تمهيد في أهمية دراسة قضيّة النسخ
يُعتبر بحث النسخ في زواياه المتعدّدة من أهمّ وأخطر البحوث المرتبطة بالقرآن الكريم، بل وكذلك بالسنّة الشريفة. وقد درسه العلماء المسلمون بشكلٍ موسّع عبر التاريخ، وصنّفت فيه كتبٌ مستقلّة كثيرة تقارب المائة وخمسين كتاباً مستقلاً أو شبه مستقلّ في التراث، عدا ثنايا الأعمال التفسيريّة والفقهيّة.
ويكتسب هذا الموضوع أهميّته، وبخاصّة اليوم، من عدّة زوايا:
الزاوية الأولى: إذا قلنا بوقوع النسخ في الكتاب والسنّة، واعترفنا بأنّ النسخ فيهما هو ظاهرة، وليس حالة مورديّة عابرة، فهذا يعني أنّه من غير الممكن الوصول لاستنباط حكم شرعي قبل تحديد الناسخ من المنسوخ وفقاً للنظريّة المدرسيّة في النسخ.
وهذه الزاوية هي التي كان العلماء المسلمون يركّزون النظر عليها في الغالب، وهي التي تفسّر النصوص المرويّة عن بعض الصحابة وأهل البيت النبويّ من أنّ الذي لا يعرف الناسخ من المنسوخ ليس له حقّ تفسير القرآن من جهة أولى، ولا حقّ الإفتاء من جهة ثانية. وفي هذا يقول القرطبي (671هـ): «معرفة هذا الباب أكيدة وفائدته عظيمة، لا يستغني عن معرفته العلماء، ولا ينكره إلا الجهلة الأغبياء، لما يترتّب عليه من النوازل في الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختري قال: دخل عليٌّ ـ رضي الله عنه ـ المسجدَ فإذا رجلٌ يخوّف الناس، فقال: «ما هذا؟» قالوا: رجلٌ يذكّر الناس، فقال: «ليس برجلٍ يذكّر الناس! لكنّه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني»، فأرسل إليه فقال: «أتعرف الناسخ من المنسوخ؟» فقال: لا، قال: «فاخرج من مسجدنا ولا تذكّر فيه». وفي رواية أخرى: «أعلمت الناسخ والمنسوخ؟» قال: لا، قال: «هلكت وأهلكت». ومثله عن ابن عباس رضي الله عنهما»([2]). وجاء في الرواية المسندة إلى حذيفة بن اليَمان (36هـ)، أنّه قال: «إنّما يفتي الناسَ أحدُ ثلاثة: رجلٌ علم ناسخ القرآن من منسوخه.. وأميرٌ لا يخاف، أو أحمق متكلّف»([3]).
والوجه في ذلك كلّه ظاهر؛ فإنّ الذي لا يعرف الناسخ من المنسوخ قد يفتي على أساس المنسوخ ولا يدري بالنسخ الواقع، وهذا ما يوجب خللاً.
الزاوية الثانية: حلّ مشكلات باب التعارض، سواء بين الكتاب والكتاب أم بين السنّة والسنّة أم بينهما معاً، انطلاقاً من أنّ أحد حلول التعارض بين النصوص الدينيّة هو الأخذ بالناسخ وترك المنسوخ، بل ربما يكون هذا هو المبرّر الحقيقي أو أحد المبرّرات الأساسيّة للفكرة التي ترى أنّ تعارض الأخبار يلزم فيه الأخذ بالأحدث أو المتأخّر زماناً، إذ ليس لهذا من تفسير ـ لو كان الصادر حكماً شرعيّاً ـ إلا النسخ، أو على الأقلّ هو تفسيرٌ أساس.
وانطلاقاً من هاتين الزاويتين يرتبط النسخ ـ ومن ثمّ الاجتهاد الشرعي ـ بعلم تاريخ النزول وتاريخ الصدور المتعلّقَين بالقرآن والسنّة، وهو علمٌ شديد الصلة بعلم المكّي والمدني؛ إذ معرفة المتقدّم والمتأخّر لتحديد الناسخ من المنسوخ يقوم على الدراسة التاريخيّة، بل إنّ بعض العلماء رفض أيَّ طريقة لإثبات النسخ عدا النقل التاريخي الحجّة، وأنّ إثبات الناسخ والمنسوخ لا يكون بالاجتهاد.
الزاوية الثالثة: إنّ الزاويتين المتقدّمتين ترتبطان بالجانب التفسيري والَفهمي للكتاب والسنّة، وتعنيان الفقيهَ والمفسّر والمحدّث والأصولي بالدرجة الأولى، بينما هذه الزاوية تُبرز أهميّة بحث النسخ على صعيدٍ آخر، وذلك أنّها ذات بُعدٍ كلامي هذه المرّة طُرح منذ العصر النبوي، واليوم يثار بقوّة، حيث يرى بعضٌ ـ كما هو المنسوب في الرواية عن اليهود بعد تحويل القبلة ـ أنّ النسخ في القرآن الكريم شاهدٌ على كون هذا الكتاب من مختَرَعات محمّد، وإلا فأيّ معنى لوقوع النسخ فيما يأتي من عند الله سبحانه؟!
ثمّة وجهٌ آخر للإشكاليّة يعطي لموضوع النسخ أهميّةً مضاعفة، وهو أنّ فكرة النسخ مقولةٌ اخترعها علماء المسلمين المتقدّمون لتفادي مشكلاتٍ يواجهونها في التعامل مع النصّ القرآني، وأبرزها مشكلتان:
المشكلة الأولى: التناقضات الموجودة في القرآن الكريم، فالتشريعات لا تبدو متّسقة، بل فيها بعض التناقض، الأمر الذي دفعهم لاختراع فكرة النسخ بغية فضّ الاشتباك. وصوّروا لأنفسهم أنّ القرآن مبنيٌّ على هذا النسخ، وأنّ هذا النسخ دليلُ حيوية القرآن وتفاعله العميق مع الزمان والمكان، وتدريجيّة التشريعات، وما شابه ذلك من مقولات. وهو ما طرحه أمثال المستشرق الفرنسي روبرت برنشفيغ (1990م).
المشكلة الثانية: التحريف الذي عرض على القرآن الكريم، وذلك أنّ المسلمين لما أدركوا وقوع التحريف في القرآن، وأنّ بعض الآيات ليست موجودة الآن، مع أنّ النصّ التاريخي يؤكّد أنّها كانت موجودة، كما في آية الشيخ والشيخة([4])، قاموا باللجوء إلى فكرة نسخ التلاوة أو نسخ الحكم والتلاوة، بهدف تبرير هذه التحريفات، فنظريّة النسخ ـ أو على الأقلّ نظريّة نسخ التلاوة مع الحكم أو من دونه ـ اختراعٌ كان الهدف منه حماية القرآن من عروض التحريف عليه، عبر إعادة تفسير التحريف ضمن مفهومٍ آخر.
هذا الموضوع طُرح بقوّة على يد الباحثين الغربيّين والمستشرقين في القرن العشرين، وعلى سبيل المثال الباحث البريطاني جون بيرتن الذي نُسب إليه القول بأنّ بعض الآيات سقطت من يد المسلمين عندما جمعوا القرآن، وبسبب ذلك اضطرّوا ـ للخروج من المأزق ـ لابتكار أفكار مثل فكرة النسخ. وفي موضعٍ آخر قال بأنّ علماء المسلمين قاموا بفرض منظوماتهم الفقهيّة على القرآن، وقد احتاجوا لنظريّة النسخ لكي تحقّق لهم ذلك.
هذا الوضع كلّه دفع بعض العلماء المسلمين في العصر الحديث لنفي وجود النسخ في القرآن في الحدّ الأدنى، فراراً من الإشكاليّات التي قُدّمت في هذا السياق وتنزيهاً للقرآن عن التهافت والتناقض، وبهذا عاد للظهور تيارٌ ينفي إمكان أو وقوع النسخ في القرآن الكريم. ومن رجالات هذا التيار في العصر الحديث السيد هبة الدين الشهرستاني (1967م) في مثل كتابه “تنزيه التنزيل”، والشيخ محمّد هادي معرفت (2006م) في رأيه الأخير، والسيد مرتضى العسكري (2007م) الذي طرح رأياً خاصّاً في النسخ، والدكتور محمد شحرور، والدكتور عبد المتعال الجبري (1995م) في كتابيه: “النسخ في الشريعة الإسلاميّة كما أفهمه”، و”لا نسخ في القرآن.. لماذا؟” والذي أثارت أعماله في نقد النسخ ضجّةً واسعة في مصر وخارجها؛ والمفسّر الشيعي السيد عبد الحجّة البلاغي (1399هـ) صاحب “حجّة التفاسير وبلاغ الإكسير”، والدكتور أحمد حجازي السقا والذي ألّف كتابه المشهور “لا نسخ في القرآن”، وصدر في طبعته الأولى عام 1978م، وغيرهم. وبعضهم قلّص النسخَ إلى حدّ الآية أو الآيتين مثل السيد أبو القاسم الخوئي (1413هـ).
ويلاحظ المتابع أنّ هذا التيار الذي عاد للظهور في العصر الحديث انطلق من فكرة تنزيه القرآن عن التهافتات والتناقضات، فاستخدم منهجه في إعادة تفسير الآيات التي قيل بعلاقة النسخ بينها، لكنّه تيّار ظلّ مرفوضاً في الوسط الإسلامي العام.
لكنّنا في العصر الحديث بين ثلاثة تيارات:
أ ـ تيّار مدرسي يؤمن بالمفهوم والممارسة النمطية لنظريّة النسخ والموروثة من قبل علماء الإسلام عبر التاريخ، ولعلّه يمثل الغالبيّة اليوم.
ب ـ وتيار يرفض النسخ حمايةً للقرآن، كما رأينا قبل قليل.
ج ـ وتيار ينتصر للنسخ بوصفه أساساً لفكرة زمكانيّة التشريعات وضرورة استمرار هذه الزمكانيّة بعد عصر الرسالة وإلى يوم القيامة.
ووسط زحمة الخلاف هذه، نجد انقساماً عجيباً بين العلماء، ففي الوقت الذي يرى بعضهم أنّ حجم الناسخ والمنسوخ في القرآن هائل، رافضاً فكرة نفي النسخ، يرى آخرون أنّ تعظيم حجم الناسخ والمنسوخ في القرآن يُلحق الضرر بهذا الكتاب الكريم، ومن ثمّ فعلينا إنكار النسخ القرآني أو تقليص وجوده في القرآن ليُصبح حالاتٍ محدودة وليس ظاهرةً.
لن أبحث هنا في المعنى اللغوي والاصطلاحي للنسخ، وفي علاقة المعنيين ببعضهما، ولن نبحث في تطوّر مصطلح النسخ بين القرنين الأوّلين والقرون اللاحقة في علاقته بنظريّة التقييد والتخصيص وأمثالهما، فهذه موضوعات خارجة عن نطاق بحثنا، كما لن نبحث هنا عن وقوع النسخ في القرآن الكريم وغيره أو لا، أو عن مساحة وقوعه (نسخ سورة التوبة لـ 125 آية في التسامح/الخوئي والمنسوخ آية واحدة فقط)، أو قواعد فهم الناسخ والمنسوخ، أو غير ذلك من الكثير من الموضوعات.. إنّما سنبحث أمراً واحداً محدّداً، وهو هل النسخ ممكن أصلاً ومعقول أو هو مرفوض ومستحيل، فلا يمكن أن يقع؟
وسوف نركّز نظرنا على الجانب التاريخي، تاركين للقاءاتٍ أخرى المشهد المعاصر في تناول نظريّة النسخ بين التيار المدرسي النمطي وتيّار الزمكانيّة وتيار رفض النسخ.
إمكان النسخ
لدراسة إشكاليّة امتناع النسخ في التاريخ الإسلامي علينا فرز محورين: المحور الأوّل: المشهد الأدياني وظهور إشكاليّة النسخ فيه. والمحور الثاني: المشهد الداخل ـ إسلامي، وظهور إشكاليّة امتناع النسخ فيه، ونبدأ بالأوّل، ثمّ نعرّج على الثاني؛ لقدرة الأوّل على مساعدتنا في تحليل الثاني ومنطلقاته، كما سوف نرى بعون الله.
المحور الأوّل: امتناع النسخ والمشهد الأدياني
عندما نراجع الجانب الذي اشتغل عليه المتكلّمون المسلمون من النسخ، وتبعهم فيه الأصوليّون، فنحن نلاحظ الحديثَ عن الإمكان أكثر من غيره، بمعنى أنّ المتكلّمين ـ ولحقهم الأصوليّون فيما بعد ـ اهتمّوا أكثر ما اهتمّوا بإمكان وقوع النسخ، ولا يراد من الإمكان هنا المعنى الذاتي؛ إذ من الواضح أنّ النسخ بذاته ممكن، وليس مستحيلاً، بل المراد أنّ النسخَ هل يستلزم محالاً على الله سبحانه وتعالى أو لا؟
والسؤال: لماذا اضطرّ علم الكلام الإسلامي بالخصوص ـ تاريخيّاً ـ لتناول موضوعة النسخ؟
والجواب هو أنّ المتكلّمين المسلمين واجهوا سابقاً ـ وبخاصّة ما بين القرن الثاني والخامس الهجريّين ـ سلسلةً من النقاشات الأديانيّة، وكان من بينها الانتقادات التي وجّهها اليهود والنصارى للمسلمين ضمن سلسلة طويلة من الحوارات التي وَصَلَنا الكثيرُ منها. ومن المعروف أنّ إشكاليّات النبوّة تارةً ترجع للنبوّة العامّة، وأبرز المستشكلين هنا كان البراهمة ومن تبعهم، وأخرى ترجع إلى النبوّة الخاصّة المحمّديّة، وأبرز المستشكلين هنا ـ كلاسيكياً في الكلام الإسلامي ـ هم اليهود والنصارى.
وتعتبر أبرز الإشكاليّات التي تعرّض لها المتكلّمون المسلمون على هذا الصعيد ـ أعني صعيد النبوّة الخاصّة ـ اثنتين: إشكاليّة النسخ، وإشكاليّة الشموليّة والتعميم بمعنى شمول الديانة المحمّدية لغير العرب تارةً، ولغير زمانها أخرى.
وإشكاليّة النسخ ـ أديانيّاً ـ كان لها بُعدان: عقلي وسمعي، نوضحهما على الشكل الآتي:
1 ـ إشكاليّة النسخ من منظارٍ عقلي
تقول الإشكاليّة التي يبرز فيها هنا اليهود أكثر من المسيحيّين([5]) ـ باعتبار انتصارهم للشريعة الموسويّة والموضوع هنا ذو بعد شرائعي ـ أنّ النسخ محال؛ إذ الله سبحانه وتعالى إمّا يعلم بأنّ الحكم المنسوخ لا مصلحة فيه أو يعلم بأنّ فيه مصلحة، فإن كان لا مصلحة فيه فلا معنى لتشريعه له، وإن كانت فيه المصلحة فمن غير المعقول أن ينسخه.
وتأتي الإشكاليّة بصياغة أخرى تلتقي بالبداء والعلم الإلهي، وهو أنّ الله عندما شرّع الحكم الناسخ هل عدل عن المنسوخ؛ لأنّه انكشف له شيءٌ فيه أو لا؟ فإذا كان كذلك فهذا يعني نسبة الجهل إلى الله تعالى، وإلا فإنّ العدول عنه عبثٌ غير معقول.
وبتعبيرٍ ثالث: إنّ اليهود أرادوا إثبات ديمومة شرع موسى×، فلجؤوا إلى إبطال النسخ؛ لأنّ المنسوخ إذا كان يحتوي مصلحةً فإنّه من القبيح النهي عنه، وإذا كانت فيه مفسدة فإنّ من القبيح الأمر به، فلمّا استحال النسخ ثبت دوام الشريعة الموسويّة وبطلان الشريعة المحمديّة التي تدّعي نسخ ما مضى.
وبهذا يتمّ اكتشاف أنّ اليهود عمّموا إشكاليّة البداء على النسخ، ليدرجوهما معاً في دائرة الممنوع على الله سبحانه.
2 ـ إشكاليّة النسخ من منظار سمعي
تكشف هذه الإشكاليّة عن أنّ اليهود انطلقوا في إثبات تأبيد شريعتهم بما لا يقبل نسخها من نصّ دينيّ لديهم، نقلوه عن موسى× أنّه قال: «تمسّكوا بالسبت أبداً». والتأبيد المدلول عليه في هذا النصّ يفيد الدوام، ودوام شريعة السبت تعبير آخر عن دوام الشريعة الموسويّة التي يعتبر السبت معلماً من معالمها، فتبطل بذلك الشريعة المحمديّة.
تنوّع منطلقات إشكاليّة النسخ في الموروث اليهودي
انطلاقاً ممّا تقدّم، وبالعودة مرّة أخرى للمشهد التاريخي الأدياني النقدي، نلاحظ أنّ المنقولات الإسلاميّة عن اليهود كانت على أشكال ثلاثة:
أ ـ تارةً كانت تفسّر موقف اليهود بأنّه ناتج عن منطلقات عقليّة وسمعيّة معاً، كما هو المنسوب إلى الشمعونيّة أتباع شمعون بن يعقوب.
ب ـ وأخرى عن معطيات سمعيّة فقط، بمعنى أنّ السمع دلّهم على بقاء شريعة موسى، وأنّه لم يثبت ما يفيد النسخ واقعاً، وكأنّ هؤلاء لم ينطلقوا هنا من استحالة عقليّة. وهذا هو المنسوب إلى فرقة العنانيّة أتباع عنان بن داود، وهي فرقة تخالف ـ كما ينصّ علماء الملل والنحل المسلمون([6]) ـ مشهورَ اليهوديّة في أمورٍ عدّة. ونُسبَ([7]) إلى بعض هؤلاء ـ وهم فرقة السامرة ـ القول بالمنع من النسخ إلا في حالة واحدة وهي أن تنسخ عبادة بما هو أثقل منها على سبيل العقوبة لا غير.
ويظهر من الباقلاني العكس، فقد نَسب للشمعونية ما نُسب للعنانيّة وبالعكس([8]).
وهذا يعني أنّ الإشكاليّة اليهوديّة تعتبر النسخ الأدياني نمطاً مطابقاً للمواصفات مع النسخ الوضعي الذي تعرفه القوانين الوضعيّة، ففي هذه القوانين إنّما يقع النسخ بسبب جهلِ المقنِّن وطروّ معطيات جديدة ترفع من مستوى وعيه بالموضوع، فيغيّر القانونَ تبعاً لذلك، ومن ثمّ فهذا ما ينبغي أن نتصوّره في النسخ الأدياني.
ج ـ لكن يجب أن نشير إلى جماعة ثالثة، نُسب لها موقفٌ ثالث، وهم العيسويّة أو الأصبهانيّة([9])، وهؤلاء يقرّون بالنسخ عقلاً ووقوعاً، فليست مشكلتهم مع النسخ إمكاناً ووقوعاً، بل في تحقّق النسخ بين الشريعة المحمديّة وغيرها؛ والسبب في ذلك أنّ هؤلاء يعتقدون باختصاص ديانة محمّد بالعرب، ومن ثمّ فلا علاقة بينها وبين ما سبقها من ديانات إبراهيميّة حتى يقع النسخ فيها وبها.
ووفقاً لهذا التنوّع في مواقف اليهود، انتقد الدكتور مصطفى زيد ما جرى عليه التراث الإسلامي من نسبة منع النسخ لليهود؛ لأنّ هذه المواقف تثبت قبول بعضهم به عقلاً، بل سمعاً أيضاً.
لكنّ الذي يبدو لي أنّ علينا التفتيش أكثر في الموروث اليهودي، فهذه الفرق الثلاث نفسها (الشمعونيّة والعنانيّة والعيسويّة) قد لا تعبّر سوى عن تيّارات محدودة جدّاً في المجتمع اليهودي، وبخاصّة نحن نرى العنانيّة والعيسويّة لديها موقف مختلف تماماً عن موقف اليهوديّة من عيسى، من هنا أميل أكثر إلى أمرين:
1 ـ إعادة النظر والبحث والتفتيش؛ للتثبّت من موقف اليهود من النسخ عبر الذهاب لمصادرهم الأصليّة في هذا المضمار. ونصوص موسى بن ميمون تفيد منع وقوع النسخ على الديانة الموسويّة.
2 ـ عدم إمكان نسبة شيء لليهود انطلاقاً من فرق محدودة، ظهرت في التاريخ اليهودي وانقضت.
وعليه، فما فعله الدكتور زيد ليس دقيقاً قبل أن نبتّ في المشهد العامّ، وبناء الانقسام اليهودي على فرق من هذا النوع في لحظة زمنيّة محدودة في التاريخ الإسلامي هو خطأ في مقاربة الأمور تاريخيّاً.
مناقشات المسلمين للإشكاليّات الأديانيّة حول إمكان النسخ ومعقوليّته اللاهوتيّة
كانت هذه هي الإشكاليّة بصيغتَيها: العقلية والسمعيّة، وقد حاول المتكلّمون والأصوليّون المسلمون الجوابَ عنها، ونحن نبحث أوّلاً في الدليل السمعي، ثمّ العقلي:
1 ـ أمّا الدليل السمعي الذي ذكروه، فقد تمّت مناقشته من جهات أقتصر هنا على واحدة منها وهي أنّ هذا الحديث المنسوب إلى موسى موضوعٌ ومختَلق، حتى أنّه نُسب اختلاقُه إلى أحمد بن يحيى الراوندي، المعروف بابن الراوندي (الريوندي/الروَندي) والمتوفّى في القرن الثالث الهجري([10]).
ولنا تعليقان هنا:
التعليق الأوّل: لماذا تمّت نسبة الجعل والوضع هنا لابن الراوندي؟
لعلّ سبب النسبة له ما يُعرف عنه ـ فيما يُنسب إليه ـ من أنّه كان يؤلّف الكتبَ لليهود والنصارى؛ لإضعاف الفكر الإسلامي. قال ابن النديم: «وأكثر كتبه الكفريّات، ألّفها لأبي عيسى اليهودي الأهوازي. وفي منزل هذا الرجل توفّي. فمما ألّف له من الكتب الملعونة..»([11]).
ولا تقف عمليّة النسبة هنا، فعلى سبيل المثال، ناقش المتكلّمون المسلمون البراهمة في نقدهم للنبوّة العامّة، لكنّ دراسة تصوّرات المتكلّمين المسلمين حول هذه الفرقة تطرح تساؤلات عن: من هم البراهمة (Brahmin) بالفعل؟ وما هي عقائدهم؟ وعندما نحاول تحليل فهم المسلمين للبراهمة نجد وجهة نظر تقول بأنّ المسلمين أخطأوا كثيراً في معرفة عقائد وتاريخ البراهمة وهويّتهم، بل في تاريخ وثقافة شبه القارّة الهنديّة عموماً، وأنّ أبا ريحان البِيروني (440هـ) سعى لإصلاح التصوّرات الخاطئة عن الهند وثقافاتها وشعوبها، وذلك في كتابه الشهير «تحقيق ما للهند من مقولةٍ مقبولةٍ في العقل أو مرذولة»، وقد عاش البيروني في بلاد الهند قريباً من أربعين عاماً، وصُنّفت أعماله في هذا المضمار على أنّها من أهمّ كتابات المسلمين في دراسة الأمم الأخرى، لكنّ كتب علم الكلام الإسلامي كثيراً ما ظلّت تستقي أفكارها حول العقائد الهندوسيّة وأمثالها من مصادر أخرى غير دقيقة. وهناك من يرى أنّ المصدر الأصلي لمعلومات المتكلّمين حول البراهمة كانت أعمال أبي عيسى الورّاق في القرن الثالث الهجري، فيما يرى آخرون أنّ المصدر الأساس هو ابن الراوندي (ق 3هـ) في كتابه “الزمرّد“، بل ذهب بعضهم إلى أنّ ابن الراوندي كان ينكر النبوّات وكان يحاول نسبة ما يعتقد به للبراهمة لكي يسهّل على نفسه تسجيل نقد على النبوّة والإسلام.
هذا كلّه يفسّر لماذا نجد نسبة بعض الأمور التي تُنسب عادةً لبعض المذاهب غير الإسلامية في نقدها للنبوّات، نجد نسبتها لابن الراوندي، ومنها ما نحن فيه.
التعليق الثاني: هل تصحّ النسبة لابن الراوندي هنا، وبادّعاء وضعه للحديث ينتهي الأمر؟
والجواب: إنّ نسبة وضع هذا الحديث لابن الراوندي تبدو لي غريبة حقّاً؛ فالمضمون موجودٌ في التوراة، حيث جاء فيها: «وكلّم الربّ موسى قائلاً. وأنت تكلّم بني إسرائيل قائلاً سُبُوتي تحفظونها. لأنّه علامة بيني وبينكم في أجيالكم لتعلموا أنّي أنا الربّ الذي يقدّسكم. فتحفظون السبت لأنّه مقدّس لكم. من دنّسه يقتل قتلاً إنّ كلّ من صنع فيه عملاً تُقطع تلك النفس من بين شعبها. ستة أيام يُصنع عملٌ. وأمّا اليوم السابع ففيه سبتُ عطلةٍ مقدّسٌ للربّ. كلّ من صنع عملاً في يوم السبت يقتل قتلاً. فيحفظ بنو إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهداً أبديّاً. هو بيني وبين بني إسرائيل علامة إلى الأبد. لأنّه في ستة أيام صنع الربّ السماء والأرض وفي اليوم السابع استراح وتنفّس»([12]).
وغيرها من الإشكاليات.
هذا كلّه على مستوى الإشكاليّة السمعيّة.
2 ـ لكن لكي يجيب المتكلّمون والأصوليّون المسلمون عن الإشكاليّة العقليّة سلكوا سبيلين: السبيل الحلّي، والسبيل النقضي:
2 ـ 1 ـ أمّا السبيل الحَلِّي، فتنوّع بين الأشاعرة والعدليّة:
أمّا العدليّة، من المعتزلة والشيعة وأمثالهم، فوافقوا على البنية التحتيّة للإشكال، وهو الحسن والقبح الذاتيان والعقليّان، والمفروض أنّهم يؤمنون بذلك في العادة، لهذا نجدهم عندما ناقشوا هذه الإشكاليّة قالوا تارةً بأنّ الحسن والقبح يكون بالجهات، فالشيء قد يكون حسناً من جهة دون أخرى، والقبح كذلك، وأخرى بأنّ الأحكام مرتبطة بالمصالح، لكنّ المصالح تتغيّر بتغيّر الوقت، كما تختلف باختلاف المكلّفين، فالتشريع تابعٌ من حيث طبيعة المصلحة للزمان والمكان والظرف والحال والأفراد، وعلى هذا الأساس، فإنّ الحكم يكون ذا مصلحة في زمانٍ دون زمان، فيقتضى الأمر نسخه في الزمان الثاني؛ لارتفاع مبرّره، أو يكون ذا مصلحة لقومٍ دون قوم، فيحصل الأمر نفسه([13]).
وأمّا الأشاعرة وأمثالهم، ممن أنكر التحسين والتقبيح مطلقاً، فاعتبروا أنّ النسخ يخلو من كلّ الإشكاليّات؛ لأنّ منسوخَ الله حسنٌ حينما كان حكمَ الله، وناسخَه حسنٌ حينما صار حكمَ الله أيضاً، فلا معنى ـ عندهم ـ لأصل الذهنيّة التي ينطلق منها الإشكال. بل وأجابوا أحياناً بنفس جواب المعتزلة الثاني المتقدّم على قانون أنّ ملاكات الأحكام ومصالحها معرِّفات.
وفي فضاء رفع إشكاليّة الجهل عن الله، التقت الكثير من المدارس الكلاميّة الإسلاميّة، لتعيد إنتاج فهم النسخ بصفته ضرباً من البيان، وإلا فالله عالمٌ بالناسخ والمنسوخ منذ الأزل، ومحدّدٌ لوقت المنسوخ وبداية وقت الناسخ، غاية الأمر أنّه أظهر الأمر لنا في وقته، فالنسخ نوعُ بيان للبشر، وليس تغييراً في العلم الإلهي.
2 ـ 2 ـ وأمّا السبيل النقضي، فهو مناقشات أديانية تطبيقية ميدانيّة، تجعل اليهود مضطرّين؛ لتبرير شريعتهم، للجوء إلى نظريّة النسخ نفسها، وأبرز ما يطرح هنا هو الآتي:
أ ـ إنّ هذه الإشكاليّة تواجه اليهود أنفسهم بملاحظة الشرائع التي سبقتهم، فكيف تمكّن اليهود من تسجيل هذه الملاحظة على النبوّة المحمديّة دون أن تكون هذه الملاحظة واردةً عليهم؟!
غير أنّ اليهود يبدو ـ وفقاً لنقل أبي الفتح الشهرستاني ـ لديهم رؤية أخرى، حيث يعتبرون أنّه لا توجد شريعة قبل موسى ولا بعده، يقول الشهرستاني: «واليهود تدّعي أنّ الشريعة لا تكون إلا واحدة، وهي ابتدأت بموسى× وتمّت به، فلم تكن قبله شريعة، إلا حدودٌ عقليّة وأحكام مصلحيّة، ولم يجيزوا النسخ أصلاً. قالوا: فلا يكون بعده شريعة أصلاً؛ لأنّ النسخ في الأوامر بَداء، ولا يجوز البداء على الله تعالى»([14]).
هذا ما يعني لديهم أنّ ما نعتبره تشريعات أتى بها أمثال إبراهيم نفسه، ليس سوى تقديرات مصلحيّة شخصيّة منه، بما فيها موضوع الختان.
غير أنّ هذه المحاولة غير مفهومة، وبخاصّة في موضوع الختان؛ لأنّ الختان لم يكن تشخيصاً إبراهيميّاً بل كان توافقاً إلهيّاً معه وفقاً لنصّ التوراة نفسه.
لكن لعلّ الفكرة اليهوديّة لم تكن بالشكل الذي طرحه الشهرستاني، بل غاية ما قاله اليهود بأنّ أيّ تشريع قبل الشريعة الموسويّة فهو متضمَّن فيها، ولم يتمّ نسخه بالشريعة الموسويّة، وهذا يكفيهم لتفادي أيّ إشكال نقضي، ومن ثمّ فلم تحتج الشريعة الموسويّة لنظريّة النسخ كي تقوم بتبرير نفسها، على خلاف الشريعة المحمديّة، فلا يصلح هذا الإشكال النقضي ـ بهذه الصيغة ـ عليهم.
ب ـ إنّ هناك سلسلة من التشريعات الناسخة والمنسوخة في التوراة نفسها. وهنا حاول المتكلّمون المسلمون الاشتغال عليها. ويعتبر هذا البحث من البحوث التي يمكن من خلالها اختبار خبرة المتكلّم المسلم في المعرفة الأديانيّة الداخليّة؛ لأنّه يدخل في تفاصيل المسائل الشرعيّة في الديانة اليهوديّة ومقارنة ما قبلها بها طبقاً للنصّ الديني اليهودي نفسه.
وقد ذكروا أمثلة كثيرة، وكثيرٌ منها قابل للمناقشة برأيي المتواضع، ولا نريد الإطالة بذلك.
وبهذا يتبيّن أنّه لا يوجد دليلٌ عقلي أو سمعي قاطع على امتناع النسخ، وبخاصّة إذا قلنا بأنّ شريعة موسى ليست عالميّة أصلاً، وعبر هذا الطريق مهّد المتكلّمون المسلمون للشريعة الإسلاميّة.
المحور الثاني: نظريّة امتناع النسخ في الداخل الإسلامي (محمد بن بحر المعتزلي وأنصاره)
ربما يمكن فهم موقف الأديان الأخرى السابقة على الإسلام في تعاطيها مع موضوع النسخ، كون نفي النسخ يمكنه أن يحول دون تقدّم الإسلام عليها، غير أنّ الذي يبقى غامضاً غريباً هو مسلك مانعي النسخ من المسلمين أنفسهم، فما الذي يدفع مسلماً لكي يُنكر النسخ؟! وما هي هواجسه التي جعلته يذهب هذا المذهب؟! وما هي منطلقاته في ذلك؟! وبالتحديد في القرون الخمسة الهجريّة الأولى، وليس اليوم.
هذا المسلك لم يكن له أنصار كُثر في التاريخ الإسلامي، بل ظلّ ـ كما هو المعروف ـ خطّاً شاذّاً جدّاً. والمعروف أنّ أنصاره يعدّون أقلّ من أصابع اليد الواحدة، ومن أبرزهم شخصيّتان:
1 ـ المفسّر المعروف أبو مسلم محمّد بن بحر الإصفهاني المعتزلي (322هـ)، له كتاب الناسخ والمنسوخ، ونسب له كتاب آخر في ناسخ الحديث ومنسوخه.
وفي عرض أصل موقفه هنا قراءتان:
القراءة الأولى: وهي المشهورة السائدة، وهي تقول بأنّ أبا مسلم الإصفهاني أوّل من أنكر النسخ ومنعه في تاريخ الإسلام، وأنّه قام في هذا الكتاب ـ فيما نُسب له ـ بتتبّع جميع وقائع النسخ ليقوم بتأويل جميع الآيات المتصلة بالنسخ. وقد اهتمّ بنقد أعماله العديد من الباحثين في العصر الحديث، مثل الدكتور مصطفى زيد (1398هـ)، وتابعه بالتفصيل. كما تصدّى لنقده علي حسن العريض في كتابه “فتح المنّان في نسخ القرآن”، وهو أحد علماء الأزهر، وهو كتاب مطبوع بمصر عام 1973م. وكذلك محمّد حمزة في كتابه “دراسات الإحكام والنسخ في القرآن الكريم”، وهو كتاب جاء في سياق الردّ أيضاً على إنكار النسخ من قبل عبد المتعال الجبري.
القراءة الثانية: وهي قراءة الإمام الشوكاني (1250هـ)، وذلك أنّه نسب لأبي مسلم جواز النسخ وعدم وقوعه؛ وهذا ما يغيّر مسار فهم ما ذهب إليه أبو مسلم المعتزلي، قال الشوكاني في نقده العنيف على أبي مسلم: «النسخ جائزٌ عقلاً، واقعٌ سمعاً، بلا خلافٍ في ذلك بين المسلمين، إلا ما يُروى عن أبي مسلم الإصفهاني؛ فإنّه قال: إنّه جائزٌ غير واقع. وإذا صحّ هذا عنه، فهو دليلٌ على أنّه جاهل بهذه الشريعة المحمديّة جهلاً فظيعاً. وأعجب من جهله بها حكاية من حكى عنه الخلاف في كتب الشريعة؛ فإنّه إنّما يعتدّ بخلاف المجتهدين، لا بخلاف من بلغ في الجهل إلى هذه الغاية. وأمّا الجواز، فلم يُحكَ الخلافُ فيه إلا عن اليهود..»([15]).
المشكلة المركزيّة مع أبي مسلم الإصفهاني أنّ تفسيره “جامع التأويل لمحكم التنزيل”، وكتابه “الناسخ والمنسوخ” غير موجودَين، وأنّ أغلب معلوماتنا عنه مأخوذة من المفسّرين، من أمثال الشيخ الطوسي في التبيان، والفخر الرازي في التفسير الكبير. وقد قام الشيخ سعيد الأنصاري عام 1340هـ بإصدار كتاب تحت عنوان “ملتَقَط جامع التأويل لمحكم التنزيل“، جمعه مما نُقل في تفسير الفخر الرازي عن أبي مسلم.
وبهذا صار لدينا بعض الأفكار والمنقولات عن أبي مسلم مما يرتبط بعضُه بموضوع بحثنا.
2 ـ أبو علي محمّد بن أحمد، المعروف بابن الجنيد الإسكافي الشيعي (ق 4هـ)، فقد نسب له الشيخ الطوسي في الفهرست وغيره، أنّ له كتاباً تحت عنوان “كتاب الفسخ على من أجاز النسخ”([16])، والظاهر منه أنّه من الرافضين للقول بالنسخ، إذ “الفسخ” بمعنى الإبطال والإفساد.
لكنّ الشيخ النجاشي وابن النديم سمّيا هذا الكتاب “كتاب الفسخ على من أجاز النسخ لما تمّ نفعه وجمل شرعه”([17]). لكن في مقدّمة كتاب فتاوى ابن الجنيد، يذكر الاشتهاردي عنوان الكتاب بطريقة مختلفة ناقلاً ذلك عن كتاب التنقيح، قائلاً: «الفسخ على من أجاز في الأخبار النسخ»([18])، وهذا ما يغيّر الموقف تماماً إلى خصوصية النسخ في الحديث، ولا أدري ما هو المصدر القديم لهذه التسمية؟
السؤال الآن: كيف يمكن فهم منع هؤلاء في تلك الفترة من النسخ مع اعتقادهم بالشريعة الإسلاميّة والمفروض أنّها ناسخة لما قبلها؟ وكيف يمكن فهم نظريّتهم والمفروض أنّ وقوع النسخ في الإسلام عموماً ـ أعمّ من الكتاب والسنّة ـ يفترض أن يكون واضحاً لكلّ مسلم؟
توجد في هذا السياق ثلاثة تفاسير لمذهب المانعين داخل الأمّة الإسلاميّة:
1 ـ فرضيّة منع النسخ الأدياني
التفسير الأوّل هو أنّ مراد أبي مسلم الإصفهاني هو عدم وقوع النسخ بين الشرائع المختلفة خاصّة. لا داخل الشريعة الواحدة.
في هذا السياق قام المحلّلون هنا برفض هذا الاحتمال؛ انطلاقاً من وضوح كون أبي مسلم الإصفهاني مسلماً مؤمناً بالإسلام وعالماً تقيّاً، فكيف يُعقل أن يكون مذهبه استحالة أو منع النسخ بين الشرائع؟ وكيف يمكنه في هذه الحال تبرير وجود الشريعة الإسلاميّة التي يؤمن هو بها؟([19]).
بل إنّ أبا بكر الجصّاص (370هـ) يشير في كلامه إلى أنّ أبا مسلم الإصفهاني ـ دون أن يسمّيه ـ حصر النسخَ بالنسخ الأدياني، وأنّه حمل المنسوخ في القرآن على أنّه تشريعٌ سابق على الإسلام، وهذا يقف على النقيض من احتماليّة تفسير موقف الإصفهاني بمنعه النسخ الأدياني خاصّة، حيث يقول الجصّاص: «زعم بعض المتأخّرين من غير أهل الفقه أنّه لا نسخ في شريعة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلم، وأنّ جميع ما ذكر فيها من النسخ فإنّما المراد به نسخ شرائع الأنبياء المتقدّمين كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب.. وقد كان هذا الرجل ذا حظّ من البلاغة وكثير من علم اللغة، غير محظوظ من علم الفقه وأصوله، وكان سليم الاعتقاد غير مظنون به غير ظاهر أمره، ولكنّه بعُد من التوفيق بإظهار هذه المقالة؛ إذ لم يسبقه إليها أحد، بل قد عقلت الأمّة سلفها وخلفها من دين الله وشريعته نسخ كثير من شرائعه، ونُقل ذلك إلينا نقلاً لا يرتابون به ولا يجيزون فيه التأويل، كما قد عقلت أنّ في القرآن عاماً وخاصّاً ومحكماً ومتشابهاً، فكان دافع وجود النسخ في القرآن والسنّة كدافع خاصّه وعامّه ومحكمه ومتشابهه، إذ كان ورود الجميع ونقله على وجهٍ واحد. فارتكب هذا الرجل في الآي المنسوخة والناسخة وفي أحكامها أموراً خرج بها عن أقاويل الأمّة مع تعسّف المعاني واستكراهها. وما أدري ما الذي ألجأه إلى ذلك، وأكثر ظنّي فيه أنّه إنما أتى به من قلّة علمه بنقل الناقلين لذلك، واستعمال رأيه فيه من غير معرفة منه بما قد قال السلف فيه ونقلته الأمّة. وكان ممن روى فيه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» والله يغفر لنا وله»([20]).
2 ـ فرضيّة منع النسخ في داخل الشريعة الإسلاميّة مطلقاً
التفسير الثاني لموقف المانعين هنا كالإصفهاني هو أنّه أنكر وقوع النسخ داخل الشريعة الواحدة خاصّة، ومن ثمّ فبين الشرائع لا مانع من النسخ، أمّا داخل الشريعة الواحدة فهو مرفوض مطلقاً.
وإذا عبرنا نحو هذا التفسير، فإنّ نقّاد الإصفهاني المعتزلي اعتبروا أنّ الشواهدَ على وقوع النسخ في الشريعة الإسلاميّة، الأعمّ من نسخ السنّة بالكتاب وغيره، كثيرةٌ. وأبرز مثالٍ هنا هو تغيير القبلة إلى المسجد الحرام؛ إذ من الواضح أنّ المسلمين كانوا يصلّون إلى بيت المقدس، فنزلت الآيات ـ عقب قصّةٍ معروفة في أسباب النزول ـ تأمرهم بتغيير الجهة إلى المسجد الحرام. والقرآن الكريم صريحٌ واضح في أنّ المسلمين كانت قبلتهم غير المسجد الحرام.
ومع أنموذجٍ من هذا النوع له شواهده القرآنيّة، كيف يمكن للإصفهاني المعتزلي وأنصاره إنكار النسخ. ولم أذكر هنا شواهد على وقوع النسخ والتعديل خارج النص القرآني؛ لأنّنا لا نريد الاعتماد على الروايات التي قد يناقِش فيها معتزليٌّ كأبي مسلم الإصفهاني.
لكن مع هذا كلّه، ربما يتأوّل الإصفهاني ذلك، كما تأوّلَ دعاوى النسخ في النصّ القرآني، انطلاقاً من روح المبرّر القادم المحتمل عنده، وسيأتي هذا المبرّر عند الحديث عن التفسير الثالث لموقفه.
ولعلّ الإصفهاني ـ لو صحّ ما نسبه الجصّاص والرازي إليه من قبول النسخ الأدياني ـ يرى أنّ تشريع التوجّه لبيت المقدس هو حكمٌ من الديانة اليهوديّة، وأنّه لحِقَ المسلمين انطلاقاً من أنّ مجرّد مجيء شريعة لاحقة لا يُبطل تمام الشريعة السابقة، بل يُبطل ما ينسخه منها فقط، وبهذا كان حكم الشريعة الموسويّة ثابتاً في المسلمين، ثمّ جاء نسخ حكمٍ بعينه في دائرة استقبال القبلة. وهذا مبنيٌّ على مقدّمات من الصعب إثباتها، ومنها أنّ الشريعة الموسوية كان يتعبّد بها المسلمون الأوائل حتى يأتي دليلُ نسخها هنا أو هناك!
3 ـ فرضيّة منع النسخ داخل القرآن الكريم خاصّة
التفسير الثالث المحتمل هو أنّ الإصفهاني ـ وربما من تبعه أيضاً ـ لم يكن لديهم إشكاليّة عقليّة أو سمعيّة في النسخ بقولٍ عام، كلّ ما في الأمر أنّهم منعوا النسخ داخل القرآن الكريم فقط، فالشيء الذي منعوه هو كون آية قرآنيّة منسوخة، مهما كان ناسخُها، أي حتّى لو كان الناسخ آيةً أخرى.
وإذا ذهبنا نحو هذا التفسير لموقفه، والذي رجّح غيرُ واحدٍ([21]) أن يكون هذا هو رأي أبي مسلم الإصفهاني، وهو تخصيص المنع بالنصّ القرآني، يأتي السؤال: ما هو المنطلق المحتمل للإصفهاني ومن تابعه في منع النسخ القرآني بالخصوص؟ وهل هذا المنطلق يقف عند حدّ منع النسخ القرآني أو يتعدّاه لمطلق النسخ؟
هنا معطيان:
أ ـ في سياق المناقشات حول النسخ في القرآن تظهر آية أثارت انتباه الباحثين، وربما تكون هي منطلقه في موقفه هذا، وهو قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصّلت: 41 ـ 42). فإنّ هذه الآية واضحة في نفي الباطل أن يقترب أو يأتي القرآنَ الكريم، ومن الواضح أنّ النسخ إبطالٌ؛ إذ النسخ إزالة، فهذا الإبطال معناه صيرورة المنسوخ باطلاً، والمفروض أنّ النصّ القرآني يمنع عن تسرّب الباطل. وبهذا لا يمكن الموافقة على وقوع النسخ في القرآن بمعنى كون القرآن منسوخاً في بعض آياته، مهما كان الناسخ.
وقد ناقش غير واحدٍ من أصوليّي أهل السنّة الاستدلال بهذه الآية على الشكل الآتي: إنّ المراد بها أنّ القرآن بما هو وحدة مجموعيّة لا يبطل، فلا يُنسخ بشريعة أخرى أو بنبوّة لاحقة، فمعنى الآية أنّ هذا القرآن لم يأتِ من قبل ولن يأتي من بعد ما يُبطله؛ ومبرّر ذلك هو ضمير «يأتيه» الراجع للقرآن كلّه، لا لآية منه هنا أو هناك([22]).
ولكنّ الجواب بهذه الطريقة غير واضح؛ فإنّ تعبير «من بين يديه ولا من خلفه» كما يحتمل أن يريد القبليّة والبعديّة الزمانيّة، كذا يحتمل جدّاً أن يراد به أنّه لا يمكن للباطل أن يمسّه من أيّ جهةٍ من الجهات أو ينفذ إليه، ولعلّ الترجيح لصالح الاحتمال الثاني؛ لأنّ هذا هو المتناسب مع ذيل الآية التي تريد أن تكرّس أنّه من عند الله الذي لا باطل في ساحته المقدّسة، إذ كونه من عند الله لا ينافي النسخ، تماماً كما كانت التوراة من عند الله وآمن المسلمون بنسخها. وكون ضمير «يأتيه» راجعاً للقرآن لا يعني أنّ النظر للقرآن كلّه بملاحظة مجموعيّة، فلو جاء القرآنَ ما يُبطل بعضَ آياته، فهل الآية هنا غير ناظرة لذلك؟! فالأصحّ في فهم هذه الآية الكريمة أنّها تريد منع تسرّب الباطل للقرآن بأيّ شكلٍ من الأشكال، لا إبطال القرآن كلّه.
من هنا يبدو لي أنّ الأصحّ في الردّ على أبي مسلم، هو إنكار كون المنسوخ باطلاً، وأنّ الإصفهاني وقع ضحيّة التباسات اللغة والتعابير؛ لأنّ المنسوخ ما دام حكماً مقيّداً بزمان معيّن، فهو حقٌّ في زمانه، والناسخ رفعه بارتفاع قيده، فكان حقّاً والناسخ اليوم حقٌّ. والمنسوخ اليوم لا وجود له، لكنّ عدم وجوده لا يعني أنّه باطل؛ لأنّ المفروضَ أنّ حصّته من الوجود منذ الأوّل مقيّدة بزمان، فلا نقول بأنّ الناسخ أبطل المنسوخ، فصار المنسوخ باطلاً، بل نقول بأنّ الناسخ رفع قيد المنسوخ. تماماً كما لا نقول بأنّ حكم الحائض باطل؛ لأنّه لا يجري في حقّ الرجل. هذا فضلاً عمّا لو قيل بأنّ النسخ ضربٌ من البيان كما تقدّم؛ حيث الأمر يكون أوضح. ويشهد لما ندّعي أنّ أبا مسلم الإصفهاني لو كان يرى المنسوخ باطلاً، وأخذنا روح دلالة الآية الكريمة المستدلّ بها هنا، لكان معناه أنّ الشرائع السابقة باطل، ونسأل: هل يتسرّب الباطل إلى ما يشرّعه الله للبشر؟! وهل يصدر من الله باطل؟! فالأجوبة نفسها التي يطرحها الإصفهاني وأتباعه هنا يمكن أن تكون جواباً لموضوع النسخ داخل القرآن الكريم.
ب ـ هذا، ويلوح من الشيخ محمّد أبو زهرة (1974م) طرح فرضيّة إضافيّة بوصفها دليلاً لصالح أبي مسلم، وهو أنّ القرآن الكريم اشتمل على كليّات الشريعة، وشيءٌ يسير من التفاصيل المهمّة، وما كانت هذه حاله فمن غير المعقول عروض النسخ فيه([23]).
ولعلّ روح هذه الفكرة موجودة فيما نسبه الجصّاص لأبي مسلم الإصفهاني، حيث قال ـ بعد أن نسب إليه عدم وقوع النسخ داخل الديانة الإسلاميّة ـ: «لأنّ نبيّنا ـ عليه السلام ـ آخر الأنبياء، وشريعته ثابتة باقية إلى أن تقوم الساعة»([24]).
ويبدو أنّ هذه المقاربة تلتقي مع الطابع العقلاني للأشياء؛ لأنّ الكليّات هي الدساتير العامّة، وهي لا تعرضها التحوّلات وأشكال النسخ في العادة، على خلاف تفاصيل التشريعات والقوانين، فلما تمّ إثبات أنّ الكلّيات هي التي تكفّل بها القرآن الكريم، صارت احتماليّة عروض النسخ فيه زائلةً.
وربما تكون هذه الفكرة عينها التي كانت حاضرةً عند محمّد بن حزم (320هـ)، عندما قال: «اعلم أنّ نزول المنسوخ بمكّة كثير، ونزول الناسخ بالمدينة كثير، وليس في أمّ الكتاب شيءٌ منهما»([25]). فكأنّ القرآن في منظور ابن حزم ينقسم إلى أمّ الكتاب وغير أمّ الكتاب، وأنّ النسخ لا يتطرّق إلى أمّ الكتاب، فيما يتطرّق للمساحة المنفصلة عن أمّ الكتاب. وربما يكون منظوره من أمّ الكتاب هنا هو التشريعات الدستوريّة التي تمثل الأساس للتشريعات الأخرى، وهي بطبعها غير قابلة للنسخ، فيكون ذلك مما يلتقي مع الفكرة التي طرحها أبوزهرة بنوعٍ من الالتقاء. ولعلّ منظوره من أمّ الكتاب شيء آخر مثل العقائد وأصول الدين.
ولكنّ هذا الكلام كلّه مبنيٌّ على أنّ القرآن يتعرّض للكلّيات دون التفاصيل؛ وهو ـ لو سلّمنا به ـ فإنّ مجرّد وجود بعض التفاصيل التشريعيّة فيه كافٍ لاحتماليّة النسخ؛ فهذا الدليل غايته أنّه يقلّص فُرَصَ النسخ في القرآن، لكنّه غير قادر على المنع، حتى يكون دليلاً لصالح أبي مسلم المعتزلي.
ج ـ إشكاليّة استلزام النسخ التناقض داخل القرآن مع نفي القرآن أن يجدوا فيه اختلافاً، والنسخ اختلاف.
وأجيب بأنّ النسخ ليس اختلافاً تماماً كالاختلاف بين بعض أحكام الرجل والمرأة ليس تناقضاً وتهافتاً بل لكلٍّ موضوع.
استنتاجاً مما تقدّم أثارت المدوّنات الإسلاميّة فكرة حِكمة النسخ، لرفع التصوّر غير العقلاني عنه، وتعزيز معقوليّته المنطقيّة والتاريخيّة، حتى أنّنا نجد في الكثير من الكتب الإسلاميّة إشارةً لهذا الموضوع ولو سريعة، بل لاحظنا أنّ هناك ـ فيما يبدو ـ مصنّفاً مستقلّاً كُتب حول حكمة النسخ، وهو «رسالة مختصرة في جواب سؤال السلطان محمد خدابنده عن حِكمة النسخ في الأحكام الشرعيّة»، وهي تعدّ من مصنّفات العلامة الحلّي (725هـ)، وهي تثير الانتباه فيما الذي يدعو السلطان خدابنده أن يسأل في تلك الفترة العلامةَ الحلّي حول النسخ؟!
وخلاصة الموقف أنّ أبا مسلم الإصفهاني المعتزليّ ومن تبعه، إذا صحّ عنه القول بمنع النسخ لا بمجرّد عدم وقوعه، أي كانت مشكلته ثبوتيّةً وليست إثباتيّةً فقط، فإنّه لا يبدو وجود معطيات مقنعة لصالحه، لا في العقل ولا في النقل، تمنع عن النسخ في مسيرة التشريعات الإلهيّة، لا بين الأديان، ولا داخل الدين الواحد، لا فيما يتعلّق بالسنّة ولا فيما يخصّ القرآن نفسه أيضاً.
4 ـ فهم نقّاد النسخ للنصوص القرآنيّة العامّة الدالة على وقوع النسخ
لقد اعتمد علماء الإسلام مجموعة من النصوص القرآنيّة التي قالوا بأنّها دالّة مباشرةً على وقوع النسخ في الشريعة الإسلاميّة، وعلينا رصد هذه النصوص وتحليلها؛ لنرى كيف فهمها مانعو النسخ.
ونأخذ عيّنيتن منها هي الأساس، وهي:
4 ـ 1 ـ آية التبديل، قراءات وتفاسير
الآية الأولى: قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (النحل: 101)، وبعدها فوراً جاء قوله تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ * وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) (النحل: 102 ـ 103).
وكيفيّة الاستدلال بهذه الآية الكريمة أنّ الظاهر من كلمة “الآية” فيها هو الآية القرآنيّة، وهي صريحة في وقوع تبديل آيةٍ بآية، وأنّ الكافرين كان لهم تعليق على هذا الموضوع جعلهم ينسبون القرآن إلى النبيّ وأنّه مفترٍ، وهذا خير دليل على تحقّق هذه الظاهرة (النسخ) داخل النصّ القرآني نفسه.
ويتأكّد المراد من كلمة “الآية” هنا وأنّه ذو صلة بالنص القرآني لا بأمرٍ آخر، من خلال عنصرين خارجي وداخلي:
العنصر الخارجي: وهو عبارة عن مراجعة نصوص المفسّرين الأوائل في القرن الأوّل وشطرٍ من الثاني الهجري، فإنّ هؤلاء لم يفهموا من كلمة “الآية” إلا الآية من القرآن الكريم، ويبدو أنّه لم يخطر في بالهم معنى آخر. ولنأخذ، على سبيل المثال، تفسير الطبري الذي ينقل لنا في العادة نصوص المفسّرين الأوائل من الصحابة والتابعين([26])، فعادة الطبري أن يذكر التأويلات المختلفة للآية عند الأجيال الأولى من المفسّرين، غير أنّه في هذه الآية لم ينقل غير وجهة نظرٍ واحدة، وهذا يؤكّد أنّهم لم يفهموا شيئاً آخر غير النسخ هنا. كما لا يقتصر هذا الأمر على الرواية أو الأثر السنّي، بل نجد في الموروث الإمامي ما يؤكّد ذلك وإن كان حجمه أقلّ بكثير، مثل الرواية في التفسير المنسوب إلى عليّ بن إبراهيم القمي([27]). وما ينقله الطبرسي ـ يتبعه غيرُه مثل العلامة المجلسي ـ عن ابن عباس كذلك([28]). كما نقلت كتب أسباب النزول ما يشهد لهذا الأمر، فراجع الواحدي النيسابوري([29]).
العنصر الداخلي: وهو يظهر بالانتقال من الفضاء التاريخي إلى داخل النصّ القرآني، حيث نلاحظ أنّ ما يعزّز ذلك ويحصر تفسير هذه الآية بالنسخ نفسه هو السياق كذلك، فإنّ الآيتين اللاحقتين واضحتان في ربط القضيّة بالنصّ القرآني، وأنّ عمليّة التبديل بين الآيات كانت سبباً في اتهام النبيّ بالافتراء، وأنّ ما يأتي به ليس من عند الله تعالى بل من نفسه أو تعليم بشرٍ له، كما أنّ النسخ في اللغة يتضمّن الإزالة، والتبديل ضرب من الإزالة لغةً ، مضافاً إلى ذلك جواب القرآن فوراً بأنّ الله أعلم بما ينزّل، وهذا مرتبط مباشرةً بتنزيل الوحي والكتاب.
كما أنّ آيةً أخرى تساعد على هذا المعنى وهو قوله تعالى: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (يونس: 15)، فقد استخدمت هذه الآية مفردة “التبديل” وعنت به تغيير آية بآية أو القرآن كلّه بغيره، وهذا يعزّز أنّ المراد في الآية هنا هو هذا المعنى نفسه.
تعليقات نقديّة على علاقة آية التبديل بفكرة النسخ
كان هذا هو المشهد الذي أعطى جمهور مفسّري الإسلام صورةً واضحة في دلالة هذه الآية على النسخ، لكن في المقابل، كان لفريق آخر قراءة أخرى لهذه الآية:
أ ـ تفسير ابن بحر الإصفهاني المعتزلي لآية التبديل
يظهر تفسير أبي مسلم الإصفهاني لهذه الآية فيما نقله عنه الفخر الرازي قائلاً: «قد ذكرنا أنّ مذهب أبي مسلم الأصفهاني أنّ النسخ غير واقع في هذه الشريعة، فقال المراد ههنا: إذا بدّلنا آية مكان آية في الكتب المتقدّمة، مثل أنّه حوّل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، قال المشركون: أنت مفترٍ في هذا التبديل. وأمّا سائر المفسّرين فقالوا: النسخ واقعٌ في هذه الشريعة»([30]).
فأبو مسلم اعتبر أنّ التبديل هنا شرائعي وليس داخل الشريعة الإسلاميّة، فكأنّ اليهود عندما كان يغيّر تشريعاتهم كانوا ينتقدونه بأنّ هذا افتراء منه، ولعلّه لهذا تمّ استخدام مفردة الروح القدس والتي لها حضور أيضاً في التراث اليهودي كالمسيحي، مع اختلافات في المفهوم تراجع في محلّها. وبهذا كيف يمكن لمجوّزي النسخ أن يثبتوا أنّ هذه الآية لها علاقة بالنسخ داخل الشريعة الواحدة؟!
ب ـ قراءة جمال الدين القاسمي لآية التبديل (الانفصال التامّ عن السياق التشريعي)
يقدّم الشيخ جمال الدين القاسمي (1914م) ـ أحد رموز النهضة الإسلاميّة الحديثة في بلاد الشام ـ قراءةً مختلفة تماماً لآية التبديل هنا، حيث يقول: «ذهب قومٌ إلى أنّ المعنى تبديل آية من آيات الأنبياء المتقدّمين، كآية موسى وعيسى وغيرهما من الآيات الكونيّة الآفاقيّة، بآية أخرى نفسيّة علميّة، وهي كون المنزل هدى ورحمة وبشارة يدركها العقل إذا تنبّه لها وجرى على نظامه الفطري. وذلك لاستعداد الإنسان وقتئذٍ لأن يخاطب عقله ويستصرخ فمه ولبّه، فلم يؤتَ من قِبَل الخوارق الكونيّة ويدهش بها كما كان لمن سلف، فبدّلت تلك بآية هو كتاب العلم والهدى من نبيّ أمّيّ لم يقرأ ولم يكتب.. وهذا التأويل الثاني يرجّحه على الأوّل (المشهور) أنّ السورة مكيّة. وليس في المكّي منسوخ بالمعنى الذي يريدونه، وللبحث تفصيل في موضع آخر.. والمقصود أنّه تعالى، لما رحم العالمين وجعل القرآن مكان ما تقدّم، نسبوا الموحى إليه به إلى الافتراء، ردّاً للحقّ وعناداً للهدى وتولّياً للشيطان وتعبّداً لوسوسته، وما ذاك إلا لجهلهم المتناهي، كما قال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. واعتراض قوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم»([31]).
ينطلق القاسمي في فكرته ـ التي نسبها لقومٍ لم يذكر من هم ـ من أنّ التبديل هنا هو في نوع الآية التي يمنحها الله لنبيّه؛ فسابقاً كانت الآية ذات طابع كوني، بينما تحوّل الأمر في النبوّة المحمّدية إلى طابع عقلي معرفي، فلم يعد هناك عصا تتحوّل إلى ثعبان أو بحر ينشطر إلى شطرين أو ميّت يتمّ إحياؤه، بل صارت الآية ذات بعد لغوي معرفي عقلي؛ لأنّ البشر تسامت عقولهم، فصاروا مؤهّلين لآياتٍ من هذا النوع.
ولكي أحلّل مقاربة القاسمي ونفهم أكثر من هم القوم الذين قصدهم، يجب علينا أن نستعيد الطروحات المتأخّرة لفكرة ختم النبوّة، وذلك أنّ هناك أكثر من اتجاه في تحليل الخاتميّة، أبرزها:
الاتجاه الأوّل: وهو الاتجاه المدرسي الموروث الذي يرى أنّ سبب الخاتميّة ومبررها وفلسفتها هو أنّ النبوّات السابقة كانت تغطّي حاجات الإنسانيّة بشكل محدود، بينما النبوّة المحمّديّة جاءت بما يغطّي حاجات الإنسانيّة إلى ما لا نهاية، الأمر الذي فرض منطق الخاتميّة.
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي لا يدرس الخاتمية من خلال قدرة النبوّات على رفع حاجات البشر عبر التمييز بين النبوّة المحمّدية وما سبقها، بل يدرس الخاتميّة على أساس سبب ظهور النبوّة أصلاً في حياة الإنسان، فالنبوّة تكمن فلسفة وجودها في عدم بلوغ البشر المستوى العقلي المنشود الذي يمكّنهم من الاستمرار في مسير الكمالات بشكل ناضج، ولهذا كانت النبوّات تتالى في حياة البشر، بينما في العصر المحمّدي كانت البشرية قد بلغت مرحلة النضج والرشد العقلي وتجاوزت مرحلة الطفولة، فصار العقل الإنساني قادراً على حمل الدين الخاتم وفهمه والعمل عليه وتطبيقه. وداخل هذا الاتجاه توجد مقولات مختلفة وشخصيّات متعدّدة وقع خلاف في تفسير نظريّاتها أصلاً، وعلى رأس هؤلاء: محمّد إقبال (1938هـ)، وعلي شريعتي، ومرتضى مطهري وغيرهم ممّن شارك في تقوية أو نقد هذا التوجّه مثل محمد الحسيني البهشتي ومحمّد تقي مصباح اليزدي وغيرهما.
بعد هذا التمهيد، يمكنني فهم الشيخ القاسمي أكثر، فهو يفكّر هنا في سياق طروحات ختم النبوّة، مطّلعاً فيما يبدو على بدايات الحديث عن هذا الموضوع، والذي ربما يقال بأنّه شرع في شبه القارّة الهنديّة نهايات القرن التاسع عشر الميلادي. فيريد القاسمي أن يقول بأنّ العقل الإنساني بلغ في عصر النبوّة المحمديّة مرحلة نضج عالية بحيث صار مؤهّلاً لأن يخاطَب بالكلمة بدل الحدث الكوني، ولهذا كانت النبوّة المحمديّة نبوّةَ كلمة ومعجزةَ كلمة، والكلمة هي اللغة والعقل والفهم والإدراك، هذا التحوّل حصل في عصرٍ برزخي ـ إذا صحّ التعبير ـ وهو العصر المحمدي، فاستغربه بعض الناس ورفضوه، وقالوا بأنّ النبوات آياتها وبيّناتها كونيّة خارقة، من هنا تأتي هذه الآية ـ أعني آية التبديل ـ لتؤكّد أنّ تبديل الله لآيةٍ كونيّة بآية معرفيّة لا يمكن تفسيره في سياق افتراء محمّد، بل هو في سياق معرفة الله العالِم بكلّ شيء، والذي عرف أنّ البشريّة أخذت تعبر برزخ الواسطة بين العقل الطفولي والعقل الراشد.
وربما يعزّز القاسميُّ كلامَه هذا بالرفض القرآني المتكرّر لتقديم معجزات كونية ماديّة، وهو ما أثار بعضَ مفكّري شبه القارّة الهنديّة في القرنين: التاسع عشر والعشرين، وتبعهم غيرهم، والذين رفضوا وجود معجزة أخرى لمحمّد غير القرآن الكريم. قال تعالى: (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت: 50 ـ 51)، فهذا التأكيد القرآني يعزّز موقف القاسمي من فكرة التحوّل من الآية الكونيّة إلى الآية المعرفيّة أو آية الكلمة. بل يمكن أن نضيف بأنّ القاسمي قد يعزّز موقفه في أنّ المراد التحوّل في نوعيّة الآيات الآتية مع الأنبياء بقوله تعالى في الآية الأخرى من آيات وقوع النسخ والتي سوف نتحدث عنها إن شاء الله، حيث قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ * أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) (البقرة: 106 ـ 108)، فإنّ التذييل بالقدرة أقرب لهذا الموضوع منه لموضوع النسخ التشريعي، إضافة للحديث عمّا سُئل موسى من قبل فإنّ مراجعة ما سألوا موسى يعطي أنّ المراد هي الأمور التكوينية كرؤية الله وغير ذلك من مظاهر قوّته.
4 ـ 2 ـ آية النسخ والإنساء
تعتبر هذه الآية من أكثر الآيات القرآنيّة أهميّةً في موضوع النسخ عند القائلين به، قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 106).
ولابدّ لنا بدايةً من عرض المشهد القائم في التراث الإسلامي حول هذه الآية، ثمّ نشرع بالحديث والتعليق. حيث ينقل لنا الطبري وغيره مشهد الآراء الأولى في هذه الآية الكريمة([32]). وبتحليل مشهد الآراء القديمة حول الآية يظهر لنا الآتي:
أوّلاً: على صعيد القراءة
1 ـ قراءة نُنْسِها. 2 ـ قراءة تنسَها خطاباً لرسول الله (قراءة سعد بن أبي وقاص). 3 ـ قراءة نَنسأها، بمعنى التأخير. 4 ـ قراءة نُنسِخ، بمعنى أنّنا ننسخك إيّاها فتكتبها.
ثانياً: على صعيد التفسير
1 ـ فيما يتعلّق بتعبير النسخ، فالظاهر أنّ أقدم التفاسير ترى ثبوت النسخ من خلال هذه الآية، عدا قول من قرأ النسخ بمعنى التدوين، ويبدو شاذاً.
2 ـ فيما يتعلّق بالنسيان أو الإنساء، وهنا:
أ ـ رفع الآية وذهابها من الذاكرة تماماً، وهو ما يعني نسخ التلاوة بأعلى درجاته.
ب ـ الترك، بمعنى معاكس لمعنى النسخ أي نتركها فلا نبدّلها. ويكون هذا المعنى مطابقاً للتأخير.
4 ـ 2 ـ 1 ـ ابن بحر المعتزلي و.. والتأويل بظاهرة النسخ بين الشرائع
أوّل أمرٍ يواجهنا هنا هو طريقة تأويل ابن بحر الإصفهاني لهذه الآية الكريمة، حيث قال فيما نقله الفخر الرازي: «أجاب أبو مسلم عنه بوجوه: الأوّل: أنّ المراد من الآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسبت والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى عنّا وتعبّدنا بغيره؛ فإنّ اليهود والنصارى كانوا يقولون: لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية. الوجه الثاني: المراد من النسخ نقله من اللوح المحفوظ وتحويله عنه إلى سائر الكتب وهو كما يقال: نسخت الكتاب. الوجه الثالث: أنّا بيّنا أنّ هذه الآية لا تدلّ على وقوع النسخ، بل على أنّه لو وقع النسخ لوقع إلى خير منه»([33]).
الإصفهاني يكّرر هنا ما قاله في آية التبديل في مناقشته الأولى، ثمّ يعوّل فيما يبدو على ما نقلناه سابقاً عن نقل الطبري وغيره من تفسير النسخ بالنقل والتدوين، وهذا ما قلنا سابقاً بأنّ بعضهم فسّر نسخ القرآن بأنّ معناه أنّه استنسخ من اللوح المحفوظ، وتمّ نقله إلى بيت العزّة في السماء الدنيا، كما ذكره القرطبي (671هـ)([34]). غير أنّ الإصفهاني يضيف هنا أنّ الجملة مبنيّة على التقدير، بمعنى أنّه لو وقع النسخ فهو يقع إلى ما هو خير.
وقد ذكر الفخر الرازي مناقشاتهم على الإصفهاني، فقال: «ومن الناس من أجاب عن الاعتراض الأوّل بأنّ الآيات إذا أطلقت فالمراد بها آيات القرآن؛ لأنه هو المعهود عندنا. وعن الثاني بأنّ نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختصّ ببعض القرآن، وهذا النسخ مختصّ ببعضه، ولقائل أن يقول على الأوّل: لا نسلّم أنّ لفظ الآية مختصّ بالقرآن، بل هو عام في جميع الدلائل. وعلى الثاني: لا نسلّم أنّ النسخ المذكور في الآية مختصّ ببعض القرآن، بل التقدير ـ والله أعلم ـ ما ننسخ من اللوح المحفوظ فإنّا نأتي بعده بما هو خير منه»([35]).
ويظهر من الشيخ محمّد جواد البلاغي (1352هـ) أنّ هذه الآية لا علاقة لها بنسخ القرآن بعضه بعضاً، فهو يسوقها في حديثه عن نسخ الكتب السابقة بالقرآن، ويفسّر الإنساء والنسيان بالعوارض التي طرأت على بعض آيات الكتب السابقة فبعضها صار نسياً منسيّاً، ولو بسبب التحريفات أو غيرها، ويختم تفسيره بقوله: «ولا مصداق لهذه الآية في آيات القرآن بعضها مع بعض»([36]).
وهذا ما يظهر أيضاً من السيّد مرتضى العسكري (2007م)، حيث قال: «إنّ معنى ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ: ما ننسخ من حكم ـ مثل حكم القبلة والعيد في يوم السبت ـ من كتاب موسى× التوراة، أو كتاب عيسى× الإنجيل، نأت بخير منه، حكم استقبال الكعبة في القرآن الكريم والعيد في يوم الجمعة، في الكتاب وسنّة الرسول‘.. أمّا نُنْسِها فإمّا أن يكون من مادّة أنساها ينسيها أو من أنسأها ينسئها. وإذا كان من مادّة (أنساها) يتضح معناها بعد التنبّه على أنّ الله سبحانه أرسل عشرات الألوف من الأنبياء في أمم أبيدت وانقرضت ممّن لم ترد أسماؤهم في القرآن، ولم يذكر الله أخبارهم فيه، وإنّما ذكر الله في القرآن أسماء بعض أنبياء بني إسرائيل والعرب الذين عاشوا في المنطقة ـ الجزيرة العربيّة ـ وما حولها. وذكر بعض قصصهم وأنسى قصص سائر الأنبياء.. وعلى هذا يكون معنى أَوْ نُنْسِها ما ننس ممّا في كتب السابقين، مثل كتاب شيث وغيره، نأت بخير منها وأكمل، مثل ما في القرآن وشريعة خاتم الأنبياء. وإذا كان من مادّة (ينسئها) وأنسأه ينسئه، أي: أجّله وأخّره.. يكون المعنى: والحكم نؤخّر تبليغه بما فيه خير للناس في ذلك الزمان مثل تأخير تبليغ نسخ حكم استقبال بيت المقدس إلى هجرة الرسول‘ إلى المدينة. وهذا المعنى هو المراد من (ننسها) وليس المعنى الأوّل. يفهم العربيّ اللبيب بذوقه السليم ما ذكرناه إذا اقتصر على ما جاء في كتاب الله لدرك معناه. وإذا رجعنا إلى كتب التفسير، وجدناهم يعملون ما يأتي: أوّلاً: يقتطعون الآية من مكانها في المجموعة الواحدة من الآيات ذات السياق الواحد. ثانياً: يجرون على الآية الكريمة أنواع التبديل والتحوير بحسب اجتهادات المفسّرين، مفسرين وقرّاء بعنوان اختلاف القراءات. ثالثاً: يعتمدون لفهم معنى الآية الأحاديث المرويّة في باب نسخ التلاوة..»([37]).
4 ـ 2 ـ 2 ـ الآيات بما هي دلائل النبوات، محاولة ابن عربي ومحمد عبده
بعيداً عن تفسير ابن بحر المعتزلي الذي رأينا إمكانه الأوّلي في نفسه، نتّجه نحو تفسيرٍ آخر بدأ يقوى في العصر الحديث، وبخاصّة نتيجة اختيار الشيخ محمّد عبده له، فقد ذهب عبده في تفسيره إلى أنّ الآيات التي تتحدّث الآية هنا عن نسخها أو نسيانها ليس المراد منها الآيات القرآنيّة أو الكتابيّة، بل المراد الآيات التي يرسلها الله مع أنبيائه بوصفها دلائل على نبوّتهم.
يظهر هذا القول في إشارة يقدّمها لنا ابن عربي في الفتوحات ـ في حين يبدو في تفسير القرآن الكريم المنسوب إليه متماشياً مع المشهور([38]) ـ حيث يقول: «ما ننسخ من آية يقول من علامة، أو ننسها يقول أو نتركها، يعني نتركها آية للأولياء، كما كانت آية للأنبياء، نأت بخير منها من باب المفاضلة أي بأزيد منها في الدلالة، وهي آيات الإعجاز، فلا تكون إلا لأصحابها أو لمن قام فيها بالنيابة على صدق أصحابها، فلا يكون لوليّ قطّ هذه العلامة من حيث صحّة مرتبته. وأما قوله: أو مثلها، الضمير يرجع إلى الآية المنسوخة، فلم يكن لها صفة الإعجاز بل هي مثل الأولى. ولا يصح حمل هذه الآية على أنّها آي القرآن التي نزلت في الأحكام، فنسخ بآية ما كان أثبت حكمه في آية قبلها؛ فإنّ الله ما قال في آخر هذه الآية لم تعلم أنّ الله عليم خبير ولا حكيم. ومثل هذه الأسماء هي التي تليق بنظم القرآن الوارد بآيات الأحكام، وإنّما قال الله تعالى: ألم تعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير، فأراد الآيات التي ظهرت على أيدي الأنبياء ـ عليهم السلام ـ لصدق دعواهم في أنّهم رسل الله، فمنها ما تركها آية إلى يوم القيامة كالقرآن، ومنها ما رفعها ولم تظهر إلى يوم القيامة..»([39]).
وقال محمّد عبده: «والمعنى الصحيح الذى يلتئم مع السياق إلى آخره أنّ الآية هنا هي ما يؤيّد الله تعالى به الأنبياء من الدلائل على نبوّتهم، أي (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) نقيمها دليلاً على نبوّة نبيّ من الأنبياء، أي نزيلها ونترك تأييد نبيّ آخر بها، أو ننسها الناس لطول العهد بمن جاء بها، فإنّنا بما لنا من القدرة الكاملة والتصرّف في الملك نأتي بخير منها في قوّة الإقناع وإثبات النبوّة أو مثلها فى ذلك..ولقد كان من يهود من يشكّك في رسالته× بزعمهم أنّ النبوّة محتكرة لشعب إسرائيل، ولقد تقدّمت الآيات في تفنيد زعمهم هذا، و قالوا (لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) أي من الآيات، فردّ الله تعالى عليهم فى مواضع منها قوله عزّ وجل بعد حكاية قولهم هذا (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) الخ، ومنها هذه الآيات والخطاب فيها للمؤمنين الذين كان اليهود يريدون تشكيكهم كأنّه يقول: إنّ قدرة الله تعالى ليست محدودة ولا مقيّدة بنوعٍ مخصوص من الآيات أو بآحاد منها لا تتناول غيرها، وليست الحجّة محصورة في الآيات السابقة لا تتعدّاها، بل الله قادر على أن يأتي بخيرٍ من الآيات التي أعطاها موسى وبمثلها، فإنّه لا يعجز قدرته شيء، ولا يخرج عن ملكه شيء، كما أنّ رحمته ليست محصورة فى شعبٍ واحد فيخصّه بالنبوّة، ويحصر فيه هداية الرسالة، كلا إنّ رحمته وسعت كلّ شيء، كما أنّ قدرته تتصرّف بكلّ شيء من ملك السموات والأرض الذي لا يشاركه فيه مشارك، ولا ينازعه فيه منازع، فيكون وليّاً ونصيراً لمن كفر بنعمه وانحرف عن سننه. أنظر كيف أسفرت البلاغة عن وجهها في هذا المقام فظهر أنّ ذكر القدرة وسعة الملك إنّما يناسب الآيات بمعنى الدلائل دون معنى الأحكام الشرعيّة والأقوال الدالّة عليها من حيث هي دالّة عليها، لا من حيث هي دالّة على النبوّة..»([40]).
هذا التحليل يخرج الآية عن السياق التشريعي تماماً، بصرف النظر عن نسخ الشرائع وداخل الشريعة الواحدة.
خاتمة
حاولنا أن ندرس هنا الاحتمالات الثلاثة التي يمكن إثارتها في أن تكون هي مقصود الذين منعوا النسخ في التاريخ الإسلامي (النسخ الشرائعي، النسخ داخل الشريعة الواحدة، النسخ داخل القرآن). ثمّ أن نرى منطلقات الذين تحفّظوا عن النسخ داخل القرآن والتي تراوحت بين استلزامه التناقض (لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا) (النساء:82)، أو لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أو القرآن بطبعه دستور والدستور لا يمكن أن يقبل النسخ. ثم عرجنا على كيفيّة فهم هذا الفريق المخالف للمشهور ولإجماع المسلمين ـ قبل القرن العشرين ـ الآيات التي اعتُبرت عبر قرون عديدة أنّ دلالتها واضحة في النسخ، ورأينا أنّهم قدّموا لها فهماً مختلفاً من خلال ربطهم للشريعة الإسلامية بالشريعة التي قبلها (محاولة الإصفهاني) فاعتبر المنسوخ الشريعة السابقة محرّراً بذلك الشريعة الإسلامية من المنسوخ، أو إخراج مفهوم الآية في (وَإِذَا بَدَّلْنَا آَيَةً مَكَانَ آَيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (النحل: 101) و (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) (البقرة: 106) من إطار الفقه والشريعة إلى إطار دلائل النبوة والمعاجز والبينات التي يبعثها الله مع الأنبياء (ابن عربي، جمال الدين القاسمي، محمد عبده).
الهوامش
([1]) هذا تقرير لمحاضرتين ألقاهما الشيخ الدكتور حيدر حبّ الله، في مرفأ حوار، عبر تطبيق زووم، وذلك بتاريخ (16 ـ 23) ـ 5 ـ 2023م. وقد ساعد في تدوين هذا التقرير فضيلة السيد أيمن عبد الزهرة الموسوي، ثم راجعه الشيخ حبّ الله وأجرى بعض التعديلات والإضافات.
([2]) القرطبي، الجامع لأحكام القرآن 2: 62.
([4]) جاءت عدة روايات صحيحة السند عند السنّة والشيعة تصرح بأن آية الشيخ والشيخة كانت جزءاً من القرآن، وقد نسخت تلاوتها، منها ما أورده الكليني في (الكافي 7: 177) عَن يُونُسَ، عَن عَبدِ اللهِ بنِ سِنَانٍ، قَالَ: قَالَ أَبُو عَبدِ اللهِ×: «الرَّجمُ فِي القُرآنِ قَولُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا زَنَى الشَّيخُ وَالشَّيخَةُ فَارجُمُوهُمَا البَتَّةَ فَإِنَّهُمَا قَضَيَا الشَّهوَةَ». وكذلك ما أورده الصدوق في (كتاب من لا يحضره الفقيه 4: 26)، عن هشام بن سالم، عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله×: في القرآن رجم؟ قال: «نعم»، قلت: كيف؟ قال: «الشيخ والشيخة فارجموهما البتة فإنّهما قضيا الشهوة». وفي صحيح البخاري «قَالَ عُمَرُ: لقَدْ خَشِيتُ أنْ يَطُولَ بالنَّاسِ زَمَانٌ، حتَّى يَقُولَ قَائِلٌ: لا نَجِدُ الرَّجْمَ في كِتَابِ اللَّهِ، فَيَضِلُّوا بتَرْكِ فَرِيضَةٍ أنْزَلَهَا اللَّهُ..».
([5]) المنسوب إلى متأخّري المسيحيّين هو القول بامتناع النسخ عقلاً وسمعاً.
([6]) يقول أبو الفتح الشهرستاني: «نُسبوا إلى رجل، يقال له: عنان بن داود، رأس جالوت، يخالفون سائر اليهود في السبت والأعياد، وينهون عن أكل الطير والظباء والسمك والجراد، ويذبحون الحيوان على القفا، ويصدّقون عيسى× في مواعظه وإشاراته، ويقولون: إنّه لم يخالف التوراة البتّة، بل قرّرها ودعا الناس إليها، وهو من بني إسرائيل المتعبّدين بالتوراة، ومن المستجيبين لموسى×، إلا أنّهم لا يقولون بنبوّته ورسالته. ومن هؤلاء من يقول: إنّ عيسى× لم يدّع أنّه نبيٌّ مرسَل، وليس من بني إسرائيل، وليس هو صاحب شريعة ناسخة لشريعة موسى×، بل هو من أولياء الله المخلصين العارفين بأحكام التوراة. وليس الإنجيل كتاباً أُنزل عليه وحياً من الله تعالى، بل هو جمع أحواله من مبدئه إلى كماله، وإنّما جمعه أربعة من أصحابه الحواريين، فكيف يكون كتاباً منزَلاً؟! قالوا: واليهود ظلموه حيث كذّبوه أولاً، ولم يعرفوا بعدُ دعواه، وقتلوه آخراً، ولم يعلموا بعدُ محلّه ومغزاه. وقد ورد في التوراة ذكر المشيحا في مواضع كثيرة، وذلك هو المسيح، ولكن لم ترد له النبوّة ولا الشريعة الناسخة، وورد فارقليط وهو الرجل العالم، وكذلك ورد ذكره في الإنجيل، فوجب حمله على ما وجد، وعلى من ادّعى غير ذلك تحقيقه وحده» (الملل والنحل 1: 215).
([7]) انظر: كشف الأسرار شرح أصول البزودي 3: 157.
([8]) انظر: تمهيد الأوائل: 96.
([9]) قال الشهرستاني: «نُسبوا إلى أبي عيسى إسحاق بن يعقوب الإصفهاني. وقيل: إنّ اسمه عوفيد الوهيم، أي عابد الله، كان في زمن المنصور وابتدأ دعوته في زمن آخر ملوك بني أميّة مروان بن محمد الحمار، فاتّبعه بشرٌ كثير من اليهود، وادّعوا له آيات ومعجزات.. زعم أبو عيسى أنّه نبيّ وأنّه رسول المسيح المنتظر، وزعم أنّ للمسيح خمسة من الرسل، يأتون قبله واحداً بعد واحد. وزعم أنّ الله تعالى كلّمه وكلّفه أن يخلّص بني إسرائيل من أيدي الأمم العاصين والملوك الظالمين.. وحرّم في كتابه الذبائح كلّها ونهى على أكل كلّ ذي روح على الإطلاق طيراً كان أو بهيمة.. وخالف اليهود في كثير من أحكام الشريعة الكثيرة المذكورة في التوراة..» (الملل والنحل 1: 215 ـ 216).
([10]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: الحلّي، كشف المراد: 486.
([12]) سفر الخروج 31: 12 ـ 17.
([13]) انظر ـ على سبيل المثال ـ: القاسمي، محاسن التأويل 1: 25؛ والخوئي، البيان: 279 ـ 280؛ ومصطفى ديب البغا ومحيي الدين ديب مستو، الواضح في علوم القرآن: 141.
([15]) إرشاد الفحول إلى تحقيق الحقّ من علم الأصول: 185.
([16]) الفهرست: 210؛ وابن شهر آشوب، معالم العلماء: 133؛ والحرّ العاملي، أمل الآمل: 236.
([17]) النجاشي، الفهرست: 388؛ وابن النديم، الفهرست: 246.
([19]) انظر: النسخ في القرآن الكريم: 277.
([20]) الجصّاص، أحكام القرآن 1: 71. والظاهر أنّ السير أحمد خان بهادر كان يرى الرأي نفسه.
([21]) انظر ـ على سبيل المثال ـ مصطفى زيد، النسخ في القرآن الكريم: 50 ـ 51؛ ونادية شريف العمري، النسخ في دراسات الأصوليّين: 86.
([22]) انظر ـ على سبيل المثال ـ الأسنوي، شرح منهاج الأصول 3: 170؛ والتقرير والتحبير 3: 44 ـ 45؛ وتقرير الشربيني على حاشية البناني 2: 91.
([23]) انظر له: أصول الفقه: 185.
([24]) الجصّاص، أحكام القرآن 1: 71.
([26]) جامع البيان 14: 230 ـ 231.
([28]) انظر: مجمع البيان 6: 200؛ وبحار الأنوار 9: 117.
([29]) الواحدي، أسباب النزول: 21.
([30]) التفسير الكبير 20: 116؛ وسعيد الأنصاري، ملتقط جامع التأويل لمحكم التنزيل: 65.
([31]) محاسن التأويل 6: 408 ـ 409.
([32]) جامع البيان 1: 665 ـ 672؛ ومجمع البيان 1: 337 ـ 342؛ وتفسير مجاهد 1: 85؛ وتفسير مقاتل بن سليمان 1: 70؛
([34]) الجامع لأحكام القرآن 2: 62.
([36]) آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 114 ـ 115. ولعلّ عبارته هذه تعطي نفيه وجود منسوخ أساساً في القرآن الكريم.
([37]) القرآن الكريم وروايات المدرستين : 300 ـ 301.
([38]) تفسير القرآن الكريم 1: 68 ـ 69.