مثل هذه القضية إلى الخبراء([30])؛ فإنها تعطي للقاضي سلطة واسعة بلا أدواتٍ لتقدير التعسّف ولتقدير الضرر الذي يلحق الزوجة، وعليه، فإن الموضوع برمّته يحتاج إلى تعديل أو إلغاء وإحالة الأمر إلى العقوبة الدينية.

*     *     *

الهوامش


(*)  أُستاذ الدراسات الإسلامية العليا، كلية الآداب، من العراق.



([1]) حديث مشهور رواه الخليفة عمر بن الخطاب، قال العلماء: متفق على صحته. وقال الشافعي وأحمد: إلى هذا الحديث يرجع ثلث العلم، في تخريجه وقوته، ابن حجر: فتح الباري 1: 6؛ وعمدة القارئ 1: 16؛ وشرح عمدة الأحكام 1: 7؛ والسيوطي: الأشباه والنظائر: 7.

([2]) رواه أبو سعيد الخدري، وأخرجه الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم؛ ورواه الكليني في الكافي، والصدوق في الفقيه، والطوسي في التهذيب 1: 413.

([3]) أحمد فهمي أبو سنه، النظرية العامة للمعاملات، محاضرة في مجموعة المحال، أسبوع الفقه الإسلامي: 100، 110.

([4]) المصدر نفسه.

([5]) د. فتحي الدريني، الحق ومدى سلطان الدولة في تقييده: 311.

([6]) الشيخ محمد أبو زهرة، نظرية التعسف، اعمال الفقه الإسلامي: 29.

([7]) النجفي، جواهر الكلام 32: 2.

([8]) قانون الأحوال الشخصية العراقي المادة (34).

([9]) رواه أبو داود، وابن ماجة، وصحّحه الحاكم، والمشهور إرساله، انظر: سنن ابن ماجه 1: 650؛ والسيوطي، الجامع الصغير 1: 5.

([10]) قانون الأحوال الشخصية، وهامشه: 42.

([11]) قرار محكمة التمييز الصادر في 3/3/1996 المنشور في مجلة القضاء: 185، ع2، س1986.

([12]) شرح النووي لصحيح مسلم 10: 61؛ وسبل السلام 3: 168؛ ونيل الأوطار 6: 187؛ والبهوتي، منتهى الإرادات 3: 119.

([13]) الدمشقي، رحمة الأمة: 228.

([14]) الذهبي، الأحوال الشخصية: 220 ـ 222، الطبعة الأولى، 1985م.

([15]) الطوسي، التبيان 2: 251؛ والطبرسي، مجمع البيان 1: 332؛ والطباطبائي، الميزان 2: 236؛ والجصاص، أحكام القرآن 1: 399.

([16]) ابن فرحون، تبصرة الحاكم 2: 131؛ ومعين الأحكام: 213.

([17]) أحمد فهمي أبو سنه، النظريات العامة للمعاملات ـ نظرية الحق: 107.

([18]) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام 3: 148، ضمان الشرط الضمني.

([19]) أبو سنه، النظريات العامة للمعاملات: 226.

([20]) الشعراني، الميزان الكبرى 2: 120.

([21]) السيوطي، الجامع الصغير 2: 201؛ ورواه الطبراني في الكبير عن أبي موسى الأشعري وضعّفه.

([22]) انظر تفسيرها في: السيوري، كنـز العرفان 3: 100؛ والرازي، مفاتيح الغيب 6: 148؛ والطبرسي، مجمع البيان 1: 234؛ والقرطبي، الجامع لأحكام القرآن 3: 196؛ وابن كثير، التفسير 1: 269؛ والطوسي، التبيان 2: 269؛ والطباطبائي، الميزان 2: 245؛ والجزائري، قلائد الدرر 3: 250.

([23]) د. عبد الأمير زاهد، دلالة لا جناح: 24.

([24]) الذهبي، الأحوال الشخصية: 221.

([25]) انظر: الطباطبائي، الميزان 2: 245؛ والطبرسي، مجمع البيان 1: 340.

([26]) الطوسي، التبيان 2: 269.

([27]) أحمد الكبيسي، نظام الأسرة: 214.

([28]) أبو زهرة، الأحوال الشخصية: 285.

([29]) المصدر نفسه: 285.

([30]) الحكم التمييزي، محكمة تمييز العراق 5342/ش/95 في 9/6/1996 المنشور في الموسوعة العدلية، العدد 39، سنة 1997.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً