أحدث المقالات

بين اللبنانية والمصرية

د. حميد احمديان(*)

  أ. علي سعيداوي(**)

مقدمة ــــــ

ألقى السلطان العثماني ستاره على كثير من البلدان العربيّة وظل قروناً طويلةً يحوطها من كل جانب، ما سبَّب لها انحطاطاً واسعاً شمل كل جوانب حياتها، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلميّة والأدبية. وما يعنينا في هذا المقال هو الجانب الأدبي بشكلٍ عام، ومنه النثر بنحوٍ خاصٍّ. أصيب النثر في هذه الفترة الطويلة من حياة الأمة العربية ـ كغيره من الفنون الأدبية ـ بشلل شبه تام، ولكن مع حلول القرن التاسع عشر، وإثر تحولات طرأت على العالم العربي، عادت الحياة تدبّ من جديد في النثر العربي، وأخذ يفيق شيئاً فشيئاً من سباته العميق، منطلقاً نحو الأمام؛ متعثراً تارة؛ وقافزاً تارة أخرى، حتى بلغ قمة ازدهاره في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر. وهنا نتساءل: كيف تمّ هذا التحول للنثر العربي؟ وكيف تخلص مما كان فيه من شلل؟ ومَنْ هي الشخصيات التي كان لها دور في هذا المجال؟  وهذا ما سنبيِّنه في هذا المقال.

1ـ نظرة إلى تأريخ النثر العربي ـــــــ

لم يصل إلينا من النثر الجاهلي ـ على كثرته ـ إلا ما علق في أذهان الرواة من نفائس الخطب والأمثال، وشيءٌ من سجع الكهان. ومن الواضح أن النثر أسبق من الشعر في الوجود؛ وذلك لأن النثر ليس إلا ترقيماً لما يتبادل بين الناس من كلام. إذاً لا نستطيع أن نرضخ بسهولة لقول القائل: إن العرب لم يعرفوا النثر الفني قبل الإسلام، ولابد أنه كانت هناك استعمالات واسعة للنثر، ككتابة العقود، وتبادل الرسائل بين القبائل.

وعلى أية حال إنّ ما وصل إلينا من النثر الجاهلي لا يعدو ما ذكرناه. ومن خصائصه أنه خالٍ من التأنق والتعقيد، جارٍ مع الطبع البدوي الساذج، قويّ اللفظ، متين التركيب، قصير الجملة، موجز الأسلوب. وهذا ما حدا بالدكتور شوقي ضيف أن يسمّي هذا النوع من الكتابة بمذهب الصنعة. وإليك مثالاً من خطيب الجاهلية قِسّ بن ساعدة: «أيها الناس، اجتمعوا واسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت،… آيات محكمات، مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبرّ وآثام، ولباس ومركب، ومطعم ومشرب»([1]).

ولما ظهر الدين الحنيف ظهرت صفحة جديدة في النثر العربي. اتسعت الخطابة في العصر الإسلامي اتساعاً شديداً، متأثرةً بالحوادث الدينيّة والسياسية التي كانت قد طرأت على العالم العربي آنذاك. كما كثر استعمال الكتابة الفنّية في هذا العصر، وأخذت ترقى وتنضج؛ بفضل الدين الجديد، وامتزاج العرب مع غيرهم من الأمم. ولكن مع كل هذه التحولات ظل مذهب الصنعة مسيطراً على النثر العربي، ولم يتحلَّل من قيوده، فانظر إلى هذا المقطع من رسالة لعبد الحميد الكاتب، ولاحظ أن خصائص النثر عنده لا تكاد تعدو النثر الجاهلي: «الحمد لله العليّ مكانه، المنير برهانه، العزيز سلطانه، الثابتة كلماته، الشافية آياته، الذي قدر على خلقه بملكه، وعزّ في سماواته بعظمته، دبَّر الأمور بعلمه، وقدّرها بحكمه على ما يشاء من خلقه»([2]).

ظهرت في العصر العباسي طائفة من الكتاب تعنى بالمؤلَّفات الطويلة المفصَّلة؛ إما ترجمةً، كابن المقفع؛ وإما تأليفاً، كسهل بن هارون، والجاحظ، وقد التزم هؤلاء مذهب الصنعة أيضاً. ولكننا عندما ننتقل إلى كتّاب الدواوين في هذا العصر نجدهم قد أبدعوا أسلوباً جديداً في الكتابة يعنى عناية بالغة بالزخرف والتأنق، وأطلق الدكتورشوقي ضيف على هذا النوع من الكتابة مذهب التصنيع؛ لاعتماده بشكل كبير على السجع والبديع والمحسنات اللفظيّة. استحدث هذا المذهب ابن الحميد، وتبعه جماعة من الكتّاب؛ لموافقته ذوق العصر العباسي الذي يتّسم بالدعة والترف([3]).

ومن هؤلا الكتّاب ابن العميد، الذي تمّ هذا النوع من الكتابة عل يده. وقد جاء في رسالة له: «كتابي إليك وأنا بحال لو لم ينغّصها الشوق إليك، ولم يرنّق صفوها النزوع نحوك، لعدَدْتها من الأحوال الجميلة، وعددتُ حظّي منها في النِّعم الجليلة، فقد جمعت فيها بين سلالة عامة ونعمة تامة»([4]).

وظهر في أواخر القرن الرابع؛ وفقاً لما وصلت إليه الحضارة العربيّة من رقيّ وتعقيد، مذهب جديد في النثر العربي، يقوم على تصعيب طرق الأداء والتعبير وتعقيدها، حتى صار هذا النوع من الكتابة عند بعض الأدباء غاية تقصد لذاتها. ظهرت طلائع هذا المذهب، الذي سماه شوقي ضيف بمذهب التصنُّع، في كتابات الخوارزمي، وبديع الزمان؛ وبلغ أوجه في مؤلَّفات أبي العلاء المعري([5]). وإليك مثالاً من رسالة الغفران لأبي العلاء: «وقد وصلت الرسالة التي بحرُها بالحكم مسجور، ومَنْ قرأها مأجور، إذ كانت تأمر بتقبل الشرع، وتعيب من ترك أصلاً إلى فرع، وغرقتُ في أمواج بِدَعها الزاخرة، وعجبتُ من اتساق عقودها الفاخرة، ومثلها شفع ونفع، وقرّب عند الله ورفع([6]). ظل مذهب التصنع يحتكر صناعة النثر في البلاد العربيّة والإسلاميّة، ولم يظهر إلى الوجود مذهب بعده، بل كل من جاء بعد أبي العلاء من الكتّاب لم يكن إلاّ مقلّداً لمن سبقوه، وخمدت جذوة الإبداع عند أدباء العرب، واستمرّ النثر ينتقل من أديب مقلِّد إلى آخر أسوأ منه، حتى  وصل إلى الحضيض في العصر العثماني([7]). هذا واقع النثر العربي في تاريخه الطويل، ولكنّا بالرغم من ذلك نرى كتّاباً ظهروا في عصر الانحطاط قد خرجوا على الأطوار السائدة، وألَّفوا كتباً مرسلةً خالية من التعقيد والصناعات اللفظية، بل كانوا دعاةً لتجديد النثر. ومن هؤلاء الكتّاب ابن خلدون، ومقدمته كلها تشهد له بالبيان والوضوح. ومن ثورته على هذا النثر المعقّد ما جاء في مقدمته: «وقد استعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في المنثور، من كثرة الأسجاع، والتزام التقفية، وتقديم النسيب بين يدي الأغراض. والمنثورُ إذا تأملْته من باب الشعر وفنّه، ولم يفترقا إلا في الوزن. واستمر المتأخِّرون من الكتّاب على هذه الطريقة، واستعملوها في المخاطبات السلطانيّة، وقصروا الاستعمال في هذا المنثور كله على هذا الفنّ الذي ارتضوه، وخلطوا الأساليب فيه، وهجروا المرسل وتناسوه، وخصوصاً أهل المشرق. وصارت المخاطباتُ السُّلطانيَةُ لهذا العهد عند الكتّاب الغُفلِ جارية على هذا الأسلوب الذي أشرنا إليه، وهو غيرُ صوابٍ من جهة البلاغةِ؛ لما يُلاحَظ في تطبيق الكلام على مقتضى الحال، من أَحوال المخاطَبِ والمخاطِبِ. وقد أدخل المتأخِّرون في هذا الفنُّ المنثورُ المقفّى أَساليبَ الشعر، فوجب أَن تنزه المخاطباتُ السّلطانيَّة عنه؛ إذ أساليب الشعر تُباح فيها اللوذعية (الإتيان بالغريب)، وخلط الجدّ بالهزل، والإطناب في الأوصاف، وضرب الأمثال، وكثرة التشبيهات والاستعارات، حيث لا تدعو لذلك كله ضرورة في الخطاب. إن التزام التقفية أيضاً من اللوذعَة والتزيين، وجلالُِ الملك والسلطان عن خطاب الجمهور المملوك بالترغيب والترهيب يُنافي ذلك ويباينُهُ، والمحمودُ في المخاطبات السلطانية الترسّل، وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيعٍِ إلا في الأقل النادر، وحيث تُرسِلُهُ الملَكةُ إرسالاً من غير تكلف له، ثم عطاءُ الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فإنَّ المقامات مختلفة، ولكل مقامٍ أسلوب يخصّهُ من إطناب أوحذفٍ أو إثباتٍ أو تصريحٍ أو إشارةٍ أوكنايِةٍ أواستعارة»([8]). وهذه الأسجاع إن دلت على شيءٍ لا تدلّ‌ إلاّ على عجز الكاتب وبعده عن البلاغة، فيحاول الكاتب أن يغطي ضعفه بهذه الأسجاع، كما أشار إليه ابن خلدون: «وأما إجراء المخاطبات السطانية على هذا النحو، الذي هو على أساليب الشعر، فمذمومٌ، وما حمل‌ عليه أهله إلا استيلاء العجمة على ألسنتهم، وقصورهم  عن إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فعجزوا عن الكلام المرسل لبعد أمده في البلاغة، وانفساح خطوته، وولعوا بهذا المسجَّع، يلفِّقون به ما نقصهم من تطبيق الكلام على المقصود، ومقتضى الحال فيه، ويجبرونه بذلك القدر من التزيين بالأسجاع ‌والألقاب البديعيَّة، ويغفلون عما سوى ذلك. وأكثرُ مَنْ أخذ بهذا الفن وبالغ فيه في سائر أنحاء كلامهم كتَّاب المشرق وشعراؤه لهذا العهد، حتى أنَّهم ليُخِلّون بالإعراب في الكلمات والتصريف، إذا دخلت لهم في تجنيسٍ أو مطابَقَةٍ، لا يجتمعان معها، فيرجِّحون ذلك الصنف من التجنيس، ويَدَعون الإعراب، ويفسدون بنية الكلمة عساها تصادف التجنيس»([9]).

ومن هؤلاء الثوار على النثر المصنوع القلقشندي، صاحب «صبح الأعشى في صناعة الإنشا». تجنّب القلقشندي الإسجاع والترصيع والولوع بالبديع، وتخلّى عن التعقيد، إلاّ نادراً. فكتابه «صبح الأعشى» أكثره مرسل، إلا النادر القليل، كمقدمة الكتاب التي جاءت مسجعة. فما نذكره دليلٌ على إرساله وشاهد على أن النثر لم يندثر تماماً في هذا العصر كما يظن. قال: «لا مِرْيةَ في أن اللغة هي رأسُ مال الكاتب، وأُسّ كلامه، وكَنْز إنفاقه؛ من حيث إن الألفاظ قوالب للمعاني التي يقع التصرُّف فيها بالكتابة، وحينئذ يحتاج إلى طول الباع فيها، وسعة الخَطو، ومعرفة بسائطها، من الأسماء والأفعال والحروف، والتصرّف في وجوه دلالتها الظاهرة والخفية؛ ليقتدر بذلك على استعمالها في محالّها، ووضعها في مواضعها اللائقة بها، ويجد السبيل إلى التوسُّع في العبارة عن الصور القائمة في نَفْسه، فيتَّسع عليه نطاقُ النُّطْق، ويَنْفَسِح له المَجَالُ في العبارة، ويَنْفَتِح له باب الأوصاف في ما يحتاج إلى وصفه، وتدعو الضرورة إلى نعمته، فيستظهر على ما ينشئه، ويُحيط علماً بما يَذَرُه ويأتيه؛ إذ المعاني، وإنْ كانت كامنةً في نفْس المعبِّر عنها، فإنما يقوى على إبرازها وإبانتها مَنْ توفَّر حظُّه من الألفاظ، واقتداره على التصرُّف فيها»([10]).

وحتى الأبشيهي، صاحب كتاب «المستطرف»، بالرغم من الضعف الذي نشاهده في نثره، كان أسلوبه مرسلاً واضحاً خالياً من التعقيد. وهذا يدل على أن النثر لم يندثر. فانظر إلى قوله في العدل: «اعلم ـ أرشدك الله ـ أن الله تعالى أمر بالعدل، ثم علم سبحانه وتعالى أنه ليس كل النفوس تصلح على العدل، بل تطلب الإحسان، وهو فوق العدل، فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي القُرْبَى}. فلو وسع الخلائق العدل ما قرن الله به الإحسان. والعدل ميزان الله تعالى في الأرض، الذي يؤخذ به للضعيف من القوي، والمحقّ من المبطل. واعلم أن عدل الملك يوجب محبته، وجوره يوجب الافتراق عنه. وأفضل الأزمنة ثواباً أيام العدل. وروينا من طريق أبي نعيم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي‘، أنه قال: «عمل الإمام العادل في رعيته يوماً واحداً أفضل من عمل العابد في أهله مائة عام أو خمسين عاماً»([11]).

ولكن للأسف الشديد يبدو أن هذه الأصوات المنادية بتحرُّر النثر لم تلقَ آذاناً واعية، واستمر النثر في انحداره، حتى وصل إلى ما وصل إليه في العصر العثماني.

2- النثر في العصر العثماني ــــــ

تحولت مصر وكثير من البلدان العربيّة في هذا العصر إلى ولايات يحكمها سلطان الإمبراطورّية العثمانيّة، بعد أن كانت دولاً مستقلة ذات قوة وسيطرة. وكان ذلك إثر حروب قامت بين دولة المماليك في مصر والدولة العثمانيّة، انتهت بسقوط الممالكة، ودخول سليم الأول مصر فاتحاً عام 923هـ (1517م). ولم يقف نصر العثمانيين عند السلطة السياسية، بل طال العلم والأدب أيضاً، حيث نقل السلطان سليم الأول بعد عودته إلى القسطنطنيّة كثيراً من العلماء والأدباء وأصحاب الحرف، كما حمل معه عدداً هائلاً من الكتب والمجلدات. وهكذا فقدت مصر والبلاد العربيّة استقلالها، وتحولت إلى ولايات عثمانيّة يحكمها الولاة الترك، الذين كانت لهم دواوين، واللغة الرسمية فيها هي اللغة التركية لا العربيّة؛ لأن أمراء الدولة العثمانيّة لا يفهمون اللغة العربيّة، ولا يقدِّرونها قدرها، فلم يعد المجال مفتوحاً ليظهر أدباء أمثال: القاضي الفاضل، وابن الشخباء، ومحيي الدين بن الظاهر، وغيرهم من الكتّاب، الذين كانت تنشئهم الدواوين في العصور السابقة. فإذا كان النثر في العصر المملوكي والعصور التي سبقته فيه شيء من القوة والحيويّة فقد أشرف على الموت والانعدام في العصر العثماني([12]).

لقد أصبح النثر العربي في هذا العصر تقليداً للأدباء السابقين فآل إلى الانحدار. وقد جرى الكتّاب في رسائلهم الديوانية والإخوانية على نهج مَنْ سبقهم، وغالوا  في التقليد، دون إمعان في الفكر، فانحدرت الكتابة من علوّها يوم كانت على يد بديع الزمان، والخوارزمي…. فلّما جاء كتّاب هذا العصر ورثوا هذه الطريقة، وجروا على أسلوبها، وبالغوا في التزامها،  فظهر الاستكراه في قولهم، فكنت لا ترى إلاّ سجعةً قلقةً، أو توريةً مستعصيةً، أو جمعاً وتفريقاً، أو لفّاً ونشراً، أو غير ذلك من أنواع البديع، يجمعونها عامدين، وكأنّما يبنون كلامهم عليها، لا على المعنى الذي من أجله خلق التعبير، وقصدت الإبانة([13]).

فإذا كان النثر يرسف في أغلال الصنعة في العصر المملوكي والأيوبي فهو بعيدٌ عن الأخطاء النحويّة والركاكة وضعف التأليف التي تشيع في مؤلَّفات العصر العثماني. وإليك أمثلة من النثر العثماني لنتعرف على حالة النثر العربي في هذا العصر. يقول ابن إياس: «فلما وصلوا إلى باب الحوش كان صحبتهم كراسي حديد عالية، وقصدوا يجلسون عليها بحضرة السلطان، فما مكنوهم الرؤس نوَب من ذلك. ووقع في أيام الأشرف قايتباي مثل ذلك، وطلعوا معهم بكراسي، فما مكّنوهم من الجلوس عليها بحضرة السلطان. فلما وصل هذا القاصد إلى باب الحوش قبّل الأرض، فلما وصل إلى أوائل البساط قبّل الأرض هو ومن معه من أعيان الحبشة، ولم يدخل قُدّام السطان غير سبعة أنفس، والبقيّة لم يدخلوا، فلما قربوا من السلطان قبّلوا الأرض بين يديه ثالث مرة»([14]).

لا يخفى على كلّ من له إلمام باللغة العربيّة ما في هذ النص من أخطاء نحوية، وأن لغة ابن إياس أقرب إلى العاميّة منها إلى الفصحى. والشواهد التي بإمكاننا أن نقدِّمها في هذا المجال كثيرة لا تقع في حيّز العدّ والإحصاء. انظر إلى هذا القول من شهاب الدين العمري ـ وهو من كتاب العصر المملوكي ـ في حياة «داوود بن نصير الطائي» ـ وهو من متصوفة زمانه ـ: «وصل إلى الغاية وبلغها، وتجنب الغواية ومبلغها، تفقه ثم اعتزل، وتنبّه ثم لم يَزَلْ، وقطع مدة البقاء على فرد قدم، وفرّ من الدنيا ولم يداخله ندم، وكان، وشبابه غربيب، وجلبابه ما علق بريح حبيبة ولا حبيب، مُجدٌّ في العلم وطَلبِه، مجدِّد بما يعلم دواعي طربه، يَسْعى إليه ولا يتكبر، ويرعى ما يرد عليه ويتدبر، ثم لما اضطلع من ذلك البحر الرواء انخلع من ذلك الرداء، ولبس رتق الفقراء، المبرأ من الرياء، وطمّ طمعه فانفطم، وأحب الخلوة فكان لا يفارق ظلَّ أطم([15]).

والغريب أنّ شهاب الدين وأمثاله كانوا عارفين بالنثر المرسل، وقد اطلعوا على أعلامه، وقرأوا كثيراً من كتب المرسلين، ولكنهم بالرغم من ذلك قد زجّوا نثرهم في عمايات الأسجاع. من يراجع هذا الكتاب وأمثاله يرى نوعين من النثر: الأول: النثر المسجّع المصنوع، وهو لصاحب الكتاب؛ والثاني: النثر المرسل، لمن نقله المؤلِّف عن غيره من الكتّاب. وعلى سبيل المثال: إن شهاب الدين عندما ذكر قصة «داود بن نصير» المذكورة سابقاً نقل أقوال كثير من الكتّاب في سيرة داود، ومنها: الحكاية التالية التي نقلها من كتاب «مناقب الأبرار ومحاسن الأخيار»، لأبي عبد الله بن نصير، المعروف بابن خميس الموصلي، المتوفّى سنة 553هـ، فيقول: «حكى في «مناقب الأبرار» عن سفيان بن عيينة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال لي الرشيد: أريد ألقى الفضيل بن عياض، لعلّ الله أن يحدثَ لي عظةً أنتفع بها، فقلت له: والله، إنَّ ذلك لحبيب إليَّ، ولكنه رجلٌ أخذ نفسه بخدمة الله تعالى، فما لأحد فيه حظّ، وأكره أن تراه متصوِّفاً في بعض حالاته من عبادة ربه ـ عزّ وجلّ ـ فتوهم عليه جفاء، وإن كنت والله أعرفه الرجل الكريم العِشرَة، الحسن الخُلُق، يُوهم من شاهده من لينه أنه داخلٌ في حكم العامة، فقال لي: ما عزمت على لقائه حتى وطَّنت نفسي على احتمال مشاهدتي أخلاقه. ثم تهيأ الرشيد، ولبس مبطنه، وطيلساناً غطاءً لرأسه، ومعه مسرور الخادم وأنا، فدققتُ الباب، فنزل وفتح، ودخل، ودخلت معه، ووقف مسرورٌ على الباب، فسلَّم عليه الرشيد قائماً، فشمَّ منه رائحة المسك، فقال الفضيل: اللهمَّ، إني أسألك رائحة الخلد التي أعددتها لأوليائك المتقين في جنات النعيم([16]).

ولا أدري لماذا لم يميّز هذا الكاتب بين هذا النثر المرسل الرشيق، الذي نقله عن غيره؟ ولماذا لم يقلده؟ بل زجّ نفسه وأدبه في تلك الأسجاع المتعبة التي لا داعي لها.

3- طلائع التطور في النثر العربي ــــــ

يرى كثير من مؤرِّخي الأدب العربي أن الحملة الفرنسية بقيادة بونابرت على مصر أيقظت العرب من سبات الحكم العثماني، وأن مدافع هذه الهجمة كانت سبباً في إشعال جذوة النهضة العربيّة الحديثة، بل يعتقد البعض أن حملة نابليون كانت علميّة أكثر منها حربيّة([17]).

وهذا الرأي صائبٌ بالنسبة إلى مصر؛ فإن الاحتلال الفرنسي كان سبباً في تأليف المجمع العلميّ المصري على نظام المجمع العلمي الفرنسي عام 1898م، الذي أنشئ لأغراض ثقافية وسياسية، وكان له الفضل الأكبر في إنشاء المدارس الحديثة، وإرسال البعثات العلميّة إلى أوروبا، وإدخال المطابع، ونشر الجرائد.

لكننا عندما نمعن النظر في تاريخ النهضة العربية الحديثة، وحياة أدبائها في بداية مشوارها، نرى أن طلائع التحول في الأدب العربي ظهرت على أيدي الأدباء  اللبنانيين، الذين لم تكن لهم أية صلة بما حدث في مصر إثر الحملة الفرنسية. ولا نوافق الدكتور شوقي ضيف على قوله: «استطاعت مصر في العصر الحديث أن تنهض نهضة واسعة في النثر العربي. وقد بدأت هذه النهضة في القرن التاسع عشر، منذ أرسلت البعوث إلى أوروبا»([18]). ونحن لا نوافق أيضاً على أنّ الكتّاب المعاصرين تعرفوا على النثر العربي بعد حملة نابليون؛ لدليلين:

الأوّل: ما ذكرناه سابقاً من أن النثر العربيّ لم يندثر تماماً تحت وطأه التصنع والتقليد والتعقيد، بل كان هناك مَنْ يكتب بالنثر المرسل، بل وينادي بالتجديد، ويندد بالكتابة المصنوعة.

الثاني: إن الكتّاب اللبنانيين هم الذين نهضوا بالنثر، قبل المصريين، وقبل حملة نابليون بسنوات. وهذا ما قصدناه في هذا البحث. ولكن قبل الولوج في صلب الموضوع؛ ورداً على ما قاله شوقي ضيف نقول: إنّ أول أديب مصري أنتجته هذه البعثات في مصر هو رفاعة الطهطاوي، وهو من مواليد عام 1801م، والمتوفّى سنة 1873م. ومع أنّ رفاعة من سادة النثر المرسل الرشيق في مصر لكنّه لم يحرز قصب السبق في تطّور النثر العربي، ولم يسبق اللبنانيين في النثر، كما تصالح عليه كثير من الكتّاب، ولا سيما المصريين منهم، الذين انحازوا انحيازات غير علمية.

وها هو محمد عبده ـ مع سعة علمه وعدم تحيزه ـ ينسب النهضة النثرية إلى مصر، ويعتقد أنها حدثت على يد جمال الدين الأفغاني. فهذا قوله في جريده الهلال المصرية: «وتقدم فنّ الكتابة في مصر بسعيه (جمال الدين)، وكان أرباب القلم في الديار المصرية، القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة، منحصرين في عدد قليل، وما كنا نعرف منهم إلا «عبد الله باشا فكري»، و«خيري باشا»، و«محمد باشا سيد أحمد»، على ضعف فيه، و«مصطفى باشا وهبي»، على اختصاص فيه. ومَنْ عدا هؤلاء فإما ساجعون في المرسلات الخاصة، وإما مصنِّفون في بعض الفنون العربية أو الفقهية وما شاكلها. ومن عشر سنوات ترى كتبة في القطر المصري لا يشقّ غبارهم، ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن، شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا مَنْ أخذ عنه أو عن أحد تلامذته أو قلّد المتصلين به، ومنكر ذلك مكابر، وللحق مدابر»([19]).

ونحن لسنا بمكابرين ولا مدابرين، ولكن نعلم أنّ الأفغاني ولد عام 1839م، ولم يدخل مصر إلاّ عام 1871م،كما يقول عبده في جريدة الهلال، فلا ندري كيف تتلمذ‌ كتبة مصر على يد جمال الدين، حتى أصبحوا تلامذته في الكتابة، وتركوا السجع بسببه؟ نحن نعلم أن جمال الدين  قد سبقه أعلام الثورة النثرية بسنوات، مثل: الشدياق في لبنان، ورفاعة الطهطاوي في مصر. فعندما ولد الأفغاني كان للشدياق 35 من العمر، وللطهطاوي 38 من العمر، فكيف غاب هؤلاء الكتاب وجهودهم على محمد عبده؟

4- نهضة النثر في لبنان ــــــ

اتصل اللبنانيون بالغرب قبل الاحتلال الفرنسي لمصر بقرون، لكنّه لم يكن اتصالاً يفضي إلى نهضة ثقافية شاملة تعمّ ذلك البلد؛ لأسباب، منها: إن اللغة العربيّة لم تصبح لغةً رسمية في لبنان إلا منذ القرن الخامس عشر([20]).

اتخذ اللبنانيون اللغة العربيّة لغة رسمية بدل السريانيّة في القرن الخامس عشر؛ لكنهم  بادئ ذي بدء كانوا يستخدمونها بشكل منحطّ، تكثر فيها الأخطاء، وضعف التأليف، وكانت عندهم أقرب إلى العامية منها إلى الفصحى. وهذا المثال من رسالة لسعد الخوري خير دليل على ذلك: «بلغكم أن سيدنا البطريك متوجِّه لهذه النواحي، وقلتم هذه بتصير قلقلة وبلبلة للطائفة، وموسِّعين الشرح بهذا المعنا. حضرة ساداتنا، ما هي عظيمة قد ما أنتم شايفينها، نحن ما معنا إلا نهار. هذا الثلاثة وصل أخونا بوعسكر لهذا الطرف، وسألناه ما هو سبب مجي سيدنا»([21]).

هكذا كانت اللغة العربيّة في لبنان، وأخذت تنمو نمواً تدريجيّاً بفضل التبادل  الثقافي الذي كان بين أوروبا ولبنان، فعلّم اللبنانيون الغرب لغات الشرق، كالسريانية، والعربيّة، والعبرانيّة، وتعلموا من لغاته اللاتينّة، والطليانيّة، واليونانيّة، والفرنسيّة، وغيرها من اللغات الأوروبيّة. وظلّ هذا التبادل الثقافي متواصلاً حتّى آتى ثماره ناضجة في العقود الأولى من القرن التاسع عشر([22]).

ومن ثمار هذا التبادل الثقافي الأخرى حركة الاستشراق التي لعبت دوراً هامّاً في النهضة الحديثة، وتوجيه الباحثين نحو الدراسات العلميّة، والأخذ بأساليب البحث العلمي، وإرسال البعثات العلميّة إلى أوروبا، ليعودوا إلى بلادهم ببضاعة علميّة وافرة، وإنشاء المطبعة العربيّة ولغات أجنبيّة، كاليونانيّة، واللاتينيّة، والإيطاليّة، والفرنسيّة، ومن أهمها: مدرسة عينطورة، ومدرسة عين ورقة، وهذه الأخيرة لقبها مارون عبود بـ«سوربون» الشرق، وقد أُنشئت هذه المدرسة قبل احتلال فرنسا لمصر بتسع سنوات، ومنها تخرج عملاق النهضة الأدبيّة الحديثة أحمد فارس الشدياق([23]).

كان الطلاب الذين يتخرجون من هذه المدارس يكتسبون الكثير من القوالب البيانيّة الخاصة باللغات الأجنبيّة التي تعلموها، ثمّ أخذوا ينسجون الجمل العربيّة على منوالها، ويسعون إلى تهذيب لغتهم من التعابير الضعيفة الركيكة، حتى كان أحمد فارس الشدياق، ففك الأغلال، وحمل لواء التجديد في النثر العربي([24]).

عندما ندرس حياة الأديب أحمد فارس الشدياق، ونقيسها مع مَنْ عاصره من الأدباء المصريين، وحتى اللبنانيين، نراه قد بزّهم جميعاً في تحرير النثر العربي من السجع والبديع بنثره الطريف وأسلوبه الظريف. ونذكر من الأدباء المصريين ـ على سبيل المثال ـ رفاعة الطهطاوي، الذي أوفد إلى أوروبا عام 1836م؛ لدراسة العلوم، وبعد عودته من فرنسا عام 1831م ترجم «تلماك» بأسلوب مسجع غير متحرر من قيود النثر القديم، بينما عمل الشدياق عام 1828م محرِّراً في جريدة «الوقائع المصريّة»، ودبَّج فيها المقالات بأسلوب جديد لم يألَفْه المصريون قبل ذلك([25]).

كما أن هناك أدباء لبنانيين كثيرين لعبوا دوراً هاماً في تطورالنثر العربي، أمثال: ناصيف اليازجي، وبطرس البستاني. لكننا نلاحظ بعض المؤرِّخين عندما يعالجون تاريخ الأدب العربي العاصر يبخسون حق الأدباء اللبنانيين، وما لهم من فضلٍ في النهضة الحديثة. فهذا عبد المنعم الخفاجي يقول: «ومحمد عبده رائد للأسلوب النثري الحديث بما دعا إليه من الثورة على السجع وعلى المحسِّنات، ومن الحرص على مساوقة الطبع، والتعبير عن المعنى، ومن الصدق في هذا التعبير»([26]).

هذا ما ذهب إليه الدكتور عبد المنعم الخفاجي. بينما ولد الإمام محمد عبده  والشدياق في الـ35 من عمره، وهو في قمة نشاطه الأدبي، وربما نستطيع أن نعدّ ما قام به الإمام محمد عبده من إصلاح في النثر العربي استمراراً لحركة أحمد فارس الشدياق، وليس له فضل الريادة في هذا المضمار. هذا من جانب، ومن جانب آخر بإمكاننا أن نقول: إن الفضل الأكبر في ما وصلت إليه مصر من زعامة  للبلاد العربيّة في النهضة الحديثة يعود إلى الأدباء الذين هاجروا من سورية ولبنان إلى مصر؛ إما فراراً من الحكم العثماني، وما جرّه عليهم من اضطهاد؛ وإما ابتغاءً للنجاح الأدبي في مصر. ونذكر من هؤلاء الأدباء المهاجرين ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ: نجيب حداد، وإبراهيم اليازجي، ويعقوب صروف، وشبلي شميل، وجرجي زيدان، وكثيرين غيرهم. عندما استقرّ هؤلاء الأدباء راحوا ينشرون الجرائد، ويؤلِّفون الكتب والمقالات، وكانت لهم مشاركات قيمة في نموّ الجانب الثقافي في مصر.

فبعد كل هذا نستطيع أن نقول: إن بوادر التطور في النثر العربي ظهرت في لبنان، وكان ذلك نتيجة للتبادل الثقافي الذي كان بين اللبنانيين والأوروبيين، الذي امتدَّ لعدّة قرون، لا الحملة الفرنسية وما أحدثته من تحوُّلات في مصر.

5- ازدهار النثر العربي المعاصر ــــــ

إن عجلة النهضة التي حرّكتها الحملة الفرنسية في مصر ظلت تسير إلى الأمام بطيئة، ولكنها مستمرة، يمدّها الأدباء السوريون واللبنانيون، فازدادت قوة وسرعة، حتى نرى ريادة الأدب العربي تنتقل إلى مصر في منتصف القرن التاسع عشر([27]).

وهنا نتساءل: ماذا حدث للنثرالعربي بعد ذلك؟ وإلى أين اتّجه به الأدباء في مصر؟

قبل أن أدلي برأيي حول هذا السؤال أنقل رأي الدكتور شوقي ضيف في النثر العربي، حيث يقول: «ونرى من ذلك أن مصر كان بها في أواخر القرن التاسع عشر أربع طوائف، وهي: طائفة الأزهريين المحافظين؛ ثم طائفة المجدِّدين المعتدلين، الذين يريدون أن يعبروا بالعربية دون استخدام سجع وبديع؛ وطائفة المفرطين في التجديد، الذين يدعون إلى استخدام اللغة العاميّة؛ ثم طائفة الشاميين، التي كانت في صف الطائفة الثانية. وما تزال المعارك تشتد بين الطائفة الأولى والطوائف الأخرى حتى تنتصر طائفة المجدِّدين المعتدلين، فيعدل المصريون في كتابتهم إلى التعبير بعبارة عربية صحيحة، لا تعتمد على زينة من سجع وبديع، وإنما تعتمد على المعاني ودقتها، على نحو ما نرى في ترجمات فتحي زغلول، وكتب قاسم أمين. وهكذا أتيح لمصر أن تخرج من هذه المعارك التي أقيمت فيها في أواخر القرن التاسع عشر حول صياغة النثر بظفر محقق، إذ اعتمدت على اللغة العربية الصحيحة الحرّة الخالية من قيود السجع والبديع، واتخذتها أداة للسانها في كتاباتها»([28]).

ونحن نؤيد كلام الدكتور هذا. ولا نشكّ فيه؛ لأن مَنْ يراجع كتابات الإمام محمد عبده في بدايات حياته الأدبيّة يرى فيها كثيراً من التكلُّف في استخدام الصنعة، فانظر إلى هذا المثال من رسالة كتبها إلى بعض علماء الشام: «أما قومي فأبعدهم عنّي أشدهم قرباً مني. وما أبعد الإنصاف منهم، يظنون بي الظنون، بل يتربصون بي ريب المنون، تسرُّعاً منهم في الأحكام، وذهاباً مع الأوهام، وولعاً بكثرة الكلام، وتلذذاً بلوك الملام»([29]).

لكنه بعد فترة، وبإيعاز من أستاذه جمال الدين الأفغاني، حرّر قلمه من القيود اللفظيّة، وترسَّل في كتابته. وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو أن النثر العربي كان قد تحرّر من السجع والبديع قبل ولادة الإمام محمد عبده بأكثر من عشرين سنة على يد أحمد فارس الشدياق، فلماذا لم يتَّخذ الأدباء الذين جاؤوا بعده طريقته في الكتابة؟ وما هي الأسباب التي دعتهم إلى العودة إلى قيودٍ لم يتحرَّر منها الأدب إلا بعد عقودٍ مديدة؟ لم نحصل على جوابٍ صريح لهذا السؤال من خلال مطالعتنا لكتب تاريخ الأدب، ولكن بإمعانٍ في الحوادث السياسية والاجتماعيّة التي طرأت على مصر في القرن التاسع عشر، التي ذكر مؤرِّخو الأدب شيئاً منها، نستطيع أن نقدِّم بعض الاحتمالات جواباً على هذا السؤال. وأنا بدوري أرى ثلاثة إجابات محتملة لهذا السؤال:

الأول: وهو الأقوى، النكسة التى أحدثها عباس الأول في الحياة العلمية بعد تولّيه الحكم عقب وفاة محمد علي باشا. فبعد أن تولى عباس الحكم أغلق جميع المدارس إلا القليل منها، وألغى مدرسة الألسن، ونفى الشيخ رفاعة الطهطاوي إلى السودان.

الثاني: إن ما قام به الإمام محمد عبده وغيره من الأدباء الذين عاصروه من إصلاحات في النثر العربي كان امتداداً للحركة الشدياقية، وليس مستقلاًّ عنها.

الثالث: وهو يعود إلى الأزهريين وما لهم من سلطة سياسية وفكرية على الشعب المصري آنذاك، فهؤلاء الأزهريون المحافظون لم يرتاحوا إلى الإصلاحات التي قام بها رجلٌ مارونيٌّ من بلدٍ له علاقات حميمة مع الغرب، فلهذا تعصَّبوا على طريقته ولم تشِعْ بينهم.

فنحن إن أخذنا بالاحتمال الثاني فبإمكاننا أن نقول: إن بوادر التطور في النثر العربي ظهرت في كتابات أحمد فارس الشدياق، وازدهر في مقالات الأدباء المصريين، وإن أخذنا بالاحتمالين الأول والثالث فيصير الفضل في كليهما لأحمد فارس  الشدياق، لا غيره.

النتائج ـــــ

1ـ إن جذور النهضة العربية تكمن في لبنان. وقد حصل ذلك من خلال اتصاله القديم بالغرب، وما كان بينهما من تعاون ثقافي.

2ـ إنّ النهضة اللبنانية حدثت قبل مصر بسنوات، ولهذا استعان المصريون بكتّاب لبنان ومفكّريه لإشعال جذوة النثر عندهم.

3ـ مع أنه لا نستطيع أن نجزم بمَنْ قاد النهضة النثرية في لبنان، ولكن يبدو أنّ أحمد فارس الشدياق هو بطل هذه النهضة.

4ـ لو أنّ اللغة العربية كانت سائدة في لبنان لربما لم يحدث ما حدث في العالم العربي من الانحدار، أو تقدمت النهضة الأدبية بسنوات أكثر مما كانت.

5ـ لم يندثر النثر في العصر العثماني إلى حدّ الموت، كما يظنّ بعض الكتّاب. وسبب هذه الظنون أنهم بالغوا في الثمار الثقافية لحملة نابليون، كما بالغوا في قيادة مصر للأدب العربي.

الهوامش

_____________________

(*) أستاذ مساعد في قسم اللغة العربية وآدابها، جامعة إصفهان، إيران.

(**) طالب دكتوراه، في فرع اللغة العربية وآدابها، جامعة إصفهان، إيران.

([1]) أبوعثمان الجاحظ، البيان والتبيين: 253، بيروت، دار ومكتبة الهلال، 1992م.

([2]) عمر فروخ، تاريخ الأدب العربي 1: 727، بيروت، دارالعلم للملايين، 1969م.

([3]) شوقي ضيف، الفن ومذاهبه في النثر العربي: 389، مصر، دار المعارف،1960م.

([4]) أحمد الهاشمي، جواهر الأدب 2: 148، بيروت، المكتبة العصرية، 2004م.

([5]) شوقي ضيف، المصدر السابق: 390.

([6]) شهاب الدين العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: 25، تحقيق: بسام محمد بارود، أبو ظبي، المجمع الثقافي، 1981م.

([7]) شوقي ضيف، المصدر السابق: 390؛ أحمد حسن الزيات، تاريخ الأدب العربي: 193، بيروت، دار الثقافة.

([8]) عبدالرحمن بن خلدون، المقدمة: 566، تحقيق: درويش الجويدي، بيروت، المكتبة العصرية،  1999م.

([9]) ابن خلدون، المقدمة: 566.

([10]) أحمد بن علي القلقشندي، صبح الأعشی في صناعة الإنشا 1: 185، شرح: محمد حسين شمس الدين، بيروت، دارالكتب العلمية، 1987م.

([11]) أبو الفتح الإبشيهي، المستطرف في كل فن مستظرف 2: 227، بيروت، دار الكتب العلمية، 1986م.

([12]) عمر الدسوقي، في ‌الأدب الحديث: 16 ـ 17، دارالفكر، 1950م.

([13]) جودت الركابي، الأدب العربي من الانحدار إلی الازدهار: 144 ـ 145، دار الفکر، 1993م.

([14]) ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور: 11، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، 1984م.

([15]) شهاب الدين العمري، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: 38، تحقيق: بسام محمد بارود، أبو ظبي، المجمع الثقافي، 1981م.

([16]) مسالك الأبصار في ممالك الأمصار: 38.

([17]) الدسوقي، المصدر السابق: 22.

([18]) ضيف، المصدر السابق: 391؛ الزيات، المصدر السابق: 496.

([19]) محمد عبده، الأسد الثائر جمال الدين الأفغاني، مجلة الهلال: العدد 284: 25، دار الهلال، 1973م.

([20]) مارون عبود، صقر لبنان أو أحمد فارس الشدياق: 57، بيروت، دار الثقافة، ط2.

([21]) صقر لبنان أو أحمد فارس الشدياق: 46.

([22]) صقر لبنان أو أحمد فارس الشدياق: 63.

([23]) حنّا الفاخوري، الجامع في تاريخ الأدب العربي الحديث: 10 ـ 11، بيروت، دارالجيل، 1986م.

([24]) صقر لبنان أو أحمد فارس الشدياق: 59.

([25]) الدسوقي، في ‌الأدب الحديث: 101.

([26]) عبدالمنعم الخفاجي، دراسات في الأدب العربي الحديث ومدارسه: 304، بيروت، دارالجيل، 1992م.

([27]) طه حسين، المجموعة الكاملة: 120، 1981.

([28]) الفن ومذاهبه في النثر العربي: 392.

([29]) تاريخ الأدب العربي: 521.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً