أ. غريبي مراد
من عجائب الأمور و غرائب الأطوار محنة الثنائيات في الحراك العربي و الإسلامي،حيث تعج مجالسنا و مكتباتنا و سلوكياتنا و مواقفنا و إعلامنا و سياسات أنظمتنا و رهاناتنا المسماة إستراتيجية، بمنتجات ثنائية الصراع: (الديني / المدني)، و لو حاول شخص ما أو جهة معينة أن تحرك دعوة للفصل في المأزق الموهوم و المفتعل حول هذه الثنائيات فإن مصيره (ا) إما تكفير و إخراج من الملة أو التسقيط بمسمى العلمانية و إلا الملاحقة البوليسية مع التهميش الاجتماعي…و ثنائية (الديني / المدني) لا تزال عالقة في وعينا الإسلامي ، ليس أنها من البدع أو الاغتراب بحسب تصورات البعض، و لكن هناك تضاريس تشكلت عبر التاريخ في جغرافية العقل الإسلامي، حيث الخوارج عاشوا زمانهم كما المعتزلة و العديد من المدارس الإسلامية المعروفة و اندثروا، و الشيعة و السنة ، كما العرب و الفرس تعايشوا و تصاهروا و تكاملوا و تناصروا و تعاونوا في بناء مجد الحضارة الإسلامية رغم صراع الإرادات السياسية التاريخي المعروف للقاصي و الداني، لكن التخلف السياسي و الترهل الاجتماعي الراهن، لا يزال يتشبث بذهنيات و مناهج ذلك الصراع، في حين المحاولة البسيطة من البحث العلمي الموضوعي توقفنا على خدعة رهيبة سجنت العقل المسلم في فضاء الماضي و جعلت كل أبعاد واقعنا تتحرك في زمان غير زماننا، و لعل التفسير البسيط للجدلية القائمة في قبال (الديني / المدني) أن الإرادة السياسية و الإرادة الاجتماعية في العالم العربي و الإسلامي لم تتحرر بعد من سجن الصراع و لم تنظف وعيها التاريخي من تقديس الوهم و غير المقدس… و لتقريب الفكرة يمكننا التساؤل: لماذا نفكر دوما في التعارض بين مفهومي الدين و المدنية؟ على شاكلة الجدال المحتدم بين المتعالمين مذهبيا و طائفيا لدرجة كتابة رسائل و ردود بخصوص مسألة التعارض بين العقل و النقل و لا يمكن تقديم العقل على النقل أو تأخير النقل على العقل، بينما هذه القضية من جهة فصل فيها أهل الذكر و من جهة أخرى إثارتها رغم نهاية الجدل حولها يعني في العمق دفع العقل المسلم للسقوط في شرك الصراع المذهبي المتوالد لا أكثر و لا أقل، و تعطيل الحركة الإسلامية الجديدة وعلى نفس المنوال نجد أن تعاملنا مع العلاقة بين ماهو ديني و ماهو مدني كان وفق منهج خاطئ رسمه رواد التعالم المذهبي، حيث بمجرد التدقيق في إختلاقات التعارض تستشف غاية تحريف الواقع عن التفكير في مشروع إرادة الإصلاح، و هذا المشروع بحد ذاته هو الخطوة الأساسية في بناء الدولة المدنية القائمة على القيم و المبادئ الإسلامية العظيمة، و الإسلام كدين لا (و لن) يتعارض مع التطلع الحضاري المدني، كما نفهم أيضا لماذا الدولة المدنية بواقعنا العربي و الإسلامي لا يزال يشكك فيها كمشروع ناجح؟
بصراحة: بزوغ الدولة المدنية في الواقع العربي و الإسلامي راهنا، يعني خلاص هذا الواقع من الممارسة التمييزية بين الناس على أسس طائفية، و هذا المبتغى يعتبر أكبر هواجس الطائفيين بالسياسة و الدين و الإعلام و ما هنالك، فأي محاولة للانفتاح على واقع التعددية المذهبية و القبلية في كل بلداننا العربية و الإسلامية رأسا ستؤشر في بورصة الفتنة حالة استنفار، لأن أسهم الطائفية تصبح بخطر…
بكلمة: المدنية الإسلامية هي حضارة العدالة التي رسم معالمها و أسسها القرآن الكريم و سيرة النبي الأكرم (ص)، و الدولة الصالحة لنا كعرب و مسلمين هي دولة الإنسان المكرم أو دولة العالمين،لا أنظمة الباشاوات أو شعب الله المختار أو الأكثرية الساحقة أو الأقلية المتغطرسة أو أبطال المنعطفات السياسية، بالتالي ندرك تماما أن ما يحدث هذه الأيام ببلداننا هو صحوة العقل المسلم من مخدر الشقاق بين الإسلام و المدنية، وكذلك ميلاد إرادة الإجتماع المدني بكل آفاقه لا الطائفي البغيض…وأقولها بملأ الفم و بثقة إيمانية متوجهة إلى الله المليك المقتدر: نعم للدولة المدنية المحترمة للإنسان، و لا لسلطة الأهواء و العصبيات الجاهلية… والله من وراء القصد.
(*)كاتب و باحث إسلامي