لم يغب البعد الديني عن السجالات السياسية او العلمية اوالمجتمعية، سواء في التاريخ المعاصر ام في الغابر من الازمان. فلا يطلق الرئيسالامريكي تصريحا حول الاوضاع الدولية الا ويحتوي على اشارة قريبة او بعيدة لبعدديني، ولا يتحدث المعنيون بالشأن الاجتماعي والعلاقات الاسرية والظواهر الشبابيةوالعنف وغيرها الا وطرح البعد الديني في بعض جوانبها. ولم يغب البعد الديني عنالسجال العلمي، ماضيا وحاضرا. فما ان يذكر العلم في الحضارة الاسلامية حتى تردأسماء العلماء المسلمين الذين برعوا في في النظريات والاختراعات العلمية.
ولايرد ذكر العلم في اوروبا خصوصا في العصور الوسطى الا ومعه الاشارة الى جاليليوومعاناته مع الكنيسة. ولذلك فما ان أصدر العالم الفيزيائي البريطاني، ستيفن هوكينغكتابه الاخير قبل اسبوعين بعنوان ‘التصميم العظيم’ حتى بدأ السجال الديني مجددا. ويعتبر البروفيسور هوكينغ أبرز العلماء الفيزيائيين البريطانيين في العصر الحاضر،برغم اعاقته الخلقية، فهو مشدود لكرسي متحرك، ولا يستطيع النطق بل يتحدث من خلالجهاز كومبيوتر يترجم افكاره الى كلام. اما الكتاب المذكور فقد احدث ضجة كبرى سوفتستمر زمنا لسبب واحد: ان الكتاب تطرق لاصل العقيدة الدينية لدى الانسان، القائمةعلى الايمان بوجود الإله الخالق للكون. وتتلخص نظرية هوكينغ بان القوانينالفيزيائية تكفي لتفسير خلق الكون، وليس هناك حاجة للقول بوجود خالق: ‘نظرا لوجودقانون كقانون الجاذبية، فان الكون قادر على خلق نفسه من العدم، وسيظل قادرا علىذلك. وهذا الخلق الحادث هو السبب الذي يفسر وجود الشيء وليس اللاشيء، ولمذا يوجدالكون، ولماذا نحن موجودون…. وليس هناك ضرورة لطرح (فكرة) الإله لاشعال الورقةالزرقاء التي تحرك الكون’. انه طرح جديد يختلف عما طرحه هوكينغ نفسه في كتابه الذيصدر في 1988 بعنوان ‘التاريخ المختصر للزمن’. ففي ذلك الكتاب كان هوكينغ قادرا علىتفهم العقائد الدينية، اذ اعتبر ان الايمان بالله كخالق للكون لا يتعارض مع الفهمالعلمي للكون: ‘لو اكتشفنا نظرية كاملة، فسيكون ذلك انتصارا للعقل الانساني، لانناحينئذ سنكون قادرين على فهم عقل الله’. بينما طرح في كتابه الاخير الذي صدر قبلزيارة البابا بينديكت السادس عشر، باسبوع، اطروحة شاملة تقول ان الاطار العلمي لايترك مجالا لفكرة الاله.
هذا الطرح الجديد من قبل ابرز العلماء الفيزيائيين فيبريطانيا اعاد الجدل حول امور عديدة: اولها مدى تطور الفهم العلمي للكون، ثانيها: هل اصبح الخيار امام الانسان محصورا بين العلم والدين، فاذا قبل أحدهما رفض الآخر؟ثالثها: مدى الخطر الذي يمثله الطرح العلمي اذا كان بشكل حاسم وصريح، على المصدرينالآخرين من وسائل اثبات وجود الله: الدين والفلسفة. رابعها: الموقف ازاء النظرياتالعلمية الاخرى، خصوصا نظرية اسحاق نيوتن التي تقول بان من غير الممكن ان يكونالكون قد تكون من فوضى او نتيجة للقوانين الطبيعية وحدها، بل لا بد من وجود خالق. المتحمسون لفكرة نفي وجود خالق لهذا الكون، ومن بينهم الملحد البريطاني، ريتشارددوكنز، يقولون ان نظرية هوكينغ الجديدة تكمل التفسير العلمي للوجود، وبالتالي فقدوصل العلم الفيزيائي الى ذروته (على غرار ما طرحه فوكوياما بان الديمقراطيةالليبرالية تعتبر ذروة التطور الانساني في المجال السياسي، وبذلك اوصلت البشرية الىنهاية التاريخ). ينطلق هؤلاء على خلفية نظرية داروين حول النشوء والارتقاء، التيتقدم تفسيرا لنشوء الكائنات وان ذلك حدث وفق انتقاء طبيعي، أبقى على الاقوى وأنهىالضعيف من الكائنات. فالمذهب العلمي لتفسير الوجود قد اكتمل الآن، في نظر هؤلاء: فعلى صعيد وجود الكائنات تكفي نظرية داروين لتفسير تكونها، وعلى صعيد الكون توفرتنظرية هوكينغ. هؤلاء يدركون ان النظريات العلمية السابقة ما تزال تعاني من عدمملاءمتها لكافة الظروف والحالات. فالنظرية النسبية لاينشتاين مثلا اعتبرت اختراقاعلميا لا يقل اهمية عن نظرية داروين، ولكنها حوصرت لاحقا باشكالات اخرى تطلبتنظريات علمية جديدة.
فنظرية اينشتاين استطاعت تفسير الظواهر الفلكية وحركةالنجوم والكواكب، وتأسست على فرضية ان سرعة الضوء تمثل الحد الفاصل بين وجود المادةوفنائها، وبالتالي استعملت لمراقبة الحركة الكونية، وقدمت تفسيرات للعديد منالظواهر الطبيعية. ولكن العلماء اكتشفوا ان هذه النظرية لا تنطبق على المادة فياطارها الذري. بمعنى انها قانون لا تستطيع تفسير حركة مكونات الذرة كحركةالالكترونات مثلا. ولسد هذا النقص في النظرية النسبية طرحت في السنوات الاخيرةنظرية الاوتار String Theory لتفسير وجود الكون في ابعاده الصغيرة جدا (اي الذرية). ومع ذلك ما يزال هناك من يشكك في مدى قدرة القوانين العلمية المتوفر على تقديمتفسير مقبول للوجود.
علماء الفيزياء المعاصرون انطلقوا على اساس نظرية ‘الانفجار الكبير Big Bang’ لتفسير بداية خلق الكون، وقد حظيت هذه النظرية بدعمعلماء الدين والفيزياء على حد السواء، لانها كانت تعتبر محور لقاء بين العلميينوالدينيين، ولكن هوكينغ يقول الآن ان الانفجار الكبير حدث نجم عن جريان القانونالطبيعي ولا يحتاج الى قوة اخرى لاحداثه. مع ذلك فهذه النظرية لا تبدو انها التفسيرالوحيد، في نظر العلميين، لبداية الكون، ولذلك فما تزال البحوث جارية للتعرف على ‘اصل المادة’، وهي بحوث دفعت العلماء لفحص فرضية ‘اللامادةanti-matter’ وما تزالالسجالات العلمية متواصلة حول فرضيات اغلبها موجود إما في الواقع الافتراضي او فيالفضاءات الرياضية. العلماء يلجأون لذلك عندما يصعب عليهم صياغة منظومة علمية واضحةوثابته. ومن ذلك فرضية ‘الثقوب السوداء The Black Holes’ وهي مفهوم رياضي يفسرتلاشي النجوم الفانية بسرعة تفوق سرعة الضوء. وثمة فرضية اخرى اعتبرها هوكينغ منمقومات اطروحته المؤسسة على عدم الحاجة لقوة خارج القوانين الطبيعية لتفسير الخلق. هذه النظرية المعروفة بـ ‘نظرية ام M Theory’ او ‘نظرية الاكوان المتعددة Multiverse في مقابل نظرية الكون الواحد. ويعتقد هوكينغ ان هذه النظرية تفند مقولةوجود خالق للكون، لانها تدعي وجود اكوان متعددة، وليس كونا واحدا خلقه الله لخدمةالانسان. والقول بتعدد الاكوان يحتاج الى اثبات علمي، بينما اعتمد هوكينغ فياستنتاجه على اكتشاف حدث في 1992، عندما لاحظ العلماء وجود كوكب يدور حول نجم آخرغير الشمس.
وفسر ذلك برفض القول بان الله خلق الكون لخدمة الانسان بدليل وجودأكوان أخرى. هذه الحقائق تؤكد ان العلم الحديث، برغم تطوره، ما يزال يسبر اغوارالكون، ويبحث عن تفسيرات للظواهر المتجددة، ويطرح النظرية تلو الاخرىلتفسيرها.
هذه ليست مشكلة، انما المشكلة تنجم عندما يدعي العلماء وصولهم الىذروة العلم، وهو ما يتشبث به ذوو النزعات الالحادية من العلماء، اذ يعتقدون انالتكامل بين نظرية هوكينغ في الفيزياء ونظرية داروين في علم الاحياء، اوصل التفسيرالعلمي لنشوء الكون الى درجة اليقين، وبالتالي انتفت الحاجة للتفسير القائم علىالايمان بوجود الله لتفسير الخلق. مشكلة هذه الدعوى انها تلغي، كما ذكر اعلاه،فرعين اساسيين يمثلان، مع العلم، ثلاثيا اساسيا للمعرفة البشرية: الدين والفلسفة. فالفلسفة تعتمد العقل اساسا لاثبات وجود الخالق، والدين يعتمد النقل (النص الديني) لتحقيق ذلك، والعلم يثبت ذلك من خلال التجربة.
الادعاء بان العلم قد وصل الىذروته بفك الارتباط مع كل من الدين والفلسفة يؤدي الى نتيجتين خطرتين: اولاهمامحاصرة العلم وطرق المعرفة، واحداث شرخ بين مصادرها الثلاثة، وثانيتهما تكريس داءالشعور بالعظمة الذي كثيرا ما ادى الى سقوط اهله. فالشعور الغربي بالوصول الى ذرى (جمع ذروة) الاشياء ظاهرة يزداد تعمقا بشكل مضطرد. فقبل اقل من عشرين عاما، طرحتمقولة ‘نهاية التاريخ’ على لسان المفكر الامريكي، فرانسيس فوكوياما، بدعوى ان نظامالديمقراطية الليبرالية يمثل ذروة ما تمخض عنه العقل البشري من ممارسة سياسية،وبالتالي فقد وصل العالم الى نهاية التاريخ. بينما يفترض ان يكون العلماء اكثرتواضعا من غيرهم، نظرا لادراكهم بان العلم يتسع دائما لفضاءات اوسع مما اكتسبوه،وان مبدأ التطور يقتضي الشعور بعدم الكمال والرغبة المتواصلة في البحث عنه، لانالبديل هو الاعتقاد بكمال ما هو موجود والتخلي عن مساعي التطوير. ان دائرة العلموالتطور تتوسع كلما شعر العلماء بضرورة ذلك بسبب عدم ادراك الكمال المطلق. كما انالشعور بالقوة العسكرية المطلقة هو الآخر من مظاهر تراجع انسانية هذا العالم فيالوقت الحاضر، لانه يكرس الشعور بالغطرسة والغرور والاستكبار.
وعندما يعلن البعضان التطور العلمي بلغ مرحلة تؤهله لاعلان المفاصلة مع الدين والفلسفة، فان العلمالمكتسب يتسطح تدريجيا لانه يفقد الشعور بالتحدي والرغبة في المزيد من التحصيلوالاستكشاف والدراسة. ولذلك وقفت الكنيسة ضد ما ترمز اليه نظرية هوكينغ. وقالزعماؤها ان العلم يحتاج الى تطوير دائم، وان النظرية الايمانية تؤكد ضرورة وجودخالق للكون.
وحذر البعض من خطر السعي للمفاصلة بين العلم والدين، على اساس ان منالخطأ اجبار البشر على الاختيار بين العلم والدين، لان الغالبية سوف تختار الدين،الامر الذي يفقد العلم موقعه كطريق للوصول الى الحقيقة. وخلال زيارة البابا،بينيديكت السادس عشر لبريطانيا هذا الاسبوع كان واضحا ان للدين رمزية خاصة فيالنفوس، برغم التحديات التي تواجهها المؤسسة الكنسية، ومنها الفضائح الجنسية التيشملت الاعتداء الجنسي على الاطفال من بعض القساوسة ومسؤولي الكنيسة، وتعميد المرأةوحقوق المثليين وتعميدهم، والعلاقات بين الكنيستين، الكاثوليكيةوالانجليكانية.
وكانت هذه القضايا حاضرة عندما القى البابا محاضرته بقاعة ‘ويستمنستر’ التي اعادت للذكريات اعدام القس الكاثوليكي، سانت توماس مور، في 1535بتهمة ‘الخيانة’ بسبب رفضه الاعتراف بان الملك هنري الثامن هو ‘الرئيس الاعلى‘ للكنيسة البروتستانية. وبرغم الحماس البريطاني للزيارة البابوية، فقد كانت هناكمظاهرات واحتجاجات ضدها، واثار البعض تكاليفها الباهظة التي ناهزت 12 مليون جنيهاسترليني. وطرح البعض الآخر اشكالاته حول تحول البابا من صفة الزعامة الروحية التيتقتضي بساطة الحياة والانفاق، الى زعيم دولي يعامل كرئيس دولة، وتنفق من اجلهالملايين، ولا يتصل بالجماهير مباشرة لاسباب امنية ومهنية. ولم يخف القساوسة فيلقائهم مع البابا قلقهم من تراجع الاقبال على الكنيسة والالتزام الديني، ومايشاهدونه من انتشار اسلامي في اوروبا، وان كان ذلك قد بقي طي الكتمان.
لا شك انهناك اشكالات واسعة حول السجالات التي لم تنقطع حول العلم والدين، خصوصا بعدالمفاصلة التي حدثت بينهما في اوروبا خلال العصور الوسطى. بينما كان العلم فيالاسلام ‘دينيا’ في جوهره. فكان الفقيه عالما في الرياضيات او الطب، والفيلسوفعالما في الفلك او البصريات. كان اولئك ينظرون الى العلم كقيمة بشرية تؤدي الىمعرفة الخالق. وكذلك كانت الفلسفة، علما يهدف لاثبات وجود الله عن طريق العقل،ولذلك نشأ علم الكلام على نطاق واسع وتطور. العلم الطبيعي كان جزءا من المهماتالدينية، ولذلك لم يؤد الى صراع بين الدين والعلم، بل الى تكاملهما. فالانسان، فيالمفهوم الاسلامي، ليس في صراع مع الطبيعة، بل في تكامل معها، فهو يعمر الارضويستسقي المطر، ويحافظ على نعم الله في الارض ولا يبذرها او يستخف بها.
اماالعلم في اوروبا فقد نشأ ‘علمانيا’ ودخل في صراع مع الكنيسة التي كانت تعارضالاكتشافات العلمية، حتى بلغ الامر اوجه عندما صدرت احكام قاسية ضد العلماءالطبيعيين، وانتشرت ‘محاكم التفتيش’ لمحاكمة الناس على آرائهم ومعتقداتهم. من هنافان العلم الحديث مطالب بان يكون اكثر انسانية، وان لا يتحول الى وسيلة للظلم والعدوان والاستغلال. فمن أكبر الآفات التي تهدد صدقية العلم ان يتحول من وسيلةلتطوير حياة البشر الى وسيلة للاثراء من اموال الفقراء. فصناعات الدواء والغذاءوغزو الفضاء والتكنولوجيا الرقمية، تحولت الى طرق للاستغلال والهيمنة والقمعوالسيطرة على المنابع الطبيعية وتدمير البيئة. ومن الضرورة بمكان ان يكون العلموسيلة للتواصل بين الشعوب والامم وذلك يتطلب ازالة الحواجز التي تضعها الدولالمتقدمة علميا امام طلاب العلم من الدول الاخرى. فالعالم المادي وحده لا يحقق تقدمالانسانية، اذا لم يكن مشفوعا برغبة اكيدة لعولمته ودعم مشاريعه.
وفي اليومالعالمي لمكافحة الامية الذي صادف الثامن من هذا الشهر، قالت ايرينا بوكوفا التيتشغل منصب المدير العام لليونسكو، ان ثلثي الاميين في العالم البالغ عددهم 800مليون انسان، هم من النساء، وصدرت الدعوات لتكثيف الجهود للقضاء على الامية كوسيلةلتطوير العلم والمعرفة بين سكان هذا الكوكب.
وعلى خلاف الايحاءات التي نضحت بهانظرية هوكينغ، فان العلم طريق الى الايمان والوعي والعطاء، يجدر بالجميع دعمه وبث ثقافة التعلم وتحرير العلم من آفات الاستغلال والتوجيه الضار لخدمة المنافع الماديةللفئات المهيمنة على مقدرات العالم. والامل ان يكون السجال الدائر حول المرتكز الذيتقوم على اساسه الفكرة الدينية قادرا على فك حلقة الدوران في دائرة الفراغ الفكريالذي طالما هيمن على اوساط العلم في اوروبا. فالعلم قيمة مقدسة، فاذا ما حظيتبتوجيه ايجابي، فسوف تؤدي الى الايمان دائما، والايمان الصادق يفضي الى الخيروالامن والنماء.
‘ كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن
|