أحدث المقالات

د. صدّيقة مهدوي كني(*)

ترجمة: سرمد علي

1ـ المقدّمة

إن مسألة الارتباط بين الأخلاق والحقوق هي من الموضوعات الهامّة في فلسفة الحقوق وفلسفة الأخلاق. وبالإضافة إلى امتلاكهما لآليةٍ اجتماعية واحدة، فإن طريقة بيان الحقوق والأخلاق، والشكل الظاهري لقضاياهما، واحدةٌ أيضاً، وكلاهما مرتبطٌ بالأفعال الاختيارية للإنسان، وكلاهما يعكس العلاقة بين الفعل والغاية المنشودة منهما. ولكنْ هناك في الوقت نفسه وجوه امتيازٍ بينهما أيضاً، وبذلك يمكن القول بالفصل بينهما. وهناك مَنْ قال بأن الاختلاف في الأهداف هو من أهمّ تلك الوجوه([1])؛ إذ الهَدَف العام للقواعد الحقوقية هو تحقيق السعادة الاجتماعية، إلاّ أن الهَدَف النهائي للأخلاق هو تحقيق السعادة الأبدية والكمال النهائي للإنسان، الذي هو فوق غاية الحقوق، وهو من حيث المورد أكثر سعةً، ويشمل المسائل الفردية أيضاً. وهناك مَنْ قال بأن التفاوت الأساسي يكمن في الدافع إلى العمل، ومال إلى الاعتقاد بأن المراد في الأحكام الحقوقية هو فعلية الوصول العملي، أيّاً كانت النوايا والدوافع إلى العمل بها، وأما في الأحكام الأخلاقية فالوصول إلى المقصد لا يكون إلاّ بقصد ونيّة الفاعل([2]). وذهب بعض العلماء إلى تخصيص الحقوق بالحياة المادّية، وخصَّصوا موضوع الأخلاق بالمعنويات([3]). وذهب الكثير من العلماء إلى الاعتقاد بأن وجه الامتياز يكمن في نوع الضمانة التنفيذية([4])، وذهب آخرون إلى أن هذا الامتياز يكمن في منشأ الوضع والإلزام. ونحن نسعى في هذه المقالة ـ من خلال بحث ضرورة الإلزام ومنشئه في الأحكام الأخلاقية ـ إلى بيان عدم تمايزه من الأحكام الحقوقية للقرآن الكريم من حيث الوجوب والإلزام.

2ـ ضرورة الإلزام والوجوب

إن كلّ جماعةٍ أو طائفة تعيش مع بعضها لا يمكن لها الاستغناء عن الالتزام ببعض الواجبات؛ لأن الحياة المشتركة لا يمكن أن تقوم إلاّ على أساس الحقوق والتعهُّدات. إن هذا المفهوم يضمن بقاء الحياة المشتركة بين الناس، ويحول دون حدوث أيّ نوعٍ من أنواع الفوضى والهرج والمرج والتشتُّت. وكما أن الإلزام والوجوب هو أصلٌ يقيني في النظام الحقوقي، كذلك يتمّ طرحه وتسويقه بوصفه أحد الأسس والعناصر الأساسية والأصلية في النظام الأخلاقي أيضاً. إن قوام الحكم الأخلاقي يكون أوّلاً بالإلزام والإيجاب؛ وثانياً: بكونه يستوجب التعهُّد، بمعنى أنه لا يمكن أن يكون الحكم أخلاقياً ولا ينطوي على إلزامٍ بالفعل أو إلزامٍ بالترك([5]). إن القاعدة الأخلاقية دون إلزامٍ وإيجابٍ إنما هي مجرّد قيمةٍ فنّية. إن القِيَم الأخلاقية جميلةٌ ورائعة بالنسبة إلى جميع الناس، ولكنْ لا يمكن الاكتفاء بها بوصفها العنصر والعامل المحرّك الوحيد. إن مجرّد الجمال والفنّ لا يستوجب العمل بالخير والقِيَم الأخلاقية([6]). ومن ناحيةٍ أخرى فإن الإلزام والإيجاب ليس شرطاً أساسياً في إيجاد المسؤولية، وإن المسؤولية دون إلزامٍ ليس لها أيُّ مفهومٍ. وفي حالة الافتقار إلى المسؤولية لن تتحقَّق العدالة، وحيث إن العدالة من أكثر المفاهيم محوريةً في الأخلاق فإن عدمها سوف يؤدّي إلى انهيار النظام الأخلاقي.

3ـ مفهوم الإلزام والإيجاب

إن الإلزام يعني ـ لغةً ـ تثبيت الشيء وإقراره في موضعه، أو الإلقاء بأعباء عملٍ ما على عاتق شخص وإيجابه عليه. ومن ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ﴾ (الإسراء: 13)، بمعنى جعله واجباً ولازماً عليه، بحيث لا يمكن الانفكاك والانفصال عنه([7]). وأما اصطلاحاً فالإلزام هو الأوامر والنواهي التي يتمّ إظهارها وإبرازها في الحياة البشرية بنحوٍ من الأنحاء. وفي بعض الموارد تؤدّي الرغبة والإرادة الداخلية إلى عملٍ؛ بمعنى أن الشخص يحرز بشكلٍ تكويني وجود علاقة إلزامية بينه وبين عملٍ ما، ويسعى إلى تحقيق ذلك العمل([8])، مثل: الإنسان الجائع الذي يكتشف علاقةً إلزامية بين تناول الطعام ورفع الجوع. وفي بعض الموارد ينشأ إظهار الرغبة من سلطةٍ عليا متمكّنة من إصدار الأمر والنهي، وقادرة على إنزال العقوبة وإعطاء الثواب. إن هذه السلطة تعمل ـ في إطار بيان هذه الرغبة ـ على اعتبار الحكم، ولكي تعلن عن هذه الحكم في مختلف القضايا تعمل على توظيف مفاهيم مختلفة، من قبيل: الوجوب، والحرمة، والوظيفة، والواجب، والحرام، والضرورة، أو تستفيد من مادّة وهيئة الأمر.

4ـ ماهية الإلزام والإيجاب

إن الإلزام قانونٌ، ومن خصائص القانون فرض القيود والحدود. وإن الإلزام الأخلاقي قانونٌ طبيعيّ وعقليّ وإلهيّ، وليس من قبيل: الاعتبار والتواضع. فهو طبيعيٌّ بمعنى أن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، وأنه في المدنيّة تابعٌ للمسائل الأخلاقية، وأن الحاجة إلى الأخلاق لا تُفْرَض عليه من الخارج؛ إذ وجود هذا القانون لا يمكن اجتنابه والاستغناء عنه. كما أنه عقليٌّ لكونه يصدر الأوامر بشكلٍ مجرّد من العواطف والضغوط والاحتياجات؛ وإلهيٌّ لأن الله هو خالق الطبيعة والوجدان والعقل. وهو ليس اعتبارياً؛ لأنه لا يصدر من مجرّد الإرادة الإنسانية والاعتبارات والعقود الاجتماعية. وعلى هذا الأساس فإن كلّ قانونٍ يتحدَّث عن العدل ويأمر به يكون قانوناً طبيعيّاً وعقليّاً وإلهيّاً([9]).

ولكي تتّضح ماهية الإلزام بشكلٍ أكبر يجب الالتفات إلى أن القضايا الإلزامية تقترن عادةً بألفاظ من قبيل: «يجب». إن كلمة «يجب» في بعض القضايا الأخلاقية تشتمل على مفهومٍ مستقلّ، وتبيِّن علاقة الضرورة النسبيّة بين الفعل ونتيجته([10])، وتستعمل بمعنى الواجب والضروري واللازم. وفي هذا النوع من العبارات يمكن استبدال كلمة «يجب» والعبارات ذات الظاهر الإنشائي، من قبيل: «يجب تناول هذا الدواء من أجل العلاج»، بعباراتٍ ذات ظاهر إخباري، من قبيل: «إن تناول هذا الدواء أمرٌ لازم». في هذا النوع من القضايا تحكم علاقةٌ ضرورية؛ وأما في بعض القضايا الأخلاقية الأخرى فلا تحتوي كلمة «يجب» على معنىً مستقلّ، بل يكون بواسطة اقترانه بالفعل بديلاً عن هيئة وصيغة الأمر والنهي، ومعبِّراً عن العلاقة الاعتبارية والوضعية بينها، وهي علاقةٌ تقوم على أمرٍ حقيقيّ وعَيْنيّ.

وهنا ـ سواء توصّلنا إلى علاقة ضرورية (علّية / معلولية) أو إلى علاقة اعتبارية / لزومية، تقوم على الواقعية الذاتية، يمكن لنا ـ من خلال إثبات الاشتراك في منشأ الإلزام ـ أن نقترح ذات الطرق التي اقترحها الفقهاء لتطبيق الأحكام الفقهية بالنسبة إلى الأحكام الأخلاقية أيضاً (ولكنْ مع ملاحظة الاختلافات بطبيعة الحال).

5ـ منشأ الإلزام في القضايا الأخلاقية

ما الذي يدفع الإنسان إلى القيام بالتكاليف المشتملة على المصالح؟ ومَنْ هو المُلْزِم؟ وأين يكمن منشأ هذا الإلزام؟ في معرض الإجابة عن هذه الأسئلة تمّ تقديم آراء متنوّعة. وفي ما يلي نذكر بعضها باختصارٍ:

1ـ المجتمع: يذهب بعض علماء الاجتماع إلى القول بأن الأحكام الأخلاقية إنما تقوم على مجرّد الآداب والتقاليد([11])؛ وأما البعض الآخر منهم فهو ـ بالإضافة إلى القول بتأثير العامل الاجتماعي ـ يرى منشأً آخر للإلزام أيضاً، من أمثال: هنري برجسون([12])، حيث اعتبر قوّة الضغط الاجتماعي وقوّة الاتجاه الداخلي الجذّاب للممتازين من الأشخاص الذين يستمدّون من الله أساساً للإلزامات الأخلاقية([13]). فقد اعتبر ضغط المجتمع مصدراً للأخلاق؛ كما ذهب في الوقت نفسه إلى الاعتقاد بأن النموذج الأخلاقي للمجتمع يجب أن يكون عبارةً عن قواعد أسمى، تنبثق عن مصدر أعلى، بالنسبة إلى تقاليد الجماهير، وتمتزج في كلّ عصرٍ مع العادات الاجتماعية.

وأما في نقد هاتين الرؤيتين فيجب القول: لا يمكن اعتبار مجرّد الآداب والتقاليد أو الضغط الاجتماعي هي المعيار؛ وذلك أوّلاً: لأن هذه القواعد تتغيَّر على أساس العادات الاجتماعية، وفي حالة مقاومتها لحركة المجتمع أو العدول عن مساره فإن الناس سوف يعودون إلى ذات حركة ومسار المجتمع، بإصرارٍ ودون تريُّثٍ، وإن الاستناد إليها يؤدّي إلى عدم ثبات الأخلاق. إذن لا يجب الاستناد إلى مجرّد العادات الاجتماعية([14]). وثانياً: لأن هذه القواعد على خلاف الحقيقة والواقعية التي تحدَّثت عنها الكتب السماوية([15])، ومنها: قول الله تعالى في محكم كتابه الكريم: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ (البقرة: 213).

2ـ الوجدان: يذهب جان جاك روسو إلى القول بأن المعيار والمنشأ في جميع القِيَم الأخلاقية يكمن في مطابقتها أو مخالفتها للوجدان الأخلاقي للإنسان. فهو يرى أن كلّ شيءٍ يقبله الوجدان الأخلاقي فهو حَسَنٌ، وكلّ ما لا ينسجم مع الوجدان الأخلاقي للناس، ويؤدّي إلى إيذاء هذا الوجدان وتعذيبه، فهو قبيحٌ. وقد ذهب روسو إلى الاعتقاد بأننا نجد التعاليم الأخلاقية ـ التي رسمتها الطبيعة بخطوط ثابتة لا تقبل الزوال ـ مطبوعةً في قلوبنا. إن روسو يفصل بين العقل والوجدان، ويرى أن العقل قد يخدعنا أحياناً، ولذلك يتعيَّن علينا أن لا نقبل بأدلّته([16]).

3ـ العقل: ذهب بعض العلماء الآخرين إلى الاعتقاد بأن العقل وحده هو الدعامة والطريق الأوّل للإلزام والإيجاب المعرفي([17])، إلى الحدّ الذي ذهبوا معه إلى القول ببداهة أن يعمل العقل على إدخال الإلزام في البيئة الأخلاقية. وهذا هو العقل الذي لا يتعلَّق بأيّ شخصٍ أو جماعة، ولا يتأثَّر بالبيئة، بمعنى أن الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وخاطبه بقوله: «وعزّتي وجلالي ما خلقتُ خلقاً أحسن منك، ولا أطوع لي منك، ولا أرفع منك، ولا أشرف منك، ولا أعزّ منك»([18]) هو العقل المتحرِّر من جميع الضغوط والقيود، والذي يمتلك القدرة على التمييز بين الخير والشرّ، ويصدر أوامره إلى الناس وتعاليمه بشأن فعل أو ترك الأشياء([19]).

إن القوّة العاقلة هي الوجه المميِّز للإنسان من الحيوان والنبات، وهي تتجلّى تارةً على شكل متفرِّج؛ وتارةً أخرى على شكل لاعب ومؤثِّر. وبعبارةٍ أدقّ: إن العقل النظري يلعب دَوْر الكاشف، ويعمل على تعقُّل القضايا الخبرية، ويمارس إحراز الملاك؛ وأما العقل العملي فإنه يعمل في القضايا الإنشائية على وضع واعتبار حكمٍ يتناسب مع ذلك الملاك، وعلى أساس المصالح والمفاسد الموجودة في الأفعال. ومن وجهة نظر بعض العلماء والمفكِّرين فإن العقل ـ بوصفه جوهر الإنسان ـ يحتوي على ناحيتين: ناحية نظريّة تتّجه إلى الأعلى؛ حيث تعمل على اكتشاف الحقائق؛ والناحية الأخرى تتّجه إلى الأسفل، بمعنى أنها تتّجه نحو البَدَن، وبواسطة هذه الناحية تعمل على تدبير وإدارة شؤون البَدَن([20]). إن هذه الجوهرة الوجودية الثمينة تعمل على إدراك حقيقة الأفعال بنحوَيْن؛ ففي بعض الأمور لا يحكم بشيءٍ على نحوٍ مستقلّ، وإنما ينجح في اكتشاف المصلحة أو المفسدة في فعلٍ ما بواسطة حكمٍ واعتبار آخر، كما هو الحال بالنسبة إلى الكثير من الأحكام العبادية؛ ولكنْ في بعض الأمور يكون ملاك الحكم ذاتياً في الفعل، ويعمل العقل العملي على إصدار حكمٍ في ما يتعلَّق بهذا الفعل، ويقول باعتبار حُسْنه أو قُبْحه.

أما القائلون بهذا الرأي فعليهم ـ لإثبات نظريتهم القائلة بأن العقل هو منشأ هذا الإلزام ـ أن يجيبوا عن أسئلةٍ، من قبيل: هل القِيَم في حدّ ذاتها تنطوي على حُسْنٍ وقُبْحٍ؟ وإذا قبلنا بذاتية القِيَم فهل يمكن للعقل أن يدرك حُسْن الأفعال وقُبْحها بشكلٍ مستقلّ، ودون الاستعانة بتعليم وبيان الشارع؟ وهل يحقّ للإنسان ـ بعد حصوله على مثل هذا الإدراك دون حكمٍ وإرشادٍ من الشارع ـ أن يعمل على طبق مُدْرَكَاته العقلية؟

يُقال في الجواب عن هذه الأسئلة: إن بعض الأفعال الاختيارية تنطوي على حُسْنٍ وقُبْحٍ ذاتيّ وقيمةٍ عقليّة، وتتّصف في نفسها بالحُسْن أو القُبْح، من قبيل: الظلم والعدل، والعلم والجهل؛ لأن العدل من حيث هو عدلٌ يتّصف دَوْماً بأنه حَسَنٌ، وإن الظلم من حيث هو ظلمٌ يتصف أبداً بأنه قبيحٌ. وأما بعض الأفعال الأخرى فلا تتّصف في ذاتها بأيٍّ من هاتين الصفتين، بل تكون تابعةً لانطباق أحد الأفعال التي هي في ذاتها حَسَنةٌ أو قبيحة؛ فإن احترام الصديق ـ مثلاً ـ ما دام يصدق عليه عنوان العدل فهو حَسَنٌ وممدوح، وعند عروض عنوانٍ آخر يدخل ضمن عنوان القبيح.

وكما هو واضحٌ هناك اختلافٌ بين الأشاعرة والعَدْلية في هذا الشأن. وإن محلّ النزاع فيما بينهم حول مسألة الحُسْن والقُبْح بمعنى استحقاق المدح والذمّ. وحيث لا يذهب الأشاعرة إلى الاعتقاد بالحُسْن والقُبْح الذاتي للأفعال فإنهم يذهبون إلى القول بأن العقل لا يستطيع إدراك حُسْن الأفعال وقُبْحها بشكلٍ مستقلّ، ودون الاستعانة ببيان الشارع، واعتباره مستحقّاً للمدح أو الذمّ. إلاّ أن الكثير من علماء الإمامية يقولون بعقلية الحكم بحُسْن وقُبْح هذه الأفعال، ويعتقدون بأن العقلاء من حيث هم عقلاء يستطيعون الحكم بشأن الكثير من الأعمال الاختيارية، دون الاستعانة بإلهامٍ من الشارع، ويحكمون بقُبْحها أو حُسْنها([21])، بمعنى أن العقل الذي يحكم بوجود المبدأ والشارع الحكيم يمكنه كذلك أن يدرك أنه ـ على سبيل المثال ـ يعاقب عبده القادر بسبب ظلمه لعبدٍ عاجزٍ آخر، أو بسبب امتناعه عن ردّ الأمانة، وأن يثيب العبد القادر بسبب عطفه على الضعفاء. وفي الحقيقة، إنه بعد حكم العقل النظري بالحُسْن الفعليّ لهذا الفعل يكون هذا العمل من وجهة نظر العقل العمليّ محكوماً على الدوام بالحُسْن، ويكون ممدوحاً، وإنْ كان قد لا يقع مورداً للمدح من الناحية الفاعلية. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنه لا أحد يستطيع القول بعدم حُسْن الصدق، ولكنْ في مورد الصدق الضارّ، عندما يؤدّي إلى قتل إنسانٍ بريء، يتمّ تقبيح فاعله، دون تقبيح الصدق([22]).

وفي هذا المقام يذهب القائلون بالحُسْن والقُبْح العقلي إلى الاعتقاد بأن العقل النظري يدرك في الفعل شيئاً يحكم العقل العمليّ على أساسه بحُسْنه أو قُبْحه. هناك آراء مختلفة بشأن ماهيّة هذا الملاك، ولكنْ يبدو أن أفضلها الرأي الذي يمكن استنباطه من تضاعيف كلمات فلاسفة وحكماء المسلمين؛ حيث يعتقدون أن ملاك حكم العقل بشأن حُسْن أو قُبْح فعلٍ ما([23]) إنما هو كمال الفعل وإفاضته الوجود للنفس أو نقصانه ودفعه الوجود عن النفس. وفي هذا المورد يمكن القول: حيث إن نفس الإنسان تسعى بذاتها إلى طلب الكمال المطلق، وإنها تحبّ البقاء بفطرتها، وإن كلّ ما يكون سبباً في زيادة بقائه يكون محبوباً بالدليل العقلي، إذن يجب على الإنسان أن يسعى إلى تحصيل الكمال، وإن تحصيل هذا الكمال بدَوْره ضرورة عقلية، إذن تكون مقدّماته وكلّ ما يقرِّبنا من الكمال ضروريّاً أيضاً. إن بعض الأفعال تستدعي في حدّ ذاتها الكمال والوجود للنفس الإنسانية، ولذلك بعد إحراز إضفاء الوجود من قِبَل العقل النظري يحكم العقل العملي بحُسْنها. وعلى هذا الأساس فإن ملاك الأحكام الإلزامية للعقل العملي هو إنتاج الفعل للكمال والوجود للنفس أو استجلابه للنقص أو عدم الوجود بالنسبة إلى النفس. كما أن نفس الأعمال التي هي من الأمور الواقعية والخارجية يكون تأثيرها أمراً واقعياً أيضاً؛ وعليه فإن استجلاب فعلٍ ما للكمال أو عملٍ ما للنقص يكون هو الأثر الواقعي والتكويني للأعمال. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن العقل النظري يكتشف أن الصدق يوجب كمال النفس، والعقل العملي يحكم بوجوب امتثال كلّ ما يستوجب كمال النفس، إذن يجب أن يكون صادقاً. وعلى هذا يمكن القول: إن القائلين بالحُسْن والقُبْح العقليّ يعتبرون العقل منشأً للإلزام والإيجاب.

ويجدر بنا أن نتساءل هنا ونقول: هل نحن ملزمون ـ من دون حكم الشارع ـ بتطبيق أحكام العقل العملي؟ عندما يكتشف العقل النظري أن عملاً ما يستوجب الكمال للنفس، ويحكم العقل العملي ـ بالالتفات إلى كون هذه القضية عقلانيةً ـ بوجوب تطبيقه، فإن كلّ عاقلٍ سوف يعتبر ذلك العمل واجب التطبيق. وبذلك سوف يتمّ إحراز موافقة الشارع ـ بوصفه رئيس العقلاء ـ على نحو القطع واليقين. إذن يتعيَّن على الشارع أن يحكم على طبق ما يحكم به العقلاء من حيث هم عقلاء. ولاكتشاف موافقة الشارع على هذا الإلزام لا نحتاج إلى وجود دليلٍ لفظي، وإنْ كان الدليل اللفظي موجوداً أيضاً([24]). «كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع». فمثلاً: يمكن لنا أن نعلم من حكم العقل بلزوم العدل أن الشارع يحكم بذات هذا الحكم أيضاً، حتّى إذا لم يَرِدْ في القرآن قوله: ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ﴾ (المائدة: 8). والقائلون بهذا الرأي يعتبرون هذا الأمر من الشارع أمراً إرشادياً.

4ـ الاعتبار: إن جميع قضايا العالم إما من نوع القضايا الكشفية أو من نوع القضايا الاعتبارية. والقضايا الكشفية إنما تقدِّم لنا خبراً من العالم الخارجي، ومن هنا فإنها تقبل الاتّصاف بالصدق والكذب من حيث انطباقها وعدم انطباقها على الواقع. وأما مفاد القضايا الاعتبارية فهو لا يخبر عن الواقعية، وإنّما يتمّ إيجاد مفادها لدى المخاطَب([25]).

في ما يتعلَّق بالقضايا الأخلاقية في علم الأخلاق هناك رأيان، وهما: القضايا الأخلاقية الوصفية([26]) (الكشفية)([27])؛ والمعيارية([28]) (الاعتبارية)([29]):

أـ النظرية الوصفية: إن القائلين بالنظرية التوصيفية يعتقدون بوجود خصائص خبرية وتقريرية عن عالم الواقع في القضايا الأخلاقية، وبغضّ النظر عن اللفظ يرَوْنها مشتملةً على حقيقةٍ ثابتة، مثل: «طلب العلم فضيلةٌ»، و«الاحتكار قبيحٌ». وعلى الرغم من أن مظهر هذه القضايا يتمّ بيانه في بعض اللغات بلفظ «الكينونة»، ولكنْ في بعض الموارد؛ حيث يكون مفادها معبِّراً عن علاقةٍ لزومية (علّية / معلولية) بين شيئين، تمّ الاستفادة من صيغة «الوجوب». عندما يقول المعلِّم لتلميذه: «يجب عليك أن تكتب درسك» فإنه بذلك يقيم علاقة علّية / معلولية بين التعلُّم وكتابة الدرس، وعندما يقول معلّم الأخلاق: «يجب عليك أن تفي بوعدك» فإنه يقيم علقة بين الوفاء بالوعد وبين الغاية الأخلاقية. وعلى أساس هذا التحليل؛ وبالنظر إلى العلاقة الضرورية بين العلّة والمعلول، يمكن تفسير آلية «الوجوب». ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: إذا كان الإنسان يريد بلوغ السعادة والكمال، وكان يعلم (سواء من طريق الشرع أو العقل) أن وجود الغاية إنما يكون ممكناً من خلال فعلية عملٍ خاصّ، فإنه يحكم بأن بين هذين الأمرين علاقةً ضرورية. وفي هذه الحالة يمكن بيان هذه الضرورة على صيغة الوجوب. ولكنْ يبدو أنه إذا لم يتمّ تأييد مطلوبيته ـ لا من قِبَل الشارع ولا من قِبَل العقل ـ فإنه يكون قد تمّ مجرَّد الكشف عن ضرورته، ويجب إثبات لزوم القيام به. وهنا تمسّ الحاجة إلى حكمٍ معياريّ اعتباريّ.

ب ـ النظرية المعيارية: إن القائلين بالنظرية المعيارية يعتقدون بإنشائية هذه القضايا، واعتبروا مفادها هو الطلب والإلزام والمعيارية والقاعدة، ولا يرَوْن صدقها وكذبها صحيحاً، من قبيل: «كُنْ صادقاً، ولا تخُنْ». إن صيغة هذا النوع من القضايا في بعض اللغات هي «الوجوب». وحتّى إذا تمّ بيان هذا النوع من القضايا على شكل إخبار، إلاّ أنه يُرَى جوهرُها وروحُها هو الإنشاء والخطاب([30])، من قبيل: أن يقول الشارع في مقام الأمر: «إن المسلم لا يكذب»، فإن هذه القضية وإنْ تمّ بيانها بصيغة الإخبار، إلاّ أن الشارع إنما كان في مقام التشريع، ومعنى ذلك أن المسلم يجب أن لا يكذب. وفي بعض الأحيان تكون هذه الصيغة الخَبَرية لقضيةٍ ما أبلغ في الدلالة على الضرورة من الصيغة الإنشائية للأمر والنهي، فمثلاً: في العبارة المذكورة يقوم الافتراض على أن المسلم من الصلاح بحيث إنه في الحقيقة لا يكذب أبداً، وإن عدم قول الكذب مأخوذٌ في هذه العبارة بوصفه أمراً واقعاً ومتحقّقاً، وتقوم هذه القضية بالإخبار عن هذا الواقع. وعلى هذا الأساس فإن الأمر والنهي غير الإنشائي لا يساوق القضايا الإخبارية دائماً([31]).

ينقسم القائلون بمعيارية القضايا الأخلاقية إلى قسمين؛ فبعضهم ـ مثل: الأشاعرة ـ ينكر جميع الأبعاد المعرفية في الأحكام الأخلاقية، ويرَوْن دَوْره منحصراً في إنشاء الأمر والنهي فقط([32])، ومن بين المفكِّرين الغربيين كان ديفيد هْيوم([33]) أوّل مَنْ أبدى هذه النظرية بشأن الأخلاق، فقد رأى أن أفعال الإنسان بغضّ النظر عن حكم الله لا تنطوي على أيّ اقتضاءٍ للحُسْن والقُبْح. ويمكن لنا أن نشاهد نموذج هذا الرأي في حوار سقراط وأثيفرون أيضاً([34]). لا شَكَّ في أن هذا الرأي لا يمكن القبول به من وجهة نظر الإمامية بشكلٍ مطلق.

وأما بعضهم الآخر فيرى أن الأحكام الأخلاقية أمورٌ اعتبارية، إلاّ أنه يراها قائمةً على حقائق عالم الوجود والإنسان والمصالح والمفاسد الذاتية في إطار الوصول إلى الكمال المنشود. ويمكن وضع العلاّمة الطباطبائي ضمن هذه المجموعة([35])، فهو يرى أن مبدأ ظهور المفاهيم الاعتبارية يكمن في احتياجات الإنسان، وقال بأن هذه المفاهيم لم تنشأ من ذاتها، ومن دون الاستناد إلى الواقع والعالم الخارجي، وليست موضوعةً من دون اعتبارٍ أو ملاك. وقد ذهب إلى الاعتقاد بأن القوانين السائدة بين الأفراد وإنْ كانت من الأمور الوصفية والاعتبارية التي تمَّتْ فيها رعاية مصالح المجتمع الإنساني، إلاّ أن العلّة التي تستوجب اعتبار هذه القوانين هي الطبيعة الخارجية للإنسان، والتي تدعو الإنسان إلى تكميل النقص ورفع الاحتياجات التكوينية. وقال في تعريف الاعتبارية: إن المعنى التصوُّري أو التصديقي ـ الذي ليس له تحقُّق في خارج ظرف العمل ـ ليس سوى استعمال المفاهيم الذاتية، واستعمالها في مورد أنواع الأعمال([36]). إن مراد العلاّمة من تحقُّق المفاهيم في ظرف العمل هو أن الشيء الذي ليس له مصداقٌ في عالم الخارج نعمل على جعل مصداق لذلك المفهوم في أذهاننا([37]). طبقاً لهذه النظرية هناك بين الطبيعة وغاياتها علاقةٌ من نوع الوجوب والضرورة، وهو وجوبٌ وضرورة عينية وتكوينية وفلسفية قائمة بين كلّ علّةٍ ومعلول. إن الإنسان يقيم ذات علاقة الوجوب العيني ـ الموجودة في الطبيعة في مقابل الإمكان والامتناع ـ في عالم الاعتبار بين شيئين لا تقوم بينهما أيّ علاقةٍ في الواقع. وكما يعطي حدّ الأسد للرجل الشجاع كذلك في القيام بالأعمال يعطي حدّ الوجوب الموجود في الطبيعة العَيْنية للواجبات التي يخلقها الذهن لتلك الأفعال([38]).

وحتّى ما قبل العلاّمة الطباطبائي لم يكن المتقدِّمون يذهبون إلى الاعتقاد بالأمر والإنشاء، وكانوا يقولون بأن الإنسان يقوم أوّلاً بتصوُّر فائدة الشيء، ثمّ يعمل على تصديقه، ثم يحصل له ميلٌ إليه، وتكون المرحلة الأخيرة هي مرحلة الإرادة.

عقيب داع دركنا الملايما *** شوقاً مؤكداً إرادة سما([39])

بَيْدَ أنه ـ بالإضافة إلى هذه المقدّمات ـ يقول بالاعتبار والحكم الإنشائي قبل الفعل. ومراده بطبيعة الحال هو الحكم الذي تقوم به النفس، وليس الحكم على شكل الحكم النظري (التصديق بالفائدة)، على ما كان يقول به المتقدِّمون. إنه يقول بأن هناك ـ على الدوام ـ لكلّ فعلٍ اختياريّ في مرحلة الصدور عن الفاعل حكماً إنشائيّاً واعتباريّاً([40])، وإن «الواجب» هو الذي يدفع الإنسان إلى السعي وراء الغاية الطبيعية، وما لم يتحقَّق ذلك لن تكون هذه الأمور مُجْدِيةً. فما أكثر الأشخاص الذين يدركون فائدة شيءٍ ولكنّهم لا يعملون به! فما لم يكن هناك إذعانٌ بوجوب مطلق الفعل فلن يصدر الفعل([41]). وبذلك في الحقيقة هو من جهةٍ لا يرى الإدراكات الحقيقية كافيةً للتحفيز، ومن جهةٍ أخرى لا يرى الاعتباريات التي لا تقوم على أيّ واقعيةٍ أموراً ملزمةً([42]). وعلى الرغم من تعذُّر فهم عبارات العلاّمة الطباطبائي في هذه الأبحاث، واشتمال بعضها على الإشكال، يمكن لنا أن ندرك أن نظريته وإنْ كانت تأتي في إطار الغاية الفلسفية (تحليل التكثرات الإدراكية)، إلاّ أنها تشتمل على تداعياتٍ هامّة بالنسبة إلى علم الأخلاق. وهذا يقوم ـ بطبيعة الحال ـ على أن هذه المقالة لا تنظر إلى المُدْرَكَات الجزئية وعمل الفرد؛ إذ إن بعضهم يذهب إلى الاعتقاد بأن ظاهر كلامه وإنْ كان يدلّ على اعتبارية الأحكام الخاصّة بحُسْن وقُبْح الفعل، إلاّ أن تصريحاته المتكرّرة والمباني الراسخة في تفكيره الديني تثبت أن هذا الوجوب يمكن تصوُّره في مرحلتين: المرحلة الأولى: في مقام صدور الفعل، الذي يقع واسطة في تحقُّق العمل، وله ماهيةٌ اعتبارية؛ والمرحلة الأخرى: ما يمتلكه الفعل في صلب الواقع، ويمثِّل أساساً لصلاح العمل أو عدم صلاحه([43]). وكما صرَّح العلاّمة الطباطبائي نفسه، في نهاية بحث الاعتباريات: «في مرحلة صدور الفعل عن الفاعل لا شَكَّ في أن الوجوب الذي يذكره الفقهاء في أقسام الأحكام لا ربط له بهذا الوجوب»([44]). بَيْدَ أن عبارات العلاّمة في العديد من كتبه تؤيِّد أنه يقول بالاعتبار حتّى في ذات الفعل (في صلب الواقع) أيضاً، وكما يستطرد قائلاً: «لأن الوجوب في هذه المرحلة هو نسبة وصفة الفعل في مرحلة الصدور عن الفاعل، وهو عامٌّ، ولكنّ الوجوب الذي يذكره الفقهاء في الأعمال هو صفة الفعل في نفسه وخاصٌّ. وعلى الرغم من أنه مثل الوجوب العامّ اعتبارٌ عمليّ، وهو من نتائج نشاط الإنسان، بَيْدَ أن اعتباره متأخِّرٌ عن اعتبار الوجوب العامّ»([45]). ويقول في موضعٍ آخر: «إن الحُسْن، مثل الوجوب، على قسمين، وهما: الحُسْن الذي هو صفة الفعل في نفسه؛ والحُسْن الذي هو صفةٌ لازمة عن الفعل الصادر، مثل الوجوب العامّ»([46]). على الرغم من أنه يقيِّد هذا الوجوب بالأحكام الفقهية، بَيْدَ أن الموضوع مورد البحث في هذه المقالة هو اعتبار كلّ نوعٍ من أنواع الفعل الاختياريّ في صلب الواقع، حيث إن الفعل الأخلاقي بدَوْره واحدٌ من هذه الأفعال أيضاً. وهذا ما تؤيِّده عبارةٌ قالها الأستاذ الشهيد الشيخ مرتضى مطهَّري؛ إذ يقول: إن العلاّمة الطباطبائي كان يقول بنوعين من الاعتبار، وهما: الاعتبار الثابت، من قبيل: حُسْن العدل وقُبْح الظلم؛ والاعتبارات المتغيِّرة والجزئية والنسبية، وتكون متغيِّرةً بالنسبة إلى الأفراد([47]).

أما المسألة الأخرى التي يمكن فهمها من خلال نظرية الاعتباريات التي يقول بها العلاّمة الطباطبائي فهي أنه يرى أن جميع الاعتباريات مأخوذةٌ من الحقائق، بمعنى أن الاعتباريّات ما دامت غير متّصلةٍ مع واقعيةٍ ما اتصالاً وجودياً لا يمكنها أن تخلق صورةً لها، ولا يمكن لها أن تبدع من ذاتها وتلقائها([48]). ومن ذلك أن المِلْكية ـ على سبيل المثال ـ أمرٌ اعتباري، فإن الذهن ما لم يكن قد أدرك حقيقة المِلْكية في موضعٍ آخر لا يمكن له أن يصوغ مفهوماً للمِلْكية الاعتبارية([49]). وبالالتفات إلى أن كلّ ما هو متعلّقٌ بالحكمة العملية فإنه يراه متعلِّقاً بعالم الأفكار الاعتبارية([50]) فإن الأخلاق بدَوْرها تمثِّل جزءاً من الإدراكات الاعتبارية؛ بَيْدَ أن هذه المُدْرَكات لا يمكن أن يتمّ اعتبارها دون أيّ مقدّماتٍ، إذن يجب أن تقوم على حقائق العالم، أي الإدراكات الفطرية والعقلية. ومن ذلك ـ مثلاً ـ أن العدل وإنْ كان مفهوماً أخلاقياً، ولكنّه ليس بحيث لا يكون موجوداً في العالم حقيقةً، وإنه مجرّد مخلوقٍ للذهن البشريّ، بل هو مقتَبَسٌ من عالم الخلق، ومنتَزَعٌ من الأمور التكوينية([51]).

6ـ منشأ الإلزام في القضايا الفقهية

لقد ذهب بعضٌ إلى القول بأن الفطرة والعقل والمصالح والعدل هي مصدر الإلزام في الأحكام والقوانين الشرعية([52]). ومن خلال دراسة آراء الأصوليين في مجال غير المستقلاّت العقلية ندرك أنهم يذهبون إلى الاعتقاد بأن العقل وحده لا يستطيع الحكم بالإلزام الشرعي للقضايا الفقهية. وتوضيح ذلك: إن الفقيه في استنباط الإلزام في حكمٍ فقهيّ يعمل على تشكيل قياسٍ، يستخرج صغراه من حكم الشارع، وكبراه عبارةٌ عن حكم العقل النظري بإيجاب أمر الشارع للكمال، ثمّ يحكم العقل العملي ـ من خلال الالتفات إلى حكم العقل النظري ـ بكون العمل بأمر الشارع إلزامياً:

1ـ أقيموا الصلاة. الصغرى (حكم الشارع).

2ـ إن ما يكون مورداً لأمر الشارع يوجب كمال النفس. الكبرى (حكم العقل النظري).

إذن الصلاة توجب كمال النفس.

1ـ إن الصلاة توجب كمال النفس. الصغرى (حكم العقل النظري).

2ـ إن ما يوجب كمال النفس يجب القيام به. الكبرى (حكم العقل العملي).

إذن يجب الإتيان بالصلاة.

ومن هنا يبدو أن العقل والفطرة وإنْ كانا يلعبان دَوْراً أساسياً في إدراك الاحتياجات وحقائق الأفعال، ولكنْ لا يمكن الوصول إلى هذه الأمور دون الاستناد إلى الوَحْي والشَّرْع. إن الله سبحانه وتعالى؛ وعلى أساسٍ من علمه ولطفه ونظره إلى المفاسد والمصالح، يضع بعض القوانين التي تضمن السعادة في الدنيا والآخرة، وإن كلّ إنسانٍ يتّصف بالفطرة الطاهرة والسليمة يدرك ضرورة ووجوب التَّبَعيّة لهذه القوانين.

7ـ القول المختار

ذكرنا فيما تقدَّم أن البعض يرى أن المعيار والمنشأ في جميع القِيَم الأخلاقية هو مجرّد المطابقة أو المخالفة للوجدان أو العقل. ولكنْ يبدو أنه لا يمكن اعتبار كلّ واحدٍ من هذه الأمور وحده معياراً مناسباً للإلزامية في القضايا الأخلاقية. ولذلك سوف نعمل في هذا المقال قبل كلّ شيء على نقد ومناقشة هذه المعايير، وفي الختام سوف ننتقل ـ بعد بيان أوجه الانسجام فيما بينها ـ إلى ذكر الرأي المختار.

وقد تقدَّم أن العلماء، ومن بينهم: بعض المفكِّرين الإسلاميين([53])، قد أبدَوْا اهتماماً ملحوظاً بموقع وأهمّية الوجدان، ولكنْ هل يمكن الادّعاء في الواقع بأننا قد حصلنا على جميع التكاليف الأخلاقية من طريق الرجوع إلى الوجدان؟ وهل يمكن لإدراكاتنا الفطرية أو الوجدانية أن تجيب عن مثل هذا التكليف؟

إن الإجابة عن هذا السؤال مرتبطةٌ بواحدٍ من المسائل المعرفية الهامّة، حيث يكون لحلّها تأثيرٌ مباشر في هذه المسألة، وهي: هل الإنسان يدرك مفهوماً أثناء ولادته؟ وهل خُلقت جِبِلّة الإنسان وطينته منذ بداية وجوده مقرونةً بالمفاهيم الذاتية والفطرية؟ وهل يمكن العثور على إنسانٍ قد حصل على هذه المفاهيم قبل وصوله إلى البلوغ العقلي؟ هناك آراءٌ متفاوتة في هذا الشأن. فقد ذهب أفلاطون إلى الاعتقاد بأن الإنسان يعلم كلّ شيء منذ ولادته؛ فقد سبق له أن تعرَّف قبل ولادته على جميع الحقائق في عالم المُثُل، ولكنّه يكون قد نسيها في هذا العالم، وبذلك فإنه يحتاج إلى استذكارها([54]). وفي المقابل يذهب آخرون، من أمثال: أبيقور([55])، وجون لوك([56]) ـ من الفلاسفة التجريبيين والحسّيين ـ إلى القول بأن ذهن الإنسان مثل: اللوحة البيضاء، التي تنطبع فيها الأشياء بفعل التماسّ مع الموجودات الخارجية. وقد خالف هؤلاء نظرية الفطرة بشدّةٍ، واعتبروا أدلّتها غير كافيةٍ. كما ذهب الكثير من حكماء المسلمين([57]) إلى عدم القول بأن هذه المفاهيم مكنونةٌ في فطرة الإنسان، وإنما هي مسبوقةٌ بالحواسّ الظاهرية والباطنية، وقالوا: من غير الممكن أن تكون لدينا مُدْرَكَاتٌ نعجز عن إدراكها حتّى ما قبل فترة البلوغ العقلي.

والحقّ هو أن الإنسان عندما يضع قدمه في هذا العالم تكون صفحة قلبه خاليةً، مثل: اللوحة البيضاء، ليس فيها شيءٌ، وهي فارغةٌ من جميع أنواع العلم الحصوليّ، وفي ذلك يقول الله تعالى: ﴿وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (النحل: 78). ومع ذلك فإن هذا الإنسان قد جُبِلَ بطينةٍ خاصّة: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (الروم: 30). ولكنّه يولد ورأس ماله العلم الحضوريّ بذاته ورؤيته الشهودية إلى خالقه([58])، ويمتلك استعداداً للرقيّ والتكامل([59])، قال تعالى: ﴿فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 8). إن هذه الإمكانات تنمو وتزدهر، وتصل إلى مرحلة الفعلية؛ بالالتفات إلى الشرائط الاكتسابية والبيئية بمساعدة العقل. ومن خلال الاستعانة بهذه الإمكانات والشرائط البيئية تغدو هذه المفاهيم قابلةً للإدراك. ولكنْ لا يمكن إدراك جميع المفاهيم بحكم الفطرة، وإن تلك السلسلة من القواعد الضاربة بجذورها الفطرية في وجدان الإنسان إنما تبلغ مرحلة الفعلية بمساعدة من العقل. ومن هنا فإن ما يتمّ طرحه تحت عنوان الفطرة أو الوجدان لا يمكنه وحده أن يكون هو منشأ الإلزام.

إن من بين المعايير والمصادر الأخرى التي ذكروها للقضايا الأخلاقية هو العقل. بَيْدَ أن المقطوع به في جميع الأفعال هو أن العقل لا يستطيع إدراك الحُسْن والقُبْح. وإنما في حال كون ملاك حكم العقل ذاتيّاً في الأفعال يكون العقل قادراً على الإدراك والحكم بحُسْن تلك الأفعال وقُبْحها. وأما حيث لا يكون هذا الملاك ذاتيّاً في الفعل، من قبيل: الحكم بحُسْن الحجّ، وقُبْح شرب الخمر، لا يكون بمقدور العقل إدراك ذلك، رغم أن العقل سوف يصادق على ذلك بعد صدور الحكم من قِبَل الشارع. ويذهب بعض المعتزلة إلى الاعتقاد بأن العقل في الموارد التي يكون فيها ملاك الحُسْن والقُبْح ذاتياً لا يكون قادراً على الإدراك في بعض الموارد. وهذا لا يعني ـ بطبيعة الحال ـ أن هذه القضايا مخالفةٌ للعقل، وإنما بمعنى أنها طاردةٌ، وأن العقل وحده غير قادرٍ على إدراكها، ويحتاج في ذلك إلى وجود حكمٍ في الخارج.

وبعد هذا البيان يمكن الادّعاء أن القضايا الأخلاقية لا تقوم على مجرّد الوجدان، ولا على العقل المَحْض فقط، بل هي ـ بالإضافة إلى الناحية الداخليّة والوجدانيّة ـ تحتوي بما لديها من القيمة والفضيلة على ناحيةٍ عقلية أيضاً. إن الشيء الذي تؤيِّده الفطرة يعمل العقل بدَوْره على تأييده، وإدراك حقيقته أيضاً. وفي هذه الحالة يَرِدُ هذا السؤال القائل: هل يمكن للشيء ـ الذي تكون هناك ضرورةٌ لناحيته الأخلاقية وتحصيله من وجهة نظر العقل ـ أن لا تكون له ضرورةٌ من وجهة نظر الشرع، ولا يكون للشارع أيّ حكمٍ بشأنه؟ هناك إمكانٌ أن يحكم الشارع بشيءٍ ولا يكون العقل قد أدرك ضرورته، ولكنْ لا شَكَّ قطعاً في أن الموضوعات الأخلاقية التي يحكم بها العقل يحكم بها الشرع المقدَّس أيضاً. إذا كانت القِيَم والأخلاق ضروريةً من أجل سعادة الإنسان أفلم ينبِّه الشرع أو يُشِرْ إلى تحصيلها؟! وإذا كان العقل والشرع كلاهما قد نبَّها إلى جميع هذه الأمور فكيف يكون الشيء حَسَناً ولا يكون في الوقت نفسه ضرورياً؟! وبهذا البيان يمكن الادّعاء أن الإرادة الإلهية ـ بالإضافة إلى العقل والفطرة ـ قد تعلَّقت بهذه القِيَم والأخلاقيات.

ولو قيل: حتّى لو افترضنا وجود دليلٍ لفظيّ شرعي متطابقٍ مع حكم العقل فإن هذا الحكم سوف يكون حكماً إرشادياً مستحبّاً، وليس حكماً تأسيسياً ومولوياً، والحكم الإرشادي لا يؤسِّس لأيّ مسؤوليةٍ، ولا يترتَّب عليه ثوابٌ أو عقاب.

فإننا نقول في الجواب: يمكن لنا أن نستنتج مما تقدَّم أن الحكم الموجود في الأحكام الأخلاقية هو مثل الأحكام الفقهية ـ سواء الإرشادية منها أو المولوية ـ، تدلّ على الطلب من دون شكٍّ. وأما في الجواب عن السؤال القائل: هل هذا الطلب وجوبيٌّ أو استحبابيٌّ؟ فيمكن القول: إن الأحكام العقلية تنقسم إلى قسمين: أحدهما: يتعلَّق بحُسْن وقُبْح الأفعال؛ والآخر: يكون في مورد تحسين وتقبيح الفاعلين لتلك الأفعال. لو أن العقل حكم بتحسين فاعلٍ فإن ذلك يُفْهَم منه تحسين جميع العقلاء بمَنْ فيهم الشارع على نحو القطع واليقين. إن المراد من تحسين الشارع هو الثواب المتعلِّق بذلك العمل، وإذا حكم العقل بتقبيح عملٍ ما فإن ذلك سيُفْهَم منه الحكم بتقبيح جميع العقلاء بمَنْ فيهم الشارع بالملازمة. وإن تقبيح الشارع عبارةٌ عن عقابه. وعليه فإن الأحكام الإرشادية تستتبع مسؤوليةً أيضاً، وإن على الإنسان أن يجيب عن أعماله في هذا الشأن أيضاً.

إذا كان منشأ هذه القضايا ـ الأعمّ من الأخلاقية والفقهية ـ هي الفطرة والعقل والإرادة الإلهية فكيف تكون مختلفةً عن بعضها، من حيث الإنشاء والإخبار والإلزام وغير الإلزام؟ وحقّاً ما هو الفرق من حيث صيغة الإخبار والإنشاء بين قوله تعالى: ﴿أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ (المائدة: 1) وقوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ (الإسراء: 34)؟ فإن أحدهما ـ طبقاً لقول المفكِّرين المسلمين ـ يبيِّن حكماً فقهياً، ويدلّ على الوجوب، والآخر يشتمل على حكمٍ أخلاقي، ويدلّ على الاستحباب([60]). فهل يمكن عدم اعتبار حكمٍ إلزاميّ في ظاهره دالاًّ على الإلزام دون أيّ دليلٍ؟ إن كلّ حكمٍ يكون في ظاهره أمريّ، أو كان يدلّ على أمرٍ، ولم يقُمْ دليلٌ على خلافه، فهو إلزاميٌّ. قد لا يكون للوفاء بالعهد أثرٌ وإلزامٌ حقوقي، ولا يمكن مؤاخذة شخصٍ على ترك ذلك المورد، ولكنّه مُلزَمٌ من الناحية الأخلاقية، وتترتَّب عليه مسؤوليةٌ؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 34)، ويستتبع الثواب والعقاب في الآخرة([61])، ولا يمكن أن يقع الشيء مورداً للسؤال ولا يكون القيام به واجباً([62]). كما لا يتنافى هذا البيان مع الأبحاث المذكورة من قِبَل بعض الفقهاء أيضاً([63])؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ﴾ (الأنفال: 56).

هل يمكن لنا أن نعتبر حكم الشارع في الكثير من الأحكام الفقهية والحقوقية ـ حيث لا يكون للعقل في بعض الموارد أيّ طريقٍ إليه ـ أمراً مولويّاً وإلزاميّاً، ونعتبر الحكم الذي أقامه الشارع على أساس الحقائق الموجودة في العالم وعلى حكم العقل والفطرة حكماً إرشاديّاً واستحبابيّاً؟ ولو سلَّمنا إرشاديّة هذه الأحكام وعدم وجوب امتثالها أفلن يترتَّب أثرٌ وضعيّ وتكوينيّ على عدم هذا الامتثال؟

ليس للعقل أيّ طريقٍ في بعض الأحكام الفقهية والحقوقية، فهل يمكن اعتبار حكم الشارع في هذا النوع من الموارد أمراً مولويّاً وإلزاميّاً؟ وهل يمكن اعتبار الحكم الذي يقيمه الشارع على الحقائق الموجودة في العالم، ويقوم على حكم العقل والفطرة، حكماً إرشاديّاً واستحبابيّاً؟ وعلى افتراض إرشاديّة الموارد المذكورة، وفي حالة عدم امتثالها، كيف سيكون الأثر التكوينيّ والوضعيّ المترتِّب على ترك هذه الموارد؟

لو أن الشارع قد أمر بحكمٍ، وكان العقل يمنحه التأييد والاعتبار، فإن هذا الحكم أمرٌ إرشاديّ، ولكنْ لا يمكن لنا أن نستنتج الاستحباب منه؛ إذ قد لا يكون الأمر مولويّاً، ومع ذلك لا يكون استحبابيّاً. فلا المولوية في أمرٍ تدلّ على الوجوب، ولا الإرشادية تدلّ على الاستحباب([64]). إذا كان المراد من الإرشاد هو الإرشاد إلى المفاسد التي يمكن للشخص أن يتخلَّص منها، ولا يتعرّض لها من دونه، لا يكون وجوبها معلوماً([65])؛ ولكنْ إذا كان المراد هو الإرشاد إلى حكم العقل، ولم يكُنْ الواجب العقلي مقدّمةً للواجب الشرعي، كان الإنسان مُلْزَماً بامتثاله عقلاً. وإن تركه بالذات يستتبع عقاباً أخروياً، ولكنْ إذا كان مقدّمةً لواجبٍ آخر فإن العقاب عليه يكتسب معناه تَبَعاً للواجب الشرعي.

وعلى هذا الأساس؛ بالالتفات إلى حاجة الناس إلى تفعيل الاستعدادات الفطرية وتحصيل الكمال، فإننا كما نقول بوجوب ولزوم تنفيذ الكثير من الأحكام الفقهية لا مندوحة لنا من القول بلزوم تنفيذ الأحكام الأخلاقية، سواء كان المراد من اللزوم هو اللزوم العلّي / المعلولي أو الإلزام العقلي أو التشريعي. وكما ذكرنا في البحث عن ماهيته الإلزامية فإن جميع أفراد البشر يعملون في الأمور الأخرى على امتثال ذلك العمل من أجل تلبية حاجاتهم، دون أن يصدر أمرٌ من أحدٍ. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أن الشخص عندما يشعر بالظمأ فإنه سوف يسعى إلى تحصيل الماء، دون أن يكون لديه أمرٌ بذلك، بمعنى أنه يحرز علاقةً تكوينية وعلاقةً لزومية بينه وبين العمل. وفي بعض الموارد من الممكن أن يكون هناك معتَبِرٌ يعتبر هذا التكليف على الآخرين ويعلن عنه، أو أن يكون هناك شخصٌ آخر يرشده إلى هذا الأمر، فإذا تمّ إحراز هذه العلاقة والمصلحة الموجودة فيها فإنه بالالتفات إلى قاعدة اللطف يجب على الله الحكيم أن يقوم ببيان الطريق الموصل إلى هذه النقطة. لا فرق بين أن يقوم الشارع ببيان طريق الوصول بواسطة الاعتبار أو أن يضع بين أيدينا طرقاً لاكتشافه. وفي القضايا الأخلاقية يكفي أن نكتشف هذا المقدار من العلاقة اللزومية حتّى يكتسب امتثاله الضرورة والإلزام، رغم أنه من الممكن أن لا يرى الجميع أنفسهم مكلَّفين بالتَّبَعيّة بمجرّد المواجهة مع اللزوم العلّي / المعلولي. وبالالتفات إلى هذه النقطة فإن الاعتقاد يقوم على أن الاستعدادات الموجودة لدى الإنسان بشكلٍ فطريّ، دون أن يكون لها أيّ اقتضاء، إنما تكشف بمساعدة العقل، ويثبت لها الاعتبار بالإرادة الإلهيّة. وهو الاعتبار القائم على الفطريات والعقلانيات وبناء العقلاء، بمعنى أن الإرادة الإلهيّة تتعلق بلزوم تطوير وازدهار هذه الاستعدادات. إن هذا اللازم هو أمرٌ اعتباريّ وتواضعيّ بين الله والمكلَّفين، وهو يحتوي ـ كما تقدَّم أن ذكرنا ـ على منشأ حقيقيّ؛ يكون في بعض الأحيان ذاتياً؛ ويكون له في بعض الأحيان منشأٌ نَفْعيّ ومصلحي.

قد يُقال: إن البحث هنا عن البُعْد الملكوتي، واعتبار الإنسان خليفة لله، وإن بناء مثل هذا الإنسان يتنافى مع الإلزام؛ فإن الإنسان الذي يمتثل شيئاً بدافعٍ من الخوف لا يمكن بناؤه. إن التربية ما دامت تنطوي على لطفٍ تكون مؤثِّرة، وتوصل الإنسان إلى المراتب العليا، ولكنْ عندما تكتسب صبغةً تكليفية لا يكون لها التأثير المطلوب. إن الأخلاق عبارةٌ عن امتيازٍ، وليست وظيفةً أو تكليفاً. ليس من اللازم أن يكون كلّ ما انطوى على نتيجةٍ جيّدة لازماً ومطلوباً. إن التأثير الذي ينطوي عليه العمل المستحبّ لا ينطوي عليه الفعل الواجب، ومن هنا قد يكون تأثير صلاة الليل أكبر من تأثير صلاة الصبح؛ فإن التعالي إنما يكمن في الاختيار.

ويمكن القول في الجواب: أوّلاً: إنه في حالة القبول بهذا الافتراض يجب أن لا يكون هناك أيّ بيانٍ إلزامي في الدين والأحكام الشرعية؛ لأن هذا الاستدلال يصدق في مورد الواجبات الأخرى أيضاً. إن المراد من الواجب ليس هو الإكراه والإجبار؛ فحتّى في الواجبات يجب محاربة النفس أيضاً. كما أن الوجوب لا يتنافى مع التكامل، فالاختيار الذي يؤدِّي إلى تعالي الإنسان إنما يكون في مرحلة التكوين، وليس هناك أيّ شكٍّ في هذه المسألة. وثانياً: لم يتمّ الفصل في هذا البيان بين مقام الإثبات ومقام الثبوت، في حين يجب بحث هذين المقامين بشكلٍ مستقلّ.

لا شَكَّ في أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الإنسان لغايةٍ؛ قال الله تعالى: ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ (النجم: 42)، وهو في مقابل هذه الغاية متعهِّدٌ ومسؤول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ (الإسراء: 36)، ويجب أن تكون هناك مقدّمات من أجل الوصول إلى هذه النقطة. إن هذا إنما يمكن عندما تصبح القِيَم الأخلاقية عمليّةً، بَيْدَ أن مخالفتهم إنما هي مع هذا النحو من الإلزام والإجبار. لقد أثبتنا في بحث الحُسْن والقُبْح العقلي في مقام الثبوت وعالم الواقع أن الإنسان كائنٌ يُعتَبَر الحصول على الكمالات ضروريّاً بالنسبة إليه، بَيْدَ أن الاختلاف يكمن في مقام الإثبات وطريقة البيان والدافع للقيام بذلك. لو قبلنا بضرورة تحصيل الكمالات، وقبلنا تَبَعاً لذلك بالمقدّمات والطرق الموصلة إلى ذلك في مقام الثبوت، فهل يمكن للشارع في مقام الثبوت أن لا يقدِّم لنا أيّ طريقٍ للوصول إلى المطلوب؟ هذا أوّلاً. وثانياً: ما هي المرحلة التي يعتبر الوصول إليها ضرورياً بالكامل من بين المراحل الممكنة؟ أو ما هي المقدّمات التي توصلنا إلى هذا الحدّ من الكمال؟ إن هذا من الموضوعات التي يجب العثور على جوابها من القرآن الكريم. لقد قام الشارع ـ من أجل الوصول إلى ذلك ـ بتناول المسائل في القرآن من مختلف الحيثيات؛ فتارةً يضفي عليها صبغةً حقوقية، ويتحدَّث عن العقاب والثواب الدنيوي والأخروي؛ وفي موضعٍ آخر يقتصر على تناول الثواب والعقاب الأخروي فقط. وبالتالي إذا أرادت القضية أن تكون أخلاقيّةً فما هي الطريقة الأفضل لبيانها؛ لتنطوي على تأثيرٍ أكبر؟ إن رعاية المسألة الأخلاقية إنما تكون ممكنةً بسبب قيمتها؛ وتارةً أخرى بسبب وجود عقوبة عليها؛ أو لأنها تمنح الإنسان شخصية واعتباراً؛ ورُبَما تكون أحياناً بسبب رعاية حال الناس؛ وتارة بسبب الخوف من الشرطة. وبالالتفات إلى الدوافع المختلفة في رعاية المسائل الأخلاقية يجب اختيار نبرةٍ ولحنٍ مختلف. إن البحث في مقام الثبوت هو بحثٌ عن عالم القِيَم، القِيَم التي تنطوي على حُسْنٍ والقِيَم القبيحة، والقِيَم التي تجب مراعاتها والقِيَم التي ليس هناك إلزامٌ في رعايتها، والقِيَم المشتملة على مصلحةٍ مُلزمة والقِيَم التي لا تنطوي على مصلحةٍ مُلزمة.

وفي مقام الإثبات يمكن توظيف لحنٍ مختلف؛ من أجل الوصول إلى هذه المصالح، من قبيل: لحن الوعظ والإرشاد، ولحن العتاب، ولحن الخطاب. ولكنْ كلّ لحنٍ يحتوي على تأثيرٍ أكبر في المخاطب، ويرفع لديه الدافع نحو القيام بالفعل، سوف يكون مطلوباً بشكلٍ أكبر. لا شَكَّ في أن لزوم تنفيذ هذه القِيَم في مقام التشريع، أو في مقام الإرشاد، قد تمّ بيانه بلغةٍ ولسان مختلف عن الإلزامات الحقوقية. وإن الشارع المقدَّس قام في القرآن الكريم ـ بالالتفات إلى إحراز المصلحة أو المفسدة في موضوعٍ ما ـ بالإرشاد إلى هذه الموضوعات أو اعتبارها من أجل تنفيذ الأحكام الأخلاقية. إذن فكما نحن في الأحكام الفقهية من القائلين بوجوبها وعدم وجوبها، كذلك يمكن لنا الوصول في الأحكام الأخلاقية إلى مثل هذه الإلزامات أيضاً. وهذه الإلزامات قد تختلف عن الإلزامات الفقهية من حيث الاعتبار والتشريع أو لحن البيان. إن هذا الأمر الهامّ إنما يمكن الوصول إليه من خلال دراسة آيات القرآن وأسلوب ولحن بيانها. ويمكن تقسيم هذه الآيات إلى عدّة مجموعات، وذلك على النحو التالي:

1ـ إن القرآن الكريم، من خلال بيان مصالح ومفاسد الأفعال والنتائج المؤثِّرة في تعالي وتكامل شخصية الإنسان، عمد إلى تشريع مبنى وملاك إلزامية الأحكام الفقهية، واعتبر أن نتيجته تؤدّي إلى أمرٍ أخلاقي. إن الكثير من الأمور الأخلاقية تندرج ضمن الأهداف الفقهية والحقوقية، وإن دَوْرها يتمثَّل في المساعدة على تطبيق مباني هذه الحقوق، وإذا لم يكن في البين من هدفٍ للفقه والحقوق لن تشتمل مبانيه على تلك الضمانة التنفيذية. وإن الكثير من هذه الأمور، من قبيل: العدالة، تُعَدّ في زمرة مباني الفقه والحقوق، ويكون العمل بها واجباً، وتركها محرَّماً([66]).

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ (البقرة: 183).

2ـ إن القرآن الكريم من خلال ذكره لعاقبة المسيئين والتَّبِعات الأخروية التي ستطالهم يمهِّد الأرضية لإلزام الأشخاص بالعمل بالقوانين الأخلاقية.

قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة: 2).

وبالتزامن مع التذكير بالتداعيات والتَّبِعات الأخروية تعرَّض إلى بعض النتائج المترتِّبة في هذه الدنيا على الاتجاه والنزوع إلى الأخلاق والإعراض عنها؛ كي يُعِدّ الأرضية لتحقيق الإلزام الداخلي بالمباني الأخلاقية من خلال اللجوء إليها.

قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة: 33).

3ـ إن القرآن الكريم، بالالتفات إلى الحضور الشامل والكلّي لله سبحانه وتعالى وإشرافه الدائم على أفعال وتصرُّفات الإنسان، إنّما يوفِّر الأرضيّة للتخلُّق بالأخلاق والتمسُّك بالإلزامات السلوكية.

قال تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ (يونس: 61).

وقال أيضاً: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ (ق: 16).

4ـ لقد اهتمّ القرآن الكريم بالقضايا الأخلاقية والفقهية على السواء، واهتمّ بهما بشكلٍ خاصّ، دون الفصل بينهما.

قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: 90).

لقد وضع الله تعالى في هذه الآية كلاًّ من العدل والإحسان في مرتبةٍ واحدة، وأمر بهما في عبارةٍ واحدة، وفي سياقٍ واحد. وعلى الرغم من استعمال كلمة «يأمر»، ولكنْ في بيان هذه الآية تمّ الحكم بوجوب العدل واستحباب الإحسان([67]). وحتّى إذا قبلنا عقلاً بجواز استعمال لفظٍ واحد في أكثر من معنىً بَيْدَ أن الفهم العُرْفي لا ينسجم مع مفهومين مختلفين، ومن المستَبْعَد جدّاً أن يستوعب لفظٌ واحد مفهومَيْ الواجب وغير الواجب (الوجوب والحُسْن) في خطابٍ واحد([68]). وعليه لا يمكن في آيةٍ واحدة ذات سياقٍ واحد القول بوجوب موضوعٍ فقهيّ واستحباب موضوعٍ أخلاقيّ.

5ـ الأفعال الأمرية: هناك اختلافٌ بين علماء الأصول حول ظهور صيغة الأمر في الوجوب، وكيفية هذا الظهور. فقد ذهب السيد المرتضى إلى القول بأنه مشتركٌ لفظي بين الوجوب والاستحباب؛ وهناك مَنْ قال بأنه مشتركٌ معنويّ بين الوجوب والندب والإباحة؛ وقد ذهب مشهور الأصوليين إلى القول بأن الأمر حقيقةٌ في الوجوب، فإذا لم تكن هناك قرينةٌ على الخلاف فهو ظاهرٌ في الوجوب، وما لم يأذن المولى بالترك فإن العقل يحكم بوجوب صدوره([69]). لقد ذكر الأصوليون هذه القاعدة لاستنباط الأحكام الشرعية. ولكنّ هذه القاعدة كلّيةً وعامّةً وتصلح لفهم جميع الأقوال والنصوص، هذا أوّلاً. وثانياً: إن القرآن عند نزوله لم يفرِّق بين الأحكام الفقهية والأحكام الأخلاقية، ولذلك فإن القواعد الأصولية قابلةٌ للتوظيف في جميع الآيات القرآنية على وتيرةٍ واحدة.

لقد ورد محمول القضايا الأخلاقية في القرآن الكريم على أشكال مختلفة. ومن بينها: الشكل الأمري؛ حيث ينطوي هذا الشكل على الشَّبَه الأكبر مع المحمول في القضايا الفقهية في القرآن. وكما سبق أن ذكرنا فإن لفعل الأمر ظهوراً في الوجوب، وليس هناك أيُّ فرقٍ من هذه الناحية بين مختلف القضايا في القرآن الكريم. وبالالتفات إلى عدم وجود قرينةٍ قائمةٍ على الاستحباب ـ بل على العكس فإن مجموع الآيات وأسلوبها وسياقها يحمل قرينةً قويّة على الوجوب ـ فإن الكثير من هذه الآيات يدلّ على الضرورة واللزوم. قال تعالى:

ـ ﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً﴾ (الإسراء: 23).

ـ ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً﴾ (طه: 44).

ـ ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (المائدة: 2).

ـ ﴿وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (المائدة: 93).

6ـ إن الآيات الإخبارية الدالّة على الطلب لها ظهورٌ في الوجوب. ويُشاهَد هذا الأسلوب في القضايا الأخلاقية كثيراً. وكلّما كانت القضايا الإخبارية في مقام طلب شيءٍ ما فإنها ستكون ـ مثل فعل الأمر ـ ظاهرةً في الوجوب. من قبيل: قوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ (العنكبوت: 8).

إن ملاك ومعيار ظهور الأمر في الوجوب واحدٌ؛ إذ كلّما ثبت أن المولى قد طلب العمل بشيءٍ، بأيّ لفظٍ وبيان، فإن العقل يحكم بوجب الامتثال والطاعة، ما لم يأذن المولى نفسه بالترك. كما وردت توصياتٌ في هذه الآيات، وهي وإنْ لم تَرِدْ بصيغة الطلب؛ ضماناً للمزيد من التأثير، ولكنّها واردةٌ في مقام الطلب والمطلوب للمولى. وهناك مَنْ يذهب إلى الاعتقاد بأن هذا الأسلوب في مقام الطلب أبلغ من القضايا الأمرية؛ لأنها في الحقيقة تخبر عن وقوع وتحقُّق الفعل، وكأنّ الامتثال قد صدر عن المكلَّف([70]). لا شَكَّ في أن لحن المسائل الأخلاقية المقرون بالوعظ، والذي يَرِدُ في مقام الطلب، من شأنه أن يؤثِّر بشكلٍ أكبر. وعلى هذا الأساس تكون مسألة الإلزام في مجال السلوك الإنساني أمراً متحقّقاً، وإن الآيات التبشيرية والتحذيرية تسير باتجاه تحقيق هذه الغاية.

النتيجة

إن الأخلاق، بالإضافة إلى بناء الثقافة وإثبات الهويّة للفرد والمجتمع، توفِّر الأرضية المناسبة لتطبيق التكاليف الشرعية والقانونية ـ الأعمّ من العبادات والمعاملات والأحكام والقوانين المدنية والاجتماعية ـ. وإن المجتمع الإنساني إذا فقد الأخلاق سوف يكون مجرّداً وعارياً من الهويّة الإنسانية، ولا تكون هناك إمكانيةٌ لتطبيق القِيَم بشكلٍ نسبيّ إلاّ بالقوّة والرعب والعنف. لو نظرنا إلى الأخلاق من هذه الزاوية عندها لن يمكن أن نعتبر الأخلاق أمراً حَسَناً، وسوف يكون اعتبارها خارجاً عن دائرة المسؤوليات الإلزامية. كيف يمكن اعتبار ما يشكِّل أساساً للحياة الاجتماعية الإنسانية خارجاً عن دائرة الضرورات، وإدراجه ضمن المستحبّات؟ وطبقاً للتحليل المتقدِّم نجد أن القرآن الكريم يعتبر وجوب امتثال الأخلاقيات على غرار سائر التكاليف الإلزامية، ولكنْ حيث تكون روح الإنسان مجالاً أصليّاً لها فقد ألقيت مسؤوليّتها في هذه الدنيا على عاتق وجدان الفرد، حيث يمكن محاكمتها في محكمة الوجدان المتمثِّل بالنفس اللوّامة، وتمّ إيكال أمرها في يوم القيامة إلى الله سبحانه وتعالى. فإذا التزم الإنسان بهذه القواعد يكون قد مهَّد السبيل إلى الارتقاء بإيمانه، وأما إذا تجاوز ذلك فسوف يكون مستحقّاً للبُعْد والحِرْمان من القُرْب الإلهي.

إذا كان الكثير من الأخلاقيات غيرَ قابلٍ للمتابعة الحقوقية فإن السبب في ذلك لا يعود إلى عدم مسؤولية الإنسان تجاه هذا الأمر، بل لأن المسائل الروحية أبعد من مجال التكاليف الاجتماعية والحقوقية. إن المجتمع السعيد والناجح هو المجتمع الذي يتمسَّك بالمسؤوليات واللوازم الأخلاقية، بالإضافة إلى مسؤولياته الحقوقية أيضاً. وحيث ينشأ النظام الحقوقي والنظام الأخلاقي للإسلام من مصدر الوحي والعقل والفطرة، ويستقيان من معينٍ واحد، ويشتركان في تنظيم الأفعال الاختيارية للإنسان، وفي تكامله الروحي والمعنوي، وضمان أمن وسعادة المجتمع، تجب دراستُهما بوصفهما نظاماً واحداً يتمثَّل قوام أحكامه بالإلزام. وعلى الرغم من أن لسان بعض آيات القرآن في إبلاغ القِيَم والأخلاقيات هو لسان الوعظ والنصيحة، وقد تمَّ بيانها بصيغةٍ عاطفية؛ ضماناً للمزيد من التأثير على القلوب، إلاّ أن هذا لا يدلّ ـ كما تصوَّر بعضٌ ـ على عدم إلزاميّتها. هل يمكن لله سبحانه وتعالى ـ الذي أعلن صراحةً عن أن غايته من البعثة وإرسال أنبيائه تزكية النفوس وتهذيب الأخلاق ـ أن لا يرى إلزامية الوصول إلى هذه الغاية؟!

قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة: 2).

إن القرآن الكريم في إطار حثِّه للناس على فعل الخير عمد إلى بشارتهم وتشجيعهم على تهذيب النفس؛ ليصلوا من خلال ذلك إلى الفوز والسعادة والفلاح. قال تعالى:

ـ ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ (الشمس: 9).

ـ ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ (الأحزاب: 71).

هذه هي الغاية المطلوبة والأخيرة في حياة الناس، ويجب العمل على تحقيقها.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعِدٌ في علوم القرآن والحديث في جامعة الإمام الصادق×.

([1]) انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة: 393، نشر در راه حقّ، قم، 1405هـ.

([2]) انظر: محمد رضا مهدوي كني، نقطه هاي آغاز در أخلاق عملي (نقاط الانطلاق في الأخلاق العملية): 395، دفتر نشر فرهنگ إسلامي، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([3]) انظر: ناصر كاتوزيان، فلسفه حقوق (فلسفة الحقوق) 1: 404، انتشارات دانشگاه طهران، طهران، 1352هـ.ش. (مصدر فارسي).

([4]) انظر: وليم كي فرانكنا، فلسفه أخلاق (فلسفة الأخلاق): 31 ـ 32، ترجمه إلى الفارسية: هادي صادقي، انتشارات طه، قم، 1376هـ.ش.

([5]) انظر: مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة: 22.

([6]) انظر: محمد عبد الله درّاز، دستور الأخلاق في القرآن: 21، ترجمه إلى العربية: عبد الصبور شاهين، دار البحوث العلمية، الكويت، 1973م.

([7]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 13: 55، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1417هـ.

([8]) انظر: عبد الله جوادي الآملي، فلسفه حقوق بشر (فلسفة حقوق الإنسان): 57، مركز نشر إسراء، قم، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([9]) انظر: محمد جواد مغنيّة، فلسفة الأخلاق في الإسلام: 62، دار التيّار الجديد، بيروت، 1412هـ.

([10]) انظر: مصباح اليزدي، تعليقة على نهاية الحكمة: 58 ـ 66.

([11]) انظر: إيميل دوركهايم، قواعد روش جامعة شناسي (قواعد مناهج علم الاجتماع): 47، ترجمه إلى الفارسية: علي محمد كاردان، انتشارات دانشگاه طهران، طهران، 1368هـ.ش.

([12]) هنري برجسون (1859 ـ 1941م): فيلسوفٌ فرنسيّ، حائزٌ على جائزة نوبل للآداب.

([13]) انظر: هنري برجسون، در سرچشمه أخلاق ودين (مصدر الأخلاق والدين): 65، ترجمه إلى الفارسية: حسن حبيبي، شركت انتشار، طهران، 1385هـ.ش.

([14]) انظر: كاتوزيان، فلسفه حقوق (فلسفة الحقوق) 1: 388.

([15]) انظر: درّاز، دستور الأخلاق في القرآن: 23.

([16]) انظر: جان جاك روسو، اميل يا آموزش وبرورش (التربية والتعليم): 201، ترجمه إلى الفارسية: غلام حسين زيرك زاده، انتشارات چهره، طهران، 1360هـ.ش.

([17]) انظر: نديم الجسر، القرآن في التربية الإسلامية: 104، منشورات دار الخلود، بيروت، 1969م.

([18]) الصدوق، الخصال: 427، 1403هـ؛ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار 1: 107، 1404هـ.

([19]) انظر: مغنيّة، فلسفة الأخلاق في الإسلام: 75.

([20]) انظر: مرتضى مطهَّري، آشنائي با علوم إسلامي (مدخل إلى العلوم الإسلامية): 309، انتشارات صدرا، طهران، 1372هـ.ش.

([21]) انظر: العلاّمة الحلّي، كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد: 417 ـ 420، تصحيح وتقديم وتعليق: حسن حسن زاده الآملي، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم، 1422هـ؛ محمد رضا المظفَّر، أصول الفقه 1: 220 ـ 224، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1373هـ.ش.

([22]) يذهب بعضٌ إلى الاعتقاد بأن أنصار الحُسْن والقُبْح العقلي وإنْ كانوا يتحدَّثون عن العقل، إلاّ أن مرادهم من ذلك هو العقل الوجداني، دون العقل الاستدلالي. إنهم يرَوْن وضوح حُسْن الإحسان وقُبْح الظلم، دون حاجةٍ إلى دليل وبرهان بالنسبة إلى الإنسان السويّ والسليم، وإنهم في الحقيقة إنما يعطون الأصالة للوجدان. (انظر: ناصر مكارم الشيرازي، أخلاق در قرآن (الأخلاق في القرآن) 1: 61، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، قم، 1380هـ.ش). وهناك في المقابل مَنْ لا يرى أيّ اختلاف بين العقل والوجدان. (انظر: محمد تقي مصباح اليزدي، نقد وبررسي مكاتب أخلاقي (نقد ومناقشة المدارس الأخلاقية): 235، تحقيق وتدوين: أحمد حسين شريفي، مؤسّسه آموزشي پژوهشي إمام خميني، قم، 1384هـ.ش).

([23]) يذهب البعض إلى الاعتقاد بأن العقل النظري في بعض الموارد؛ حيث يرى عملاً ما متطابقاً مع العادات والتقاليد السائدة لدى نوع البشر (انظر: إيميل دوركهايم، قواعد روش جامعة شناسي (قواعد مناهج علم الاجتماع): 47، ترجمه إلى الفارسية: علي محمد كاردان، 1368هـ.ش)، فإن العقل العملي سوف يصدر حكماً متناسباً معها. وهناك مَنْ يرى الوجدان والحسّ الداخلي (انظر: جان جاك روسو، اميل يا آموزش وبرورش (التربية والتعليم): 201 ـ 202، ترجمه إلى الفارسية: غلام حسين زيرك زاده، انتشارات چهره، طهران، 1360هـ.ش). وبعضهم يرى موافقة العواطف والمشاعر (انظر: اي. ج آير، حقيقت ومنطق (الحقيقة والمنطق): 137، ترجمه إلى الفارسية: منوچهر بزرگمهر، جامعة صنعتي شريف). وترى جماعةٌ الموافقة مع الأغراض والمصالح هي الملاك في حكم العقل بحُسْن وقُبح الأفعال. وأما الآداب والتقاليد والعواطف والأحاسيس والأغراض والمصالح فهي من الأمور التي تتغيَّر باختلاف الشرائط، ولها درجاتٌ متفاوتة باختلاف الأفراد، وعليه لا يمكن لها أن تكون هي الملاك بالنسبة إلى الأحكام العقلية، وأن تكون قواعدها هي الحاكمة على المجتمع. يُضاف إلى ذلك أن الناس في هذه الملاكات إنما يحكمون بحُسْن عملٍ ما أو قُبْحه، لا من حيث هم عقلاء، وإنما من حيث امتلاكهم للعادات والتقاليد والعواطف والمشاعر.

([24]) انظر: المظفر، أصول الفقه 1: 229.

([25]) انظر: سعيد رجحان، مباني استنباط در حقوق إسلامي وحقوق موضوعه (أسس الاستنباط في الحقوق الإسلامية والحقوق الوضعية): 17، انتشارات جامعة الإمام الصادق×، طهران، 1382هـ.ش. (مصدر فارسي).

([26]) Descriptive.

([27]) Descovery.

([28]) Normative.

([29]) Invention.

([30]) انظر: عبد الله جوادي الآملي، تفسير تسنيم (تفسير التسنيم) 2: 356، مركز نشر إسراء، قم، 1378هـ.ش. (مصدر فارسي).

([31]) انظر: مهدي الحائري اليزدي، كاوش هاي عقل عملي، فلسفه أخلاق (أبحاث العقل العملي، فلسفة الأخلاق): 51، مؤسّسة پژوهشي حكمت وفلسفه إيران، طهران، 1384هـ.ش. (مصدر فارسي).

([32]) انظر: مطهَّري، آشنائي با علوم اسلامي (مدخل إلى العلوم الإسلامية) 2: 146 ـ 174؛ جعفر السبحاني، حُسْن وقُبْح عقلي، پايه هاي أخلاق جاودان (الحُسْن والقُبْح العقلي، أسس الأخلاق الخالدة): 8.

([33]) ديفيد هيوم (1711 ـ 1779م): فيلسوفٌ واقتصادي ومؤرِّخ اسْكُتْلَندي.

([34]) Pojman, Louis. P. 1987, ed “Morality and Religion”, Plato in philosophy of Religion: An Antology, (u.S.a: wadsworth) p. 496 – 497.

([35]) إن الاعتباريات على نوعين: الاعتباريات الذاتية، التي هي عبارة عن كلّ شيء يُنتَزَع من الحقائق العينية للأشياء وحقائق الوجود، دون أن يكون له ما بإزاء؛ وذلك لأن منشأ انتزاعه أمرٌ حقيقيّ وواقعيّ، ويُطْلَق على هذه الأمور مصطلح الأمور العقلية المعتبرة التي تقع في مقابل الأمور العقلائية المعتبرة، من قبيل: الفوق، بالالتفات إلى أن ذات الفوق موجودٌ، إلاّ أن الفوقية ليس لها وجودٌ عيني؛ والاعتباريات المَحْضة، حيث تُطْلَق على كلّ شيءٍ ليس له مبدأٌ ومنشأٌ حقيقيّ وعينيّ، وتمّ اعتباره في ظلّ ظروف وشرائط خاصة.

([36]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، نهاية الحكمة 1: 50، مؤسّسة النشر الإسلامي، قم.

([37]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 8: 53، 1417هـ؛ فارنوك، فلسفه أخلاق در قرن حاضر (فلسفة الأخلاق في القرن الراهن): 136، ترجمة وتعليق: صادق لاريجاني، مركز ترجمة ونشر كتاب، 1368هـ.ش.

([38]) انظر: مرتضى مطهَّري، نقدي بر ماركسيسم (نقد على الماركسية): 193، نشر صدرا، طهران، 1363هـ.ش. (مصدر فارسي).

([39]) هادي السبزواري، شرح المنظومة 3: 646، تصحيح: حسن حسن زاده الآملي، نشر ناب، طهران، 1413هـ.

([40]) انظر: مطهَّري، نقدي بر ماركسيسم (نقد على الماركسية): 193.

([41]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، رسائل سبعة: 158، بنياد علمي وفكري علاّمه طباطبائي، قم، 1362هـ.ش. (مصدر فارسي).

([42]) وقد تمّ إيراد بعض الاعتراضات على هذا الرأي الصادر عن العلاّمة الطباطبائي، ومن أهمّها: بحث النسبية. بَيْدَ أنه من خلال بحث ومطالعة جميع مؤلَّفاته تتّضح لنا مخالفته لهذه المسألة بشكلٍ جليّ.

([43]) انظر: عبد الله جوادي الآملي، فلسفه حقوق بشر (فلسفة حقوق الإنسان): 201 ـ 202، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([44]) محمد حسين الطباطبائي، اصول فلسفه وروش رئاليسم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي) 2: 199، 1368هـ.ش. (مصدر فارسي).

([45]) المصدر نفسه.

([46]) المصدر السابق: 201.

([47]) انظر: مطهَّري، نقدي بر ماركسيسم (نقد على الماركسية): 201.

([48]) انظر: محمد حسين الطباطبائي، أصول فلسفه وروش رئاليسم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي) 2: 160.

([49]) انظر: مرتضى مطهَّري، شرح مبسوط منظومة (الشرح التفصيلي للمنظومة) 1: 334، نشر حكمت، طهران، 1369هـ.ش. (مصدر فارسي).

([50]) انظر: مرتضى مطهَّري، جاودانگي وأخلاق (الخلود والأخلاق) (تذكرة الأستاذ الشهيد مطهري): 386، تحت إشراف: عبد الكريم سروش، سازمان انتشارات وآموزش انقلاب إسلامي، طهران، 1360هـ.ش. (مصدر فارسي).

([51]) انظر: جوادي الآملي، فلسفه حقوق بشر (فلسفة حقوق الإنسان): 199.

([52]) انظر: جعفر جعفري لنگرودي، مقدّمه علم حقوق (مقدّمة علم الحقوق): 30، گنج دانش، طهران، 1375هـ.ش. (مصدر فارسي).

([53]) قال العلاّمة الطباطبائي في تفسير قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾ (الأنبياء: 73): إن الله لم يقُلْ: (وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات)، فيكون التكليف بالفعل عندها تكليفاً شرعياً، وإنما قال: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾؛ بمعنى أننا ألهمنا فعل الخير إلى القلب؛ لكي يقوم الناس بأخذ الأمر من القلب في القيام بأفعال الخير. (انظر: محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 14: 305).

إن الإنسان يشعر ببعض الأمور في وجدانه بوصفها تكليفاً وأمراً ونَهْياً فطرياً. إن هذه الأمور هي في الحقيقة مجموعة من الأوامر التي تمّ إيداعها في وجدان الإنسان بحكم الفطرة، وفي الحقيقة إن الوجدان هو الذي يأمر الإنسان (انظر: المصدر السابق: 301). ولكنْ يبقى هذا السؤال قائماً: هل المراد من الفطرة أن الإنسان يستطيع الوصول إلى وجود التكليف الأخلاقي بحكم العقل الفطري دون الحاجة إلى تحصيل المقدمات الاستدلالية، أم المراد من فطرية هذه التكاليف هو حكم فطرة القلب، بمعنى أن الإنسان لا يمتلك أيّ دليلٍ على المَيْل والاتجاه إلى التكاليف الأخلاقية سوى التركيبة الروحية والجَسَدية الخاصة؟ إن المراد من الوجدان في هذا المقال هو فطرة القلب، بمعنى أن هناك قوّةً مودعة في وجدان كلّ إنسان؛ كي يعمل على تحسين الفضائل والمحاسن التي يدركها، ولا يشعر معها بالحاجة إلى وضع قانونٍ أو استعمال القوّة. (انظر: مرتضى مطهَّري، سيري در سيرة أئمّه (جولة في سيرة الأئمة): 260، انتشارات صدرا، طهران، 1373هـ.ش؛ محمد حسين الطباطبائي، أصول فلسفه وروش رئاليسم (أصول الفلسفة والمنهج الواقعي) 5: 73). والمراد من فطرة العقل هو ذات البيان الذي تقدّمت مناقشته في مبحث العقل. ولكنْ يبدو أن التفكيك والفصل بين هذين الأمرين غيرُ صحيحٍ؛ إذ سوف نرى من خلال تحليل مسألة الوجدان أن الوجدان الأخلاقي في الناحية المرتبطة بمعرفة الحُسْن والقُبْح هو ذات العقل؛ لأنه الإدراك والمعرفة من مهام العقل وشؤونه.

([54]) انظر: فردريك كابلستون، تاريخ فلسفه (تاريخ الفلسفة) 1: 178 ـ 192، ترجمه إلى الفارسية: جلال الدين مجتبوي، انتشارات علمي وفرهنگي سروش، طهران، 1368هـ.ش.

([55]) انظر: المصدر السابق: 462 ـ 463.

([56]) انظر: المصدر السابق 8: 85 ـ 93، 1370هـ.ش.

([57]) انظر: ابن سينا، الشفاء (كتاب البرهان): 106، تصحيح: أبو العلاء عفيفي، مكتبة المرعشي النجفي، قم، 1404هـ؛ الفخر الرازي، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) 20: 72، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420هـ.

([58]) انظر: عبد الله جوادي الآملي، تفسير قرآن كريم، توحيد در قرآن (تفسير القرآن الكريم، التوحيد في القرآن) 2: 131، مركز نشر إسراء، قم، 1383هـ.ش. (مصدر فارسي).

([59]) انظر: محمد رضا مهدوي كني، نقطه هاي آغاز در أخلاق عملي (نقاط الانطلاق في الأخلاق العملية): 14.

([60]) انظر: السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة (المكاسب) 4: 233، 1413هـ.

([61]) يقول الشعراني: «لو وعد شخصٌ شخصاً، قائلاً: اشترِ بيتاً وسأدفع ثمنه، أو اقترض مالاً وسوف أسدِّده عنك، وجب عليه الوفاء بوعده؛ فقد نهَتْ آيات القرآن الكريم عن التخلُّف عن الوعد بشكلٍ بليغ، واعتبرَتْه من قبائح الأعمال. إن الوفاء بالوعد هو شعار المسلم، فهو واجبٌ تكليفي، والتخلُّف عنه يستوجب غضب الله والعذاب في الآخرة، ولكنْ لا يترتَّب عليه حقٌّ مالي دنيويّ أو مؤاخذة في هذه الدنيا؛ بحيث يتمّ رفع قضايا من هذا النوع في المحاكم بسبب قطع الوعود، ومطالبة مضمون ذلك من الذين يقطعون الوعود على أنفسهم، وإذا لم يقُمْ الشخص بما وعد يتمّ تجميد أمواله وحبسه». الشيخ أبو الحسن الشعراني، ترجمة وشرح تبصرة المتعلِّمين في أحكام الدين 2: 410، منشورات إسلامية، طهران، 1419هـ.

([62]) انظر: الفاضل المقداد السيوري، التنقيح الرائع 2: 116.

([63]) لقد ذهب الكثير من الفقهاء إلى القول بأن الوفاء بالعهد والشرط إنما يكون واجباً إذا كان ضمن عقدٍ لازم آخر، ولكنّهم لم يقولوا بأن العمل بالشرط الابتدائي واجبٌ تكليفي، وقالوا بالإجماع في عدم لزومه (انظر: مرتضى الأنصاري، المكاسب 6: 56، 1415هـ)، وإنما رأوه أمراً أخلاقياً، ووضعوه في مقابل الواجب التكليفي (انظر: السيد الخوئي، مصباح الفقاهة (المكاسب) 4: 233). في حين يبدو أن هذا الإجماع إنما هو إجماعٌ على عدم المطالبة، وليس إجماعاً على عدم اللزوم، بمعنى أن الفقهاء كانوا يصبّون اهتمامهم على البُعْد الحقوقي منه، ويرَوْن هذا البُعْد قابلاً للاتّباع، ولكنهم لا ينفون البُعْد القِيَمي والأخلاقي. إن النظام الإسلامي في الكثير من المسائل يبدي اهتماماً بالناحية القِيَميّة والأخلاقية،ـ بالإضافة إلى اهتمامه بالناحية الحقوقية. كما أن الأحكام الإسلامية، بالإضافة إلى رعاية النَّظْم ورعاية وضع الآخرين أو الكرامة الإنسانية ـ المتمثِّلة بالبُعْد الحقوقي منها ـ، تهتمّ كذلك بالناحية القِيَميّة للحكم، والتي لها تأثير في كمال الإنسان أيضاً. (انظر: مهدوي كني، الأبحاث المطروحة شفهياً). إلاّ أن الشيخ النراقي ذكر في كتاب عوائد الأيام ما يخالف هذا البيان؛ بتأثيرٍ من آرائه الأخلاقية، فإنه استناداً إلى الكثير من الروايات، ومنها: «المؤمنون عند شروطهم»، قد اعتبر هذا الحكم إنشائياً، وقال بوجوب ولزوم العمل به. (انظر: أحمد النراقي، عوائد الأيام من قواعد فقهاء الأعلام: 135، مكتب الإعلام الإسلامي، 1417هـ؛ ابن البرّاج الطرابلسي، المهذّب: 420، 1411هـ؛ هادي السبزواري، شرح المنظومة 1: 171، تصحيح: حسن حسن زاده الآملي، 1413هـ). وإن البعض على الرغم من اعتباره أن الروايات الموجودة في هذا الشأن كثيرةٌ، إلا أنه يرى أن التخلُّف عن الوعد بحكم العقل والعقلاء موجبٌ لسقوط الشخص عن الاعتبار بين الناس، ولكنّه بسبب الاشتهار بين الفقهاء والسيرة القطعية للمتشرِّعة ذهب إلى القول بالاستحباب في هذه المسألة (انظر: السيد الخوئي، مصباح الفقاهة (المكاسب) 1: 393)، واعتبرها مخالفةً للأخلاق (انظر: السيد الخوئي، مصباح الفقاهة (المكاسب) 4: 241).

([64]) انظر: السيد الخوئي، مصباح الفقاهة (المكاسب) 6: 28.

([65]) انظر: الحسيني الجرجاني 1: 192، 1404هـ

([66]) انظر: جوادي الآملي، فلسفه حقوق بشر (فلسفة حقوق الإنسان): 57.

([67]) الرازي، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) 7: 261.

([68]) مهدوي كني، نقطه هاي آغاز در أخلاق عملي (نقاط الانطلاق في الأخلاق العملية): 536.

([69]) انظر: عوائد الأيام من قواعد فقهاء الأعلام 1: 136؛ المظفَّر، أصول الفقه 1: 73.

([70]) انظر: المظفَّر، أصول الفقه 1: 74.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً