أحدث المقالات

التقريب بين المذاهب الإسلامية

التجارب والمواقف والمعوقات

حوار مع الشيخ محمد واعظ زاده الخراساني( *)

الوحدة الإسلامية أصل مهيمن على سائر الأصول العليا ـــــــ

& ربما يكون الدافع إلى التقريب هو التعايش والوئام، فننظر إليه نظرةً تكتيكية، فمثلاً من أجل أن نعيش نحن المسلمين فيما بيننا حياةً أفضل في الوقت الراهن، ونتمكّن ـ بصورةٍ مشتركة ـ من القيام بأعباء العالم الإسلامي ومسؤولياته، والوقوف ضدّ عدونا المشترك، فحريٌّ بنا أن نتفاهم.

أحياناً أخرى تكون نظرتنا أعمق من ذلك، أي نظرة استراتيجية، وذلك بالقول: إنّ ما حصل من اختلافات على امتداد التاريخ كان طارئاً لا أساسياً، فهو لا يمسّ جوهر الإسلام بشيء، ومن ثمّ لا وجود لأي تنافٍ واختلاف حتى مع وجود الفرق والمذاهب المختلفة، بحيث يشعر أتباع المذاهب بالمحبة والإخاء فيما بينهم، فلماذا لا توجد هذه الحالة بين عامّة المسلمين؟

^من المسلّم به أنّ التقريب أمرٌ مطلوب لذاته، وهو مقدّمة للوحدة الإسلامية التي تعدّ من أركان الإسلام، وبتعبير القرآن: وحدة أمّة الإسلام، والتي أرسى قواعدها الرسول الأكرم.

فقد أكّد القرآن على أنّ المسلمين أمّة واحدة في مقابل الأمم والشعوب الأخرى، وهذه المسألة قد طرحها الرسول الأكرم لأول مرة بعد الهجرة، في أول معاهدة له مع أهل المدينة ـ كما توصلتُ إليه ـ سواء أكانوا مسلمين أم مسيحين أم يهوداً، وربما مشركين، قال النبي في تلك المعاهدة ـ كما ورد في سيرة ابن هشام ومصادر أخرى ـ : mإنّ المسلمين أمّةٌ واحدة من دون الناسn، نعم فهذا ما صرّح به الرسول الأكرم بشكل رسمي في تلك الحادثة.

أعتقد أنّ مبدأ الوحدة السياسية في الإسلام ومبدأ الحكومة الإسلامية تمثلهما الهجرة، ولم يكن قبلها ـ أي الهجرة ـ أي أرضية مناسبة لطرح هذا النوع من التفكير أو القيام بتطبيقه.

وعلى كلّ حال، فالوحدة الإسلامية ركنٌ أساس كالتوحيد، فكما أنّ النظرة التوحيدية للذات الإلهية أحد أركان الدين، كذلك الوحدة الإسلامية ركنٌ أساس بالنسبة للمسلمين، وهذه القضيّة ينبغي أن تدفع المسلمين ـ خاصّةً القادة الدينيين والسياسيين ـ للعمل على تفعيل الوحدة الإسلامية بينهم.

في الحقيقة، إنّ برنامج أهل الإفتاء والفقهاء والقادة الدينيين والزعماء السياسيين لابدّ أن يرتكز على هذا الأصل، أي عليهم أن يجعلوا هذا الشاخص نصب أعينهم بشكل دائم ومستمر؛ فلا يسمحوا بصدور فتوى من أحد تخالف ذلك، حتى لا يعطى مجال لأيّ عمل سياسي أو عسكري أو إصلاحي يقوم به القادة السياسيون ولا ينسجم وهذا الركن الركين.

وهذا تماماً ما نقوله في باب التوحيد، فأيّ عمل من أعمال المسلمين أو أيّة ممارسة عبادية أو أيّة محبة وولاء، يجب أن لا يكون مبايناً ومخالفاً لأساس الإسلام الذي هو توحيد الربّ عز وجل، فأي عمل ـ حتى أرقى الأعمال ـ إنما هو في الحقيقة نوع عداء مع الله إذا خلى من البُعد التوحيدي، وكذلك في البُعد الاجتماعي تكون مسألة وحدة الأمة أيضاً محوراً وأصلاً في نظري، وينبغي أن يكون هذا الشاخص حاكماً على كلّ النشاطات والفعاليات والممارسات، سواء منها الثقافية والعلمية، أم الكلامية والفلسفية، أم في الفقه والحديث والرجال، ولا يحقّ لنا ـ نحن المسلمين ـ وبهدف حماية قوميّة أو مذهب، ولو كان مذهب أهل البيت، أن نقوم بأيّ عمل يؤدّي إلى خدش وحدة الأمة.

أعتقد أنّ هذه المسألة كانت على درجة كبيرة من الأهمية عند علي× والأئمة الآخرين، وقد ذكرتُ في مقالةٍ لي كتبتُها إلى اللجنة المشرفة على الذكرى السنوية للإمام علي: إنّ وحدة الأمّة كانت شاخصاً أصلياً في سيرة علي؛ ولهذا كان مواظباً ـ من هذه الناحية ـ على أن لا يصاب هذا الأصل بصدمة، على الرغم من سعيه× للمطالبة بحقّه، فعندما كان يرى أن صدمةً ما ستصيب هذا المبدأ كان يغضّ الطرف، أمّا ما نراه اليوم في خضمّ الصراعات والأخذ والرد ـ مع الأسف ـ فلم يؤخذ فيه هذا الأصل بنظر الاعتبار في الأبعاد الثقافية والفقهية والحديثية المختلفة، تماماً كما حصل على الصعيد السياسي؛ ذلك أنّ الساسة، غالباً ما لم يكونوا من أهل الدين، بل كانوا ينظرون إليه بوصفه أداة لتحقيق الأهداف، وما زلنا نرث الآثار السيئة للاختلافات المذهبية العثمانية والصوفية، والتي من أبرزها تكوينها لنمط خاص من الذهنية الشيعية والسنية، وهو ما لم يقتصر تأثيره على عامّة الناس، بل شمل العلماء أيضاً.

بعض علماء العراق وإيران كان يعيش ذهنيةً عجيبة وغريبة في هذا المجال، مما أفرز حالةً من التضادّ بلا شك، ولم يسعَ هؤلاء أبداً لإزالة هذه الذهنية؛ كي يحلّ محلها الإسلام معياراً.

ضرورة التمييز بين الأصول والفروع في مجال الأخلاق والعقائد والفقه ـــــــ

وبغضّ الطرف عن مسألة الوحدة الإسلامية، التي تدور حولها كلّ الملفّات التقريبية، نجد أنّ كل المسلمين يصلّون ويصومون، وعندهم فقه وكلام، وأنا ـ شخصيّاً ـ لا أقصد بذلك الأقليات التي كان إسلامها موضع شك وترديد، يعني كانت عندها عقيدة، لكنّهم ما كانوا يصلّون ولا يصومون ولا يقبلون الشرائع مثلاً، أو كانوا يغالون في عليّ أو في غيره، بل أعني أتباع المذاهب التي تعود إلى القرن الثاني الهجري تقريباً، وكان لهم فقه وكلام والتزام بالشريعة، ولا خلاف عندهم في الأصول مع غيرهم، بل كان اختلافهم في الفروع فقط، والمقصود بالفروع ليس الأحكام الفرعية فقط، بل الفروع تعني المسائل المتفرّعة من الأصول الأساسية في بُعدي: الأحكام أو العقائد؛ ففي العقائد أصولٌ وفروع، فتوحيد ذات الباري، والخلافة الإسلامية ـ بمعنى مبدأ ضرورة وجود حكومة في الإسلام ـ من الأصول الأساسية المشتركة التي لا يمكن لأحد نكرانها، أمّا في التفاصيل، كالحديث عن أنّ الله يمكن أن يُرى يوم القيامة ـ مثلاً ـ أم لا؟ فالبحث فيها بحث فرعي، أي متفرّع عن الأصل الكلي، وهو وجوب وحدة الباري تعالى، وأنه عز وجل مجرّدٌ وليس جسماً، فهذه الأسس يقبلها الجميع، لكن ـ وحسب النصوص الخاصّة ـ بحث بعضهم مسألة إمكان رؤية الله في الآخرة، وهو ما ينبغي عدّه من المسائل الفرعية، ولا يصحّ القول: إنها لا تنسجم مع ذلك الأصل، وعليه فمن قال بها فهو مشرك!

لاحظوا النـزاع الذي كان قائماً بين المعتزلة والأشاعرة، فقد اعتقد الأشاعرة أنّ صفات الباري مغايرة لذاته، مع ما عندهم من توجيهات مختلفة في ذلك، أما المعتزلة والإمامية والقائلون بحاكمية العقل في باب الاعتقادات فقد قالوا: إنّ الصفات عين الذات، وهذه أيضاً مسألة فرعية اعتقادية، لا ينبغي أن تكون وسيلةً لتكفير الآخرين، ما دام الجميع يعتقد بالمبدأ، فهل يمكن القول: إنّ الأشاعرة ـ واقعاً ـ يقولون بتعدّد الإله؟ إنهم لا يعتقدون أبداً بهذا اللازم، هل يمكن أن ننسب هذا اللازم إلى عالم عظيم الشأن ـ كالفخر الرازي ـ الأشعري المذهب، والمدافع بقوّة عن مذهب الأشاعرة؟!

وهذا تماماً ما نواجهه على صعيد الأخلاق، فالأخلاق ـ كالفقه ـ لها فروع وأصول، فأصولها الكلّيات الاخلاقية الموجودة في الكتاب والسنّة، لكنّ المسلمين تفرّقوا في الفروع إلى متصوّفة وغير متصوفة؛ فظهرت آراء ونظريات مختلفة، لكنّها جميعاً ممّا يؤول إلى فروع الدين.

ما أريد قوله هو:

أولاً: إنّ التقريب وسيلة لتكميل الركن الركين للإسلام، أي وحدة الأمّة، على موازاة وحدة الرب عز وجل، فقد طرحهما القرآن الكريم جنباً إلى جنب، قال تعالى: >إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ< (الأنبياء: 92)، أي أنّ مسألة وحدة الأمّة مرتبطة بمسألة وحدة الرب ارتباطاً وثيقاً، وكأنّ الأمة إذا اختلفت فسوف لا يقبلها الله، بوصفها أمّة هو ربّها.

ثانياً: تشترك المذاهب الإسلامية في الأصول، وهذه حقيقة قائمة، والأصول عبارة عن الأركان التي يكوّن الإيمان والاعتقاد بها ملاك الإسلام، بحيث لا يكون من أنكرها أو بعضها مسلماً، فمثلاً، اختلف الشيعة والسنّة حول مصداق الخليفة، لكنّهم لم يختلفوا في أنّ الإسلام احتوى حكومةً وخلافة، وأنّ فيه سياسة، والرسول الأكرم الذي كان نبياً كان هو الزعيم السياسي للمسلمين أيضاً، إذاً، فاختلافهم كان في مصداق الخلافة، وهذا يعني أن أصل الخلافة والسياسة مفروغ منه.

إنّني لا أوافق على ما ينسب إلى بعض فرق الخوارج من إنكارهم لهذا الأصل؛ لأن منشأ الاختلافات ـ عموماً ـ كان إما بسبب ظواهر النصوص أو البحوث العقلية، وهي التي لا ينبغي لأحد أن يعتبرها ملاكاً للكفر والإيمان، فليس صواباً أن يعتبر المسلمون ـ مع الأسف ـ مثل هذه المسألة ذات الصفة الفرعية ملاكاً للكفر والإيمان. واللطيف في الأمر أنّ هذه المباحث لم يتّهم المسلمون ـ في بدء ظهورها ـ بعضهم الآخر بالكفر نتيجتها.

تكبير الفروع وتأثيره على ظاهرة التكفير ـــــــ

إذن، يجبُ على المسلمين أن يُعطي بعضهم الحقَّ للبعض الآخر في أمثال هذه المسائل الفرعية المشتملة على استنتاجات مختلفة، وإذا فُتح باب التكفير فلن يسلَم منه أحد، إذ توجد هناك ذريعة لتكفيره.

قليلون جدّاً أولئك الذين لا يقولون بعدم لقاء المؤمن ربَّه في الآخرة، بل كان هذا ـ ولا زال ـ من أسمى آمال المسلم، ونلحظ في آثار بعض الشعراء أنّ كلّ رغباتهم كانت منحصرةً في أن يروا وجه الله، وهو أمرٌ له أساسه في العرفان وفي الحديث الشريف أيضاً، وكذلك في الأدعية، إنّ مبدأ رؤية الله ـ في نظري ـ مُسلَّم، أمّا كيف يمكن أن يُرى؟ فهذه مسألةٌ فيها بحث.

للفخر الرازي بحثٌ فلسفي دقيق في موضوع رؤية الله، ذكره في ذيل آية ترتبط بموضوع الرؤية، حيث يُرجع الرؤية ـ بالنتيجة ـ إلى الرؤية القلبية التي قال عنها عليّ× عندما سُئِل؛ هل رأيت ربّك يا أمير المؤمنين؟: كيف أعبد ربّاً لم أره، قالو: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: لم ترهُ العيون بمشاهد الأبصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان.

وعليه، علينا أن نُقلِّل من حساسية هذه الأبحاث، ونقول: إنّ هذه الأمور ليست معياراً للكفر والإيمان، وعلينا أن لا نجعل لوازمها ـ أيضاً ـ على فرض وجود لوازم لها، ممّا يعود بالويل على القائلين بها؛ لأنّ هذا الباب إذا فُتح فسيقولون هم أيضاً: عندما تقولون أنتم بعصمة الإمام ـ مثلاً ـ وتقولون: إنّ الإمام تُلقى له أشياء، فأنتم ـ إذاً ـ تقولون باستمرار الوحي بعد النبي الأكرم؛ لأنّ هذا يعني أنّه يتلقّى ـ بهذا الشكل ـ هذه المسائل من الله.

أعتقد أنّه ليس هناك مرض أو غرض في هذه الآراء، كلّ ما في الأمر أنّنا نفهم بهذه الطريقة وهم لهم فهمهم المختلف؛ فيجب إذاً أن ينظر بعضُنا إلى بعض نظرة تسامح، وأن يلتمس له العذر، وأن يُعطي بعضُنا الحقّ للبعض الآخر حتّى يتمكّن من طرح وجهة نظره، وأن لا نكفِّر الغير ولا نُفسِّقه دون سبب، وأن لا نُحمِّل الآخرين لوازم أقوالهم.

إنّ المنشأ الأصلي للاختلافات هو ظواهر النصوص، ولا يمكن القول: يجبُ أن لا يُبحث خارج ظواهر النصوص؛ لأنّنا سنُحدد ـ في هذه الحالة ـ دائرة الفقه والعرفان والكلام فيها، فليس هناك من يعتقد ذلك فالكلّ يقبل الاجتهاد، وهو ظاهرة قائمة بالفعل، وما دام كذلك فالاختلاف سيبقى قائماً أيضاً؛ فعندما نجد رأياً في قضيةٍ يختلف ولوازمه مع تلك الأصول ينبغي علينا توجيهه.

هل الإمامة من أصول الدين؟ ـــــــ

إنِّ الأصول هي تلك الكُلّيات الموجودة في الكتاب والسُنّة، والتي كانت على عهد الرسول الأكرم ’، وقبلها جميع المسلمين من بعده، وعمِلُوا على أساسها، واستُشهدوا في سبيلها.

أمّا الفروع، فهي تلك المسائل التي تُرجع ـ عند اختلاف الرأي فيها ـ إلى هذه الأصول، وقد لا يتحمَّل الشيعة إذا ما قلتُ الآن: إنّ مسألة الخلافة كانت أيضاً من هذا القبيل، يعني كان في الأمر نوعٌ من الإبهام، وقد بحثتُ هذه المسألة وكتبتُ فيها كثيراً، وقد بيَّنتتُ رأيي حول هذا الأمر في مقال، حمل عنوان: (الإمام عليّ والوحدة الإسلامية) حيث رأيت أنَّ مسألة النصّ على ولاية عليّ× قد نُسيت أيّام خلافة الخلفاء، وقد أحياها عليّ أيّام خلافته، لا بوصفها حقّه الشخصي، بل باعتبارها حقيقة إسلامية ثابتة، فعلى هذا لا يمكننا أن نخطّئ الآخرين، أو نعتقد بأنّهم أعداء.

وقد تنبّه لهذا الأمر كثير من المسلمين بعد النبيّ، وحازت هذه المسألة عندهم على شيء من الأهميّة بالتدريج، فطرحها عليّ×؛ فقبلها بعضهم رُويداً رُويداً، فيما رفضها آخرون.

إذن، تبدّلت المسألة اجتهاديةً فرعية، وأعتقد أنّ القائلين اليوم بعدم وجود سياسة ولا حاكمية في الإسلام انحرفوا عن الإسلام أكثر من انحراف أولئك القائلين ـ مثلاً ـ إنّ عليّاً لم يكن هو الخليفة بلا فصل؛ ذلك أنّ هذه المسألة مسألة فرعية بالنسبة لتلك، فالدين عند هؤلاء منفصل عن السياسة من رأس، وهو أمرٌ أكثر خطورة، لذا كان انحرافهم أكبر.

بل يُمكننا القول: إنَّ هؤلاء قد أنكروا أمراً ضروريّاً، لكن لا يمكن القول في حقّ منكري خلافة علي بلا فصل: إنّهم أنكروا ضرورةً إسلامية، بل كان ما أنكروه ضرورة من ضروريات المذهب الشيعي.

 

& بناءً على ما تفضّلتم به، هل يمكن أن يكون هذا التعبير صحيحاً إذا استخدمنا اللغة الفقهية، حيث نقول: وجوب حفظ وحدة المسلمين من الأدلّة الحاكمة على جميع الأدلّة الفقهيّة والكلامية، فعند التعارض ينبغي غضُّ الطرف عن تلك النظرية ـ أي نظرية ـ التي لا تتناسب مع الوحدة؛ وذلك لأصالة الوحدة وأهميّتها، أي لو أنّ فتوى فقيهٍ أو رؤية متكلّم أدّت إلى إظهار عقيدةٍ تخدش وحدة المسلمين؛ فهنا لابدّ من تغيير هذا الاعتقاد، ليس على أساس المماشاة والمداراة، بل على أساس ضرورة تغيّر هذا الحكم حقيقةً؟ فهناك إحساس اليوم بأن هذا الأمر ينطلق من تقيّة مداراتية، نظراً لكوننا أقليّة، فنسعى كي نحول دون إثارة أكثرية المسلمين في أيّام الحجّ ـ مثلاً ـ ضدّنا، فنتمسَّك بالتقيّة المداراتية، وفي هذه الحالة تكون التقيّة حكماً ثانوياً، فهل هذا الحكم أوّلي أم ثانوي؟

^إنَّ هذا الحكم حكمُ الله حقيقةً، وليس مراعاةً للمصالح والضرورات، وهذا القبيل من البحوث ليس جزءاً من تلك المبادئ الأوّلية، بل من المسائل الفرعيّة، أي هو داخل تحت نطاق الاجتهاد. فالحديث عن أصولٍ وفروع في غير الأحكام الفقهيّة أيضاً؛ استفدتُه من كتابات المرحوم الشيخ كاشف الغطاء في جوابه لأحد علماء النجف، فقد كانت مجلّة رسالة الإسلام تؤكّد في أعدادها الأولى ـ التي كانت تهتمّ بمسألة التقريب بين المذاهب ـ على أنَّ المسلمين لا توجد بينهم اختلافات في الأصول، فكتب المرحوم آية الله الشيخ عبد الحسين الرشتي رسالةً إلى دار التقريب، نُشِرت في مجلّة رسالة الإسلام، يقول فيها: لماذا تقولون دائماً: إنّه لا توجد عندنا اختلافات في الأصول؟ كيف لا يوجد عندنا اختلاف والأشاعرة تقول: إنّ الله لا يُرى في الآخرة، ونحن نقول: إنّ الله يُرى؟ هؤلاء يقولون: إنّ الصفات زائدة على الذات، ونحن نقول: إنّها عين الذات، وهكذا، فهذه كلّها أصول اعتقادية، إذاً كيف يمكن القول: إنّنا مشتركون في الأصول؟

هنا أجابه المرحوم كاشف الغطاء، معتمداً على تقسيم المسائل العقائدية إلى أصلية وفرعية، قائلاً: نحن لا اختلاف بيننا في مسألة تنـزيه الباري، هذا أصل، وما عداهُ يكون من الفروع.

& لقد قال الأشعري أيضاً: أنا لم أكفِّر أحداً من أهل القبلة.

^نعم، لقد حاول الإمام الأشعري:

أوّلاً: التخفيف من نزاع المعتزلة وأهل السُنّة إلى الحدّ الأدنى، فأدخل في أفكار أهل الحديث بعضاً من الأفكار العقلية، والسلفية تقول عنه الآن: إنّه أبدع بدعةً بفسحه المجال للعقل في العقائد إلى حدّ ما.

ثانياً إنّ الرجل طرح المذاهب كما هي عليه، فقد اشتغل قبل وفاته عام 333 هـ بتدوين كتابه (مقالات الإسلاميّين)، وهذا التاريخ جاء بعد مرور فترة على الغيبة الكبرى ـ تقريباً ـ وقد وصف الشيعة في كتابه المذكور على الصورة التي هم عليها الآن.

طبعاً لابدَّ من القول أيضاً: إنّ بعض الشيعة يعتقدون بأنّ الإمام المهدي لم يولد بعد، ومنه يتّضح أنّ تصوّر الإمامية هذا كان موجوداً، وهكذا شكّ بعضٌ آخر؛ فالرجلُ ـ إذاً ـ طرح العقائد دون زيادة أو نقيصة.

لقد قال في آخر كتابه: لماذا هذا النـزاع والقتال؟ ولماذا تكفير بعضكم لبعض؟ لقد ذكرتُ كلّ هذا، فقد أشرتُ إلى مذهب الحقّ وأشرتُ إلى سائر المذاهب الأخرى، ولكنّي لم أُكفِّر أحداً منها أبداً.

إذن، هذه طرق ينبغي علينا طيّها، وفي أوساط علماء الشيعة يوجد أمثال هؤلاء الأشخاص، كالشيخ الطوسي والشيخ الطبرسي، من الذين كانوا يتَّسمون بسِعة الاُفق، وفي زماننا كان على رأس دار التقريب والأزهر المرحوم الشيخ عبد المجيد سليم، الذي نُقل عنه قوله: إنّ حادثة كربلاء وصمةُ عارٍ في جبين الإسلام، وليتها ما حصلت! وكذلك قوله: لو لم يتسلّط صلاح الدين الأيّوبي على مصر لكنّا اليوم كُلّنا شيعة، ولو لم يتسلّط الصفويّون على إيران لكانت إيران كلّها سُنّة، لقد عبَّر هذا الكلام عن سِعة أفقِه.

معنى ولاية أهل البيت^، ونجاة أكثر المسلمين بمحبّتهم ـــــــ

& أحد الموضوعات التي ولّدت الاختلاف ـ بشكل مميّز ـ كان موضوع الولاية، فكيف ينبغي أن نفهم الولاية لنقبلها؟ ونفهم على أساس ذلك كيف حُرِم الآخرون ـ لا خارج دائرة الدين ـ من فيضها؟ وما هو المقدار ـ حقّاً ـ من الولاية الذي يُعدُّ جزءاً من الأصول، بحيث يؤدّي إنكاره إلى الخروج عن الدين؟ وكم هو المقدار منها الذي يُعدُّ من الفروع الخلافية؟

^لقد كانوا يُعلّموننا في السابق أنَّ أصول الدين خمسة، لكن ثلاثة منها ـ في الحقيقة ـ أصولٌ للدين، والإثنان الآخران من أصول المذهب، وقد ميّز الشيعة ومحقّقوهم بين هذه القسمين، فأصول الدين الثلاثة هي: التوحيد والنبوّة والمعاد، وقد اتّفق عليها المسلمون جميعاً، أمّا العدل والولاية، فهما أساس تمييز الشيعة عن غيرهم.

طبعاً، المعتزلة قبلوا العدل أيضاً مع أنّهم سُنّة، وعُبّر عن جميع هؤلاء بالعدلية، فالعدل ـ من حيث المبدأ ـ بالمعنى الذي ذكره القرآن ليس مورد إنكار أيّ من المسلمين، فلا يوجد ـ واقعاً ـ من يقول: إنّ الله ظالم، فهل يمكنك أن تجد مسلماً واحداً في كل الدُّنيا يقول: إنّ الله ظالم؟ لا، والحقيقة إنّ البحث يتركّز على تحديد أنواع العمل التي تعدّ ظلماً، وتلك التي تعدّ عدلاً؟ فإذا كان الله الخالق قد أوجدنا كفّاراً ثمّ يُجازينا بعد ذلك، فهل يُعدُّ هذا ظلماً؟

أمّا بالنسبة للإمامة، فلم يقل أحدٍ من أئمّتنا: إنّ من لا يعتقد بإمامتنا خارجٌ من الدين، إنَّ 80% من الروايات حول عقيدة الولاية ـ وقد جُمعت في مقدّمة كتاب (جامع أحاديث الشيعة) ـ ترتبط بمسألة محبّة أهل البيت، وهذا ما جاء ـ في الحقيقة ـ في مقابل بني أميّة وبعض الخوارج، الذين كانوا يناصبون العداء لأهل البيت بشكل جدّي، فتلك الروايات كان مفادُها أنَّ من أحبّنا كان من الناجين.

وطبعاً، بعض هذه الروايات ناظر إلى الولاية بالمعنى الشيعي الخاصّ؛ لكن إذا حكَّمت تلك الأكثرية منها ستكون النتيجة أنّ كلّ مَن أحبَّ أهل البيت فهو من أهل النجاة؛ وعلى هذا الأساس فإنَّ نسبة 90% من أهل السُنّة، وحتى هؤلاء السلفية أيضاً، يمكن أن تشملهم هذه الروايات.

السلفية ـ مثلاً ـ ملتزمون بأن يقولوا ـ في ذكر النبيّ ـ : صلّى الله على سيِّدنا محمّدٍ وآلِه وصحبه، وقد التزموا بهذا النوع من الصلوات أكثر من غيرهم من أهل السُنّة. فهم ـ إذاً ـ لا يُعادون أهل البيت، نعم هم ينكرون بعض عقائدنا في حقّ أهل البيت، لكن إذا أنكر شخصٌ هذه العقائد فهل يكون كافراً؟!

الولاية إذاً ـ بهذا المعنى ـ فرعٌ اعتقادي استُنبط من أصلٍ عام، والأصل العام هو أنّ في الإسلام سياسة، والرسول الأكرم كان زعيم المسلمين أيضاً، وهذا المقام ينبغي أن يبقى محفوظاً من بعده، لكن من هو الشخص الذي ينبغي أن يتصدّى لهذا المقام؟ هذا بحث فرعي، ومعنى كونه فرعيّاً أنَّ إسلام المُسلِم لا يدور مداره. نعم، يجبُ الاعتقاد به في حقّ مَن ثبتت صحّته عنده، كما أنَّ إنكاره يوجبُ الانحراف.

نظريات في أولويات الولاية ـــــــ

النقطة الأخرى هنا، وجود تصويرات مختلفة لمسألة الولاية، لقد كان آية الله البروجردي يُصرّ على أن نتَّخذ من حديث الثقلين معياراً، لا الأحاديث المرتبطة بالخلافة، لقد كان عندنا اختلاف مع أهل السُنّة حول مسألة الخلافة، أمّا الآن فقد ذهبت الخلافة التي نختلف عليها، فينبغي أن يُطرح اليوم ذلك البُعد من الولاية، الذي له تأثير في واقعنا الحالي، وهو الحجّية، يعني بحسب تعبيره: مرجعية أهل البيت العلمية؛ وقد كتب في مقدّمة جامع الأحاديث باباً حمل عنوان: باب الحجّة في الاختلاف الفقهي.

لقد كان) يؤكّد دائماً على مسألة المرجعية الفقهيّة لأهل البيت، في حين كان الإمام الخميني في زماننا يقول دائماً: لقد حُرِمنا من المعارف الواقعية عندما فقدنا الأئمّة وفقدنا زعامتهم. دون أن يتحدّث ـ حتّى مرّةً واحدة ـ حول الفقه والمرجعية الفقهيّة للأئمّة، لقد كان) يعتقد أنّ المعارف الحقيقيّة موجودة عند أهل البيت؛ إذاً، فهاتان نظرتان مختلفان:

إحدهما: تؤكّد على الأحكام التي حُرم المسلمون منها.

والأخرى: تؤكّد دائماً على الحقائق العرفانية، التي حُرم المسلمون منها.

وهناك نظرة ثالثة للمتصوّفة والعُرفاء، الذين يعتقدون أنّ هناك علاقة ولائية بين الناس والنبيّ، فالنبيّ وليّ الأولياء، وله بُعدٌ آخر غير بُعد الحكومة ونشر الأحكام، ألا وهو بُعد الولاية الباطنية، التي انتقلت عن طريق عليّ وأهل البيت.

والغريب في الأمر أنّ هناك صنفاً من الناس يبكي على مسألة الخلافة وغصبها، لكنّه لا يبكي على تلك الأحكام أو المعارف أو العلاقة الولائية التي حُرِمَ الناسُ منها!!

على كلّ حالٍ، إذاً هناك رؤى ونظرات ثلاث، ولم يعتبر أيُّ واحدٍ من هذه الرؤى الثلاث بحث الخلافة مهمّاً.

موقف الإمام الخميني من التنازع حول قضية الخلافة ـــــــ

& يقول الإمام الخميني: دعوا بحث خلافة أمير المؤمنين جانباً، فهو بحث قد انقضى زمانه.

^لقد تأثّر الإمام الخميني في هذا البُعد بالسيّد البروجردي، فقد كان الإمام في بادئ الأمر شديد الحساسيّة تجاه مسألة الخلافة، لكن وبعد أن طرح السيّد البروجردي آراءه في هذا المجال قبلها الإمام الخميني، وإلاّ فالإمام الخميني من الأشخاص الذين أقدموا على طباعة المجلّدات التي لم تُطبع من كتاب العبقات في الخلافة.

من هنا يمكن تصنيف أتباع نظرية الإمامة إلى اتجاهات أربعة:

الاتجاه الأوّل: ويتزعّمه السيّد البروجردي؛ حيث يرى أنّهم× باب الأحكام، ويجبُ أن نجعلهم الأصل فيه والمرجع للأمّة.

الاتجاه الثاني: ويتزعّمه الإمام الخميني؛ حيث يؤكّد على البُعد المعرفي لجعله الأساس، بحيث يكونون المرجع على صعيده.

الاتجاه الثالث: اتجاه عامّة الناس وقرّاء التعزية والمنبريّين؛ حيث يرفعون لواء غصب الخلافة ويبكون عليه.

الاتجاه الرابع: ويتزعّمه العرفاء والمتصوّفة؛ حيث يعتمدون كثيراً على العلاقة الولائية التي ينبغي أن تقام مع النبيّ أو وليّ الأولياء، وعليّ هو باب هذه الولاية.

وقد استقصيتُ جميع فرق الصوفّية ـ شيعةً وسنّة ـ فوجدتهم ينهون سلسلة ولايتهم إلى عليّ، ما عدا فرقة النقشبنديّة التي تنهي سلسلتها إلى الإمام الصادق، وتعتقد أنّه× أخذ ولايته من جدّ اُمّه القاسم بن محمّد، وهو أخذها بدوره من أبيه محمّد، وهو أخذها من سلمان، وسلمان من أبي بكر، وأخذها هو من النبيّ.

وتعتقد الصوفيّة أنّ قول النبيّ: mمَن كنت مولاه فهذا عليُّ مولاهn ناظرٌ إلى الولاية بهذا المعنى، وقد تعرَّفتُ قبل ثلاثين عاماً ـ في سفري الأول إلى مصر ـ على أحد مشايخ الصوفية هناك، وهو الدكتور أبو البقاء التفتازاني، وكان أستاذاً جامعيّاً في الفلسفة والعرفان، ومن شيوخ الطريقة، وصاحب أخلاق عالية، وصاحب آثار في الفلسفة، وقد قال في مقابلةٍ له مع السيّد الرضوي أوردها في كتابه (مع رجال الفكر والأدب في القاهرة): إنَّ ما قاله النبيّ: mأنا مدينة العلم وعليّ بابُهاn إشارة إلى هذا العلم الولائي الذي هو عندنا نحن أهل الطريقة، فهذا العلم منحصر ـ حسب رأينا ـ عند عليّ وأهل بيته، وإذا لم يتّصل حبلُ الولاية هذا بعليّ فليس مقبولاً.

إنّ هذا الحبل الولائي مهمّ جدّاً في مصر، وهم يجدّدون بيعتهم في كلّ سنة مع شيخهم، وقد رأيتُ في مصر في مراسم الاحتفال بمولد الرسول الأكرم’ اجتماع مريدي الشيخ أبي العزائم داخل خيمة على شكل سلسلة، وقد وضعوا أيديهم في أيدي بعضهم، وانتهت هذه السلسلة إلى الشيخ، وبهذه الكيفيّة يجدّدون البيعة معه، وهذه البيعة ـ حسب عقيدتهم ـ بسلسلة السند هذه، هي بيعة مع عليّ×، وعن طريقه بيعة مع الرسول الأكرم’.

ويحلّق الشيخ العطّار النيسابوري ـ لدى بحثه حول المولى ـ في هذا البُعد من الولاية، وهكذا الحال بالنسبة لمولانا الرومي في كتابه (المثنوي) فهو يقول: إنّ هذه الخلافة التي تتنازعون من أجلها ليست مهمّةً، وإنّما المهمّ والأسمى هو المقام المعنوي والارتباط الروحي.

لقد كان العطّار يقول: إنَّ عليّاً كان قد طردَ هذه الخلافة، فهو القائل لابن عبّاس: إنّ هذه النعل البالية خيرُ عندي من خلافتكم، إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلاً.

والذي استوحيتُه من آية الله البروجردي أنّه ما كان يُعير هذه القضيّة أهميّةً قط، لقد قال العلاّمة المرحوم السمناني في مقالٍ له في مجلّة رسالة الإسلام: إنَّ مسألة الإمامة والخلافة مسألتان مستقلّتان، فالخلفاء كانوا يعتقدون بإمامة علي×، وكان هو× قد قِبل خلافتهم أيضاً، وكان يقول: احكموا أنتم، وأنا عليَّ حلُّ المشاكل، وقد قبِلوا ذلك أيضاً، خصوصاً الخليفة الثاني الذي قبِل هذه المعادلة بجد.

فهذه طرق يمكننا أن نسير فيها وأن نتَّبعها.

من الطبيعي أن يُطرد كلّ من يقول بذلك من جانب البعض، لكنّ هذه الآراء والحقائق والمباحثات كانت ـ ولا تزال ـ موجودةً بين الأعاظم، وقد بحثتُ هذه المسألة في كتابي (نداء الوحدة)، الذي يضمّ مجموعة خُطبي في صلاة الجمعة بمدينة طهران.

 

المتطرّفون الجدد وعلاقة أفكارهم بمواجهة خط الإمام الخميني ــــــ

& إنّ القراءة المتطرٍّفة للولاية قد راجت مرّةً أخرى في الوقت الحاضر، كما كانت عليه أيّام الفترة الصفوية، والتي يُعرف التشيّع فيها بالتشيّع المتطرّف، وهذا الأمر ستحصل له عواقب غير حميدة في المستقبل، ما هو رأي سماحتكم في ذلك؟

^إنّ هذه السلوكيات المتطرّفة لها ردودُ فعل سلبية في المجتمع، وأنا لا أطرح ـ عادةً ـ مثل هذه المطالب في مُقابلاتي أو في كتاباتي؛ وذلك لأنّ هناك من يقف منها موقفاً مضادّاً ومعاكساً، فليس لمثل هذه الطروحات فائدة عملية تُرتجى، بل ربّما عادت بالضرر على صاحبها وعلى المجتمع.

لكن أحتمل أنَّ هذا الطرح المتطرّف ـ أساساً ـ يهدف إلى مواجهة الثورة، لقد طرح الإمام الخميني مسألة الوحدة الإسلامية، وهؤلاء لعلّهم يقصدون تحت هذا الغطاء ـ شئت أم أبيت ـ إثارة ما لا ينسجم مع خطّ الإمام الخميني.

 

& لقد كان هناك شعورٌ في السابق بوجود حدود واضحة بين الولائيين الذين لا علاقة بينهم وبين الثورة، وبين الولائيّين الذين تربطهم بالثورة علاقة، أمّا الآن فهناك شعورٌ بأنّ تلك الحدود قد تلاشت، وأنّ الذين كانوا ولائيّين بالأمس أصبحوا اليوم ثوريين.

^هذا صحيح، فالخطر اليوم يكمن في هؤلاء الذين استلموا زمام بعض الأعمال الثورية، ولم يتنازلوا عن أفكارهم تلك. وقد رأيت في مكّة إحدى الشخصيّات القُميّة البارزة التي تتواجد في كلّ سنة في بعثة الحجّ، يقول: أنا غير مستعدّ للصلاة مع هؤلاء ـ أي أهل السُنّة ـ وإذا أجبرت على الصلاة فسأعيدها، وهذا ما يُخالف صريح فتوى الإمام الخميني وآخرين!

العلماء الشيعة والموقف من الخلافة العثمانية ـــــــ

& بعض الشخصيات الكبيرة أسّسوا جديداً مركز الغدير؟

^نعم، سمعت، ولكن لا علم لي بالمؤسِّسين، وقيل: إنّ بعضهم ينسب نفسه إلى آية الله البروجردي، والحال أنّ آية الله البروجردي ما كان يفكِّر بهذه الطريقة، حتّى أنّه أظهر ـ ذات مرّة ـ أسَفَه لزوال الخلافة العثمانية، وقال: إنّ هذه الخلافة ـ على كلّ حال ـ كانت الركن الركين والرصيد السياسي الضخم للإسلام.

نعم، إنّ الإنجليز أطاحوا بالدولة العثمانية وزرعوا إسرائيل مكانها، وواضحٌ أنّ الخلافة العثمانية لو كانت موجودةً لما سمحت بتأسيس إسرائيل، لقد زرع الإنجليز الخلاف والتفرقة بين العرب، فجعلوهم يفكّرون بالقومية العربية، وقلّلوا من أصالتهم الإسلامية، فكان آية الله البروجردي غير مرتاح من هذا الوضع أبداً، كذلك من زوال الخلافة العثمانية، مع كلّ العيوب التي كانت فيها.

وممّا يُستفاد من بعض الكتابات، أنّ المرحوم آية الله السيّد محمّد كاظم اليزدي ـ صاحب العروة ـ كانت عنده هذه النظرة أيضاً.

& لقد سعى السيّد جمال الدين كثيراً للإبقاء على الامبراطورية العثمانية أيضاً.

^نعم، لقد ألقى في أواخر أيّامه رحل الإقامة في اسطنبول، ووسَّع من الدعوة للوحدة الإسلامية، وكان في حماية الخليفة العثماني قطعاً، وحتّى تلميذه وصديقه الشيخ محمد عبده سعى كثيراً في هذا السبيل أيضاً.

وقد جاء في كتاب تاريخي لمحمّد عبده المكوّن من ثلاثة أجزاء، أنّه لمّا كان مُبعداً مدّةً من الزمن في لبنان، قرأ كثيراً عن الطوائف الموجودة فيه، حيث كانت تلك المنطقة في ذلك الوقت تحت نفوذ الخلافة العثمانية، ولم يأتِ الفرنسيّون إليها بَعدُ، ومن هناك كتب رسالةً إلى مقرّ الخلافة شرح فيها أوضاع الناس آنذاك، يقول: توجد هنا فرق وطوائف للمسيحيّين، الذين يرتبط كلّ فريق منهم قلبياً بمكان، وأكثرهم مرتبط قلبيّاً بفرنسا، وهذه الطوائف لم يكن من رأيها الدفاع عن الخلافة.

أمّا السنّة، فهم ـ وحسب عقيدتهم ـ يدافعون عن الخلافة، ويعتبرونكم أنتم خليفة المسلمين.

وأمّا الشيعة، فمع كونهم ـ أساساً وطبقاً لمذهبهم ـ لا يعترفون بالخلافة، لكن نظراً لعداوتهم الشديدة للكفّار، وبما أنّكم واقفون بوجه الكفّار، فإنهم سيكونون جزءاً من حُماة الخلافة إذا راعيتم عواطفهم.

وكذلك كان المرحوم الميرزا الشيرازي الكبير يقابل الخلافة العثمانية باحترام كبير، ويقول المرحوم الآخوند محمد كاظم الخراساني أيضاً في برقية بعث بها إلى السلطان عبد الحميد: أنت خليفَتُنا، فيما لم يستعمل علماؤنا هذا التعبير حتى لملوك إيران.

والإنصاف أن العثمانييّن كانوا ـ بالنسبة للملوك الصفوييّن ـ يراعون الظواهر أكثر، فلو نظرت إلى (عالي قابو) في إصفهان تجد هناك صور النساء والفتيات والراقصات وشاربي الخمرة بكثرة، فيما توجد في قصور العثمانيّين المسمات بـ (تورب كابي) في اسطنبول نقوش الآيات القرآنية مكتوبةً في كلّ مكانٍ من قصورهم.

على أيّ حال، إنّ التطرّف الموجود حاليّاً لا ينسجم مع سلوك العلماء السالفين؛ من هنا، ينبغي على الطلاّب الشباب أن يقولوا للسادة الذين ينشرون مثل هذه الأفكار المتطرّفة: يجب أن يكون لنا دورٌ في دنيا الإسلام، ويجب أن نكون مؤثّرين في مصالح المسلمين وفي درء المفاسد عنهم، وهؤلاء يجب علينا مراعاة مشاعرهم.

ومن حسن الحظّ أن أصبحت مسألة التشيّع مطروحةً في كلّ مكان بعد انتصار الثورة، خاصّة عند الأوروبيين الذين انتبهوا ـ بشكل ملحوظ ـ إلى التشيّع فدرسوه وطالعوه، إنّهم يريدون معرفة ماذا يملك التشيّع حتى استطاع أن يشكّل حكومةً في هذه الفترة الزمنية؟!

إنّ ملايين المسلمين تشيّعوا بعد انتصار الثورة، فعلينا أن لا نقع في خطأ، فنثير هؤلاء الذين رغبوا في التشيّع واتّبعوه بأن نطلب منهم أن يذكروا الخلفاء بسوءٍ، إذ لو قُمنا بذلك سيتراجعون؛ فالصوفية ـ مثلاً ـ ومع أنّهم يقولون: إنّ الولاية الباطنية يجب أن تنشأ من علي×، نراهم يحترمون شخصيّاتهم المذهبية كثيراً، ولا يرون اختلافاً بين الأمرين، أي احترام الصحابة ومحبّة أهل البيت، ويعتقدون أنّ أهل البيت والصحابة كانوا في خطٍّ واحدٍ، ويزعجهم كثيراً ما يحاوله بعض الناس من إيجاد الفرقة بينهما.

كيف نقرأ مستقبل مشروع التقريب؟! ـــــــ

& مع انبعاث الآمال مجدّداً في القلوب، واشتداد رغبة المسلمين في عزّتهم ورفعتهم، وعود الإسلام إلى الواجهة؛ ليكون فكراً ودستوراً في حياة المسلمين، وبروز القناعة والميل التامّين في اتّحاد المسلمين ووحدتهم، لكنّنا نرى ـ في الواقع ـ أنّه كلّما كثرت الرغبات الدينية الجافّة المتشدّدة ـ في أيّ مكانٍ ـ كثرت في المقابل الرغبة في التحلّل والميوعة، على هذا الأساس هل ترون للتقريب مستقبلاً يُبشِّر بالخير؟ وهل ستحيا الآمال في التقريب مع وجود هذه النزعات المتشدّدة؟ٍ

^إذا أعطينا زمام الأمور بيد عواطفنا ـ سواء كانت عواطف سلفية وسنّية متطرّفة كالتي وجدت جذورها في السعودية، أم هذه العواطف الشيعيّة الخاصّة التي وصلت إلى أوجها في قمّ وأماكن أخرى ـ سيُقضى في المستقبل ليس فقط على التقريب والوحدة، بل سيحصل هناك خصام وتنافر وحروب، يعني بشكل أدقّ الحالة نفس ما عليه الوضع في أفغانستان حالياً، فهؤلاء يقولون: لقد شكّلنا حكومةً إسلامية خالصة، ومخالفونا يقاوموننا إذاً نحن نقاتلهم ونقتلهم بالحقّ!

وفي رأيي، إنَّ أتباع المذاهب الإسلامية يجب عليهم أن يعوا هذه الحقيقة، وهي أنّ المذهب ليس عين الدين، فالدين هو الأصول الكلّية التي كانت في زمان الرسول الأكرم واستمرّت بعد مدّة من الزمان أيضاً على المنوال عينه، وما عدا ذلك فهو اختلافات وُجدت ـ بعد ذلك ـ في هذه الأبعاد الثلاثة أو الأربعة.

فالمذهب يعني طريقاً وسبيلاً إلى الإسلام، لكنّنا ـ مع الأسف ـ نرى أنّ أتباع المذاهب وزعماءَهم عندما يتّبعون مذهباً معيّناً ـ بناءً على اجتهاداتهم ـ يقولون: إنّ هذا المذهب هو عين ذاك الدين، إنَّ هذا قولٌ لم يقله النبيّ، فكيف تقولون أنتم عن استنباطاتكم: إنّها عينُ دين النبيّ؟!

إنّ التعصّب ينشأ من هنا؛ وذلك عندما يتمّ الخلط بين المذاهب وبين الدين، فيعتبر المذهب عين الدين، وكأن معتقداتنا هذه وبنفس تفاصيلها كان النبيّ يقول بها، وذكرها القرآن أيضاً!

والحقيقة أنّ القرآن والسنّة قد وردت فيهما كُليّات، وبمرور الزمان وكلّما جاء شخص وأعمل تفكيره، طرح مسائل جديدة باجتهاده واستنباطه من بعض نصوص الكتاب والسُنّة، ثمّ توسّعت هذه المسائل بعد ذلك شيئاً فشيئاً حتّى وصلت إلى ما هي عليه اليوم.

 إذا قبلنا أنّ المذهب سبيلٌ للوصول إلى الدين لا عينه، فسيقلّل ذلك بشكل كبير من العصبيّات والعواطف غير الصحيحة، وسيكتسب الإنسان روحيةً عقلانية وسيقول: نحن في هذه المسألة الفرعية نفهم هكذا ـ خصوصاً في الأحكام ـ والآخرون يفهمونها بشكل آخر، ويُحتمل أن يكون الحقّ معهم، أو لا أقلّ إذا كان الحقّ معنا بنسبة 50% فسيكون الحقّ معهم أيضاً بنسبة 50% أو أقلّ.

أنتم ترون أنّ اختلاف مجتهدي الشيعة في مسألةٍ ما، غالباً ما يكون أحد هذه الآراء مطابقاً لرأي أحد المذاهب الأخرى، خصوصاً في المسائل الفرعية، وهذا دليل على أنّ آراء الآخرين ليست باطلةً 100%.

وحول مستقبل الإسلام والتقريب الإسلامي، لقد تصّورت سابقاً أنّ التسنّن، بمعنى المذاهب الأربعة، في طريقه إلى الزوال، وشاهدُه ما نراه الآن في مصر مثلاً، فهم لا يقولون: فلان مالكي وذاك شافعي، بل الكلّ يقول: نحن مسلمون، والمفتي هناك يطالع آراء المذاهب كلّها، حتّى الشيعة، ويفتي على ضوء أيّها يوافق المصلحة والمنطق، وأيّها أقوى دليلاً.

إنّ التعصّبات الخاصّة الموجودة في أوساط الشيعة، ومثلها التعصّبات الموجودة بين السُنّة الإيرانيّين، والتي منها عدم الوئام بين الشافعية والأحناف، وعدم تحمّل علمائهم بعضهم لبعض، كلّها ظواهر في طريقها إلى الزوال تدريجيّاً في مصر، وفي غيرها من بلاد الإسلام.

هذه الوضعية لها حسناتها ولها سيّئاتها، فحُسنها هو أنّنا نحن الشيعة يُحسب لنا حساب، فقد عرف أنّ المذاهب ليست أربعة فقط، وأنّ الأبحاث الخلافية ليست وحياً منـزلاً، بل كلّها من قبيل الاجتهادات، وأنّ التعصّبات ستقلُّ بمرور الأيّام، هذا مستقبل جيّد.

لكنّ الشيء الذي يؤسَف له هو أنَّ السلفيّين قد استفادوا ـ عمليّاً ـ من هذه المسائل أكثر من الجميع، لقد اعتبر الوهابيّون والسلفيّون المذاهبَ بدعة. وقالوا: إنّ الإسلام لا توجد فيه مذاهب أصلاً، وإذا وجُد فقيه وأعطى رأياً فإنَّ رأيه سيذهب بموته، والآخرون لا يجبُ عليهم اتباعه، إنّ هذا العمل لا دليل عليه، وحقيقةً ليس عليه دليل.

إنّ الشيعة ـ على حدّ قول الشيخ عبد المجيد سليم ـ عندهم دليل من صاحب الشريعة على فقههم، وهو حديث الثقلين، أمّا بقيّة المذاهب فليس عندها دليل خاصّ على مذهبها من صاحب الشريعة، هذه هي جهة الحُسن.

أمّا السلفيّة فيريدون تحقيق أهداف أخرى من وراء هذا الرأي، أحدُها تكفير المسلمين بسبب تقبيل الضريح الفلاني والتوسّل بالمقام الفلاني، وأمثال هذه الأمور التي كان منشأها ابنُ تيميّة، ومن بعده أفكار الشيخ عبد الوهاب التي تركّزت في بلد معيّن، وأصبحت فيه أساساً فكريّاً وغدت أيديولوجيا الدولة.

ومن المحتمل أن يكون القرن الحادي والعشرون قرنَ هؤلاء؛ بسبب الإمكانات المادّية التي وُضعت تحت تصرّفهم، وأساليبهم المتينة جدّاً في التبليغ، لقد تمكّن هؤلاء من إقناع الآخرين ـ تدريجياً ـ بأفكارهم، فيما لم يكن لديهم في السابق حتّى جامعة واحدة، وأتذكّر أنّه في سنة 1344 عندما ذهبت إلى الحجّ كانت جامعة المدينة قد تأسّست حديثاً، أمّا الآن فعندهم جامعات واسعة، تستقبل مختلف الأفراد، وتدعو إليها الجامعيّين من الدول الأخرى، وتنقل إليهم هذه الأفكار، وتدفع لهم مصاريفهم حتّى يصلوا إلى مرحلة الدكتوراه، بل وتدفع لهم حتّى بعد رجوعهم إلى بلدانهم.

&يمكن القول إنّ المركزية العلمية للقاهرة قد ضاعت تقريباً؟

^بما أنّ حكومة مصر ليست حكومةً إسلامية بشكل كامل، فقلبها لم يحترق لحال الإسلام، لكنّ الأزهر في الواقع له دورٌ كبير حتّى الآن، ولازال يحتفظ برونقه، وفي الوقت عينه هناك فعّالية لفرق أهل الحديث والفرقة السلفية إلى الآن، وهم يقومون بأعمالهم التبليغيّة هناك، طبعاً هم إلى الآن لم يمسكوا مقاليد الأمور ويتسلّطوا.

لكن بما أنّ التسنّن التقليدي ليس له حُماة سياسيّون أقوياء، والفكر السلفي يعتمد على القوّة والثروة، فسيكون المستقبل للسلفيين.

هناك حركتان فقط يمكنهما أن تقفا بوجه السلفية:

 

أزمة الشيعة في أسلوبهم التبليغي ـــــــ

الحركة الأولى: حركة التشيّع التي ابتدأت بعد الثورة في إيران، والتي ليس لها تلك القدرة في العالم الإسلامي طبعاً، فمثلاً: رأيت في بلجيكا عشرات المساجد التي تقوم الوهابية بتعيين أئمّتها، وتدفع لهم الأموال، وترسم لهم الخط الفكري، ويوجد هناك مسجد صغير يجتمع فيه جمع محدود من الشيعة، هكذا يتحكّم الفكر الوهابي في الأوساط الإسلامية في بعض الدول.

إنّ مشكلتنا نحن الشيعة في أسلوبنا التبليغي، فلا يُمكننا ـ أبداً ـ أن نتقدّم عندما يكون أسلوبنا في التعريف بالتشيّع هو البدء بلعن الخلفاء والصحابة.

ما هو الهدف من وراء حديث بعضهم اليوم عن أنّ النبي لم يكن عنده أكثر من بنت واحدة، وأنّ البنتين اللتين تزوجهما عثمان لم تكونا بنتي النبيّ؟

إنّ هذا الكلام مخالف لصريح القرآن: >أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ< (الأحزاب: 59)، أنا لا أعتقد أنّ التشيّع سيتقدّم بهذه الأساليب.

لقد تواجد الشيعة بأعدادٍ قليلة في أماكن كثيرة من العالم، في مصر وأندونيسيا وماليزيا، لكن في مقابل ذلك توجد تلك الحركة العامّة التي تقف وراءها دولةٌ قوية بثروتها غير العادية، وببرنامجها الدقيق، وتناسقها مع السياسة الدولية، وسعيها في عدم مزاحمة السياسة الأمريكية أبداً، فتلك المجاميع الصغير لا يمكن التعويل عليها أبداً.

والمثير في الأمر أنّ السلفيّين يعُطون فكرهم لوناً من التجدّد أيضاً، فالطبقة المثقّفة والجامعية التي لا تتابع تلك الكتب القديمة، وليس لديها الأوقات والرغبات، تقول: إنّ هذه المذاهب لم تكن موجودةً في الإسلام، وإنّما وُجدت بعد ذلك، فهي ـ إذاً ـ بدعة، وليس هناك في زمن النبي وجودٌ لضريح يذهب إليه الناس ويدخلون عنده، وعلى هذا الأساس يمكن القول: إنّ أدلّتهم ذات ظاهر متين لدى السطحيّين من الناس، من هنا يجب البحث الجادّ للحصول على أدلّة تُخالف مقولاتهم هذه.

 
دور التصوّف في مواجهة المذهب السلفي ـــــــ

الحركة الثانية: وهي أقوى بكثير، ألا وهي حركة التصوّف، فالتصوّف في عالم أهل السنّة تبدّل أساساً إلى أصلٍ، أي القول بأنّه يجبُ على كلّ شخص أن يتّبع إماماً في الفقه، وإماماً في العقيدة كأبي الحسن الأشعري، وفي التصوف أيضاً عليه أن يتّبع أحد الأقطاب، ويكون صاحب ارتباطٍ وسلسلةٍ، إنّ هذا قد أصبح جزءاً من الدين.

ففي السودان ـ مثلاً ـ توجد سبع سلاسل أصيلة للتصوّف، وهذه تعتقد كلّها أنّ الفيض الربّاني يؤخذ من يد عليّ× فهؤلاء سُنّة كلّهم، يعتبرون الولاية بمعنى الفيض الإلهي، ويقولون: هذا قول النبيّ.

إنّ الوهابيّة تحارب التصوّف بشدّة في كلّ مكان، وذلك للنفوذ الكبير الذي يتمتّع به التصوف، وقد رأيتُ الشيخ السابق للأزهر الدكتور عبد الحليم محمود الذي كان متصوّفاً بتمام معنى الكلمة، وعنده أكثر من خمسين أو ستّين كتاباً ورسالة في التصوّف، يُدرّس التصوّف في الجامع الأزهر، وحضرت درسه ليومين، ورأيته يشرح هذه الأقوال والحالات والمقامات العرفانيّة بشكل جيّد جدّاً.

والآن الدكتور عمر هاشم ـ وهو رئيس جامعة الأزهر ـ صوفيّ أيضاً، وقد رأيتُه دائم الذكر، لكنّ هؤلاء ليسوا من أهل الكفاح، إضافةً إلى أنّ الكفاح بحاجة إلى دعم مالي، وهو موجود فقط عند الوهابية، بل لقد بلغت الحال بهم أن صاروا يمدّون أيديهم لقتل مخالفيهم، ففي باكستان تجد جيش الصحابة الذي اكتسب وجهةً سياسيّة، يقتل مخالفيه، وكذلك حركة طالبان والمتطرّفين الشيشانيين الذين يمثلون نتاج تلك الأفكار، بل إنّ بعض القتل والاقتتال القَبلي القائم في الجزائر مربوط بهؤلاء أيضاً.

