أحدث المقالات

الشيخ عبد الحميد إسكندري(*)

ترجمة: حسن علي حسن

 

مقدّمة

إن العقوبة التي يرصدها الفقه الجزائي في الإسلام بإزاء الأضرار التي تلحق بأي عضو من أعضاء الجسم عبارة عن: القصاص؛ والدية؛ والتعزير. وعقوبة القصاص بدورها تنقسم إلى قسمين: قصاص النفس؛ وقصاص الأعضاء. ولإثبات حق القصاص في الأعضاء بالنسبة إلى المجني عليه هناك بعض الشروط التي يجب توفُّرها بين الجاني والمجنيّ عليه. ويمكن إجمال هذه الشروط على النحو التالي: التكافؤ في الدين، والجنس، والحرية، والعقل، وعدم الأبوّة، وكذلك التساوي بين الأعضاء من حيث الأصالة والسلامة. وإن هذا الشرط الأخير هو موضوع هذه المقالة، بمعنى أن العضو السالم لا يقتصّ بالعضو غير السالم، وإنما يقتصر فيه على أخذ الدية، وأما العضو غير السالم فيقتص بالعضو السالم والعضو غير السالم. وهناك اختلافٌ بين الفقهاء من الفريقين في هذا الشرط. وفي ما يلي نستعرض محلّ النزاع، وأقوال الفقهاء من الفريقين، مع بيان مستند فقهاء الإمامية، لنخلص بعد نقض وإبرام هذه المستندات إلى اختيار النظريّة المقبولة من هذه الأقوال.

 

مناقشةٌ وتحليل

يذهب مشهور الفقهاء على المذاهب الخمسة إلى اشتراط سلامة وصحّة العضو في إثبات حقّ القصاص. وإن المراد من هذا الشرط، الذي يتمّ التعبير عنه أحياناً بـ «التساوي في السلامة»([1])، أو «التساوي في الصفات»([2])، أو «التساوي في الصحّة والكمال»([3])، في فقه الإماميّة، يختلف عن المراد منه في فقه العامّة؛ فإنّ مراد فقهاء الإمامية من «السلامة» في عبارة «اشتراط التساوي في السلامة» هو نوعٌ خاصّ من السلامة، وليس مطلق السلامة. وبعبارةٍ أخرى: إن المراد من السلامة ما يقابل الشلل، الذي يمثِّل واحداً من مصاديق عدم السلامة وعدم الصحّة في العضو. وعليه فإن السلامة هنا تعني عدم الشلل. وإنّ اليد الفاقدة للسلامة هي اليد المشلولة فقط. والشلل عبارة عن تيبُّس العضو، بحيث لا يؤدّي وظيفته الطبيعية، حتّى وإنْ أمكن تحريكه بشكلٍ يسير، أو كان فيه القليل من الإحساس([4]). وجاء في توضيح المادة رقم 395 من قانون العقوبات الجديد (المصادق عليه في عام 1392هـ.ش)، وفي تعريف هذا المصطلح: «إن العضو غير السليم هو العضو الذي زالت منفعته الأصلية، كالعضو المشلول. وفي غير هذه الحالة كان عضواً سالماً، وإنْ كان فيه ضعفٌ أو عاهة». وطبقاً لما تقدّم ذكره يتّضح أن المراد العام من هذا الشرط في فقه الإمامية هو أن اليد غير المشلولة لا تقطع باليد المشلولة، حتّى وإنْ تبرّع الجاني بتقديم يده السليمة للقصاص([5]).

وأما في غير هذا المورد، بمعنى أنه إذا كانت يد كلٍّ من الجاني والمجني عليه شلاء، أو كلتاهما غير شلاء، أو كانت يد الجاني شلاء والمجني عليه غير شلاء، كان حقّ القصاص ثابتاً. وعليه فإنّ أيّ علّة مَرَضية أخرى غير الشلل في الأعضاء لا يمنع من ثبوت حقّ القصاص في ذلك العضو، من قبيل: الجذام، والبرص، والعنن([6])، والصمم، والعمى([7])، والخرس، وعدم الظفر، والنقص في حاسّة الشمّ والذوق، وما إلى ذلك.

فعلى سبيل المثال: يقول المحقِّق الحلي: «وَالتَّسَاوِي فِي السَّلامَةِ: فَلا تُقْطَعُ الْيَدُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلاّءِ، وَلَوْ بَذَلَهَا الْجَانِي… وَيُقْطَعُ الْعُضْوُ الصَّحِيحُ بِالْمَجْذُومِ، إذَا لَمْ يَسْقُطْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَكَذَا يُقْطَعُ الأَنْفُ الشَّامُّ بِالْعَادِمِ لَهُ، كَمَا تُقْطَعُ الأُذُنُ الصَّحِيحَةُ بِالصَّمَّاءِ»([8]).

وقال صاحب الجواهر: «لا كلام في عدم القصاص بين الصحيحة والشلاّء، بعد الاتفاق عليه نصّاً وفتوى. أما ما لا يصدق عليه اسم الشلل، ممّا هو مؤثِّر فيها أيضاً، فلا دليل على عدم القصاص به بعد قوله تعالى: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ (المائدة: 45)، وصدق «اليد باليد»([9])… وعلى كلّ حال فظاهرهم الاتّفاق على أنه لا أثر للتفاوت في البطش ونحوه، فتقطع يد الأيد بيد الضعيف، ورجل المستقيم برجل الأعرج»([10]).

وفي المقابل ذهب فقهاء العامة إلى اعتبار «الصحّة والسلامة» في الشرط مورد البحث بمعنى «مطلق السلامة»، والقول بأن أيّ نقص في عضو المجنيّ عليه يشكِّل مانعاً من ثبوت حقّ القصاص، إلاّ إذا كان عضو الجاني مصاباً بذات النقص. بمعنى أن عضو المجني عليه إذا كان مصاباً بنقصٍ، من قبيل: انعدام الأظفار في الأصابع أو كان مشلولاً، وكان ما يقابله من أعضاء الجاني سالماً، لم يثبت حقّ القصاص للمجنيّ عليه. وعليه لا يمكن الاقتصاص بقطع عضو الجاني السليم بالعضو الناقص للمجنيّ عليه، حتّى إذا تبرَّع الجاني وقدَّم عضوه للقطع باختياره([11]). وأما إذا كان عضو المجنيّ عليه سالماً، وما يقابله لدى الجاني ناقصاً، أو كان كلا العضوين سالماً أو ناقصاً، كان حقّ القصاص ثابتاً في جميع هذه الصور الثلاث.

فعلى سبيل المثال: يقول الحجاوي من فقهاء الحنابلة: «[الشرط] الثالث: استواؤهما في الصحّة والكمال، فلا تؤخذ صحيحة بشلاّء، ولا كاملة الأصابع بناقصة، ولا ذات أظفار بما لا أظفار لها، ولا بناقصة الأظفار، رضي الجاني أو لا. فلو قطع مَنْ له خمس أصابع يد مَنْ له أربع، أو قطع مَنْ له أربع يد مَنْ له ثلاث، أو قطع ذو اليد الكاملة يداً فيها إصبع شلاّء، فلا قصاص… ولا يؤخَذ لسان ناطقٍ بأخرس، ولا ذكر صحيحٍ بأشلّ، ولا ذكر فحلٍ بذكر خصيٍّ أو عنين»([12]).

ومن فقهاء العامة يؤكِّد الشافعية على أن نقص العضو يجب أن يكون مرتبطاً بذات ذلك العضو، وأما إذا كان مرتبطاً بعضوٍ آخر فلن يكون مانعاً من ثبوت حقّ القصاص. فعلى سبيل المثال: إن النقص الحاصل في العنن، حيث يرتبط بأعصاب الفرد وعروقه، وليس بذات الآلة التناسليّة، لا يمكن أن يمنع من ثبوت حقّ القصاص([13]). وهكذا الأمر بالنسبة إلى السمع، وحيث إن النقص فيها لا صلة له بصيوان الأذن، فإنّ الأذن السميعة تقطع بالصمّاء([14]).

وقد ذهب النووي ـ من فقهاء الشافعية في القرن السابع ـ إلى الاعتقاد بأن اليد السليمة لا تقطع باليد الشلاّء، واليد التي فيها ظفر لا تقطع باليد الفاقدة للظفر، والآلة التناسلية السليمة لا تقطع بالآلة التناسلية المصابة بالعَنَن، والعين السليمة والمبصرة لا تقطع بالعين العمياء، واللسان المتكلِّم لا يقطع باللسان الأبكم([15]). وعلى كلّ حالٍ فإن جميع الفقهاء من الفريقين متَّفقون على أن السلامة تعني «غير المشلول»، إلاّ أن فقهاء العامة يضيفون إلى ذلك سائر العاهات الأخرى للدلالة على عدم السلامة.

بالالتفات إلى هذا التوضيح المختصر ندرك أن عنوان «التساوي في السلامة» لهذا الشرط ليس دقيقاً، ولا كاملاً؛ لأن جميع الفقهاء الذين تعرَّضوا إلى بحث التساوي في السلامة بين العضوين في القصاص يؤمنون بأن عضو الجاني إذا لم يكن سليماً يُقطَع بالعضو السليم للمجني عليه، في حين لا يوجد تساوٍ بين هذين العضوين. كما يعتقدون بأن العضو غير السليم للجاني يقطع بالعضو غير السليم للمجنيّ عليه. ولذلك يبدو ـ كما تنبَّه البعض([16]) إلى ذلك ـ أن التعبير الصحيح عن هذا الشرط عبارة عن: «انتفاء أكملية عضو الجاني»، وليس التساوي في السلامة؛ فإنّ هذا التعبير جامعٌ، ويمكنه أن يستوعب مراد جميع الفقهاء من كلا الفريقين.

وبعد بيان المعنى المنشود من مفردة «السلامة» في الشرط مورد البحث تجدر بنا الإشارة إلى الأدلّة المذكورة على لزوم رعاية هذا الشرط، الذي عبّرنا عنه بـ (شرط انتفاء أكملية عضو المجني عليه)؛ لنقوم بدراستها وتحليلها. وعليه نقول في هذا السياق: إن بعض الأدلّة المذكورة على هذه المسألة كانت موضع استناد فقهاء الإمامية وفقهاء العامة على السواء، إلاّ أن البعض الآخر منها قد اختصّ بأحدهما، دون الآخر. يرى البعض أن شرط التساوي في السلامة ـ أو بتعبيرٍ أدقّ: شرط انتفاء أكملية عضو المجني عليه ـ يعود إلى شرط التساوي في الحياة. ودليل اشتراطه هو أننا نرى أن وجود الحياة في المجنيّ عليه شرط في ثبوت حقّ القصاص للمجنيّ عليه على الجاني، بحيث لو وقعت الجناية على الميت لم يثبت له حقّ القصاص. وفي هذا السياق لو كان نفس المجني عليه حيّاً، ولكنْ كان العضو الذي وقعت عليه الجناية مشلولاً وفاسداً، أو بعبارةٍ أخرى: كان «ميْتاً»، كان الأمر كما لو أن الجناية وقعت على ميْت، وعليه لا يكون ذلك سبباً لثبوت حقّ القصاص له([17]). وبالإضافة إلى هذا الدليل هناك دليلان آخران على لزوم القول بسلامة العضو في القصاص، وهما عبارة عن:

أـ عموم الآيات الدالّة على المقابلة بالمثل، والتي تعتبر «المماثلة» في القصاص([18])، ومنها: قوله تعالى: ﴿وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ (النحل: 126)، أو قوله تعالى: ﴿فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ﴾ (البقرة: 194). إن هذه الآيات تبيِّن بشكلٍ عامّ اشتراط التساوي والمماثلة في الأعضاء للقصاص والمقابلة بالمثل. وإنّ من مصاديق المماثلة التساوي بين الأعضاء في الصحّة والسلامة. والحال أنّه لا مماثلة بين يد الجاني السليمة ويد المجني عليه المعطوبة والعاطلة عن العمل([19]).

وقد أشكل البعض على الاستدلال بهذه الآيات؛ لإثبات شرطية التساوي في سلامة الأعضاء، قائلاً: إن ظاهر هذه الآيات إنّما يُبيِّن أن الملاك في باب قصاص الأعضاء والمقابلة بالمثل هو المماثلة في «أصل العقوبة»، بحيث يصدق عليه اسم القصاص، ولا ينطبق عليه عنوان الظلم والعدوان، لا أن يكون معياراً للمماثلة مع «عضو المعتدى عليه»([20]). بل حتّى المماثلة في الكيفية ليست هي الملاك، ولا تبيّن أن الجناية والقصاص متماثلان في طريقة العمل، بل إنّ هذه الآيات تبيِّن أصل جواز المقابلة بالمثل، وعدم الزيادة في مرحلة الاقتصاص. وفي المجموع؛ لدليل الإطلاق وعدم تصريح هذه الآيات، يكون احتمال إرادة كلٍّ من «المماثلة في أصل العدوان» و«المماثلة في المعتدى به» وارداً([21]).

ب ـ رواية سليمان بن خالد؛ فإن فقهاء الإمامية ـ بالإضافة إلى عموم وإطلاق آيات المقابلة بالمثل (التي تمسَّك بها فقهاء كلا الفريقين) ـ قد استندوا إلى رواية سليمان بن خالد أيضاً، ونصُّها: «عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن حمّاد بن زياد، عن سُليمان بن خالد، [عن أبي عبد الله×]، في رجلٍ قطع يد رجل شلاّء، قال: عليه ثلث الدية»([22]).

إن ظاهر هذه الرواية من الناحية الدلالية يحكي عن أن الذي قطع اليد الشلاء كان سليم اليد([23])، أو أن إطلاق كلام الإمام الصادق× في الحدّ الأدنى يشمل المورد الذي تكون فيه يد القاطع سليمة([24])، كما يشمل موردَيْ العمد والخطأ. وإنّ هذا الشمول يقتضي ثبوت الدية، حتّى في مورد قطع اليد عن عمدٍ، دون ثبوت القصاص. وبطبيعة الحال لا بُدَّ من الالتفات أيضاً إلى أن رواية سليمان بن خالد ـ التي تمسّك بها القائلون بنظرية اشتراط سلامة العضو في القصاص ـ تشير إلى حالة «الشلل» التي تمثِّل مجرّد مصداق واحد من مصاديق غير السليم. وعليه فإن تسريته إلى سائر المصاديق موضع تأمُّل. ولهذا السبب تماماً نرى بعض فقهاء الإمامية([25]) يتحدَّث في مرحلة تسمية هذا الشرط بتسميةٍ خاصّة ودقيقة، وهي «التساوي في السلامة من الشلل»، دون التسمية بـ «التساوي في السلامة».

إلاّ أن هذا الحديث من الناحية السندية([26])، حيث يشتمل على حمّاد بن زياد. وعلى الرغم من أن الأشخاص الذين تقدَّموه في سلسلة السند، وهم: محمد بن يحيى العطّار، وأحمد بن محمد بن عيسى الأشعري القمّي، والحسن بن محبوب، من الثقات بأجمعهم([27])، إلاّ أن حمّاد بن زياد ـ الذي اعتبرت بعض المصادر أنه حمّاد بن زيد([28]) ـ لم يرِدْ فيه توثيقٌ، بل لم يرِدْ حتّى في تعريف الأشخاص الذين لم يرِدْ فيهم قدحٌ، وعليه يكون مجهول الحال([29]). من هنا فقد أشكل بعض فقهاء المسلمين على حجّيّة هذه الرواية، ومالوا إلى الاستناد إلى إطلاق آية العين بالعين، وقالوا بـ «عدم اشتراط التساوي في السلامة» في ثبوت حقّ القصاص([30]).

ومن الناحية الدلالية يعتقدون أيضاً بأن هذا الحديث في مقام بيان مقدار دية اليد الشلاء، وهي لا تتعرَّض لقصاص اليد غير السالمة، لا نفياً ولا إثباتاً([31]).

ولكنْ بالالتفات إلى أن الذي نقل عنه هذه الرواية هو الحسن بن محبوب ـ وهو من أصحاب الإجماع ـ يمكن لنا؛ على أساس تصحيح روايات أصحاب الإجماع، دون الحاجة إلى تصحيح الرواة بعده، استنتاج كون هذه الرواية معتبرة أيضاً.

ج ـ هناك من فقهاء الإمامية مَنْ ادَّعى الإجماع على عدم مشروعية قطع اليد السليمة باليد الشلاّء([32]). وقال المحقِّق السيد الخوئي، بعد إشكاله على الآيات والروايات التي استدلّ بها القائلون باشتراط سلامة العضو، وردّ أدلتهم: «فالنتيجة أنه لا دليل على اعتبار التساوي في السلامة، ما عدا دعوى الإجماع؛ فإنْ تمّ فهو؛ وإلاّ فلا يبعد عدم اعتباره؛ لإطلاق الآية الكريمة: ﴿وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ (المائدة: 45)»([33]).

كما قال السيد الخوانساري ما يلي: «ويمكن أن يُقال: لا مجال لاحتمال الفتوى بغير دليل يعتمد عليه بالنسبة إلى الأكابر، فإنْ كان المدرك الخبر المذكور يتوجَّه الإشكال من جهة الدلالة. لكنّ هذا غير معلوم»([34]).

من الواضح أنه قد أذعن لوجود إجماع في هذا المورد، واحتمل أن فتوى هؤلاء الأعاظم قد استندَتْ إلى مدركٍ آخر غير رواية سليمان بن خالد. ولكنْ على أيّ حال لا وجود لمثل هذا الإجماع.

يبدو أنه من خلال التدقيق في أن الملاك في القصاص والمقابلة بالمثل ـ من جهةٍ ـ في الجناية الخاصة بالأعضاء هو المماثلة العرفية، دون المماثلة والمشابهة الحقيقية([35])، ومن جهةٍ أخرى فإن العرف لا يرى أيّ مماثلة بين اليد السليمة والأخرى المشلولة أو المصابة بأيّ عاهة مماثلة تجعل اليد بحكم «الميْتة» والفاقدة للمنفعة الأصلية ـ خلافاً لليد التي تعرَّضت لحروق سطحية، أو المصابة بطفح، أو مرض جلديّ، من قبيل: البرص، أو الفاقدة لبعض أصابعها، أو أناملها ـ، يبدو أنّه يمكن الاكتفاء بعموم وإطلاق آيات المقابلة بالمثل، دون الحاجة إلى الاستناد إلى أيّ روايةٍ أو دليل شرعي آخر؛ للوصول إلى نتيجة تثبت عدم قصاص اليد السليمة باليد الشلاّء؛ لعدم وجود المماثلة العرفية بينهما، والتي هي على حدِّ تعبير البعض: «الأساس في أدلّة القصاص»([36]) بين «العضو الميْت» و«العضو الحيّ». وأما سائر العيوب والعاهات والأمراض فلا يمكنها أن تشكِّل مانعاً من ثبوت حقّ القصاص في الأعضاء، خلافاً لما ارتكبه بعض المتطرِّفين من فقهاء العامّة في هذا الشأن، حيث ذهبوا إلى القول بعدم ثبوت القصاص حتّى في مثل: ما لو كانت يد المجني عليه فاقدة للأظفار. وللأسف الشديد فقد ذهب المقنِّن الإيراني إلى هذا الرأي المتطرِّف، والفاقد للدليل، والقول الخاطئ الذي ذهب له فقهاء العامّة، وقال بعدم قصاص العضو الكامل بالعضو الناقص. يقول القانون (المصادق عليه عام 1392هـ.ش) في المادة رقم 397: «لا يقطع العضو الكامل بالعضو الناقص، ويقطع العضو الناقص بالعضو السليم. وفي هذه الحالة يجب على المرتكِب أن يدفع ما به التفاوت». ثمّ عمد المقنِّن وأضاف إلى هذه المادة توضيحاً يعرِّف بالعضو الناقص، يقول: إن العضو الناقص هو العضو الفاقد لبعض أجزائه، كاليد الفاقدة لإصبع أو عدد من الأصابع، أو الفاقدة لجزء أو أجزاء من إصبع أو عدّة أصابع». وقد أثبتنا خطأ هذا الرأي في الأسطر المتقدِّمة.

 

النتيجة

يُشترط تساوي الأعضاء من حيث السلامة في إثبات حقّ القصاص؛ بإجماع الفقهاء من الفريقين. إلاّ أن هذا التعبير ـ بطبيعة الحال ـ ليس جامعاً، وإن التعبير بـ «انتفاء أكملية عضو الجاني» أفضل. وطبقاً للأدلّة المتوفِّرة يبدو أن الملاك في القصاص والمقابلة بالمثل في الجناية على الأعضاء ـ بغضّ النظر عن رواية سليمان بن خالد المناقَش فيها من حيث الدلالة والسند، وبغضّ النظر عن الإجماع المدَّعى في المقام ـ هو المماثَلة العُرْفية، دون المماثَلة الحقيقية، وبعبارةٍ أخرى: إنّ العُرْف لا يرى أيَّ مماثلة بين اليد السليمة والأخرى المشلولة أو المصابة بأيّ عاهة مماثلة تجعل اليد بحكم «الميْتة» والفاقدة للمنفعة الأصلية ـ خلافاً لليد التي تعرَّضت لحروق سطحية، أو المصابة بطفح أو مرض جلدي، من قبيل: البرص، أو الفاقدة لبعض أصبعها أو أناملها ـ. وعليه يمكن الاكتفاء بعموم وإطلاق آيات المقابلة بالمثل. وبذلك نصل إلى نتيجة مفادها أن اليد السليمة لا تُقطع باليد الشلاّء؛ لأنّ الأساس الأوّلي في أدلّة القصاص هو وجود المماثلة العُرْفية بين عضوي الجاني والمجنيّ عليه، ولا وجود لهذه المماثلة بين العضو الميْت والعضو الحيّ من الناحية العُرْفية. إلاّ أنّ سائر الأمراض والعاهات والعيوب الأخرى لا تمنع من ثبوت حقّ القصاص في الأعضاء. وجديرٌ بالذكر أن فقهاء العامّة قد تطرَّفوا في هذه المسألة، وقالوا بعدم ثبوت حقّ القصاص للمجنيّ عليه حتّى إذا كانت يده المبتورة فاقدة للظفر.

 

الهوامش

(*) طالبٌ على مستوى الدكتوراه في الفقه وقواعد الحقوق الإسلاميّة، في جامعة قم. من إيران.

([1]) انظر: الفاضل الآبي، كشف الرموز في شرح مختصر النافع 2: 623؛ العلاّمة الحلّي، قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام 3: 632؛ المحقِّق الحلّي، المختصر النافع في فقه الإمامية 2: 300؛ الشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 15: 269.

([2]) انظر: العلاّمة الحلّي، تحرير الأحكام الشرعية على مذهب الإمامية (الطبعة القديمة) 2: 257؛ جمال الدين الفاضل المقداد السيوري، كنـز العرفان في فقه القرآن 2: 371، تحقيق: السيد محمد القاضي، المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب، قم المقدّسة، 1419هـ.

([3]) انظر: ابن مفلح الحنبلي، المبدع في شرح المقنع 8: 271؛ أبو الحسن عليّ بن سليمان المرداوي الحنبلي، الإنصاف 10: 21، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار إحياء التراث العربي، بيروت.

([4]) انظر: الفاضل الهندي، كشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحكام 11: 180؛ محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 42: 348؛ الإمام الخميني، تحرير الوسيلة 2: 541.

([5]) انظر: قواعد الأحكام في معرفة الحلال والحرام 3: 632؛ مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 15: 269.

([6]) ذهب بعض الفقهاء إلى اعتبار العنن نوعاً من الشلل، ولذلك قال بأن ذلك يمنع من القصاص فيه. (انظر: السيد علي الطباطبائي، رياض المسائل (الطبعة الحديثة) 16: 330).

([7]) وخاصّة أنّ الطبّ الحديث قد توصَّل إلى إمكان معالجة العين التي لا تبصر إذا كانت موجودة، بتغيير القرنية، وبذلك تكون لديها قابلية الإبصار، فتكون عين الجاني السليمة خاضعة للقصاص.

([8]) المحقِّق الحلّي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 4: 219 ـ 222.

([9]) إشارة إلى جزءٍ من رواية حبيب السجستاني. (انظر: الكليني، الكافي 14: 403، ح14303 / 4، طبعة دار الحديث).

([10]) جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 42: 350.

([11]) انظر: الخن، الفقه المنهجي على مذهب الإمام الشافعي 8: 29؛ شرف الدين موسى بن أحمد الحجاوي الحنبلي، الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 4: 195، تحقيق: عبد اللطيف محمد موسى السبكي، دار المعرفة، بيروت؛ عليش المالكي، منح الجليل شرح على مختصر سيد خليل 9: 45.

([12]) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل 4: 195.

([13]) انظر: محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي، روضة الطالبين وعمدة المفتين 9: 195، المكتبة الإسلامية، بيروت، 1405هـ.

([14]) انظر: الشربيني الشافعي، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج 4: 33.

([15]) انظر: محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي الشافعي، المنهاج: 402، دار السلام، القاهرة.

([16]) انظر: محمد بن صالح بن محمد العثيمين الحنبلي، الشرح الممتع على زاد المستقنع 14: 79، دار ابن الجوزي، ط1، الرياض، 1422 ـ 1428.

([17]) انظر: المصدر السابق.

([18]) انظر: جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 42: 348؛ الأردبيلي، مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 14: 80 ـ 81؛ البهوتي الحنبلي، شرح منتهى الإرادات 3: 285.

([19]) انظر: شرح منتهى الإرادات 3: 285.

([20]) انظر: التبريزي، تنقيح مباني الأحكام (كتاب القصاص): 284.

([21]) انظر: رياض المسائل (الطبعة القديمة) 2: 303.

([22]) الكليني، الكافي 14: 399، ح13295 / 4، طبعة دار الحديث.

([23]) انظر: مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الأذهان 14: 80 ـ 81.

([24]) انظر: كشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحكام 11: 180؛ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 42: 348.

([25]) انظر: الطوسي، المبسوط في فقه الإمامية 7: 74؛ ابن إدريس الحلّي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 3: 415؛ رياض المسائل (الطبعة الحديثة) 16: 320؛ الحسيني العاملي، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة (الطبعة القديمة) 11: 127.

([26]) «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن حمّاد بن زياد، عن سُليمان بن خالد، عن أبي عبد الله(ع):…».

([27]) انظر: رجال النجاشي: 83، 323، 353، 556؛ الطوسي، الفهرست: 61، 263؛ العلاّمة الحلّي، خلاصة الأقوال في معرفة الرجال: 14، 93، 150، 157.

([28]) انظر: أبو القاسم الموسوي الخوئي، معجم رجال الحديث وتفصيل طبقات الرجال 6: 206، مؤسسة إحياء آثار الخوئي، قم المقدّسة.

([29]) انظر: أبو القاسم الموسوي الخوئي، مباني تكملة المنهاج 42 (من الموسوعة): 186.

([30]) انظر: تنقيح مباني الأحكام (كتاب القصاص): 309.

([31]) انظر: مباني تكملة المنهاج 42 (من الموسوعة): 186.

([32]) انظر: الطوسي، الخلاف 5: 194، مسألة 61؛ جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 42: 348.

([33]) مباني تكملة المنهاج 42 (من الموسوعة): 188.

([34]) أحمد بن يوسف الخوانساري، جامع المدارك في شرح مختصر النافع 7: 272، مؤسسة إسماعيليان، ط2، قم المقدّسة، 1405هـ.

([35]) انظر: العلاّمة الحلّي، مختلف الشيعة 9: 404؛ مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة (الطبعة القديمة) 11: 145؛ مكارم الشيرازي، استفتاءات جديد 1: 378؛ محمد سعيد الطباطبائي الحكيم، منهاج الصالحين 3: 286، دار الصفوة، ط1، 1415هـ.

([36]) انظر: استفتاءات جديد 1: 378.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً