أحدث المقالات




 

ما هي الميّزات التي انفرد بها السيد الشهيد الصدر بما جعله محل أنظار الآخرين ومحطّها؟

 

يمتاز السيد محمد باقر الصدر ) بميّزات عديدة جعلته محطّ أنظار الآخرين، أبرزها البعد المنهجي في تفكيره والتنظيم الفائق لأفكاره، وقدرته على استخدام مناهج تفكير جديدة يمكن دراسة الإسلام من خلالها، وإشرافه على المشهد الفكري الإسلامي من الأعلى، وانتقاله من الجانب الفرضي في فهم الإسلام إلى الجانب العملاني، حيث لم يقف عند الفروض والافتراضات التي يطلقها الباحث في زوايا بيته ومنزله وبين كتبه وكراريسه، وإنما يعمد إلى ملاحظة الواقع العملي لتلبية حاجاته ومتطلّباته، وهذا ما يجعله واقعياً على ارتباط مباشر بالتحوّلات والمتغيرات، ليحمل نتيجة ذلك فكراً قادراً على أن يبقى في ظلّ هذه المتغيّرات بدل أن يخضع للزوال داخلها.

ما يميز السيد الشهيد الصدر وأمثاله من العلماء النهضويّين إدراكهم الواعي للأولويات الفكرية والثقافية في اللحظة التاريخية الحرجة للأمة الأسلامية، لقد استطاع أن يوجّه خطابه إلى شريحة الشباب في الوقت عينه الذي استطاع فيه أن يوجّهه إلى المثقفين والمفكرين والعلماء وأصحاب الرأي في الأمّة. إنّ شمولية الخطاب هذه مكّنته من فعل التأثير الكبير وأعطته ميزةً قلّ نظيرها في أوساط العلماء والباحثين المعاصرين له.

موجز القول: إنّ السيد الصدر امتاز بما يسمح له بإنتاج فكر قادر على إدارة الموقف، وعلى إيجاد الفعل وصنع الواقع، بدل أن يكون في موقع الانفعال والتلقّي. لقد قاد هذا النوع من التفكير علماء المسلمين المحدثين والمعاصرين إلى الإمساك بزمام الأمور، وخلق واقعٍ جديد، بدل الدوران في فلك واقعٍ يخلقه الآخر المختلف، فأن تكون في الواقع شيء وأن تصنع أنت هذا الواقع شيء آخر.

يضاف إلى هذا الميزات الفكرية عند الشهيد الصدر خصائص أخلاقية جعلت منه إنساناً ومربياً وأباً رحيماً ممّا مكّنه من أن يمتلك موقع الريادة والقيادة في الأمّة؛ لأنّ القيادة تحتاج إلى حُلُم وسعة صدر، ولا يمكن أن تنجح في ظلّ ضيق وخناق على المستوى النفسي.

 

ما هو مبرر رغبة السيد الشهيد الصدر في طرح فكرة التفسير الموضوعي؟ ولماذا أعرض عن الأسلوب التقليدي في التفسير، أي التفسير الترتيبي التجزيئي الذي يبحث في النص ويشرح مفرداته وأحكامه؟

 
أعتقد أن المبرّر لهذه القضية يكمن في عدة أمور:

أوّلاً: النزعة الواقعية في فكر السيد الصدر؛ فعندما طرح الصدر فكرة التفسير الموضوعي كان يريد من ذلك أن يحلّ مشكلةً في الواقع، إنه يقول: فلنذهب إلى الواقع لنسأله عن مشكلاته وعن أزماته ومعضلاته، ثم نأخذ هذه المشكلة ونحملها ـ بعد وعيها وفهمها جيداً ـ إلى النص، فنلقيها عليه، لنسأله وننتظر ماذا يجيب.

هذا النوع من التفكير يجعل الباحث واقعياً؛ لأنّه لا يريد أن يفكّك نصّاً فحسب؛ فالتدبر في القرآن الكريم لم يكن في هموم السيد الشهيد مطلباً ذاتياً مستقلاً قائماً بنفسه، وإنما هو وسيلة لحلّ مشكلٍ ما على أرض الواقع، ولتحصيل كمالٍ ما مفقود فيه، ولدرء نقصٍ ما أو سدّ ثغرة قائمة؛ فليس المهم أن أذهب إلى القرآن ثم أتأمّل فيه لمجرّد التأمل، وأن أستطيع أن أفهم نصّاً هنا أو نصّاً آخر هناك بما لا يمكنه أن يقدّمني إلى الإمام، سواء كنت فرداً أم جماعة أم أمة، لا على المستوى الروحي ولا على المستوى النفسي ولا على المستوى الاجتماعي ولا السياسي ولا الاقتصادي؛ فالقضية ليست قضية انتقالات ذهنية وحركة تفكير وتحليل للنصوص، إنّها لا تقف هنا، بل تعبر إلى محاولة حلّ مشكلٍ ما موجود على أرض الواقع.

أظنّ أنّ الذي يدفع مثل السيد الصدر إلى الخوض في مجال التفسير الموضوعي، هو هذه النزعة الواقعيّة؛ لأنّ الموضوع في كلمة التفسير الموضوعي يُقصد به الواقع في مقابل الذات، بحسب الاصطلاح الفلسفي في الفلسفة الحديثة والمعاصرة، أي أنا أذهب إلى الموضوع الذي هو الخارج، ثم آخذ منه مشكلته لأعرضها على النصّ؛ فالذهنية هنا هي ذهنية إنسان يريد أن يحلّ مشكلة، أو يحقّق تكاملاً على أرض الواقع، وليست ذهنية إنسانٍ يريد فقط أن يفكّك نصوصاً أو يحلّل كلمات أو يقارب مقاطع لفظية. هذه فيما أظنّ نقطة أساسية، على خلاف التفسير الترتيبي؛ لأنّه غير قادر على أن يفعل ذلك بجدارة، إنّه قادر على أن يضيء على نصّ هنا أو آية هناك، وعلى كلمة هنا ومفردةٍ هناك، لكنّ الأمر لا يقف عند هذا الحد، فإذا استطعت اليوم أن أفسّر القرآن تفسيراً ترتيبياً فإنّ هذا لا يمكّنني لوحده ـ وإن كان ضروريّاً ومطلوباً ـ من حلّ معضلات الواقع البالغة التعقيد في عصرنا، يجب أن أفكّر أكثر في هذا الموضوع؛ لأنني ما دمت لا أدرك الواقع ولا أذهب إلى النصّ بذهنية المشكلة التي أعيشها فقد لا ألتفت إلى الأجوبة التي يحملها النص لقضايا الواقع وإشكاليّاته.

ثانياً: إنّ التفسير الترتيبي تمّ الاشتغال عليه منذ قديم الأيام وبشكل موسّع ومكثف، رغم أنه ما زال يعاني من ثغرات، وهنا نجد السيد الصدر يرسم الأولويات في ذهنه؛ فبدل أن يستغرق في إعادة النظر في التفاسير الترتيبية التي بذلت عليها جهود جبّارة، حاول أن يطرق مجالاً لم تبذل جهودٌ فيه، أي بدل أن يكمل جهود الآخرين حاول أن يؤسّس وجوداً لنوع من التفسير ليس له وجود يُذكر، وكأنه يريد أن يقول: إذا لم أشتغل على التفسير الترتيبي فبالإمكان أن يستمرّ ويتواصل بجهود الآخرين؛ لأنّ أرضيّته ناجزة، أما إذا تركت التفسير الموضوعي فإنه لا يوجد لي ضمان في أنّ هذا التفسير سيولد أو سيشهد مزيداً من التقدّم وسيحلّ لي المزيد من المشكلات. هذا الرسم للأولويات أظنّه لعب دوراً كبيراً في ذهنية النهضوييّن الإسلاميين كالسيد الصدر.

ثالثاً: إنّ السيد الصدر لم يكن يريد أن ينظر إلى القرآن بوصفه وحدات مقطّعة مجزّئة؛ لذلك نجده عندما تحدّث عن التفسير الموضوعي ألفت النظر ـ في بعض كلماته ـ إلى أنّ الموضوعية هنا تعني أيضاً ضمّ آيات متعدّدة لموقف القرآن من قضيةٍ ما، فكأنني أريد هنا أن استشرف من الأعلى وأفهم ما هو المراد القرآني من مسالةٍ ما وفقاً لمجموع نصوصه المتصلة بزوايا تلك المسألة، إنّها بالفعل رؤية متكاملة.

 

هل كان السيد الشهيد الصدر موفقاً في استخدامه منهج التفسير الموضوعي لحل المشكلات المعاصرة؟ وهل استطاع تطبيق منهج التفسير الموضوعي في مجال العلوم القرآنية والإسلامية؟

 

أعتقد أنّ التجربة التي خاضها السيد الصدر في مجال التفسير الموضوعي لا تسمح لنا بأن نتحدّث عن نجاح أو إخفاق مطلقين، أي لا نستطيع أن نملك جواباً حاسماً على هذا الموضوع؛ لأن الأعمال التي قدّمها في هذا المجال كانت محدودةً جدّاً، هناك بدايات أولى ومراحل جنينيّة أطلقها الصدر هنا؛ فما وفّق فيه هو:

أولاً: إثارة هذا الموضوع؛ فإنّ طرحه كان حاجةً، وكان خطوة مميّزة في سياق تطوير الدرس القرآني عموماً.

ثانياً: محاولة التفكير في تعريفه؛ لأنّ الكثير من مشاكلنا تنتج عن عدم تحديد المفاهيم بدقّة، وقد حاول السيد الصدر في جملة وافرة من كلماته أن يحدّد بدقة ما هو المقصود من هذا النوع من التفسير؟ وما هي الحاجة إليه؟ وما هي ضرورات تكوّنه في وعينا الإسلامي.

وأعتقد أنه في هاتين النقطتين كان موفّقاً إلى حدّ كبير جداً. أما فيما يرجع إلى تطبيق هذه النظرية على الواقع فأظنّ أن الجانب الذي طبّق فيه السيد الشهيد هذه النظرية بدرجة كبيرة كان محدوداً والنماذج كانت محدودة أيضاً لا تسمح لنا باعتبار التجربة بمثابة تجربة كبيرة قابلة لأن نحاكمها في أنها وفّقت أو لم توفق. لقد كانت الجهود في بداياتها ونجحت على مستوى إثارة المفهوم وشرحه وتفكيكه، وإيجاد بعض التطبيقات البسيطة له.

والشيء الذي أودّ أن أشير إليه ـ وهذه من المفارقات العجيبة التي نشهدها في أعمال السيد الصدر وسأشرح بعض ما أظنّ أنّه سببٌ لها ـ أنّ السيد الصدر لا نجد للتفسير الموضوعي عنده أيّ حضور على الإطلاق في سائر أعماله، وأعني هنا على المستوى التفسيري لا على المستوى الفكري، فعندما ندخل في علم أصول الفقه أو علم الفقه نفسه، أو علم التاريخ، أو حتى علوم القرآن.. عندما ندخل في هذه المجالات لا نجد ذهنية التفسير الموضوعي حاضرةً بقوّة، نحن نجد الذهنية الواقعية حاضرة بقوّة، لكن ذهنية التفسير الموضوعي ومعالم هذا التفسير لا نجده قد فرض نفسه في دراسات السيد الصدر الأخرى، ربما يكون سبب ذلك أنّ النظرية كانت جديدةً وفي طور البناء، ومن الطبيعي في هذه الحال أن لا نجد الكثير من تطبيقاتها حتى عند أصحابها أنفسهم. أضف إلى ذلك أنّ المجالات التي أراد السيد الصدر أن يستخدم فيها التفسير الموضوعي كانت محدودةً في الإطار غير المدرسي للدراسات الإسلامية، فالسيد الصدر طرح في مباحث التعارض من علم أصول الفقه نظريةً ترى أنّ المقصود من التعارض مع الكتاب الكريم هو معارضة روح القرآن، وهذه نظرية هامّة جدّاً ولها تأثيرات واسعة، لكن من النادر أن نجد تطبيقات لهذا المفهوم البالغ الأهمية في أعمال السيد الصدر في الفقه وغيره.

كما قلت، تفسيري لهذا الأمر يعود إلى أنّ ولادة النظرية تحتاج إلى فترة زمنية حتى يمكن تنشيطها وتفعيلها على أرض التطبيق، إضافةً إلى الموانع والمخاوف من تطبيق نظرية جديدة في مجالات تعرف بريادة المنهج المدرسي الكلاسيكي فيها، ولعلّ هذا ما يدفع بعض المراجعين لمجمل أعمال السيد الصدر إلى الاعتقاد بأنّه تعامل مع المباحث الإسلامية بذهنية تقليدية مدرسيّة تارةً وجديدة تارةً أخرى، مما قد يوحي بقدر من الازدواجية؛ فأعماله لخارج الحوزات تأخذ طابعاً مختلفاً ليس في الخطاب فقط وإنّما في بعض البنيات الفكرية أيضاً.

 

هل استطاع السيد الصدر من خلال طرحه للتفسير الموضوعي أن يؤثر على نموّ وتطوير الدراسات القرآنية، وكذلك على تطبيق التعاليم القرآنية على أرض الواقع وفي المجتمع؟ وهل استطاع التأثير من خلال طرحه هذا على الصحوة الإسلامية؟

 

أما بالنسبة للنقطة الأولى من السؤال ـ أي قدرته على أن يرفد الدراسات القرآنية بتطوير ـ فهذا مما لا شك فيه؛ لأننا نجد اليوم أنّ ذهنية التفسير الموضوعي أخذت بالحضور في أوساط المفكّرين والباحثين، وهناك دراسات كثيرة تحاول أن تتحرّك في إطار التفسير الموضوعي بعضها كان في حياة السيد الصدر وبعضها جاء بعده، ولا شك أننا اليوم بتنا نجد المئات من الأعمال الفكرية من الدراسات التي تأخذ فكرةً ما وإشكالية ما ثم تقوم بعرضها على القرآن الكريم لتحاول التفتيش عن الحلول التي يقدّمها القرآن في هذا المجال أو ذاك. خذ مثالاً على ذلك مسألة التعددية الدينية، فهناك من قام بعرض هذه الإشكالية المستجدّة في عالم الفكر الإنساني على القرآن، ومحاولة التماس أجوبة لها، وهل قدّم القرآن في هذا المجال شيئاً أم أنه لم يقدم شيئاً؟

لا شك في أنّ ذهنية التفسير الموضوعي قد أخذت وضعها في الميدان الثقافي وفي الأجواء الدينية والدراسات القرآنية، لكن لأنّ الدراسات القرآنية عموماً في مشهدنا الإسلامي ـ ولاسيما الشيعي منه ـ ما تزال لا تحظى بالموقع المناسب لها، لذا كان من الطبيعي أن يكون التأثير محدوداً في إطار حركة تطوّر الدراسات القرآنية نفسها، فما دامت هذه الدراسات لا تشهد تطوّراً كبيراً وقفزات نوعية هائلة فإنّ حركة التفسير الموضوعي في تأثيراتها سوف تكون على هذه الشاكلة أيضاً.

أما فيما يتعلق بتطبيق التعاليم القرآنية في المجتمع فأعتقد أنّ ذهنية التفسير الموضوعي وحركته لعبت دوراً في تقريب فهم الإسلام إلى الواقع، وبدأت شرائح المجتمع تعي الإسلام وفق ذهنية العصر الجديد والعقل المعاصر، وهذا على خلاف التفسير التجزيئي، إذ لا يستطيع أن يقدّم هذه الخدمة، فهو قد يسمح للمفسّرين الكبار بفهم مجمل التركيبة القرآنية، أما التفسير الموضوعي فبإمكانه أن يمدّد المفاهيم القرآنية وينشرها على نطاق واسع؛ لأنّ كل فكرة بالإمكان عرضها على القرآن وتقديم أجوبة لها، فكل إنسان متخصّص في مجال بإمكانه أن يحصل على أجوبة القرآن في هذا المجال من خلال دراسات التفسير الموضوعي. أما دراسات التفسير التجزيئي فلا تستطيع أن تقدّم له أجوبة إلا إذا كان متخصّصاً في الدراسات القرآنية قادراً على أن يعرف مواقع الإجابة عن هذا الموضوع في متناثر التفاسير هنا وهناك، في الآيات هنا وهناك. ولا شك أنّ التفسير الموضوعي استطاع أن يقرّب القرآن من الوعي الاجتماعي العام، وأن يُدْني مفاهيم القرآن من الإنسان المعاصر؛ لأنه استطاع أن يلامس همومه ويقترب من قضاياه، فهذه نقطة بالغة الأهمية، إذ لو ظلّت التفاسير على ذهنية التفسير التجزيئي لربما ظللنا نعيش حالة الغربة والغيبوبة القرآنية عن مجتمعاتنا الإسلامية وعن شبابنا كذلك.

أما تأثير التفسير الموضوعي على الصحوة الإسلامية، فهذا يصبّ ـ في حقيقة الأمر ـ في تأثير التفسير الموضوعي على النهضة عموماً؛ فالتفسير الموضوعي شكل من أشكال النهضة الإسلامية الحديثة؛ لأنه يعطي المرجعية القرآنية بُعداً واقعياً وعملانيّاً، ويستطيع أن يقرّب المفاهيم القرآنية من قضايا العصر، ويلامس الإشكاليات التي تقع هنا وهناك في هذا الملف أو ذاك.. هذه كلّها تساعد على رفد حركة الصحوة الإسلامية، فالعقل المعاصر والذهنية المثقفة والإنسان العملي الميدانيّ لم يكونوا ليستطيعوا تقبّل الصحوة الإسلامية والاندماج بها إذا كان خطاب هذه النهضة تجزيئيّاً تقطيعيّاً متناثراً، لا يقدّم رؤية متكاملة عن واقع الحياة المعاصرة، إنّ ذهنية الإنسان المعاصر هي ذهنية الرؤى الكلية، ذهنية الحلول القادرة على أن تأتي بنجاحات، والتفسير التجزيئي لا يستطيع أن يقوم بهذه العملية، ولو استفادت الحركة الإسلامية من هذا التفسير فلن تخرج سوى بذهنية دينية مقطّعة، أشبه بجزر يتمّ التناقل بينها بواسطة جسور غير قوية، هذه نقطة أساسية يجب علينا أن نلتفت إليها وأن نفكّر فيها جيّداً.

 

هناك أقوال وروايات تتحدّث عن منع التفسير، وخطر التفسير، وأنه لا يمكن لأحد أن يفسّر القرآن إلا من خوطب به من الرسول $ وأهل البيت (، وأنّ هذا من ضرب القرآن بالقرآن.. كيف حاول علماء الإمامية أن يردّوا على هذه الشبهة؟

 

هذه الإشكاليّة قديمة، وقد أعاد تنشطيها على نطاق واسع الإخباريون في القرنين العاشر والحادي عشر الهجريّين في الساحة الشيعية، وقد تحدّثوا من خلال ذلك عن أن الجهود البشرية في تفسير القرآن فعلٌ خاطئ، ولا ينبغي لنا أن نقوم بأيّ جهد بشري في مجال التفسير القرآني؛ لأنّ هذا الجهد مشوبٌ بكثير من الأخطاء، إذاً فعلينا أن نهتدي لمرجعية معصومة في التفسير، وليست هذه المرجعية المعصومة إلا أهل البيت (.

ليس هناك خلاف يُذكر في أنّ الاستفادة من السنّة في فهم القرآن فعل صائب، ولا يناقش العلماء في أنّ بإمكاننا أن نستفيد من السنّة الثابتة لفهم القرآن الكريم؛ فإنّ الرسول وأهل بيته يشرحون الكتاب بأعمالهم وأقوالهم وحكمهم، هذا أمر لا شك فيه، إلا أنّ الكلام في أنه هل يجب الوقوف عند هذه النصوص الواصلة إلينا في مجال تفسير القرآن الكريم؟ هل يمكننا أن نتعدّاها إلى ممارسة الفعل العقلي والتفكير البشري في فهم هذا النص المقدّس؟

هنا استطاع بعض علماء الإمامية أن يحلّوا هذه القضية من خلال مداخل متعدّدة؛ فهناك الآيات والروايات التي تحث على تدبّر القرآن الكريم، كيف يمكن أن نؤمر بالتدبر بالقرآن الكريم حتى في روايات أهل البيت والمفروض أننا لا نفهم القرآن نفسه؟! كان المفروض أن يقال: نحن نأمركم أن تتدبروا في كلماتنا التي تفسّر القرآن الكريم، هذا مدخل لحلّ هذه الإشكالية.

وهناك مدخل آخر، وهو أنه إذا لم يكن يمكن لأحد فهم القرآن الكريم، إذاً فكيف يمكن أن يخاطب الله تعالى العرب المشركين في ذلك الزمان ويتحدّاهم بالإتيان بمثله مادام القرآن عبارة عن طلاسم؟! هذه نقطة أساسية جداً ومدخل عقلاني آخر طرحه بعض العلماء مثل الشيخ جعفر كاشف الغطاء وفي ذهني أنه تبعه عليه السيد أبو القاسم الخوئي.

ومن المداخل الأخرى أنّه ما هو الموجب لأن نوقف عقولنا عن أن تفسّر النصّ القرآني ما دام نصّاً من النصوص؟ وإذا كان الموجب هو بعض الروايات فإنّ مراجعتها أفضت ببعض العلماء إلى اكتشاف أنّ أغلبيتها الساحقة ـ وهي في الأصل ليست كثيرة ـ ضعيفة السند، وفي كثير من الأحيان ضعيفة الدلالة أيضاً، بل لقد لاحظ السيد الشهيد الصدر نفسه أنّ الكثير من هذه الروايات وربما جميعها يشترك في روايتها أشخاصٌ متّهمون بأنهم ذوو نزعات باطنية وصوفية؛ ولذا ذهب الصدر إلى أنّ هذه الروايات يمكن أن تكون موضوعة من جانب هؤلاء؛ لأنهم لا يريدون لأحد أن يفهم ظواهر القرآن الكريم، وهم يرغبون في أن يقدّموا القرآن على أنه طلاسم ومساحات مبهمة غامضة، وأن خوضها منحصر بسفن التأويل غير المتعارف عند العقلاء؛ لأنّ هذا النوع من التأويل يسمح بتوظيف النص القرآني في استنتاجات لم يدلّ عليها هذا النص.

هذه الملاحظة النقدية التي قدّمها الصدر مهمة جداً؛ لأنها تكشف لنا عن أن منشأ هذه الروايات ـ على تقدير صحّة الملاحظة ـ هو بعض التيارات الإسلامية، وهنا يثير السيد الصدر علامة استفهام كبيرة تتلخّص في السؤال التالي: ما هي هذه المصادفة في أننا لم نسمع محمد بن مسلم وزرارة بن أعين وغيرهم يروون لنا هذه الروايات وإنما سمعناها من أشخاص معروفين في التاريخ الإسلامي بأنّهم أصحاب نزعات باطنية؟!

مدخل آخر أيضاً هو أنّ أهل البيت طالبونا بمحاكمة ما يأتينا من روايات عنهم على أساس القرآن، فقالوا: اعرضوا كلماتنا على القرآن الكريم فما وافقه فخذوا به، وما عارضه فاطرحوه، فإذا كان يجب علينا في تقويم رواياتهم الواصلة إلينا أن نعرضها على القرآن الكريم فهذا يعني أننا نفهم القرآن، وإلا كيف نعرضها على القرآن الكريم؟! فمن الطبيعي أن تفرض مرجعية القرآن بمثابة مرجعية أولى في حين تفرض مرجعية الروايات الواصلة إلينا بمثابة مرجعية ثانية تأخذ شرعيتها من المرجعية الأولى، وهذا معنى روايات العرض على الكتاب، وهي روايات فيها الصحيح سنداً بإقرار جميع علماء الإمامية.

لقد استطاعت هذه الحلول التي قدّمها الصدر وغيره من العلماء أن تدفع الفكر الشيعي لتخطّي أزمة حظر التفسير القرآني، من هنا ذهب العلماء إلى أنّه قد يقصد من هذه الروايات النهي عن التفسير المزاجي والاستنسابي والفوضوي والذاتي، وما شابه ذلك من التفاسير التي كانت رائجة في القرون الهجرية الأولى على نطاق كبير، فأراد الدين وأهله أن يضعوا حدّاً لهذا النوع من فوضى التفسير الإسلامي.

 

هل استطاع المفسّر الصدر في كتابه الثمين السنن التاريخية في القرآن أن ينقل للمخاطب نظرية القرآن الشاملة في موضوع سنن التاريخ أم لا؟

 

أظنّ أن السياق الذي دفع السيد الصدر للبحث في قضية السنن التاريخية في القرآن هو السياق الماركسي، لقد أراد أن يقدّم جواباً قرآنياً على النظرية الماركسية التي تتحدّث عن أنّ التاريخ له قواعده وقوانينه، فاستفاد من منجزات الماركسيين واستطاع توظيف أفكارهم ـ مع اختلافه الجذريّ معهم ـ في مطالعة موضوع هام من زاوية قرآنية؛ فالمادية التاريخية تتحدّث عن أن التاريخ يسير وفقاً لقوانين، وقد أخذ الصدر هذه النقطة من الفكر الماركسي وحاول أن يعرضها على القرآن، أي أراد أن يسأل القرآن: هل هناك سنن تاريخية؟ هل هناك قواعد تضبط حركة التاريخ والاجتماع البشري أم أنّ حركة التاريخ البشري هي حركة فوضوية تابعة للمصادفات؟ فوجد أنّ بالإمكان الحصول على جواب قرآني في هذا المجال؛ فقدم نظرية تاريخية قائمة على التفسير القرآني، وأعتقد أنه نجح نجاحاً كبيراً جداً؛ إذ يندر أن نجد أحداً، فيما نعرف، استطاع أن يقدّم ـ إلى جانب النقد ـ نظرية بديلة عن نظرية المادية التاريخية، قادرة على رسم صورة لقوانين التاريخ والاجتماع. لقد استطاع الصدر ـ رغم المحاضرات القليلة التي ألقاها في هذا المجال ـ أن يؤمّن جواباً بدائلياً، إذا جاز التعبير، للنظرية الماركسية في فهم التاريخ.

 

هل منهج التفسير القرآني الموضوعي يعطي مجالاً لتدخل التجارب البشرية في التفسير؟

 

في الحقيقة موضوع تدخل الخلفيّات المعرفية للمفسّر ليس خاصاً بمجال التفسير الموضوعي، بل هو مشترك مع كلّ تفاسير النص، والدراسات الهرمنوطيقية المعاصرة عندما تتحدث عن تأثير القبليات المعرفية للمفسّر لا تتحدث عن تفسير موضوعي أو تجزيئي، بل أيّ قراءة للنص تخضع للخلفية المعرفية التي يحملها القارئ، إذاً طرح السؤال ربما لا يكون دقيقاً.

نعم يمكن أن يكون المراد أنه بما أن نزعة التفسير الموضوعي هي نزعة واقعية تشرع من المشكلة في الخارج، ثم تأتي إلى النص القرآني لتسأله عن هذه المشكلة، فمن الممكن أنني بجعل الواقع بداية رحلتي قد أقع تحت تأثيره فآخذ مواقف مستعجلة مستوحاة في ذهني لحلّ مشكلة الواقع قبل أن أعرّج على النص، وعندما آتي إلى النص وأنا متأثر بهذه المواقف المسبقة يخشى أن أسقطها عليه ولو من حيث لا أشعر. نعم هذا خطأ يجب أن يسعى المفسّر دائماً عندما يأخذ حمولاته من الواقع ويتوجّه بها نحو النص القرآني كي يكون سائلاً للنص فقط لا ملقياً، وأن يكون مستمعاً مسلّماً.

إذن، الخطورة في التفسير الموضوعي أنك عندما تذهب إلى الواقع ويشبع ذهنك بأزمته، ربما يحصل في ذهنك بعض الحلول الشخصية لهذا الواقع، فتذهب إلى القرآن محاولاً التماس نفس هذه الحلول التي طرأت في ذهنك، لتتراءى لك في ثناياه، مما يوقعك في عملية إسقاط سلبي.

 
 




Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً