يجدر بنا بدايةً أن نشير إلى أن مصطلح "المثقف" من المصطلحات الجديدة في فضاء ثقافتنا العربية والإسلامية عموماً من حيث الاستخدام والتداول.. وهو يعطينا فكرة أولية عن وجود فرد أو مجموعة أفراد ينتمون إلى طائفة أو جماعة أو فئة أو طبقة أو نخبة أو صفوة من الناس تفكر بذاتها وبواقعها والتزاماتها وعلاقاتها، وتتداول المعرفة في مجتمعاتها، وكل هؤلاء هم أشخاص موجودون في التاريخ وعبره، وفي كل المجتمعات، وعلى أرض الواقع، وبين الناس.
ويمكننا هنا أن نعرف "المثقف" عموماً بأنه ذاك الإنسان المطلع بعمق على واقع الحياة والعصر بمختلف تياراته وقواه وحيثياته المعرفية والسياسية والاجتماعية، وهو القارئ بإدراك ووعي فكري لأبعاد الوجود والحياة والمجتمع، والمنتج للفكر والمعرفة الهادفة التي تتميز بالانتظام والاتساق المنهجي.. وهذه الإنتاجية المعرفية -إذا جاز التعبير- التي يبدعها المثقف العام –المتخصص في حقل فكري ما- يراد من خلالها التأثير في عقول الناس وتوسيع نطاق المشاركة المجتمعية حول جملة الأفكار (العقلية أو التجريبية أو الدينية أو..) التي يؤمن بها أو يعتقدها هذا المثقف، والتي يريد من المجتمع العام أن يتداولها من جملة ما يتداوله من طروحات وأفكار بالانطلاق من مرجعيات فكرية أو اعتقادية أو أيديولوجية أو فنية أو جمالية.
وأما مصطلح "المثقف الديني" فهو مصطلح قائم وموجود ومتداول، ويخص كل مشتغل فكري على قضايا الفكر الديني وشؤون التراث والحداثة والمعاصرة، وقضية إدخال الدين في العصر ودمجه في مختلف قيمه ومفاهيمه ومعطياته المادية.. طبعاً هذا مصطلح أضحى أكثر تخصصية من مصطلح المثقف العام، لأنه يشير إلى نوع محدد من المثقفين الذين يعتقدون بأحقية الحكم الديني (الإسلامي في بلداننا العربية والإسلامية)، ويبشرون بأولوية الدين وأحقية الفكر الديني الإسلامي على أي فكر آخر.. وهم ينهلون من معين الثقافة الإسلامية (وهي القرآن والسنة وفكر وسلوك النبي محمد) معظم مفاهيمهم ومبادئهم والتزاماتهم الفكرية والعملية في الحياة.. كما أنهم يضعون نصب أعينهم مهمة المساهمة الفعالة والمشاركة المنتجة في تحقيق وتمثل تلك القيم والطروحات الدينية التي جاءت بها مختلف الأديان والدعوات الدينية.
ومن الواضح أن اهتمام المثقف الديني في السابق اختلف عنه في الوقت الحاضر، حيث كان يهتم بإظهار قوة الدين وقدرته على تطبيق مفرداته وقيمه في أي عصر من دون تجديد ولا وعي ولا مساءلة.. محاولاً استخدام كل الوسائل والأدوات الناعمة والخشنة لإيصال فكرته ودعوته ودفاعه ولتثبيت دعواه وتبيان معناه وإظهار وتطبيق مفرداته وقناعاته الدينية.. أما حالياً فصفة الديني التي تضاف إلى كلمة مثقف ليس بالضرورة أن تعني التزاماً دينياً لهذا المثقف بقدر ما تعني محاولته تقديم الدين بمعاني جديدة، وتجسيد قيمه ومبادئه بصورة تناسب تطورات الحياة والعصر سواء بالنقاش الجاد والحوار المثمر، بالإقناع وبالتي هي أحسن.. وسلوك طريق وجانب العقل والتسامح العملي، وكل أدوات الحوار العقلاني الهادئ مع الآخر للوصول إلى أهدافه وتطلعاته.
وحتى لا نبخس المثقف الديني حقه نؤكد هنا على وجود تيار ثالث بين المثقفين الدينين لا ينتمي إلى أي تيار ديني معين، ولا ينخرط في أي مسلك حزبي لهذه الجهة أو تلك، ولا يهمه صعود أو سقوط حزب ديني أو مذهبي، بقدر ما يهمه بقاء صورة الإسلام كدين إنساني متسامح ونقي في التصور العام للإنسان والمجتمع من حيث كونه ديناً إنسانياً معتدلاً ووسطياً قبل أي شيء آخر، منطلقاً من الدين، في قيمه وتشريعاته ومقاصده وغاياته، لبناء التقدُّم والتطوُّر والنهوض لمجتمعه وأمته... وهذا النوع من المثقفين غالباً ما تراهم يشتغلون على نقد الأفكار الدينية –قبل نقدهم للأفكار المتعارضة معهم- نقداً فلسفياً وعقلانياً شديداً ومركزاً، ويدعون إلى سلوك طريق العقل والاجتهاد العلمي في موروثات الدين، مقدمين جملة مبررات عملية قانونية صرفة لا تخص طرفاً أو تياراً أو طائفة أو مذهباً بذاته، وإنما تخص الدين عموماً بفكره ومبادئه مختلف تشريعاته والتزاماته العملية التي يراد للإنسانية السير بهداها لتحقيق التكامل الممكن لها.. وكل ما يهم هذا النوع من المثقفين –في هذا المجال- هو إعادة التأكيد على ضرورة اتباع منهج وفكر التنوير الديني العقلي، ومزيد من محاولات تأصيل قيم التسامح والاعتدال والدعوة، ونشر وتعميم ثقافة المحبة وسلوك طريق العدل والأخوة الإنسانية في عمق التصورات والمبادئ الأخلاقية الدينية.
وحديثي هنا عن المثقف الديني المعتدل في فكره وسلوكه الإنساني المتوازن المنسجم فيه مع ذاته ومع واقعه، لا ينسحب ولا ينطبق أبداً على المثقف الديني الأصولي[1]الذي لا يزال يعيش داخل قوقعته المغلقة، وهي قوقعة وهم ثقافة وفقه القرون القديمة التي لا يفهمها إلا بلغته القديمة المتخشبة الخاصة جداً؟!. إذ كيف يمكننا تصديق أقوال الداعية الأصولي الذي حمل السلاح في وجه أبناء مجتمعه وبلده، ومارس عمليات الإقصاء الدموي بحقهم قبل غيرهم، وقام بارتكاب أفظع الاغتيالات ضد خيرة أبناء مجتمعه، وهو نفسه بنى وأقام وجوده الفكري والعملي على المطلقات التاريخية والعقائدية المقدسة التي تنفي الآخر من جذوره، وتستبعده كلياً من ساحة الحياة إلى حفرة القبر.
وبالعودة تاريخياً إلى الوراء نلاحظ أن مصطلح "المثقف الديني" حديث النشأة[2]، ولم يتم تداوله والتعامل معه –على هذا النطاق الواسع- إلا بعد قيام الثورة الإسلامية في إيران، حيث عالج الكاتب الفرنسي يان ريشار مفهوم "المثقَّف الدِّيني" وبزوغ ظاهرة "المثقَّفين الدِّينيين" في التجربة الإسلامية الإيرانية، وخلص قائلاً: منذ قيام ثورة الخميني الدينية في إيران، يشهد الوضع هناك بروز فئة جديدة من منتجي الخطاب الذين يدمجون المرجعيَّة الإسلامية، وهي بالطبع جزء من مضمارهم الأيديولوجي، في خطاب ذي طابع فكري واضح تَغْلُب فيه مرجعيات النسق المُترجم. وهؤلاء المثقَّفون الجُدد هم -في آن معاً- ورثة المنظِّرين الرافضين في مرحلة ما قبل الثورة والمثقَّفين المتغرِّبين، الروّاد، ورجال الدين الذين تحوَّلوا إلى التعليم الجامعي والمهندسين الإسلامويين الذين درسوا الفقه. ونلاحظ هنا –في هذه المقاربة- تعدد القاعدة المعرفية لدى المثقف الديني الإسلامي الذي نظر وناضل وأيد الثورة الإيرانية، من حيث جمعه بين مرجعيتين[3]، إحداهما فكرية "عقلية"، والأخرى "دينية" أصولية، ولكن تبقى الأخيرة هي المرجعية الغالبة لأنها الحاضنة المؤسِّسة لحراك هكذا نوع من المثقَّفين..
وقد لجأ بعض المثقفين المحسوبين على المنظومة الفكرية والمرجعية الإسلامية كالأستاذ "يحيى محمد" إلى دراسة تحديد وإبراز دور المثقف الديني عبر إيجاد تقسيم آخر للمثقَّفين، وذلك من خلال تحديد ماهية المثقف لا من حيث "القدرة المعرفية" التي كانت معياراً لتقسيمه السابق، إنما من حيث حقيقة الموقف من الدين كمشروع يُراد له التطبيق على العلاقات الاجتماعية، وهذان النوعان هما: نوع يلتزم بمبدأ الإسلام، ويعمل على حمل المشروع الدِّيني، وهو المثقَّف الدِّيني، ونوع آخر على خلاف ذلك ليست له علاقة بالمشروع الدِّيني، إسلامياً كان أم غيره، وهو المثقَّف العَلماني. ومع افتراض وجود "الفقيه"، إلى جانب «المثقَّف العَلماني» و«المثقَّف الدِّيني» يصبح أمامنا ثلاثة نماذج من المثقَّفين يرجعون إلى ثلاث دوائر معرفية. ولهذا يرسم يحيى محمد ثلاث دوائر تبدو متداخلة من وجهة نظره، حيث تتشكَّل لدينا ثلاث دوائر بنيوية للمعرفة، هي:
– دائرة الفقيه ومنْ على شاكلته من النُّصوصيين.
– ودائرة المثقَّف العَلماني.
– وأخيراً دائرة المثقَّف الدِّيني.
وبين الدائرتين الأوليين تضادّ حاد، فكل منهما يقع على الطرف البعيد من الطرف الآخر، أما الدائرة الأخيرة فتقع في الوسط لتجمع بعضاً مما تحمله الدائرتان الأوليان، أي أنها تشترك مع كل منهما في جوانب معينة، وتختلف معهما في جوانب أخرى. وفي الغالب أن ما تتفق فيه مع إحداهما هو عين ما تخالف فيه الأخرى، والعكس صحيح أيضاً، وبالتالي فإن المثقَّف الدِّيني يتمسَّك بحبلين، أحدهما هو ما ينتمي إليه الفقيه ذاته، وإن اختلف معه بالكيفية، والآخر يعود إلى ما ينتمي إليه العَلماني، وإن اختلف معه بالكيفية والتفسير.
وهنا نسأل عن ماهية واجبات ومهام المثقف الديني في مواجهة تخلف الواقع العربي:
في الواقع، تبدو الصورة العامة لواقعنا العربي والإسلامي الآن مليئة بالرغبات والآمال الواسعة والطموحات الواسعة بعد اندلاع موجة الثورات العربية وانبثاق بشائر ثورات الربيع العربي التي امتدت ولا تزال في كل أنحاء عالمنا العربي وهي حتماً ستتوسع إلى مزيد من الدول الأخرى.. ولكن بالرغم من كل الآمال المعقودة التي ساهم المثقف الديني وغير الديني في انعقادها أمام أعين الناس منذ زمن ليس بالقصير.. لا يزال التأسيس للبعد الثقافي والمعرفي بصورته العميقة المؤسسة لحداثة علمية حقيقية بعيد المنال.. والتحديات أمام تغيير وعي الأجيال اللاحقة بعد نجاح الثورات كبيرة جداً.. خاصة وأن ثقافتنا العربية والإسلامية عموماً لم تتطور لمواكبة تطورات العصر التي نواجهها للأسف بمثل هذه الثقافة العربية والإسلامية المضعضعة والضعيفة على الرغم من تحقيق نجاحات وانتصارات سياسية وتفجر ثورات ربيع عربية التي لم تكن إطلاقاً ثورات ثقافية ومعرفية وعلمية.. ونحن هنا بالطبع لا نشكك بثقافتنا وهويتنا الحضارية التي هي موضع اعتزاز وفخر الكثيرين مثل أية أمم وحضارات أخرى.. ولكننا نشكك في طبيعة المناخات والأوساط الثقافية السائدة في داخل مجتمعاتنا التي تعتبر من أفقر ما يكون في العالم من حيث توفير شروط وأجواء العمل الثقافي والفكري والعلمي، والتمتع بالقدرة والإرادة الواعية على التطوير، وتكوين الفكر وتأسيس المادة المعرفية الحقيقية الخصبة، ووضع سياسات ثقافية منتجة ومتطورة ترصد الأهداف والتطلعات، وتبلور الخطط التي تحقق هذه الأهداف. أو من حيث استبعاد المثقف عموماً عن ساحة الفعل والواقع. ونحن نرى أن المثقفين الآن هم أكثر الناس تهميشاً واستبعاداً عن ممارسة دورهم في النقد والتصحيح والتركيز، ومنعهم عن أي عمل يرتبط بتطوير الواقع القائم وتنمية الشأن العام الذي يهيمن عليه بالكامل نهج سياسي استبدادي يسيطر على العقول ويتحكم بالنفوس، لا يستطيع فيه المرء أن يتنفس الهواء الطلق النظيف، ليس فقط بالمعنى السياسي، ولكن أيضاً بالمعنى الثقافي والاجتماعي، والاقتصادي.. أدى وأفرز -هذا الواقع المعقد- تجارب فاشلة في التنمية والإدارة على مدى العقود الماضية، كان من نتائجها تردي الأوضاع السياسية، والثقافية، والاقتصادية، والأخلاقية للإنسان في مجتمعاتنا، وسقوط القيمة وسيطرة النزعة الفردية والتسلطية لدى الأفراد، وانتشار الرشوة والمحسوبية (أي إفساد المجتمعات)، وبالتالي فساد الدولة وتحويل الجماعات والنخب المسيطرة عليها إلى أداة لسحق إمكانات المجتمع الطبيعية والبشرية، وتفكيك عراه، وتدمير لحمته الداخلية في سبيل إخضاعه وإذلاله من خلال الإمعان في ممارسة التمييز الطائفي والقبلي والاجتماعي، وتغذية الشعور بالانسحاق تحت وطأة الثقافات الأخرى والتماهي فيها، وتفريغ الإنسان من أية قيمة أو معنى.
نحن إذاً أمام أزمة ثقافية واجتماعية وسياسية حقيقية عميقة وخطيرة. ويبدو أنها طويلة الأمد في المستوى الزمني لأن السلطات الرسمية القائمة في معظم أنحاء عالمنا العربي والإسلامي ما تزال مصرة على التمسك الراسخ بالنظام والحكم، في الوقت الذي لا تملك فيه أية رؤية واقعية لحل الأزمة، ولا لوسائل مواجهتها مع رغبتها الاحتفاظ بنظام الامتيازات والسرقات والاختلاسات الذي ترفض التخلي عنه. إنها تتبع سياسة لا وطنية ولا قومية، وتدفع المجتمعات نحو حافة الهاوية والانفجار والتمزق والفتن والحروب الداخلية التي تظهر حيناً وتخبو حيناً آخر، أي أنها كامنة تحت رماد المجتمعات.
والأولوية التي يجب أن تحظى باهتمامنا جميعاً، في هذا السياق، هي أن يعمل المثقف الديني –بالتكامل والتوازي مع باقي المثقفين والتيارات- على تأسيس وبناء ثقافة مختلفة تماماً عما نعيشه اليوم من حالة "مسخ ثقافي" –إذا جاز التعبير- تكاد تخلو فيها ثقافتنا المعاصرة من قيم العقلانية، والموضوعية، والوعي الجمالي. أي نريد ثقافة تتبنى العقل وتبنيه -عند الفرد والجماعة- على حجج وأسس منطقية اقناعية.. ثقافة تتمثل وتستوعب وتمارس خطاب المحاكمة العقلية.. ثقافة تقبل التجديد والنقد..
والتجديد المطلوب في داخل بنية الفكر العربي والإسلامي –والذي يحمل لواء الدعوة إليه المثقف الديني وغير الديني- لا يعني البدعة في الدين، أو الانتقاص من القيم الدينية، كما يتصور بعض حراس القيم وحماة الأصالة المزيفة من أتباع العقول المفخخة، بل يعني الاستفادة من المنابع الأصلية، والبنى والأسس الفكرية العقلانية الصحيحة، من أجل تقديم ثقافة جديدة، ورؤية معاصرة، ومنطق حضاري سليم ومعافى، يمكن أن يستوعب ويفهم عناصر ومكونات الحياة الحديثة.
في ظل هذا الواقع المرير ينبغي أن يمارس المثقف الديني دوره من خلال العمل على ما يلي:
1. إعادة التأكيد على دوره كمثقف ديني حديث في مكونه الفكري والمعرفي، بعد غيابه أو تغييبه لنفسه و ضَعف حضوره الثقافي إلى جانب المثقفين الآخرين من باقي تيارات الأمة. من خلال مشاركته في النشاط الاجتماعي، والتواصل الواسع مع الساحة وبين الناس.
2. التأكيد الدائم في فكره وسلوكه ودعوته (وفي مجمل إنتاجيته الفكرية) على أن الإسلام المعتدل والوسطي هو القاعدة الأساسية والوعاء الحضاري الأهم لأية نهضة وتجديد ثقافي يراد للأمة أن تتحرك على طريقه في أي موقع من مواقع الحياة.
3. النقد العقلاني للموروثات الفكرية التقليدية الحاكمة في مجتمعاتنا والتي أضحت ديناً قائماً بدلاً عن الدين الحقيقي الذي تراجعت قيمه الأصلية لتتقدم عليه أعراف وعادات سلوكية تقليدية ليست من الدين في شيء. والسعي المعرفي العملي الدائم لإثبات إمكانية وقدرة (واستعداد) الدين على الاندماج والتكيف والمشاركة الفعالة في بناء وتطوير المجتمع. وأن حالة الترهل والانقسام والتفكك والتردي والتخلف التي تعاني منها مجتمعاتنا العربية والإسلامية لا علاقة للدين بها لا من قريب ولا من بعيد، وإنما هي نتيجة طبيعية لسياسات واستراتيجيات عمل فكرية وسياسية ضيقة آمنت بها وطبقتها ومارستها نخب فاسدة وفاشلة منذ عهود الاستقلال الشكلي الأولى[4]، ومن دون أن يكون للأمة والمجتمعات عندنا أي دور في إنتاجها ودعمها وتأييدها والدفاع عنها بل كانت بمجملها مفروضة عليهم بقوة الأمر الواقع.
4. إنزال قيم الدين ومفاهيمه المتعددة إلى أرض الواقع من خلال الاهتمام بمشكلات الحياة والناس والشباب، والانخراط الميداني في محاولة البحث عن حلول جدية لها. بما يساهم في تأكيد قدرة الدين على إيجاد حلول وإجابات منطقية على أسئلة الحياة الكثيرة وقضايا العصر المتنوعة.
5. المشاركة المثمرة والهادفة والمسؤولة والواعية في الحوار بين الأمم والشعوب والحضارات، حيث أن الدين يدعو إلى اعتماد الحوار بين الناس والأمم جسراً للعلاقات التواصلية والتفاعلية المنتجة لصالح البشرية جمعاء.. "إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"..
6. تركيز المثقف على أهمية التعليم في مجتمعاتنا من حيث كونه الإطار الذي يسهم في تطوير قدرات المجتمع العقلية والفكرية، ويهيئ الإنسان للنهوض بأعباء التنمية، والاستثمار الرشيد للموارد المتاحة في تنفيذ البرامج والخطط التنموية.. وعلى هذا فإن مشاريع التعليم والتثقيف الاجتماعي، لا تعد مشاريع استهلاكية، بل هي من صميم العمليات الإنتاجية، لأنها تتجه لبناء الذات الفكرية المعرفية للإنسان على العقلانية والموضوعية، باعتبار هذا الإنسان هو الجوهر وهو القاعدة لأي عمل تغييري هادف، وهو الرأسمال الحقيقي لأي مجتمع وحضارة.. ولذلك يجب أن يكون الهدف الرئيسي من عملية التنمية هو الإنسان، وعلى ذلك فإن التعليم والتدريب من الوسائل الفعالة، التي لا غنى عنها إذا ما أريد للتنمية أن تحقق أهدافها، ويكون الإنسان قادراً على استيعاب إنجازات التنمية. فمعركة النهوض التنموي تحتاج إلى إنسان مزود بطاقة وفيرة من العلم والمعرفة[5].
7. وعي المثقف بأن النهضة المطلوبة للأمة ككل هي سيرورة شاملة ومنظومة متكاملة متداخلة العوامل، ولذلك فهي بحاجة ماسة إلى إدراك عميق لأبعادها ومراميها، ومنطلقاتها، حتى يتم بناء الخطط ورسم التوجهات الكبرى لها بناء على تصور سليم وفهم مستقيم، لاسيما على مستوى صناع القرار من القادة السياسيين (المنتخبين ديمقراطياً وشعبياً والمعبرين عن آمال وتطلعات أبناء الأمة) الذين يفترض بهم وضع حجر الأساس لهذه النهضة، وإعطاء إشارة الانطلاق لأعمالها، ونشر دواعي الوعي بأهمية المشاركة الجماهيرية في صنعها، غير أن مشكلة دولة النخبة أنها تعتقد أن التحديث يحصل مرة واحدة وإلى الأبد، بينما هو حاجة دائمة يحصل باستمرار، ويعبر الزمن من محطة إلى أخرى كعملية تطويرية داخلية، ما إن ينتهي من دورة حتى تبدأ أخرى، وتعتقد دولة النخبة أن شرط نجاح التحديث هو أن يتم ضد المجتمع، بينما الواقع التاريخي يؤكد أن التحديث لا يتم إلا بواسطته.
8. ضرورة السعي المتواصل لتغيير الواقع الثقافي والسياسي الاستبدادي المسيطر على مجتمعاتنا وكسر إرادة التفرد بالسلطة، والدعوة إلى إشراك الناس والمجتمع في الاختيار والمسؤوليات العامة، حيث أن المرونة السياسية، وغياب التسلط والاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والقهر الثقافي من أهم المستلزمات التي تهيئ للنهوض التنموي على مختلف الأصعدة الحياتية في المجتمع.. ومن أجل ذلك لا مناص من الالتجاء إلى نظام سياسي ديمقراطي تعددي، يمكن عامة الناس من الإسهام بشكل مباشر أو غير مباشر في تسيير الشؤون العامة للجماعة، وفي اختيار ممثلين حقيقيين للناس يحكمون أمر الوطن ويقومون على شؤونه في الداخل والخارج، ولذلك فمن دون السماح للناس بالتعبير عن أفكارهم، وإبداء آرائهم في الشؤون العامة بمطلق الحرية، أو بحرية نسبية على الأقل، لا يمكن أن ننتظر قيام مجتمع أصيل ومنسجم ومتوائم.
بناءً عليه نعتقد أن الرهان الذي نجدد التأكيد عليه مجدداً فيما يخص أهمية ونوعية دور المثقف الديني في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ليس قادماً من فراغ، بل يرتكز على كون هذا المثقف حاملاً لرسالة إنسانية منفتحة وليس لثقافة قديمة وأصولية مغلقة، وفي كونه يظهر مدافعاً أصيلاً عن هويتها الحضارية التسامحية، في وقت أصبح الرهان -الذي كان معقوداً على الأنظمة البائدة والنخب المنتفعة التابعة لها- غير ذي معنى أو جدوى، ولم يؤد النتيجة المرجوة منه منذ زمن بعيد.. ولهذا لفظوا من ذاكرة الشعوب والأمة..
ونحن هنا لا نريد من المثقف الديني تحديداً أن يدخل في خصام وعداوات مباشرة مع نخب الأمة السياسيين والثقافيين، بل نريده أن يتكامل في دوره وعمله مع الأحرار من النخب المفكرة من باقي تيارات الأمة حتى لو كان على طرفي نقيض معه في توجهاته الفكرية والأيديولوجية، ونريده كذلك أن يتحلى بالموضوعية والعلمية والمناقبية الأخلاقية في حرصه الشديد على إحداث تغيير حقيقي في مجتمعاتنا، وتبني خيارات أمتنا تحقيق الحرية والعدل والتقدم.
ولذلك فإننا نعتقد –وننصح مثقفنا الديني، وغيره من مثقفي الأمة من مختلف التوجهات والمشارب والانتماءات حيث أن الهموم شبه واحدة- أن الأمر الذي يمكن أن يحدث تلك التغييرات الكمية والنوعية المطلوبة في طبيعة السلطة التي نبحث عنها، هو تقديم هؤلاء (وغيرهم) لرؤى وأفكار جديدة لمفهوم السلطة والحكم، تتناول -في الأساس، وقبل أي شيء- شرعية السلطة، وامتدادها، وتجذرها شعبياً، ورضى الناس الطوعي الحقيقي عنها.
فشرعية السلطة –أية سلطة، كما نؤكد دوماً- أهم بكثير من صبغتها ولونها، سواء كان هذا اللون دينياً أو ماركسياً أو قومياً أو حتى ليبرالياً. وعلى المثقفين عموماً –وبخاصة مثقفنا الديني موضع حديثنا هنا- يريدون المساهمة الفاعلة في تطوير الواقع، وتغيير آليات العمل السياسية للمجتمع ككل، عليهم:
أولاً: التخلي عن حراسة أفكارهم ومعتقداتهم المتكلسة ومقولاتهم العاجزة عن مواجهة الواقع والتطورات السريعة والمتلاحقة فيه.
وثانياً: أن يشتغلوا على نقد أفكارهم بالذات لفهم ما يحدث من حولهم.
لأن العلة ليست في الواقع دائماً، بل في الأفكار المتحجرة، والعقول القاصرة حيث أن هؤلاء يؤمنون بأن العلة في الواقع.
والنقد المقصود هنا هو -بالمعنى الأولي لا الثانوي- أن نتحرر جميعاً من كل هذه التراكمات والأوهام الشعاراتية الدينية والسياسية المغلقة التي حبسنا أنفسنا في داخلها، وقولبنا المجتمع لأطرنا وتصنيفاتنا الضيقة التي سببت لنا كل هذا الخراب والدمار الروحي والمفاهيمي، والتأخر الكبير في الفكر والممارسة.. وباعتقادي أن الطريق طويل طويل، ولكن الأمل المرتجى هو بعظمة الهدف الكبير الذي نشتغل عليه، ونعمل للوصول إليه.
وعندما نبدأ جميعاً -كمثقفين وسياسيين وعلماء ومفكرين- بالتحرك على هذا الطريق الطويل والصحيح، يمكن أن نتصالح مع أنفسنا، ونصدق أفكارنا، ونصدق أنفسنا، ونصدق بعضنا البعض.. بعيداً عن لغة التكاذب والنفاق الثقافي والسياسي التي انطبع بها وجودنا في هذا الشرق الحضاري، وأضحت لغة التداول اليومي لنا في كل هذا الخراب العربي والإسلامي القائم منذ زمن ليس بقصير، والذي نأمل أن تلفحه وتهب عليه قريباً رياح التغيير الثقافي النفسي والعملي، بعد أن مرت عليه رياح التغيير السياسي.
[1]أنا لا أستخدم مصطلح الأصولية هنا بمعنى الرجوع إلى الأصل الصالح والمتسامح الذي قدم نموذجاً فريداً في تجسيد معاني الحق والعدل والأخلاق الحميدة، وإنما أتناوله من زاوية ما يحمله من معاني التعصب الأعمى للرأي، ومواجهة الآخرين بالتهديد والوعيد، أو باستخدام وسائل العنف والقوة المادية المعروفة. وبهذا تنسحب (وتنطبق) هذه الكلمة على كل من يعتقد بصحة وقداسة رأيه وقناعاته الفكرية (دينية كانت أم غير دينية)، ويسلك طريق العنف لتحقيق وجود لها في ساحة الحياة، باعتباره طريقاً وسبيلاً وحيداً..
[2] تمَّ تداول هذا المصطلح في الأدبيات العربية والغربية المعاصرة منذ العام 1986في كتاب صغير للكاتب الجزائري الراحل عمّار بلحسن كان عنوانه (انتيلجنسيا أم مثقَّفون في الجزائر؟)، وذلك في معرض حديثه عن نظرية المثقَّف العضوي للمفكِّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، ولم أُلاحظ على بلحسن أنه دخل في بناء المفهوم وطبيعته إنما مرَّ عليه مروراً سريعاً. كذلك كتب الفرنسي يان ريشار في بحث له نشره باللغة الفرنسية عام 1989 عن المصطلح ذاته في العام 1994 في كتاب حرَّره ريشار مع زميله جيل كيبل تحت عنوان (المثقَّف والمناضل في الإسلام المعاصر، 1990).
[3] طبعاً لا نستطيع أن نتهم المثقف الديني هنا بازدواجية الفكر وتعددية الانتماء الأيديولوجي، بل كل ما هنالك هو أن المثقف الديني –الذي يحاول دوماً تقديم الدين بلغة الحياة والعصر، وأنه قابل للانسجام والتكيف مع تغيرات الحياة وتحولات الواقع الإنساني العام- يميل دائماً إلى الفضاء الثقافي الدِّيني من حيث كونه مرجعيته الأساسية التي جعلته يكتسب من خلالها صفة "الدينية". فالحقل الذي يشتغل فيه هذا المثقَّف هو الحقل الدِّيني بالتحديد، وهو حقل يعمل في فضائه الفُقهاء وعلماء الكلام والفلسفة والعرفان أيضاً. على أن مصطلح "المثقَّف الدِّيني" ذاته لا يمكن اعتباره مصطلحاً دالاً على نحو تكاملي لينطبق على الذين يشتغلون فيه، فهو مصطلح مطّاط حتى اللحظة، لكنه وعلى رغم ذلك، يحيل في دلالته، إلى فئة من المتخصِّصين في المعرفة الدِّينية وما فيها من مرجعيات وأساليب توصيل وتأثير في المجتمع.
[4] إن جوهر الموضوع هنا هو أن يبحث المثقف عن أسباب تخلفنا وتأخرنا، والمأزق والهزيمة التي نقبع في داخلها، وهي أساساً تعود إلى سوء وعقم ممارسات السلطات السياسية والاجتماعية والفكرية التي حكمتنا بمناهجها الثقافية اللاعقلانية، وإيديولوجياتها المغلقة المفروضة بالقوة والتي ليست لها أية قيمة علمية وأخلاقية بالمعنى التاريخي والاجتماعي، حيث كان من الممكن أن تمنحنا –في حال كانت ثقافة قيم لا ثقافة سلطة- انسجاماً وتماسكاً يتأسس على القيم الواقعية، ومبادئ سلوك الأخلاق العملية لكونها هي الضامن الحقيقي لوحدة المجتمع، وصيرورته ووظيفته، وسيره باتجاه أهدافه وفعالياته وحاجاته ومنطقه العملي.
[5] راجع: كل من: محمد محفوظ، العولمة الحديثة والوحدة الوطنية، مجلة الكلمة، س3، ع13، منتدى الكلمة للدراسات والأبحاث، بيروت، خريف1996، ص64. وعبد الحميد أحمد رشوان، التربية والمجتمع، المكتب العربي الحديث، الإسكندرية، القاهرة، 2002، ص60.