فالتصوّف أرضية جيّدة لمحاربة الأفكار الوهابية ورغباتها، وهذه الأرضية يمكن الاستفادة منها، لكنّنا مع الأسف نرتكب أخطاءً وإفراطاً في العمل، عندما نتصوّر أنّ هؤلاء الذين يوالون أهل البيت يمكن أن ننقل لهم كلَّ عقائد الشيعة التي من جملتها التبرّي، إننا بهذا الفكر سنجعلهم يبتعدون عنّا.

& هل تتصوّرون أنّ موضوع التصوّف ينسجم مع حاجات العصر ومتطلّباته؟

^نعم، إنّه مناسب جدّاً، لأنّه يورد أتباعه مرحلةً من السلوك الروحاني والإشراق الربّاني، فيجب علينا استقبالهم بحرارة، وإذا وجدنا انحرافاً أو بدعةً غير قابلة للعفو، فيجب علينا أن نذكّرهم بشكل ملائم ومناسب، وهم سيقبلون هذا أيضاً، إنّ هؤلاء في نهاية العاطفة والمحبّة لأهل البيت، فيوجد في سلسلة سند هؤلاء من يصل نسبه إلى الإمام الهادي فصاعداً، وقد رأيت سلسلة نسب المهدي السوداني التي تتّصل بمحمّد المهدي بن الحسن العسكري وهذا من العجائب طبعاً.

وفي مصر، قال لي أحد المحامين المُتشيّعين: يوجد إشكال في سلسلة أجداد أكثر السادات المصرييّن، فشجرة أكثرهم تتّصل بمحمّد بن المهدي بن الحسن العسكري، وقد وعدته أن أحصل على صحّة هذه الشجرة بمساعدة الدكتور السيّد محمود ابن آية الله السيّد المرعشي.

على أيّة حال، توجد أرضيات مناسبة كثيرة، إلاّ إذا ما تصوّرنا اشتباهاً أنّ هؤلاء سيصبحون أعداء للخلافة والصحابة؛ لشدّة علاقتهم مع أهل البيت.

مسألة اللعن وتأثيراتها السلبية ـــــــ

قال لي أحد أساتذتهم ـ وهو الدكتور عبد اللطيف السعداني ـ من أهل المغرب، والذي كان قد درس الأدب الفارسي في طهران وحصل على درجة الدكتوراه فيها، وكان يتكلّم اللغة الفارسيّة بشكل جيّد: عندما كنتُ في طهران قرأتُ كثيراً حول الشيعة، وحصل لي في الأخير اعتقاد بقضيّة الغدير، ولكن لا يمكن أن أصدّق نفسي أنّي سأقول شيئاً غير صحيح عن الصحابة؛ لأنّ هؤلاء هم الذين جعلونا مسلمين، وأنت لم تجعلنا مسلمين، إنّ آباءنا منذ ألف سنة كانوا مسلمين بجهود هؤلاء، والآن نأتي نحن ونشتمهم؟! فقلت: حسناً تصنع، لا تشتم.

وأمثال هذا الكلام قاله لي كثير من الصوفية، منهم رئيس الطائفة العزمية حفيد الشيخ أبي العزائم، فقد قال لي: إنّ السيّد ـ وهو عالم شيعي يسكن في القاهرة سابقاً ـ الذي كان هو سبب رغبتي في التشيّع، قال لي: تعال والعن فلاناً وفلاناً، وأنا لا أتمكّن من قبول هذا، فقلت له: الحقُّ معك، وإنّ عقيدتك هذه صحيحة ومتطابقة مع التشيّع أيضاً.

لاحظ، كيف نقوم نحن بهذه الاشتباهات، ونتصوّر أنّ اللعن من أصول التشيّع وأركانه الأصيلة، بل ومن أصول الإسلام أيضاً!

فالآن هذه افتتاحيات الكتب أو خُطب صلاة الجمعة، يُستعمل فيها تعبير: لعنة الله على أعدائهم، إنّ هذا الكلام لم يكن له وجود قبل 300 أو 400 سنة، بل وُجد بعد ذلك، وعندما تسأل: مَنْ هم الأعداء؟ سيقولون: هم أولئك الأشخاص الذين أخذوا الخلافة من عليّ.

إنّ هذا الكلام يُزعج كلّ أهل السنّة، وكذلك الصوفية أيضاً، فنحن بهذه الأساليب سنخسر رأس المال المهمّ هذا، وهو التصوّف والعلاقة بأهل البيت.

أنظر كيف شكّل الأدارسة حكومةً علوية في المغرب، واستمرّت، وعندما سألوا السيّد إدريس الأول ـ أخو محمّد ذي النفس الزكية ومؤسّس الحكومة العلوية ـ منذ البداية: ماذا نصنع في الأحكام؟ فقال: إلى الآن كنتم تقلّدون من؟ قالوا: مالك، قال: ابقوا على تقليد مالك؛ لأنّ مالكاً دافع عن أخي محمّد ذي النفس الزكيّة.

وكتب ابن النديم قائلاً: عندما ثار محمّد جاء الناس إلى مالك، وسألوه: ماذا نفعل نحن؟ قال: دافعوا عنه، فقالوا: لقد سبقت منّا البيعة للمنصور؟ قال: إنّها بيعة مكرهة، ولمّا هدأت فتنة محمّد جاؤوا إلى مالك وجرّدوه من ثيابه، وضربوه أسواطاً في المسجد.. إلى آخر القصّة، كما نقلها ابن النديم.

على كلّ حال، فبسبب التسامح الذي أبداه مولاي إدريس في المغرب، اجتمع المذهب المالكي مع حكومة العلويّين، وإلى هذا اليوم فإنّ كل حكومة تستلم مقاليد الأمور في المغرب هي حكومة علويّة، ومذهبهم هو المذهب المالكي، وهكذا جمعوا بين الأمرين.

هل كان الأئمة الأربعة شيعة بالمعنى السياسي؟ ــــــــ

من المناسب هنا أن نتحدّث عن الأئمّة الأربعة، فحسب عقيدتي، إنّهم كانوا شيعةً باللحاظ السياسي؛ لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ الخليفة يجب أن يكون من آل علي، وتحمّلوا الصعاب في سبيل عقيدتهم هذه، كما أنَّ أيّ أحدٍ منهم لم يدافع عن الخلفاء، هذا ما ينبغي علينا أن نُبيِّنه للناس.

أعتقد أنّ سرّ بقاء مذاهبهم هو هذا الوجه الشيعي الذي كان عندهم في قبال الحكومات؛ لقد سعوا كثيراً ليتولّى أبو حنيفة القضاء ويكون مفتياً في دولة المنصور، لكنّه رفض ذلك، فليس من الصحيح أن ترتفع الأصوات من المنابر قائلة: إنّ أبا حنيفة طُرح في مقابل الإمام الصادق ليفتح لنفسه حانوتاً، أو أنّه كان يأخذ أموالاً من الحكومة، إنّ أبا حنيفة كان يحترم الإمام الصادق وأهل البيت دوماً، وكان الرجل ثريّاً، كما لم يكن متفاعلاً مع بني العبّاس، وإنّ سيرة الإمام الشافعي في العلاقة مع أهل البيت، دليلٌ على حبّه لهم، وكذلك آثار أحمد بن حنبل في فضائل أهل البيت، دليل على ذلك أيضاً.

على أيّة حال، إنّ التصوّف لوحده مانع من تقدّم الوهابية في عالم الإسلام، ولكن السؤال هو: هل يمكنهم الاستمرار في المقاومة أم لا؟ فيه تردّد.

والخلاصة أنّي كنتُ أتصوّر ـ إلى فترة قصيرة ـ أنّ مستقبل العالم الإسلامي سيكون بيد الوهابية، أمّا الآن فأنا في حالة عدول ـ ولمدّة ـ عن هذه الفكرة.

وفي رأيي إنّ تعدّد القراءات، والتجديد في الفكر الإسلامي، وهو ما بدأ بالانتشار في كلّ مكان، يُبعد المثقفين عن أصول الإسلام؛ لأنّ كلّ شخص ينشر ما يحلو له من أفكارٍ باسم الإسلام، وهذا في الحقيقة خطر جدّي، لا يُصيب مذهباً خاصّاً، بل يزلزل أساس الإسلام، ومن خلف ذلك الأهداف السياسية للأجنبيّ >لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ<.

إنّ واجب المتديّنين من كلّ المذاهب الإسلامية أن يوحِّدوا صفوفهم ويقوّوها في مقابل هذه الهجمة الجديدة، وأن يقلّلوا من معاركهم وضجيجهم وجدالهم في المسائل الخلافية بينهم، وأن يُغيثوا صرخة الإسلام الذي يستصرخهم.

القراءات الجديدة للإسلام والأهداف السياسية المبيّتة ـــــــ

& ألا تعتقدون أنّ هذا الأمر قد اكتسب وجهةً سياسية، وأنّه قد رُوّج له بقدرٍ كبير، وأنّه بمثابة ردّ فعل إزاء تطرّف الطرف المقابل؟

لقد قُلتم: إنّ أصول الإسلام محدّدة بأربعة أصول كلّية أو خمسة، كالتوحيد والوحدة الإسلامية، كما قلتم أيضاً: يجب التفريق بين الأصول والفروع، ولكن يأتي أشخاص آخرون ويعتبرون كثيراً من الأمور الخلافية والفرعية جزءاً من أصول الدين ويؤكّدون عليها، ومن الطبيعي أن تحصل ردّة فعل عند الآخرين، فيضطّرون إلى القول: أساساً نحن عندنا قراءة أخرى وكلام آخر؟

^يمكن أن يكون للقراءات معنى معقول، بحيث تعني الأبحاث الاجتهادية، وعليه فليست في الواقع شيئاً جديداً، غاية الأمر أنّها يجب أن تكون في حِمى الأصول المقبولة والقائمة على الكتاب والسنّة القطعية.

أمّا ذلك الجانب المتطرّف لتعدّد القراءات والذي لا يعرف الثبات، فيفهم في كل ّ يوم شيئاً، ولا يقبل أيّ مشترك ولا أصل، فهذا ما لا يمكن الدفاع عنه، بل هذه الآراء هي ردود أفعال أكثر منها مقولات إيجابية، فبعضهم عنده شكّ ـ مثلاً ـ في أصل الوحي، أو يقولون: إنّه لا يوجد دليل على التوحيد، أو إنّ أدلّته محلّ تردّد، وهذا الباب إذا فُتح سوف لا تبقى هناك أيّة ضابطة، وكلّ واحدٍ سيتكلّم بكلّ ما يحبّ، وهذا الأمر سيجعل الأذهان تتشوّش وتُصاب بالتردّد بشكل تدريجي بالنسبة إلى الدين، خصوصاً عند الشريحة المثقّفة من الشباب.

& مرادُنا أن هذه الأعمال قد تكون ردّة فعل في قبال التطرّف والتحجّر الموجود عند البعض، فعندما يتجاوز أحدٌ ما الإشارات الضوئية، فإنّ إسلامه سيتعرّض للخطر، ومن الطبيعي ـ والحال هذه ـ أن يتحمّل كلّ إنسان ذلك ضمن حدودٍ معيّنة، فحين يرى نفسه أنّه غير قادر على العيش بهذه الصورة، سيشكّك في أصل القضية!

^نعم، حسب رأيي، إنّ بعض مسؤولي الحكومة (في إيران) تطرّفوا في بعض الأمور، واستخدموا سلطتهم بشكل غير صحيح، وخالٍ من الاعتناء بالآخرين، وهذا العمل يبعث على ردور فعل، ولهذا نقول: إنَّ هذا العمل عمل سياسي، وهذا الفكر له بُعد سياسي في إيران، أي أنّ معارضي النظام الإسلامي رأوا أنّ أحسن طريقة لاستئصال الثورة وحكومة رجال الدين هو أن يُقرأ الإسلام قراءةً أخرى.

 

& عندما نجعل حكومة رجال الدين جزءاً من الإسلام فلن يبقى أمام أولئك غير سبيل الشكّ في الإسلام نفسه، أليس كذلك؟

^نعم، وبتعبير آخر: إنّ المخالفين يقولون: إنّ الحكومة الإسلامية أصبحت حكومة الملالي، وهذا يُعطي ردّة فعل، وإنّ الطبقة المثقّفة التي ما هضمت رجال الدين لن تستطيع هضمهم أبداً، وإنّ مسألة ولاية الفقيه ليست واضحةً عندهم.

إنّ هذه الأفكار قد تكوّنت في عقولهم قهراً، وأنا أعتقد أنّ هذه الأفكار لها منشأ سياسي في إيران؛ لأنّهم يرَون أنّهم لا يستطيعون أن يعملوا شيئاً في مقابل هذا الوضع، فصاروا يُشكّكون في الإسلام أساساً، وهذا في الحقيقة تحرّك عام انتشر في دنيا الإسلام، وهو لا يختصّ بإيران، وقد جاءها من الخارج، وكان له حضور تاريخي في مصر، حتى كُفِّر مثيروه.

فلسطين عاشوراء العصر ـــــــ

& لنعد إلى بحثنا الرئيس، ماذا كان موقف شخصياتنا في السابق في الصحابة ولعنهم والطعن فيهم؟

^أكثر الشخصيات البارزة التي رأيتها لم يكن عندها ـ مع الأسف ـ فكر تقريبيّ، عدا المرحوم السيِّد البروجردي، لقد قال أحدهم ـ وكان مرجعاً دينيّاً ـ عندما طلبوا منه مساعدات للفلسطينيّين قبل 25 أو 26 عاماً تقريباً: إنَّ هؤلاء سنّة، وهم أسوأ حالاً من اليهود، فلماذا نساعدهم؟! لقد تعلم هؤلاء هذا اللون من التفكير منذ صغرهم، وفهموه حتى وصلوا إلى مرحلة الاجتهاد، فهل يمكن أن تتغيّر هذه الأفكار؟

لقد تعرّف السيِّد البروجردي منذ شبابه في إصفهان على الآراء والأفكار المتنوّرة، ثمّ قرأ وطالع حول المذاهب أيضاً، وكان أستاذه المرحوم الآخوند الخراساني (1329هـ) من هذا الطراز أيضاً، فقد قال ـ أي الآخوند ـ مرّةً: نحن نشترك مع كلّ المسلمين في الأصول، واختلافنا في الفروع.

لقد كان إنساناً مستنيراً، وكذلك كان طُلاّبه، كانوا أيضاً مهيمنين على الفكر السياسي والحقوقي، أمّا الآخرون فما كانوا يُفكِّرون بمثل هذه الأفكار غالباً، وعليه، فقد كان الوضع بحيث لا يمكن الحديث عنه، وأنا أعتقد أساساً أنّه لا ينبغي لشخص أن يفتح جبهةً مع هؤلاء؛ لأنّ هذا الأمر فيه خطورة، وليست تُرجى منه فائدة، والعمل الذي يمكننا أن نقوم به هو أن نطرح هذا الكلام مع الآخرين في الحوزات العلمية، حتّى يُصدّق الفضلاء شيئاً فشيئاً بهذه الأفكار، وتتوسّع آفاقهم، وتنشرح صدورهم ـ حسب التعبير القرآني ـ وعلى الجميع أن يعرف أنّ فلسطين هي عاشوراء اليوم ـ كما قال الشهيد الشيخ المطهري ـ ولو كان الإمام عليّ والإمام الحسين موجودين الآن لما بكوا لعاشوراء، بل لفلسطين وضياعها بيد اليهود، وسيجاهدون في سبيلها.

فإذا كان الإسلام مهمّاً عندنا، يجب أن ننظر أيّ شيء تقتضيه مصلحة الإسلام؟ ثمّ نضع ذلك في قائمة الأولويّات، وننظر المسائل الأخرى فنرى في أيّ درجة هي من سُلّم هذه القائمة.

الآن يمكن القول: إنّ نوعاً من التشيّع المتطرِّف يُروّج له اليوم حتّى في إذاعة وتلفزيون بلدنا، وهناك بعض الشباب والنساء الذين يبكون بشكل مملّ، ما هو تأثير هذا في الشباب والجامعيّين؟

& في مقابل القسم الأوّل، هل الشباب الجامعيّون يفكّرون بنفس هذه الطريقة، أو يجرّونهم للتشكيك في أصل الإسلام؟

^لم يكن الوضع في أيّ وقت بهذا الشكل أبداً، حتّى الصنف المتجدّد أيضاً كانوا يمتلكون العواطف الإسلامية، لكن عواطفهم في طريقها للاضمحلال الآن تدريجيّاً، لا أريد المبالغة في هذا الأمر، ولا أريد أن أعتبر الجوّ السائد في البلاد بأنّه جوّ مسموم، لكنّ الواقع لا يمكن أن يُستر ويغطّى، والوقوف بوجه الأخطار يجب أن يبدأ من منابعها الأصلية.

الحلول المقترحة لحلّ الوضع الديني المتردي: إعادة تكوين نظرتنا للصحابة ــــــ

& ما هو سبيل حلّ هذه المعضلات من وجهة نظركم؟

^في نظري، يجب أن نوسِّع الأعمال العلمية والثقافية، مثلاً: تعالوا نجمع كلّ الآيات القرآنية الواردة حول الأنصار والمهاجرين والصحابة، بشكل تامٍّ وكامل، وننظر تاريخها ولحنها، ثمّ نرى هل يمكن أن تُنسخ كلّ هذه الآيات بالرواية القائلة: mارتدّ الناس بعد رسول الله إلاّ ثلاثة أو أربعةn، أو تفقد معناها؟ وعلى فرض وجود إشكالٍ على أربعة أشخاصٍ أو أكثر، هل يصحّ نبذ الجميع؟

الأمر الآخر هو أن تطالعوا حول الجهاد الذي حصل بعد رحلة النبيّ، لقد كان هناك حضور لبعض المؤمنين حقّاً في ساحات الحرب، فكيف يستطيع شخص ما أن يُخرجَهم من الإسلام أو يلعنهم؟!

ورد في كتاب تاريخ الطبري حول قصّة فتح الفتوح في نهاوند؛ بعد خوض عدّة معارك أضعفت إيران إلى حدٍّ ما، أنّ الاضطراب كان موجوداً في المدينة المنوّرة، وكان أكثر الناس اضطراباً الخليفة نفسه الذي بدأ هذه الحرب، وكان اضطرابه ناتجاً عن عدم وصول الأمور إلى نهايتها، وفي أحد الأيّام دخل الخليفة إلى المسجد، فرأى النعمان بن مُقرن يُصلّي، ففكّر في إرساله لإنهاء هذه الحرب، فلمّا فرغ النعمان من صلاته قال له الخليفة: لقد وجدت مهمّةً أرسلك فيها، فقال: أقبل إن لم تكن مهمّة ماليّة، فقال: لا، بل أفكّر في وضع حدٍّ لهذا الاضطراب، فقبل النعمان، ووضع الخليفة تحت تصرّفه عساكر أخرى، وأرسلوا شخصاً إلى المدينة يُخبرهم بفتح الفتوح، فجاء الرسول يبحث عن الخليفة فوجده نائماً في المسجد، فأيقظه، ولمّا سأله الخليفة عن الخبر أجاب: لقد كُنّا من حيث العدد أقلّ منهم بكثير، لكن النعمان خطبنا ـ طبعاً ليس كخطبنا الطويلة اليوم ـ وقال: سأدعو بدعاءَين، وأنتم قولوا: آمين، أحدهما أن ننتصر على هؤلاء، فقلنا آمين، والآخر: أن أستشهد هنا، فقلنا: آمين أيضاً، وكانت النتيجة أن انتصرنا واستُشهد، واستشهد فلان وفلان أيضاً، فقال الخليفة: لا تقل هذا لي، لقد استُشهدوا في سبيل الله، والله هو العالم، ولا ضرورة أن أعلم أنا.

ماذا تستنتجون من هذا الحادث؟ هل كان هؤلاء أناساً مُرائين ـ كما يدّعي بعضهم ـ نحن نرى الكثير من هذه الملاحم في الفتوحات الإسلامية، وقصّة الخنساء الشاعرة العربية في حرب القادسية واستشهاد أربعةٍ من أبنائها الشباب، معروفةٌ في هذا المجال.

وللأسف، واحدةٌ من مشاكلنا أنّنا لا نقدّر الفتوحات الإسلامية أصلاً، بل نقول: إنّ عدّةً من العرب السُنّة تجمّعوا وشنّوا هذه المعارك، وقاموا بتلك الأفعال، والغريب أنّنا ـ في الطرف الآخر ـ عندما نريد أن نُبيّن عظمة المجتمع الإسلامي والثقافة الدينية، نقول: نحن الذين كنّا في الأندلس والصين، أو في المكان الفلاني من العالم، وكان لنا هناك نفوذ وحضور! طيب، من هم هؤلاء؟ هؤلاء هم الذين نلعنهم! فهل كانوا في الحقيقة لا دينيّين؟!

أنظروا إلى كلام علي×، كيف يدافع عن هذه الحروب، لقد كان يقول للخليفة عندما كان يريد الذهاب إلى المعركة: يجب أن تبقى هنا، وتكون سنداً للمقاتلين، لقد حصل ذلك في حرب إيران وفي حرب الروم أيضاً، ودليلهما مذكور في نهج البلاغة.

إذن، ينبغي على فُضلائنا أن يبحثوا في هذا المجال، حيث يمكن طرح أبحاث ممتعة جدّاً في هذا الإطار، فلا منافاة بينها وبين التشيّع، بل تُظهر المكانة السامية والمقام الرفيع لعليّ×.

البحث الآخر للتقريب هو: هل تقسيم الجنّة والنار باختيارنا، بحيث نكرّر القول دائماً: هذا مسلم وذاك كافر، هذا من أهل الجنّة وذاك من أهل النار؟ القرآن الكريم يذكر في عدّة آيات أنّ أمر الجميع إلى الله: >وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ< (النحل: 124)، فالحكم هناك للهِ، ونحن ليس لنا دور في هذا المجال.

هذا الفكر ينبغي أخذه من العلماء، فأساساً لو لم يوجد هؤلاء المخلصون ـ السُنّة والشيعة ـ في صدر الإسلام، ولم توجد عندهم تلك الروح الجهادية في ساحات الحروب، لم نكن الآن علوّيين ولا عمريّين، بل كنّا مجوسيّين فقط.

محور آخر من محاور التقريب هو مطالعة تاريخ الإسلام لمعرفة سيرة النبيّ وشخصيته، فعندما يأتي ذلك الرجل للرسول الأكرم ويقول: أخذتُ ابنتي إلى حافّة البئر، ولمّا أردت إلقاءَها فيه قالت لي: ماذا تريد أن تفعل يا أبه؟ قلت: اُريد إلقاءَك في البئر، فبدأت البنت تتوسّل وتبكي، ولكنّي لم أعتن ببكائها، فألقيتها في البئر، فلمّا سمع النبيّ بهذا، بكى بصوت عال، وقال: كفى، لا أريد أن أسمع كلماتك. فهل تنسجم أفكارنا نحن مع هذه الأخلاق الكريمة للنبيّ؟

وفي الختام، هل من الصحيح أن نضع كلّ المسائل جانباً، ونصرف كلّ همِّنا لتحطيم أو تكفير السيّد محمد حسين فضل الله؟!

إنّ السيّد فضل الله رجل دين علاّمة، درس وصار مجتهداً مثلكم، والآن اجتهد وأخضع مسألةً تاريخية إلى السؤال، لكنّه لم يُنكر أصلاً من أصول الدين، إنّه رجل يريد أن يعمل في أوساط أهل السنّة، أفهل يُمكنه بالتطرّف والتهوّر أن يصل إلى شيء؟!

ينبغي أن نفتح طريقاً وسطاً نضعه بين يدي الجميع، فمثلاً: بدل هتك حرمته نجيبُ عن تساؤلاته بالأدلّة المقنعة، هذا أوّلاً، وثانياً: أن نأخذ بنظر الاعتبار الأوضاع والأجواء التي يعيشها، إنّ الأوضاع التي يعيشها العلاّمة السيّد فضل الله الآن هي نفس الأحوال والأوضاع التي عاشها المرحوم العلاّمة السيّد محسن الأمين في الشام، حيث حرّم ضرب القامات؛ فانتُقد من متطرّفي زمانه بشدّة أيضاً، بحيث أصبح قريباً من أن يُكفَّر، حتّى وقف إلى جانبه وناصره آية الله السيد أبو الحسن الإصفهاني.

مشكلة التراث المحمّل بالحقد والضغينة والتكفير! ـــــــ

& مشلكتنا الأساسية في هذا المجال تكمن في تراثنا الديني، ومجموعة الروايات، وآراء علمائنا، التي لم تنظر بإيجابية إلى المذاهب الأخرى، فيوجد عندنا في الروايات ـ مثلاً ـ أنّ رجلاً قال للإمام: أسمع من جاري صوت تلاوة القرآن قبل أذان الفجر، وجاري هذا لم يكن شيعيّاً، ما حكم هذا الرجل؟ فيقول الإمام: هو في جهنّم حتى لو صام دهره وقام ليله، ما دام لا يحبّ عليّاً، ما هو واجبنا إزاء هذه الموروثات؟

^لاحظوا، لقد كان أعداء عليّ على درجة كبيرة من الفعّالية والنشاط في مقابل الأئمّة، خاصّة في قبال الإمام الحسن والإمام السجّاد، وكان بنو أميّة ـ أساساً ـ أعداء علي، وكان إعلامُهم في ذلك شائعاً منتشراً، فقال الأئمّة تلك الكلمات في مقابل هذا الإعلام، وأصل آرائهم كانت في مخالفي (أعداء) أهل البيت، إنّ هذه الروايات الموجودة عندنا في باب الولاية، عمدة نظرها ـ بشكل عام ـ إلى مسألة المحبّة ونفي عداوة أهل البيت، وما بقي يريد ـ في الحقيقة ـ أن يوصّف الشيعة الكاملين أيضاً، ومن الواضح أنّ الشخص الذي لا يقبل الولاية ـ بهذين المعنيين ـ إمّا ليس شيعيّاً كاملاً، وإمّا ليس من الشيعة أصلاً، إذا وُجد في قلبه بغضُ لعليّ فهو ليس بمسلم أيضاً.

على كلّ حال، توجد عندك أدلّة بمقدار يمكنك فيه اعتبار الآخرين مسلمين، ومن أهل النجاة؛ لأنّ الكلّ يشترك في الأصول الثلاثة ـ من الأصول الخمسة ـ التي هي ملاك الإسلام، فلا يقول المنصفون: إذا كان الشخص سنّياً ولكنّه كان محبّاً لأهل البيت، فهو كافر أو فاسق، ما دام لم يكن شيعيّاً!

في مؤتمر التقريب هذا العام، أكّدنا كثيراً على محبّة أهل البيت، فقال لي أحد الفضلاء: أنت على وشك أن تفتح باباً جديداً، قلت: نعم، يجب أن نُدرك أنّ في العالم مائة مليون سيّد باختلاف مذاهبهم، وهؤلاء لهم نفوذ كبير في أوساط المسلمين، وهم يفتخرون بانتمائهم وانتسابهم إلى عليّ وفاطمة، ويحفظون شجرة نسبهم بدقّة؛ فحول شجرة السادات الأندونسيّين والماليزيّين وبعض الدول المجاورة لهما ـ مثلاً ـ كُتبتْ عشرات الكتب، وقد جلبتُ معي من أندونيسيا ثمانية أو تسعة منها، هؤلاء كلّهم من أولاد علي العريض، ابن الإمام الصادق، وقد اشتهروا ـ من هذه الجهة ـ بالعلويّين.

ذكر الدكتور تازي من المغرب: في بلدنا عندما يكون لدى شخص حاجة ضرورية أو أمر مهم، فإنّه يُرسل سيّداً إلى الرئيس، فيستجيب الرئيس لطلبه حتماً، أو عندما يذهب شخص من السادة لخطبة امرأة ـ مثلاً ـ فإنّه يُجاب ـ دون تردّد ـ حتّى لو كانت البنت بنت وزير أو أمير أو..

ويُعتبر الشخص سيِّداً حتّى لو كان من أمّ علوية، كما أنّهم يحترمون أيضاً الشخص المتزوِّج من علويّة، وقد رأيت بنفسي هناك في صلوات الجماعة أنّهم قد خصّصوا الصفّين الأوّلين فيها للسادات! كما أنّ عائلة الملك الحسن بسبب هذه السيادة استطاعت الاستمرار في الحكومة هناك لأكثر من 400 عام.

 

& بدأ نجم الفاطميّين من المغرب أيضاً.

^نعم، بدأت من هناك، يعني أنّ البذر الذي زرعه الآخرون، أي الأدارسة، استفاد منه هؤلاء، حتّى استولوا على مصر، وبنوا القاهرة والأزهر، وفي نفس القاهرة توجد مواقع مهمّة وممتازة لأهل البيت، بل في مصر كلّها، حيث يتوسّلون في مقاماتهم، ويقوم وزير الأوقاف المصري ـ وهو من السادة أيضاً ـ بتوسعة هذه المقامات والمزارات باستمرار.

لقد كتبتُ في موضع أنّ القاهرة أكثر تشيّعاً من طهران بلحاظ العواطف، ففي كلّ محلّة بقعة أو بقاع لأهل البيت يتوسّل الناس فيها، وفي هذه البقاع تُقام أهمّ صلوات الجُمع عندهم، ويأتي على رأسها مقام رأس الحسين الذي يسمّيه المصريّون مقام الحسين، ثمّ مقام السيِّدة زينب، فمقام السيِّدة نفيسة ـ من ذريّة الإمام الحسن ـ وزوجها إسحاق بن جعفر الصادق، فكلّما بحث الإنسان هناك وجد لهم بقعة أو مزاراً، كما توجد مثل هذه الحالة في الهند والصين أيضاً، وقد كتبتُ عن هذه الأمور في مقال لي حمل عنوان: مكانة أهل البيت في المجتمعات الإسلامية.

لاحظوا أنتم: هل طريق محبّة أهل البيت أفضل للتقريب وللتشيّع أم طريق اللعن والطعن الذي يجعل حتّى محبّ أهل البيت لا يخضع لأقوالكم؟ ويقول لك: أنت منحرف، وأنّ النبيّ الذي لم يتمكّن من تربية إلاّ أربعة أشخاص، ماذا عمل ـ إذاً ـ خلال فترة رسالته؟! إنّ هذا اللون من فكرك فيه إهانة للنبيّ!

يقول الشهيد مطهّري,: إنّ رجلاً كان يقيم في طهران، وكانت تُقام جلسات ليلية في بيته، يشترك فيها بعض الكسبة والتجّار، وحضرت ليلةً ـ أنا والمرحوم الدكتور آيتي ـ في إحدى تلك الجلسات، فطلب أحد الكسبة من رجل الدين (صاحب البيت) أن يتحدّث حديثاً يستفيد الحضور منه، فقال ـ في جملة ما قال ـ : إنّ فلاناً وفلاناً كانوا يلعبون القمار في بيوتهم ـ بعدالنبيّ ـ فاعترضه أحد الكسبة بجرأة قائلاً: سيِّد، كيف لم يعترض المسلمون وصحابة النبيّ عليهم؟ فأجابه: إنّ النبيّ لم يُربٍّ أحداً غير عليّ!

يقول المرحوم مطهّري: رأيت إن أنا سكتّ سأكون آثماً، فقلت: ولكن سيّدنا، إنّ الإمام عليّاً قد قال غير هذا في خصوص الصحابة، وأنا لستُ حافظاً بالنصّ ما قاله، لكن السيّد الدكتور آيتي سينقلها لنا باعتباره حافظاً لنهج البلاغة، فبدأ الدكتور آيتي بقراءة النصوص التي قالها عليّ في خصوص الصحابة، ولم يمض وقت قصير حتّى هبَّ السيٍّد واقفاً، وغادر المجلس منزعجاً غاضباً!

طيّب، هل من الصحيح ـ إذاً ـ أن يقال: إنّ النبيّ لم يربّ الصحابة؟ إنّ هذا خلاف ضروريّ الإسلام، إنَّ قضايا صدر الإسلام الأول يمكن أن ننظر إليها بنظرة أخرى، لقد رأيت في حديث أنّ ابن عبّاس كان ملازماً للخليفة الثاني، وعندما ضُرب الخليفة بخنجر ـ وهو في حال الصلاة ـ كان ابن عبّاس حاضراً، ونقل قصّة وفاة الخليفة، فقال: قلت له: هل قال النبيّ أمراً في شأن عليّ؟ قال: نعم، لكنّ الحجّة لم تتمّ، ولم يفهم الناس ما هو مقصود النبيّ.

أنا أعتقد أنّ مسألة الغدير والولاية لم تُطرح بشكل جدّي في أيّام الخلفاء الثلاثة، وكأنّ الناس قد نسوها تدريجيّاً، لكنّ عليّاً لمّا تسلَّم زمام الأمور أحياها مرّةً ثانية، ومن باب الصدفة فقد قبل المرحوم السيّد عبد العزيز الطباطبائي قولي هذا، رغم أنّه كان متحمٍّسا جدّاً في هذا الموضوع، وقد كتب في موضع من أحد كتبه: إنّ عليّاً قد أحيا ثانيةً مسألة الغدير، ولولاه لكانت قد نُسيت من الأذهان().

& العجيب أنَّ عليّاً لم يُشر في نهج البلاغة أصلاً إلى هذا الأمر أيضاً.

^نعم، هو يقول فقط: نحن لنا الأولوية، لكنّه قد تحدّث أيضاً عن المقام العلمي لأهل البيت، وقد أوردتُ بعضاً من ذلك في مقال: الإمام علي والوحدة الإسلاميّة.

وهذه الأولوية قال بها أبو حنيفة أيضاً، والزيديّة أيضاً يقولون بها غالباً، وعلى هذا الأساس فإنّ أيّ علويّ كان يثور ويتحرّك كان أبو حنيفة يدافع عنه، وحول خطبة الشقشقيّة عندي بحث أوردته ـ على إلاجمال ـ في مقالة لي حملت عنوان: الإمام علي والوحدة الإسلامية.

على أيّ حال، إنَّ الصحابة قد رفعوا لواء الإسلام بعد وفاة النبيّ، وأوصلوه إلى الشرق والغرب، واستقبلوا الشهادة من أعماق وجودهم في هذا السبيل، وأنت أينما ذهبت سترى قبراً لأحد الصحابة، وهذا يُعطيك دليلاً على أنّ ذلك الصحابي قد جاء إلى ذلك المكان ليُبلِّغ الإسلام، فلا يمكن أن نتصوّر أنّ كلّ هؤلاء قد تجمّعوا وعملوا تلك الأعمال مع عداوتهم لعليّ؟!

يجب أن نعرف ـ أوّلاً ـ كم كانت هذه المسألة جليّةً عندهم؟ ثمّ كيف كانت الأوضاع آنذاك. إنّني أعتقد أنَّ ذلك كان هو السبب الذي دعاهم إلى عدم إخراج جثمان النبيّ من بيته، بل غسّل ودفن في بيته، وذلك لخوفهم من المنافقين الذين كانوا كثُراً في مكّة والمدينة، بشهادة القرآن وتصريح عليّ، كانوا يريدون الرجوع عن الإسلام واقتلاع جذوره؛ ولهذا السبب أيضاً قال الصحابة: ينبغي تسلّم السلطة والخلافة، بأيّ شكل، لتنتظم الأمور، وقول الخليفة الثاني: mإنّ خلافة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرّهاn ناظرٌ إلى هذه الحال.

على كلّ حال، هذا مجرّد احتمال ينبغي أخذه بنظر الاعتبار، وهو احتمال كان احتمله السيّد شرف الدين أيضاً؛ حيث كانت الأوضاع تقتضي ذلك، وكان النبيّ نفسه يعلم أنّ هذا الأمر لن يتمّ بصورة طبيعيّة، لكنّه قاله لإتمام الحجّة.

وخلاصة القول: ينبغي علينا أن لا نُقلّل من قيمة الصحابة إلى هذه الدرجة، ومن المسلَّم أنّ الأكثرية ـ على أقلّ تقدير ـ لم يكونوا أعداءً لعليّ، ولهذا بايعته أكثريّة الصحابة بعد عثمان.

الحاجة إلى تحييد مسلّمات الطرفين عن الطعن ــــــــ

كذلك لا ينبغي ـ في سبيل التقريب ـ أن نطعن في أصول بعضنا البعض، فعندما يعتقد مذهبٌ من المذاهب بأصلٍ من الأصول، فلن تقوم وحدةٌ إذا طعنّا في ذلك الأصل، فمسألة عدالة الصحابة ـ مثلاً ـ هي في نظر أهل السنّة أصل، يأخذون رواياتهم وكلّ أحكامهم عن طريقهم، فإذا أخضعنا الصحابة للتساؤل والنقاش فلن يبقى لهم شيء، كذلك الحال في مسألة عصمة الأئمّة، وهي من الأصول عند الشيعة أيضاً، فإذا صرفنا النظر عنها فلن يبقى عند الشيعة شيء كذلك.

إنّ هذين الأصلين إذا لم يُمَسّا بشيء، سيمكننا الحصول على نوع من الوفاق بهذا الشكل، حيث ننظر إلى الروايات التي نُقلت عن الصحابة إلى أيّ حدّ هي مشتركة في اللفظ أو في المعنى مع الروايات المنقولة عن الأئمّة.

في رأيي يوجد وئام ووفاق بين هاتين المجموعتين في حدود 80% أو 85%، وإذا وُجد اختلاف فهو مثل الاختلافات الموجودة في المنقول عن أئمّتنا.

أمّا القرآن، فهو مشترك بحمد الله، فلنجعلهما ـ أي القرآن والروايات المشتركة ـ أساس العمل، ونترك المذاهب حرّةً في الباقي، مثل وجود رواية عندهم غير موجودة عندنا، أو رواية عندنا لم تكن موجودةً عندهم، حتّى يتمكّن كلّ فرد من العمل برواياته في هذا المجال، وهو عينه ما نقوله في مسألة تقليد المراجع المختلفين، فهذا السبيل أفضل من اتّهام جميع الصحابة، وهو ما لا يقبله منّا أحد.

إضافةً إلى ذلك، فإنّ نفي كلّ منهما أصول الآخر له تالٍ آخر فاسد أيضاً، فعندما يُنكر أهل السُنّة العصمة يعتبرهم الشيعة نواصب ومُبغضين لأهل البيت، لقد كان أحد أصدقائنا في قم يقول: السُنّة نواصبُ كلّهم، وهذا الكلام باطل جدّاً.

في الجانب الآخر، عندما تُخضَعُ مسألة عدالة الصحابة للتساؤل، فهؤلاء سيتّهمون الشيعة بالنفاق، يقولون: أنتم لا اعتقاد لكم بأصل الإسلام ولا بالنبيّ، غاية الأمر بما أنّكم لا تقدرون أن توجّهوا الإهانة للنبيّ عمدتم إلى الأغصان والأوراق لتقطعوها، فطعنتم في سمعة صحابته.

إنّهم في الواقع يظنّون بنا الظنونا، ويقولون: إنّ الشيعة صنعوا هذا الكلام ليحطّوا من شأن الإسلام وعظمته، قلت مرّةً لأحد الفضلاء: أتعلم أنّ أبا هريرة الذي جعلناه مورداً للطعن إلى هذا الحدّ، كم نقل من الروايات في فضائل أهل البيت؟ قال: كثير جدّاً، فقلت: حسناً، بالطعن فيه سوف نجعل كلّ تلك الروايات مورداً للتساؤل، فإذا كان رجلاً كذّاباً ومُختلقاً للأخبار، فلا يمكن ـ إذاً ـ الاعتماد على أيًّ من أقواله، نحن لا نريد أن نحتال على أهل السنّة، فإذا كان الرجل كذّاباً إذاً هو كذلك في كلّ مجال.

الشيخية والتطرّف الشيعي، الحاجة إلى استيعاب الفئات المتشدّدة ـــــــ

& الشيخيّة إحدى الفرق الشيعيّة المتطرّفة، وقد اُعيدت لها الحياة مرّة أخرى في الكويت حالياً، ولها نشاطات في سوريا أيضاً، والمثير في الأمر أنّ العقائد التي وردت في أسئلة الشيخية، والتي أرسلتموها إلى المرحوم السيّد البروجردي هي ـ نوعاً ـ نفس العقائد الرائجة بيننا اليوم، ويُقال: إنّ السيّد البروجردي قد اتّخذ موقفاً ضدّهم، كما ذكر الشيخ الفلسفي في مذكّراته، لكن تلك المراسلات لم تُذكر بصورة مفصّلة في مكان، هل عندكم معلومات أوسع حول هذا الموضوع؟

^أنا أيضاً ليس لديَّ معلومات أكثر حول هذا الموضوع، وما أعرفه فقط هو أنّ الشيخ الفلسفي الذي ذهب إليهم في كرمان، وطرح عليهم أسئلةً طلب منهم الإجابة عنها بـ (نعم) أو (لا)، دون تفصيل، لكنّ قائدهم أبو القاسم خان أجاب مفصّلاً، وطبع ذلك فيما بعد بنفسه في كتاب تحت عنوان (الفلسفية)، وقد قرأتُ هذا الكتاب.

إنّ الشيخية تعتبر من غُلاة الشيعة ومتطرّفيهم، لكن يمكننا جذب هؤلاء بشيء من المداراة أيضاً، ينبغي علينا ـ وببُعد نظر ـ أن نغضّ الطرف عن بعض الإشكالات والانحرافات عندهم.

كتب المرحوم الحاج آغا رضا الهمداني ـ الواعظ الشهير في أوائل القرن الرابع عشر ـ كتاباً ردّاً على هؤلاء، أهداه إلى الميرزا الشيرازي، وأسماه (هدية النملة إلى رئيس الملّة)، وقد أورد فيه خلاصة آراء الشيخية.

مسيرة التقريب في القرن الأخير ـــــــ

& مَن هم الأشخاص الذين كان لهم قصبُ السبق في التقريب؟ وكيف تُقيّمون مكانة السيد عبد الحسين شرف الدين والإمام موسى الصدر في هذا المجال؟

^بدأت مسألة التقريب في القاهرة، وكان الشيخ محمد تقي القمّي ـ بما يحمل من أفكار ورغبة أخذها عن والده ـ صاحب قصب السبق في هذا المجال، لقد كان أبوه رجل دين مستنير، والظاهر أنّه لم يجد مكانته في قم، فانتقل ـ مع بعض المستنيرين فكرياً ـ إلى طهران.

ينقل الشيخ محمد تقي القمّي عن والده الشيخ أحمد القمّي قوله: لا تنقلوني بعد موتي إلى كربلاء، أو أيّ مكان آخر للدفن، بل ادفنوني في أقرب مقبرة، وفعلاً دُفن في مقبرة (إمام زاده عبدالله)، وهي الآن مقبرة عائلية، حيث دُفن أيضاً العلامة القمّي، لقد عاش الشيخ محمد تقي القمّي فترةً في لبنان، وهناك تعلّم اللغة العربية بشكل كامل، ثمّ انتقل إلى القاهرة، وهناك تزوّج من امرأة مصرية، وكوّن علاقات مع علماء أهل السنّة، لم يكن فيها أيّ أثر لمسألة إيران أو الشاه.

وعندما شاع هذا الفكر التقريبي استحسنه آية الله البروجردي، واطّلع عليه وتابعه، وقام القمّي ـ أيضاً ـ بالتعريف بالسيّد البروجردي في مصر بشكل جيّد، فكان علماء مصر يحبّونه أيضاً، وعندما مرض السيد البروجردي أبرق له الشيخ عبدالمجيد سليم، فأرسل السيّد جواباً له أيضاً.

إنّ السيّد البروجردي لم يكن أحد أصحاب دار التقريب ومؤسِّسيها، لكنه ساعدهم في ذلك.

وفي إيران، كان المرحوم السيّد جمال ميردامادي يُتابع أعمال الشيخ القمّي، يقول: التقيتُ في أحد الأيام بالحاج عباس قلي بازركان في السوق، وكان وكيلاً عن السيد البروجردي، وهو والد المرحوم المهندس بازركان، فقلت له: إن الشيخ القمّي يقوم بخدمة الإسلام في مصر، وهو بحاجة إلى دعم ماليّ، فلو قدّمت له المساعدة؟ فقال: أنا أستفسر من السيّد البروجردي، وسأساعده إن أعطاني إذناً شرعياً، فالتقاني في يوم من الأيّام فقال لي: طلبتُ الإذن من السيّد، فقال: ساعده واطلب له المساعدة من الآخرين أيضاً، لكن لا تذكر اسمي.

ولمّا توفي السيّد البروجردي، انقطعت تلك المساعدات، وقيل: إنّ مجلّة رسالة الإسلام توقّفت عن الصدور إثر ذلك، وفي مجلّة رسالة الإسلام التي كانت تصدرها دار التقريب، كان من الشيعة المرحوم الشيخ كاشف الغطاء ـ أكثر من الجميع ـ يكتب فيها مقالات، ويدافع فيها عن الآراء الشيعيّة، كما يدافع عن التقريب، فكتب في إحدى مقالاته: يجب عدم الخلط بين الأصول والفروع، فأكثر المسائل اجتهادية، وليست لوازمُها موارد للالتزام كذلك.

أمّا السيّد شرف الدين، فكتب مقالةً واحدة فقط في هذه المجلة، وكان يُدافع عن بُعد عن هذا العمل، لكنّه لم يكن يملك سعة الأفق التي كانت عند الشيخ كاشف الغطاء، وكان الشيخ كاشف الغطاء من أتباع الوحدة حقيقةً، حيث لم يكن هدفه تشييع الآخرين، على خلاف السيّد شرف الدين.

وقد أبرق من قم اثنان من الشخصيات، كان أحدهما آية الله السيّد صدر الدين، الذي كتب يقول: لا أجدُ من الألفاظ ما يُعبّر عن فرحتي، وكان الآخر آية الله السيّد محمد تقي الخوانساري.

ومن إصفهان أيضاً أبرق الحاج الشيخ إسماعيل، وهو ـ ظاهراً ـ كبير عائلة (مسجد جامعي).

لكنّ الشخص الذي كان يعمل مع هؤلاء باستمرار كان الشيخ محمد جواد مغنية، فكانت له مقالات في أكثر الأعداد.

الإمام موسى الصدر والتقريب المستنير ـــــــ

أما السيّد موسى الصدر، فقد رأيته ـ للمرّة الأولى ـ في محاضرة للشيخ محمّد تقي القمّي، وكان ذلك في السنة الأولى من مجيئي إلى قم، أي سنة 1328هـ. ش(1949م)، وقد قيل وقتها: إنّ الشيخ محمد تقي القمي يريد إلقاء محاضرة في المدرسة الفيضية، وهناك حضر حدود مائتي شخص، وكان السيّد موسى الصدر الذي كان معروفاً آنذاك بـ(آغا موسى) واقفاً خلفي، ولم تكن لحيته قد ظهرت بعدُ، وأتذكّر عندما طرحت هناك مسألة التقريب كان فرحاً جداً، وقد أظهر فرحه وسروره.

وقد أبدى السيد موسى الصدر بعدها نشاطاً في مجلة (مكتب إسلام)، واستمرّ في لبنان على ذلك الفكر المستنير يتابع هذا الملفّ، ولم تكن دار التقريب حديث الساعة آنذاك، فكان يشترك في المجامع المصرية بوصفه إمام الشيعة، وكانوا يحسبون له حساباً، وأتذكّر عندما ذهبنا ذات يوم عند الدكتور محمّد القحّام رئيس الأزهر، تحدّث عن السيد موسى الصدر؛ فقال: (لقد زاده الله بسطةً في العلم والجسم)، لقد كان السيّد الصدر إنساناً خلوقاً وبصيراً.

سمعت أنّ أنور السادات أرسله ليتحدّث في الجيش المصري عند قناة السويس، عندما كان الجيش في حالة استعداد للحرب مع الإسرائيليّين، فكان سماحته مؤثّراً في كلّ مكان بتلك الطلعة البهيّة الجذابة، وبذلك البيان، وبتلك القدرة التي كان يملكها على الربط.

ينقل أحد الشخصيات اللبنانية أنّ سماحته كان يريد السفر إلى مصر، وكان هناك صحفي مسيحي يبحث عن واسطة للذهاب إليها، فاصطحبه السيد الصدر معه، وكان هذا الصحفي صديقاً لحسنين هيكل، فأصبح هذا الصحفي واسطةً لتعرّف السيد الصدر على عبدالناصر، وصار عبد الناصر بعدها مُنشدّاً إليه.

لقد كان الإمام الصدر من أنصار فكرة التقريب، لكنّه لم يكن أحد كتّاب رسالة الإسلام، أو أحد أعضاء دار التقريب، وكان كلا الأخوين: رضا الصدر والإمام موسى الصدر، يدافعان عن دار التقريب.

وهناك نقطة ينبغي أن لا تغيب عن أذهاننا، وهي أنّ الإمام موسى الصدر، ولكي ينظّم أمور الشيعة، كان أكثر اندماجاً مع المسيحيّين منه مع أهل السنّة؛ فمثلاً كان راديو لبنان يبثّ أذان الشيعة، بناءً على طلبه، ومن الطبيعي أن يحدث هذا الأمر انزعاجاً عامّاً في الأوساط السنّية، فيما كان يُفرح المسيحيّين الذين كانوا يريدون إضعاف السنّة.

وعندما أصبح شارل الحلو رئيسَ الجمهورية اللبنانية؛ أعطى إذناً للسيّد الصدر بتأسيس هذا المجلس، وكان السنّة ـ على ما يبدو ـ معارضين لذلك، لكنّه أسّس المجلس الشيعي في ظلّ رئاسة شارل الحلو، وكانت أيضاً ثلّة من الشيعة غير متفائلة بذلك، وقد كان من المعارضين لتأسيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السيّد محمد حسين فضل الله وعائلته، وقد كان لدى بعضهم نوعٌ من سوء الظنّ السياسي بالسيد موسى الصدر، حيث كانوا يحتملون أن يكون مُرسلاً من قبل إيران، ومن الواضح أنّ هذا النوع من المواقف السلبية إزاء المصلحين موجود، لكنّه لا حقيقة له في واقع الأمر.

وعلى أيّ حال، لقد كان الإمام موسى الصدر رجلاً إيجابياً، طبعاً لا علم لي ما هو موقفه ـ فيما لو كان موجوداً ـ تجاه الثورة في إيران؛ لأنّه كان على علاقة جيّدة مع جميع الرؤساء العرب، وكان يستلم المساعدات منهم، وكان في بعض الأحيان يتكلّم لصالحهم؛ لكنّ أعتقد أنّ الرجل ـ بما كان يتمتع به من مجدٍ وعظمة، وما ورثه من أخلاق حميدة، وكونه رجلاً منصفاً جداً ومتسامحاً ـ كان سيقف إلى جانب الإمام الخميني في حركته، لقد كان ـ على كلّ حال ـ رجلاً مُصلحاً ولم يكن ثورياً.

تجربـتي مع التقريب ـــــــ

& كيف اتجهتم نحو المشروع التقريبي؟

^لمّا كانت مجلة رسالة الإسلام متواصلة في صدورها، أرسلوا نسخةً منها إلى والدي، وكان والدي واعظاً طاعناً في السنّ معروفاً في إيران والعراق، وكما يقال اليوم: كان مثقفاً مستنيراً إلى حدٍّ ما، فقال لي: اقرأ هذه المجلّة، ولمّا قرأتها انجذبت إليها، وصرت بعد ذلك أتابع أعدادها اللاحقة، وكنت أشتريها عندما لا تُرسل إليّ، وما أظنّ أنّ عدداً واحداً منها فاتني ولم أقرأه، وفي المرحلة اللاحقة كان لآية الله البروجردي أثرٌ عميق ـ من هذه الجهة ـ في نفسي، وفي الأساس كان البروجردي ـ مقارنةً بغيره من علماء القرون الأخيرة ـ رجلاً استثنائياً، وحسب تعبير الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: بقيت في نفس السيّد البروجردي كلمات لم يتمكّن من إظهارها، وتلامذته أيضاً لا يُظهرون ـ غالباً ـ كل ما ذكره لهم.

بدأتُ بعد ذلك بكتابة بحث حول الفتوحات الإسلامية في مجلّة (مكتب إسلام)؛ وذلك بهدف التقريب، وكنت أودُّ أن أعطي زخماً لهذه الروح السياسية التي وُجدت في صدر الإسلام.

لم يكن بعض السادة مستعدّاً للاعتراف بأنّ عملاً قد تحقّق للإسلام في زمان الخلفاء، فكانوا يُخضعون كلّ تصرّفاتهم للتساؤل، والحال أنّ الإسلام لو لم يحصل له هذا الانتشار الذي تحقق خلال الـ 25 عاماً ـ وهي فترة الخلفاء الثلاثة ـ لما تحقّق له هذا الانتشار بعد ذلك، فلو بقيت سلطنة إيران وامبراطورية الروم بتلك القوة، لما تركوا المسلمين يحقّقون هذا القدر من النفوذ.

نعم، لقد كان تعامل بني أميّة مع المسلمين ومع الأمم الأخرى تعاملاً سيّئاً، كما كانوا يقوّون العنصر العربي، فيما كان الأئمة يتعاملون مع الأمم الأخرى ـ خصوصاً الإيرانيّين ـ معاملةً حسنة جداً.

لا يمكننا أن نقول ـ بأي شكل من الأشكال ـ : إنّ الذين نشروا الإسلام لم يكن لهم دين، بل قاتلوا ـ فقط ـ لأجل الثروة وما شابه ذلك، ينبغي التفريق بين المجاهدين والحاكمين، فإنّ بعض الحكّام قاموا بأعمال لا يمكن الدفاع عنها، وإن كنّا متطرّفين في نظرتنا إلى بعض هؤلاء أيضاً.

مثلاً: تلك الإمكانات التي بذلها الخليفة الثاني لنشر الإسلام، والتي لم تكن متوفرةً عند شخص آخر غيره، جعلته يقضي على المناوئين في الداخل، ولهذا لمّا وصل الدور إلى الخليفة الثالث ارتفع صوت الجميع وثارت ثائرتهم ضدّه، لأنّه لم يكن يملك الأهليّة ولا تلك الظروف التي كانت عند الخليفة الثاني.

 

إحياء دار التقريب ثانية، ومشكلة عدم تجاوب العلماء ـــــــ

& لماذا لا تُحيون دار التقريب ثانيةً؟

^دار التقريب كانت خاصة بأولئك، وقد ذهب ذلك الزمان، مات المؤسّسون لها، وكان رأي الشيخ محمّد تقي القمّي أن يبقى هذا العنوان لهم، ونختار نحن عنواناً آخر.

على كلّ حال، تابعنا فكرة دار التقريب. وأوّل عمل قمنا به أن طبعنا سلسلة (رسالة الإسلام) ثانيةً، ثمّ طبعنا ـ بعد ذلك ـ مجمع البيان بمقدّمة للشيخ شلتوت، وأخيراً قرّر المصريّون إحياء دار التقريب وإصدار مجلّة رسالة الإسلام أيضاً.

ومشكلتنا أن العلماء الكبار لا يتعاونون معنا في هذا المجال، وعندما أردنا إصدار مجلّة رسالة التقريب، قال سماحة السيّد القائد الخامنئي: اسعوا أن تكون هذه المجلة أفضل من رسالة الإسلام، فقلت: من أين لنا كُتّاب كالشيخ كاشف الغطاء؟ فقال سماحته: يحصل.

لكنّ عملاً لم يحصل، أي أن من له مكانة علمية لا يكتب شيئاً، بل ومن غير المعلوم أن يكون موافقاً على عملنا؛ فليس عندنا أشخاص كالشيخ كاشف الغطاء، بل ولا حتّى أمثال الشيخ مغنية، ومع كل هذا، فإنّ المؤتمر الذي أقمناه لتكريم آية الله البروجردي والشيخ محمود شلتوت كان له أثرٌ كبير، كما كان له صدى واسع في مصر أيضاً، والمصريّون في إيران وفي حوزة قم قدّروا هذا العمل تقديراً كبيراً، وكذلك في مصر.

كان شيخ الأزهر قد ألقى بثقله في هذا المؤتمر، فقد أرسل ثمانية عشر شخصاً من معاونيه، من بينهم مفتي الديار المصرية ورؤساء الجامعات في الأزهر، والظاهر أنّه أراد الحضور شخصياً للمؤتمر، لكن عدم وجود علاقات سياسية بين إيران ومصر منعه ـ على ما يبدو ـ من هذا السفر بوصفه شخصيةً رسميّة.

 

 

المصدر: مجلة نصوص معاصرة العدد الحادي عشر

 

 

 

الهوامش




 


(*)فقيه وعالم دين بارز، من تلامذة الإمام البروجردي، ومن منظّري التقريب بين المذاهب، أثارت أفكاره أكثر من جدل في إيران.

 


() الغدير في التراث الإسلامي: 12، طبعة دار المؤرٍّخ العربي.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً