نظريّة الإثبات في الفكر الأصولي وقفات وتأمّلات
حيدر حبّ الله
تمهيد
يُدخلنا الحديث عن علم أصول الفقه الإسلامي إلى المجال المنهجي في الفكر الديني، ومن ثم تغدو المحاولات التطويرية أكثر عمقاً وحساسيةً من غيرها، سيما وأنّ علم الأصول علم إسلامي أصيل كما يقول الدكتور حسن حنفي(1)، نبت في عمق الثقافة الإسلامية، وسبقت بدايات مراحله الجنينية عصرَ الترجمات المعروف.
ويكاد يتفق الباحثون على أن الفترة التي تلت عصر محمد باقرالبهبهاني (1205هـ) تعتبر أهمّ مراحل تطوّر علم الأصول في المجال الشيعي(2)، فقد نجح الأصوليون في إلحاق الهزيمة بتيّار الأخبارية الجارف، وكان النصر شحنة هائلة قدر الكفاية لدفع هذا العلم للتحليق – بعد هزيمة المنافس – في ميادينه الداخلية، حتى بلغ أوجه مع الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) والآخوند محمد كاظم الخراساني (1329هـ)، في تطوّر منقطع النظير يستحقّ كلّ تقدير وإجلال، بل بلغ – على حدّ تعبير الشيخ محمد مهدي شمس الدين – مرحلةً من التورّم تعطي إيحاءً بالتضخّم لكنه، أحياناً، ذو طابع سلبي، سيما على صعيد إفراط علم الأصول في التفاعل الداخلي المنغلق إزاء العلوم ذات الصلة، وحصول ما يشبه حالة الانفجار الداخلي التي أوسعت مدى حجمه دون أن تترك آثاراً مناسبة تحدّد دوره الحقيقي في عملية استنباط الحكم الشرعي.
يهمّنا في هذه الوريقات تسليط الضوء على نظرية الإثبات في الفكر الأصولي ومكوّنات هذه النظريّة وعناصرها، لنتفحّص عبرها الـمَدَيَات التي طالها علم الأصول، والأفكار التي قدّمها على صعيد نظرية الإثبات في تطوّراتها الأخيرة، وكذلك الإشكاليات التي تعترض هذه النظرية على الصعيدين المنهجي والتطبيقي معاً.
ونقصد بنظرية الإثبات، تلك النظرية التي تُعنى بإثبات صدور النصوص أو الأحداث التي يتمّ التعامل معها على أساس أنّها المصدر الشرعي لعملية الاجتهاد؛ أي ما يُثبت صدور النص الديني أو الحدث ذي الصلة، وقد كان لعلم الأصول إسهام ضخم جدّاً في نظرية الإثبات لا يمكن لأيّ نظرية إثبات أن تتجاهله إذا أرادت الإنصاف والعدالة.
نظرية الإثبات الأصولية وإشكاليّة الانتماء المعرفي
لعلّ أوضح صيغة تكشف طبيعة الإثبات في الفكر الأصولي هي الصيغة التي قدّمها الشهيد السيّد محمد باقر الصدر (3)، فقد ذكر السيد الصدر أن وسائل الإثبات الصدوري على نوعين:
أحدهما: الوسائل الوجدانية، وهي التي تعطي يقيناً بثبوت الحدث أو النص عن المعصوم.
وأبرز مثال متّفقٍ عليه على الوسائل الوجدانية لإثبات صدور النصوص أو الأحداث هو التواتر الذي درسه علماء الأصول والحديث منذ قديم الأيّام(4).
وعلى منوال التواتر الذي يعني تراكم إخبارات المخبرين، يأتي الإجماع في بعض صيغ تبريره، كالصيغة الأخيرة في أوساط علماء الأصول في القرنين الأخيرين، والتي ترى بأن قيمة الإجماع تكمن في قوّة الكشف والدلالة والإنباء عن الواقع التاريخي ما يعود إلى عمليّة يقين موضوعي يدرج الإجماع في سلك وسائل الإثبات الوجداني(5).
لكن تضعضع نظرية الإجماع – سيما المنقول – في الفكر الأصولي على يد الشيخ مرتضى الأنصاري(6)، والإجهاز عليها على يد السيّد أبو القاسم الموسوي الخوئي (1413هـ)(7)، أدّى – حسب رأي بعض الأصوليين(8) – إلى بروز وسيلة إثبات جديدة أكثر فاعلية، هي نظرية السيرة، التي قسّمها علماء الأصول إلى عقلائية تقوم على الإمضاء التشريعي، ومتشرّعية تقوم على عنصر الكشف عن موقف المعصوم.
وبذلك تكوّنت لدى العقل الأصولي نظريات التواتر، والإجماع وقد تلحقه الشهرة الفتوائية، والسيرة بقسميها.
ثانيهما: وسائل الإثبات التعبّدي، وهي جملة الوسائل التي لا تمنحنا يقيناً بصدور النصّ أو الحدث، بل أقصى ما تعطينا الظن والرجحان، لكن اعتباراً تشريعياً منحها قيمةً ما سنأتي على ذكرها، ومن ثم صار بالإمكان الاعتماد عليها في إثبات النصوص والعمل وفقها.
وأبرز أنموذج لهذا النوع (الثاني) هو خبر الواحد، وعلى رأي بعض الأصوليين الرافضين لحجية خبر الواحد أو بعض الحجج الأخرى، الظنُّ المطلق سيما على نظرية الكشف(9).
ومن رحم وسائل الإثبات التعبدي، ولدت فكرة الحجية بمفهومها الأصولي، لتستقل عن الحجية بالمفهوم المنطقي(10)، وتبدأ سلسلة من التداعيات النظرية الهامة التي نستهدف فعلاً تحليلها.
اعتقد الأصوليّون بأن حجّية أمرٍ ما غير معنية – عادةً – بإيصاله لليقين أو الواقع عندما نترك فعلاً حجية اليقين نفسه؛ لأن الحجية بمفهومها الأصولي مبدأ ينتمي إلى دائرة العقل العملي، إذ تعني تنجّز التكليف على العبد ودخولـه دائرة مسؤوليته من جهة، وعذر العبد في العمل على تقدير عدم إصابة الواقع في أسوأ الحالات، وهو ما يسمّى المنجزية والمعذّرية وَجْهَا الحجيّة.
أمّا الحجية بمفهومها المنطقي، فتعني اشتمال دليلٍ ما على درجة معيارية تسمح بتبنّيه طريقاً إلى الواقع.
إن تكوّن الحجية بمفهومها الأصولي المنتمي إلى دائرة العقل العملي في ما يلزم ويعذر، ينبغي ولا ينبغي، بمعزل عن الحجية بمفهومها المنطقي المنتمي إلى دائرة العقل النظري الهادف إلى تحديد الواقع والإنباء عمّا هو كائن.. أدّى إلى أن لا يُعنى الأصولي عادةً بوضع معايير على مستوى العقل النظري تحدّد مدى جدوائية سبيلٍ ما لإثبات الواقع، فالنص ليس في حقيقته سوى واقع تاريخي، ومن ثَمّ فالحديث عن وسائل لإثباته يعني الدخول في فلك العقل النظري الذي يُعنى بما هو كائن؛ لأن النص كائن في الزمان والمكان، فعندما ينظر الأصولي إلى خبر الواحد بمنظار الحجيّة التعبدية فهو غير معنيّ بمدى إصابة خبر الواحد للواقع، ومن ثم فخبر الواحد عنده ليس وسيلةً لإثبات ما هو كائن بقدر ما هو مخرج تقوم على أساس منه (الماينبغيّات)؛ ولذلك لا يجد الأصولي حرجاً في التصريح بأن خبر الواحد مثلاً حجّة يجب العمل به والالتزام بمضمونه مع أنه لا تُعْلَم إصابته للواقع؛ لأن الأصولي غير معنيّ بإصابة الواقع، سيما عندما يكون الأساس عنده في حجية الخبر الواحد مثلاً الآيات القرآنية دون العقل أو السيرة العقلائية.
ولا تعني نظرية الإثبات – أصوليّاً – أن الأصولي لا يعير أدنى اهتمام لوسائل الإثبات ودرجة الكشف عن الواقع الموجودة فيها، بل إن كلمات الأصوليين في تحديد فلسفة التعبّد بالظنون وإمكانه تؤكّد أنهم كانوا يلاحظون درجة الكشف المنتمية إلى العقل النظري، ولهذا ظهرت فكرة التزاحم الحفظي بملاك قوّة الاحتمال في الأمارات عند السيد باقر الصدر، وفكرة حجية مطلق الظن حيث يقوم دليل الانسداد على أساس من تقديم الظن على غيره، لا لشيء سوى درجة الكشف فيه والتي تمنحه رجحاناً(11).. لكن مع ذلك لم يكن السبب في تبنّي الأصولي للظنون التي منها خبر الواحد كونها سبيلاً منطقياً لإحراز الواقع؛ بل لأنها سبيل يقول العقل العملي: إن العمل وفقها يبرئ ذمّة العباد أمام ربّهم، ولو أنّ آيةً قرآنيةً دلّت على حجية حتّى الاحتمال الضعيف لكان كالظن بلا فرق.
ومما تقدّم يتضح، أن نظرية الإثبات الأصولية تنتمي معرفياً إلى معايير العقل النظري في قسم منها كالتواتر و… وإلى معايير العقل العملي في قسم آخر كخبر الواحد…
إن هذين الانتمائين لا يضرّان بعمل الأصولي؛ إذ أقصى ما يقولـه لك: إن الطرفين حجة؛ إما ذاتياً لحجية القطع، أو تعبدياً لحجية خبر الواحد أو الشهرة الفتوائية ولو أفادت الظن، وهذا التمايز لا يغيّر من وظيفة الأصولي (والفقيه) شيئاً.
إن استهداف الأصولي الوصولَ إلى مبرِّئات قانونيّة أمام المولى سبحانه وتعالى، تجعل أجوبته متناسقة سليمة، وفي نفس الوقت بالغة الدقّة، لكن تحوّلاً بسيطاً في الأهداف والوظائف ربما يغيّر من خارطة نظرية الإثبات الأصولية ويخلق أمامها إشكاليات.
لنفرض أننا نريد أن ننظر إلى نظرية الإثبات بمعيار منطقي يستهدف كشف الواقع، هل سيبقى التقييم واحداً؟!
إنّ ما يسمّى بوسائل الإثبات التعبّدي سيصبح معايير لا قيمة لها نظرياً، وإن كانت ذات قيمة عملية؛ أي أنه لا يمكن اعتبارها وسائل منطقية ما دامت لا تفيد يقيناً، ونركّز لا يقيناً أرسطياً ولا يقيناً بالمعنى المعاصر مما قد
يسميّه الأصولي اطمئناناً، نعم هي من منظار وظيفي مبرئة للذمّة، لكنها من منظار علمي ليست سوى ظنون كالاستقراء الناقص عند مناطقة أرسطو، والقياس الحنفي و…
بل إن مقولة ((الإثبات التعبّدي)) هي مقولة متناقضة في حدّ نفسها، فإن الإثبات مقولة ترجع إلى تحديد ما هو كائن، والتعبّدية مقولة تنتمي إلى عالم الفعل والسلوك فلا معنى لاجتماع المفردتين من وجهة نظر العقل النظري، ومن ثم فلا مبرّر لتكوين هذا المصطلح إلا على ضوء مفهوم الحجية بمعناه الأصولي، حتى لو حاول مثل السيد الخوئي إعطاء عملية الإثبات بعداً عملانياً بادعاء أنّه يشمل الإثبات التنجيزي والتعذيري(12)، فإن هذه المحاولة التي ذكرها في سياق
دفاعه عن بعض تعريفات علم الأصول، إنما يمكن تصحيحها على أساس دلالة لفظية ولو مجازية للكلمة بمعونة العقل العملي، لا على أساس مفهوم الإثبات نفسه في ما يعنيه من دلالة علمية.
وبناءً عليه، إذا أردنا أن نتعامل مع ما بأيدينا من وسائل وأدوات للوصول إلى هدف معرفي غير عملي، فلن يمكننا اعتماد وسائل الإثبات التعبّدي، وستظهر أمامنا مواقف جديدة نذكر نماذج لها:
الأنموذج الأوّل: العلاقة التي تربط النص القرآني بالنص الحديثي، فقد تبنّى أغلب علماء الأصول – سيما المتأخرين منهم(13) – موقفاً يقول: إذا حصل تعارض بين نصّ قرآني عام أو مطلق وبين مخصِّص روائي أو مقيِّد كذلك، وهكذا بين الحاكم والمحكوم(14) والأظهر والظاهر.. فإن النص الروائي يقدّم، نتيجة قانون المطلق والمقيّد، والعام والخاص، والحاكم والمحكوم و…
وهذه النتيجة صحيحة وفق معايير العقل العملي والحجية الأصولية؛ لأن الأصولي ينظر إلى النص القرآني والروائي بمنظار الحجية الأصولية فيراهما حجة متساويان في هذا الوصف، ومن ثم لم يعد يعنيه درجة الكشف في إثبات الأوّل أو الثاني، فيطبّق عليهما معاً قوانين التخصيص والتقييد و…
نعم، عندما يكون النص القرآني يقيني الصدور والدلالة معاً لا يقف في وجهه حينئذٍ نصّ حديثي؛ لأن جعل طريقٍ ما حجةً بالمفهوم الأصولي يقوم على امتيازه بدرجة كشف عن الواقع ولو ناقصة كما أشرنا سابقاً، ومع معارضة الحديث للقرآن القطعي الدلالة يفقد الحديث قوّة الاحتمال ويغدو مضمونه على الأقل بدرجة الصفر في المائة، إن لم نقل إن صدوره عن النبي 2 أو الإمام يكون كذلك كما تفيده بعض الروايات(15).
إلا أن هذه النتيجة لا تبدو صحيحة عندما نتحدث بآليات العقل النظري، ونتعامل مع النصوص على أساس اكتشاف واقع لا تبرئة ذمم؛ أي لنفرض أنفسنا غير مسلمين وإنما مجرّد باحثين حول النظرية الإسلامية في موضوع ما، إن وجود نصوص ظنية لا يسمح لنا بأن ننسب مضمونها إلى الدين الإسلامي حتى لو قلنا: إن الإسلام عذر أتباعه في اتباعها للضرورة وفقد أساليب الإثبات، لكنها على أي حال ليست وسائل علمية لباحث محايد لكي يكتشف النظرية الإسلامية الحقيقية.
وبناءً عليه، فإذا فقدت المعيار السليم في إثبات صدور النص، فلا معنى لأن تعارض النص القرآني المفروض ثبوت صدوره يقيناً حتى لو كانت دلالته ظنية؛ لأن الدلالة فرع الدال من حيث أصل وجوده، فلا معنى لتطبيق قوانين الدلالة على نصّين لم يثبتا معاً بل ثبت أحدهما فقط.
وهذا معناه، أن الباحث عن النظرية الإسلامية معرفياً لا يمكنه تبنّي وسائل غير معتبرة منطقياً، نعم بإمكانه القول: إن الإسلام سمح لأتباعه بأخذ بعض الطرق غير اليقينية لضرورات، وهذا الأمر قطعي ومؤكّد عند من ثبت عنده أن الإسلام فعل ذلك، وإذا تمّ لنا ذلك، كان من المنطقي الحديث عن اجتهاد نظري، أي اجتهاد يعتمد وسائل الإثبات المنطقي، والهدف من هذا النوع من الاجتهاد تكوين صورة عن الإسلام تغدو كلّها منطقية أكيدة.
هذه الصورة المؤكّدة قادرة – رغم صغر حجمها، قياساً بدخول السبل الظنية إلى الاجتهاد – على أن تكون معياراً لوزن الكثير من معطيات الظنون اللاحقة، تماماً كما نطرح الأحاديث عندما تعارض نصّاً قرآنياً قاطعاً..
وهذه الآلية تناظر المقولة التي طرحها بعض الأصوليين في فهم ظاهرة تعارض القرآن والحديث على أساسٍ من التعارض الروحي الذي يضع حديثاً في طرف ومكوّناً مفهومياً قرآنياً في طرف فلا يجده يتناسق معه؛ أي تعارض الحديث مع التصوّر القرآني العام لا مفردة من مفردات الآيات(16).
الأنموذج الثاني: وفي تداعيات المنهج النظري لنظريّة الإثبات تأتي فكرة نسبة المعطيات الظنية إلى المولى سبحانه وإلى الدين والإسلام، فقد حاول علماء أصول الفقه تبرير هذا الإسناد عبر آليات تنتمي كلّها إلى مفهوم الحجية بالمعنى الأصولي(17)، ومن ثم فعملية الإسناد هذه لا تبدو صحيحة معرفياً عندما يراد الاعتماد على وسائل ظنية لا تبلغ درجة اليقين أو الاطمئنان إلا على نوع من التسامح والتساهل.
وهذا ما يعني أن الخطاب الديني عموماً مطالب بتبنّي آليات تنأى بنفسها عن النسبة إلى الإسلام عندما تكون السبل غير أكيدة معرفياً، ومن ثم فينبغي عدم الاشتباه وخلق التباس في الذهن الجماعي يداخل بين المعطيات المنتمية إلى عالم الحجية الأصولية وتلك المنتمية إلى الحجية المنطقية، الأمر الذي يخفّف من حدّة بعض الإشكاليات العالقة في الخطاب الديني، من أبرزها إضفاء القداسة ومنح سمة الواقع على مجموعة من الاجتهادات الفقهيّة.
ولا تبدو المحاولة التي طرحها الميرزا محمد حسين النائيني (1355هـ) في تفسير نوعية الحجية الممنوحة للظن الآتي من خبر الواحد مثلاً، والتي تقول بأن المشرّع يعتبر الظنّ علماً في نحو من التعبّد، إن هذا الاعتبار التشريعي، لا يغير من واقع الأمر شيئاً حتى عند صاحب هذه النظرية؛ لأن النائيني يرى هذا الاعتبار على صعيد تقديم أخبار الآحاد تشريعاتَ لا إخبارات، مما يدلّ على أنه لا يريد في مستوى العقل النظري تحويل الظن إلى علم بل يريد ذلك في مستوى العقل العملي فقط، ولهذا لم يوافق النائيني على حجية خبر الواحد ولا مطلق الظنّ في الأمور الاعتقادية(18)، وحتى تلميذه السيد الخوئي أشهر أنصار مدرسة النائيني عندما حاول معالجة علاقة الحجية بالموضوعات التاريخية سعى لربط الموضوع بقضايا تتصل بالجانب العملي فقال: إنّ الحجية التي نمنحها للظن كخبر الواحد يمكن أن تنفعنا في مجال القضايا التاريخية عندما يمكننا على أساسها الإخبار يما يفيده الخبر بحيث لا يعود هذا الإخبار كذباً محرّماً شرعاً، لا أنّ الحجية لخبر الواحد تجعله ذا اعتبار منطقي يمكن الاعتماد عليه وتحصيل نتائج تاريخية، بل هدف الخوئي كان مجرّد الفرار من الحديث الكاذب شرعاً، وهو ما جعله يربط المسألة بنظرية النائيني في جعل الظن علماً، على أساس أن الكذب هو الإخبار عن غير علم فقد حصل علم تعبّدي بقطع النظر عن المعلوم وتحقّقه وثبوته في الواقع التاريخي(19).
نظام الحجية الأصولية وحل إشكاليّات الواقع
ما تقدّم كان حديثاً حول البعد المعرفي من نظرية الإثبات الأصولية في شقّها التعبّدي خاصة، لكن ثمة جانب آخر لفكرة الحجية الأصولية يحتاج إلى تفكير، وقد أطلّ عليه علماء الأصول إطلالةً نظريةً فوقية، أي إطلالة تصاحب عملية التفكير ولا تواكب واقع الأمور في الخارج.
ففي أواخر القرن الثالث الهجري ظهر أبو جعفر محمّد بن عبدالرحمن بن قبة الرازي، ليثير إشكاليات على اتّباع الظن في الاجتهاد بشكل كلّي، وقد أحدثت إشكاليات ابن قبة زوبعة، ومن ثم سيطرت على البحث الأصولي إلى يومنا هذا.
ولكي نطل على طبيعة المعالجة الأصولية للمشكلة التي نحن بصددها، من المناسب الإشارة إلى أنموذج مما أتى به علم الأصول على هذا الصعيد، فقد نُسب إلى ابن قبة القول: بأنه من المستحيل أن يأمرنا الشارع سبحانه باتّباع الظن في الشريعة؛ إذ إن السبل الظنيّة قد تصيب الواقع وقد تخطئه، فإن أصابته سلمنا وتمّ الأمر، وإن أخطأته وقعت مشكلة، فإذا كان الواقع التشريعي هو الحرمة كان الترخيص الذي أفادنا به الظن قد أوقعنا في مفسدة الحرام الحقيقي، وإن كان الوجوب كان ما قاله لنا الظن – خطأ – من الترخيص في الترك سبباً لفوات مصلحة العمل بالواجب، ولا يمكن للمولى سبحانه أن يشرّع العمل بالظن ما دام يفضي إلى فوات مصلحة على العباد أو الوقوع في المفسدة، وهذه هي الإشكالية التي عرفت في الأصول لاحقاً بـ: ((شبهة نقض الغرض))(20).
وفي إطار المعالجة الأصولية لهذه الإشكالية وغيرها أيضاً ظهرت نظريات يهمنا سريعاً الإشارة إلى اثنين منها فقط:
1 – نظرية المصلحة السلوكية: وهي النظرية التي طرحها الشيخ الأنصاري ودافع عنها مفصّلاً، وتقول: إن العمل وفق الطرق الظنية كخبر الواحد عندما يجعله الله تعالى طريقاً معتبراً وحجّة، هذا العمل وهذا الانصياع للسبل الظنية هو في حدّ نفسه يشتمل على مصلحة، وهذه المصلحة تجبر تلك المصلحة التي فاتتنا جراء خطأ السبيل الظني في إصابة الواقع وما شرّعه الله حقيقةً، كما تعدّل الموقف إزاء المفسدة التي وقعنا فيها أيضاً(21).
2 – نظرية التزاحم الحفظي: وهي النظرية التي أسهب فيها الشهيد محمد باقر الصدر حين قال: إنَّ المولى سبحانه حينما تضيع سبل اليقين بالأحكام الشرعية أمام العباد، لا يجدُ بُدّاً من موازنة أموره للحفاظ على أكبر قدر ممكن من تلك المصالح التي ضاعت عليهم أو حمايتهم من أكبر قدر ممكن من المفاسد التي قد يقعون فيها نتيجة ضياع الأحكام الشرعية بالنسبة لهم.
إن المولى يشرّع العمل ببعض الظنون؛ لأنه يرى بأنها أكثر السبل ضماناً لتحصيل المطلوب، وإلا فإذا أطلق العنان لضاعت المصالح والمفاسد(22).
وهذه المحاولات التي ذكرها علماء أصول الفقه لحلّ مشكلة العمل بوسائل الإثبات الظنّية في الشريعة، لا ريب في اشتمالها على خصوصيتين:
الأولى: إنها قادرة – في الجملة – على امتلاك عنصر الانسجام النظري الداخلي، وهذا العنصر رهين للدراسات الأصولية في هذا الصدد؛ أي أنها ليست نظريات (لا أقل واحدة منها أو ما قد يلفّق) متهافتة أو قريبة للسفسطة، بل إنها منطقية وموزونة ومحتملة جداً.
الثانية: إنها نظريات أتت الدرس الأصولي عقب إثبات أن المشرّع سبحانه قد أمرنا بالعمل بالظنون في الشريعة؛ أي أنّ الأصولي لمّا ثبت عنده بالآيات أو غيرها أن المشرّع أعطى الحجية لخبر الواحد أو.. أراد الفرار من إشكاليات ابن قبة ومن بعدَه، أمّا لو لم يثبت حجية أيّ طريق ظني، فالأصولي ربما يبحث هذا الموضوع من باب زيادة المعرفة ومتابعة الموضوعات المثارة.
وبعبارة أخرى، يغدو الأصولي معنياً بتقديم حلول عندما يثبت عنده أن المولى أعطى الحجية فعلاً، فلكي يتمّم نظرية الحجية أراد حلّ عقبات ما يسمّى مرحلة الثبوت والإمكان، وهذا معناه أنّ هذه النظريات لا تريد أن تؤكّد أن الواقع كان كذلك، وأنّ تشريع المولى سبحانه سياسةَ العمل بالظنون كان لأجل المصلحة السلوكية أو التزاحم الحفظي أو المصلحة في الجعل لا المتعلّق كما هو رأي الخوئي(23)، لأن الأصوليين لم يقيموا أدلةً على أن نظرياتهم هي الواقع عينه، بل كان هدفهم رفع الاستحالة المفترضة في كلمات ابن قبة وأنصاره في أن يشرّع المولى العمل بالظنون، وكان يكفي الأصولي لتبديد شبح الاستحالة هذه أن يقدّم تصوّراً منسجماً يؤكّد فيه أن المولى حينما شرّع العمل بالظنون كخبر الواحد لم يكن في عمله قبح أو تناقض غيرها، لأن تشريع العمل بالظنون يمكن أن نتصوّره أمراً منطقياً في صيغة المصلحة السلوكية.
ولكن تصوّر منطقيّته كذلك لا يعني أنه ليس هناك من صيغةٍ أخرى ممكنة أيضاً؛ لأن الأصولي تكفيه صيغة واحدة لرفع الاستحالة، دون أن تعني صيغته احتكار عامّة الصيغ التي يمكن أن يحصل عليها العقل البشري ولو في المستقبل؛ نعم لو قدّم الأصولي دليلاً حصرياً ينفي فيه أيّ صورة أخرى على الإطلاق لربما تمّ له احتكار الصيغ، لكن هذا ما لا تساعد عليه كلمات الأصوليين.
وبناءً عليه، يظهر بوضوح أن الأصولي اعتكف في داره وخرج بعرض صورة إمكانية لعملية تشريع اتّباع بعض الظنون، ولم يكن مضطراً أصلاً لملاحقة الواقع ومفردات الشريعة ليتأكد فعلاً أنّ شيئاً مما قاله قد حصل فعلاً، لما أشرنا إليه، وكان الأصوليّ بذلك قد أنجز مهمته بدقة عالية وضمن صيغ منطقية منضبطة، بيد أنها صيغ أسقطت من الأعلى، أي من أفق العقل في تجريده وتحليله للقضايا، ولم تنبع هذه الصيغ من الواقع أبداً في عملية استقرائية، وهذا أمرٌ لا يؤاخذ
عليه الأصولي البتّة؛ لأن الاستقراء هنا غير ممكن في أغلب الحالات، لأن الفرض أننا لا نعرف الأحكام الواقعية حتى نقيس نظرية التزاحم الحفظي – مثلاً – قياساً ميدانياً.
وما دامت القضيّة على هذه الشاكلة، فإن من الممكن أن تصطدم نتائج الاجتهاد القائم على حجج بالمفهوم الأصولي بإشكاليات على أرض الواقع، ومن ثم يبرز التساؤل الذي يقول: ماذا نفعل عندما نرى بأمّ عيننا اصطدام النتائج الفقهية بالواقع وإنتاجها مشكلات وليس حلولاً لشؤون الحياة؟ إن براءة الذمّة من العمل بالحجج الأصولية، وكون تشريع هذه الحجج أمراً ممكناً للمصلحة السلوكية أو غير ذلك لا يغمض أعيننا عن مشكلات الواقع، فإذا كنا نريد من الشريعة مصالح الدنيا والآخرة فكيف يمكن أن نحل مشكلات الواقع الناجمة عن اجتهادات فقهية بمجرّد تقديم افتراض ممكن ليس من دليل يثبته؟ وإذا كان المشرّع يرى صلاحاً بالتأكيد من وراء تشريعه الحجية الأصولية لبعض الظنون ما يكشف عن وجود مصلحة حتى لو لم نرها، فإن السؤال ينعقد: هل أن تشريع الحجية لخبر الواحد مثلاً يمتدّ لما إذا رأى العقل الإنساني مفسدة مقطوعاً بها بالنسبة له في تطبيق حكم فقهي على الواقع؟ وهل يمكن القول في درجة سالفة أن مبدأ تشريع الحجية هو مبدأ مقيّد بعدم إحراز العقل مفاسد ميدانية إحرازاً قطعياً في حدود اطلاعه بدل أن نقول بإطلاق الحجية ثم تقييد نفس الحكم المعطى بخبر الواحد بموارد عدم الفساد نتيجة قواعد الضرر والحرج و…؟
والسبب في عمليّة التقييد هذه، أن تشريع الحجية للطريق الظنّي كان بهدف الحفاظ على المصالح وتجنّب المفاسد ضمن الحدّ الأعلى، فإذا لوحظ في امتداد هذه الحجية – ولو زمانياً – نقضٌ لهذا المبدأ فإن الحجية يجب أن تتقيّد، وهذا التقيّد متحرّك؛ لأنّ ملاحظة الأضرار الناجمة أحياناً عن العمل ببعض الظنون أمرٌ متحرّك، فربما يكون حكم معطى بالخبر مؤدياً لذلك في زمان دون زمان، أو في حال دون حال.
ولكن هذا المنهج قد يخضع لمناقشات عديدة، أبرزها أن عملية التقييد إذا جاءت في مضمون الرواية على نسق التعامل مع قاعدة لا ضرر، فإن الحجية الثابتة للخبر لن تفضي إلى محذور، ومعه لا حاجة لتقييد الحجية ما دامت التقييدات الأخرى كافية.
لكن هذا لا ينفي الإشكالية التي نستهدف بيانها هنا، وهي أنّ نظام الحجج الأصولية، قد لا يحلّ مشكلة وربما لا يعطي نظرية متكاملة؛ لأنّه غير معني بالواقع كما أشرنا وإنما ببراءة الذمم، وهذا معناه أن من الخطأ استخدام خطاب ديني يدّعي تقديم حلول للبشرية ضمن صيغ إطلاقية جازمة؛ لأن موازين الاجتهاد الفقهي لا تتحمّل خطاباً كهذا حتى لو تحمّلته الأصول المعرفية للخطاب الديني عموماً.
إن انعزال نظم الحجية الأصولية – بل بما يشمل الأصول العملية أيضاً – عن الواقع، وظهور فكرة الحكم الظاهري في مقابل الحكم الواقعي، يجب أن يأخذ امتدادته الطبيعية، وإن نظريات الجمع بين الواقع والظاهر يجب أن تجعلنا نقرّ بأن نظام الفقه الإسلامي في عصر الغيبة نوع نظام يحقّق الحدّ الأدنى من الأضرار، لكنه ليس ما يؤكّد أنه لو عمل به الناس لتلاشت مشاكلهم وحققوا التقدّم في كلّ ميادين الحياة دونما نقص أو خلل، ولهذا حاول السيّد محمد باقر الصدر في ((اقتصادنا)) تبرير إجراء عمليات تلفيق بين الاجتهادات للتوصّل إلى نظرية فقهية متكاملة(24)؛ لأن نظام الحجج يفصل اللازم عن الملزوم ويفرّق بين المؤتلفات.
ولا يعني ذلك – إطلاقاً – أيّ عمليات نقد للشريعة أو تطبيقها، بقدر ما نستهدف إعادة تكوين الخطاب الإسلامي وفقاً للنظم المتوفّرة في الاجتهاد الفقهي.
وعلى ضوء ذلك، تبدو القضية السالفة مرّةً أخرى، من الضروري التفكير في حلول لتلك الإشكاليات التي تخلقها بعض الأحكام الشرعية دون إسناد المشكلة دائماً وفقط إلى خراب المجتمع وانحرافه، كما ودون قدح في الشريعة ونظمها، وهذا التفكير يجب أن يأخذ بعين الاعتبار أن نظم الاجتهاد في علم أصول الفقه نظمٌ تتقبّل مشكلات كهذه، ومن ثمّ قد يكون من اللازم تبنّي أحد طريقين:
الأوّل: قصر النظر على مفاهيم أصول الفقه في الحجية، والقول: إنّ علينا العمل بما ألزمتنا به الحجج وما هو مبرئ للذمّة أمام ربّنا حتى لو رأيناه يخلق لنا مشكلات عديدة، ربما نتفادى بعضها ببعض القواعد الحاكمة كقاعدة لا ضرر ولا حرج و….
والسبب في ذلك، أن ما نفترضه مشكلةً ربما يكون خطأ في التحديد، وأنّه حيث لا تنجلي لنا الملاكات في كلّ أبعادها فقد نحسب بعقولنا الناقصة ما ليس بمشكلةٍ مشكلةً.
الثاني: السماح للعقل الإنساني بالتدخّل حتّى لو لم تسعفه قواعد لا ضرر، ولا حرج، ولا… وذلك بادعاء أن العقل – على نقصه – أسندت إليه في الفقه الإسلامي صلاحيات تشخيص خطيرة، فلماذا لا نسمح له هنا بالتدخل لوضع حدّ لبعض المشكلات؟
وبين هذين السبيلين يطالب البحث الأصولي باعتماد جواب مقنع، دون أن يضع الإنسان رأسه في الرمل أو يحاول الغرور بعقله أكثر ممّا ينبغي.
نظريّتا الإجماع والتواتر ونواقص الإثبات الميداني
كان للإجماع في نظرية الإثبات الأصولية دور بالغ في الاستنباط، وقد ظهرت منذ السيد المرتضى (436هـ) والشيخ الطوسي (460هـ) اتجاهات في تفسير عنصر الإثبات في الإجماع، فمن الإجماع الدخولي إلى الإجماع اللطفي إلى الإجماع الحدسي الكشفي.. فلسفات منهجية أصولية لتأكيد قيمة الإجماع وسيلةً تمنح اليقين بصدور الأحكام من المشرّع(25).
ولا مجال لنا فعلاً لدراسة نظرية الإجماع بما لها من امتداد في الفكر الأصولي، والإسلامي عموماً، كما وما لها من دور، إلا أن أكثر الصيغ تطوّراً لهذه النظرية هي الصيغ التي تبناها الأصوليون في القرون الأخيرة، وتقوم فكرة الحجية المنطقية في الإجماع على أساس تراكم الاحتمالات الناتجة عن تبنّي كل فقيه موقفاً ما من المسألة الشرعية، وبتظافر عدد الفقهاء ونوعيّتهم ينشأ عند الفقيه حدسٌ بتبنّي المشرّع للمعطى نفسه، أو ما يسميه البعض: توالد موضوعي يعقبه توالد ذاتي يؤدّي إلى اليقين(26) بما يسمى عندهم: معقد الإجماع؛ أي تلك النقطة التي التفّت حولها مواقف الفقهاء.
ولسنا بصدد الحديث عن المبدأ من الزاوية النظرية، فإن الإجماع على أساس الحدس وتراكم الاحتمال(27) يمكن أن يفيد اليقين، وليس من خلل منطقي في ذلك؛ أي من تناقض داخلي، لكن نظرية الإجماع الأصولية بوصفها عماداً من أعمدة الإثبات الأصولي، لم تلاحظ على الدوام الإشكاليات الميدانية لتكوّن الحدس بوصف علم الأصول برمّته علماً آلياً يخدم العمليّة الفقهيّة الميدانيّة، بل تعاطت مع الموضوع من زاوية لا شعورية مفترضةً أن ليس من الضروري الحديث عن ضوابط في هذا الموضوع، وأبلغ ما كان هو الحديث عن وصف التقدّم الزمني في المتفقين وما شابه ذلك.
غير أنّ مشكلة المشاكل في نظرية الإجماع لا تنبع من عنصر التراكم فحسب حتى ندرس هذه المراكمة ونحلّل إفادتها اليقين، وإنما أيضاً من عنصر وحدة الاحتمال التي يجب أن تدرس خارج إطار النظريات الرياضية، وإنما في التحليل النفسي والتاريخي والاجتماعي للتراث عموماً.
إن رأي فقيهٍ ما – كالشيخ الطوسي أو العلامة الحلّي – هو الوحدة التي نحتاج إلى مثيلاتها لخلق عنصر مراكمة الاحتمال، لكن الباحثين يبدأون بالافتراق والانفصال عندما يراد تحديد قوّة الدلالة المنطقية في رأي هذا الفقيه، فعندما يحمل الباحث تصوّرات مثقلة بالقداسة والهيبة حول شخصية هذا الفقيه، فإن درجة كشف موقفه عن الحكم الشرعي ستغدو كبيرة، ولنستخدم تعبيراً رياضياً فنقول: تغدو 10%، إن القراءة التبجيلية والتقديسية للتراث تعطي تصوّرات من هذا النوع عن مفرداته، ومن ثم يغدو كشف الإجماع عن الواقع التشريعي ممكناً في ظلّ هذا المناخ الطبيعي الدافئ؛ لأن العثور على خمسة عشر فقيهاً يتبنّون الرأي نفسه يسمح – ضمن عملية حسابية – ببلوغ حالة الاطمئنان ما دامت الوحدة التي ننطلق منها هي الـ 10 %.
أما حينما ينطلق الباحث من عقلانية نقدية، ومن موقف الناقد للتراث عموماً، ويغدو قابعاً في مخياله في السياج المحكم الذي تخلقه القراءات التاريخية بالمعنى المعاصر للكلمة، وتزول عنده مفاهيم القداسة والعظمة، والهالة التي تصنع حول الأفراد و.. فإن هذا المناخ لن يساعد أبداً على تكوين وحدة احتمال قوية وقادرة بمعونة عنصر المراكمة على التفاعل التصاعدي لبلوغ درجة اليقين، إن أنموذجاً واحداً كفيل بأن يوضح لنا الصورة ههنا، تلك الفكرة التي تقول بأن الطبقات اللاحقة من الفقهاء كان ينتابها – ولو جزئياً – عقل مستقيل، فتذهب إلى ما ذهب إليه الأقدم منها في نوع من الاتكالية على الدوام تعزّزها – نفسياً – المواقف السابقة المؤيّدة، وتزيل عنها شبح القلق والاضطراب، إن العقل القداسي لا يمكنه أن يقبل بفكرة كهذه؛ لأن فيها نوعاً من القدح بعظمة شخصيات ذات طابع مقدّس، ومن ثم فكل فقيه هو في موقفه باحث مستقل لا معنى للعقل المستقيل فيه، أما العقل الحداثي فهو يرى بأن هذا الأمر طبيعي للغاية، بل ينظر بعين النقد للكثير من المواقف انطلاقاً من مناخات معاصرة سياسية أو غير سياسية ما يبعد الموقف الفقهي عند هذا الفقيه عن صيغته العلمية المحض، الأمر الذي يخفف من قوة الاحتمال فيه، ويبطئ من حركة اليقين التصاعدية.
إن علم الأصول لم يكن معنياً بهذا الواقع الذي لا يمكن الزعم بأنه استثناء بل هو الأعم الأغلب، ومن ثم فإطلاق الكلام في نظرية الإجماع من الزاوية النظرية المحض يغدو أمراً مفارقاً للواقع الاجتهادي لا متماهياً معه، عندما يجري – على الأقل – التخفيف من كثافة العقل القداسي.
وفي أنموذج آخر دالّ ومعبّر، الحديث عن إجماعات لا تطال الدائرة الإسلامية، لماذا لم تكن مواقف علماء السنّة ذات درجة احتمالية إلا عندما يراد الاستنصار بها في سياق جدل، وهكذا مواقف فقهاء الشيعة بالنسبة إلى الفقه السنّي؟
إن الجواب عن هذا السؤال ربما يكون في اللجوء إلى اختلافات جذرية في الأصول الموضوعة في العلوم الدينية عند الطرفين كالقياس والاستحسان و.. وهي أصول كان من الطبيعي أن تولّد معطيات فاقدة للأهمية بتاتاً عندما يكون الأصل الموضوعي مرفوضاً بالكلية.
إلا أن هذا الجواب – رغم سلامته – لا يصلح حلاًّ شاملاً، وتفسيراً كاملاً للسبب، إن عنصر فقدان الثقة كان أحد الأسباب الرئيسية لاستبعاد موقف هذا الفقيه أو ذاك، وفقدان الثقة عنصر ينتمي إلى الدائرة الثقافية العامة التي يجب تحديد أطرها كمقدمة لقياس درجة الوحدة الاحتمالية.
ومعنى ما نرومه شبيه بفكرة الإجماع المدركي الذي يعني حصول الإجماع فعلاً مع وجود مستند نصّي أو عقلي تأكّدنا اعتماد المجمعين عليه بل حتى لو احتملنا ذلك، فإن الإجماع يفقد قيمته تبعاً لهذا الوضع؛ لأن المجْمِعِينَ – بناءً عليه – لن يمتازوا عن فقهاء الطبقة اللاحقة إلا بعملية استنتاج من النص ربما يختلف معهم فيها الفقهاء المتأخّرون، وهذا الاختلاف هو حقّ طبيعي مشروع لهم بحكم الإقرار بانفتاح باب الاجتهاد بعد عصر النص.
إن المتأمّل في مدرسة السيد أبو القاسم الخوئي الفقهية – كمثال – يرى بوضوح تطوّراً ملحوظاً على هذا الصعيد، فكتبه مصباح الفقاهة، والمستند والمعتمد وغيرها ينسف الخوئي فيها الأغلبية الساحقة من الإجماعات التي استدلّ بها على حكم شرعيٍّ ما ضمن مقولة مدركيّة الإجماع أو احتمال المدركيّة، وقد أدّت تطبيقات الخوئي – إذا أردنا أن ندرسها ميدانيّاً – إلى تنحية الإجماع جانباً، رغم أنها – أي التطبيقات – لم تستطع أن تبلغ مرحلة الإفتاء، بل انحصرت في مرحلة الدرس العلمي لتحلّ في مرحلة الإفتاء محلّها فكرة الاحتياط الوجوبي.
وهذا معناه أنّ نظرية الإجماع الأصوليّة ستغدو نظرية غير ذات بال وفقاً لتطبيقات مدرسة الخوئي والمناخ الذي سارت ضمنه هذه المدرسة، وهو بالضبط واقع يناظر ما نعنيه من المناخ الجديد في الثقافة على صعيد الإجماع بعيداً حتّى عن مقولة المدركيّة.
وعلى نفس منوال الإجماع، كان التواتر… فإن مفردات التواتر هي الأساس – ميدانيّاً – في إفادته اليقين، ومدى سرعة هذه الإفادة ونمطها، فإذا لم يتكوّن مناخ سليم تخلقه علوم الفقه والحديث والرجال بشكلٍ واعٍ ومدروس فإن ثلاثة أسانيد – وربما أقلّ – توجب حصول اليقين وادّعاء التواتر في بعض الحالات، وربما لا يوجبه عشرون سنداً في حالات أخرى، تبعاً لعناصر أهمّها عنصر الوحدة الاحتمالية للخبر، وهذا معناه أنّ الحديث عن ندرة تحقق القوّة في الوحدة الاحتمالية للخبر يجعل نظرية التواتر ذات طابع نظري محض تقريباً، تماماً كما يقال: إن الحديث الوحيد الذي حاز في الوسط السنّي على تواترٍ لفظيٍّ هو حديث: من كذب عليّ متعمّداً…
لقد درس علماء الأصول والحديث ومنذ فترة طويلة العناصر التي تساهم في تكوين التواتر، وقد أشار غير واحدٍ من أعلامهم إلى أن الخلفية الفكرية للباحث والحالة النفسيّة التي تحكمه تلعبان دوراً بالغاً في جرّ التواتر إلى اليقين والعلم(28)، فإذا صدقت المقولة التي ترى بأن فكرة التواتر مجرّد فكرة وهمية لا واقع لها إلا ما شذّ وندر… كما يميل إليه حتّى أبُ علم الحديث الإمام أبو عمرو عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري المعروف بابن الصلاح (643هـ) في كتابه علوم الحديث(29)، فإنّ نظرية التواتر التي عالجها علماء الأصول والحديث تغدو عديمة الفائدة تقريباً، وهذا ما يعني أن الدرس الأصولي مطالب بالتثبّت من هذا المناخ الفكري، قبل استنـزاف الوقت في معطيات لا تمتّ إلى واقع العملية الاجتهادية بصلة ميدانياً.
إلا أنه مع ذلك، تبدو نظرية التواتر أكثر قدرة على الصمود في ظلّ المناخات الجديدة في الثقافة، وذلك إذا ما تنازلنا عن فكرة التواتر اللفظي، بل وأحياناً عن فكرة التواتر المعنوي، بمعنى أن يكون مضمون حديثٍ ما متواتراً في أحاديث كثيرة ولو لم تتطابق النصوص تطابقاً تامّاً في التعبيرات اللفظية(30)، والسبب في ما أشرنا له هو أنّ التواتر يمكن أن ينفتح – في أفق جديد – على معنى آخر قد يسمّيه بعض بالتواتر المعنوي أيضاً(31)، وهذا المعنى هو أن تشترك دلالات مستبطنة في النصوص في عنصر معيّن لا يكون هو المدلول الصريح للنص بل هو المدلول المختزن وربما المدلول الذي تنبني دلالة النص الأساسيّة عليه بحيث يعتبر عندها كالأمر المفروغ منه.
إنّ اشتراكَ النصوص في عنصرٍ كهذا أكبرُ وقوعاً من اشتراكه في النص اللفظي أو في المضمون الكامل مع الاختلاف اللفظي، وهذا ما يجعل الضرورة قائمة والمسؤوليّة على كاهل علم الأصول لكي يقوم بتفعيل نظرية التواتر على هذه الجبهة، بدل التركيز البالغ على التواتر اللفظي الذي يصعب التحقّق من وقوعه عملياً، وفق المناخات التي أشرنا إليها والتي لا نستبعدها في الجملة.
إن تحليل اللامقروء في النص، أو فلنقل تحليل المستكنّ خلف أستار الكلمات الحاجبة يعطي مجالاً أكبر لإدخال عدد أكبر من النصوص في عملية الدراسة، الأمر الذي يضاعف العنصر الكمّي مما يسبب مراكمة الاحتمالات وبلوغ درجة اليقين، سيّما وأنّ احتمال قصد الرواة تعمّد الكذب أو وقوعهم في الخطأ في هذا العنصر المستكنّ وإخفائهم جميعاً هذا العنصر تحت ستار موضوعات صريحة مختلفة جداً هو احتمالٌ بعيدٌ للغاية وفقاً للنظم الرياضية.
وبهذا يظهر أن نظرية الإجماع في الفكر الأصولي تنتمي – مع نظريّة التواتر في بعض أبعادها – إلى مناخ خاص من الوعي والثقافة، وأن استبدال هذا المناخ يسحب بساط الشرعية من تحت هذه النظرية الأصولية الهامة ميدانياً، ولا نقول في جميع الحالات حتى لا نكون جزميين بل في الأغلبية الساحقة.
ومن هنا، يطالب علم أصول الفقه، أو فلنقل العلوم الإسلامية المعنية بالاجتهاد، بالمساهمة في خلق مناخات مدروسة وليست نفسية عفوية، وذلك بهدف تكوين نظرية الإثبات على ضوئها، إنّ هذه نقطة هامة وحسّاسة للغاية. وما لم يلاحظ الدرس الأصولي هذا التحوّل المناخي، فإن نظريات الإثبات لن تجدي نفعاً في تحصيل اليقين العلمي، وسيغدو علم الأصول مؤسّساً لنظريات إثباتية تنتمي إلى مناخات قد يدّعي البعض أنها فقدت وجودها على الساحة العلمية.
ولا نستهدف عملية إلغاء وإقصاء بقدر ما نطالب الدرس الأصولي بالتفكير الجادّ في هذا الأمر لدفع عملية الاجتهاد للفعالية والنشاط في ظلّ – على الأقل – أكثر من مناخ ثقافي ومعرفي، تماماً كما درس الأصوليّون لأكثر من قرنين من الزمن نظرية الانسداد رغم اتفاقهم على بطلانها، لكن العادة الأصولية -وهي عادة علمية ومنطقية ومنصفة – قضت بملاحقة نتائج النظريات لمعرفة مدياتها حتى لو لم يحصل اعتقاد بالنظرية – المبدأ نفسها.
ولا يفوتنا التذكير بأن ما قلناه عن الإجماع والتواتر ينسحب على نظرية الشهرة عندما يراد اعتبارها دليلاً منطقياً مفيداً لليقين الوجداني، وكذلك نظرية السيرة المتشرّعية، وسنة الصحابي وقوله، وما أشبه ذلك.
كما لا يفوتنا لفت النظر إلى أنّ الأصولي – وبحكم وظيفته في خدمة علوم الاجتهاد والاستنباط الإسلامي – لا يمكنه دائماً تجاهل الوضع الميداني لنظريّاته، وإن كنا نوافق على أنه غير ملزم دائماً بملاحقة الوضع الميداني الذي قد ينتمي إلى دائرة الفقه تارةً والحديث أخرى والكلام ثالثة وهكذا، لكن مبدأ أن يُعنى الأصولي بآليّات ميدانيّة لنظريّاته وبتداعيات نظريّاته ميدانيّاً – سيّما التداعيات التي يكثر وقوعها – هو مبدأ أصيل وسليم، وإلا فإننا سوف نتورّط حينئذٍ بعمليّة تجريد لعلم الأصول وخلع لباس النظرية والتجريدية عليه، وهي مشكلة ما يزال يعاني منها حتى اليوم.
ومن هذا المنطلق أدرجنا هذه الإشكاليّات الميدانية في الاهتمام الأصولي، تماماً كإدراجنا بعض الإشكاليّات التي تواجهها السيرة المتشرّعية، كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
السيرة المتشرّعية وتحليل الظواهر الاجتماعيّة
تعني فكرة سيرة المتشرّعة التي ازداد رواجها في الفقه وأصوله في القرنين الأخيرين، أن سلوك المتشرّعة المؤمنين المعاصرين لزمن النص يشكّل بتراكمه كاشفاً ودالاً على وجود موقف شرعي، مطابق ومتماه مع الموقف الذي يسلكه المتشرّعة، وتعدّ سيرة المتشرّعة – عادةً – دليلاً مفيداً للعلم واليقين أو لا أقل للاطمئنان النوعي على الحكم الشرعي ما يدخلها في وسائل الإثبات الوجداني.
لكن أكبر إشكاليّتين تواجههما هذه السيرة هما:
1 – إشكالية الاتصال: فإن تحديد وجود سيرة متشرّعية معاصرة للنص قد لا يكون سهلاً، فيضطر الفقيه إلى محاولة خلع محيطه الديني على المحيط الديني المعاصر للنص، فهو يرى مجموعة سلوكيات أو ظواهر اجتماعية في المحيط الديني، فيسحبها على الواقع التاريخي، عازلاً الفواصل الزمنية.
ولا شك – على ما يبدو – في سلامة هذه الطريقة أحياناً قليلة نسبياً، إلا أنها في أغلب الحالات تعاني من مشكلات؛ لأن عملية الجرّ هذه لا يمكن أن تأتي من مجرّد استصحاب قهقرائي لو جرى في غير الموارد اللغوية(32)؛ لأنه لا يعطي نتائج معرفية بقدر ما يعطي حجية أصولية، وهذا معناه أن الفقيه ملزم بممارسة رصد تاريخي يعطي نتائج أكيدة للتدليل على أن هذه السيرة اتصلت بزمن النص، ما دام يدعي أن هذه السيرة دليل وجداني.
وأحد أكبر العوامل التي تعيق عملية الاتصال، هو ظهور الفتاوى اللاحقة ذات التأثير البالغ في الحياة الاجتماعية، إن ظهور هذه الفتاوى أو حصول انقلابات اجتماعية حادّة – كالتجربة الصفوية في إيران – يمكنه أن يحرّك دفّة المجتمع لخلق أنماط عيش جديدة لم يكن لها من وجود من قبل، وهذا معناه أن مجرّد شيوع ظاهرة دينية مهما كانت قويّة وشديدة لا يعني أن هذه الظاهرة تملك العمق التاريخي الاستراتيجي الذي يخوّلنا إدراجها في سياق سيرة المتشرّعة، الأمر الذي يجعل الدراسة التاريخية أهم عامل من عوامل اكتشاف السيرة زمن النص، وحيث تعجز الدراسات التاريخية عن إثبات واقع تغدو فكرة السيرة عديمة الجدوى.
وفي أنموذج فقهي دالّ من وجهة نظر شخصية، نتاج الشيخ محمد بن الحسن الطوسي، شيخ الطائفة (460هـ)، فإن دراسة فتاوى الطوسي وآراءه الفقهية، وإجراء مقارنات ما بينها وبين ما سبقها من آراء واتجاهات كما عند المفيد (413هـ)، والصدوق (381هـ) والمرتضى (436هـ) و… وكذلك ما لحقها كما عند المحقق الحلي (676هـ) والعلامة (726هـ) و… تؤكّد أن عدداً لا يستهان به من الفتاوى إنما ظهر مع الشيخ الطوسي، وأنّه ليس من دليل يدلّ في ما بأيدينا من نتاجات وآثار على أن فتوى من هذا النوع كانت موجودةً قبل الطوسي، بل على أن موضوع الفتوى كان مطروحاً في أوساط الفقهاء.
على صعيد آخر، يلاحظ شيوع الفتوى عينها بعد الطوسي، وأحياناً شيوعاً منقطع النظير حتى لا يكاد الإنسان يتصوّر أن حكماً من هذا النوع ليس له امتداد زمني إلى ما قبل الطوسي، فضلاً عن أن يتّصل بزمن حضور المعصوم.
وهذا يعني أن الطوسي يشكّل مرحلة حساسة في تكوّن فتاوى كان لها حظّ السيطرة على الفكر الفقهي في ما بعد.
ولا يعني ذلك، أن الطوسي قد أتى بهذه الفتاوى من عنديّاته، وأنها باطلة، بل يعني أن الطوسي كان واسع الأفق والاطلاع، غزير المعرفة بالعلوم الإسلامية، الأمر الذي خوّلـه طرح فروض جديدة أو معرفة صور طرحها غير الإمامية أو غير ذلك، لكن على أيّة حال لا يمنع هذا من القول بأن الفتوى الطوسية قد انقطع امتدادها – في ما نعلم- عند الطوسي نفسه.
2 – إشكالية تكوّن السلوك الاجتماعي: وحتى لو افترضنا حصول الاتصال الزمني، تبقى مشكلة أخرى عالقة، وهي أنَّ شيوع الظواهر الاجتماعية والسلوكية في مجتمع كالمجتمع الشيعي في عصر اضطهاد الأئمة لا يعني بالضرورة انتسابها إلى الزعيم الديني المتمثّل بشخص الإمام C؛ لأن الكتلة الدينية ليست دائماً على نسق واحد، كما لم تكن وسائل الاتصال العامة بقادرة – كما هو الحال اليوم – على ممارسة عمليات تنميط واستلاب على نطاق واسع ودفعةً واحدة، ليتمّ وبسرعة مذهلة اختزال الفوارق الطبيعية المنبثقة عن الخصوصيات الاجتماعية وغيرها كالقبيلة والعشيرة والقرية.
إن ما تمارسه أجهزة الاتصال العملاقة اليوم من عمليات تعليب توحّد (الماركة) الاجتماعيّة والفكرية والثقافية.. لهو ميزة من ميزات العصر الحديث كما يصرّح بذلك علماء الاجتماع، ولا يمكن إلا في حالات نادرة سحبه على الماضي السحيق، إن الإمام لم يكن قادراً على الحضور في أوساط أفراد شيعته على الدوام وباستمرار – وهم منتشرون في أطراف الدولة الإسلامية العملاقة – لبلورة شخصياتهم الاجتماعية، كما تفعله وسائل الاتصال العملاقة اليوم التي تُعدِم الفواصل وتصنع عصر العولمة، وهذا معناه أن الكيان المذهبي لا ينبغي تصوّره كتلة منصهرة ذات لون واحد، ولا أيّ كيان آخر، وعملية الاشتراك في اللون إنما تكون في بعض الخيوط التي غالباً ما يمكن أن نعرفها مباشرة من النص ونحوه، فالمظاهر الاجتماعية لا يوجد ما يؤكّد انتسابها للمعصوم إذا مارسنا تحليلاً اجتماعياً وتاريخياً لها.
نعم، تبقى المظاهر العبادية أكثر قرباً لفكرة السيرة من غيرها، كما تبقى بعض الموارد التي لا ننفيها وإنما نقصد إعطاءها حجمها الطبيعي؛ لأننا نلاحظ سعةً في الاستدلال بالسيرة قد لا تكون أكثر مواردها مقبولة وفقاً للملاحظتين السالفتين.
ومن مجموع الإشكاليتين السالفتين، يبدو أن فكرة السيرة التي حاول الشهيد محمد باقر الصدر إعطاءها أصولياً حجماً كبيراً(33)، غير قادرة على تلبية الكثير من الحاجات الاجتهادية من الزاوية الميدانية، إذا ما وعينا طبيعة تكوّن الظواهر الاجتماعية، وأن تأثير الزعماء الدينيين وغيرهم له مجاله الخاص الذي لا يمكن توسعته أكثر من مداه اللازم، رغم الإقرار الكامل به.
نظرية خبر الواحد والحاجة إلى آليات موضوعية
لا يرتاب – في ما يبدو- باحث في أن نظرية خبر الواحد تعدّ أضخم نظرية إثباتية على الإطلاق في علم الأصول إلى جانب نظرية الظهور اللفظي الدلالي؛ إذ إن حجم حضور أخبار الآحاد في عملية الاجتهاد الفقهي مميّز وكبير.
ورغم أن القراءة التاريخية التي مارسناها في دراسة أخرى تؤكّد أن أصوليي الشيعة الإمامية حتى عصر المحقق الحلّي (676هـ) لم يكونوا قائلين بحجية الخبر الواحد، باستثناء جمع قليل، وأن مؤسس نظرية الخبر في علم الأصول الشيعي هو الشيخ أبو جعفر الطوسي في كتاب ((العدّة في أصول الفقه))، وأن مرحلة استقرار نظرية الخبر تأخّرت – على ما يبدو – إلى زمن العلامة الحلي في ((نهاية الوصول)) رغم المحاولات الحثيثة التي قام بها ابن طاووس (664هـ) استنصاراً للطوسي.
وفي ظلّ التنامي التصاعدي لنظرية الخبر شيعياً والذي بلغ أوجه في اتجاه محمد أمين الاسترآبادي (1036هـ) في الفوائد المدنية، ورغم الهزيمة التي لحقت بالاتجاه الأخباري والتي تجلّت في صراع الوحيد البهبهاني (1205هـ) والشيخ يوسف البحراني (1186هـ) صاحب كتاب الحدائق الناضرة، سيطرت نظرية الخبر على نظرية الإثبات الأصولية، حتى بلغت مرحلتها مع السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي الذي تبنّى بقوّة نظرية خبر الثقة معيداً إحياء علم الرجال على نطاق واسع، سيما بعد نسفه نظريتي الوهن والانجبار(34).
إن توصّل علم الأصول المعاصر في أشهر وأوسع مدارسه إلى نظرية حجية خبر الثقة، أعاق تنامي إنتاج أدوات جديدة لبلوغ الخبر درجة أكبر من الكشف والإنباء، فقد أضحى الفقيه أكثر ارتياحاً بعد ثبوت وثاقة رجال سند الحديث، والكلفة الجديدة التي طرأت عليه كان الحاجة إلى بعث علم الرجال بكل تعقيداته وتشعّباته، أما لو تبنّى الفقيه الذي أسقط نظرية الإجماع والشهرة والجبر والوهن نظريّاً أو نظريّاً وميدانياً كالسيد الخوئي نفسه.. نظرية الخبر الموثوق ولو لم نقل الخبر اليقيني، لأضحى ملزماً بالتماس وسائل وأدوات متكاثرة ترفع عنده قوّة الاحتمال في الروايات ودرجة الكشف في الأحاديث، ولم يعد يكفيه وثاقة الراوي بوصفها المعيار الوحيد والنهائي للنص الروائي.
إذا وافقنا – جدلاً – على أن المدرسة الأصولية الشيعية القديمة كانت تتبنّى نظرية الخبر الموثوق بصدوره لا مجرّد الخبر الذي يرويه الثقاة، فإن هذا يمكنه، أيضاً، أن يفسّر السعي الدؤوب الذي مارسه القدماء لالتماس القرائن العديدة والمتنوّعة التي ترفع درجة الوثوق بالخبر، كما أن تبنّي الاتجاه الأخباري نظرية اليقين أو الاطمئنان بصدور الخبر كان عاملاً مساعداً على تكثير القرائن والشواهد التي تعزّز الوثوق بالأخبار، والتي أسهب الحر العاملي (1104هـ) في خاتمة وسائله في سردها حتى أوصلها إلى اثنين وعشرين سبيلاً(35)، بعد أن كان سلفه الاسترآبادي (1036هـ) قد بلغ بها الاثني عشر في كتابه الفوائد المدنية(36).
إن عدم الاكتفاء بحجية خبر الثقة يدفع الفقيه إلى تنويع أدوات تعزيز درجة الوثاقة بصدور الأخبار، ويفتح أمامه بشكل أكبر المنافذ التي توصله إلى حالة الوثوق بصدور النصوص، من ممارسة مختلف أشكال النقد التاريخي وحتّى عمليات النقد المضموني التي تُعرف اليوم بنقد المتن، وإذا كنا نتبنّى حجية الخبر الموثوق لا الثقة(37) على الأقل بعيداً عن حجية الخبر اليقيني فقط، فإن هذه النظرية تلزم الإثبات الأصولي التفاعلَ مع مختلف منجزات الإثبات التاريخي المعاصر، وتساعد نظرية الإثبات الأصولية على ممارسة انفتاح أكبر على صعيد آليات تنمية الوثوق بالأحداث التاريخية وعدم الجمود على الآليات التي مارسها القدماء فحسب، وهو ما قد يحدث تغييرات واسعة في هذه النظرية.
وعلاوة على هذه الملاحظة، ثمّة إشكاليّة أخرى استجاب لها علم الأصول بشكل جزئي، إلا أن الظاهرة العفوية كان لها حضور أيضاً، وهي وضع محدّدات موضوعية وواضحة وصريحة للعناصر المساعدة على حصول الوثوق، وعدم ترك هذه الحالة رهينةً للعناصر النفسية العفوية التي تنتاب الفقيه في هذه الحالة أو تلك، فالمطلوب عمل شبيه بوضع المنطق، إن المنطق ينبئ عن عملية تفكير الإنسان نفسه، لكن إخراجه إلى التدوين يساعد بدوره على تصحيح التفكير أيضاً، وهكذا حصول الوثوق للفقيه بصدور النص يفترض أن لا يترك عرضةً للعناصر المتحوّلة والنفسية، بل يفترض – قدور المكنة – تنظيم هذه الضوابط المساعدة، رغم القناعة الكاملة بأن الموضوع التاريخي عموماً لا يمكن التعامل معه كالتعامل مع الرياضيات أو الفيزياء أو الفلسفة.
إن السعي للاتفاق على عناصر تساهم في تكوين الوثوق، على أساس من تجارب متراكمة، يمكن أن يحدّ إلى درجة ما من فوضى ادعاء اليقين أو الوثوق بصدور الروايات، وهي ادعاءات قد تنجم عن حالات نفسية عفوية، وعن محض مناخات ثقافية واجتماعية، رغم أننا لا نشك في لعب القناعة بأن الحالات النفسية والمناخات الثقافية دوراً في تكوين الوثوق بصدور النصوص مهما عملنا على وضع محدّدات موضوعية.
نظرية الإثبات وعلم الأصول المقارن
لعل بإمكاننا الجزم بضرس قاطع بأن علم أصول الفقه الشيعي حتى قرابة عصر الشهيدين الأوّل (786هـ) والثاني (965هـ) كان أصولاً مقارناً على المذاهب الإسلامية كافّة، فمن ذريعة المرتضى إلى عدّة الطوسي إلى معارج المحقّق الحلي ونهاية العلامة الحلي… أصول فقه مقارن على المذاهب الإسلامية، وكلّما عدنا إلى الوراء، سيما الذريعة والعدّة، كلّما بدت لنا هذه الظاهرة بشكل أكبر وأعمق.
إلا أن الفترة اللاحقة شهدت شيئاً من أفول هذه الظاهرة من الدرس الأصولي، حتى بلغ الحال مع كفاية الآخوند وفرائد الأنصاري أن ندر المرور على لفقيه غير لغير شيعي أو لنكن دقيقين قلّ ذلك بشكل ملحوظ.
ولعل لهذا الأمر أسبابه الطبيعية، فإن تلك المرحلة كانت مرحلة تثبيت دعائم الأصول الشيعي، فكان من الطبيعي أن يتم استعراض هذا الأصول في أوساط مدارس الأصول الأخرى، لكن لمّا الْتَأَمَت الصورة، واستقرّ الوضع استغنى علم الأصول الشيعي عن ذاك الدرس المقارن، وتطوّرت مدارسه الداخلية، فصار في شغل بمدارسه عن مدارس غيره.
لكنّ هذا المبرّر لم يعد اليوم قويّاً ومقنعاً، في ظل مستجدّات العلوم عموماً، فصار من الضروري الاطلاع على مدارس أصولية أكبر ليكون لعلم الأصول الشيعي حضور أكبر على الساحة العلمية والاجتهادية الإسلامية.
ولا يعني ما أسلفناه أنه انعدمت المحاولات، فقد كانت محاولة الشيخ محمد رضا المظفّر (1388هـ) في كتابه: أصول الفقه، والسيّد علي نقي الحيدري في كتابه: أصول الاستنباط، والسيد محمد تقي الحكيم (1424هـ) في كتابه: الأصول العامة للفقه المقارن.. خطوات ملحوظة، لا أقل على صعيد تدريس علم الأصول في الحوزات والمعاهد الدينية.
ولعلّ من أهم موضوعات الأصول المقارن موضوعات نظرية الإثبات الأصولية، فالقياس والاستحسان و… كلّها موضوعات هامّة وأساسية في الدرس المقارن، ونظرية الإثبات مطالبة بجولان واسع على المدارس الأخرى، بل حتى التعرّف على التجربة المسيحية واليهودية في هذا المجال لتزداد غنى وثراءً وسعةً ونموّاً، وتصبح أقدر على المواكبة والمعاصرة والحضور.
إن بعض موضوعات نظرية الإثبات أخذ اهتماماً كبيراً في الأوساط السنيّة مثل موضوع خبر الواحد، وقد كتبت عنه دراسات عديدة في القرن العشرين بدءاً من محمد توفيق صدقي في مجلّة المنار وصولاً حتى المستشار العشماوي وقاسم أحمد، مروراً بأحمد أمين ومحمود أبو ريّة(38) و… وهذه التجربة التي كان من مناشئها الظاهرة الاستشراقية سيّما ما كتبه أجناس جولدتسيهر (1921م) المستشرق المجري المعروف في كتابه دراسات محمّديّة يمكن أن تثري نظرية الإثبات عندما تدخل رسمياً ساحة الدرس الأصولي، مهما كان موقفنا منها.
ولا نقصد أن يدرسها العلماء في دراسات مستقلّة فحسب، بل إدخال هذه الموضوعات جزءاً أساسيّاً في الدرس الأصولي، لكي تنمو وتتكامل مثلها مثل بقية الموضوعات الأصولية، ومجرّد أن بطلان بعض هذه الموضوعات صار واضحاً لا يبرّر تجاهل مواصلة درسها انطلاقاً من تبنّي اتجاهات إسلامية كبيرة لها حتى في العصر الحاضر.
كما لا نقصد من عملية الدمج هذه مجرّد التوظيف لتحقيق مكسب على خصم فحسب، بل حصول الأصولي – أيضاً – على ذهنية واسعة وعقلية شموليّة قادرة على التنقّل بين المدارس الأصولية الأخرى حتى تلك التي تنتمي إلى اتجاه مختلف عنه تماماً.
إن ثراء علم الأصول الشيعي بالخصوص لا يجوز أن يذهب هدراً تحت حجج وأعذار متنوّعة، فقد ظُلم هذا العلم بما يكفي، سواء من قبل أنصاره المدرسيّين عندما حجبوه باللغة المغلقة عن الخوض في معترك الحياة العلمية على الصعيد الإسلامي والعالمي، أو من قبل نقّاده عندما تجاهلوه بل واحتقروه، إن لغة العلم خاصية يمتاز بها لكن هذا لا يعني إغفاله وعزله عن العالم، وإن النقد والإصلاح مبدأ أصيل لكنه ليس مبرّراً لممارسة معاملة تعسّفية مع التراث.
إن تطوير علم الأصول بلغته وبدراساته المقارنة يمكّنه أن يدخل ساحات العلم العامّة اليوم، وأمامنا تجربة حيّة وممتازة هي التجربة الإيرانية؛ فقد أدّت موضوعات من نوع الهرمنيوطيقا والتأويل و… إلى دخول علم الأصول – وعلى نطاق واسع – مجال البحث العلمي في المحافل العلمية المعاصرة وفي الجامعات و… مما أخرجه عن عزلته وكشف عن ثراء بالغ فيه، رغم أنه لم تدخل هذه التطوّرات ساحة الدرس الأصولي المدرسي، وإذا كنّا ننافح بقوّة عن النقد البنّاء الداخلي وعن الإصلاح والتجديد، وكنّا نعتقد بوجود ثغرات عميقة في الفكر الأصولي وغيره فإنّ هذا لا يعني ممارسة قطيعة وحذف ظالمَين، وتجاهل إنجازات كبيرة قدّمها الأصوليّون رغم أوضاعهم الاجتماعية والسياسية الحرجة، حتى غدا علم الأصول عند الشيعة أهمّ علم منهجي في العصر الحديث، لا يمكن لأيّ باحث الاستغناء عنه في إجراء نهضة علميّة جديدة.
إن الإنصاف هو الشعار الإسلامي العام في الحياة وفي الاجتماع وفي العلم أيضاً، لذا يجب إنصاف علم الأصول بتأسيسه مجدّداً على الانفتاح، ونقده بحرّية عالية نقداً أميناً وخلوقاً، وإسقاط أقنعة القداسة المزيّفة، وإدخال نظريّات الآخرين التي تصبّ في صالحه بما تقدّمه الدراسات المقارنة، وبذلك نقدّم خدمةً جليلةً لهذا العلم وللفكر الإسلامي عموماً إن شاء الله تعالى.
نقلاً عن موقع معهد الرسول الأكرم(ص)، مجلة الحياة الطيبة – العدد الرابع عشر.
الهوامش :
1 – مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 11 و12: 115، ومجلة المنهاج، العدد 17: 15.
2 – انظر على سبيل المثال: الشيخ محمّد مهدي شمس الدين، الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، المؤسّسة الدوليّة للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1999م، ص32 – 33، والسيد محمد باقر الصدر، المعالم الجديدة للأصول، المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيد محمد باقر الصدر، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1989م، ج3: 90 – 91.
3 – انظر على سبيل المثال: السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، دار الكتاب اللبناني ودار الكتاب المصري، الطبعة الأولى، 1978م، الحلقة الثانية، ص165 – 166 و187.
4 – انظر مدى الاهتمام الأصولي في العدّة في أصول الفقه، الشيخ أبو جعفر الطوسي، تحقيق محمد رضا الأنصاري، الطبعة الأولى، 1417هـ، قم، ج1: 69 – 88، والذريعة إلى أصول الشريعة، السيد المرتضى، تحقيق الدكتور أبو القاسم كَُرجي، ص481 – 510.
5 – راجع: المحقق أسد الله التستري المعروف بالمحقق الكاظمي، كشف القناع عن وجوه حجيّة الإجماع، الطبعة الحجرية، نشر مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ص28 – 32، فقد ذكر بتفصيل بياناً موسّعاً لهذه المقولة.
6 – الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، نشر دار الكتاب، إيران، الطبعة الأولى، 1419هـ، ج1: 124 – 166.
7 – السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الأصول، بقلم السيد محمد سرور الواعظ الحسيني البهسودي، الطبعة الثانية، مكتبة الداوري، إيران، 1412هـ، ج2: 134 – 141، وانظر له أيضاً دراسات في علم الأصول، بقلم السيد علي الهاشمي الشاهرودي، الطبعة الأولى، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، إيران، 1419هـ، ج3: 141 – 145.
8 – السيد محمد باقر الصدر، مباحث الأصول، بقلم السيد كاظم الحائري، الطبعة الأولى، 1408هـ، ج2: 93 – 97 و131 – 134.
9 – انظر حول هذا الرأي ما شرحه الميرزا محمد حسين النائيني في فوائد الأصول، بقلم الشيخ محمد علي الكاظمي الخراساني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، قم، إيران، ج3: 225 – 227 و280 – 309.
10 – انظر حول الحجيّتين: بحوث في علم الأصول، تقرير درس السيد محمد باقر الصدر، بقلم السيد محمود الهاشمي، الطبعة الثانية، نشر مركز الغدير للدراسات الإسلامية، إيران، 1997م، ج4: 27.
11 – انظر حول نظرية التزاحم الحفظي، بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4: 201 – 206، وانظر حول تقديم الظن في دليل الانسداد، المحقق محمد حسين الإصفهاني، نهاية الدراية في شرح الكفاية، الطبعة الأولى، تحقيق الشيخ رمضان قلي زاده المازندراني، نشر سيّد الشهداء، إيران، 1995م، ج2: 270 – 274، والآخوند الخراساني، كفاية الأصول: 356 – 361، والميرزا النائيني في أجود التقريرات، بقلم السيد أبو القاسم الخوئي، نشر مؤسسة المطبوعات الدينية، إيران، ج2: 127 – 139.
12 – محاضرات في أصول الفقه، تقرير درس السيد أبو القاسم الخوئي، بقلم الشيخ محمد إسحاق الفيّاض، ج1: 9.
13 – يميل أغلب علماء الأصول المتأخرين إلى هذا الرأي، منهم الشيخ حسن نجل الشهيد الثاني في كتابه معالم الدين وملاذ المجتهدين، المقدّمة في أصول الفقه، الطبعة الثانية، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين، إيران، الطبعة الثانية عشر، 1417هـ، ص140، والمحقق الحلي في معارج الأصول: 141 – 142، والمحقق العراقي في نهاية الأفكار 2: 548 – 550، والسيد الخوئي في محاضرات في أصول الفقه: 5: 310، والآخوند الخراساني في كفاية الأصول: 274 – 276، لكن السيد المرتضى والشيخ الطوسي رفضا ذلك، انظر الناصريّات : 276، والذريعة 1: 280 – 281 و316 و554، والعدّة 1: 105 و145 و344. نعم للمحقق الحلي قول في الرسائل التسع بعدم جواز التخصيص، انظر الرسائل التسع، المسائل العزية الأولى، ص114 و172، ومال إلى التوقف في هذا الموضوع الفاضل التوني في الوافية: 136.
14 – تعني نظريّة الحكومة أن أحد الدليلين يمكنه أن يوسّع من مدلول الدليل الآخر ومفاده أو يضيّق منه أو ما شابه في عمليّة تعبّدية لا حقيقيّة، فإذا قال المولى: وحرّمَ الربا، ثم قال: لا ربا بين الوالد وولده، فإن نفيه للربا في النص الثاني ليس نفياً حقيقياً؛ لأن الربا موجود بين الوالد وولده في الخارج من الناحية الواقعية، وإنما هو نفي تعبّدي اعتباري في محاولةٍ لنفي حرمة الربا نفسها، ويعدّ الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) مؤسّس نظرية الحكومة، وإن كان البحث التاريخي يشير إلى أن الشيخ محمد حسن النجفي (1266هـ) صاحب كتاب جواهر الكلام قد أتى على هذا المفهوم – ولو بشكلٍ أوّلي – في كتاباته، لمزيد من الاطلاع على شرح المصطلح وأقسامه، راجع: المعجم الأصولي، الشيخ محمد صنقور علي، طبع عترت، إيران، 1421هـ، ص542 – 550.
15 – محمّد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، تحقيق مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران، ج27: 110 – 111، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، باب 9، ح12 و14.
16 – بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج7: 333 – 335.
17 – انظر دروس في علم الأصول، مصدر سابق، الحلقة الثالثة، القسم الأوّل، ص82 – 83.
18 – فوائد الأصول، مصدر سابق، ج3: 324.
19 – مصباح الأصول، مصدر سابق، ج2: 239.
20 – لعلّ أقدم نسبة لابن قبة ما ذكره المحقق الحلي في كتابه معارج الأصول: 203 – 204، وقد تعرّض لهذه المقولة أكثر علماء أصول الفقه من السنّة والشيعة، وتنسب مقولة ابن قبة أيضاً – وهو معتزليّ تشيّع فيما بعد على المذهب الإمامي كما يذكره أبو العبّاس النجاشي في رجاله، طبعة دار الأضواء، بيروت، ج2: 288، الرقم: 1024 – إلى الجبّائي وجماعة من المتكلّمين، كما فعله الإمام الآمدي في كتابه الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق الدكتور سيّد الجميلي، نشر دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1986م، ج2: 60، وإن كان هناك نقاش في صحّة إطلاق النسبة للجبّائي، كما يذكره الدكتور محمد حسن هيتو، محقّق كتاب التبصرة في أصول الفقه للإمام أبي إسحاق الشيرازي، انظر التبصرة: 301، الهامش رقم 1.
21 – راجع فرائد الأصول، مصدر سابق، ج1: 71 – 75.
22 – بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4: 201 – 206.
23 – راجع مصباح الأصول، مصدر سابق، ج2: 108 – 111.
24 – اقتصادنا، ضمن المجموعة الكاملة لمؤلّفات السيد محمد باقر الصدر، الطبعة العشرون، دار التعارف للمطبوعات، 1987م، ص392 – 399.
25 – انظر الصيغة المبسّطة لهذه الاتجاهات عند الشيخ محمد رضا المظفّر في ((أصول الفقه))، الطبعة الثانية، نشر مكتب الإعلام الإسلامي، إيران، 1415هـ، ج2: 101 – 104.
26 – وهي نظرية المذهب الذاتي في المعرفة التي طرحها السيد محمد باقر الصدر وفقاً لقانون الاحتمال الرياضي، انظر بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4: 309 – 314.
27 – يجب أن نلفت النظر إلى أن مصطلح تراكم الاحتمال مصطلح ينتمي إلى أصول السيد باقر الصدر، أمّا مصطلح الحدس فهو ينتمي إلى مرحلة أسبق مع الشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني والميرزا النائيني والمحقق العراقي و…، لكن فهمنا للرأيين واحد، غاية ما في الأمر أن الشهيد الصدر حاول تحليل عملية الحدس والكشف، ووضع ضوابط علمية رياضية لها، لذا فهو ينتمي إلى تيّار الحدس لكن بصيغة متطوّرة.
28 – لعلّ أوّل من ذكر هذه الفكرة هو السيد المرتضى في كتابه الذريعة، مصدر سابق: 491 – 493 و 499 – 500، وتابعه عليها كلّ من الشيخ الطوسي في العدّة ج1: 76، والشهيد الثاني في الرعاية لحال البداية في علم الدراية، الطبعة الأولى، تحقيق مركز الأبحاث والدراسات الإسلامية، نشر بوستان كتاب، قم، إيران، 1423هـ، ص60 – 61، والشيخ حسن في كتابه معالم الدين، ص186، والميرزا القمّي في كتابه قوانين الأصول، الطبعة الحجرية، انتشارات علميّة إسلامية، إيران، ص 425، وانظر أيضاً السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول، 1: 203، ومقباس الهداية في علم الدراية، الشيخ عبد الله المامقاني، تحقيق الشيخ محمد رضا المامقاني، الطبعة الأولى، مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، إيران، 1411هـ، ج1: 105 – 107، وأصول الحديث وأحكامه في علم الدراية، الشيخ جعفر السبحاني، مؤسسة الإمام الصادق، إيران، الطبعة الثانية، 1414هـ، ص32، وأصول الحديث، الشيخ عبد الهادي الفضلي، الطبعة الثانية، مؤسسة أمّ القرى للتحقيق والنشر، 1416هـ، ص78، وقد اعتبر الفضلي ذلك شرطاً في تأثير التواتر على السامع لا في نفس التواتر،
29 – علوم الحديث، ابن الصلاح، تحقيق وشرح نور الدين عتر، دار الفكر والفكر المعاصر، بيروت ودمشق، إعادة الطبعة الثالثة، 1998م، ص268 – 269، نعم هناك نقاش مع ابن الصلاح من قبل العلماء الذين اختلفوا معه خصوصاً السيوطي، راجع منهج النقد في علوم الحديث، الدكتور نور الدين عتر، دار الفكر، دمشق، عن الطبعة الثالثة، 1985م، ص 406 ـ407.
30 – انظر حول هذا التقسيم، خبر الواحد وحجيّته، الدكتور أحمد بن محمود عبد الوهّاب الشنقيطي، وزارة التعليم العالي في المملكة العربية السعودية، عمادة البحث العلمي، الطبعة الأولى، 2002م، ص110، ودراسات في علوم الحديث، محمد عوض الهزايمة، دار عمار، عمان، الطبعة الثانية، 1991م، ص52.
31 – ربما يظهر هذا المعنى من المامقاني في مقباس الهداية، مصدر سابق، ج1: 115 – 122، ولعله مراد الدكتور عبد الكريم زيدان والدكتور عبد القهّار داوود عبد الله في كتابيهما علوم الحديث، مطبعة عصام، بغداد، الطبعة الثانية، ص52، وهو ما قد تعطيه عبارة محمّد جمال الدين القاسمي في كتابه قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث، دار الكتب العلمية، بيروت، ص146، وقد يفهم من أصول الحديث وأحكامه للشيخ جعفر السبحاني، مصدر سابق، ص35، والدكتور مساعد مسلم آل جعفر في كتابه الموجز في علوم الحديث، دار الرسالة للطباعة، بغداد، ص52.
32 – الاستصحاب القهقرائي: مصطلح أصولي يعني أن مداليل الكلمات والنصوص اليوم يمكن جرّها إلى الوراء زمنياً عندما يحصل عندنا شك في حصول تحوّل في المدلول، ويصطلح على هذه العملية أيضاً بـ: أصالة الثبات في اللغة.
33 – أهم أصولي شيعي – فيما نعلم – أفاض في دراسة نظرية السيرة هو السيد محمد باقر الصدر، انظر بحوث في علم الأصول، مصدر سابق، ج4: 233 – 248، ومباحث الأصول، مصدر سابق، ج2: 93 – 134.
34 – انظر نظرية الخوئي في خبر الثقة في مصباح الأصول، مصدر سابق، ج2: 196 – 201، وحول نظريّتي الوهن والانجبار عند الخوئي والتي تعني الأولى تضعيف الرواية الصحيحة السند بإعراض الأصحاب عنها، والثانية تقويتها بعملهم بها على تقدير ضعفها السندي… انظر مصباح الأصول 2: 201 – 203، وانظر له في ضرورة بعث علم الرجال كتابه معجم رجال الحديث 1: 19 – 21.
35 – محمد بن الحسن الحر العاملي، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الخاتمة، ج30: 243 – 247، الفائدة الثامنة.
36 – محمد أمين الاسترآبادي، الفوائد المدنيّة، الطبعة الحجريّة، ص181 – 184.
37 – لأن الخبر قد يكون مضمونه صحيحاً قابلاً للوثوق به رغم عدم وثاقة رواية (المحرر).
38 – راجع كنماذج: محمود أبو ريّة في أضواء على السنّة المحمّدية أو دفاع عن الحديث، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطعبة الخامسة، بيروت، وانظر لأحمد أمين ضحى الإسلام وكذلك فجر الإسلام، الطبعة السادسة عشر، مكتبة النهضة المصرية، وقاسم أحمد في: إعادة تقييم الحديث أو العودة إلى القرآن، الطبعة الأولى، نشر مدبولي الصغير، القاهرة، 1997م، والمستشار محمد سعيد العشماوي، في كتابه حقيقة الحجاب وحجيّة الحديث، نشر الكتاب الذهبي مؤسسة روز اليوسف، القاهرة، وغيرها من الكتب والدراسات.