أحدث المقالات

د. الشيخ خنجر حميّة(*)

 

أولاً: إيران في عهد البهائي ـ على سبيل المدخل ـ

مقدّمة

لا يمكن فهم مواقف الشيخ البهائي السياسية والدينية، وآرائه المعرفية وأفكاره، ولا استيعاب رؤاه ومقاصده، من غير أن تتوضح لنا بصورة مجملة طبيعة الظروف والأحوال والأوضاع التي حفل بها عصره، واضطربت بها الآفاق من حوله، في مجمل ميادين الحياة، في السلطة والدين والمجتمع والثقافة… فلقد طبعت أحوال هذا العصر مواقفه بطابعها، ووجهت رؤاه وتأمّلاته، وألقت بظلال وارفة على أفكاره وحياته الشخصية. وسوف يتبدى ذلك أكثر ما يتبدّى في مواقفه النقدية، التي انطوى عليها كتابه المشار إليه في العنوان، أعني: «التديُّن والنفاق بلسان القطّ والفأر»، والذي سنحلِّله في ما يأتي في هذا النصّ بإجمال.

 

1ـ السلطة، الدين، والمجتمع، زمن البهائي

سيطر الصفويون ـ المنحدرون من سلالة صوفية في شمال إيران ـ على إيران الحالية بأكملها بعد وقتٍ قصير جدّاً من اندفاعهم من تبريز، مدعومين بقبائل تركمانية ذي نزعة صوفية، عرفوا فيما بعد بالقزلباش، أو أصحاب القبّعات الحمراء. وبغضّ النظر عن الظروف المحيطة فلقد أخذت تلك الاندفاعة في طريقها أرواحاً كثيرة، ودمّرت ولايات ودولاً، وشابتها مذابح لا تفسر إلاّ في سياق رغبة عارمة في السيطرة والنفوذ والهيمنة… فما أن استولى إسماعيل الصفوي ـ المنحدر من حيدر ـ أوّل ملوكها على أردبيل بعد عودته من منفاه في جيلان حتّى قتل حاكمها، ثم سار بجيشه من القزلباش نحو تبريز، واستولى عليها بعد حربٍ طاحنة، وقتل ملكها ألوند ميرزا، والكثير من أتباعه، وأعلن منها رسميّاً التشيُّع لعلي× مذهباً للدولة الناشئة، ثم توجَّه إلى مازندران فأخضعها، ثم إلى يزد فسيطر عليها بعد قتالٍ مدمر… فشاع الفزع حينها في أرجاء إيران، وعمّ الخوف من بطش إسماعيل، الذي راح يعيد إلى الذاكرة مآسي المغول المهولة والمروعة. وفي حروب متواترة متدافعة سيطر إسماعيل على الحويزة، ثم على أصفهان، لتدين له إيران بالخضوع، ولتدخل تحت سلطانه إلى غير رجعة.

ولقد طمح الصفويّون فيما بعد إلى العمل على ترسيخ سلطانهم في عاصمة مركزية تُدار من خلالها شؤون المملكة الناشئة، فجعلوا أصفهان مركز حكمهم، ووطَّدوا دعائم وجودهم في الأطراف من خلال سلطة مركزيّة محكمة. وليؤكِّدوا على مشروعية دينية ـ مذهبية لسلطانهم راحوا يدفعون باتّجاه تأكيد التشيُّع مذهباً رسمياً للدولة والمجتمع، فساعدوا على إنشاء المعاهد الدينية والمدارس ومراكز العلم، ونشر الدعاة في الأصقاع، واستقدموا للغاية هذه علماء من مراكز علم شيعيّة معروفة، كجبل عامل؛ والبحرين، ومنحوا العلماء سلطات دينية واسعة. ولم يستقرّ لهم ذلك على نسقٍ متواتر إلاّ زمن الشاه عبّاس، بعد جهود بذلها أسلافه في السياق، وخصوصاً الشاه طهماسب، ليصبح في زمنه التشيُّع مذهباً راسخاً، يدين به السواد الأعظم من الإيرانيّين. وفي أصفهان تركّزت سلطات الدولة، ومركز حكمها، وفيها كان مقرّ السلطان، ومشيخة الإسلام، والإدارات الأساسيّة، التي تسيِّر الحكم، وترعاه، وتشرف عليه.

وعلى أيّ حال فالمناخ العامّ في إيران الصفوية كان قد استقرّ على حكومة مركزيّة قوية ونافذة، تمدّ سلطانها في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وتملك من القوة والنفوذ ما يساعدها على تأمين استقرارها النسبي إلى حين، استناداً إلى وحدةٍ دينية ـ مذهبية تمنحها المشروعية، وإلى نزعةٍ صوفية ترسخ قداستها في نفوس رعاياها، وإلى شعورٍ قوميّ وفَّره الإحساس العميق بتحقُّق وحدة شعب عانى كثيراً من آثار التشتيت والتفكُّك والصراع بين قبائل وشعوب، استمرّ طويلاً في أطراف إيران المترامية، وفي ما أحاط بها من أصقاع.

 

2ـ المعرفة، الثقافة، والعلم

ولقد كان من الطبيعي لسلطةٍ ناشئة تعي بعمقٍ المحتوى الأيديولوجي ـ الديني لنشوئها، والأساس المذهبي لمشروعيّتها، أن تكون حريصة على أن تؤصِّل لوجودها في شكلٍ من أشكال الثقافة ينبثق عن رؤيتها، أو فلنقُلْ عن مصالحها الأيديولوجية، ورغبتها في الاستمرار، وتأمين الاستقرار، ودوام النفوذ. ولأنّ التصوُّف كان أساس وجودها، والقوّة التي أمَّنت اندفاعتها الأولى، فلقد شجَّع الصفويون الطرق الصوفية، وأمَّنوا لها المناخ الملائم؛ لتعظم وتتكاثر في ارتباطٍ وثيق بالسلطة، واستناداً إليها. فشاعت ثقافة الخوارق والمعجزات ـ كما سوف يأتي ـ، واختفت أو كادت المعرفة النقدية المتجاوزة. وبالتالي احتجب التفكير الفلسفي المتحرِّر، الذي لم يجد لنفسه المكان الملائم للانتشار والشيوع، والظروف المناسبة لممارسة حضوره، بالرغم من محاولات كان مصيرها على الدوام الإدانة والاتّهام، ومن ثمّ العزل والاستبعاد.

ولأنّ التشيُّع كان أساس مشروعيّة السلطة فقد انتشرت الثقافة المذهبية وتعمَّقت. وتضخَّم نفوذ رجال الدين الرسميّين، المكلَّفين نشر المذهب وحمايته، وتطبيق رؤاه وتصوُّراته، ومنح السلطة مشروعيّة ممارساتها. وأُسِّست مشيخة للإسلام، ترعاه وتحرص على نشره وضمان وجوده، في رعايةٍ مباشرة كذلك من السلطة، وتحت نظرها. وجُعل العِلْم الديني في خدمة ترسيخ أيديولوجيا مذهبيّة تمنح السلطة اعتبار وجودها، أكثر ممّا تطمح إلى الحقيقة أو المعرفة الشرعيّة، في سياق البحث المجرَّد عن العلم، أو بدافع توفير شروط استثماره مستجيباً لتحدّيات الحياة، وأصبح رجال الدين سلطةً تتطلّب لنفسها على الدوام رهاناً لوجودها واستمرارها، وبقاء سلطانها، واستتباب نفوذها.

وإذا كان مثل هذا الأمر قد وفَّر للسلطة استقرارها إلى حين فسوف يخلق فيما بعد من حولها مشكلات جمّة، وصراعات راحت تتعاظم شيئاً فشيئاً، بين تناقضات كان يحتويها الاجتماع الصفوي، وينطوي عليها من أوّل أمره، ثمّ ضخّمتها ظروف التاريخ والأحداث والممارسات والوقائع. صراعات بين الفقهاء أنفسهم، وبينهم وبين المتصوّفة والفلاسفة، ثم صراع المتصوّفة فيما بينهم، الذي جرَّ إلى كوارث لم يعتبر من نتائجها. بين حيدريّين ونعمة اللهيّين وجلاليّين، ليؤثّر كلّ ذلك فيما بعد في بنيان السلطة نفسها، فيضعفها…، ويشتِّت قواها، ويفككها.

 

ثانياً: تجربة البهائي في هذا العهد

1ـ البهائي والسياسة

انخرط البهائي باكراً في التجربة السياسية للسلطة الصفوية. فهو بالرغم من كونه وصل إيران يافعاً بصحبة أبيه، الحسين بن عبد الصمد الحارثي، ثمّ امتهن مهنة رجل الدين، كوالده، لكنّه كان لزاماً عليه من أوّل نشأته؛ بحكم مكانة والده الدينية؛ وبحكم العلاقة الجذرية بين السياسي والديني في دولة تقوم مشروعيّتها على الدين، أن يكون على تماس مع السياسي. وإذا كان أسلافه من العلماء ـ كأبيه أو الكركي أو الشيخ لطف الله العاملي ـ قد اندفعوا في خدمة السلطة بحماسٍ مؤكَّد، ومن غير تردُّد، فإنّنا مع البهائي سوف نقع على فتورٍ؛ إذ الواضح من سيرة حياته أنّه كان يعاني موقفاً مضطرباً لم يستقرّ به على حالٍ إلى آخر أيّامه. فهو مقرَّب من السلطة، مندرج في دائرة الذين وفَّروا لها الحماية الدينية بعلمهم وبوجودهم؛ وهو من جانبٍ آخر كان ينفر من طبيعة الممارسة السياسية التي كان يراقبها عن كثبٍ، للحكّام، ولحاشيتهم، ولمدبِّري شؤون المجتمع من حولهم من رجال البلاد والقضاة والولاة والمباشرين وقادة الجند، وكان يلمس بيده مفاسد ما يقترفون، وسوء ما يفعلون، والظلامات التي يرتكبونها ويُقْدِمون عليها، وانعدام القِيَم التي توفِّر العدالة، وتقلِّل فرص الظلم والاستبداد والهيمنة. وهي قِيَمٌ كان عقله الحُرّ يؤمن بضرورة توفُّرها في كلّ اجتماعٍ بشريّ يطمح إلى الرفعة والقوّة والتقدُّم. ولقد كان يبدو عليه شيء من النقمة وهو يتحدّث عن الحكام ومفاسد سلطانهم، وسوء سيرتهم، وزوال العدالة؛ بسبب ممارساتهم، وانتهاك كرامة الإنسان، وتدمير إرادته، في مواضع من الكتاب الذي بين أيدينا. وفي خلاصة القول: إنّ تردُّد البهائي هذا بين مكانةٍ وجد نفسه فيها؛ بحكم طبيعة عمله وعمل والده وقربه من الحكّام، وبين عقله الحُرّ الذي يدعو إلى الانتقاد، وتأمّله المجرّد في أحوال مجتمعه والناس من حوله، وفي السلطة، والدين، لم ينتهِ قطّ. وظنّي أنّ البهائي لم يقدَّر له أن يمتلك شجاعة الموقف ليحسم خياراته، وليتَّخذ قراره الذي ينسجم مع رؤاه وقناعاته وحرّية عقله، نتيجة أوضاع جدّ معقَّدة ترتبط بأساس تكوينه، وبالظروف التي نشأ فيها وترعرع.

 

2ـ البهائي والمشاركة العلمية

ولم تكن المكانة السياسية للبهائي لتطغى على مشاركاته العلمية. فهو كان يملك من الإمكانات ما يسمح له بمجاوزة السائد المألوف. ولقد كان يدرك بعمقٍ أحوالَ الفكر في زمن الصفويّين ـ يتبدّى لنا شيءٌ من ذلك في هذا الكتاب ـ، وكان يعي إلى أيّ مدى ساد التقليد، وهيمن على العقول، وإلى أيّ حدود انحسر الفكرُ الحُرُّ، المجرّدُ عن المنافع، الطامحُ إلى الحقيقة… وكيف تبدَّلت قِيَم الدين من قِيَم إيجابية، تحثّ على العمل والمكابدة والفعل والإنجاز، وتمنح الإنسان قدرة التغيير بإرادته المتحرِّرة وعقله المتحفِّز، إلى قِيَم سلبية، تمجِّد التكاسل والعزلة، وتسلِّم زمام الإرادة للخرافة والأوهام والشعوذات، وتستلب العقل في إطارٍ شامل من الجمود والتحجُّر… ولأجل ذلك سخَّر جهداً من جهده لإعادة الاعتبار للاجتهاد العقلي الحُرّ في قبال التقليد، وللعلم في قبال الخرافة والجهل، وللتواضع في قبال الزهد الفارغ الأجوف، وللمشاركة في الأحداث بدل العزلة والتقوقع وإهدار الطاقات في طقوس شكليّة لا معنى لها، ولا دلالة، ولا مضمون. وكثيرٌ من مؤلَّفاته يندرج في هذا السياق.

لكنْ بالرغم من كلّ ذلك بقي جهد البهائي محدوداً، وذا آثارٍ ضيِّقة كذلك في السياق العامّ لفكر عصره وثقافته، وجهوده كامن مجرّد همس خجول في خضمّ صخب لا يتوقَّف، وهدير لا يكاد ينتهي.

على أنّ جهد البهائي الأكبر يكمن في تراثه العلمي، بالمعنى الخاصّ للكلمة، فهو رجل حضارةٍ وعمرانٍ وتمدُّن. وكان يعرف بدقّة أنّ الازدهار لا توفِّره سلطة مستقرّة نافذة تملك القوّة فحسب، ولا ثقافة رائجة، ولا علم دينيّ رتيب ومكرَّر، بل علم تجريبي راسخٌ على قدم، يقدِّم للمجتمع وسائل عمرانه، وآليات تقدُّمه وتطوُّره، وأدوات ازدهاره ورقيّه، في الإدارة والعمران والفنّ والهندسة وعلوم الحساب والفلك وعلم الطبيعة…إلخ. ولقد كانت مساهماته في السياق نظريّة وعلميّة معاً، قدَّم عبرها جهوداً غير مسبوقة، سوف تبقى آثارها ماثلة إلى الآن، من غير أن تحدّد قيمتها التفصيلية في سياق علوم عصرها ونتاجه، ومن غير أن تدرس نتائجها بدقّة واعتبار.

 

3ـ البهائي في ميدان المعرفة الفلسفية

والملفت أنّ البهائي كان أحد أعمدة مدرسة أصفهان الفلسفيّة والدينيّة، ساهم مع الميرداماد الحسيني، المفكِّر والفقيه، في بلورة صورتها، ورفع دعائمها، وتأكيد مكانتها. والظاهر أنّها إنّما أسِّست لتكون مركز التعليم الأساسي في زمن الصفويّين، وخصوصاً الشاه عباس، ولتجمع ضمنها علماء المملكة الكبار، الذين يقدِّمون المشورة والرأي للسلطان، ويشتغلون على إنتاج العلماء والمبلِّغين لخدمة الشريعة والعلم الديني والوعظ والإرشاد. وهي مدرسةٌ سوف تنتج فيما بعد ـ وفي زمن الشاه عباس ـ أحد أعظم فلاسفة إيران الصفوية ـ أعني الملاّ صدرا الشيرازي. لكنّنا ـ في الحقيقة ـ لا نملك معرفةً كافية عن مقدار مساهمة البهائي في تأصيل بنيان هذه المدرسة، وفي رسم ملامح توجُّهاتها العلمية، ولا نكاد نقف بتفصيلٍ على مدى مساهماته الفلسفيّة في ميدان التعليم والتنشئة والتربية، ولا على الجهود التي بذلها في تكوين جيل من المفكِّرين ذوي التطلُّعات الفلسفية المتحرِّرة، وخصوصاً أنّ أصفهان فقدت وهجها بعد أن تركها ملاّ صدرا بتدخُّلٍ مباشر من الشاه عباس، وبتحريضٍ من العلماء الرسميّين القشريّين ـ كما كان يقول بنفسه ـ، وخمد نتاجها، وفقدت وهجها وتألّقها وبريقها.

ولا نعرف كذلك على وجه الدقّة مقدار ما نهله ملاّ صدرا على يد البهائي من علوم المعقول، بالرغم من اعتداده بأستاذه، وإشارته إليه في غير موضعٍ من مؤلَّفاته، وإقراره بما قدَّمه له من نفعٍ في سياق تكوينه.

غاية ما نعرفه أنّ مديح ملاّ صدرا له يكشف عن عقليّة البهائي الفلسفية المتحرِّرة، وذهنه الوقّاد، وطموحه إلى الاجتهاد والتجاوز، وموسوعيّة ثقافته الدينيّة والفلسفيّة والصوفيّة والأدبيّة والعلميّة.

 

4ـ البهائي والسلطة الدينية

شكَّل البهائي جزءاً لا يتجزّأ من السلطة الدينية زمن الصفويين، وكان واحداً من أولئك الذين وفَّروا للسلطة غطاءً كاملاً لمشروعيّتها ولممارساتها. لكنّه لم يكن على الدوام منسجماً مع هذا الدور الذي قُدِّر له أن يمارسه، أو أن يقوم به؛ إذ وجد نفسه في خضمّ مناخٍ يتنافى قليلاً أو كثيراً مع طباعه التي تميل إلى التحرُّر والاستقلالية، ويتعارض بشكلٍ أو بآخر مع مَلَكاته التي كانت تحفِّزه على الدوام على تخطّي المألوف الشائع؛ ومع عقله النقّاد الذي كان يدرك مكامن الخَلْط والخلل في كلّ ممارسة سلطة، أو في كلّ ثقافة؛ ومع قِيَمه التي كانت تميل به إلى التواضع والزهد، وتنفِّره من المناصب ولوازمها ومقتضياتها.

وهو كان يرى في السلطة الدينية وجهاً آخر من وجوه السلطة بإطلاقٍ، وكلّ سلطة عنده نزّاعة إلى النفوذ والاستئثار والتملّك، طموحة إلى الهيمنة والاستلاب، تتطلّب لنفسها الرفعة والمنزلة.

هذا في الجوهر، أمّا في الظاهر والشكل فهو كان يرى بأمّ عينه ما كان يخالط هذه السلطة من ضروب الفساد وأشكاله ومظاهره، وما كان يحيط بها من أصناف الرفاهية والتزلُّف والكبرياء…، وما كانت تولِّده وتدفع إليه من صنوف التنافر والتنافس على المآرب والمكاسب والمصالح…، وما كان يشوبها على الدوام من ادّعاءٍ فارغ انحطّ بالعلم الديني إلى أدنى مستوياته، وأوهن مراتبه، وأدنى درجاته، حتّى زال الورع والتقوى، واندرست الفضيلة، وأصبحت الشهرة مطلباً، والرزق هدفاً، والاكتساب من أيّ سبيل طموحاً مؤكَّداً، وانعدمت المقاييس التي بها يحدَّد الصالح والطالح، ويميَّز الخبيث من الطيب، وتصدّى للمكانة الدينية مَنْ ليس لها أهلاً، ولا يملك أدواتها، ولا شروطها، ولا يتوفَّر على الشيء اليسير ممّا تتطلَّبه وتستوجبه من قِيَم ومبادئ وقواعد.

ولقد قضى البهائي ـ فيما يبدو ـ وهو يتحسَّر على ما أصاب العلم الديني وأهله من خمولٍ، وما داخله من شوائب وهنات، وما اختلط به من مفاسد وموبقات، يائساً من صلاح حاله واستقامة طريقه.

وهو عبَّر عن ذلك في الكتاب الذي بين أيدينا خير تعبير، حين افترض «أنّ الجهل شاع باسم العلم، وكثرت الدعاوى، وحلَّ الترف وطلب الدنيا مكان الزهد والقناعة، حتّى عند رجال الدين أصحاب المكانة والمنزلة، وشاع التنافس والتباغض والتحاسد والرياء والمداهنة والكذب في مثل هذا المناخ». وفي سياق هذه الحياة المضطربة في أوضاعها، المشوّشة في رؤاها، كتب البهائي كتابه: (التديُّن والنفاق)؛ ليكون وثيقة للتاريخ، وشاهداً على الحال التي يمكن لاجتماع بشريّ أن يبلغها في انحطاطه، وتدهور قِيَمه، وانحلال مبادئه، وسوء اختياراته، في الدين والسياسة والثقافة، وثيقة لم تبلغ حدَّ تأسيس رؤية واضحة لمخرج يركن إليه، ولسبيل نجاة يمكن ترسُّمه والسير عليه.

 

ثالثاً: نقد السلطة والمجتمع والممارسة الدينية من خلال كتاب: «التديُّن والنفاق»

1ـ في الشكل

أـ تكوين الكتاب: شكله؛ وأسلوبه

كتاب التديُّن والنفاق كتاب حوار يجري على لسان القطّ والفأر. وهو شكلٌ من أشكال الأدب، راج منذ أزمان بعيدة، وعرفه الأدب الهنديّ القديم، ثمّ الأدب الفارسيّ كذلك، يتوسَّل فيه منشؤه التلميح، على لسان الحيوانات، إلى مفاسد المجتمع والسلطة، وإلى آفات الثقافة والتديُّن، أعني لما لا يستطيع التعامل معه بنقدٍ صريح أو باعتراضٍ ظاهر. ولقد لجأ إلى مثله مصلحون لم تكن تسمح لهم الظروف بإبداء رأيٍ حُرٍّ في ما كان لهم فيه رأيٌ من شؤون الاجتماع. وعَرِف التراث الفارسي المتأخِّر مثله ـ ونصُّنا هذا موضوعٌ بالفارسية ـ، كما هو الحال مع ابن المقفَّع في (كليلة ودمنة) ـ المتأثِّر بالتراث الهندي، أو المنحول عليه، أو المقتبَس منه ـ، الذي ضمَّنه صاحبه الكثير من الحكم والمواعظ والأمثال والحكايات على لسان الحيوانات، قاصداً منها ترويج فكرة، أو توهين رأي، أو تسخيف سلوكٍ أو اعتقاد، أو الدعوة إلى قيمة.

فنصُّنا إذن يندرج في أدب الوعظ في معناه العامّ الشامل، أو في المواعظ على نحوٍ أدقّ، أو في كتب الحِكَم والأمثال، لكنّه ليس وعظاً مباشراً على كلّ حال، فلا هو يقرِّر الحكمة أو القيمة في وضوحٍ وجلاء، ولا هو يسترسل في بيان طبيعتها وآثارها، ولا هو يستعمل طريقةً متناسقة بيِّنة صريحة في بيان منافعها وفوائدها، وما يُجنى منها أو يترتَّب عليها في ما يتّصل بالإنسان والمجتمع، ولا هو يقدِّم موقفه النقدي بأسلوبٍ مباشر وقاطع، بل هو يقرِّر كلّ ذلك بأسلوبٍ حواريّ يتوسَّل التلميح والإشارة والرمز، ويوحي إلى ما يريده من طرفٍ خفيّ، لا يقع معناه إلاّ لمَنْ يتأمّل في ما وراء الحكاية أو المثل أو القصة أو الحكمة أو الموعظة. وهو حوارٌ كذلك يوارب ويجانب ويسير على الحوافّ والهوامش الضيِّقة؛ تطلُّباً للسلامة، ورغبةً في الأمن على الذات، وتضليل المتربِّصين؛ إذ يستعمل الحكايات المشيرة والحوادث الملغزة المعبّرة، التي تومئ من طرف خفيّ إلى معنى أو فكرة أو أمثولة أو قصد، من غير أن يثير حفيظة مَنْ يقصدهم، أو يشير إليه من قريب أو بعيد. ثم هو كتابٌ سهل يسير، يتوجَّه للعامّة وللخاصّة، ظاهره الإمتاع والتسلية، بلغةٍ عفوية، لا تكلُّف فيها ولا غموض، ولا صعوبة تكتنفها ولا تعقيد. فهل كان يروم المؤلِّف إيصال رسالة من خلال لغةٍ كهذه إلى أكبر نسبةٍ من القرّاء؛ لغرضٍ في نفسه يتجاوز النصيحة والنقد معاً؟ أعني هل كان يروم هدفاً إصلاحياً؟ هذا شيءٌ مستبعَدٌ هنا… فالكتاب ليس كتاباً إصلاحيّاً بالمعنى الشامل للكلمة، ولا هو يؤسِّس لرؤية أو يؤصِّل لطريقةٍ شاملة، ولموقفٍ، ولا يُبرز رسالة محدَّدة المعالم تأخذ حلقاتها بعضها في سياق بعض، تتضمَّن تعاليم صاحبها ورؤاه وفلسفته في السياسة والمجتمع والدين والإنسان، وهذا شيءٌ سنوضِّحه بعد قليل.

ما أراه أنّ الكتاب إعلانُ موقفٍ، ولَّده إحساسٌ بانهيار القِيَم، وزوال المبادئ، وشيوع البِدَع والخرافات والأساطير المؤسَّسة باسم الدين، وانطلاقاً منه، وترهُّل العقول وتكاسلها، وركونها إلى جهلٍ مقيم، وبانقياد أعمى للإرادات نحو الرؤى والشعوذات والأحلام الفارغة. ولأجل ذلك يحسن تصنيف الكتاب في سياق موعظةٍ بليغة، وموقفٍ يحثّ على الاعتبار والتأمُّل، وصرخةٍ تلفت إلى مخاطر الخلل والوهن في سياق اجتماعٍ بشريّ محدَّد، يخشى عليه أن يتهاوى؛ لتهاوي قِيَم الإنسان فيه؛ ولتشوُّه تعاليم الدين في سياقه، من خلال الممارسة السلبيّة لمضامينه والفهم المشوَّه لأبعاده ومقاصده، وتشير إلى المزالق التي يقود إليها استبداد السلطة، وفساد حالها، ومجانبتها مقاصد العدل، وتجاوزها حدود الكرامة البشريّة. والمؤلِّف في سياق ذلك يركّز على معانٍ محدَّدة عامّة، يكرِّر حولها مواقفه، وما يتّصل بها من حِكَم وأمثال وحكايات وقصص، تندرج في عمومها في سياق الوعظ والتوجيه.

ـ من ذلك نقده لعلماء الرسوم المقلدين، الذين لا يميِّزون بين الرأي والاجتهاد، والمتعبِّدين بظاهر الأحكام من غير نفاذٍ إلى باطنها، أو الذين يتمسَّكون بطقوس جوفاء لا قيمة لها، ولا مغزى تكشف عنه، يكرِّرونها بالعادة والتقليد، كما هو الحال مع المتصوِّفة الذين لا يجيدون من التصوُّف إلاّ حلقات الرقص والدوران، والذكر الذي لا يجاوز اللسان.

ـ ومنها الدعوة إلى الزهد في الدنيا، والتحذير من الإقبال على ملذّاتها وما تدعونا إليه، إقبالاً لا حدود له، واندفاعاً لا ضوابط تقيِّده أو تردع عنه.

ـ ومنها الترغيب في العمل للآخرة، وتوفير الزاد لها، والاستعداد لتقرير الميل إليها.

ـ ومنها نقد تعلُّق العوام بالأساطير والخرافات، واندفاعهم وراء القيل والقال، من غير تدبُّر أو تفكير، أو رويّة فهم، وتأمُّل عقل.

ـ ومنها نقد المتظاهرين بالورع والتقوى؛ لمآرب أو أغراض أو أهداف عابرة وآنيّة، والذين يضعون الأحاديث، ويزورون الشرائع؛ من أجل مصالحهم وأهوائهم.

ـ ومنها نقد السلطة، ومؤسَّساتها، والمحيطين بها؛ من رجال بلاطٍ، يتقرَّبون إلى الحكّام بالخديعة والمكر، ويزيِّنون لهم سوء أفعالهم، وفساد ظلمهم، وسوء حالهم؛ ليبقى نفوذهم وسلطانهم؛ ولتدوم النعمة عليهم، والجاه الذي به يرفلون، فيقدِّمون مصالحهم على كلمة حقّ ينصحون بها سلطاناً، أو يردّونه بها عن جَوْره؛ ومن قضاةٍ، يجافون الحقّ والحقيقة في قولهم وفعلهم، ويحكمون بأهوائهم؛ حفاظاً على مكانتهم وتأكيداً للعزّ الذي ساقه القَدَر إليهم، من غير موهبةٍ يملكونها، أو استعداد يتمتَّعون به، أو منزلةٍ يستحقّونها، واستغلالاً للناس، وسلباً لأموالهم، وخداعاً للعامّة منهم.

ولم يكن نقد البهائي للوعّاظ الذين يتسربلون بسرابيل الوَرَع في الظاهر، وهم أبعد الخلق عنه، أقلّ من نقده لكلّ أولئك، فهم يقولون بأفواههم ما لا تصدّقه أيديهم، أو تؤمن به قلوبهم، وهم مصداقٌ بارز لقوله تعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾. مثل هذا المقاصد سنفحصها هنا بشيءٍ من التفصيل، مبيِّنين أسسها، والفكرة التي تقوم عليها، في فكر البهائي وثقافته ورؤيته القِيَمية.

 

ب ـ بنية الكتاب المعرفيّة والمفهوميّة

يكشف النصّ الذي بين أيدينا عن بنية معرفية ومفهومية محدَّدة، كانت توجِّه آراء المؤلف وقصصه وحكاياته، وتفرضها. فهو في موقفه من السلطة يبرز مفهوماً خاصّاً لها بما هي محقّقة للعدالة، وآلة لتأكيد الحقّ، ووسيلة لتوفير الأمن والكرامة، ينزع رجالها إلى خدمة المجتمع، وتوفير رفاهيّته، وأسباب رقيّه وتقدُّمه، ويسعون جهد طاقتهم في سبيل رفعته، يحافظون على ثروة الأمّة وخيراتها، ويوازنون بين مصالح السلطان ومصالح الرعية، من غير ميلٍ أو جور أو استئثار. وسلطةٌ لا ترى السلطة إلاّ سطوةً وقوّة واستئثاراً بالثروة والنفوذ على حساب الرعيّة المهمَّشة والمستبعَدة هي بنظره سلطةٌ غير مشروعة.

وهو يرى ـ كذلك ـ الدين توازناً بين الظاهر والباطن، بين الشريعة في ما تعلن عنه وبين مقاصدها السامية وأبعادها القصيّة. ويعتقد بضرورة أن يكون الدين ميدان تأمُّل العقل الحُرّ المجرَّد عن الهوى، الطامح إلى الفهم والباحث عن الحقّ؛ لأنّه لا حياة له إلاّ بذلك.

والبهائي ـ وهو يؤسِّس ذلك ـ غمز من قناه علماء الرسوم المقلّدين، الذين لا يملكون قدرة الاجتهاد في الدين، ولا رغبة ذلك، ولا يوفِّرون لهذا السبيل أدواته ووسائله، ولا يدركون معناه، ولا منافعه.

وهو إذ يرمق مجتمعه من طرفٍ خفيّ يرى أنّ المجتمع ينبغي أن ينتهض على العلم والمعرفة الحُرّة، لا على الخرافة والسحر، وأنّ استقامة حياة الناس إنّما تكون بالركون إلى العمل والفعل، وإلى ما يقود إليه العقل، لا إلى حكايات الأسلاف، أو ما استقرّت عليه الحياة من شعوذةٍ مذمومةٍ وتخييل بغيض. ومثل هذه البنية المعرفية كان يمكن لمفكِّرٍ كالبهائي أن يدفع بها إلى نهاياتها، وأن يؤسِّس عليها رؤية شاملة متماسكة ومستوعبة، لكنّه لم يفعل ذلك، واكتفى بالإعلان عنها شذران في صميم خطاب وعظيّ، يكتفي بتقريرها من غير تأصيل، ويطمح إلى إبرازها من غير تبرير نظريّ في نسق معرفي عقلي محكم.

 

2ـ في المضامين والمقاصد ـ على سبيل التفصيل ـ

أـ فساد السلطان وآفاته

كان البهائي يدرك ما كانت تعاني منه السلطة في زمنه من فسادٍ مقيم، فضلاً عن الخلل الذي كان يصيب أصل مشروعيّتها. فهو رأى بعينيه المآثم التي اقترفها الصفويّون بحقّ شعوبهم، والفساد الذي كان يخترق قصورهم، ويعشعش فيها، والموبِقات التي كانت ترتكب تحت مظلّةٍ من التبرير الديني ـ المذهبي، والتجاوز الذي بلغ أقصى مداه في حقّ مبادئ العدالة والاستقامة، لا فرق في ذلك بين الحكّام ومعاونيهم وزبانيتهم ورجال بلاطهم وقادة جيشهم وقضاتهم المعيّنين لتحقيق مآربهم وترسيخ مشروعيّة حكمهم.

والبهائي ـ بعلمه الواسع الغزير وذهنه الوقّاد ـ كان يعلم جيّداً أيّ نوع من المفاسد يجرّ مثل هذا النمط من السلطان. وهو كان يدرك؛ بحكم اطّلاعه على تجربة الإسلام في السياسة والحكم، منذ نشوئه إلى وقته، وعلى تجربة الممالك التي كانت على مقربةٍ منه، كيف يشرِّع نقص المشروعية في السلطة السياسية البابَ على القلاقل والصراعات، وكيف يدفع السلطانَ إلى التعويض عنه، عبر ممارسات إخضاعٍ وهيمنة وقهر وقمع؛ لسدّ أبواب الاعتراض أو الاحتجاج، احتكاماً إلى القوّة المادية، ولمنع أيّ رغبة في التغيير، أو الانتهاض به، أو السعي إليه؛ وعبر انتهاك منظَّم للحرّية، وللإرادات الحُرّة وللعقول باسم الحفاظ على السلطة، وتأمين وحدتها. وكيف ينتهي المجتمع إثر ذلك إلى الكَسَل أو ما يشبهه، لتتهاوى كلّ أحلام الرغبة في أن يكون لها حياةٌ أفضل. وهو كان يعرف بوضوحٍ لا لبس فيه كيف يمكن لفساد الممارسة السياسية في دوائر السلطة من أعلاها إلى أدناها أن يقود إلى فساد القِيَم، وتهافت الأخلاق في الاجتماع برمّته، وإلى تفتيش الرذيلة، وانحلال الفضيلة، وإلى زهد الناس بالعمل والمبادرة ما دام يشكّ في قدرتهما على إحداث تغيير.

لكنّ الملفت أنّ نقد السلطة عند البهائي ـ في هذا الكتاب ـ يتّخذ أسلوب الموعظة الحسنة، وطريق الرفق واللين والمهادنة، من غير تنديدٍ صريح، أو اتّهام واضح، أو قسوةٍ مندفعة، بخلاف ما سوف نراه عند مهاجمته للفقهاء أو الوعّاظ أو القضاة أو الصوفيّة. ولعلّ ذلك كان منه رغبةً في تجنُّب إشعال أيّ موقفٍ ضدّه من سلطة قرَّبته طويلاً، وأحسنت إليه، وخدمها في مجمل تجربتها، على الرغم من مظاهر فسادها التي لم تكن لتخفى على رجلٍ مثله، أو ملامح استبدادها الذي عمَّ حتّى علمه القريب والبعيد، أو نقص عدالتها الذي عايشه وعاينه في أحياء الفقراء التي كان يتردَّد عليها، معزِّياً قاطنيها، مسلِّياً إيّاهم، مطَّلعاً على سوء أحوالهم، في ما ترويه لنا كتب تاريخ العهد الصفوي. فهل كان البهائي يداري الحكّام الصفويّين؛ خوفاً منهم على نفسه، وميلاً منه إلى السلامة، أو ركوناً إلى الدعة والتكاسل في مسار التغيير والإصلاح الذي كان يرى ضرورته؛ أو لأنّه كان يرى ـ كما كان يرى كثيرون ـ أنّ في السكوت على مظالم الصفويّين مصلحةً أكبر من مصلحة أن يصدع بالحقّ في وجههم، أو يعارض في العَلَن سياساتهم، ويعترض عليها، ويعرِّض بها، ويدعو إلى تغييرها؟ قد يكون شيءٌ من ذلك هو الصحيح، وقد تكون كلّها وراء مثل هذه الليونة في الموقف تجاههم. فلعلّه لم يكن يرى في نفسه قدرةً على إحداث أيّ تغيير في ظلّ مناخٍ عامّ لا يسمح به، وخصوصاً أنّ الشيخ البهائي كان يدرك بدقّة أنّه لم يكن ينتمي إلى السياق العامّ لمنظومة السلطة في الدولة الصفويّة في ما يشكِّل الجوهر منها، فهو مهاجرٌ، كما والده من قبل، كان يُنظَر إليهم كمنافسين غرباء على الرياسة الدينيّة والسلطان، وبالتالي لم يكن يتوفَّر لهم من الأدوات ما يشكِّل أرضية راسخة لدعوةٍ شاملة للتغيير. ولعلّه كان يرى من جانبٍ آخر أنّ قصد نشر التشيُّع وترويجه أسمى من قصد الاعتراض على سلطان في سياسةٍ يمارسها، أو سطوة يبديها، أو إدارة فاسدة ينهض بها، أو استبداد موقفٍ يعلن عنه.

 

ب ـ العلماء القشريّون وشيوع البِدَع

ولقد كان نقد البهائي لرجال الدين أكثر حِدّة وقساوة من نقده للسياسيّين والحكّام؛ لأنّه أدرك بوضوحٍ ما ولَّده العصر في سياق أحداثه من رجال دينٍ منتفعين مُرتزقين، يتسربلون سرابيل التقوى، ويلبسون لباس أهل العلم، ويتزيّنون بزيّه، ولا يملكون من العلم إلاّ القشور، ومن الزهد والورع إلاّ مظاهر خاوية، وأشكال برّاقة، لا تنطوي على قيمة، ولا تقوم على مضمون… ولقد كان يحرِّك البهائي نحو هذا النمط من النقد العنيف سببٌ وراء ما كان يحمله هؤلاء من ادّعاءٍ خادع، ومن زيفٍ طبع حياة جماعةٍ كبيرة من رجال الدين في عصره، وهو التنافس البغيض على المكاسب والرياسات والمصالح، يتوسَّلون إليها مظاهر التقديس الدينية، والمناصب الشرعية، والكرامات المدَّعاة، والحيل والشعوذات، وهي أمورٌ راحت تطغى وتشيع في البيئة الصفويّة كما تنتشر النار في الهشيم، في ظلّ مناخ من الترهُّل الديني في العلم والممارسة، وفي ظلّ انعدام الموازين التي بها يميّز الصالح عن الطالح، والعالم عن الجاهل المدّعي، والزاهد عن المتزهِّد لغرضٍ دنيوي ومأربٍ يُبتغى، وفي ظلّ فقدان الجهة التي تملك زمام إدارة هذا الشأن استناداً إلى معايير العلم والورع الحقيقيّين، وسلطة ذلك.

ومثل هذا الموقف من أنصاف المتعلِّمين أو علماء الرسوم، الواقفين على حدود المظاهر، المتاجرين بالدين، المتزلِّفين إلى السلطان، المغرِّرين بالعامّة، الجاهلين بجوهر الحقيقة الدينية، وبمقاصد الدين ومعانيه وأهدافه، الخالية قلوبهم من العرفان، الطامعين في المناصب، يتوسَّلون إليها مظاهر الزهد الخادعة، وعلامات التقوى الموهمة المضلِّلة، يكرِّره البهائي في كثيرٍ من كتبه. ففي شعره الفارسي مثلاً ينعى على أنصاف المتعلِّمين وقوفهم على الظاهر، وإعراضهم عن جوهر الإسلام، فيقول: «الذين قلَّ علمهم، وخلت قلوبهم من العرفان، والذين يدّعون ما لا يعرفون، ويستغلّون مناصبهم من أجل مآربهم الخاصّة»([1]).

وفي كتاب التديُّن والنفاق يرى البهائي أنّ العالم الحقيقي هو الذي يجمع إلى علمه الزهد والورع والتقوى، وأنّ مَنْ لا حظّ له من الزهد لا ينفعه علمٌ. مثلاً: يقول الفأر للقطّ، الذي يتظاهر بالعلم، في حوارٍ معين: «إنّ الزهد من خصائص المتديِّنين، وأنا لا أرى ذلك منك»([2]).

ويقول في الكشكول: «فسد الزمان وأهله، وتصدَّر للتدريس مَنْ قلَّ علمه، وكثر جهله»([3]).

وهو في نصٍّ موحٍ كذلك، في التديُّن والنفاق، بلسان القطّ والفأر، يبيِّن كيف يستغلّ العلماء معاونيهم في سبيل مآربهم الضيّقة، ومصالحهم العابرة، ومقاصدهم الخاصّة، فيقول على لسان القطّ، الذي يفكِّر في طريقة يسيطر بها على الفأر ويستغلّه ـ والقطّ هنا مثال العالم المستغلّ لعلمه، المتظاهر بالمعرفة ـ: «سأسيطر عليه، وآخذه بالحجّة، مستنداً إلى الأدلّة الشرعية؛ وإنْ لم يكن هذا ممكناً فسأورد أقوال المتصوِّفة، وأقبض عليه…»([4]).

وأسوأ من هذا كلّه بنظر البهائي العالم الذي لا يعمل بعلمه، ويقول ما لا يفعل، ويبطن ما لا يظهر. وهو يقرِّر ذلك على لسان الفأر، حين يكثر القطُّ من الوعظ، وادّعاء الزهد والقناعة والاكتفاء بالوحدة واتّخاذ الصبر مذهباً، فيقول: «أنتَ طالب علم، ولكنْ لِمَ لا تعمل بما تقول؟! لِمَ تقولون ما لا تعملون؟!»([5]).

وكما ينتقد البهائي هؤلاء؛ لسوء سلوكهم، وفساد طويتهم؛ ولاستغلالهم الدنيء للدين؛ ولادّعائهم الأجوف للزهد والقناعة وسعة العلم، فهو ينتقد كذلك رواة الحديث، الذين ـ جهلاً منهم وقلّة دراية ـ يروُون ما لا يقبله عقلٌ، ولا يدعمه نصٌّ موثوق من كتاب أو سنّة، ويتزيَّدون في الرواية؛ اعتقاداً منهم أنّهم يحسنون صنعاً، يقول البهائي على لسان الفأر مخاطباً القطّ: «إنّ الأحاديث التي تذكرها مرويّة فعلاً، ولكنّها غير مقبولةٍ عقلاً».

ويروي القطّ، المدَّعي للعلم، روايات عن رسول الله| ترغِّب الفأر في الكرم وحسن الضيافة، ثم يزيد عليها بما يكفل له إقناع الفأر بإعطائه ما يحتاجه، وينسبها إلى رسول الله| كذلك، مع أنّها تنضح كذباً أو مبالغة([6]).

ويسخر البهائي من الأخباريّين؛ لشدّة جهلهم، وبساطة عقولهم؛ ولأنهم عاجزون عن أن يميِّزوا الصالح من الطالح، والصحيح من الكاذب من الأخبار، والعلم من الجهل؛ ولأنهم يخلطون في ما يروُون بين المتعارضات، ويجمعون الأحاديث المتناقضة في مكانٍ واحد، من غير رويّة عقل، ولا تبصُّر فهم، ولا دراية علم. فحينما يروي الفأر مثلاً حديثاً في فضل مشورة النساء يعارضه القطّ بحديثٍ يناقض رأيه، ثمّ يروي كلٌّ منهما قصّة مختلقة موضوعة تؤيِّد مذهبه، تشيع بين العامّة، وتنساق وراءها أذهان الجهّال، الذين يؤمنون بالخوارق والمعجزات والسحر. يقول الفأر: «إذا قلتُ: إنّني استخرتُ القرآن لن يصدِّقني ـ يقصد القطّ ـ؛ وإذا قلتُ: استشرتُ العلماء سيقول: لا قيمة للاستخارة بغير القرآن، وسيقول: من أين جئت بالعلماء؟! لذلك سأقول له: إنّه قد ورد في الحديث»([7]).

والعالم الظاهري، المتمسك بظواهر النصوص، يشبهه في سوئه العلماء المغرورون المتكبِّرون على الناس، المتكلِّفون للمكانة والمهابة والتبجيل، والذين يطمحون إلى انقياد الناس لهم، وخضوعهم بين أيديهم، والذين امتلأت نفوسهم بالغرور والكبر. ويعبِّر البهائي عن طبيعة هؤلاء ورغباتهم على لسان القطّ، فيقول: «إنّ مَنْ لا يحبّ طالب العلم لا دين له، ولا إيمان. وكلُّ مَنْ رفض العلماء رفض الأئمّة والرسل، ورفض أوامر الله، والكتب المنزلة، والملائكة، والأحكام، والثواب والعقاب»([8]).

وهو ينتقد العلم الناقص الذي يفاخر به أصحابُه على لسان القطّـ، فيقول: «أيّها الفأر، يجب أن تعاني الكثير من التعب والألم في خدمة علماء الدين؛ لتعرف مسألة عقلية واحدة، وتتعلّمها؛ لكي لا يعدَّك الناس من الجهلة، قليلي الإدراك؛ لأنّ الذين أصبحوا علماء تعبوا كثيراً قبل الوصول إلى الطريق الصحيح. ويتابع معلِّقاً: «إنّ بعض مدَّعي العلم ما إنْ يحفظوا حديثاً أو آيةً حتّى يلجأوا إلى الجدل والبحث العقيم في السوق والمدرسة والمسجد، وهذا الأسلوب غير مستساغٍ لدى العلماء الحقيقيّين»([9]).

 

ج ـ الطرق الصوفية، وفساد القِيَم الإيجابيّة للدين

وفساد الممارسة الدينية لا تقتصر على فساد العلم الديني وأهله، بل تتجاوزه إلى الممارسة الشكلية للطقوس والعبادات، وإلى استغلال مظاهر دينية من أجل تشويه عقول العامة، وإفساد طويتهم، وتعطيل قدراتهم وطاقاتهم، وترويج الخرافة والسحر بينهم. وهذا إنّما يتحقَّق مثلاً في مظاهر التقديس الفارغ للأشخاص والرموز، ونشر ثقافة الرقى والتعاويذ والرجم بالغيب، والبحث عن الغيبيّات والمستور، وادّعاء علم الرؤية والسماع. ومثل هذه الممارسة تجسَّدت خير تجسيد ـ حسب البهائي ـ في التصوُّف الكاذب، الذي يتوسّل الزهد الشكلي ومظاهر الورع المضلِّل والفتنة طريقاً إلى قلوب الناس وعقولهم، وإلى ترسيخ سلطانٍ روحي مزيَّف على الإرادات، يدّعي النطق باسم المقدَّس، والحكم استناداً إليه، والزعامة نيابةً عنه. ومثل هذه المظاهر عاينها البهائي بنفسه، وعاش تجاربها في محيطه القريب، في طرائق صوفيّة راسخة ومتنفِّذة، بعضها قام عليه سلطان الصفويّين أنفسهم، كالقزلباش أو أصحاب القبّعات الحمراء، الذين انقلبوا بعد تزايد نفوذهم إلى طائفة تسعى وراء مكانتها، وتطمح إلى إرضاء أهوائها ومصالحها، تتوسَّل في سبيل ذلك أسوأ الأساليب، وأحطّ الطرق. وهؤلاء لا يأتي الخطر منهم ـ حسب البهائي ـ من سوء ما هُمْ عليه من مسلكٍ أو رأي أو ممارسة فحَسْب، بل كذلك من تعلُّق العامّة بهم، وجريهم خلفهم، وانصياعهم في إثر رغائبهم، وتقديسهم لأشخاصهم. ولقد جرَّ نفوذ الصوفيّة في زمن الصفويّين إلى صراعاتٍ دموية، لم يقدَّر لها أن تنتهي إلاّ على ويلاتٍ لا توصف، وعلى فتن أخذت في طريقها الفقهاء والمحدِّثين، والدراويش والزهاد والعباد، وجذبت إليها آلاف المحتالين والدجالين والمشعوذين والمستهترين، ووقع فيها الفلاسفة، إشراقيّين ومشّائيين، والعلماء، مجتهدين وأخباريّين، وشاعت التُّهَم بالكفر والنفاق والفسق…، وانتشر العمل بالتنجيم والسحر، والأخذ بالأساطير والأوهام.

إذن لقد ترك نفوذ المتصوِّفة آثاره على غير صعيد، في الثقافة والسياسة، الدين والمجتمع، العلم والفلسفة…إلخ، وولَّد مناخاً لم يكن يمكن لسلطةٍ ناشئة أن تكون بمنأى عنه، فضلاً عن أن تكون قادرةً على إيقافه، أو التحكُّم به.

ولقد راجت في مثل هذا المناخ المضطرب البِدَع والشيع، وشاع الدجل، وانتشر الدجّالون، وتحلَّق حولهم أتباعٌ مندفعون غرائزيّون، روَّعوا العامة، وأشاعوا فيها الخوف والرعب. حصل ذلك في إيران نفسها، وفي ما جاورها من بلدان أو أصقاع كانت على صلةٍ وثيقة بأحداثها، كما حصل في الأناضول أيّام السلطان سليم العثماني، حين أظهر الجلاليّون بِدْعَتهم، وانتقلوا إلى إيران زمن الشاه عبّاس بعد مقتل زعيمهم. أو كالنقطوية، بِدْعة محمد نامي، الذي سكن أحد مساجد قزوين زمن طهماسب، وأطال لحيته متظاهراً بالتُّقى والدين، واشتهر أمره، والتفّ حوله الناس. وهي بِدْعة قضى عليها طهماسب، واختفت زمناً، ثم عادت إلى الظهور زمن الشاه عباس، ممّا اضطرّه للقضاء عليها بلا رحمةٍ، والقبض على رؤسائها.

والسلطة الصفوية نفسها ادَّعت نسباً صوفيّاً، وفاخرت به، ونشرته في العامّة، ورسخته في أذهانهم، واستندت في حكمها إليه، وارتقت من خلاله إلى حدودٍ رفيعة من القداسة والمهابة، ممّا جعل العامة تعامل ملوكها معاملة المعصومين، وتنصاع لإرادتهم بلا تردُّد أو تشكيك، وتنسب إليهم الكرامات والمعاجز، كشفاء المرضى وعلم الغيب، وأن دعاءهم مستجابٌ، وأنّهم يفتحون الأبواب الموصدة. حصل ذلك مع الشاه عباس الذي عُرف بالبطش والشدّة والقسوة، حتّى على أقرب المقرَّبين إليه. ونسب الكثيرون الخوارق إلى جدّه طهماسب، وقبله إسماعيل مؤسِّس الدولة الصفوية. فلقد رفعت العامّة هؤلاء إلى رتبة القدّيسين، المالكين لمصير البشر، القادرين على التصرُّف بالأقدار، العالمين بالغيب؛ استناداً إلى نزعة صوفيّة، راحت تتفشّى وتطغى على العقول فتعطِّلها، وعلى الفكر فتشلّه، تنشر ثقافة التواكل والعجز والتسليم، وترسِّخ قِيَم الخوارق والشعوذات والكرامات، مقصية العلم إلى الهوامش، مغيِّبة العقل، معطِّلة الطاقات والإرادات، ساجِنة الإبداع في إسارٍ لا فكاك منه، ممجِّدة الجهل والدعوات المزيَّفة الفارغة والرؤيويّات والنبوءات والأحلام.

ولقد كان البهائي يدرك إلى أيّ مدى يخلخل هذا النمط من الثقافة الدينية جوهر ما يقوم عليه الدين من مبادئ وقِيَم، ويدرك كذلك المفاسد التي تولِّدها مثل هذه الظواهر الخطيرة في حياة البشر، وإلى أيّ درْك من الانحطاط والتخلُّف والجهل يمكن أن تقودها. ولأجل ذلك كان نقده للتصوُّف، أو لظاهرة التصوُّف الشكلي، عنيفاً، لا فرق بين الظاهرة وبين آثارها وممارساتها التي ولّدتها في سياق نشوئها وترسيخ وجودها واكتمالها.

ولقد أشار البهائي في طرف خفيّ إلى التأثير المدمِّر لما تروِّجه الصوفية من أخلاق زائفة، وعلمٍ مدَّعى، وزهد مصطنع، وتقشُّف يخفي وراءه رغبةً عارمة في الجاه والمال والسلطان، ويتَّخذ من الدين ذريعةً لدنيا، والتقوى وسيلةً لجشع، والزهد آلةً لاكتناز الثروة. فهؤلاء بنظره «يدّعون الزهد والتقوى من أجل العزّ والجاه، ويعتمدون المكر والخديعة والحيلة لتسخير العوام، وإغواء السلطان، ويلبسون لباس الدراويش، ويتظاهرون أنّهم من أهل السلوك، ولكنّ التقوى الحقيقية ليست بما يلبس الإنسان، وإنّما بما يعتقد، ولا يصل الساعي إلى الحقّ إلاّ إذا كان ظاهره كباطنه».

وهو يعرِّض بهم في كتاب التديُّن والنفاق بلسان القطّ، فيقول: «أيّها الفأر، إنّ مَنْ يعدَّ نفسه من أهل الحقيقة يجب أن يبتعد عن دَنَس الدنيا، ومنازع النفس الأمارة والهوى؛ لأن أنفاس الدنيا…إلخ»([10]).

ويعرض كذلك بمظاهر التصوُّف الشكليّة على لسان الفأر، فيقول: «أنا ماهرٌ في التصوُّف إلى درجةٍ عالية، فإذا استطاع شخصٌ أن يدور دورةً واحدة فأنا أستطيع أن أدور ثلاثين أو أربعين دورة»، فيجيبه القطّ متهكِّماً: «ألا تعلم عن التصوّف سوى الدوران؟! إنّ القفز والدوران والسماع والكذب ليس من العقل والكرامة»([11]).

ويصف البهائي إقبال هؤلاء على الدنيا، وولعهم بها، على لسان الفأر، فيقول: «أنا أيضاً من أهل التصوُّف، وهذه الفرقة لا تقتصر على أكل (نعمة الله)…، وهم في أثناء الاعتكاف والسلوك لا يأكلون سوى الخبز والشعير والخلّ، وأحياناً لا يأكلون شيئاً، أمّا إذا كانوا في ضيافة فإنّهم يأكلون إلى الحدّ الذي تبقى فيه بطونهم ملأى إلى اليوم التالي»([12]).

وهو ينتقد ادّعاءاتهم المعاجز والكرامات، فيقول على لسان القطّ: «إنّ ما ذكرتَه أيّها الفأر من كرامات المتصوِّفة محض خرافة، وإنّ الناس الذين يؤمنون بهذه الخرافات جَهَلةٌ، ولا عقل لهم»([13]). «وهم يمارسون ديناً خاصّاً قائماً على الشعوذة، ويقولون كلاماً لا يؤيِّده عقلٌ ولا نقل، وإنّما هو مبنيٌّ على التقليد وهوى النفس وخداع الشيطان»([14]). «وهم إنّما يحدث لهم ذلك من أثر الشراب والترياق الذي يشعر الجاهل بسببه بجذبة يشمئزّ منها العلماء العقلاء، ومثل أولئك المجذوبين كمثل رجلٍ في بحر عميق بعيد القرار، وهو بلا يدين أو رجلين، ولا يعرف السباحة… وأدعياء التصوُّف أولئك ألقوا أنفسهم في بحر الفكر العميق والخيال البعيد، دون أن يستعينوا بسفينة الشريعة، أو قارب الحقيقة، وبدون ملاّح العلم، والربّان المرشد، وهو يجهلون السباحة، فوقعوا فريسة تمساح الشيطان، في دوّامة بحر البطلان…»([15]). وإذا كان البهائي ينتقد المتصوِّفة بهذه القسوة؛ للآفات التي تجلبها دعوتهم، فهو ينتقد بنفس الدرجة مَنْ يجري في إثرهم، ويتَّبع خطواتهم من مريدهم، الذين يصفهم بالحمق؛ لتصديقهم دعاوى شيوخهم، واعتبارهم كلام مرشدهم أعظم من كلام عيسى×، وأنّ دعاءه مستجاب…إلخ. وهؤلاء ما إنْ يصدِّقوا ذلك من مشايخهم حتّى يدخلوا في طريقهم، ويبتلوا بشطحاتهم وأكاذيبهم وخرافاتهم، ويصبحوا أسرى الظنّ والوهم. والأحمق الجاهل الأعمى قليل الذوق والإحساس، كما هو حال هؤلاء المريدين، لن تجلوَ الحقائق الإلهيّة صدأ عقولهم وشعورهم، وهم لا يحصِّلون ممّا يمارسون سوى الهمّ والغمّ والنحول…إلخ.

ولا ينبغي استناداً إلى مثل هذا الموقف الشديد القسوة من التصوُّف أن نفهم رفض البهائي للتصوُّف في جملته، فلقد كان هو نفسه صوفيّاً بمعنىً ما؛ إذا فهمنا التصوُّف نمطاً في العيش يغلب عليه الزهد والورع والتقوى وتجنُّب الانغماس في ملاذّ العيش وأطايبه؛ إذ البهائي كان على شيء من ذلك معتدّ به في تجربة حياته؛ أو إذا ما فهمنا التصوُّف رؤية قلبية تمتلئ بها النفس بجلال الوجود الإلهي وجماله، كما كان الحال مع متصوِّفة كبار، كان البهائي يجلُّهم، ويقدِّر تجربتهم، ويستشهد بها، ولقد كان البهائي نفسه على شيءٍ من ذلك، قلَّ أو كَثُر، نطقت به أشعاره العرفانية الوجدانية العميقة، سواءٌ منها الفارسي والعربي. ما كان ينتقده إذن هو التصوُّف الشكلي، أو ما كان ينتشر ويروج باسم التصوُّف، من طرق شعوذة وطقوس شكليّة، راحت تترسَّخ منذ زمن في بيئة المسلمين، مترافقة مع خواءٍ وانحدار في القِيَم الأخلاقيّة لا سابقة لهما، ومع انهيار لمكانة العقل ودوره، ولقيمة المعرفة، ومع اختلال في الممارسة السياسية، وتشوّه في المعارف الدينية والمعتقدات… ما أعنيه باختصارٍ هو أنّ البهائي كان يقصد الطرق والشعوذات، ودعاوى الكرامات والرؤى والأحلام والخوارق والعلم بالمغيَّبات وما شابه ذلك، ممّا كان له أبرز الأثر في مسار التجربة التاريخية للمسلمين، وفي مسار حضارتهم.

 

د ـ الوعظ والطريق الوسط ـ على سبيل الخاتمة ـ

كلّ شيء إذن كان يشي في عصر البهائي بالتطرُّف، تطرُّف في الدين، وتطرُّف في السياسة، وتطرُّف في الزهد، وتطرُّف في الطقوس، وتطرُّف في الجشع، واندفاع في الغرائز. ولم يكن البهائي يجد مخرجاً من ذلك إلاّ باتباع الوسطيّة والاعتدال طريقاً يقلِّل من أخطار الانحراف والتزمُّت والتقوقع والغلوّ، فراح يدعو إليها بلغة الواعظ الذي يدرك عمق الأزمة، لكنّه لا يملك حلولها الواقعية. والوعظ موقف شعورٍ أكثر ممّا هو موقف عقل، وموقف تأوّه وإحساس مأزوم يشي بالعجز والإحباط أكثر ممّا هو موقف إرادةٍ شجاعة للتغيير، مع وضوح رؤية وثقة موقف. والبهائي يعلن عن الوسطية وطبيعتها من خلال تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام، فيقول: «إنّ جماعة لا همَّ لهم سوى الدنيا وجمع المال والمنال؛ وجماعة انصرفوا إلى العمل من أجل الآخرة، ونفضوا أيديهم من الدنيا، وهم ليل ـ نهار يتأسَّفون على سوء أحوالهم، ولا يفكِّرون إلاّ في الحياة الثانية، وجدوا الخلاص في الابتعاد عن الناس، وفي الاعتكاف في زوايا النسيان، والإنسان الذي يختار العزلة، ويقفل على نفسه الأبواب، محرومٌ ويائس من جميع الكمالات، وقد قال رسول الله|: «خير الأمور أواسطها»([16]). فهل كانت تنهيدة البهائي تلك تنهيدة يائس من تغيير الحال؟ وهل قدِّر لها أن تجد صدىً في عالم مضطرب مندفع نحو انهياره المحتوم على غير صعيد، كما كان حاله زمن الصفويّين؟ وهل كان يمكن له، عبر هذا الصوت الخافت المعترض من طرف خفيّ على أوضاع عصره، أن يقول واثقاً: «اللهمّ إنّي قد بلَّغْتُ».

 

الهوامش:

(*) كاتبٌ وباحث وأستاذ في الحوزة والجامعة، له مؤلَّفات عدّة قيّمة، من لبنان.

([1]) كليات آثار وأشعار بهائي (نان وحلوى): 122 ـ 156، تج سعيد نفيسي، طهران، 1982م.

([2]) التديُّن والنفاق: 45.

([3]) كشكول البهائي 1: 208، الأعلمي، بيروت، 1983م.

([4]) التديُّن والنفاق: 47.

([5]) المصدر السابق: 51.

([6]) المصدر السابق: 84.

([7]) المصدر السابق: 117، 84.

([8]) المصدر السابق: 82.

([9]) المصدر السابق: 89، 122.

([10]) المصدر السابق: 78.

([11]) المصدر السابق: 79، 96.

([12]) المصدر السابق: 80.

([13]) المصدر السابق: 81 ـ 82، 133، 136.

([14]) المصدر السابق: 141.

([15]) المصدر السابق: 148 ـ 149.

([16]) المصدر السابق: 111 ـ 113.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً