قراءةٌ نقديّة
السيد علي الحسيني(*)
تمهيد ــــــ
الشهيد السيد محمد باقر الصدر هو أحد كبار العلماء والمفكِّرين في الوسط الشيعي، وله العديد من الآراء والنظريات في شتّى المجالات، من خلال ما حوته مؤلَّفاته القيمة. لقد ترك لنا السيد الشهيد خزيناً من الإبداعات النظرية في الفلسفة، والمنطق، والأصول، والفقه، والاقتصاد. وجميعها يستحقّ الإكبار والاعتزاز. وتعدّ (نظرية منطقة الفراغ) واحدة من أبرز نظرياته الفاعلة والمؤثِّرة في ميادين الاقتصاد والفقه والسياسة وغير ذلك. نحن بدورنا سنتناول هذه النظرية بالنقد والتحليل، مسلِّطين الضوء أيضاً على خلفيّتها بين علماء السنّة والشيعة، ومذكِّرين في الوقت ذاته بأهمّية النظرية ومكانتها المرموقة وعظمة صاحبها. وإنّ نقدها علميّاً لا يقلِّل من شأنها أبداً.
لا شكّ أن الشهيد الصدر هو من أبرز العلماء والفقهاء المعاصرين، وصاحب الباع الطويل في مختلف العلوم الإسلامية. كان عالماً ذا نظرة ثاقبة لمجريات عصره، يسعى إلى طرح رؤى الإسلام في صورة تتناسب مع العصر ومتطلباته. وقد عمل على تطوير جملة من النظريات في شتّى العلوم، كالفلسفة والمنطق والأصول والاقتصاد والفقه، وكانت ـ حقّاً ـ على قدر كبير من الرقي والإبداع العلمي. هنا تبرز نظرية (منطقة الفراغ) كواحدةٍ من إبداعات السيد الشهيد؛ نظراً لما لها من دور في معالجة العديد من القضايا الفقهية والسياسية والاقتصادية أيضاً، وتركيزها على عنصر الزمان والمكان في عملية التشريع والمسائل المستحدثة، الأمر الذي أثار اهتمام العديد من الباحثين. وسيعنى بحثنا الحالي بدراسة أبعاد النظرية، ولا سيّما على صعيد اتّصالها بشؤون الدولة والمصالح العليا. وقبل الولوج في صلب الموضوع لا بدّ من الإشارة إلى هذه النقاط:
1ـ شمولية الإسلام ــــــ
يعتقد الشهيد الصدر بأن الإسلام هو الدين الجامع والشامل لجميع مجالات حياة الإنسان، وأنه المشروع الأكمل في طريقة العيش. لذا كان يؤكِّد على أن من ذاتيات الشريعة الإسلامية الشمولية ومواكبتها لشؤون الحياة الإنسانية. وهذا لا يتحقَّق بمجرَّد قيام الأحكام، وإنّما هذا ما نصَّت عليه المصادر الإسلامية أيضاً([1]).
وبناءً عليه فإن الإسلام هو الدين الجامع الشامل. وكما يقول الإمام الصادق× فإن الإسلام قد بيَّن الحلال والحرام وكلّ ما يُبتلى به الناس([2]).
2ـ الثابت والمتغيِّر في الأحكام([3])ــــــ
متطلَّبات الإنسان هي التي دفعته إلى الحياة الاجتماعية. فهو يطمح إلى تلبية أغراضه، وهذا لا يتحقَّق إلا عبر التعايش الاجتماعي، لذا نجده يقبل الحياة الجماعية. يقول الشهيد الصدر في هذا الصدد: «فقد خلق الإنسان مفطوراً على حبّ ذاته، والسعي وراء حاجاته، وبالتالي استخدام كلّ ما حوله في سبيل ذلك. وكان من الطبيعي أن يجد الإنسان [نفسه] مضطراً إلى استخدام الإنسان الآخر في هذا السبيل أيضاً؛ لأنه لا يتمكَّن من إشباع حاجاته إلاّ عن طريق التعاون مع الأفراد والآخرين. فنشأت العلاقات الاجتماعية على أساس تلك الحاجات، واتَّسعت تلك العلاقات ونمت باتّساع تلك الحاجات ونموّها خلال التجربة الحياتية الطويلة للإنسان. فالحياة الاجتماعية إذاً وليدة الحاجات الإنسانية…»([4]).
ثم إن حاجات الإنسان منها ما هو ثابتٌ؛ ومنها ما هو متغيِّر. فالثابت هو القسم الأساسي لديمومة حياته، كالماء والطعام والهواء، وهي حاجات يشترك فيها جميع البشر. أما الجانب المتغيِّر فهي الحاجات التي تتسلَّل إلى حياة الإنسان تدريجياً، بحيث كلّما اتَّسعت مداركه اتَّسعت حاجاته المتغيِّرة معها. لذا قيل: إن الحاجات الأساسية هي الثابتة؛ والحاجات غير الأساسية هي المتحوِّلة والمتغيِّرة([5]).
وعليه فإن حاجات الإنسان ثابتة ومتغيِّرة، وإن النظام الاجتماعي والاقتصادي الصالح للإنسانية يمكن أن يتضمَّن جوانب ثابتة تلبّي الحاجات الثابتة، وجوانب متغيِّرة تلبي الحاجات المتغيِّرة. لذا ليس من المعقول أن تصاغ جميع صور الحياة وتفاصيلها في صيغ ثابتة، أو أن تصاغ في أشكال متغيِّرة([6]).
يرى الشهيد الصدر أن الإسلام كان قد عمل بحكم العقل هذا، فوضع أحكامه على هيئتين: ثابتة؛ ومتغيِّرة. فالأحكام الإسلامية ليست في مجملها ثابتة، كما أنها ليست متغيِّرة في مجملها، وإنّما منها ما هو ثابت ـ أي أساسيّ ـ؛ ومنها ما هو متغيِّر ومتطوِّر، ومفتوح للتغيُّر وفقاً للمصالح والحاجات المستجدّة. وهذا هو الواقع في النظام الاجتماعي للإسلام. فهو يشتمل على جانب رئيسي ثابت يتَّصل بمعالجة الحاجات الأساسية الثابتة في حياة الإنسان، كحاجاته إلى الضمان المعيشي والتوالد والأمن، وما إليها من الحاجات التي عولجت في أحكام توزيع الثروة، وأحكام الزواج والطلاق، وأحكام الحدود والقصاص. كلُّ هذه تندرج تحت مسمّى الحاجات الثابتة.
وفي المقابل هناك من الأحكام ما هو غير ثابت، وإنّما هو في تحوُّل دائم، وهي الأحكام التي سمح فيها الإسلام لوليّ الأمر أن يجتهد فيها، وفقاً للمصلحة والحاجة، على ضوء الجانب الثابت من النظام([7]).
ولاية الفقيه والدولة الإسلامية ــــــ
من جملة ما يتعلَّق بالجانب النظري لموضوع المصلحة عند الشهيد الصدر هو إيمانه الراسخ بارتباطها الوثيق بالولاية. فهو في عداد الفقهاء القائلين بمبدأ تأسيس الدولة الإسلامية. وكانت تتملَّكه رغبة جامحة في تحقيق ذلك على أرض العراق، حتّى ضحّى بنفسه من أجل ذلك. وهنا لا يسمح المجال للخوض في تفاصيل نظرية ولاية الفقيه والدولة عنده، والفوارق بينها وبين نظرية الإمام الخميني في هذا المجال. ونكتفي بالإشارة إلى نقطتين:
الأولى: إن الشهيد الصدر مؤيِّد لولاية الفقيه والدولة الإسلامية.
الثانية: إنّه يعتقد برسوخ العلاقة بين الولاية والمصلحة العامة.
لقد أكَّد الشهيد الصدر في أكثر من مناسبة على ضرورة صدور الأحكام المتغيِّرة من قبل ولي الأمر أو الدولة، وفقاً لمعطيات المصلحة؛ بغية تحقيق العدالة بين أفراد المجتمع. وبناء عليه يمكن درج موضوع المصلحة في المواضيع المرتبطة بالولاية والدولة([8]).
المصلحة ملاك أحكام الدولة ــــــ
نستنتج من المقدِّمات المتقدّمة أنّ الإسلام هو دينٌ جامعٌ للدنيا والآخرة، ويتكفَّل بجوانب الإسلام المادية والمعنوية على حدٍّ سواء. ولذا فإنّ أحكامه تتكوَّن من نوعين، هما: الثابت؛ والمتغيِّر؛ إذ إن حاجات المجتمع المتغيرة تتبلور من خلال الأحكام المتغيرة، وهذا ما يقع بالدرجة الأولى على عاتق الولاية والدولة. فعلى الولي وضع الأحكام اللازمة لكل مرحلة، وفقاً لمقتضيات المصلحة والأهداف العليا المستقاة من صميم الشريعة، كمبدأ العدالة مثلاً. إذاً فالمصلحة هي الأساس في صدور قوانين الدولة. وهذا ما نوَّه إليه الشهيد الصدر في العديد من كتاباته. وإليك جانباً من تلك النماذج التي قرَّر فيها أن تكون المصلحة هي الملاك في بلورة أحكام وقوانين الدولة:
أـ يقول الشهيد الصدر: أن يكون اختيار شكل الحكم واختيار الجهاز الحاكم ضمن الحدود الشرعية الإسلامية، وغير متعارض مع شيءٍ من الأحكام الإسلامية الثابتة([9]).
ب ـ أن يكون اختيار شكل الحكم والجهاز الحاكم أكثر اتّفاقاً مع مصلحة المسلمين بوصفهم أمّة لها جانبها الرسالي والمادي([10]).
وبناءً عليه فإن رؤية السيد الشهيد مؤسَّسة على ضرورة أن يكون شكل الحكم في المجتمع الإسلامي منطلقاً من مبدأ المصالح في وضع القوانين. ويذكر أيضاً بأنّه في حال تعارض رأي الفقهاء في المواضع التي ينبغي للدولة السير وفق الأحكام الشرعية وفتاوى العلماء فإن على وليّ الأمر، أو المجلس المنتخَب من أهل الحلّ والعقد([11]) (مجلس الشورى الإسلامي)، اتّخاذ الفتوى الأقرب إلى مصلحة المسلمين في وضع القوانين، حتّى وإنْ خالفت هذه الفتوى رأي الفقيه الأصلح للقيادة.
وبناءً عليه يمكن أن نستنتج من كتابات السيد الشهيد أنه يرى في المصلحة الفيصلَ في وضع أحكام الدولة وقوانينها، سواءٌ تمّ ذلك من قبل ولي الأمر أم عن طريق المجلس المنتخب، أي مجلس الشورى.
نظرية منطقة الفراغ وبوادرها الأولى ــــــ
يذهب العديد من فقهاء السنة إلى أنّ أول مَنْ تكلَّم عن المصالح المرسلة هو الإمام مالك. وهو الأمر الذي وضع فقهاء المذهب المالكي ـ فيما بعد ـ في مآزق جرّاء العمل بهذه القاعدة. ومن أبرز تلك المآزق تعارض الحكم الناتج عن مثل هذه الحالات مع الأحكام المستنبطة من أدلّة شرعية أخرى، ولجوء البعض إلى القول بأن المصالح المرسلة لا ينبغي لها أن تتعارض مع أيّ حكم شرعي، أو مع أدلته.
مأزق متشابه اعترض طريق بعض المفسِّرين من أهل السنّة في ما يتعلَّق بتفسير قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾. فإذا كان المقصود من أولي الأمر الأئمة والحكام والقضاة وكلّ مَنْ تصدّى للولاية الشرعية فما هو الحلّ في حالات تعارض أحكام هؤلاء مع الأحكام الشرعية؟ وإذا كان من المفترض عدم تقديم حكمهم على حكم الباري عزّ وجلّ، وهو ممّا لا شكّ فيه، فما هو السبيل في رفع هذا التعارض بين وجوب إطاعة الله وإطاعة أولي الأمر؟
ردّاً على هذا التساؤل ذهب كلٌّ من الشوكاني والآلوسي إلى أن جواز إطاعة الحكّام قائمٌ طالما لم يتخطَّ أمرهم حدود الأحكام الشرعية؛ إذ «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق…»([12]). الآلوسي، وفي معرض حديثه عن اختلاف آراء علماء السنّة في هذا الموضوع، حيث ذهب بعضهم إلى إعطاء الحقّ لوليّ الأمر في التدخُّل في دائرة المباحات، ومنهم مَنْ رفض ذلك، وأكَّد على عدم وجوب الإطاعة في ما خالف الشرع، فكتب يقول: «وهل يشمل المباح أم لا؟ فيه خلاف. فقيل: إنه لا يجب طاعتهم فيه؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يحرِّم ما حلَّله الله تعالى، ولا أن يحلِّل ما حرَّم الله تعالى. وقيل: يجب أيضاً، كما نص عليه (الحصكفي) وغيره. وقال بعض محقِّقي الشافعية: يجب طاعة الإمام في أمره ونهيه ما لم يأمر بمحرَّم. وقال بعضهم: الذي يظهر أنّ ما أمر به ممّا ليس فيه مصلحة عامّة لا يجب امتثاله إلاّ ظاهراً فقط، بخلاف ما فيه من ذلك، فإنه يجب باطناً أيضاً…»([13]).
أشار الآلوسي هنا ـ مع شيء من الغموض والالتباس ـ إلى حصر وجوب إطاعة الإمام في دائرة المباحات، دون أن يتمكَّن في مقام الاستنتاج أن يخلص إلى الاستدلال بآراء العلماء السابقين، والخروج بمحصَّلة مجدية.
أما على صعيد بوادر النظرية في التشيُّع فالأمر يعود إلى الشيخ الأنصاري ومبحثه في الشروط، والذي يمكن عدّه البذرة الأولى في نظرية منطقة الفراغ، حيث يعلِّق الأنصاري هناك على رأي العلماء القائل بأنّ كلّ شرط يخالف الشرع فهو باطلٌ؛ بدليل بعض النصوص الروائية، من قبيل: «إلاّ شرطاً أحلَّ حراماً وحرَّم حلالاً». هنا يطرح الأنصاري سؤالاً هامّاً، وهو: ما هو الشرط الذي يحرِّم الحلال ويحلِّل الحرام؟ فعلى سبيل المثال: لو نذر الإنسان القيام بمباحٍ، أو أن يترك مباحاً، فهل هذا تحريمٌ للحلال، وتوجيب للمباح؟
ويجيب الأنصاري عن السؤال، مبيِّناً أنّ تحريم الحلال وتحليل الحرام هو إذا نسب الشخص حكماً إلى الدين، بأنْ يوجب ما ليس بواجب، أو يحرِّم ما ليس محرَّماً، فيغيِّر فيه. فإذا أمر الوالد ابنه بعملٍ مباح ما، أو ترك مباحٍ ما، فلا يصدق عليه تحريم حلال، وتحليل حرام؛ لأنّ الله قد قال بأنّ طاعة الأب واجبة. لكنْ ليس للأب أن يأمر ابنه بترك الواجب، أو فعل المحرَّم([14]).
وكأنّ الشهيد الصدر قد نقل ما قاله الشيخ الأنصاري في وجوب إطاعة الأب إلى وجوب إطاعة وليّ الأمر.
(منطقة الفراغ) عند النائيني ــــــ
يذكر النائيني في كتابة «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» أنّ أحكام المجلس والدولة لابدّ أن تندرج ضمن الأحكام الشرعية غير المنصوص عليها. وفي هذا الإطار توكل عملية وضع القوانين ـ في زمن الغيبة ـ إلى الفقهاء، ويصحّ التداول مع المختصين في مجلس الشورى الإسلامي في هذه القضايا، وإلا فهي أحكام تعبدية. إذاً فهناك تطبيق، وهنا وضعٌ وتعيين. يقول النائيني في هذا الصدد: «اعلم أنّ كلّ الوظائف المتعلِّقة بتنظيم شؤون البلد والمحافظة عليه وتدبير أمور وشؤون الشعب، سواء كانت أحكاماً أولية متكفّلة لأصل القوانين العملية الراجعة إلى الوظائف النوعية، أو ثانوية متضمنة عقوبات مترتبة على مخالفة الأحكام الأولية، لا تخرج عن هذين القسمين؛ لأنها بالضرورة إمّا أن تكون أحكاماً نصَّ عليها الشرع، فهي وظائف عملية ثابتة في الشرع، أو لم ينصّ عليها الشرع، فهي أحكام موكلة إلى نظر الوليّ؛ لعدم اندراجها تحت ضابط خاصّ، وبالتالي عدم تعيين الوظيفة العملية فيها». «والقسم الأول لا يختلف باختلاف الأعصار وتغيُّر الأمصار، ولا يجزي فيه غير التعبُّد بمنصوصه الشرعي إلى قيام الساعة، ولا يتصوَّر فيه أيّ وضع آخر أو وظيفة أخرى؛ بينما يكون القسم الثاني تابعاً لمصالح الزمان ومقتضياته، ويختلف باختلاف الزمان والمكان، وهو موكلٌ لنظر النائب الخاصّ للإمام×، وكذا النوّاب العموميّين (الفقهاء)، أو مَنْ كان مأذوناً عمَّنْ له ولاية الإذن بإقامة الوظائف المذكورة. وبعد وضوح هذا المعنى، وبداهة هذا الأصل، تترتَّب جملة فروع سياسية عليه»([15]).
هنا يخلص النائيني إلى خمس نقاط، هي:
أـ إن القوانين والمقرَّرات التي يجب التدقيق والمراقبة في مدى انطباقها على الشريعة هي تلك التي تكون من القسم الأول، ولا موضوع لها في القسم الثاني بتاتاً.
ب ـ إن أصل الشورية التي عرفت أنها أساس الحكم الإسلامي بعد الكتاب والسنّة، والتي ابتنت السيرة النبوية عليها، هو من القسم الثاني، لا غير. والقسم الأول خارجٌ عنها.
ج ـ كما أن ترجيحات الولاة المنصوبين من قبل الإمام× في عصر حضوره وبسط يده تكون من أحكام القسم الثاني، وملزمة شرعاً، لا يجوز التخلُّف عنها.
د ـ إن معظم السياسات النوعية داخلة في القسم الثاني.
هـ ـ إن القسم الثاني من السياسات النوعية لا يمكن جمعه في إطار ضابطة معينة، وليس محدَّداً بميزان مخصوص، بل بتغيُّر المصالح والمقتضيات. ولذا لم تنصّ عليه الشريعة المقدَّسة، بل أوكلته إلى ترجيح مَنْ له الولاية. وكذلك فإن القوانين المتعلِّقة بهذا القسم متغيِّرة بتغيُّر المصالح والمقتضيات، وواقعة في معرض النسخ والتغيير، وليست مبنيّة على أساس أن تكون أبدية دائمية. ومن هنا يتَّضح أنّ من الأهمّية بمكانٍ أن يكون هناك قانون يتكفَّل بجميع هذه المصالح والمقتضيات، ويكون متغيِّراً. ويتَّضح أيضاً إلى أيّ حدٍّ يكون هذا القانون أمراً صحيحاً ولازماً ومطابقاً للوظيفة الحسبية([16]).
تطور نظرية منطقة الفراغ ــــــ
معظم العناصر الواردة في نظرية الشهيد الصدر في خصوص (منطقة الفراغ) هي في الأصل مذكورة ـ كما سيمرّ بنا ـ في كلام النائيني. والواقع أن السيد الشهيد قد أعاد صياغتها في إطار علميّ ناضج، وطوَّر فيها.
بعد أن أكَّد الشهيد الصدر على مبدأ المصلحة في وضع القوانين والأحكام أكَّد أيضاً على ضرورة أن يعمل وليّ الأمر في خدمة أهداف الشريعة العليا، المستقاة من الأحكام الثابتة، وفقاً لمصالح المجتمع؛ وأن يصدر قوانين الدولة وفقاً لهذه المعطيات أيضاً. إلاّ أنّ لهذه الأحكام إطارها الخاصّ بها، وحين لا يوجد لدينا حكم شرعيّ بالوجوب أو الحرمة. ففي هذه الدائرة ـ التي يسمّيها الشهيد الصدر (منطقة الفراغ)، أي الفراغ من الحكم الملزم ـ توضع الأحكام المتغيِّرة من قبل ولي الأمر وفقاً لمصالح المجتمع ومتطلَّباته. فهذه المنطقة فارغة من الحكم الملزم، وليس من كلّ حكم؛ إذ ليس هناك موضوعٌ لا يشمله واحدٌ من الأحكام الشرعية.
هنا لفت الشهيد الصدر إلى أن منطقة الفراغ لا تعدّ نقصاً في الشريعة. إنه من الجهل أن يقال بأنّ الإسلام لم يحكمْ في بعض القضايا؛ لأن هذه المنطقة ـ كما ذكرنا ـ هي بمعنى مساحة الحكم المباح، وليس انعدام كلّ حكم. إن نظرية (منطقة الفراغ) هي دليل على حيوية الفكر الإسلامي في معالجة المشاكل في كلّ عصر، ولكلّ الأجيال، وهي تقدِّم برنامجاً نابعاً من أسس الإسلام، من شأنه ضمان احتياجات الإنسان الثابتة والمتغيِّرة معاً([17]).
تجدر الإشارة إلى أنّه على الرغم من وجود تفاصيل عن هذا الموضوع في كتاب (اقتصادنا)، وتقديمه في الإطار الاقتصادي خاصّة([18])، فإنّ السيد الشهيد قد عمَّم النظرية إلى مجالات الاجتماع والسياسة وسائر القوانين في مؤلَّفاته الأخرى([19]).
بالإضافة إلى تأكيده على انسجام أحكام الدولة مع أحكام الشرع والدستور الموافق للشرع، يضيف السيد الشهيد نقطة أخرى، هي أن الأحكام المتغيِّرة والولائية لا بدّ أن تعلَّل وتفسَّر في إطار الأحكام الثابتة. فقد يضمن الشارع المقدَّس أهدافاً هامّة داخل الأحكام الثابتة، من الضروري تحقيقها في المجتمع، وعلى وليّ الأمر أو الدولة والمجلس ـ وهم المعنيّون بوضع القوانين وتطبيقها ـ أن يعملوا بالأحكام المتغيِّرة بما يساعد على تحقيق أهداف الشارع المستقاة من الأحكام الثابتة. فمثلاً: جاء في الآية 6 من سورة الحشر حكمٌ ثابت في قوله تعالى: ﴿كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ﴾، وفيه إشارةٌ إلى هدف غاية في الأهمية، ألا وهو أنه لا ينبغي لمجموعة ما الاستيلاء على السلطة والثروات، بل ينبغي تنظيم الثروات وتقسيمها بين الناس بالعدل([20]).
كذلك هي الروايات الواردة في موضوع الزكاة صريحةُ الدلالة على أن هدف الإسلام لا يقتصر على إشباع الفقراء، وإنما الهدف من وضع الزكاة هو إلغاء الفواصل الطبقية بين الناس، وبلوغ الطبقة الضعيفة مستوى معيشي يليق بها([21]).
وهناك آيات أخرى تدلّ على وجود قيم ومبادئ أساسية في الإسلام، من قبيل: العدالة والمساواة وبثّ روح الإخاء بين المؤمنين([22]). وعلى وليّ الأمر أن يجعل من مصلحة الناس ملاكاً في وضع الأحكام المتغيِّرة، ووفقاً لهذا المبدأ تصوّر أحكام الدولة.
يستفاد من كلام السيد الشهيد أنّه لا بدّ لوليّ الأمر من شرطين:
أحدهما: ضرورة أن يؤسِّس جميع أحكامه وقوانينه في إطار (منطقة الفراغ)، وفقاً لمجرى المصالح.
والآخر: ضرورة انبثاق المصالح والأحكام من صميم المصالح والأهداف في الأحكام الثابتة، والعمل على ترسيخها في هذا الاتّجاه تحديداً.
مَنْ هو المسؤول عن تشخيص المصلحة؟ ــــــ
ذكرنا في ما مضى أنّ الشارع المقدَّس وضع خيار منطقة الفراغ من أجل ملئها، وسدّ الاحتياجات الطارئة في المجتمع والدولة الإسلامية. وذكرنا أيضاً أنّ المسؤولية في هذا الصدد تقع على عاتق النبيّ والأئمة^ في زمن الحضور، وهم وحدهم مَنْ يستطيع تحقيق العدالة الإسلامية المتكاملة. وإنّ هذه المسؤولية ـ في زمن الغيبة ـ تقع على عاتق وليّ الأمر أو مجلس الشورى. وهنا سنحاول البحث عن إجابة تفصيلية عن السؤال ذاته.
هناك نظريتان للشهيد الصدر في هذا المجال؛ إذ تفيد الأولى الواردة في كتابه (اقتصادنا) بأنّ مسؤوليات وليّ الأمر وضع القوانين التي من شأنها تطوير المجتمع الإسلامي، والنهوض بواقعه وفقاً للمصالح فيه. هنا يستدلّ الشهيد الصدر على هذه النظرية بالدليل العقلي والنقلي معاً. فالعقلي من ثلاث مقدّمات:
الأولى: إنّه لا شكّ في ضرورة قيام النظام الاقتصادي على أساس العدالة الاجتماعية. وهي مقدّمة صريحة وواضحة؛ لأن الآيات والروايات تدعونا إلى نشر العدالة والمساواة، ثم إن حسن العدل وقبح الظلم من المستقلاّت العقلية عند الأصوليين.
الثانية: وتتحدّث عن كيفيّة تحقيق العدالة الاجتماعية والمصالح العامّة في إطار العصر المتغيِّر. ففي عصر الرسول| ـ مثلاً ـ كان المجال مفتوحاً للجميع في إحياء الأراضي بالزراعة وتربية المواشي. وعليه فإنّ المصلحة حاضرةٌ، والعدالة متحققة، في فسح هذا المجال أمام الجميع. أما في الوقت الحاضر وعصر الصناعة وتطوُّر المكائن الزراعية فإنّ فسح هذا المجال أمام الجميع ـ ولا سيّما الرأسماليين ـ سيؤدّي إلى وقوع الظلم والتمييز بين طبقات المجتمع.
الثالثة: وتنصّ بأن السبيل الوحيد في الحفاظ على العدالة الاجتماعية والمصالح العامّة هو تصدّي وليّ الأمر لهذه المهمة. أما احتمالية أن يتصدّى الناس أنفسهم للمهمة فهذا ناقضٌ للغرض؛ لأن ذلك سيؤدّي إلى حدوث فوضى في الوضع العام. فمهما كان من اللازم أن يمضي الجميع في طريق تحقيق المصلحة وإقامة العدالة فإنّ هذا لن يكون كافياً في تحقيق المراد.
وبناءً عليه فإنّ مسألة تحقيق المصالح وتطبيق العدالة قضيّة لا بدّ منها. وبما أنها تابعة لمقتضيات العصر وتحوّلاته إذاً لا بدّ من أن تكون في أيدٍ أمينة، وأن يتصدّى لتحقيقها مَنْ يمتلك الكفاءة اللازمة أيضاً. وليس هناك مَنْ يصلح لمثل هذه المهمة سوى وليّ الأمر([23]).
أما الدليل العقلي فهو قوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾. يقول الشهيد الصدر في استدلاله بالآية الشريفة: «فإنّ هذا النصّ دلَّ بوضوح على وجوب إطاعة وليّ الأمر. ولا خلاف بين المسلمين في أنّ وليّ الأمر هم أصحاب السلطة الشرعية في المجتمع الإسلامي، وإن اختلفوا في تعيينهم وتحديد شروطهم وصفاتهم. فللسلطة الإسلامية العليا إذاً حقّ الطاعة والتدخُّل لحماية المجتمع وتحقيق التوازن فيه»([24]).
النظرية الثانية تميل إلى أن مسألة تشخيص المصالح إنّما هي من مهامّ المجلس المنتخَب من قبل الشعب، وهو المتكفِّل بملء مناطق الفراغ الموجودة، وهو المجلس المتكوِّن من أهل الحَلّ والعقد. وقد ذكر السيد الشهيد في كتابه (الإسلام يقود الحياة) واجبات المجلس، وكتب يقول: «ثالثاً: في حالات عدم وجود موقف حاسم للشريعة من تحريم أو إيجاب يكون للسلطة التشريعيّة، التي تمثِّل الأمّة، أن تسنّ من القوانين ما تراه صالحاً، على أن لا يتعارض مع الدستور. وتسمّى مجالات هذه القوانين بـ (منطقة الفراغ). وتمثِّل هذه المنطقة كلّ الحالات التي تركت الشريعة فيها للمكلَّف اختيار اتّخاذ الموقف. فإن من حقّ السلطة التشريعية أن تفرض عليه موقفاً معيَّناً، وفقاً لما تقدِّره من المصالح العامّة، على أن لا يتعارض مع الدستور»([25]).
إذاً مثلما كان الإمام الخميني يرى أنّ مهمة تشخيص المصلحة([26]) وصدور قوانين الدولة هي من مناقب ومسؤوليات الوليّ الفقيه، وهو الأمر الذي أُحيل في نظام الجمهورية الإسلامية إلى مجلس الشورى ومجمع تشخيص مصلحة النظام، يحتمل أن يكون المقصود من نظرية الشهيد الصدر الثانية المعنى ذاته، الأمر الذي لا يتعارض مع النظرية الأولى إطلاقاً. ولعلّ هذا هو السبب في وصف أحد تلامذته للنظرية ـ في الإسلام يقود الحياة ـ بالغموض. وكيف كان فإنه& يؤكِّد على مبدأ المصالحة وتحديدها بشكلٍ واضح وصريح، وأنّ ذلك من مهام المجلس([27]).
الروايات المرتبطة بالحكم والقيادة ــــــ
ينوِّه السيد الشهيد إلى أنّ بعض الأحاديث المنقولة عن الرسول| لا تدلّ على قيام حكمٍ ثابت وأبديّ، لكنْ بما أنّ له| شخصيّتان: الأولى: بوصفه مبلغاً للأحكام الإلهية الثابتة؛ والأخرى: بوصفه القائد ووليّ الأمر، فعلى أساس المنصب الأول يقع على عاتقه تبليغ الأحكام الثابتة، وتبقى جميع أقواله وأفعاله في هذا الجانب حجّة، في حين يقع على عاتقه ـ حسب المنصب الثاني ـ ملء منطقة الفراغ، وفقاً للمصلحة، بالأحكام الولائية. وليست الأحكام في هذا الجانب بالشيء القليل، لكن لا يمكن اتّخاذها حجّة شرعية في الاستدلال واستنباط الأحكام منها([28]).
تأمّلات في نظرية الشهيد الصدر ــــــ
من الناحية التاريخية يمكن القول بأنّ هذه النظرية مستوحاة من آراء النائيني ـ كما مرّ ـ؛ حيث إن معظم عناصرها مستقاةٌ من كلامه. فهو يعبِّر عن منطقة الفراغ باصطلاح (ما لم ينصّ عليه الشرع). كما بيَّن بشكلٍ مقتضب ـ محورية المصلحة وتغيُّر الحكم تبعاً للمقتضيات ورأي الولي الفقيه ومجلس الشورى ـ. إلاّ أن السيد الشهيد أخذ بزمام المبادرة، فقعَّد للنظرية، وأعاد سبكها في إطار نظرية متكاملة الاستدلال.
يبدو أن الغموض والتساؤلات ما تزال تحوم حول نظرية الشهيد الصدر، دون الحصول على إجابات داخل نظرية منطقة الفراغ.
أحدها: ما هو الدليل على حصر أحكام الدولة والوليّ الفقيه في حدود المباحات، فلا يسمح له بتخطّيها، وإصدار حكم أبعد من ذلك؟
ويبدو السبب وراء ذلك واضحاً في الظاهر؛ إذ إنه في هذه الدائرة لا يوجد لدينا حكم ملزم شرعاً، وعليه فإن أي حكم يصدر ـ سواء بالمنع المطلق أو الواجب المطلق أو المشروط ـ لن يخالف الحكم الشرعي أو يصطدم معه، بخلاف ما لو كان قانون الدولة في إطار الواجبات أو المحرَّمات، فإنّ ذلك سيؤدّي إلى مخالفة حكم الباري عزّ وجلّ، وهذا ما لا يقع في المباحات أبداً.
وبناء على هذا فإن هذه النظرية ـ وعلى العكس من نظرية الإمام الخميني، التي تواجهها جملة من التحدّيات ـ لا يعتريها مأزق مخالفة الحكم الشرعي. لكنْ يبدو أن هذا الاستنتاج مؤسَّس على نظريّة مفادها أن مخالفة الأحكام الولائية وحدها ـ في الوجوب والحرمة ـ مصداقٌ لمخالفة حكم الله عزّ وجلّ. وبعبارة أخرى: إن ما يعنينا من الأحكام التكليفية الخمسة هو الواجب والحرام. وإن التعارض معهما حصراً هو ما يصدق عليه مخالفة الحلال والحرام عند الله تعالى. وإن تجاهل المكروه أو المستحبّ أو المباح([29]) لا يصدق عليه مخالفة لأحكام الباري عزّ وجلّ. وممّا يؤيِّد هذا الكلام استدلال الفقهاء في باب إثبات المستحبّات بقاعدة التسامح في أدلة السنن، فقد يفتون باستحباب بعض المواضيع استناداً إلى روايات ضعيفة أحياناً.
ورغم وضوح هذه المسألة فإنّ إثباتها ليس بالأمر السهل كما تتوقَّع. فعندما يصدر الحكم الإلهيّ بالكراهية أو الاستحباب أو الإباحة فإن مخالفته تعدّ مخالفة لحكم الله وشرعه. وبعبارة أخرى: ينبغي علينا احترام أحكامه بالجملة، دون التفريق بينها. فإذا كان الحكم الإلهي يقرّ بفسح المجال أمام العباد، ولم يرَ مصلحةً في وجوبه أو احترامه، فما هو الدليل في أن يأتي الحاكم أو أي شخص آخر فيصدر أوامر بوجوبه على الناس؛ إذ يبدو أن تعطيل المستحبّ والمباح أو وقوع المكروه هو أيضاً في المستوى ذاته من مخالفة الحكم الإلهي؟!
دليلنا على ذلك جملة من الروايات الناهية عن وضع أي قوانين مخالفة لأحكام الباري عزّ وجلّ. فهي بإطلاقها تشمل وضع أيّ حكم مخالف لأيٍّ من أحكام التكليف الخمسة، بلا استثناء. ففي تحف العقول رواية استهلّ بها الشيخ الأنصاري كتابه (المكاسب) تصف الوالي بتعبير: (بلا زيادة ونقيصة)([30]). وتفيد الرواية بأنّ جواز العمل مع الوالي العادل منوطٌ باتباعه أحكام الشرع دون زيادة أو نقيصة فيها. أيضاً ورد في الكتاب ذاته نصٌّ روائيّ بخصوص صحّة الشرط الملزم يقول: «المسلمون عند شروطهم، إلا شرطاً حرَّم حلالاً أو أحلَّ حراماً»([31]).
سؤال افتراضي ــــــ
إنْ قيل: إنّ المراد هو أن لا يقول الشخص عمّا هو حلالٌ عند الله حرام. وهذا غير حاصل في قوانين الدولة؛ لأنّه في هذه الصورة الحاكم يعلم أنّ هذا الحكم كان في الأصل مباحاً، وهو مذعنٌ بذلك، لكنّه؛ بداعي المصلحة، قد يحرِّمه مؤقَّتاً، أو أن يوجب أمراً لم يكن ملزِماً.
نقول في جواب هذا: إنّ هذه الروايات مطلقةٌ. لذا فهي تشمل مثل هذه الحالات أيضاً؛ لأنّ أيّ شرط يخالف كتاب الله، أو الشرط الذي يحرِّم حلالاً، حتّى وإن أذعن صاحبه بحلّيته، سيكون باطلاً أيضاً.
ثم إن هذا المعنى ممّا ورد في الآيات القرآنيّة أيضاً. قال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ…﴾ (النساء: 23)([32]). وقال تعالى: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ و…﴾ (المائدة: 3). وقال تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ﴾ (المائدة: 4، 5)، وقال تعالى أيضاً: ﴿وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ…﴾ (النساء: 24).
وبناءً عليه فإن قيمة الحلال والمباح الشرعية هي عينها في الواجب والمحرَّم؛ لأن القسمين نازل من جهة واحدة لمخاطب واحد، وإنّ الله عزّ وجلّ كما رأى المصلحة في الوجوب والحرمة، فجعل حكمهما إلزاماً، كذلك المصلحة حاضرةٌ في إباحة الأشياء، وهي السبب في جعلها مباحة. زِدْ على ذلك أن من الآيات ما تنهى عن تحريم الحلال. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ (التوبة: 87). فهذه الآية الشريفة تنهى صراحةً عن تحريم الحلال، وتعدّه اعتداء على حدود الأحكام الإلهية أيضاً([33]).
وعليه فإنّ كلّ ما حلَّل الله فهو طيِّب طاهر، أي اشتمل على مصلحةٍ ما، وكما يقول القرآن الكريم: ﴿وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ﴾ (الأعراف: 57). لذا فكما أنّ الإنسان إذا ارتكب محرَّماً فإنه يتلوَّث بالخبائث كذلك ترك الطيِّبات سيحرمه من منافعها. وكما أن تجاهل الحرام وترك الواجبات الدينية يعدّ اعتداءً على الأحكام الربانية([34]) كذلك هو الحال إذا تمّ تحريم الحلال والابتعاد عنه، فإن ذلك أيضاً في عداد الاعتداء على حدود الله، وهو لا يحبّ المعتدين([35]).
سؤال افتراضي آخر ــــــ
إن قيل: إن لفظة (الطيّبات) في الآية الشريفة إنّما هو خاصّ بالأطعمة وما شابه.
نقول في جواب ذلك: هذا غير وارد لأنّه:
أولاً: عبارة (ولا تعتدوا) مطلقةٌ في خاتمة الآية، وتشمل كلّ أنواع الإعراض وتجاهل الأحكام الإلهية. أما بالنسبة لشمولها تحريم الأحكام فهو قطعيّ لا غبار عليه؛ لأن ظاهر العبارة الأخيرة يفيد بيان قاعدة ورد مصداقها في مطلع الآية([36]).
ثانياً: إن لفظة (الطيّبات) هي في الواقع وصفٌ لكلّ ما هو حلال، بمعنى أن الباري عزّ وجلّ أشار ضمناً إلى الحكمة من وراء تحليل هذه الأشياء، أي كل ما حلَّلناه فهو طيِّب وطاهر، وعليه لا ينبغي لأحد تحريمه.
جاء في تفسير هذه الآية عند العلاّمة الطباطبائي: هذه الآية تنهى المؤمنين عن تحريم ما أحلّ الله لهم، وتحريم ما أحلّ الله هو جعله حراماً كما جعله الله تعالى حلالاً؛ وذلك إما بتشريعٍ قبال تشريع، وإما بالمنع أو الامتناع، بأنْ يترك شيئاً من المحلَّلات بالامتناع عن إتيانه أو منع نفسه أو غيره من ذلك… وإضافة قوله: (طيّبات) إلى قوله: (ما أحلّ الله لكم) ـ مع أن الكلام تامّ بدونه ـ للإشارة إلى تعميم سبب النهي… إن المراد بالاعتداء هو التحريم المذكور في الجملة السابقة عليه، فقوله: (لا تعتدوا) يجري مجرى (لا تحرِّموا)([37]).
وبناءً عليه فاستناداً إلى هذه الآية ومثيلاتها([38]) ندرك أنّ مخالفة الحلال عند الله لأمرٌ غاية في الخطورة، ولا يمكن المساس به، وهو مخالفة لحكم الباري عزّ وجلّ؛ حيث إنّ من مصاديق المخالفة أن يعمد وليّ الأمر أو أيّ شخص آخر إلى إيجاب هذا المباح. فبقدر ما أن مخالفة الواجب الحرام مرفوضة أيضاً لا يجوز مخالفة الحلال. وعليه فكلّما قضت أحكام وليّ الأمر أو المجلس بوجوب الحكم المباح ـ كما هو حاصل في نظرية منطقة الفراغ ـ فإن هذه مخالفةٌ صريحةٌ للحكم الشرعي.
نستنتج ممّا ذكرنا أنّ نظرية منطقة الفراغ هي نقضٌ للغرض؛ حيث إن من أهدافها الخلاص من مخالفة الحكم الشرعي، والناتج هو التوغُّل في المخالفة.
يبدو أن مفتاح حلّ هذه المشكلة يمكن في معادلة الأهمّ والمهمّ، التي من شأنها رفع الموانع الشرعية، ومعالجة الموقف.
تجدر الإشارة إلى أن هذا القول لا يعني التقليل من خطورة مخالفة الحرام والواجب، وإنما ذلك باقٍ على شدّته. وإن حزم الفقهاء ـ أمثال: الشهيد الصدر ـ إزاء مخالفتها شديدٌ، ويستحقّ الثناء.
بقي أن نذكِّر بقاعدة التسامح في أدلّة السنن، فهي بحاجة إلى وقفةٍ وإمعان نظر. وهذا ما لا يسعُ له المقام. وبشكل إجمالي فإن تحقيقات كاتب هذه السطور تفيد ضرورة توخّي الحيطة والحذر في استنباط الأحكام المستحبّة، كما هو مطلوب في استنباط الواجبات تماماً، دون تفريق.
السبيل إلى معرفة الروايات المتعلقة بالدولة ــــــ
القضية اللافتة في نظرية منطقة الفراغ، والسبيل إلى معرفة الروايات المرتبطة بقوانين الحكم والدولة، هو أن للرسول| منصبين: أحدهما: رسالي بتبليغ الأحكام الإلهيّة؛ والآخر: قياديّ في الولاية وقيادة الشعب. فمن ناحية المنصب الأول يقوم ببيان الأحكام الثابتة. وبما أنه وليّ أمر المسلمين، والمكلَّف بإدارة شؤون المجتمع، يتحتَّم عليه ملء الفراغ، بعد مراجعة مصالح المجتمع، بالأحكام الولائية. لذا كان قد أصدر جملة من القوانين المتعلِّقة بالدول، ورد معظمها في كتب الحديث والرواية. ومن وجهة نظر الشهيد الصدر ليس بالإمكان استنباط أحكام شرعية ثابتة من هذه الأحاديث؛ لأنها كانت نابعة من صميم تلك الدولة، ومقتضياتها المعاصرة، التي تختلف من مكان إلى آخر، ومن زمان إلى زمان.
هنا يستشهد السيد محمد باقر الصدر بأمثلة بليغة، لكنه لم يقدِّم معياراً في التمييز بين الروايات المرتبطة بشؤون الدولة وما هو خارج عن هذا الإطار، وما هو السبيل إلى تحصيل روايات السلطة والحكم، والحيلولة دون تداخلها مع غيرها؛ تجنباً للبس؟
على أي حال تبقى نظريّة السيد الشهيد بحاجة إلى الدراسة والتعمُّق في محيطاتها، ولا شكّ أنّها مجدية وفاعلة من بعض النواحي.
الهوامش
(*) باحثٌ وكاتب في الحوزة العلميّة.
([1]) علي أكبر سيبويه، السيد محمد باقر الصدر، اقتصاد برتر: 169، طهران، دفتر نشر ميثم، بلا تاريخ؛ بيات شوشتري، السيد محمد باقر الصدر، كامي در مسير پژوهش زير سازدار اقتصاد إسلامي: 45، طهران، انتشارات روزبه، 1354هـ.ش؛ انظر: السيد محمد باقر الصدر، اقتصادنا: 317، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة السادسة عشر، 1402هـ.
([3]) مثلما أشرنا فبدون ملاحظة هذه المقدّمات يكون من الصعب فهم نظرية منطقة الفراغ. وقد شكا بعض طلابه من الالتباس الحاصل من هذه النظرية والأحكام المتغيّرة وقضية المكان والزمان. انظر: مجموعه نقش زمان ومكان در اجتهاد 14: 16 (حوار مع السيد محمد الهاشمي)، 111 (حوار مع السيد كاظم الحائري)، مؤسسة نشر وتنظيم آثار الإمام الخميني، طبعة 1، 1374.
([7]) المصدر نفسه، صورة عن اقتصاد المجتمع الإسلامي؛ المجموعة الكاملة لمؤلفات الشهيد محمد باقر الصدر: 43 ـ 44، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1420.
([8]) انظر: المصدر السابق، لمحة فقهية تمهيدية عن مشروع دستور الجمهورية الإسلامية، منشور ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشهيد محمد باقر الصدر 12: 19، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1410.
([9]) السيد محمد باقر الصدر، الأسس الإسلامية، الأساس رقم 1: 337؛ انظر: محسن كديور، نظرية ماي دولة در فقه شيعه: 160، طهران، منشورات في، الطبعة الثانية، 1377هـ.ش.
([11]) يقرِّر السيد الشهيد، في (اقتصادنا): 680 ـ 684، أنّ مهمة وضع أحكام الدولة تقع على عاتق الولي الفقيه. أما في كتابه الإسلام يقود الحياة: 18 ـ 19 (لمحة فقهية تمهيدية) فيترك ذلك إلى المجلس المنتخب. وسيأتي بيانه.
([13]) السيد محمد الآلوسي البغدادي، روح المعاني 3: 66، بيروت ، دار الفكر، بلا تاريخ.
([14]) الشيخ مرتضى الأنصاري، المكاسب 6: 34 ـ 35، قم، مجمع الفكر الإسلامي، 1430، ط1.
([15]) محمد حسين النائيني، تنبيه الأمة وتنـزيه الملّة: 130 ـ 137، طهران، الشركة العامة للنشر، الطبعة التاسعة، 1378هـ.ش.
([18]) المصدر السابق: 400 ـ 402، 725 ـ 726.
([19]) السيد محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة (لمحة فقهية تمهيدية)، منشور ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الشهيد الصدر: 18 ـ 19، بيروت، دار التعارف للمطبوعات، 1410؛ صورة تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي: 79 ـ 88.
([20]) الإسلام يقود الحياة، المصدر السابق؛ صورة تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي: 48.
([21]) صورة تفصيلية عن اقتصاد المجتمع الإسلامي: 49.
([23]) المصدر نفسه؛ اقتصادنا: 301.
([24]) المصدر نفسه؛ اقتصادنا: 1 ـ 3، 527.
([25]) الإسلام يقود الحياة، لمحة فقهية تمهيدية: 19. يذكر أن هذا العمل كان تلبية لطلب مجموعة من رجال الدين في لبنان في بيان أسس الثورة الإسلامية في إيران.
([26]) انظر: أنديشه صادق، العدد 5، نظرية مصلحة أز ديدگاه إمام خميني.
([27]) مجموعه نقش زمان ومكان در اجتهاد 14: 111 (حوار مع السيد كاظم الحائري).
([28]) المصدر السابق: 401، 642، 725، 726.
([29]) يذكر الشهيد الصدر في الإسلام يقود الحياة (لمحة فقهية تمهيدية): 19 أن المقصود من منطقة الفراغ هي المساحة التي ليس فيها حكم واجب أو محرم.
([31]) كتاب المكاسب 6: 1؛ انظر: وسائل الشيعة 12: 349، الباب 3 من أبواب الخيار، ح1.
([32]) كتاب المكاسب 6: 22، 26، 34.
([33]) السيد عبد الله شبر، تفسير القرآن الكريم: 145، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط2، بلا تاريخ.
([34]) البقرة: 29؛ النساء: 114.
([35]) التبيان في تفسير القرآن 4: 7 ـ 8.
([36]) تفسير الطبري في كتابه جامع البيان عن تأويل أي القرآن 3: 87 ـ 88، تحقيق: الدكتور بشار عواد معروف وعصام فارس الحرستاني، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1415.
([37]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 7: 105 ـ 106؛ انظر: القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 6: 262.
([38]) من قبيل: سورة التحريم، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ﴾.