أزمة انتماء واعتراف
الشِّيعة جزء لا يتجزَّأ من الأمّة الإسلامية
حيدر حب الله
الحديث عن الشِّيعة والتشيّع حديث مؤلّم من بعض جوانبه، فهذه الفئة من المسلمين بُخس حقّها في بعض مقاطع التاريخ، وجرى عليها من الجور والظلم والإجحاف، من قوى الظلم والقهر والظلام، ما قد لا تحصيه الكتب وما لا تستوعبه السطور، وقد صار من حقّ هذه الجماعة أن يصنّفها الجميع جزءاً لا يتجزّأ من الأمّة الإسلامية، كما اشتدّ الوجوب عليها أن تتجاوز محنها وتصّنف نفسها كذلك، فتعيش إحساس الانتماء للمسلمين قاطبةً، فتنخرط في واقعها الاجتماعي، وتكسر الطوق المضروب عليها.
1- أوّل نداء – علمي – نوجّهه للمسلمين، بمذاهبهم المتنوّعة، أن يعيدوا النظر في قراءة التاريخ، وإنتاج المعرفة الإسلامية، من دون عصبيّة أو مذهبية مفرطة، إنّنا نعتقد بأنّ الشيعة قد قدّموا عبر التاريخ الكثير لأمة الإسلام، سياسةً، واجتماعاً، وثقافةً، وفكراً، وجهاداً… لقد ترك الشيعة آثارهم في بلاد الشام وشمال أفريقيا، كما تركوا بصماتهم على العقل الاعتزالي، كذلك ترك هذا العقل بصماته فيهم، وكان لهم نصيب كبير في خلق النـزعات الروحية الملتهبة في الإسلام وإنضاجها، كما كان لوجودهم دور في خلق توازن سياسي واجتماعي عام، كونهم مثّلوا، في غير حقبة وعصر، قوى المعارضة السياسية الرافضة لسياسة الأنظمة الحاكمة، فأقاموا بذلك قوى ردع، كما شكّلوا عوامل إيقاظ حالت – في كثير من الأحيان – دون تمادي السلطات الحاكمة في تجهيل الأمّة واستغبائها.
ولسنا نعصم أفراد الشيعة ولا جماعتهم عن خطأ ارتكبوه عبر الزمن، ونفتح الباب لمناقشة أخطاء الشيعة التاريخية، في القضايا كافّة التي قيل فيها الكثير، من الغزو المغولي ونصير الدين وابن طاوس، مروراً بالتحالف الصفوي – الغربي ضدّ الدولة العثمانية، وصولاً إلى ما يقال اليوم عن تحالف بين الشيعة وأمريكا… فهذه الموضوعات جميعها قابلة للنقاش، فلم يزعم شيعي عصمة الشيعة بالمطلق ولا أفرادهم بمن فيهم كبار علمائهم ومراجعهم وسياسيّيهم، لكن هذا أمرٌ والصورة الإقصائية والتخوينية للشيعة أمرٌ آخر.
إنّنا نعتقد بأنّ على الشيعة أن لا يحجموا عن الاعتراف بأخطائهم التاريخية عندما تقوم عليها الحجّة، وتثبت بالشواهد المؤكّدة، وأن لا يحاولوا طمس حقائق التاريخ أو التلاعب بها لمصالح مذهبية أو طائفية.
2- سؤال آخر يوجّه لبعض المسلمين القلائل من المختلفين مع الشيعة في التصوّرات الدينية، لماذا تكفير الشيعة؟! ولماذا التهويل بأوراق خلافية موجودة داخل الديانات جميعها، ورفعها دوماً للحكم عبرها بتكفير الشيعة وإخراجهم عن الإسلام؟! إن جهود تكفير الشيعة باءت بالإخفاق وستبوء به دائماً، كونها – سيما في هذا العصر – لم تعد منطقية، فالشيعة يؤمنون بالله ورسوله وأنبيائه وكتبه وقبلته و… وإذا اختلفوا مع غيرهم، فقد اختلف هذا الآخر مع نفسه كثيراً أيضاً، إن تكفير المسلم ذنب عظيم، ومحاربة البدعة واجب مقدّس، والجمع بين هذين المبدأين يحتاج إلى الكثير من الوعي والرشد، لا إلى غضبٍ وعنف وانتقام و..
ولسنا نمانع في أن نطالب بعض الشيعة – وهم قليلون أيضاً في ما نعلم – بوقف مسلسل التكفير المتبادل، والإقلاع عن سياسة تخوين إخوانهم من أهل السنّة والجماعة، وإعادة النظر في بعض موروثاتهم في هذا المجال.
3- أمّا المعتقدات الشيعية والسلوك الشيعي، فقد كوّنا في الأوساط غير الشيعية، صورة نمطية قاتلة عنهم، ولسنا نخوض هنا في جدلٍ عقدي ولا فقهي، بل نشير سريعاً إلى ظاهرة الموقف من الخلفاء والصحابة، إنّ الشيعة واقعيّون في قراءتهم لظاهرة الصحابة، وليس جرماً أن يُخطئ الصحابي، أو ليس مستحيلاً أن يعصي، فلكل منّا قناعاته بالناس، فإذا كانت بعض الآيات القرآنية والروايات الشريفة تعني عندك عدالة الصحابي، فإنّ غيرك قد لا يفهم منها ذلك، بل قد لا يرى صحةً لصدور بعض الروايات منها، وليس ذلك بالبدع من القول، فلطالما اختلف علماء المسلمين في تفسير آيات أو توثيق روايات أو شرحها، فإذا اختلفوا هذه المرّة في هذه المفردة، فهذا أمرٌ طبيعي يجدر ترقّبه.
ثم هل تعدّ عدالة الصحابة عقيدة يكفّر منكرها، سيما مع إنكاره لها على أسس نظرية وفكرية؟! ألم يكتب من أنكر عدالة الصحابة العشرات، وربما المئات، من الكتب والمصنّفات في هذا الموضوع؟! هل أنكروها استعجالاً وابتساراً؟!
نعم، المشكلة الكبرى للشيعة مع إخوانهم المسلمين، تتمركز بشكل أكبر في سبّ بعض الخلفاء ورموز الصحابة ولعنهم، إنّنا نرفض هذا الأسلوب ولا نرغب فيه، مؤيّدين في ذلك بعض العلماء الكبار، ومنهم السيد هاشم معروف الحسني في كتابه: “الموضوعات في الآثار والأخبار“، وندعو من يقوم بذلك من الشيعة إلى إعادة النظر في أدائه، هل يخدم به التشيّع؟! هل يخدم به حال المسلمين اليوم؟! هل اللعن والسبّ أفضل وسائل التبرّي؟ ألا توجد وسائل أخرى؟!
هذه موضوعات ينبغي درسها ولا نبتّ فيها هنا، ولا نبرِّئ مَنْ فعلها ويفعلها، لكن حتّى لو سبّ الشيعي الصحابة، هل يعني ذلك التكفير كما يقول العلامة المجدّد محمد حسين آل كاشف الغطاء؟ لنفرض أنّ سبّ الصحابة معصية كبيرة من الكبائر، هل فعل الكبيرة يساوق الكفر؟ وهل يوجب حلّ دم المسلم وعرضه وماله و..؟!
إننا نطالب الشيعة والسنّة، على السواء في هذا الموضوع، بأن يقرؤوه بجدية، وبشكل مختلف عن الموروث، ويتحلّوا بقدرة عالية على تقبّل فهمه بصورة مختلفة.
4- وفي سياق الصورة النمطية عن الشيعة في العالم، تأتي فكرة المزج بين الشيعة والفرس، فالفرس، وفاقاً لهذه الفكرة، هم من اختلق التشيّع لمصالحهم ضدّ العرب و.. لست هنا في صدد رصد تاريخي للموضوع، لكن لنفرض جدلاً أنّ الفرس أدّوا دوراً ما في إنهاض التشيع وتأسيسه، فما هي العلاقة اليوم بهذا الموضوع؟! أنا أتعجّب من بعض إخواننا المسلمين، من بني جلدتنا، أعني العرب، كيف يحاربون القومية العربية ويرفضون المنطق القومي، ثم يتعاملون مع فريق مسلم – أو يعلن إسلامه على الأقل – بمنطق قومي من الدرجة الأولى، إنّها مفارقة حقيقية، فهل نريد أن نتعامل – وحديثي مع الحركة الإسلامية التي لا تؤمن بالمنطق التاريخاني للفكر إلاّ مع عدوّها – مع الفكر من زاوية قومية؟! ثم أين تاريخ الشيعة العرب؟! وأين الدولة الفاطمية؟! وأين الشيعة في بلاد الشام والخليج وتركيا؟! دعك عن شيعة شبه القارّة الهندية وشيعة آسيا الوسطى، علماً أنّه لم تعرف إيران التشيّع بقوّة إلاّ مع الحلّي في القرن الثامن الهجري.
إننا نختلف مع هذا المنطق في التعامل مع الشيعة، ونطالب بمحاسبة أفكارهم محاسبة علمية، سواء كانوا فرساً أم مغولاً أم بولونيين، فالحقّ يتبعه الرجال ولا يتبعهم، فللفرس خدماتهم للإسلام مثل ما للعرب، وللأتراك خدمات أيضاً.
5- ومن أزمة انتماء التشيع للفرس، ظهرت أزمة الأقليات الشيعية في العالم العربي، فكثيرون يشكّكون في وطنية الشيعة العرب، وأعتقد بأنّ في هذا الأمر ظلماً وإجحافاً أيضاً بحقّ أمة مسلمة، أسهمت في بناء أوطانها، وجاهدت أعداء الأمّة العربية، ألم يصدر مراجع النجف فتاوى الدعم للدولة العثمانية ضدّ الإنجليز كما أصدر جعفر كاشف الغطاء فتاوى دعم الدولة القاجارية الفارسية ضدّ الروس؟! ألم يحقّق شيعة لبنان انتصاراً تاريخياً على عدوّ الأمّة العربية؟! لماذا يحاول بعضنا أن يمنع اكتشاف الناس لحزب الله اللبناني وأنّه تنظيم شيعي راهَنَ الكثيرون على لبنانيّته ثم ثبتت بمرور الأيّام؟!
وإذا حصلت بعض المشاكل، في بعض الأماكن، فقد حصلت مثيلاتها لدى كلِّ أقلية في العالم، والجميع يعرف الظروف، لا نريد تسطيح الأوضاع بل نهدف إلى ممارسة وعي أكبر للظاهرة، وفي الوقت عينه نطالب الشيعة باحترام الأكثرية في بلادها، وتعزيز الحسّ الوطني في أبناء طائفتهم، وإيجاد توازن أكبر في علاقاتهم الوطنية، والقومية، والإسلامية، وعدم ممارسة سذاجة في هذا الموضوع، سيما تركيز الروح الوطنية، والانخراط في مجتمعهم، والدخول في مؤسّسات المجتمع المدني، ووظائف الدولة، عندما تسمح لهم الظروف، وأن يستغلّوا هامش الحرية الممنوح لهم لإثبات مصداقيتهم وبث روح الثقة بينهم وبين الأكثرية.
6- ولكي ترتاح الأكثرية عليها أن تمنح هامش الحرية الأكبر للأقلية الشيعية، وفي المقابل ندعو الدول ذات الأغلبية الشيعية أن تمنح حريةً أكثر فأكثر للأقليات غير الشيعية، إنّ ذلك يدعو الأقليات للراحة، فتُظْهِر أفكارها بشفافية، ويتداعى جدار انعدام الثقة، سيما عندما يشعر المسلم السنّي أن حاجز التقية لم يعد موجوداً، ويبدي المسلم الشيعي أفكاره بحريةٍ وارتياح. إن حاجز التقية من أكبر حواجز عدم الثقة بين المسلمين والمسؤول عنه عوامل عديدة، أبرزها الظلم التاريخي الذي مورس على العلويين قديماً، فإذا انهار هذا الحاجز، ولا ينهار إلاّ في ظلّ حرية وتعدّدية وانفتاح، لا في نقاش علمي، انعكست آثاره الإيجابية المهمَّة، فلو بذل الشيعي وقته وعمره لإقناع السنّي أنه لا يعبد الحجارة، أو لا يقول بتحريف القرآن، وأنّ القرآن الموجود في مساجد الشيعة هو القرآن السنّي، بل كثير من الشيعة لا يملكون في بيوتهم إلاّ النسخ القرآنية التي تصدرها المملكة العربية السعودية.. لو بذل الشيعي – وقد رأيناه ولا نزال – لن يستطيع إقناع الطرف الآخر بأنّه صادق، إلاّ إذا حصلت شفافية مطلقة، ولن تكون إلاّ في ظلّ مثلث ذي أضلاع ثلاثة هي: الحرية والتعددية والانفتاح من جهة، وإعادة قراءة الموروث الشيعي من جانب الشيعة، ونقد ما يستحقّ النقد منه من جهة أخرى، وإعادة رسم صورة جديدة غير الصورة النمطية في العقل السنّي عن المسلم الشيعي.
إنّ علماء المذهب الإمامي مختلفون في ما بينهم، في بعض القضايا العقدية الفرعية، أو الفقهية أو.. وهذا أمرٌ طبيعي نجده عند أيّ مذهب، ما يعني أنّه لا يجدر أخذ رأي واحدٍ عند الإمامية واعتباره رأي الإمامية كلّها، فإذا قال المحدّث النوري (1320هـ) بتحريف القرآن لا يعني ذلك قول جميع الشيعة به، كما أنَّ ليس كل رواية في مصادر الشيعة تعني أخذ الشيعة بها، فقد ناقش علماء الشيعة – إلاّ ما قلّ – في الكتب الأربعة بما فيها الكافي، وعليه يجب تحصيل رؤية موحّدة ومكتملة عن التفكير الشيعي للحكم عليه، تماماً كما هي الحال في الموقف السنّي، فنحن لا نرضى بأن يتّهم السنّة ويؤخذوا برأي عالمٍ منهم، ولا يدانوا بأيّ روايةٍ في أحد كتبهم، بل نطالب الشيعة بالمزيد من الدقة والأمانة في هذا المجال.
نسأل الله، سبحانه، أن يقرّب قلوبنا، ويوحّد صفوفنا، ويلهمنا حبّ بعضنا بعضاً، واحترامنا أفكار غيرنا، والوعي بكل مخاطر تحدق بنا.
]وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ [آل عمران/105].