أحدث المقالات

قراءةٌ فقهيّة

السيد نور الدين شريعتمداري الجزائري(*)

 

 مقدّمة ــــــ

عرفت الانتفاضة بأنّها حركةٌ في اتجاهٍ مخالفٍ لاتجاه سير المجتمع، وحركةٌ بإمكانها أن تمنع المجتمع من حركته، أو أن تحرف حركته باتجاهٍ آخر، ومن الممكن أن تكون حقّاً، وأن تكون عملاً باطلاً. لذا من الضروريّ معرفة معيار تمييز الانتفاضة المحقّة من الانتفاضة الباطلة.

وقد أورد على نهضة عاشوراء شبهات يمكن بيانها في ما يلي:

1ـ عدم القدرة على القيام بها.

2ـ الخروج على أولي الأمر.

3ـ حرمة الإضرار.

وهذه الاعتراضات التي أُوردت من قبل بعض مؤرِّخي ومفسِّري أهل السنّة على نهضة عاشوراء هي التي جعلت بحثها من الناحية الفقهيّة أمراً ضرورياً. لذا سنبحث في البداية الانتفاضة من الجهة الفقهيّة، ثم نبحث في الشبهات المذكورة حولها.

 

القسم الأول: بيان المفاهيم ــــــ

في هذا القسم نقوم ببيان العلاقة بين هذه المفاهيم: العصيان، الانتفاضة، البغي، الخروج، الثورة، الانقلاب([1])، وكذلك بقيّة المفاهيم المرتبطة بها.

العصيان: بيّنت كتب اللغة لكلمة (العصيان) معاني كثيرة؛ من جملتها: الاضطراب، الثورة، الاضطراب وإثارة الغوغاء، التمرُّد والهيجان([2]). كذلك حركة التمرّد، التذمّر، الفوضى، الاضطراب والثورة([3])،  التمرّد، عدم الإطاعة، الدخول على شخصٍ بدون إذنه والهجوم عليه([4]).

الانتفاضة: الانتفاضة والعصيان لهما نفس المعنى في اللغة الفارسيّة، وجاء في تعريفها([5]): نظامٌ سياسيّ واجتماعيّ ينشأ فيه الفرد متحرِّراً من كلِّ سلطةٍ حكوميّة؛ حالة شعبٍ لا رأس له، عطّلت عنده السلطة الحكوميّة أو أرجئت([6]).

كما أنّ نقض العهد وفسخ العهد([7]) من جملة معاني الانتفاضة أيضاً. وقومٌ فَوْضَى أي متساوون، لا أمير لهم([8]).

البغي: عبارةٌ عن العدول عن الحقّ، ظلم الآخرين([9])،  التعدّي، التمرّد، الطغيان والاستعلاء([10]). و«الفئة الباغية» هي التي ظلمت وخرجت عن طاعة الإمام العادل، كما قال النبيّ| عن عمّار بن ياسر: «ابن سميّة تقتله الفئة الباغية». وأصل البغي مجاوزة الحدّ([11]).

الثورة: بمعنى الغضب والهيجان([12]).

الانقلاب: هي لفظة مترادفةٌ مع الثورة([13])، أصلها القلب، بمعنى تغيير شكل وحالة الشيء، تبديل الأسفل بالأعلى، قلب الظاهر إلى الباطن([14])، التحوُّل من حالةٍ إلى حالةٍ أخرى، التبدّل، التغيّر والتحوّل([15]). وجاءت أيضاً بمعنى الهيجان والغضب([16]).

الخروج: الخروج من تحت سلطة الحاكم، وعدم إطاعة أوامره([17]).

ويجمع هذه المفاهيم كلّها القول بأنّها إيجاد حركةٍ بخلاف مسير المجتمع، وبالتالي يكون حاكياً عن ذلك المفهوم الواحد، لكنّ بعضها يبيِّن مقدّمة تلك الحركة، وبعضها يبيِّن نفس الحركة، وبعضها يبيِّن هدف أو نتيجة الحركة.

فتكون كلمتا الغضب والهيجان و… من مقدّمات هذه الحركة، وهي تحصل للأفراد بسبب رؤية الوضع الموجود ومسير حركة المجتمع.

وكلمة الاضطراب هي إثارة الغوغاء، التمرُّد، الدخول بدون إذن، والعصيان، وهي تشير إلى الحركة المخالفة لحركة المجتمع.

والتحرّر من القوّة والسلطة الحاكمة، عدم القبول بالأمير والقائد، نقض العهد، التغيُّر، كلّها تحكي عن أهداف ونتائج هذه الحركة.

والحاصل أنّ هذه المفاهيم المتنوِّعة التي وردت لهذه الكلمات في كتب اللغة لا تضادّ بينها، وهي جميعها تحكي عن مفهومٍ واحدٍ؛ وهو الحركة بخلاف مسير المجتمع. ولا شكّ في أنّ هذه المفاهيم متمِّمةٌ ومكمِّلةٌ لبعضها الآخر، ويوجد بينها توافقٌ وانسجامٌ كامل.

 

القسم الثاني: التقييم الفقهيّ للانتفاضة ــــــ

يتّضح في هذا القسم الحكم الخاصّ أو العامّ لهذه المفاهيم. والمقصود من الحكم الخاصّ هو الحكم الخاصّ الّذي ورد في الفقه لكلٍّ منها، كما أنّ الحكم العامّ هو حكمٌ يستنتج لكلٍّ منها من القوانين الفقهيّة الكلّية، أو القواعد الفقهيّة العامّة.

ويلاحظ أنّه يوجد بين كلّ هذه المفاهيم مفهومٌ واحدٌ فقط له معنىً سلبيّ، وهو مفهوم البغي، وبلحاظ نفس هذا المعنى السلبيّ ذكروا له أحكاماً خاصّةً. وهو في اللغة عبارةٌ عن مجاوزة الحدّ، الظلم، الاستعلاء. ويطلق في عرف المتشرِّعة على الخروج عن طاعة الإمام العادل([18]). لذا تكون الفئة الباغية هي الفئة الظالمة الخارجة عن طاعة الإمام العادل([19]).

 

1ـ حكم البُغاة ــــــ

حكم البُغاة في زمان غيبة الإمام المعصوم× من جهة طهارة أجسامهم، حلّية ذبيحتهم، التزوُّج منهم، واحترام أموالهم…، حكم بقيّة المسلمين، وإنْ وجب قتالهم([20]).

 

 2ـ قتالهم ــــــ

يجب قتال مَنْ يخرج على الإمام العادل بالسيف وشبهه، إذا أمر الإمام أو المنصوب من قِبَله به وجوباً كفائيّاً باتّفاق الفقهاء([21])، إلاّ إذا أمر الإمام شخصاً معيَّناً به فيكون الوجوب عينيّاً عليه عندئذٍ، أو إذا أصدر أمراً عامّاً به فيكون وجوباً عينيّاً على جميع الأفراد([22]).

 

3ـ شروط وكيفية القتال ــــــ

يجب قتال البُغاة عند تحقّق الشروط التالية:

أـ أن يكونوا مجموعةً كبيرةً لا أفراداً قليلين.

ب ـ أن لا يطيعوا أمر الإمام أو المنصوب من قِبَله بدون سبب، أو بسبب شبهة أوقعوا أنفسهم فيها، ويلزم إرشادهم قبل الحرب([23]).

أمّا كيفية قتال البغاة فهي كما يلي:

1ـ يجب قتالهم إلى أن يخضعوا لأمر الإمام، بدون خداعٍ واحتيال.

2ـ يجب عدم الفرار منهم؛ لأنّ الفرار منهم كالفرار من قتال الكفّار، وهو غير جائز.

3ـ إذا كان لهم جماعةٌ منظّمةٌ يرجعون إليها بعد انتهاء القتال يجوز قتل جرحاهم، وملاحقة فارّيهم، وقتل أسراهم. أمّا إذا لم يكن لهم جماعةٌ منظَّمةٌ، وكان المقصود من قتالهم تفريقهم فقط، لم يجُزْ ملاحقة فارّيهم، ولا قتل أسراهم وجرحاهم.

4ـ يمكن قتل النساء والأطفال إذا كانوا تِرْساً واقياً لهم([24]).

النقطة الأخرى هي أنّه ينبغي في تحقُّق «البغي» أن يكون الخروج على الإمام العادل. لذا ينبغي أن يكون الإمام معروفاً. وفي اعتقاد الشيعة الإمام العادل هو نفس الإمام المعصوم الذي نُصِّب إماماً من قبل الله، بتعيين النبيّ| أو الإمام السابق×، وهو منحصر في اثني عشر إماماً^، وبعد الإمام المعصوم يقوم مقامه المنصوب  الخاصّ أو المنصوب العامّ من قِبَله، وفي زمان الغيبة يكون للمجتهد الجامع للشرائط جميع مناصب الإمامة.

يعتقد الشيعة أنّ شروط الإمامة ثلاثة أمور:

1ـ العصمة؛ 2ـ التعيين من قبل النبيّ أو الإمام السابق؛ 3ـ الأفضليّة على الآخرين([25]).

أما أهل السنّة فيعتقدون أنّه ينبغي أن تتوفَّر في الإمام العادل الشروط التالية:

1ـ الإسلام؛ 2ـ التكليف؛ 3ـ العدالة؛ 4ـ الحرّية؛ 5ـ الذكوريّة؛ 6ـ العلم؛            7ـ الشجاعة؛ 8ـ الرأي والكفاية؛ 9ـ سلامة البصر والسمع والنطق؛ 10ـ سلامة الجسم؛ 11ـ كونه من قريش([26]).

وعلى أساس هذه الشروط لا تعتبر الانتفاضة في وجه الإمام الكافر «بَغْياً»؛ لأنّ الإمام العادل ينبغي أن يكون مسلماً في نظر أهل السنّة، في حين أنّ الكافر ليس مؤهَّلاً أساساً للإمامة.

إلى هنا تتبيَّن الأحكام الخاصّة بحالة «البغي»، أمّا المفاهيم الأخرى فليس لها أحكامٌ خاصّة، بل نحصل عليها من خلال القواعد الكليّة، أو العناوين التي تشملها.

وبشكلٍ عامّ تعتبر الانتفاضة في وجه الإمام العادل «بغْياً»، ولها أحكامه الخاصّة.

وعلى أساس بعض الشروط يمكن ـ أحياناً ـ أن يصدق عنوان المحارِب، والمفسِد في الأرض، أو الفاسِق.

وإذا كانت الانتفاضة خروجاً عن طاعة السلطان الظالم فحينئذٍ علينا أن نرى هل يصدق عليها عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو عنوان إظهار الحقّ، أو تبليغ الدين، أو عدم الخضوع للقوّة والظلم، أو الخروج عن عنوان أعوان الظلمة، أو الأخذ بالحقّ الضائع أو…؟

والآن نوضِّح العناوين التي ذُكرت، والتي يمكن أن تنطبق على الانتفاضة:

 

المحاربة ــــــ

المحارب هو الشخص الذي يحمل السلاح أو يجرِّده لأجل إيجاد الخوف بين الناس، أو للإفساد في الأرض، سواء كان في البحر أم في البرّ، في المصر أم في غيره. وكذلك ليس للذكورة والأنوثة، ولا للوقت الذي تحدث فيه المحاربة من ليلٍ أو نهار…، أيّ دخل في الموضوع([27]). يقول القرآن الكريم في المحارِب وجزائه: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة: 33).

ويستفاد من هذه الآية أنّ جزاء المحارِب والمفسِد في الأرض واحدٌ، فالشخص الذي يحارب الله والنبيّ يكون محارِباً، كما أنّ كلّ شخص يريد الإفساد في الأرض يكون مفسداً، ويجب في حقّ هذين الشخصين الإعدام، أو الصلب، أو قطع الأيدي والأرجل، أو النفي من البلد.

وقد ورد عن الإمام الباقر× في روايةٍ صحيحة: مَنْ حمل السلاح بالليل فهو محارِبٌ، إلاّ أن يكون رجلاً ليس من أهل الريبة([28]).

وقال في صحيحةٍ أخرى: مَنْ شهر السلاح في مصر من الأمصار فعقر اقتصّ منه ونفي من تلك البلد؛ ومَنْ شهر السلاح في مصر من الأمصار وضرب وعقر وأخذ المال ولم يقتل فهو محارِبٌ، فجزاؤه جزاء المحارِب([29]).

ونقل أيضاً عن أمير المؤمنين× في روايةٍ معتَبَرة أنّه قضى في رجلٍ أقبل بنارٍ فأشعلها في دار قومٍ، فاحترقت، واحترق متاعهم، قال: يغرَّم قيمة الدار وما فيها، ثم يقتل([30]).

وبناءً على هذا لا تختصّ المحاربة بإشهار السلاح فقط، بل تصدق بإيجاد الخوف بين الناس والإفساد في الأرض بكلّ وسيلة. فقد ورد في تفسير مجمع البيان في شأن نزول الآية الشريفة: نزلت في قومٍ كان بينهم وبين النبيّ موادعةٌ، فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض…. وقيل: نزلت في العرينيين لمّا نزلوا المدينة للإسلام واستوخموها واصفرَّت ألوانهم، فأمرهم النبيّ أن يخرجوا إلى إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها، ففعلوا ذلك فصحّوا، ثم مالوا إلى الرعاة فقتلوهم، واستاقوا الإبل، وارتدّوا عن الإسلام، فأخذهم النبيّ| وقطّع أيديهم وأرجلهم من خلاف([31]).

ومن الواضح أن المحاربة والإفساد تارةً يكونان لأجل الوصول إلى هدفٍ سياسيٍّ شخصيٍّ أو جماعيٍّ، وأحياناً لأجل هدفٍ غير سياسيّ. وعلى كلّ حالٍ فاستعمال أيّ وسيلةٍ بهدف القضاء على بيضة الإسلام والمسلمين، وإيجاد الخوف، ونشر الفتنة والاضطراب بين الناس…، هو محاربةٌ؛ كما أنّ الإفساد هو إشاعة الفساد في الأرض، سواءٌ كان في الأمور الأخلاقيّة أو الاقتصاديّة أو السياسيّة أو غيرها؛ بحيث يصير الفساد عامّاً، ويُبتلى به جميع الأفراد. أمّا إذا كان الفساد حالةً شخصيّة، وخاصّة بفردٍ، فلا يكون مفسِداً، بل يكون ذاك الشخص فقط فاسداً وفاسقاً.

من المعروف أنّ جزاء المحاربة والإفساد في الأرض هو القتل، أو الصلب، أو قطع اليد والرجل بعكس بعضهما، أو النفي. لكنّ الأفضل أن يكون الجزاء بمقدار الجناية، على الترتيب التالي: وهو أنّ المحارِب والمفسِد إذا قتل شخصاً يقتَل أو يصلَب، وإذا سرق مال شخصٍ فقط تُقطع يده ورجله، وإذا شهر السلاح وسبَّب الخوف والرعب يُنفى([32]). فقد نقل في روايةٍ صحيحةٍ عن الإمام الصادق×: ذلك إلى الإمام يفعل ما شاء، قلتُ: فمفوَّضٌ ذلك إليه؟ قال: لا، ولكنْ نحو الجناية([33]).

وبناء على هذه الرواية يجب أن يكون جزاء المحارِب بمقدار جنايته؛ لكنْ في المقابل تدلّ الآية المباركة وبعض الروايات الأخرى على تخيير الحاكم في إجراء الحدّ، منها: روايةٌ حسنة يقول فيها الإمام الصادق×: ذلك إلى الإمام؛ إنْ شاء قطع؛ وإنْ شاء نفى؛ وإنْ شاء صلب؛ وإنْ شاء قتل([34]).

وقال في روايةٍ أخرى: الإمام في الحكم فيهم بالخيار؛ إنْ شاء قتل؛ وإنْ شاء صلب؛ وإنْ شاء قطع؛ وإنْ شاء نفى من الأرض([35]).

ويمكن الجمع بين الرواية الأولى والروايات الأخيرة بهذه الصورة، وهي أن نقول: يستطيع الإمام أن يجري على المحارِب أيَّ جزاءٍ يريده، ولكنّ الأفضل إجراء الجزاء بمقدار جنايته، كما تبيَّن.

والحاصل أنّ الخروج عن طاعة الإمام العادل يكون أحياناً «بغياً»، ويلحقه الحكم الخاصّ بالبغي، وأحياناً أخرى يكون محارَبةً أو إفساداً في الأرض، وعندئذٍ يكون له جزاء المحارَبة والإفساد الخاصّان بهما، وحيناً ثالثاً يكون فِسْقاً فقط، وعند ذلك ليس له جزاءٌ خاصّ معيَّن، بل يعزِّر حاكمُ الشرع الفاسقَ في بعض الموارد ويؤدِّبه؛ لحمله على ترك الفِسْق.

أمّا الخروج عن طاعة السلطان الفاسق أو الكافر فيمكن أن ينطبق عليه عنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

 

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــــ

يعدّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أهمّ الواجبات والفرائض الدينيّة ومن أرفعها شأناً؛ لأنّه يكون أحياناً سبباً في الانتفاضة على الحاكم، كما أنّه هو الضامن لتنفيذ سائر الأحكام، من واجباتٍ ومحرمات. فقد ورد في روايات عن الأئمة المعصومين أنّ من فوائد وبركات فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إقامة الفرائض، وأمان المذاهب، وحلّيّة المكاسب، ومنع الظالم عن الظلم، وعمران الأرض، وردّ المظالم، وكون الناس في خيرٍ وسرورٍ، وأنّه بتعطيلها تنزع منهم البركات، ويسلّط بعضهم على بعضٍ، ولا يكون لهم ناصرٌ في الأرض ولا في السماء([36]).

يقول الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ (آل عمران: 104)؛ ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ (آل عمران: 110).

والمقصود من «كُنْتُمْ» في هذه الآية الزمان الحاضر، مع أنّها فعلٌ ماضٍ؛ يعني أنتم أفضل أمّةٍ في الزمان الحاضر. وقد بيَّن في مجمع البيان عدّة أجوبةٍ عن كيفية إرادة الزمان الحاضر من الفعل الماضي:

1ـ بشّر بمجيء هذه الأمّة في الكتب السابقة.

2ـ قدّر هكذا في اللوح المحفوظ.

3ـ كلمة «كان» في هذه الآية «تامّةٌ»، بمعنى «وجدتم»، يعني وجدتم خير أمّةٍ، وليست «كان» الناقصة.

4ـ إنّ «كان» زائدةٌ، ولا معنى لها.

5ـ إنّ «كان» بمعنى «صار»؛ يعني صرتم خير أمّة([37]).

كما ورد في تفسير الميزان: «كُنْتُمْ» غير منسلخ عن الزمان، والآية تمدح حال المؤمنين في أول ظهور الإسلام، من السابقين الأوّلين من المهاجرين والأنصار([38]).

وتوضيح ذلك أنّه بناء على ظاهر الآية يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ مع تحقّق شرط الإيمان بالله ـ سبباً لصيرورة المسلمين خير أمّةٍ. وفي رأي العلاّمة الطباطبائي أنّ الله كان قد مدح المسلمين في صدر الإسلام، وأنّ ذلك الزمان سابقٌ على زمان نزول الآية، ولهذا استعمل الفعل الماضي.

ولكنّ هذا الرأي بعيدٌ في نظري؛ لأنّه لا يُراد في هذه الآية زمانٌ خاصٌّ محدَّد، بل المقصود أنّ الذي يصير خير أمّةٍ هم هؤلاء الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، في أيّ زمانٍ كانوا، لا أنّها مختصّةٌ بصدر الإسلام فقط. وأعتقد بأنّ أفضل وجهٍ طُرح في مجمع البيان هو الوجه الثالث؛ يعني تماميّة «كان».

كما أنّ التعبير بالإخراج إنّما هو لأجل إظهار أفضليّة هذه الأمّة على الأمم السابقة؛ بمعنى أنّ الله خلقكم أيّها المسلمون بحيث إنّكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر تكونون أفضل أمّةٍ. والمقصود بـ «الناس» هنا جميع الناس، في حين أنّ المراد من الأمّة ـ التي أخذت من الأمّ، وهو المجموعة التي بينها اتّحادٌ ـ هم المؤمنون، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الذي يحفظ هذا الاتّحاد بينهم.

 

دليل وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــــ

استدلّ الفقهاء؛ لإثبات وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بالدليل العقليّ والنقلي:

 

1ـ الدليل العقلي ــــــ

يقول العلاّمة الحلّي: إنّا نعلم بعقلنا وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما نعلم وجوب ردّ الوديعة، وقبح الظلم([39]).

واعترض بعض الفقهاء على هذا الاستدلال، وقال: إذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً بحكم العقل فينبغي أن لا يرتفع أيّ معروفٍ، وأن لا يقع أيّ منكرٍ في المجتمع؛ لأنّه في هذه الصورة سيكون واجباً على الله أيضاً ذلك، وإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً على الله، وقام به فعلاً، فينبغي أن لا يرتفع معروفٌ، وأن لا يقع منكرٌ أبداً. وإذا افترضنا أنّ الله تعالى لم يقُمْ به يكون قد أخلّ بالواجب منه. وكلاهما باطلٌ. إذن ليس هناك وجوب عقليٌّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد أجاب الشهيد الثاني عن هذا الإشكال بقوله: فلأنّهما لطفٌ، وهو واجبٌ على مقتضى قواعد العدل، ولا يلزم من ذلك وجوبهما على الله تعالى اللازم منه خلاف الواقع إنْ قام به، أو الإخلال بحكمه تعالى إنْ لم يقُمْ؛ لاستلزام القيام به على هذا الوجه الإلجاء الممتنع في التكليف، ويجوز اختلاف الواجب باختلاف محالّه، خصوصاً مع ظهور المانع، فيكون الواجب في حقّه تعالى الإنذار والتخويف بالمخالفة، لئلا يبطل التكليف، وقد فعل([40]).

والجواب الآخر هو أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب على الله والمؤمنين بنفس المعنى، والله تعالى قام بما يجب عليه، وذلك بمعنى بعث الناس على الطاعات وزجرهم عن المعاصي بالقول والعمل؛ أمّا بالقول فمن خلال إرسال الكتب السماويّة، والأنبياء، وتعيين الأئمّة للناس؛ وأمّا بالعمل فمن خلال إجراء الحدود، وفرض الكفّارات؛ بسبب ترك الواجبات وفعل المحرّمات. وقاعدة اللطف التي تقتضي وجوباً عقليّاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تجري على الله والمؤمنين بمعنىً واحدٍ، وهو تقريبهم من الطاعة، وإبعادهم عن المعصية.

إذن هو واجبٌ على الله، وعلى هذا الأساس أرسل الأنبياء، وعيّن الأئمّة.

كذلك يجب الأمر بالمعروف على الناس، ويجب حثّ الآخرين على أداء الواجبات، ومنعهم من فعل المحرّمات، ومن جهةٍ أخرى يدرك العقل لزوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ الاتّصال الموجود بين المسلمين يقتضي أن لا يُترك الواجب، وأن لا يُفعل المحرَّم؛ باعتبار أنّه عندما تنفذ قذارة الذنوب وكدورتها في المجتمع تسري إلى جميع الأفراد، ويكون أثرها كأثر النار في الهشيم، تحرق الجميع. إذن يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ عقلاً ـ؛ للحيلولة دون تلوُّث المجتمع.

2ـ الدليل النقلي ــــــ

الدليل النقليّ على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو آيات من القرآن، قد ذكرنا نموذجاً منها. كما يوجد رواياتٌ كثيرةٌ أيضاً، نذكر بعضها:

قال الإمامان الباقر والصادق’: ويلٌ لقومٍ لا يدينون الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([41]).

وقال الإمام الباقر×: بئس القوم قومٌ يعيبون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر([42]).

وقال الإمام الرضا×: لتأمرنّ بالمعروف، ولتنهنّ عن المنكر، أو ليستعملنّ عليكم شراركم، فيدعو خيارُكم فلا يستجاب لهم([43]).

وقال النبيّ|: إذا أمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاعٍ من الله([44]).

وعن الإمام الباقر× أنّه قال: يكون في آخر الزمان قومٌ ينبغ فيهم قومٌ مراؤون ـ إلى أن قال ـ: ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها، كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها، «إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضةٌ عظيمةٌ»، بها تقام الفرائض، هنالك يتم غضب الله عزَّ وجلَّ عليهم، فيعمّهم بعقابه، فيهلك الأبرار في دار الأشرار([45]).

 

الوجوب الكفائيّ للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــــ

إنّ وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجوب «كفائيٌّ»؛ فإذا أقدم المكلَّفون عليه بمقدار الكفاية يسقط عن الآخرين، وكذلك إذا لم يقدم أيُّ فردٍ منهم يكون الجميع قد ترك الواجب. وإذا كانت إقامة بعض الواجبات أو إزالة أحد المنكرات متوقّفةً على اجتماع مجموعةٍ خاصّةٍ، وأقدم بعض تلك المجموعة، لا يسقط عن سائر أفرادها، بل يجب أن يجتمعوا بالمقدار اللازم، وأن يقدموا([46]). والدليل على وجوبه الكفائيّ هو الآية الشريفة: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (آل عمران: 104).

في هذه الآية جُعل الأمر بالمعروف وظيفة مجموعةٍ من المؤمنين، لا جميعهم. وعليه فيكون وجوبه كفائيّاً. ومن الواضح أنّه كلّما تحقَّق الغرض من هذه الوظيفة؛ بقيام بعض المؤمنين بها، صار إقدام الآخرين بلا أثر. فقد قال الإمام الصادق×: لا يجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على جميع أفراد الأمّة، بل يجب على القويّ، المطاع، العالم بالمعروف من المنكر، لا على الضعيف الذي لا يهتدي سبيلاً([47]).

وهناك مباحث أخرى حول هذه الفريضة الإلهيّة، سنشير إلى عناوينها؛ رعايةً للاختصار:

 

شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــــ

1ـ معرفة المعروف والمنكر.

2ـ احتمال التأثير بفعل المعروف وترك المنكر.

3ـ الإصرار على العصيان من قِبل المأمور أو المنهيّ.

4ـ عدم وجود المفسدة والضرر في أدائهما([48]).

وإذا كان المعروف والمنكر من الأمور التي يهتمّ بها الشارع الأقدس، كاهتمامه بحفظ حياة مجموعةٍ من المسلمين، وعدم هتك أعراضهم، أو المحافظة على عدم محو آثار الإسلام، ومحو حجّته، بما يوجب ضلالة المسلمين، أو انمحاء بعض شعائر الإسلام، كبيت الله الحرام، كأن تُمحى آثاره، أو يغيَّر مكانه، وأمثال ذلك، فعندئذٍ لا بُدَّ من رعاية الأهمّ. ولا يرتفع تكليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ في هذه الحالة ـ بحصول ضررٍ، وإنْ كان ذاك الضرر مَوْتاً أو حَرَجاً([49]).

ويمكن أن تكون الموارد التي يجب فيها الأمر بالمعروف ـ رغم عدم توفُّر الشروط المذكورة سابقاً ـ هي التالي:

1ـ عندما تقع في الإسلام بدعةٌ تكون سبباً لهتك الإسلام، وضعف عقائد المسلمين.

2ـ عندما يخشى من أن يصير المنكر معروفاً، والمعروف منكراً؛ بسبب سكوت العلماء.

3ـ عندما يكون سكوت العلماء سبباً لتقوية الظالم، وتأييده.

4ـ عندما يكون سكوتهم موجباً لجرأة الظالمين على ارتكاب سائر المحرَّمات، وابتداع البدع في الدين.

5ـ عندما يكون سكوتهم سبباً لإساءة الظنّ بهم، وهتك احترامهم، ونسبة أمور مشينةٍ إليهم، مثل: نسبة إعانة الظالم إليهم([50]).

 

مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــــ

للأمر بالمعروف عدّة مراتب يجب رعايتها. وما دامت المرتبة الأولى ممكنةً لا يكون هناك مجالٌ للانتقال إلى المرتبة الثانية. أمّا المرتبة الأولى فتكون بإظهار الكراهة، من خلال إظهار عدم الرضا على قَسَمات وجهه.

وأمّا المرتبة الثانية فتكون بالوعظ والإرشاد والقول الليِّن، ثمّ بالتهديد والكلام القاسي.

وأمّا المرتبة الثالثة فتكون باستعمال اليد، وإعمال القدرة؛ للمنع عن فعل المنكر، والحمل على فعل الواجب([51]).

 

تبليغ الدين ــــــ

إنّ تبليغ الدين، وتعليم معارف الفقه إلى الآخرين، هو إحدى وظائف المسلمين التي وردت في القرآن: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاّ اللهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً﴾ (الأحزاب: 39).

ومن الواضح أنّ الوظيفة هي تبليغ رسالات الله وفق أمره، لا أقلّ ولا أكثر، وبدون خوفٍ من القوّة المخالفة. وخوف الإنسان من الله فقط هو الذي يؤدّي إلى مراقبة قول الإنسان وفعله؛ لأنّ الله فقط هو الذي يرى كلّ شيءٍ، ويعلم به، وهو المطّلع على باطن وظاهر عباده. وينبغي أن يطلب في هذا التبليغ رضاه فقط دون غيره، حتّى لو تحمّل في سبيل ذلك المصاعب والأذى، وحتّى لو قامت القوى المخالفة له بتهديده وتخويفه؛ لأنّ المؤمنين لا ينظرون إلى غير الله، ويعتبرون أنّ النفع والضرر من الله خاصّة.

ولا شكّ أنّ تبليغ الدين كان الهدف من بعثة الأنبياء. وقد أكّد القرآن على ذلك في الآيات التالية: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67)؛ ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾ (الأعراف: 68)؛ ﴿فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾ (الأعراف: 79)؛ قال الله عن جميع الأنبياء: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (النور: 54).

يستفاد من هذه الآيات أنّ تبليغ الدين وظيفة الأنبياء، وأنّ على المؤمنين الذين يستطيعون تبليغ الدين أن يرشدوا الآخرين بقدر استطاعتهم.

إذن كلّما كان السلطان الكافر أو الفاسق جاهلاً بأحكام الدين، أو كان عناده سبباً لجهل الناس بأحكام الدين، كان على المسلم أن يبلِّغ دين الله، ويرشد الجاهل، ويخلِّصه من الجهل.

 

إظهار الحقّ ــــــ

يعدّ إخفاء الحقّ من الذنوب الكبيرة، كما أنّ إظهاره من أهمّ الواجبات. وقد أوعد الله في القرآن على إخفاء الحقّ عذاباً أليماً، حيث يقول: ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ﴾ (البقرة: 140)، ﴿وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (البقرة: 42).

وعليه فعندما يريد السلطان الفاسق أن يخفي الحقّ؛ للوصول إلى أهدافه الشخصيّة والمادّية، يجب على كلّ مَنْ يقدر على إظهاره أن يتحرَّك في وجه هذا السلطان، ويحول دون إبقاء الحقّ مخفيّاً.

 

الأخذ بالحقّ الضائع ــــــ

عندما يضيِّع السلطان الفاسق حقّ شخصٍ يستطيع هذا الشخص أن يتحرّك وينهض للمطالبة بحقِّه المضاع. وقد أيّد القرآن مشروعيّة هذه النهضة بقوله: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ (البقرة: 194).

كما أمر الله في هذه الآية بمقابلة الظلم بالمثل، والتعدّي على الظالم بمقدار تعدّيه. والحقيقة أنّ المقابلة بالمثل ليست تعدِّياً، بل هي حقٌّ أعطاه الله تعالى لنا، لذا ينبغي تسميتها بالمجازاة على التعدّي.

 

القسم الثالث: حقيقة نهضة عاشوراء ــــــ

يبحث هذا القسم نهضة عاشوراء وبُعْدها، ويعالج مدى قربها من المفاهيم السابقة.

بالتوجّه إلى المسائل السابقة لن تكون نهضة عاشوراء بَغْياً؛ لأنّ البَغْي هو الخروج عن طاعة الإمام العادل، ويعتقد جميع المؤرِّخين المسلمين أنّ يزيد لم يكن إماماً عادلاً؛ لاشتهاره بالفسق والفجور. وقد أكَّد ابنُ خلدون، المؤرّخ والعالم الاجتماعيّ المعروف ـ الذي أخطأ واشتبه في توجيه نهضة عاشوراء ـ، في عدّة مواضع من كتابه على فِسْق يزيد، وقال: «ظهر فسق يزيد عند الكافّة من أهل عصره»([52]).

وكتب البلاذري: كان يزيد بن معاوية أوّل مَنْ أظهر شرب الشراب والاستهتار بالغناء والصيد واتّخاذ القِيان والغِلْمان والتفكُّه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعاقرة بالكلاب والديكة([53]).

وقال ابن كثير: كان ليزيد قردٌ يجلسه أمامه، وقد كنّاه بـ «أبي قبيس»، وكان يسقيه الخمر، وكان يضحك من أفعاله، وكان يركبه على فرس. ورُوي أنّ يزيد كان قد اشتهر بالمعازف وشرب الخمر والغناء والصيد واتّخاذ الغلمان والقيان والكلاب والنطاح بين الكباش والدباب والقرود، وما من يومٍ إلاّ يصبح فيه مخموراً([54]).

وكتب المسعودي: كان يزيد صاحب طَرَبٍ وجوارحٍ وكلابٍ وقُرُودٍ وفهودٍ ومنادمةٍ على الشراب([55]).

وكتب الإمام الحسين× في رسالةٍ إلى محمد بن الحنفيّة: لم أخرج أَشِراً ولا بَطِراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنَّما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمَّة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي([56]).

وذكر في رسالته إلى أعيان أهل البصرة: وأنا أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه؛ فإنّ السنّة قد أميتت، والبدعة قد أحييت([57]).

 

القسم الرابع: التقييم الفقهيّ لنهضة عاشوراء ــــــ

تمّ في هذا القسم البحث حول نهضة عاشوراء من المنظار الفقهيّ، انطلاقاً من المبنى القائل: إنّه لا يوجد أيُّ احتمال للخطأ والاشتباه في هذه النهضة؛ باعتبار أنّ الشيعة يعتقدون بأنّه ينبغي أخذ الفقه وتعلُّمه من أهل البيت^، وأنّ قول وفعل وتقرير الإمام المعصوم حجّةٌ ودليلٌ لنا.

لذا فالأئمّة المعصومون ـ الذين هم أقرب الأفراد إلى النبيّ| ـ أعلم من الآخرين بحكم الشرع، والناس مكلَّفون بالرجوع إليهم، وأخذ دين الله عنهم. وبناءً على هذا يكون الفقه وحكم الله نفس ما يقوله الإمام أو يفعله، أو ما يفعل في حضوره ويمضيه دون أن يعترض عليه.

إذن ما صدر من قولٍ أو فعلٍ عن الإمام الحسين× ممّا يتعلّق بعاشوراء هو حكم الله وفقه الدين، وإذا كان في قولٍ واحد أو فعلٍ واحد من أقوال وأفعال عاشوراء خطأٌ واشتباهٌ فإنّ جميع أقوال وأفعال الإمام سوف تسقط عن الحجّيّة.

ومن الواضح أنّ هذا الأمر لا يختصّ بالإمام الحسين×، بل يسري إلى الأئمّة المعصومين الآخرين أيضاً؛ حيث يسقط قول وفعل بقيّة الأئمّة عن الحجّيّة والدليليّة أيضاً. وهذا الموضوع بخلاف ما هو ثابت في مذهب الشيعة ضرورة. لكنّ بعض المؤرِّخين أو بعض علماء أهل السنّة ـ الذين بحثوا أو يتناولون المسائل الإسلامية بعين التعصُّب والعناد، وليس لديهم نظرةٌ باحثةٌ عن الحقيقة، ويقعون عادةً عند تحقيقهم وبحثهم في الاشتباه ـ وقعوا في خطأ فادح عند بحثهم في نهضة عاشوراء، أو عندما أوردوا على الالتزام بوجهة نظر الشيعة اعتراضات، ما جعل الحاجة إلى هذا البحث كبيرةً. في حين أنّ تقييم هذه النهضة بعنوان السنّة يمكن أن يكون منبعاً مهمّاً لاستنباط حكم الشرع.

والآن نشير إلى العناوين الفقهيّة التي يمكن أن تتصوَّر لنهضة عاشوراء:

 

1ـ التبليغ، والإرشاد، والبيان ــــــ

تعدّ قاعدة الاشتراك في الأحكام إحدى قواعد الفقه الثابتة؛ بمعنى أنّ المسلمين من صدر الإسلام إلى نهاية العالم مشتركون في العمل بأحكام الدين، واتّباع القرآن والسنّة، وملزمون بنفس الوظيفة التي كُلِّف بها مسلمو صدر الإسلام، ومكلّفون بها كسائر المسلمين إلى يوم القيامة أيضاً. إذن اشتراك أحكام الدين بين جميع المسلمين في كلِّ عصرٍ ثابتٌ بضرورة الفقه، ومن جهةٍ أخرى تعتبر معرفة حكم الله ركناً أصليّاً وأساسيّاً للعمل بأحكام الدين، فينبغي على المسلمين الذين يريدون أن يشتركوا مع بقيّة المسلمين في العمل بالقرآن والسنّة أن يعلموا بالقرآن والسنّة.

وتعليم الناس الأحكام وإرشادهم إلى دين الله ـ ابتداءً ـ وظيفة النبيّ المرسل من قبل الله والمبلِّغ دين الله تعالى، وبَعْده يكون الإمام المعصوم ـ الذي هو خليفته ـ المتعهِّد لإرشاد الناس وتبليغ الأحكام. فالإمام المعصوم خليفةٌ لرسول الله في جميع المناصب، وخصوصاً في منصب التبليغ والإرشاد، إلاّ التي تكون خاصّةً بالنبيّ|.

وقد قام بنو أميّة ـ من أجل الوصول إلى الأغراض الشخصيّة والرئاسة الدنيويّة ـ بإبعاد الناس عن دين الله، وإبقائهم جاهلين. وكان الانحراف عن دين الله والابتعاد عن أحكامه قد حصل أوّل الأمر بعد ارتحال النبيّ مباشرة، ووصل في زمان يزيد إلى غايته. وعلى هذا الأساس كان يجب على الإمام الحسين×، الذي هو مبلِّغ دين الله، أن يمنع الناس من الانحراف، ويجعلهم في طريق الإسلام الواقعي.

لذا كان يجب عليه أن يُخرِج الناس من الجهل والغفلة، ويحملهم على اتّباع القرآن والسنّة؛ باعتبار أنّ هذا الانحراف نشأ إثر انتشار الفِسْق والمعصية عَلَناً؛ مثل: شرب الخمر والقمار في دولة بني أميّة ـ وخصوصاً يزيد، الذي كان قد قبض على دفّة الحكومة الدينيّة بعنوان أنّه الحاكم، وأنّه المؤدّي لوظيفة رسول الله، وللخلافة في كلّ الرسالة، مستغفلاً الناس في ذلك ـ.

في تلك الأثناء قام الإمام الحسين× من أجل تعليم الناس الدين، وإرشادهم، وبيان الحقيقة. وهذا الموضوع يمكن أن يستفاد بوضوحٍ من كلام الإمام الحسين× عندما قال: أيّها الناس، إنّ رسول الله| قال: مَنْ رأى سلطاناً جائراً، مستحلاًّ لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطَّلوا الحدود، واستأثروا بالفيء، وأحلّوا حرام الله، وحرّموا حلاله([58]).

وقد بيَّن الإمام الحسين× وأطلع الناس بهذا النوع من الكلام على أعمال يزيد وأتباعه القبيحة، وأراد بذلك أن ينفض عنهم غبار الجهل، ويعرِّفهم بدين الله.

وكان هذا الجهل والانحراف قد تأسَّس منذ أمدٍ طويل، وشمل جميع الأمّة الإسلاميّة، إلى درجة أنّ بعض أولاد عليّ بن أبي طالبٍ وبعض بني هاشم أيضاً وقعوا تحت تأثيره؛ إذ حاولوا أن يمنعوا الإمام من الذهاب إلى العراق. ونفس هذا الجهل صار سبباً لعدم وفاء أهل الكوفة، وعدم مساعدته، وتركه في يد العدوّ.

أراد الإمام× بقيامه أن يحيي القلوب الميتة، وأن يوقظ الضمائر، وأن يبيِّن دين الله، ويعرِّفهم إيّاه. فقد ورد في الزيارة التي يُزار فيها الحسين في النصف من شعبان المنقولة عن الإمام الصادق×: أشهد أنّك قُتلتَ، ولم تمُتْ، بل برجاء حياتك حَيِيَتْ قلوبُ شيعتك، وبضياء نورك اهتدى الطالبون إليك([59]).

كما ورد في زيارته في عيدَيْ الفطر والأضحى: وبذل مهجته فيك، حتّى استنقذ عبادك من الجهالة، وحيرة الضلالة([60]).

كان يريد بتبيين دين الله أن يعي الناس ويعلموا دين الله، وأن ينقلوا هذا الدين إلى الأجيال الآتية، حتّى يصبح جميع الناس إلى يوم القيامة ممتثلين للأحكام، ومسؤولين عنها.

كان الإمام يعلم أنّ هذا الجهل ليس عُذْراً للناس، ولا يمكنه أن يبرِّئهم يوم القيامة؛ فقد كان هذا الجهل بمستوى الغفلة عن أوضح المسائل الإسلاميّة، كما أنّه يعدّ بمثابة نسيان لموضوعٍ مثل الحكومة الإسلاميّة وخلافة النبيّ ـ التي هي من أركان الإسلام، ومن أوضح المسائل الإسلاميّة ـ، وتسليم الحكومة إلى غير أهلها، وللإمام كلامٌ كثيرٌ في بيان هذا الموضوع، منه: أيّها الناس، إنّكم إنْ تتَّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمدٍ| أَوْلى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدَّعين ما ليس لهم، والسائرين بالجَوْر والعدوان([61]).

وكتب في رسالةٍ إلى أهل البصرة: إنّ الله اصطفى محمداً| على خلقه، وأكرمه بنبوّته، واختاره لرسالته، ثم قبضه الله إليه، وقد نصح لعباده، وبلَّغ| ما أرسل به، وكنّا أهله وأولياءه وأوصياءه وورثته، وأحقّ الناس بمقامه في الناس، فاستأثر علينا قومُنا بذلك، فرضينا، وكرهنا الفرقة، وأحببنا العافية، ونحن نعلم أنّا أحقّ بذلك الحقّ المستحقّ علينا ممَّنْ تولاّه([62]).

يبيِّن الإمام× بهذا النوع من الكلام أنّ بني أميّة ليسوا أهلاً للحكم الإسلاميّ، وأنّ المؤهَّل الوحيد لذلك هم أهل بيت النبيّ.

إنّ ضرورة إرشاد الناس إلى دين الله وهدايتهم وتحريرهم من الجهل هي التي دَعَتْ الإمام الحسين× إلى أن يبيِّن ـ بقوله وعمله ـ ذلك في نهضة عاشوراء.

وبناءً على ذلك على الإمام أن يؤدّي هذه الوظيفة حتّى لو لم يجِدْ أيَّ ناصر، أو كان الناصر قليلاً؛ مثل جدّه رسول الله، الذي كان وحيداً في بداية البعثة، ثم بعد سنوات وجد أنصاراً قليلين، لكنَّه لم يتقاعس، بل سعى في تبليغ دين الله.

كان الإمام× يعتقد بأنّ استشهاده في سبيل هداية الناس هو الأفضل: ألا ترَوْن أنّ الحقّ لا يعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً([63]).

وقد يُثار سؤالٌ، وهو: لماذا نهض الإمام مع أنّه كان يعلم بعدم وفاء أهل الكوفة وقلّة أنصاره؟

لكن يمكن الجواب بالقول: لقد كان هدف الإمام× بيان دين الله، وتبليغ الناس أحكامه، لا هزيمة العدوّ المادّيّة، وقد تحقَّق هذا الهدف من خلال نهضة عاشوراء. ومن الطبيعي أنّ الإمام كان يعتقد أيضاً بأنّ نهوضه لم يكن بحاجةٍ إلى كثرة الأنصار، لذا كان على الإمام أن يخالف يزيد أيضاً، ويمتنع عن بيعته، حتّى لو لم تكن دعوة أهل الكوفة ونصرة ومعاونة أنصاره الاثنين وسبعين شخصاً، ورغم علمه بأنّ المخالفة ستؤدّي إلى قتله؛ لأنّه قال: ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين، بين السلّة والذلّة، وهيهات منا الذلّة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وحجورٌ طابت وطهرت، وأنوفٌ حميّةٌ، ونفوسٌ أبيّةٌ، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام([64]).

قال الإمام الخميني في هذا الخصوص: لم يكن عند الإمام الحسين× قوّةٌ عسكريةٌ كبيرةٌ، ومع ذلك نهض. وكان بإمكانه ـ والعياذ بالله ـ أن يبقى متقاعساً، ويجلس ويقول: ليس تكليفي الشرعيّ أن أقوم الآن، وكان البلاط الأمويّ سيفرح كثيراً بجلوسه وسكوته. لكنّ سيّد الشهداء كان يعتقد أنّه مكلَّف بالنهوض، وتقديم دمه حتّى تصلح الأمّة…. نعم، لقد قدَّم دمه وقدّم دم أولاده وقدّم أولاده وقدّم كلّ ما يملك للإسلام([65]).

 

2ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ــــــ

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروع الدين البديهيّة والثابتة بالضرورة، بل تعدّ هذه الوظيفة ـ في الحقيقة ـ بمثابة الحارس الإجرائيّ، والضامن للعمل بالأحكام الأخرى، وتعمل على نظارة المجتمع على نفسه، ومنع أفراده من الانحراف والتلوّث بالمعاصي. ويمكن لهذه الفريضة أن تهدي المجتمع الإسلاميّ إلى السعادة والكمال. كما يمكن أن يعتبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أحد دوافع نهضة عاشوراء، التي أشار إليها الإمام× في كلامه: أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدّي وأبي([66]).

نعم، ينبغي العلم بأنّ نهضة عاشوراء تختلف عن الموارد الأخرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّه في الموارد الأخرى يترك حكم من أحكام الإسلام في موردٍ خاصٍّ، ولا يعمل به، في حين أنّ المسلمين مكلَّفون بتنفيذه. لكنّ الأمر لم يكن كذلك في زمان سلطة يزيد، بل كان الأمر بحيث إنّ كثيراً من أحكام الدين صارت ألعوبة بأيدي الظالمين، وصارت أركان الإسلام وأصوله ـ كالإمامة وخلافة النبيّ ـ ضحيّة أهواء بني أميّة، وكان المجتمع الإسلاميّ يتحرّك بسرعةٍ كبيرةٍ نحو الفساد وعدم الالتزام بالدين، كما أضحى الدين بأسره في معرض خطر الزوال من أساسه([67])،  ولم تكن الخطبة والموعظة وحدها كافيةً لمنع الناس عن هذه الحركة الخاطئة، بل كان يجب أن تحدث حركةٌ متعدِّدة الجوانب، ويصل صوتها إلى أبعد نقطة في الأراضي الإسلاميّة، حتّى تستطيع أن توجد تراجعاً عن تلك الحركة، وتعمل على تحريك المجتمع للمسير الواقعي للإسلام.

بناءً على ذلك تكون الشروط التي أوجبها الفقهاء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معتبرةً في سائر الموارد الأخرى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك عندما لا يكون فيها حكمٌ من الأحكام في معرض الخطر والزوال، أمّا إذا كان أصل الدين وأكثر أحكامه في معرض الخطر أو الزوال فلا تعتبر شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المذكورة في الفقه عندئذٍ. لذا فقد صرَّح الفقهاء في كتبهم الفقهيّة بهذه المسألة؛ وهي أنّه إذا كان أصل الدين في معرض الخطر أو الزوال يجب الدفاع عنه، وعدم التواني في تقديم المال والنفس والأولاد في سبيل ذلك.

من هنا أعلن الإمام الحسين× أنّه يريد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويضحّي بنفسه وماله وأولاده في هذا الطريق. وهذا نفسه دليلٌ واضحٌ على أنّه لا يعتبر في سبيل الدفاع عن الدين ما يعتبر من شروط في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

قال الإمام×: وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليت الأمّة براعٍ مثل يزيد([68]).

إذن كلّما كان أصل الإسلام في خطرٍ وجب النهوض من أجل الدفاع عنه، والتضحية بكلّ شيء.

 

 3ـ دعوة أهل الكوفة ــــــ

من جملة الأسباب التي أدّت إلى قيام الإمام الحسين× دعوة أهل الكوفة له لتولّي قيادة الأمّة، وتعهّدهم له بأن يحاموا عنه، وأن لا يقصّروا عن مساعدته في مواجهة الأعداء.

ودعوة الناس للإمام واستعدادهم لبيعته تعيِّن على الإمام أن يجيبهم إلى ما دعَوْه، والقبول بالحكومة عليهم، فعندما لا يتحرّك الناس، ولا يطلبون من الإمام النهوض، لا يكون الإمام أيضاً مكلَّفاً بتشكيل الحكومة أو القيام بأيّ شيء، وقد حدث هذان الأمران لأمير المؤمنين×؛ إذ عندما امتنع الناس عن مساعدته جلس في البيت، ولم يقُمْ بأيّ نشاط في سبيل تشكيل الحكومة أو تولّي السلطة، ولكنْ عندما أقبل الناس نحوه، ومدّوا له يد البيعة، وعرضوا عليه المساعدة والحماية، نهض بأعباء تشكيل الحكومة.

فقد نُقل عن الإمام عليٌّ× أنّه قال: أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الحَاضِرِ، وَقِيَامُ الحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَنْ لا يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لأَلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها([69]).

ونفس هذا الأمر حدث للإمام الحسين×؛ فقد دعاه أهل الكوفة التي كانت كبيرةً، وكان فيها الكثير من المقاتلين المجرَّبين، وشارك أهلها من قبل في حروبٍ كثيرةٍ…، دعاه أهلها للقدوم إليهم بإرسال الرسائل الكثيرة، ووعدوه بأن يحمُوه بأنفسهم وأموالهم، وبأن يقفوا في مواجهة أعدائه. وكانت هذه الدعوات كثيرةً، بحيث وصل إلى يد الإمام في يومٍ واحدٍ ستّمائة رسالة، ووصل مجموع الرسائل والكتب التي أُرسلت إلى اثني عشر ألفاً، وكانت قد حدثت تحرّكاتٌ في البصرة أيضاً، وحدث تبادل في الرسائل بين الإمام وأهلها. وقد أُشير إلى بعضها في ما سبق.

وكانت هذه الدعوة ـ التي هي في الظاهر من جهة الكمّيّة والكيفيّة تستحقّ الالتفات إليها ـ تعمل في الظاهر على تحديد وظيفة الإمام بالبدء بالقيام، وبالتحرُّك نحو الكوفة، وبإجابة هذه الدعوات والمشاعر. ولو فرض أنّ الإمام اعتذر عن تلبية دعوة أهل الكوفة، وعن الاستجابة لاثني عشر ألف رسالة، وقال: لن آتي إلى الكوفة؛ لأنّكم غير أوفياءٍ، ولا يمكنني أن أعتمد على كلامكم…، فهل سيقبل التاريخ هذا العذر؟ وهل كان بإمكانه ـ بعد ردِّ دعوة أهل الكوفة، وعدم قبول طلبهم ـ أن يعيش مرتاح البال؟

لقد كان الإمام على علمٍ بنقض أهل الكوفة للعهد، إلا أنّه لم يكن يستطيع أن يتّخذه عذراً له، وأن يقصِّر في تشكيل الحكومة؛ لأنّه يعمل ـ بحسب الظاهر ـ بناءً على التكاليف الشرعيّة، كما هو الحال عند بقيّة الناس، لا أنّه يستفيد من علم إمامته.

إنّ الحركة التي كان قد شرع بها الإمام× من المدينة (من عدم البيعة ليزيد)، وأكملها بعنوان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، صارت هادفةً بدعوة الكوفيّين لتشكيل الحكومة، وصارت هذه الدعوة باعثاً لعدم توقُّفه عن الحركة، رغم علمه بانتهائها بالشهادة، فقد قال×:

فإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادةً *** والحياة مع الظالمين إلاّ برما([70])

إذن يمكن اعتبار دعوة الكوفيّين سبباً لخروج الإمام× من مكّة، كما يمكن اعتبار إصراره على استمرار النهضة، بعد علمه بنقض الكوفيين للعهد، مسبَّباً عن الإرشاد أو الأمر بالمعروف.

 

التقيّة والنهضة ــــــ

بعد التقييم الفقهيّ لنهضة عاشوراء، واتّضاح ضرورة وجودها، لم يبقَ أخيراً مجالٌ للتقيّة والسكوت؛ لأنّ التقيّة شرّعت من أجل حفظ الدين من الزوال، وقد ثبت هذا في محلّه، بينما إذا كان أصل الدين في معرض الخطر أو الزوال فلن يكون ثمّة مجالٌ للتقيّة. وبناءً على ذلك إذا قال شخصٌ: لماذا لم يمارس الإمام الحسين× التقيّة فيجب القول: كانت التقيّة في زمان يزيد إعانةً على إزالة الدين، لا حفظاً له. لذا قال الإمام الخمينيّ في هذا الخصوص: عندما رأى سيد الشهداء× حاكماً ظالماً وجائراً يحكم في الناس صرَّح بأنّه إذا رأى أحدٌ حاكماً ظالماً وجائراً يحكم في الناس، ويظلم الناس، يجب أن يقف في وجهه، ويمنعه بقدر ما يستطيع، ولو بعدّة أشخاصٍ، ولو لم يعدّوا في مقابل ذلك الجيش شيئاً([71]).

القسم الخامس: الاعتراضات ــــــ

لقد سجّل بعض مؤرّخي ومفسّري أهل السنّة على امتداد التاريخ عدّة اعتراضاتٍ على نهضة عاشوراء، وذلك من خلال نظرةٍ بعيدة عن طلب الحقيقة، منها:

 

1ـ عدم القدرة على القيام ــــــ

اعترض ابن خلدون، المؤرّخ والعالم الاجتماعيّ المشهور، في مقدّمة تاريخه، على نهضة عاشوراء، واعتبر أنّ سبب عدم نجاحها هو عدم القدرة؛ حيث قال: رأى الحسين أنّ الخروج على يزيد متعيِّنٌ من أجل فسقه، ولا سيّما مَنْ له القدرة على ذلك، وظنّها من نفسه بأهليّته وشوكته، فأمّا الأهليّة فكانت كما ظنّ وزيادةً، وأمّا الشوكة فغلط يرحمه الله([72]).

وقال بعد بيان أسباب عدم القدرة: فقد تبيَّن لك غلط الحسين، ولقد عذله ابن العبّاس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفيّة أخوه وغيرهم في مسيره إلى الكوفة، وعلموا غلطه في ذلك، ولم يرجع عمّا هو بسبيله؛ لما أراده الله([73]).

 

الجواب ــــــ

لقد اتّضح جواب هذا الاعتراض من خلال بيان التقييم الفقهيّ والحقوقيّ لنهضة عاشوراء ـ الذي طرح سابقاً ـ؛ وذلك لأنّ الدوافع التي ذكرت لنهضة عاشوراء لا تحتاج إلى القدرة المادّية، بل الهدف منها نفس القيام والحركة، ولو لم يحصل من ذلك هزم العدوّ والانتصار عليه. مع أنّ القدرة الكافية للقيام كانت قد حصلت له، وكانت تتداعى في الظاهر من خلال دعوة الكوفيّين، الذين كان عندهم جيشٌ مجهَّزٌ وقويّ، ومن خلال الارتباط الذي كان قد حصل بين الإمام× وأهل البصرة.

وبحسب التجربة الثابتة فإنّ الثورات الكبرى التي حصلت في التاريخ شرعت في بدايتها بمجموعةٍ قليلة من مكانٍ مخصوص، ثمّ اتَّسعت بشكلٍ تدريجيّ، واستطاعت أن تهزم نظاماً قويّاً في بلدٍ كبير.

لكنّ العجيب أنّ هذا العالِم الاجتماعيّ المشهور، الذي اعتبر نهضة الإمام الحسين اشتباهاً، اعتبرها في نفس الوقت إرادة الله وفعل الله، واعتبر الله أيضاً شريكاً للحسين في هذا الاشتباه.

والأعجب من ذلك أنّه يعتبر جيش يزيد أيضاً على حقٍّ ومثاباً، رغم أنّه يعتبر يزيد فاسقاً وعلى غير الحقّ. فقد قال: اعلم أنّه إنّما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً، وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل، وهو مفقودٌ في مسألتنا، فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد، ولا ليزيد، بل هي من فعلاته المؤكِّدة لفسقه، والحسين فيها شهيدٌ مثاب، وهو على حقٍّ واجتهاد. والصحابة الذين كانوا مع يزيد على حقٍّ أيضاً واجتهاد([74]).

ومن العجيب جدّاً صدور هذا التناقض في القول من قبل هذا المؤرِّخ والعالِم الاجتماعيّ المشهور؛ إذ كيف لم يفكِّر بلوازم ونتائج قوله؟! وكيف يمكن أن يكون الحسين على حقٍّ، ويكون قاتلوه، مثل: ابن زياد، وعمر بن سعد، وشمر، على حقٍّ أيضاً، رغم أنّه لم يكن أيُّ إبهام في شخصيّة وصفة الإمام الحسين×، حتّى يشتبه الأمر على قاتليه؟! بل كيف يمكن أن يكون يزيد فاسقاً، ويكون أتباعه الذين حاربوا الإمام، وقتلوه، على حقّ؟!

 

 2ـ الخروج على أولي الأمر ــــــ

قال القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي، الذي لديه نظرةٌ معاندة حول واقعة عاشوراء: «قُتل الحسين بحُكْم شرع جدِّه»([75]).

مقصوده من هذا الكلام أنّ الحسين باغٍ؛ لأنّه خرج على أولي الأمر، وحُكْم البَغْي في الشرع القتل والمحاربة.

لكنّ هذا الكلام واهٍ، إلى درجة أنّ ابن خلدون ـ الذي اشتبه في توجيه نهضة عاشوراء ـ أجاب عن هذا الاعتراض، وقال: قد غلط هذا القاضي، وغفل عن أوضح شرائط البَغْي؛ لأنّ علماء الإسلام يشترطون في البَغْي الخروج على الإمام العادل، ومَنْ أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء؟!([76]).

من هنا يتبيّن أنّ جميع علماء الإسلام متَّفقون ـ في تقييمهم لنهضة عاشوراء ـ على أنّ هذه النهضة لا تتَّصف بحكم البَغْي، ولا يمكن أن تكون نهضة عاشوراء في نظر أيّ فقيهٍ بَغْياً وخروجاً على الإمام العادل؛ لأنّ فسق يزيد أمرٌ واضحٌ يعترف به الجميع.

 

 3ـ حرمة الإضرار ــــــ

اعتبر بعض المفسِّرين الآية الشريفة: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾(البقرة: 195) دليلاً على حرمة الإضرار بالنفس، وقالوا بأنّ الإضرار بالنفس حرامٌ، وخصوصاً تعريضها للهلاك. وهناك أشاروا إلى نهضة الإمام الحسين×، وأرادوا توجيهها حتّى تنسجم مع مدلول هذه الآية.

يقول الطبرسي، الذي هو من مفسِّري الشيعة، في ذيل الآية السابقة: في هذه الآية دلالةٌ على تحريم الإقدام على ما يُخاف منه على النفس، وعلى جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف؛ لأنّ في ذلك إلقاءَ النفس إلى التهلكة. وفيها دلالةٌ على جواز الصلح مع الكفّار والبغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول الله| عام الحديبية، وفعله أمير المؤمنين× بصفّين، وفعله الحسن× مع معاوية من المصالحة، لمّا تشتَّت أمره، وخاف على نفسه وشيعته. فإنْ عُورضنا بأنّ الحسين× قاتل وحده فالجواب: إنّ فعله يحتمل وجهين: أحدهما: إنّه ظنّ أنّهم لا يقتلونه؛ لمكانه من رسول الله؛ والآخر: إنّه غلب على ظنّه أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زيادٍ صَبْراً؛ كما فعل بابن عمّه مسلم، فكان القتل مع عزّة النفس والجهاد أهون عليه([77]).

والجواب الكامل أنّ هذه الآية تتحدَّث عن الإنفاق في سبيل الله، فقد قال المفسِّرون في بداية تفسيرهم لها: المقصود في هذه الآية رمي النفس في التهلكة إثر ترك الإنفاق، وهذا التفسير ليس له أيّ ارتباطٍ بحرمة الإضرار بالنفس؛ لأنّ الله في صدر هذه الآية يأمر بالإنفاق، ويقول: ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين﴾ (البقرة: 195). والحال أنّ ترك الإنفاق يجرّ المجتمع إلى الهلاك، ويقطع شريانه الاقتصادي. إذن يجب أن يكون المال في حال الإنفاق والجريان حتّى تقوى الحياة الاقتصاديّة للمجتمع.

نعم، يمكن لهذه الآية أن تكون دليلاً على حرمة الإضرار بالنفس في صورة ثبوت عموم أو إطلاق في جملة: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾، وشمولها لكافّة الموارد التي لها الصلاحيّة لذلك.

لكنّ هذا الاحتمال غير موجود؛ لأنّ صدر وذيل الآية صالحان للتقييد والقرينيّة على خصوص ترك الإنفاق.

والنتيجة أنّ مفهوم الآية يختصّ بترك الإنفاق. وإذا كان لهذه الآية دلالةٌ على حرمة الإضرار بالنفس فيجب أن يخصَّص العموم أو الإطلاق الموجودين فيها بموارد كثيرةٍ لا يحرم فيها الإضرار بالنفس في الشرع، بل يجوز أو يجب، ومن جملتها: الجهاد في سبيل الله، والاستشهاد من أجل إحياء الإسلام وتبليغ الدين. وقد تبيَّن هذا في قسم التقييم الفقهيّ لنهضة عاشوراء.

ومن جهةٍ أخرى يمكن للسنّة القطعيّة أن تخصِّص عموم الآية. وفي عقيدتنا نحن الشيعة أنّ قول الإمام وفعلَه سنّةٌ. إذن ما صدر في عاشوراء من فعلٍ أو قولٍ للإمام الحسين× يمكنه أن يخصِّص عموم الآية، ولا نحتاج إلى توجيه نهضة عاشوراء، وجعلها منسجمةً مع مدلول الآية.

ومن جهةٍ ثالثةٍ ليست الشهادة في سبيل الله، والاستشهاد من أجل انتصار الإسلام، إلقاءً للنفس في التهلكة، وإلاّ لوجب إغلاق باب الجهاد، واعتبار سعي النبيّ| الحثيث في بدء البعثة إلقاءً للنفس في التهلكة، كما هو واضح.

واللافت أنّ كثيراً من مفسِّري أهل السنّة، في ذيل هذه الآية، لم يعتبروا الاستشهاد في سبيل الله من باب إلقاء النفس في التهلكة.

فقد نقل الزمخشري في ذيل هذه الآية عن أبي أيّوب الأنصاري أنّه كان يقول: نحن أعلم بهذه الآية، وإنّما أنزلت فينا، صحبنا رسول الله فنصرناه، وشهدنا معه المشاهد، وآثرناه على أهالينا وأموالنا وأولادنا، فلمّا فشا الإسلام، وكثر أهله، ووضعت الحرب أوزارها، رجعنا إلى أهالينا وأولادنا وأموالنا نصلحها ونقيم فيها، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال، وترك الجهاد([78]).

نرى في هذه الرواية أنّ أبا أيّوب الأنصاري اعتبر ترك الجهاد وقوعاً في التهلكة، لا اختيار الجهاد؛ لأنّ الجهاد والقتل في سبيل الله سعادة الدنيا والآخرة، وهو حياةٌ باقيةٌ في عالم البَرْزَخ، لا فناءٌ وزوال.

وقال الفخر الرازي أيضاً، في ذيل هذه الآية، بعد نقل الرواية السابقة: روى الشافعي أنّ رسول الله ذكر الجنّة، فقال له رجلٌ من الأنصار: أرأيتَ يا رسول الله إنْ قُتلتُ صابراً محتسباً؟ قال: لك الجنّة، فانغمس في جماعة العدوّ، فقتلوه بين يدي رسول الله. وإنّ رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كانت عليه حين ذكر النبيّ الجنّة، ثم انغمس في العدوّ، فقتلوه. ورُوي أنّ رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفاً على مَنْ قتل من أصحابه، فقال لبعض مَنْ معه: سأتقدّم إلى العدوّ، فيقتلونني، ولا أتخلَّف عن مشهد قُتل فيه أصحابي، ففعل ذلك، فذكروا ذلك للنبيّ|، فقال فيه قَوْلاً حسناً([79]).

يتَّضح من أمثال هذه الروايات أنّ الشهادة في سبيل الله ليست إضراراً بالنفس، وإلقاءً لها في التهلكة، بل هي وسيلةٌ للذهاب إلى الجنّة، وتحصيل رضا الله.

وبناءً على ذلك فإذا كان لهذه الآية دلالةٌ على حرمة الإضرار بالنفس يجب أن يخرج الجهاد عن مدلولها، وكذلك القتل في سبيل الله؛ من أجل انتصار الإسلام، وإحياء كلمة الحقّ، وتبليغ الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان أحكام الدين، وإبقائها إلى يوم القيامة؛ لإفادة الأجيال اللاحقة إلى يوم القيامة، فضلاً عن المحافظة على بقيّة الأهداف الكبرى والعالية الأهمّ من نفس الإنسان. فجميع هذه الموارد خارجةٌ عن مدلول الآية، وليست الآية ناظرةً إليها.

وعلى هذا الأساس لا تكون هناك حاجةٌ إلى الجواب الذي بيَّنه الطبرسي في تفسير مجمع البيان على مدلول هذه الآية حول نهضة عاشوراء، ولا داعي لذكر الاحتمالين اللذين عرضهما بعنوان توجيه نهضة الإمام الحسين×. والطبرسي نفسه أعلم بجوابه.

 

الهوامش

(*) باحثٌ متخصِّص في الدراسات التاريخية والشرعية.

([1]) تفيد في اللغة الفارسية معنى الثورة.

([2]) محمد معين، فرهنگ معين (القاموس المعين) 2: 2087.

([3]) محمد غفراني، فرهنگ اصطلاحات روز (قاموس الاصطلاحات اليومية): 211.

([4]) لويس معلوف، المنجد: 224، كلمة دَمَر.

([5]) هذا التعريف ورد للفوضوية، لا للانتفاضة. ومن الواضح أنّه لا علاقة بينهما أساساً، فقد ظنّ الكاتب أنه إذا جاء بتعريف الفوضويّة فقد جاء بتعريف الانتفاضة. (المترجم).

([6]) المنجد: 599، كلمة فَوَض.

([7]) فرهنگ معين (القاموس المعين) 1: 365، كلمة انتفاض.

([8]) ابن منظور، لسان العرب 7: 210.

([9]) المنجد: 44، كلمة بَغَي.

([10]) فرهنگ معين (القاموس المعين) 1: 554.

([11]) لسان العرب 14: 28.

([12]) المنجد: 75؛ فرهنگ معين (القاموس المعين) 1: 119.

([13]) المنجد: 648.

([14]) فرهنگ اصطلاحات روز (قاموس الاصطلاحات اليومية): 31.

([15]) فرهنگ معين 1: 386.

([16]) لسان العرب 4: 108.

([17]) المنجد: 173، كلمة خروج.

([18]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 21: 322.

([19]) لسان العرب 14: 78، كلمة بَغَي.

([20]) جواهر الكلام 21: 334.

([21]) المصدر نفسه.

([22]) المصدر السابق 21: 325؛ العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء 9: 292.

([23]) جواهر الكلام 21: 332.

([24]) المصدر السابق 21: 342.

([25]) تذكرة الفقهاء 9: 396.

([26]) الماوردي، الأحكام السلطانيّة: 6؛ تذكرة الفقهاء 9: 393.

([27]) الإمام الخميني، تحرير الوسيلة 2: 492.

([28]) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة 15: 120.

([29]) المصدر السابق 28: 307.

([30]) المصدر السابق 28: 315.

([31]) الطبرسي، مجمع البيان 3: 325.

([32]) تحرير الوسيلة 2: 493.

([33]) وسائل الشيعة 28: 308.

([34]) المصدر نفسه.

([35]) المصدر نفسه.

([36]) راجع: وسائل الشيعة 16، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

([37]) مجمع البيان 2: 362.

([38]) الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 3: 376.

([39]) تذكرة الفقهاء 9: 441.

([40]) الروضة البهيّة 2: 412.

([41]) وسائل الشيعة 16: 117.

([42]) المصدر نفسه.

([43]) المصدر السابق 16: 118.

([44]) المصدر نفسه.

([45]) المصدر السابق 16: 119.

([46]) تحرير الوسيلة 1: 463.

([47]) وسائل الشيعة 16: 126.

([48]) تحرير الوسيلة 1: 465.

([49]) المصدر السابق 1: 472 ـ 473.

([50]) المصدر السابق 1: 473 ـ 474.

([51]) المصدر السابق 1: 476.

([52]) تاريخ ابن خلدون 1: 269.

([53]) أنساب الأشراف: 56. أقول: كأنّ الكاتب لم يلتزم بنقل الرواية حرفياً، بل مزج بها رواية أخرى: «…فخرج إلى يزيد بن معاوية، فلمّا كان على مرحلة من دمشق نزل وضرب له خباءً وحجرة، فإنّه لجالس إذا كلبةٌ من كلاب الصيد قد دخلت عليه، وفي عنقها طَوْقٌ من ذهب، وهي تلهث». (المترجم).

([54]) ابن كثير، البداية والنهاية 8: 236.

([55]) المسعودي، مروج الذهب 3: 67.

([56]) باقر شريف القرشي، حياة الإمام الحسين× 1: 11.

([57]) تاريخ الطبري 4: 266.

([58]) المصدر السابق 4: 304.

([59]) الشيخ عباس القمّي، مفاتيح الجنان: 443.

([60]) المصدر السابق: 448.

([61]) ابن الأثير، التاريخ الكامل 4: 41.

([62]) أبو مخنف الأزدي، مقتل الحسين: 117.

([63]) عليّ بن شعبة الحرّاني، تحف العقول: 245.

([64]) السيد ابن طاووس، اللهوف في قتلى الطفوف: 59.

([65]) الإمام الخميني، المحاضرة بتاريخ: 6 ـ 3 ـ 1350هـ.ش، كتاب الإيثار والشهادة: 211.

([66]) حياة الإمام الحسين× 2: 264.

([67]) مروج الذهب 3: 27، 567.

([68]) اللهوف في قتلى الطفوف: 18.

([69]) نهج البلاغة، الخطبة 3.

([70]) تحف العقول: 245.

([71]) الإمام الخميني، المحاضرة بتاريخ: 3 ـ 8 ـ 1357هـ.ش، كتاب الإيثار والشهادة: 204.

([72]) تاريخ ابن خلدون 1: 269.

([73]) المصدر السابق 1: 270.

([74]) المصدر نفسه. أقول: لقد اشتبه الكاتب، وظنّ أنّ المراد بالصحابة الذين يعتبرهم ابن خلدون على حقٍّ واجتهاد هم الذين قاتلوا الإمام الحسين مع يزيد، كابن زياد وعمر بن سعد، ولكنّ مراده هم الصحابة الذين وقفوا على الحياد، ولم يقاتلوا الإمام الحسين، كمحمد بن الحنفية وابن عبّاس وابن عمر وأبي سعيد الخِدْري، بل هو يصرِّح بأنّ قاتلي الحسين مع يزيد ليسوا على حقٍّ، فهو يقول: فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد. (المترجم).

([75]) المصدر نفسه.

([76]) المصدر نفسه.

([77]) مجمع البيان 2: 35.

([78]) الزمخشري، تفسير الكشّاف عن حقائق التنـزيل 1: 237.

([79]) الفخر الرازي، التفسير الكبير 4: 150.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً